المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أخبث المؤامرات د. أكرم حجازي



متروي
01-20-2011, 09:31 PM
أخبث المؤامرات




بدأت حركة الاحتجاج الشعبي بتونس تتضخم بشكل سريع لم تترك للحكم مجالا لأي تفكير. لكن الحكم الذي اعتاد القتل أصلا، واتخذ القمع والاضطهاد دينا له، لم يتوانى عن ممارسة القتل العشوائي والمنظم عبر فرق القناصة التي نشرها في كل زاوية. لم يكن الشعب التونسي من بدأ القتل، ولم يكن التونسيون ليمارسوه، فالنظام هو الذي سفك الدماء المعصومة وهو الذي استباح الحياة.

حين بدأت الانتفاضة كانت المطالب الأولى تتعلق بتوفير فرص العمل لتشغيل العاطلين خاصة ممن يحملون شهادات جامعية. ثم في مرحلة لاحقة تطورت إلى الحديث عن ظلم في توزيع الثروة والدخل بين الشمال الساحلي الغني والجنوب المهمش، لكن احتجاجات الشمال قالت بأن الحال من بعضه، فليس الشمال بأقل ظلما من الجنوب. وهكذا صارت المطالب ذات طابع شعبي تتعلق بالتنمية الشاملة. لكن المطلب الأهم الذي فجر الغضب المكبوت في صدور التوانسة كان يقع في مضمون الشعار الذي طالب باستعادة الكرامة المهدورة. وتبعا لذلك لم يعد من الممكن بقاء الرئيس في السلطة. هنا استفاق بن علي و« فهم» مطالب الناس على حد قوله، لكنه « فهم» أكثر أن الأوان قد فات. وبعد رحيله المخزي من البلاد صارت المطالب تؤول إلى تصفية إرث الرئيس من اقتصاد وأمن وحزب شمولي ونظام سياسي. هكذا بدت الاحتجاجات التونسية تتخذ شكل ومحتوى الثورة الشاملة التي تسعى لاقتلاع جذري لكافة القوى المادية والمعنوية للنظام السابق ومن يدور في فلكها.

حين بدأت الانتفاضة أيضا كادت الأوضاع تنفجر في كل من الجزائر وليبيا وموريتانيا. وكان الغرب والولايات المتحدة يدركان أن الأمور قريبة من الانفلات الشامل في المنطقة. وإذا حصل هذا سيعني انفلاتا في كافة الدول العربية.

الرائج أن بن علي هرب مهزوما مدحورا، وأنه لم يجد من يؤويه لا من الأوروبيين ولا غيرهم من العرب. ولسنا نعارض ذلك مبدئيا. فلطالما تخلى الغرب والطغاة عن أدواتهم. لكن هذه التصريحات ليست سوى ما نقله الإعلام الغربي والمحلي. أما التبصر في الواقع فيفصح عن أمور بالغة الخطورة على مستقبل الثورة التونسية وليس على وقائعها الماضية.

فالمعلومات المتداولة في ضوء التسريبات وردود الفعل والبيانات الرسمية والتصريحات ذات الصلة والوقائع الميدانية تؤكد على مؤامرة دنيئة وخبيثة جرى تنفيذها على مسارين في تونس قبيل مغادرة بن علي التي كانت محسوبة بدقة بالغة. مسار النظام السياسي البائد والمدعوم عربيا، ومسار القوى الغربية وفي مقدمته فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.

بالنسبة لمسار النظام فقد بدا بن علي متحسبا مسبقا لقادم الأيام. فأعد عدته الميدانية والقانونية على قدم وساق، ونهب ما نهب في اللحظات الأخيرا تحسبا من خروج بلا عودة. وقبل أن يغادر البلاد سلم زمام الأمور للوزير الأول محمد الغنوشي لولا احتجاجات القانونيين والناس على عدم دستورية المادة 56 التي تَسلّم الغنوشي بموجبها رئاسة الدولة وهو يعلم علم اليقين بخطأ فعلته من الناحية الدستورية التي تقضي بتسلم رئيس مجلس النواب مهام الرئيس في حالة شغور منصب الرئاسة بموجب المادة 57.

ومع ذلك فالسيناريو واحد خاصة أنه يحيل الفراغ إلى الدستور بحيث تظل تونس حبيسة النظام القائم ورموزه، وحبيسة الدستور المعمول به والذي يستثني القوى المحظورة كحركة النهضة من أية مشاركة في الحكم حتى خلال الفترة الانتقالية المقدرة بـ 45 – 60 يوما، ستكون كفيلة بعودة الهدوء إلى الشارع تمهيدا لعودة الرئيس الذي اعتبر بيان الغنوشي غيابه « مؤقتا»! بل أن بعض الأنباء تقول بأن الرئيس سجل خطاب العودة قبل رحيله، وحتى قبل خطابه الأخير.

لكن ما لم يستطع الغنوشي إنجازه جرى التحضير له ميدانيا بمساعدة من أجهزة أمنية عربية ليست مصر ولا ليبيا ولا حتى السعودية فضلا عن دول المغرب العربي ببعيدة عنه. فحين كانت الانتفاضة على أشدها في تونس كان الضحايا يسقطون تباعا. مع ذلك خرج الرئيس التونسي ليتهم بعض «الملثمين والمندسين» بين الناس ممن يقومون بعمليات القتل والتخريب، واصفا إياهم بـ « الإرهابيين». والحقيقة أنه لم يكذب أبدا. لأن هؤلاء هم من ميليشياته في الحزب الحاكم (التجمع الدستوري) الذين سلطهم على الناس ليعيثوا في الأرض فسادا، ويكون له ما يبرر تدخله الدموي ضد السكان. ولأن الأمر خرج عن السيطرة فقد اضطر للمغادرة دون أن يتخلى عن طموحاته في العودة تاركا هؤلاء وأجهزة الحرس الوطني والأمن الرئاسي ورموز سلطته وحتى بعض أقربائه يعملون بكامل فاعليتهم، ومدعومين بما يحتاجونه من أسلحة، و 800 سيارة تجوب شوارع البلاد وهي محملة بالرعب والدمار تحت قيادة الجنرال علي السرياطي.

من جهتها فقد ساهمت دول المغرب العربي وخاصة ليبيا في مشروع النظام مساهمة فعالة حتى أن الرئيس الليبي لم يستطع كبت غضبه من فشل المخطط المعد مسبقا. وهو الموقف الذي كظمته دول المغرب الأخرى التي صمتت صمت القبور، ليس لأنها تنتظر ما ستنتهي إليه الأمور لتعبر عن مواقفها بل لأنها تتميز غيظا مما انتهت إليه. ومن جهتها فإن السعودية تعلم علم اليقين هي وعلماؤها، الذين صمتوا كالعادة، أنه ما من أحد أشد عداء للإسلام وحربا عليه كما الرئيس بن علي، ومع ذلك فقد استقبلت رئيسا مخلوعا ومطرودا من كل الشعب التونسي وليس من جزء منه. ولم يعد ثمة معنى لهذا الاستقبال إلا أن تكون السعودية ضالعة حتى النخاع في حماية بن علي وتأمين عودته وإسباغ الشرعية على حكمه لأن هروبه إلى ليبيا أو الجزائر لن يمنحه الشرعية التي تنتظره في السعودية. أو أن يكون ما تفعله أو تصدره من مواقف ليس إلا طغيانا يستخف حتى بمشاعر البشر فضلا عن إهانة الشعب التونسي ومصادرة انتصاره.

لكن، وكما يقولون فإن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، فقد عملت القوى الغربية بوحشية لا مثيل لها لوأد ثمار الثورة التونسية في مهدها. فالفرنسيون أبدوا استعدادهم لتقديم العون للسلطة، والمعلومات المتداولة تؤكد بأن الجيش الذي كان قائده، رشيد عمار، ضالعا في إجبار الرئيس بن علي على مغادرة البلاد ليست سوى نتيجة لتدخلات أمريكية خاصة وأن الجيش هو الذي مكن بن علي من مغادرة البلاد قبل إغلاق الموانئ الجوية والبرية والبحرية بنحو ساعة من الزمن. وفي تصريحات لقناة الجزيرة قال أحمد الخضراوي الضابط التونسي أن قائد الجيش قبل إقالته من منصبه: « تلقى تعليمات في أخر لحظة من الولايات المتحدة من خلال سفارتها بأخذ زمام الأمور في البلاد إذا خرجت الأمور عن السيطرة»، وأنه: « يستند في ذلك على وثائق بين يديه وهو يتحمل مسئولية هذه المعلومات ويجزم بها».

لا يهم. المهم أن الغرب كان يشعر، لأول مرة في تاريخه، بحجم الخطر الداهم وهو يتهدد المنطقة من كل جانب وسط احتقانات شعبية وصلت أوجها في أغلب البلدان العربية خاصة في مصر. فالاحتجاجات التي اندلعت شرارتها في تونس تبعتها احتجاجات عنيفة في ليبيا والجزائر، وأخرى كانت تنذر بالانفجار في موريتانيا. لذا فقد بلغت عمليات الاستنفار الرسمي حالاتها القصوى، وأعيد النظر في كافة إجراءات السيطرة والتدخل بأسرع ما يمكن. فما الذي فعله الغرب بالضبط؟

لأن الحريق في تونس قد بلغ ذروته فقد كان أول إجراء اتخذه الغرب مع مخابراته وأجهزة الأمن المحلية يقضي بوجوب (1) تأمين عزل تام لتونس عن جوارها بأسرع ما يمكن من العمل. ثم (2) الدخول في سباق مع الزمن لإطفاء حريق الجزائر وليبيا وهو في بدايته. وبالفعل فقد هدأت الساحتين، عبر بعض الإجراءات المحلية من السلطات، ثم في المرحلة الأخيرة (3) التمهيدا لإخراج الرئيس بن علي من تونس. لأنه لو خرج في نفس الوقت الذي تجري به الأحداث في الجزائر وليبيا لكان من المستحيل إقناع الناس بالعودة إلى بيوتهم أو ترهيبهم أو إنقاذ أي نظام في المغرب العربي، ولكان من المستحيل أيضا التكهن بما قد يفضي إليه الأمر في باقي الدول العربية.

مؤامرة من أخبث ما يتصوره العقل البشري. وفرصة عظيمة للأمة لم تحدث، بهذه القوة والمشروعية، منذ انهيار الخلافة، فجرها أكثر الشعوب العربية وداعة، وكادت أن تكون أقوى لحظة للإفلات من قبضة الغرب الذي استطاع وأدها في مهدها وجعلها يتيمة كحال سابقاتها. أما لماذا نجح الغرب؟ فلأن الأمة محرومة من أدوات القوة الاجتماعية والسياسية، ومن أدوات التنظيم، ومن أدوات السيطرة في اللحظات التاريخية الحاسمة، ومن أدوات الاستثمار. لذا فإذا كانت الثورة التونسية قد أثبتت أن الأمة ذات حيوية عالية وطاقة جبارة باستطاعتها الإطاحة بأعتى القوى الطاغوتية إلا أن ثوراتنا واحتجاجاتنا وفرصنا تضيع وهي تتحول كالمال السائب يسطو عليه هذا وذاك.

كل القوى، بلا استثناء، كانت خارج الحدث، وخارج القدرة على الاستيعاب، وخارج الفعل التاريخي، وخارج الملحمة. إذ لا قيادات دينية ولا سياسية ولا تنظيمية ولا ميدانية ولا مؤسسات أهلية ولا معارضة قادرة على استثمار أية فرصة تلوح في الأفق. ولقد كان مثيرا حقا ما ذكره د. صالح الوهيبي في مؤتمر العلاقات العربية التركية في الكويت حين أشار إلى أن العالم العربي لا يمتلك من الجمعيات الأهلية أكثر من 2000 منظمة أهلية بينما تمتلك إسرائيل وحدها أكثر من أربعين ألف منظمة!!! هذا مؤشر واحد على غياب القيادة والمراقبة الاجتماعية والضبط في النظم السائدة. وهذا ما يشجع هذه النظم أن تمارس أقسى وأشد صنوف القمع والاضطهاد للمجتمع حيث لا حسيب ولا رقيب عليها. فكيف يمكن لنا وهذا حالنا أن نستثمر انتفاضة بنوعية ما أبدعه التونسيون؟ وكيف يمكن للتونسيين أن يفلتوا من السطو على ثمار ثورتهم ولو محليا؟ تلك هي المأساة وتلك هي المشكلة.