المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حكم المظاهرات السلمية



الأشعث
02-16-2011, 05:59 AM
حكم المظاهرات السلمية

2011-02-07

بقلم الشريف حاتم العوني





الحمد لله على عظيم نعمته ، والصلاة والسلام على رسول الله وأزواجه وذريته .
أما بعد : فجوابا لسائل عن حكم المظاهرات السلمية ، التي لا تُشهر السلاح ولا تسفك الدماء ، ولا تخرج للاعتداء على الأنفس والممتلكات ، أقول (وبالله التوفيق) :


المظاهرات السلمية ليست خروجا مسلحا على الحكام ؛ ولذلك فلا علاقة للمظاهرات السلمية بتقريرات الفقهاء عن الخروج وأحكامه ؛ لأنها ليست خروجا ، ومن أدخلها في هذا الباب فقد أخطأ خطأً بيّـنًا .


والمظاهرات السلمية هي وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي ، ومن وسائل التغيير، ومن وسائل الضغط على الحاكم للرضوخ لرغبة الشعب . فإن كان الرأيُ صوابًا ، والتغييرُ للأصلح ، ورغبةُ الشعب مشروعةً = كانت المظاهرةُ حلالا ، بشرط أن لا يترتب عليها مفسدة أعظم من مصلحتها المطلوبة . فحكم المظاهرات حكم الوسائل ، وللوسائل حكم الغايات والمآلات .


ومع أن الوسائل من المصالح المرسلة التي لا تتوقف مشروعيتها على ورود النص الخاص بها ؛ لأن عمومات النصوص ومقاصد الشريعة تدل على مشروعيتها ؛ فقد سبق السلف من الصحابة الكرام إلى عمل مظاهرة بصورتها العصرية : فإن من خرج من الصحابة يوم الجمل للمطالبة بدم عثمان رضي الله عنه ، وعلى رأسهم الزبير بن العوام وطلحة بن عبيدالله وعائشة رضي الله عنهم أجمعين ، وكانوا ألوفا مؤلّفة ، خرجوا من الحجاز للعراق ، ولم يخرجوا لقتال ابتداءً (كما يقرره أهلُ السنة في عَرضهم لهذا الحدَث) .

وإذا لم تخرج تلك الألوفُ للقتال ، فلم يبق إلا أنهم قد خرجوا للتعبير عن الاعتراض على عدم الاقتصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه ، وللضغط على أمير المؤمنين وخليفة المسلمين الراشد علي بن أبي طالب رضي الله عنه لكي يبادر بالقصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه .

وهذه مظاهرة سلفية ، بكل معنى الكلمة ، وقعت في محضر الرعيل الأول من الصحابة الكرام ، ولا أنكر عليهم عليٌّ رضي الله عنه أصلَ عملهم ، ولا حرمه العلماء ، ولا وصفوه بأنه خروج على الحاكم .

مع ما ترتب على هذا الحدَث من مفسدة ؛ لأن مفسدته كانت طارئةً على أصل العمل ، ودخيلةً عليه . والمهم هو موقف عليّ رضي الله عنه ، فهو من كانت تلك المظاهرة ضدّه ، ومع ذلك فما شنع على الذين تَجمّعوا بدعوى حُرمة مجرد التجمع والمجيء للعراق ، ولو كان تَجمّعهم وتوجههم للعراق منكرا ، لأنكره عليهم عليٌّ رضي الله عنه .

بل حتى لو أنكره عليهم ، فيكفي أن يخالفه الزبير وطلحة وعائشة ومن معهم من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين لبيان أن مسألة مظاهرتهم مسألةٌ خلافية . هذا على افتراض أن عليا رضي الله عنه قد أنكر عليهم ، وهذا ما لم يكن . ولا يقدح في صحة الاحتجاج بهذا الحدث التاريخي الكبير ما ترتب عليه من مفسدة ؛ لأن مفسدته الخاصة لا علاقة لها في صحة الاجتهاد الذي وقع من الصحابة في تجويزهم لأنفسهم القيام بهذا العمل ، ولا يُلغي حقيقةَ أن من فقهاء الصحابة وسادة الأمة من أباح هذا العمل ؛ ولأن مفسدته وقعت بأمر طارئ ومن مفسدِين أرادوا الخروج به عن هدفه السِّلمي ( كما يقرره العرضُ السُّنيُّ لهذا الحدَث) .


ومع أن المظاهرات السلمية مشروعيتها لا تحتاج للاستدلال لها بهذا الحدَث التاريخي الشهير ، لأن بابها الفقهي لا يحتاج لنص خاص (كما سبق) ، فيأتي هذا الحدث يوجب على من يتبع السلف ، ولو دون فقه ، بأن يلتزم بعملهم الذي أباح المظاهرات السلمية .


ولا شك أن تقدير مصالح المظاهرة ومفاسدها يختلف من حال لحال ومن بلد لبلد ومن مظاهرة لمظاهرة . والبلد الذي تقبل أنظمته إقامة المظاهرات ليس كالبلد الذي بخلاف ذلك ، فمفاسد المظاهرات في البلد الأول تقل ، وفي الثاني تكثر .

وينبغي لكل حكومة إسلامية أن تُشرّع قوانينُها لوسيلة ضغط عليها من الشعب ؛ لأن في ذلك ضمانة لها من الانجراف إلى انحراف خطير هو انحراف الاستبداد ، فالاستبداد ظلم ، والظلم ظلمات في الدنيا والآخرة ، ولا تقوم الدول ولا تزول إلا بقدر عدلها .

وتشريعُ تقويم الشعب للحاكم تشريعٌ إسلامي ومنهجٌ راشدي ، سبق إليه الخليفة الأول للإسلام أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، حيث قال في أول خطبة له بعد تولّيه الخلافة : (أيها الناس ، فإني قد وُليتُ عليكم ، ولست بخيركم . فان أحسنت فأعينوني ، وإن أسأت فقوّموني ...) إلى آخر هذه الخطبة الثابتة . فها هو يأمر بتقويمه إن أساء ، ليضع بهذا الأمر الخلافي (الحكومي) أُسُسَ الرقابة الشعبية على الحاكم وتشريع ضغطها عليه لكي يقوّمَ اعوجاجه فيما لو احتاج للتقويم .


والخلاصة أن حكم المظاهرات السلمية : هو أن الأصل فيها الإباحة , ولا تكون محرمة إلا إذا ترتبت عليها مفسدة أعظم من مصلحتها , وقد تكون واجبة : وذلك إذا لم يُمكن إصلاحُ المفاسد إلا بها ، دون أن يترتب عليها مفسدة أكبر . وإطلاق القول بتحريمها في كل حال , ووصفها بأنها دائما تؤدي لمفاسد أكبر من مصالحها شيء لا يدل عليه النقل ولا العقل ولا الواقع :


_ فلا هناك نصٌّ خاص من نصوص الوحي (القرآن أو السنة) يدل على تحريم المظاهرات ، فيلزم المسلمين التعبّدُ بالرضوخ له .


_ ولا يرفضها العقل مطلقا ، لعدم جريان العادة التي لا تتخلف بكونها مُفسدةً .


_ والواقع يشهد بأن من المظاهرات ما أصلح ونفع وأفاد ، ومنها ما هو بخلاف ذلك . فلا يصح ادّعاءُ أن واقعها يدل على تحريمها .


هذا هو حكم المظاهرات ، كما تقرره أصول العلم وقواعده .
والله أعلم .


والحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه .

المصدر مجموعة عبالعزيز قاسم البريدية