المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإعجاز الجديد !..



الشيخ عبدالرحمن عيسى
01-27-2011, 09:32 PM
الإعجاز الجديد !..
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ـ حلب
21 صفر الخير 1432هـ ـ 26 ك 2 ـ 2011 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
القرآن .. والإعجاز :
شاءت إرادة الله المقدسة , وحكمته البالغة , أن يُمَـتع حبيبه وخاتم أنبيائه , بمعجزة دائمة باقية , متجددة ما تجددت الليالي والأيام , مستمرةٍ ما استمرت الخطوب والأحداث الجسام .. من حيثُ كونـُه صلى الله عـليه وآله وصحبه وسلم : رسولاً مرسلاً , ونبياً منبَّـئاً , إلى كل العصور والأجيال .. وقبائل الأرض ..
ففي كل عصر وجيل , واجب على الخليقة من إنس وجن , أن يؤمنوا به ويصدقوه , على أنه مرسَـل إليهم , كما أرسل إلى مَنْ قبلهم , وكما هو مرسل إلى مَنْ سيأتي بعدهم , حتى ينقضي هذا الدهر , وتنتهي هذه النشأة من الحياة ..
في حين أن معجزات المرسلين , ليست كذلك قطعاً , بل هـي مؤقـتة بتوقـيت زمنها وحـينها .. ومن المؤكد ضرورة , أن معجزة الرسول محمد , صلى الله عليه وسلم , هي الـقرآن العظيم , الذي يُـثـْبت كفاءة الـنبي ومصداقيته , وضلالة الذين كذبوه , وكـذبوا بما جاء به , من الوحي المكتوب والمقروء , والمتعبَّدِ بتلاوته وقراءته , في آناء الليل والنهار , والمعْجزِ إعجازَه المتنوع والمتكاثر , في كل العهود والأدوار ..
إن القرآن العظيم , ذو مَدٍّ متعاظم ومتفاقم , وهو يكتسح كل ما يدندن به أعداء الإسلام , وأعداء الرسول محمد , عليه الصلاة والسلام .. وذلك بقوة الإيمان , والفتح المبين , وسلطان حق اليقين .. الأمر الذي يوهن كيد الكافرين ..
وتستمر النبوة المحمدية الخاتمة , ورسالتها الخالدة , في الديمومة والـبقاء والعلاء , والتفوق على كل قدرات الأعداء , والإحاطةِ بأسباب سلطتهم وقوتهم ..
فتفنى تلك الأسباب ومُدَّعوها , ويصبحون أثراً بعـد عـين , وعـبرة لأولي النـُّهى والأبـصار .. ويبقى القرآن العظيم , دستور فلك الوجود , ونهرَ الحقائق الكونية , الدافقة بالأسرار المضنونة , والعلوم المكنونة , والاستنباط المذهل , والمفاهيم التي لا يَغيض لها نبع ولا جريان , وهي قلائد في جيد الزمان ..
يقول جل وعلا : ( أولم يَـكفِهم أنا أنزلنا عليك القرآن يُـتلى عليهم .. ) ..
( وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تـُسألون ) ..
إن أحداث الزمان والإنسان , خاضعة خضوعاً صارماً وحاسماً , للتفكير الـمنطقي والحقيقي , لما يجري ويتكون على أرض الواقع المحسوس والملموس .. من خلال ما يجيء به القرآن , من تأويل الأحاديث والأحداث , وردِّ الأمور إلى مواقعها ومراجعها , وإعطائها حقـَّها من التوازن والتدبير المحكم .. والقدَر والقضاء المبرم ..
وحينما يواجَه رسول الله , صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم , من أعدائه ومكذبيه , بأمثالهم المثالية في زعمهم , ويأتون بإفكهم وبهتانهم , يأتي دور القرآن العظيم , في تحقيق النصر والانتصار للنبي الكريم , وإثبات حقه أمام باطل أعدائه ..
يقول سبحانه : ( انظر كيف ضربوا لك الأمثال .. ) . ( ولا يأتونك بمَثل إلا جئناك بالحق وأحسنَ تفسيراً ) .. وإلا .. كيف يتسنـَّى لدين , أن يستمر قروناً وأعصاراً , ويحافظ على جـِدَّته وطرافته , رغم الخطوب الـتي تزيل جبالاً وأجـيالاً , لو لا الإعجاز القرآني , الذي هذا مستواه ومؤدَّاه , ومرماه وفحواه ؟!..
فكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل , هو الذي يصول على الباطل , ورموزه ومثالياته المزعومة , وتحدياته المتـْرعة ظلماً وإثماً , والمتـْخمةِ معرفة وعلماً , والمدعَّـمةِ قدرة واقتداراً , وطغياناً كبيراً !..
وعلى هذا النحو مضت القرون والتحولات والأخلاقيات , وكانت التدابير والتغييرات , في بنية الحياة , وسلوكيات المسؤوليات والقيادات , واعتدال الأمزجة , وتوازن البيئات , وأنماطِ العيش والتفكير , والتصور الأفضل ..
وبعـد : فإن الإعجاز القرآني , لا يمكن حصره وإحصاؤه , وما يظهر منه , أقل مما قد لا يظهر , مما لا يحيط به البشر .. وهو فوق طاقة العقول جميعاً ..
وصدق الله العظيم : ( وحِيـل بينهـم وبين ما يشتهـون كـما فـُعـل بأشـياعهـم من قبل إنهم كانوا في شكٍّ مُريب ) ..
عبد الرحمن
ماهيَّة الإعجاز القرآني :
من المعلوم بداهة , أن القرآن المجيد , هو كتاب الإعجاز المطلق , الذي لا يجارى ولا يمارى , وهو يدمغ كل ما يأتي به الباطل , من تحدٍّ وتهديد ..
فهو مُعْجز للبشر في كل ظرف وحين .. ولكل القوى الخفية في الكون , وهذا الإعجاز , ينسحب على كل العصور : فنوناً وألواناً , ومواجهة صادعة , لمنطق الكفر والكافرين , وتبجحاتهم التي بها يأتون .. ليوهِنوا شمل هذه الأمة , وليجعلوها تجفو دينها , وتهجر قرآنها , انبهاراً بحضارة النفط والفحم الحجري , والنار الموقدة , والعلم المدمِّر , والتطور الكاذب والخاطيء !.. أي المؤدي إلى الكذب والخطيئة ..
والاكـتفاءِ بشقٍّ مائل , نحو استراتـيجيـة الظـلم الـفادح , والإبـاحية الماحـقة .. لقد واجه الإعجاز القرآني الفائق , تحدياتِ المشركين العرب , أولاً وقبل كل شيء , واخترق سبْقهم وتفوقهم , في مضمار اللغة والبلاغة , والفصاحة النادرة .. ثم واجه تحديات الفرس والروم , والهند واليونان , وقدماء المصريين .. بما كانوا به يعتزون ويفتخرون .. من التحضر والعلوم , فظهروا بكونهم مسبوقين , وغيرَ متفوقين , وأن القرآن العظيم , كل ما فيه باهر ومعجز , ولا يمكن الإحاطة به , وفهم كـُنـْهـِه , وأنهم أقل وأصغر من أن يَـثبتوا أمامه , في سياق الحكمة والعلوم الإنسانية ..
فتراهم أسلموا لله الواحد , وآمنوا بمحمد الرسول , وأن القرآن , حقاً هو كـلام الله , ومن عند الله .. وتخلوْا عن تقاليدهم , وكل معتقداتهم وتصوراتهم .. وعبْر مسيرة التطور الزماني والمكاني , وابتكار أسباب التحدي المستمر , كان القرآن العظيم , يرد على كل ذلك , بما يُظهره من أوجه الإعـجـاز المتجـدد , حسبما تقـتضيه ظـروف المواجهـة والـتصدي .. فانهارت كل الـتحـديات , وخـفـتـت كـل الأصـوات , ومضى كـتـاب الله , ينصر المؤمـنين , ويعـلي كلمة رب العالمين , ويُـثـْبت مصداقية خاتم النبيين ..
معجزة الرسول الدائمة :
فالقرآن : معجزة الرسول الدائمة , التي تفوق كل المعجزات , التي مـضت لوقتها , في حين تبقى معجزة الـقرآن , في التألق والـضياء , وإحباط مؤامرات الأعـداء , وإطفاءِ نارهم , وإقصاء مكائد الشيطان , والوسواس الخنـَّاس ..
إن تاريخ الإعجاز القرآني الصاعد , يغطي القرون كلها , بكل طريف ومُحْدث , مما لا قِبل للكافرين بمواجهته , بل يؤكد لهم , ويتأكدون هم , أنْ لا غالبَ للقرآن , ولا لأمة القرآن , إذا انضوت تحت جناحه القاهر والباهر .. ففي النهاية ييأسون , من إمكانية تحقيق أي انتصار أو تفوُّق , في صراعهم ضد هذه الأمة , وكتابها الأعظم !..
وفي الوقت الذي يتخذ المسلمون , هذا القرآن مهجوراً , وينبذونه وراءهـم ظِهْرياً , ولا يعدو أن يكون عندهم , مجرد تلاوة على الأموات والمقابر , وافتتاح بعض المناسبات !.. ووضعِه على الرفوف , وتزيين المكاتب والمكتبات !..
يظل القرآن يَـنبوع الإعجاز الدافق , ويظل الأعداء هم الخاسرين في النهاية , ويتساقط كل ما حشدوه وابتدعوه , كخيوط العنكبوت , وأوراق الخريف ..
وتعيش دول الكفر , ومعسكراته الهائلة , حالة انكسار وهزيمة , وتتبخر أرصدته المكـنوزة , في حملاته الجنونية , وحربه المسعورة , ويخونه العلم , ومخزون سلاحه المدمر , وينكفيء كل ذلك عليه ناراً وعاراً , وإفلاساً رهيباً .. لا يمكن تداركه وجبْره , والتخلصُ من نتائجه المخزية , والمنهية لوجود الكفر برُمَّـته ..
معنى الإعجاز العلمي :
حينما نقرأ عن الإعجاز العلمي , في الـقرآن الـمجيد , فما جدوى ذلك , وما معناه ؟.. في البداية : فإن هذا الإعجاز , هو من آخر ما ظهر وتبلور , واتخذ سبيله في غضون الأواخر من الزمن , بعد أن تعرضنا لهجوم مُكثـَّف ومنظم , من أمم الغرب الأوروبي والأمريكي , متسلحين بسلاح العلم , الذي فجر الطاقات هناك , واستخرج الكنوز , وسيطر على كثير من أسرار الـوجود , وطبائع الأشياء والأسماء , ومكـَّن لهم من الحصول على أقوى قوة عسكرية وصناعية , وتكنولوجيا متطورة , ووسائل سرعات واتصالات مذهلة , وهيمنة استعمارية طاغية وباغية .. وكانت ثالثة الأثافي : تمركزَ اليهود الصهاينة , في القدس وفلسطين ..
ولاقت الأمة من جراء ذلك , الويلاتِ الأشدَّ فظاعة وشناعة , خلال أكثر من قرن كامل , وما زالت حتى الآن , تكابد وتئن , تحت وطأة المجازر والخرائب , وحمامات الدماء , وقلاع الجثث والأشلاء , وتجريدِها من أبسط الحقوق والآمال .. لنعـيش في زوايا الإهـمال والـنسيان , والتهـميش الأصعـب , والاسـتضعاف الأنكى والأمر .. حيث لا مهابة في صدور أعدائنا منا , وفي قلوبنا يستوطن الوهَنُ : حبُّ الدنيا وكراهية الموت !.. حسب نص الحديث النبوي الشريف ..
إننا بسلاح العلم الأوروبي , مستضعَـفون بلا نهاية تبدو في الأفق , ومخترَقون ومحاط بنا من قِـبل أعدائنا الألداء , الذين يجوسون خلال ديار العرب والمسلمين , ويُمعنون فينا قتلاً وإذلالاً ودماراً , واستعماراً جديداً .. ويتداولوننا كالعملة المهترئة !..
إن الإعجاز العلمي , في القرآن المجيد , قد حقق انتصاراً معنوياً كبيراً , واستجرَّ كثيراً من أئمة العلم واللاهوت , إلى الإسلام , فأسلموا وصاروا دعاة وهداة , وانقلبوا على أبـناء جـلدتهم , وأظهروا كذبهم وظلمهم , وعبثهم بتاريخنا وحضارتنا .. وكانوا شاهداً لنا على كفاءتنا وتقدمنا , حينما كانت أوروبة تحيا في الرجعـية والجهل والهـمجية , والظلمات الداكنة .. ويعيش كثير منهم , مع دوابهم في بيت واحد !..
فظهر فضل القرآن ومصداقيته , لدى العلماء هناك , وبقينا نحن نمضغ الذل والهوان , في واقع يتدهور يوماً بعد يوم , ويؤول بنا إلى أسوإ العواقب والمصائر .. دون أن نستفيد من إعجاز قرآننا , وأنه الأحق والأجدر , بأن نعتصم بحبله , ونعتزَّ بجنابه , ونأخذ أنفـسنا بهدي آياته وبيِّـناته , ونرتقي بعلومه الجمة !..
فيكون مثلنا : كالعيس في البيداء يقتلها الظما : والماء فوق ظهورها محمولُ ..
بوادر إعجاز جديد :
إن الظروف والتحديات , التي استدعت الإعجاز العلمي في القرآن المجيد , قد مضت وخلت , وظهرت تحديات جديدة من أعدائنا , الذين لا ينفكون يتحدوْن ويهاجمون , ويأتوننا من فوق : شامخين ومتغطرسين ومستكبرين ..
وقد يظن علماؤنا الذين آمنوا بالإعجاز العلمي في القرآن , وكتبوا فيه , أن هذا الإعجاز , هو الخاتمة التي ما بعدها إعجاز !.. وإلا فأين جهودهم واستنباطهم , وردُّهـم على تـحديات أعدائهم , الذين يظلون سادرين في غـَيهم وكفرهم , وماضين في حربهم الضَّروس , على هذه الأمة المنكوبة بهم , وبأشياعهم من المتواطئين والمنافقين : عرباً ومسلمين ؟!. إذ بواسطتهم يَدبُّون إلينا , دبيب الذئاب والثعابين , والجرذان المجنونة !.
إذا عرفنا ذلك , أمكننا أن نتصور إعجازاً قرآنياً جديداً .. ولكن بعد أن نتعرف على ماهية التحدي الجديد , الموجَّه إلى الأمة وكتابها ورسالتها , وحقـِّها في الحياة الحرة الكريمة .. وحقها في الريادة والهداية .. وقيادة الكون , والخلاص الإنساني ..
بعد موضوع العلم , يأتي موضوع الفكر .. فالتحدي العلمي المعادي , كان بواسطة العلماء الغربيين المبدعين والمكتشفين , الذين تمت مواجهتهم قرآنياً , والـتصدي لهـم , وتـفريغُ ما ظـنوه سبْـقاً في مـيادين العلوم الإنسـانية , والتكـوينية والـطبيعية .. فاكتشفوا أن القرآن العظيم , قد سبقهم إلى ما هو أوسع وأعمق من علومهم كلها , قبل أربعة عشر قرناً !..
( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم ..) ..
وأما التحدي الفكري المُعادي , فكان بواسطة المفكرين الغربيين العمالقة , الذين جعلوا المفكـرين لدينا مشدوهين ومبهورين , بإنجازات فكرهم هذا , وأدواته ومصطلحاته , بحيث لا مندوحة أمام أكبر مفكر فينا , إلا أن يحاول جاهداً , ليأخذ بتصاميم الفكر الغربي , وأسلوب التفكير هناك , ورموزه ونظرياته , فيكون المفكر على الطريقة الغربية , في سُلـَّم التفوق والتقدمية , وفي علوم النقد والأدب أيضاً ..
ومن كان في ريب , فليرجع إلى الأدباء والكتاب والروائيين , وحـتى المفـكرين الإسـلاميين , ليجد المَسحة الغربية , بادية فيما يُـكتب ويُـنشر , على أنه المثل الأعلى , والأنموذج الذي يُحتذى , ومصدر الإعجاب بالنفس والقلم والهوى !..
وشهادة ( دكتوراه ) في الشريعة والفلسفة والـطب , من إحدى الـجامعات الـغربية , أعلى كعباً من شهادة الأزهر , وغيره من جامعات الأقطار العربية ..
إن محاولة محاكاة الفكر الغربي , في النقد والتحليل والإبداع , هي أعلى الأماني لدى حملة القلم , وأرباب البيان , وتلامذة اللسانيات والأدبيات , وكـُتـَّابِ الروايات !..
إعجاز في عالم الفكر :
إن القرآن العظيم , مهما امتد الزمن , وتطورت إمكانات الإنسان وعلومُه وأفكارُه , يبقى هو الوعاءَ , الذي له الإحاطة والاحتواء , ومنه لا من غيره , يُلتمس البُرْء والشفاء , وهو المؤهل أن ينهض بالبشر من كبوتهم , وينقذ النوع الإنساني من جديد .. كما كان قد أنقذ البشر , في العهد الأول : حقاً وصدقاً ..
وإعجازه المستمر , في أنه ينطق بالحق دوماً , ويـسوس الخـليقة كـلها بميزان العدل الإلهي , ويواجه الأحداث بما يقتضيه الجزاء والابتلاء , وحكم القضاء !..
ليست معجزة القرآن المجيد الآن : مسلماتٍ في البلاغة , أو بدَهيات في النـَّظم , أو حتى استباقاتٍ في العلم , وانكشافاتٍ في الغيب والفهم .. فهذه وغيرها , مما طأطأ له عنق الفكر الإنساني , وسلم به .. واحتشدت زوايا التاريخ بآثاره وتفاعلاته ..
ولكن وجه المعجزة , في تحضير العالم فكرياً وروحياً , ومخاطبة مراكز القوة , وهم على مِنصات ما لديهم من أسلحة وطاقات , وحرب غاشمة , وظلم صارخ ..
إن الخلفية الفكرية للغرب , الممسكة بتلابيب القوة المادية والعسكرية , ووسائل الاقتدار العلمي , المنتشر كالسحاب والزوابع , والتفجرَ الفكري كالبركان والطوفان , كل ذلك , هو الذي ينصب عليه تيار الضغط الإلهي , والتعجيز القرآني , لتبوء خطط الأعداء , بالانكسار والهزيمة , والفشل الذريع , وليؤول أمر الفكر الغربي , إلى النفاد والنضوب , والضحالة والاجترار , والعَوْدِ إلى السطحية وافتقاد المضمون !..
إن سنة الله الدؤوبة , هي التي استدعت معجزة في عالـَم الفكر , تلتهم ما ألقاه الدهاقنة والسدَنة , للوثنية الجديدة , وتأتي على مجمل الفكر الراهن والمخاصم من قواعده , وتضع يدها القادرة والأمينة , على كل ما استلبه وتحت يده .. من مقدرات وقِـيم , وثروات وثقافات , هي للشعوب المهضومة والمظلومة والمنكوبة ..
وهكذا فالإعجاز القرآني الفكري , يحيط بأرجاء الفكر العالمي , المطوِّف في الأرض , والمثير لعجاجةِ أكبر فتنة في التاريخ .. وهو اليوم , رهن أقوى حركة التفاف وهضم , يثيرها ويديرها القرآن المجيد , بمعطيات إعجازه , الداحض لدخان المناجم الفكرية العفنة , ونفايات النفس الجامحة , ومُنصَهرات البركان الإباحي الثائر..
الغطرسة والتبجحات , تطغى على عالـَم الفكر المتألـِّه , ويفرز باستمرار : صَـنميِّة دونها اللاتُ والعُزَّى , ومناةُ الثالثة الأخرى ..
والسدَنة والغوغاء والتافهون , مُعجبون ومفتونون , ويقولون : تبارك المجد والخلود , لهذه الآلهة , وللأوثان جميعاً , ولكل أصنام الذهب والجنس .. والجنون !!..
مسؤوليات الإعجاز الجديد :
إن إجماع العقلاء والمفكرين , وأرباب النظر في الغرب , على ضرورة التحويل التاريخي والحضاري , لخلاص العالم , وإنقاذ المجهودات البشرية , ليس كافياً , مثلما لا تكفي إسهامات المتدينين والواعظين , والمترهِّـلين : مادياً ودنيوياً ونرجسية ..
فيجيء الإعجاز الفكري , للقرآن المجيد , يخترق جدار العجز , ويفتح الطريق المسدود , ويأذن بانطلاقة جوهرية الصيغة والأسلوب , حضارية المضامين والممارسات والشعارات , في إطار جذاب وغلاب , من الهداية الربانية , والمنهج القرآني القويم , والسلوكيات النبوية الأشد عراقة وأصالة ..
وإذ يقف أولوا الفكر المتعمق والمعتز في الغرب , عاجزين وضارعـين , تأتي المعجزة , تفوق ما هم فيه , وتـَبهَره وتـُحجمه , وتدفع البشرية في مسـيرة نحو الـتي هي أقوم , وأخلد وأعظم : إفلاتاً من قبضة الظالمين , الذين لا يرحمون ..
وليس عجيباً أن الفكر الذي يستلهمه العالم , ذو خمائرَ يهودية وإغريقية , وقد تطور هذا الفكر , وانشطر بتفاعلات العلم والثورية , وبالتعمق النـِّسبي , في ظاهر الوجود , والحياة الدنيا , والمتعة الجسدية البحتة .. والمصالح الجهنمية ..
ويجدر التفريق بين هذا الفكر , وبين الفكر الذي أعلن انفصاله في الغرب , وتوجه إلى القرآن والإسلام , إذ قد تبين له الحق , فعاد هو بالذات , يُفـنـِّد مقولات الفكر الآسن , ويرفض تفسيراته ومطالعاته , حول التاريخ , والإسلام , والحضارة ..
بيد أن الأحزاب والهيئات , والأسواق التجارية , والامتيازات العسكرية , والشركات العالمية , تأبى إلا التعنت والشموخ , والمضيَّ في لعبة المكابرة والمناورة , وشنَّ الحروب الخاسرة , والبحثَ عن حل للأزمة العالمية , والإفلات دون جدوى ..
الهدف والغاية من الإعجاز الجديد , تجريدُ الفكر الغربي من مسؤولياته الجائرة والفاجرة , وإنشاءُ مسؤوليات جديدة لصالح الحق والعدل , والإغاثةِ البشرية في الوقت المناسب , وفي اللحظات الحاسمة والحرجة , والإمساكِ بالعالم الإنساني المنهك والمتهتك والمنهار , وتحويل الأعـنـِّة والزمام والمسار .. وتحقيق الانتصار ..
إن حقائق التكوين , ومنطلقاتِ التحول , وسننَ الاسترسال والتطور , ومبرراتِ التدبير الإلهي الأمثل , هي الكفيلة بإراحة بني الإنسان , من كوابيس الظلم , وضواغط السياسة الآثمة , ونوازع الشر والمنكر , والإرهاب الفكري والعقائدي , الذي يمارَس بمنتهى الوحشية , وبأفتك الأسلحة التدميرية , وبالعنصرية والجاسوسية ..
الإعجاز الجديد .. والمآلات :
تبدو صفحات هذا العالم , ملطخة بالأحمر القاني , وبكل التشوُّهات المرعبة , والأشلاء الممزقة , والدموع الجارية , والمصائب والنكـبات الفادحة , والجرائم المخيفة , في عالم مجنون , ويبحث عن الجنون !.. وكلُّ محاولة للتعقل والتدبر والتبصر , آيلة إلى السقوط , وأودية اليأس والقنوط .. والإفلاس المُريع ..
ومن خلال كل هذه التراكمات والمآلات , تلوح ملامح الإعجاز الجديد , في وعي صامد , وإدراك واعد , ومواجهة حتمية , مع ذيول الرجعية الصهيونية والأمريكية , وغِربان التوحش والإباحية , في ملحمة أخيرة , لم تشهد لها الدنيا مثيلاً , في مآسيها وضخامتها , واتساع رقعتها ومداها , الذي يَطال الآفاق والأعـناق ..
إن كون أعدائنا , وأعداء الإنسانية , في وضع لا يُحسدون عليه أبداً : خسارة وأزماتٍ وهزائم .. وإن كـون طلائعَ من أمتنا , تهتف للنصر القادم , وتبشر بأبهى المنارات والمعالم .. إنْ كلُّ ذلك , إلا إرهاصاتٌ بهذا الإعجاز الجديد , الموفي على برزخ العودة والتجديد , والمآل الحميد والمجيد , بإذن الله تبارك وتعالى .. إن القرآن العظيم , يخوض حرباً إعجازية في اتجاهين . الأول : لإثبات أنه ليس من عند غير الله وأنه كلام الله الذاتيُّ القديم ..( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ) .. الثاني : لإقامة منهج الله والرسول في الأرض , وحكمِه الأيسر والأقدس .. ( ومن يُـطع الرسـول فقد أطـاع الله .. ) ..
وقد تحقق الأمران , وتخطىَّ القرآن كل التحديات التي وُجهت إليه , ويؤكد بما لا يدع مجالاً للشك , أن القرآن كتاب إلهي مقدس , مصون ومحفوظ كما أنزل , لم تتجرأ يـد واحـدة , عـلى أن تـَعـبـث بحـرف منه , فهو مـوثـوق : نـصُّه وآيـاتـه , وعـجائـبه لا تنقضي , وأسراره ثـَرَّة فياضة , وإعجازه لا يُطاق , ويأخذ بالخِناق , وحقه فوق كل الحقائق والحقوق .. ( وبالحق أنزلناه وبالحق نزل .. ) .. ( وقرآناً فـَرَقناه لتقرأه على الناس على مُكـْثٍ ونزلناه تنزيلاً ) ..
ألا إن الـقرآن المجيد , دِعامة الوجود , وسـر بقاء هذه الأمة , رغم كل الـمخاطر والأخطار , الـتي أحاطت بها , إحاطة السـوار بالمِـعصم , وبدت وكأن نهايتها قد أزفت , في أكثر من هجوم هائل , وموقع ويوم عصيب !..
لكنها سرعان ما تستعيد عافيتها ووحدتها , وتقهر أعداءها , وتجعـلهم يخـسرون وينـسحبون , مُجللين بالعار : عار الهزيمة الذي يلاحقهم , ويدخل معهم تاريخهم , الملطخَ بالسواد والأحقاد .. كما تلاحقهم لعَـنات الله والأجيال , وفي يوم المَعاد ..
( وردَّ الله الـذين كـفروا بغـيـظهم لم ينالـوا خيراً وكـفى الله المـؤمنين الـقتال وكان الله قـوياً عزيزاً ) .. صدق الله العظيم .. حينما تـكـبو هذه الأمة , فهـذه قضية استـثـنائية , وإن الأصل : هي الثبات والوجود , والخلود للمحمديين المناضلين : نواةِ النـُّشوء والارتقاء والبقاء , وتضمحل وتتلاشى ظِلال الشانئين والأشقياء : جنود الظلام والمظالم الكبرى , ويسطع نور الله من جديد , على هذا الوجود ..
إن أمة العروبة والإسلام , عصيَّـة على ليِّ الذراع , وروحُ الحياة في كيانها خالد ومقيم , فهي لا تموت أبداً , بل أعداؤنا هم الذين يموتون , وهم في أوج قوتهم وتسلطهم , يفقدون أبسط مقومات الحياة الحقيقية , فهم في العدم والخِزي يعيشون , وهم أموات غير أحياء , وما يشعرون أيَّان يُبعثون !.. ( إنْ هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً ) ..
وبخصوص الإعجاز القرآني , الذي يُقصد به : إقامة منهج الله والرسول في الأرض , فليس هو بالإعجاز النظري والمعياري , بل هو لقـلب موازين القوى , وإحـداثِ تغيير عميق الغوْر , وإنشاءِ مسؤوليات طامحة , وإقصاءِ مسؤوليات ديكتاتورية فاسدة ومرتدة , وتمكينٍ للجماهير المستضعفة والمحرومة !.. والمنكوبة بأبنائها قبل أعدائها !..
الإعجاز الجديد .. مُعطيات ومفاهيم :
وقبل أن يتوجه السؤال , نجيب : لعل معطياتِ الإعجاز الجديد , ومعالمَه البارزة , تتجلى في كوْن أعداء القرآن والإسلام , يترنحون تحـت مطارق الـمعجزة الآنفـة , وتنتابهم الخيبة والمرارة , بعد أن استنفدوا تحدياتهم , ولم يبق لديهم ما يتبجحون به .. بل يعـيشون بكل جوارحهـم , حالة سقوطٍ في شر أعمالهم , وأن هذه الأمة , قد خرجت من تحت سيطرتهم , وأنهم يفقدون مسوِّغاتِ ما كانوا يفرضونه علينا بالحديد والنار , من باطلهم وظلمهم , وعارهم وضلالهم الكبير , وكفرهم بالله القدير ..
في بداية القرن العشرين , كانت دول الاستعمار الغربي , تمتلك أعِـنـَّة الهيمنة على هذه الأمة , وكان المستقبل أمامهم مفتوحاً .. فاقتسمونا غنائمَ حرب , ومزقونا شر مُمَزق , ودخلت كتائب جنودهم مُدَن الإسلام , ونكـَّلوا بنا أشد التنكيل , وأشبعونا عذاباً وإذلالاً وإرهاباً ..
والآن تبدو ملامح التغيير ورياحُه , تجتاح العالم , وتهز الدول الكبرى هزاً عنيفاً .. وفي أواخر القرن الماضي , أسقط الإسلام الحق , المعسكرَ الشرقي الشيوعي , وأنهى أعظم إمبراطورية عسكرية في التاريخ , وفككها تفكيكاً , وصيَّرها أثراً وخَبراً !..
إن الإسلام الحق , هو اليوم في المراحل الأخيرة , من القضاء على المستعمرين الجُدد : الأمريكان والصهاينة .. وإن القرآن المجيد , يستعيد موقعه الفائق في الأرض , وعند العرب والمسلمين : كتاباً له المجد والخلود , والنصر المؤزَّر والمبين ..
طلائع الأمة , من عرب وغيرهم , يعقدون العزم على المقاومة والتصدي الحقيقي , وأطفالهم ونساؤهم , قبل رجالهم , يأبوْن رفع راية الاستسلام , ولا يخافون أعداءهم الكافرين ..
وفي الحديث : ( لن يبرحَ هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة ) .. ( ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق .. حتى يأتي أمر الله ) ..
إن النصر الماثل هو لحساب القرآن , لأنه بمعجزة منه , قد كان كل هذا المآلُ الطيب , وتمت فضيحة الذين ألسنتهم ألسنة العرب , وقلوبهم قلوب الأعاجم ‍!..
ولا تستطيع أيُّ جهة مشبوهة , أن تدعي ذلك لنفسها , وأن تفرض على الأمة , ما تراه من اجتهاد وتنظير , وسوء تقدمة وتقدير .. بعد أن دفعت الأمة الثمن غالياً : تضحية وفداءً ..
إن الإسلام الحق , الذي لا شِية فيه , والمُبعَدَ والمُغـيَّـب , هو الإسلام العائد والمستعيد , الذي يتسع للجميع : تيسيراً وهداية , وحباً خالصاً , وإنقاذاً موعوداً ومرتـقـَباً .. فالخـلق كلهم عيال الله , وأحبُّهم إلى الله , أنفعهم لعياله .. ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ..
المعجزة .. والرتـْق الحضاري :
إن أعظم تعبير عن مُعْطى المعجزة الراهنة , هو في عملية الرتـْق الحضاري , وما يرمز إليه هذا الرتق , من إعادة لـُحْمة التواصل والتراحم , بين سكان المعمورة , الذين مزقتهم الأحقاد والصراعات , وسفكُ الدماء أنهاراً , في سبيل الهيمنة والسيطرة , واستعمار الشعوب المستضعفة , وسلبـِها خيراتها , واعتبارها مناطقَ نفوذ للأظلم والأقوى , والأشدِّ رجعية وهمجية !..
إن الرتق الحضاري , هو الرد الأمثل على تفكك العالم الإنساني , واضمحلال القوى الخيِّـرة فيه , وطغيانِ القوى الشريرة والفاجرة والكافرة , لهدم كل قيم التوافق والتعانق , والتعايش الحضاري الجامع !.. لتسود أساليب ما قبل التاريخ , وتندكَّ قوانين المجتمعات الصالحة !..
فليس عطاء المعجزة : ديناً يُـفرق , ولا طقوساً تضلل , ولا هيمنة عرقية ولا قومية , بل عطاؤها : عراقة في الطرح , وأصالة في التوجه , وإنسانية في المدى والمضمون , وحضارية في المعالجة والسلوك .. الرتق الحضاري : هو البديل الأنجع والأسرع , لحرب الحضارات والثقافات , وطمس الهويات , وإلغاءِ الآخر من قاموس الحياة الحرة الحقة , ووطئِـه بسنابك الجنود المرتزقة , وأسلحة الدمار الشامل , والأرض المحروقة ..
حياة التدابر الكريه في الأرض , والانفصامِ المُريع في العلاقات الشخصية والدولية , وتقطيعُ الأرحام بين أبناء الأب الواحد : أدمَ عليه السلام , هذا كله يتبخر ويتلاشى , حينما تصاغ قيم الرتـْق الحضاري , فيلتئم البشر , ويعودون أمة واحدة كما كانوا ..
( كان الناس أمة واحدة .. ) .. ( وما كان الناس إلا أمة واحدة .. ) . صدق الله العظيم ..
وعندها ليس للعنصرية الدينية والعرقية , أية قيمة أو اعتبار , في سُـلـَّم أولويات التسامح الحق , والعوْد إلى جذور النشأة الأولى , وأن الدين كله لله , وليس لعرب ولا لعجم , ولا لسامية ولا جرمانية , ولا لخلايا التفريق والبطش والانتقام , ووحوش الغابات , من الإنس والشياطين ..
الرتق الحضاري .. سحب البساط من تحت أرجل المستكبرين , والمعتزين بدينهم الباطل , وعنصريتهم الفاتكة , وخلاصُ العالم الإنساني منهم , وإلى الأبد .. بإذن الله تبارك وتعالى ..
وإن الرتق الحضاري , هو منهج هذا الخلاص , وبوَّابة نجاة العالم , وإفلاتِه من موبقاته , حيث لا يمكن إلغاء هذه الصيغة الحضارية , وتقنياتِها العالية جداً , ومنجزاتِها المتطورة حقاً ..
فلا بُدَّ من الاعتراف بالحضارات , وخصائص الأمم , ورأبِ الصدع والتصدع , في كياناتها المبتورة والمنقوصة , ورتقِ ما انفـصل منها , بالشـرعة الحضارية القرآنية الكونية , التي تـَفصل في النزاع , وتجعل البشر إخوة متحابين , بأريحيَّة العدل والإغاثة , ولا تثير أي تحسس أو ضغينة , أو شعور بالنقص والدونية , وتتسع للجميع في صدرها الرحيب والراحم ..
روح هذا الرتق , إقصاءُ ما يرزح تحته أجيال هذا الزمن , من قابليات الظلم , والرضى بالضيم , وممارسةِ الخطيئة وكبائر الإثم , وتجاوز المحارم والحدود , والإشارات الحمراء ..
ومن ثـَمَّ العيشُ في أجواء الفوضى والحروب , والكوارث الطبيعية , وغير الطبيعية , التي هي من صنع الإنسان , بأخيه الإنسان , بدافع من العنصرية والتمرد , والاستقواء على الضعفاء والفقراء , وبيع الشعوب , وتخريب الضمائر والذمم , وقلب موازين الفطرة الإلهية السامية ..
لنا مِسـك الـختام , وعاقبة الـتمام , وراية الـمجد والسـلام .. وإن الله معنا وناصرنا , وخاذلٌ عدوَّنا .. ما دام فينا القرآن , ومحمد عليه الصلاة والسلام ..
( واعلموا أن فيكم رسولَ الله .. ) .. والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم ..