المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع أئمة التجديد ورؤاهم في الفكر والإصلاح



فخر الدين المناظر
02-20-2011, 02:55 AM
هذا كتاب للشيخ القرضاوي حفظه الله تعالى ورضي عنه، يتحدث فيه عن شخصيات علمية معاصرة -اختار الشيخ منهم أربعة- تركت بصمات وحركات مباركة، وقد لمست من بعض مداخلات إخواننا في مصر أن الإخوان المسلمون هم المعول عليهم بعد الله عز وجل، لهذا ارتأيت نقل هذا الكتاب إلى هنا لما فيه من فوائد تصب في صالح المنتدى من جهة، وفي صالح التعريف برؤى بعض العلماء والحركات في الشؤون السياسية والإصلاحية، والمسائل تبقى اجتهادية فقد يتفق البعض أو يخالف، لكننا لا نخالف في النية الحسنة والمجهودات الجبارة لهؤلاء الشوامخ رحمهم الله تعالى.. وهذا الكتاب أحرى بأن يقرأ على مهل، وألا يعرض عنه من ترسب في لا وعيه الجرح والتقبيح، فتجد أحدهم يقلد أحدهم، حتى إذ انتهت السلسلة وجدت زعيمها أخذ عن سلسلة قبله، وتبقى المسألة في حكى لي فلان عن فلان أن الجماعة كذا قالت والأخرى تركت، وكتب القوم موجودة ومناهلهم معروفة، ورحم الله رجلا تريث، واطلع ولو من باب العلم بالشيء.


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.

(وبعد)

طلب مني مركز الإعلام العربي للدراسات المشاركة ( كتابة) لعقد مؤتمر، بمناسبة مرور مائة عام على مولد الإمام الشهيد حسن البنا ، وأن تكون مشاركتي عن (التربية السياسة عند حسن البنا).

وقد كنت كتبت رسالة عن (التربية الإسلامية عند مدرسة حسن البنا) بمناسبة مرور ثلاثين عاما على استشهاده، وخمسين عاما على تأسيس جماعة الإخوان ... تحدثت فيها عن معالم هذه التربية وخصائصها وجوانبها المختلفة. وكان منها: الجانب السياسي.

فسطَّرت هذه الصحائف التي أكتبها اليوم تكملة لتلك الرسالة، بتعميق الحديث وتأصيله وتفصيله عن الجانب السياسي في تربية الإمام البنا.

ومنهجي في هذه الدراسة يقوم على جملة عناصر:

1. التعرف على أقوال الإمام الشهيد من مجموع رسائله، وهي منشورة مجتمعة، والحمد لله، وإن كان فيها كثير من الأخطاء المطبعية من قديم، وهي سجل حافل لآراء الإمام، لأنها نشرت مرارا وتكرارا في حياته، وأراد بها تبليغ دعوته، وتوصيل فكرته للناس عموما وللإخوان خصوصا، كما أنها انتشرت بين الإخوان، وكاد يحفظها الكثير منهم. ولا غرو أن يكون لها أثرها في توجيه فكرهم وسلوكهم. كما استفدنا مما كتبه الإمام الشهيد خارج هذه الرسائل، مما نشر في المجلات والصحف الإخوانية وغير الإخوانية، وقد حاول بعض الإخوان المهتمين أن يجمعه من مظانه وينشره، كما فعل الأستاذ جمعة أمين بالإسكندرية. وإن كان الأساس هو الرسائل.

2. المقارنة بين أقوال الإمام بعضها ببعض، ما بين رسالة وأخرى، لمعرفة ما إذا كان بين بعضها وبعض: شيء من التعارض، أو التباين، في النظر والاجتهاد، نتيجة تغيُّر الظروف أو تغيُّر الفكر، وتجدُّد المعلومات أو غير ذلك. وكذلك المقارنة بين آراء الأستاذ وآراء غيره من المجددين والمصلحين إذا اقتضى الأمر.

3. النقد العلمي الموضوعي الهادئ، لما أراه يحتاج إلى نقد من آراء الأستاذ، فليس في العلم كبير، وقد علمنا الإمام البنا نفسه في أصوله العشرين: أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا المعصوم [1]. ورغم حبي الكبير وتقديري العظيم للأستاذ، لا أرى عيبا أن يُنقد، فهو ابن زمنه وبيئته، يتأثر ويؤثر، وحسبه أنه تحرَّى واجتهد، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، و"الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"[2].

أرجو أن يجد القارئ الكريم في هذه الرسالة: ما يضيء العقل بالمعرفة، وينير القلب بالإيمان، ويوضح المفاهيم الملتبسة على كثيرين من الناس، ويدفع بالعزائم إلى مزيد من العمل الصالح، والعطاء البناء، لخير الفرد والجماعة والأمة.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.



الدوحة في: ربيع الآخر 1427هـ الفقير إلى عفو ربه

أيار (مايو) 2006م يوسف القرضاوي



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- انظر: رسالة التعاليم صـ357 من مجموعة رسائل الإمام الشهيد. طبعة المؤسسة الإسلامية. بيروت.

[2]- رواه البخاري في بدء الوحي (1)، ومسلم في الإمارة (1907)، وأحمد في المسند (168)، وأبو داود في الطلاق (2201)، والترمذي في الجهاد (1647)، والنسائي في الطهارة (75)، وابن ماجه في الزهد (4227) عن عمر.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 02:58 AM
التربية السياسية عند الإمام حسن البنا

كان حسن البنا -رحمة الله عليه- رجلا متعدد المواهب والقدرات، فهو عالم وداعية، ومصلح، ومجدِّد، وقائد وزعيم، وهو كذلك مُرَبٍّ من الطراز الأول.

كان مربِّيا بحكم الموهبة، وبحكم الدراسة، وبحكم الممارسة، وكانت لديه كل الأدوات التي يفتقر إليها المربِّي الناجح، من البصيرة النَّيِّرة، والقلب الكبير، والعقل المنفتح، واللسان الفصيح، والوجه البشوش، والفِراسة النادرة، إلى جوار العلم الواسع، والخبرة الفنية والاجتماعية.

فلا غرو أن نراه يؤثر بسرعة في كل من صحبه وعايشه، بل في كل من لقيه لقاء عابرا. فتراه يذكر له كلمة معبرة، أو موقفا مؤثرا، أو حكاية لها دلالة. أو نحو ذلك مما يعرفه الكثيرون عنه.

وقد صدق قول الشيخ رحمه الله: (علامة الرجل الصالح أن يترك في كل مكان يحل فيه أثرا صالحا)، وهكذا كان.

وكانت التربية في نظر الإمام البنا تتسم بخصيصتين أساسيتين:

أولاهما: التكامل.

وثانيتهما: التوازن.

ومعنى (التكامل): أنها تربية شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تتناول الروح والجسم، والعقل والعاطفة، والضمير والوجدان. وتعمل على تكوين الشخصية المسلمة تكوينا متكاملا: روحيا بالعبادة، وبدنيا بالرياضة، وعقليا بالثقافة، وخُلقيا بالفضيلة، واجتماعيا بالمشاركة في خدمة المجتمع، وسياسيا بالتوعية بقضايا الوطن والأمة. وهكذا لا تقتصر التربية على جانب دون آخر.

ومعنى (التوازن): أنها تعطي كل جانب من الجوانب حقَّه بلا طغيان ولا إخسار، بحيث لا يطغى على غيره من الجوانب، ولا يحرمه حقه لحساب غيره، بل يقول لكل من تجاوز حده: قف عند حدِّك، والزم صراطك المستقيم[1].

ولا غرو أن كان من أهمِّ أنواع التربية التي عُني بها الأستاذ البنا: التربية السياسية، التي كانت مُغيَّبة عند كثير من المتدينين، والجمعيات الدينية العاملة في مصر في ذلك الوقت.

الجانب السياسي:

أجل، كان من الجوانب الهامَّة التي عنى بها الإمام الشهيد حسن البنا: الجانب السياسي. ونعني بهذا الجانب ما يتصل بشؤون الحكم، ونظام الدولة، والعلاقة بين الحكومة والشعب، والعلاقة بين الدولة وغيرها من الدول إسلامية وغير إسلامية، والعلاقة بالمستعمر الغاصب، والموقف من الأحزاب والحزبية، ومن الدستور والقانون والشورى والديمقراطية، وغير ذلك من القضايا المتعددة المتنوعة.

وقد كان هذا الجانب قبل دعوة حسن البنا وقيام مدرسته بعيدًا عن اهتمام الجماعات الإسلامية -وبتعبير أصح: الجماعات الدينية في مصر- وخارج نطاق نشاطها وتفكيرها. فقد أصبح مفهوم السياسة مقابلا لمفهوم الدِّين، كما يقابل الأسود الأبيض، فلا يتصور اجتماعهما في شخص أو في جماعة، والناس رجلان: إما رجل دين، وإما رجل سياسة، والجماعات نوعان: إما جماعة دينية، وإما جماعة سياسية. وحرام على رجل الدِّين أن يشتغل بالسياسة، كما يَحْرُم على رجل السياسة أن يشتغل بالدِّين، ومثل ذلك تَدَخُّل الجماعة الدينية في الشؤون السياسية، أو رجال السياسة في شؤون الدِّين. وقد يتجاوز ويتسامح في تدخل رجل السياسة أو الجماعة السياسية في الدِّين، أما الذنب الذي لا يُغتفر ولا يُتسامح فيه عند الناس يومئذ، فهو أن يتدخل رجل الدِّين أو الجماعة الدِّينية في القضايا السياسية!

وعلى هذا الأساس قامت في مصر-كما في غيرها- جماعات دينية الطابع، كالطُرق الصوفية، والجمعيات الدِّينية المختلفة، التي تنص في صُلب لوائحها وأنظمتها الأساسية: أنها لا صلة لها بالسياسة.

وتقابلها تجمعات أخرى لا شأن لها بالدِّين، وهي التي أُطْلق عليها اســم (الأحزاب) مثل الحزب الوطني، أو حزب الأمة، أو حزب الوفد، وما انشقَّ عنه، وحزب الدُّستور وغيرها. فهذه الأحزاب تشترك كلها في طابعها (المدني) أو (العلماني). ففكرها النظري وسلوكها التطبيقي قائمان على أساس عزل الدِّين عن الدولة، وفصل الدولة عن الدِّين، وإن كان بعضها أقرب إلى الاعتدال من بعض، بحسب رؤى زعمائها، فالحزب الوطني كانت له نزعة إسلامية تمثلت في مؤسسه مصطفى كامل وخلفائه.

كما تؤمن هذه الأحزاب كلها بالوطنية الإقليمية الضيقة، التي رأينا كثيرا منها قامت تحيي نزعات جاهلية قديمة، كالفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق ... ومَن لم يؤمن منها بالنزعة الوطنية آمن بالنزعة القومية مثل: القومية الطورانية في تركيا، والقومية العربية في بلاد العرب، والقومية السورية في سوريا الكبرى.

كان على (حسن البنا) أن يخوض معركة حامية الوطيس، لمطاردة المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين الدِّين والسياسة، تلك المفاهيم التي غرسها الجهل والهوى، وتعهدها الاستعمار الثقافي بالسقي والرعاية، حتى تغلغلت جذورها وامتدت فروعها.

وكان لا بد من حرب الفكرة الخاطئة بالفكرة الصحيحة، وهي (شمول الإسلام) لكل جوانب الحياة ... ومنها السياسة، كما دلَّ على ذلك القرآن والحديث، وهَدْي الرسول وسيرة الصحابة، وعمل الأمة كلها طوال ثلاثة عشر قرنا أو تزيد. وحسبنا هنا أن القرآن يحذِّر من إهمال بعض ما أنزل الله تعالى فيقول: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [المائدة:49]، كما قرَّع القرآن بني إسرائيل على تجزئتهم لكتابهم، وأخذ بعضه دون بعض، فقال سبحانه: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ [البقرة:85].

وللإمام الشهيد في ذلك كلمات تكاد تكون محفوظة لدى جمهور الإخوان، من ذلك قوله في إحدى رسائله:

(إذا قيل لكم: إلام تدعون؟ فقولوا: نحن ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه.

فإن قيل لكم: هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام، نحن لا نعرف هذه الأقسام!)[2].

وقال رحمه الله يرد على من يقول: إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون، ودعوتهم دعوة سياسية:

(يا قومنا: إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيا، فنحن أعرق الناس -والحمد لله- في السياسة. وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات)[3].

دعائم التربية السياسية لدى حسن البنا:

وتقوم التربية السياسية لدى مدرسة (حسن البنا) على جملة دعائم، أو معالم، نذكر هنا أهمها:

1- الربط بين الإسلام والسياسة.

2- إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي.

3- إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحكم الإسلامي.

4- إقامة الأمة المسلمة.

5- إيقاظ الوعي بوجوب الوَحدة الإسلامية.

6- الترحيب بالنظام الدستوري.

7- التنديد بالأحزاب والحزبية.

8- حماية الأقليات والأجانب.


--------------------------------------------------------------------------------


[1]- من أراد التوسع حول هذين الأمرين: (التكامل والتوازن) فليرجع إلى كتابنا (الخصائص العامة في الإسلام) خصيصتي الشمول والوسطية صـ95، 115.

[2]- من رسالة (بين الأمس واليوم) من مجموع رسائل الإمام الشهيد حسن البنا صـ160 طبعة المؤسسة الإسلامية للطباعة والنشر. بيروت.

[3]- من رسالة (دعوتنا) من مجموع الرسائل صـ37.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:01 AM
(1)

الربط بين الإسلام والسياسة (أو الدين والدولة)

جاهد الأستاذ حسن البنا، جهادًا كبيرًا، ليعلِّم المسلمين فكرة (شمول الإسلام)، وبعبارة أخرى: ليُعيد إليهم ما كان مقررًا وثابتًا طوال ثلاثة عشر قرنا، أي قبل دخول الاستعمار، والغزو الفكري إلى ديارهم، وهو: أن الإسلام يشمل الحياة كلها بتشريعه وتوجيهه: رأسيا منذ يولد الإنسان حتى يتوفاه الله. بل من قبل أن يولد، وبعد أن يموت، حيث هناك أحكام شرعية تتعلق بالجنين، وأحكام تتعلق بالإنسان بعد موته.

وأفقيا، حيث يوجِّه الإسلام المسلم في حياته الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، من أدب الاستنجاء إلى إمامة الحكم، وعلاقات السلم والحرب.

وكانت نتيجة هذا الجهاد واضحة، وهي وجود قاعدة ضخمة تؤمن بهذا الشمول وتنادي بالإسلام عقيدة وشريعة، ودينا ودولة، في كل أقطار الإسلام، وتراجُع كثيرين من ضحايا الغزو الفكري عما آمنوا به في ظلِّ وطأة الاستعمار الثقافي، وبروز الصحوة الإسلامية على الساحة الفكرية والسياسية بصورة قلبت موازين القُوى، مما جعل الجهات الأجنبية الراصدة من الغرب والشرق، تعقد الكثير من الحلقات والندوات والمؤتمرات لدراسة هذه الظاهرة الإسلامية الخطيرة وتنفق في ذلك الأموال والجهود، حتى بلغ عدد هذه المنتديات -فيما ذكر الأستاذ فهمي هويدي- مائة وعشرين.

وهذا ما جعل عملاء الغرب، وعبيد أفكارهم، يحاولون إيقاف الفجر أن يطلع أو الشمس أن تبزغ، وأن يعيدوا عجلة التاريخ إلى الوراء، إلى عهد الاستعمار ليتصايحوا من جديد: لا سياسة في الدِّين، ولا دين في السياسة!

يريدون أن يعيدوها جَذَعَة، وقد فرغنا منها منذ أكثر من نصف قرن، حتى سمى بعض هؤلاء العبيد المساكين الإسلام الذي لم يعرف المسلمون غيره طوال عصوره -قبل عصر الاستعمار- الإسلام كما عرفه الفقهاء والأصوليون والمفسرون والمحدِّثون والمتكلمون من كل المذاهب، والذي شرحوه وفصَّلوه من كتاب الطهارة إلى كتاب الجهاد ... إسلام العقيدة والشريعة، إسلام القرآن والسنَّة، سماه: (الإسلام السياسي)[1]!! يريد أن يُكرِّه الناس في هذا الإسلام بهذا العنوان، نظرًا لكراهية الناس للسياسة في أوطاننا، وما جرَّت عليهم من كوارث، وما ذاقوا على يديها من ويلات!

ولكن ما حيلتنا إذا كان الإسلام -كما شرعه الله- لا بد أن يكون سياسيا؟ ما حيلتنا إذا كان الإسلام الذي جاء به محمد لا يقبل أن تُقَسَّم الحياة والإنسان بين الله تعالى وقيصر؟ بل يُصرُّ على أن يكون قيصر وكسرى وفرعون وكل ملوك الأرض عبادا لله وحده!

يريدنا هذا البعض من المساكين أن نتخلى عن كتاب ربنا، وسُنَّة نبينا، وإجماع أمتنا، وهدى تراثنا، لنتبنَّى إسلاما حديثا، يُرْضي عنا السادة الكبار، فيما وراء البحار!

إنه يريد (الإسلام الروحي) أو (الإسلام الكهنوتي) الذي يكتفي بتلاوة القرآن على الأموات، لا على الأحياء، ويتبرَّك بتزيين الجدران بآياته، أو افتتاح الحفلات بقراءة ما تيسَّر منه، ثم يَدَع قيصر يحكم بما يشاء، ويفعل ما يريد!

إن الإسلام الذي جاء به القرآن والسنَّة، وعرَفته الأمة سَلَفاً وخَلَفاً، هو إسلام متكامل، لا يقبل التجزئة.

إنه الإسلام الروحي، والإسلام الأخلاقي، والإسلام الفكري، والإسلام التربوي، والإسلام الجهادي، والإسلام الاجتماعي، والإسلام الاقتصادي، والإسلام السياسي.

إنه ذلك كله؛ لأن له في كل هذه المجالات أهدافا وغايات، كما أن له فيها كلها أحكاما وتوجيهات ...

يقول الإمام البنا في علاقة الدين بالسياسة: (قلَّما تجد إنسانا يتحدث إليك عن السياسة والإسلام إلاّ وجدته يفصل بينهما فصلاً، ويضع كل واحد من المعنيين في جانب، فهما عند الناس لا يلتقيان ولا يجتمعان، ومن هنا سميت هذه جمعية إسلامية لا سياسية، وذلك اجتماع ديني لا سياسة فيه، ورأيتَ في صدر قوانين الجمعيات الإسلامية ومناهجها: (لا تتعرض الجمعية للشؤون السياسية!).

وقبل أن أعرض إلى هذه النظرة بتزكية أو تخطئة، أحب أن ألفت النظر إلى أمرين مهمين:

أولهما: أن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجل سياسيا بكل ما في الكلمة من معان وهو لا يتصل بحزب ولا يمتُّ إليه، وقد يكون حزبيا ولا يدري من أمر السياسة شيئا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيا حزبيا أو حزبيا سياسيا على حد سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شؤون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيَّدة بالحزبية بحال ... هذا أمر.

والثاني: أن غير المسلمين حينما جهلوا هذا الإسلام، وحينما أعياهم أمره وثباته في نفوس أتباعه، ورسوخه في قلوب المؤمنين به، واستعداد كل مسلم لتفديته بالنفس والمال، لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره ولا شكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواحي قوية عملية، وإن تُرِكت للمسلمين بعد ذلك قشور من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تُسمن ولا تُغني من جوع ... فأفهموا المسلمين أن الإسلام شيء والاجتماع شيء آخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء غيره، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدا عن السياسة.

فحدِّثوني بربكم أيها الإخوان، إذا كان الإسلام شيئا غير السياسة وغير الاجتماع، وغير الاقتصاد، وغير الثقافة، فما هو إذن؟ ... أهو هذه الركعات الخالية من القلب الحاضر، أم هذه الألفاظ التي هي كما تقول رابعة العدوية: استغفار يحتاج إلى استغفار؟! ألهذا أيها الإخوان نزل القرآن نظاما كاملا محكما مفصلا: تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ [النحل:89].

هذا المعنى المتضائل لفكرة الإسلام، وهذه الحدود الضيِّقة التي حُدد بها معنى الإسلام، هي التي حاول خصوم الإسلام أن يحصروا فيها المسلمين، وأن يضحكوا عليهم بأن يقولوا لهم: لقد تركنا لكم حرية الدِّين، وأن الدستور ينص على دين الدولة الرسمي هو الإسلام.

أنا أعلن أيها الإخوان من فوق هذا المنبر بكل صراحة ووضوح وقوة، أن الإسلام شيء غير هذا المعنى الذي أراد خصومه والأعداء[2] من أبنائه، أن يحصروه فيه ويقيِّدوه به، وأن الإسلام عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية، وسماحة وقوة، وخُلُق ومادة، وثقافة وقانون. وأن المسلم مطالَب بحكم إسلامه أن يُعْنَى بكل شؤون أمته، ومَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم.

وأعتقد أن أسلافنا رضوان الله عليهم، ما فهموا للإسلام معنى غير هذا، فبه كانوا يحكمون، وله كانوا يجاهدون، وعلى قواعده كانوا يتعاملون، وفي حدوده كانوا يسيرون في كل شأن من شؤون الحياة الدنيا العملية، قبل شؤون الآخرة الروحية، ورحم الله الخليفة الأول إذ يقول: "لو ضاع مني عقال بعير لوجدته في كتاب الله"[3]ا)[4]هـ.

بهذا الشمول الواضح، أو الوضوح الشامل عن الإسلام، كان يتحدث حسن البنا، ليزيل من العقول ما رسب فيها من انحصار الإسلام في طقوس معينة، ويربيهم على هذا الأفق الواسع، الذي تقوم عليه الشخصية الإسلامية المنشودة.



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- انظر الرد على هذا التهجم في الجزء الثاني من كتابنا (فتاوى معاصرة) تحت عنوان (الإسلام السياسي) (2/623 - 635).

[2]- هكذا في الأصل، ولعل الصواب: والأدعياء من أبنائه.

[3]- ذكره السيوطي في الاتقان (2/233).

[4]- من رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين صـ158، 159.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:03 AM
(2)

إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي

الدعامة الثانية من دعائم التربية السياسية عند الإمام البنا، هي:

تقوية الوعي والشعور بوجوب تحرير الأرض الإسلامية أو أرض الوطن الإسلامي، من كل سلطان أجنبي، وإجلاء المستعمر الغاصب عن ديار الإسلام كلها بكل وسيلة مشروعة، ابتداء بالوطن الصغير، وادي النيل شماله وجنوبه -مصر والسودان- ... فالوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، وأشهد أن هذا التحديد للوطن العربي كان أول ما سمعته من الإمام البنا رضي الله عنه ... فالوطن الإسلامي الأكبر من المحيط إلى المحيط، من الهادي إلى الأطلسي، من أندونيسيا وما جاورها شرقا إلى مُرَّاكُش غربا.

وبهذا الفهم اتسع أفق (الأخ المسلم) ليسع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فضلا عن الأمة العربية. فلم يحبس نفسه في قُمْقُم الوطنية الضيقة أوالقومية المتعصبة، شأن الأحزاب السياسية السائدة في تلك الأيام.

ومن هنا اهتمَّ الإخوان في مصر بقضية بلدهم الذي يعيشون فيه ومطالبه الوطنية، التي تمثلت في جلاء الإنجليز عن مصره وسودانه، ووحدة وادي النيل، وعقد الإخوان لذلك مؤتمرات كبرى في كافة محافظات مصر ومدنها الكبيرة لتوعية أبناء الشعب بمطالبه، وأُعْلِنُ هنا أني لم أفهم هذه المطالب حق الفهم إلا من لسان حسن البنا، حين وقف في مؤتمر طنطا يشرحها ويردُّها إلى أصولها.

وكان الإمام الشهيد في هذه المؤتمرات يوضح الأهداف، ويوضح معها الوسائل الواجب اتخاذها، من المطالبة لدى الهيئات الدولية، وكسب الرأي العام العالمي، إلى المقاطعة الاقتصادية لسلع المستعمر، ومنتجاته. إلى التعبئة وإعلان الجهاد المقدس، فإما أن نعيش سعداء أحرارا، وإما أن نموت شهداء أبرارا.

ولا زلت أذكر المرشد الشهيد وهو يتحدث في هذا المؤتمر عن سلاح المقاطعة وأثره الفعال، وقدرة الشعب المصري على استخدام هذا السلاح، وأنه شعب قنوع صبور، قادر في ساعة الجِد أن يقنع بالقليل، ويرضى باليسير، ذاكرًا في ذلك من الأمثال الشعبية ما يؤيد هذه الوجهة، ومستشهدًا ببعض الوقائع التاريخية القريبة لدى بعض الشعوب الإسلامية.

ومما قاله يومئذ: (سنُخرج للشعب فتاوى ابن حزم المخبوءة في بطون الكتب من أن العدو المشرك نجس كله، لا يجوز مسُّه ولا التعامل معه: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28].

وزاد حسن البنا على ذلك فطالب الإخوان خاصة، والمسلمين عامة في وادي النيل بأن يقنتوا في الركعة الأخيرة من كل صلاة، وبخاصة الصلوات الجهريَّة، وبعد القيام من الركوع (قنوت النوازل) بأن يدعوا الله عندما تشتدُّ الأزمات عليهم أن يفرِّج الله عنهم الكُربة، ويكشف الغُمَّة، اقتداءً بالنبي حينما كان يدعو في صلواته على المشركين المعتدين، وللمسلمين المستضعفين. كتب ذلك حسن البنا في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية تحت عنوان (قنوت) واستشهد بالأحاديث التي صحَّت عن رسول الله أنه كان يقنت في صلواته، داعيا للمستضعفين من المؤمنين، ردا على المشركين الذين اعتدوا على المسلمين.

ومن هذه الأحاديث استدلَّ جمهور الفقهاء، والمحدِّثين على مشروعية القنوت في الكوارث أو النوازل التي تنزل بالأمة.

ثم قال:

(وإذا كان ذلك كذلك؛ فقد أصبح مطلوبا من أئمة المسلمين وعامتهم في شعب وادي النيل: أن يلجئوا إلى الله ليرفع عنهم هذا البلاء، وأن يقنتوا في كل الصلوات بعد الركوع في الركعة الأخيرة، ويلحوا على الله في الدعاء بهذا القنوت أو نحوه:

اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين، ومذلَّ المتكبرين، وقاصم الجبارين، تقبل دعاءنا، وأجب نداءنا، وأنلنا حقنا، وردَّ علينا حريتنا واستقلالنا، اللهم إن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين قد احتلوا أرضنا، وجحدوا حقنا، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، اللهم فردَّ عنا كيدهم، وفلَّ حدَّهم، وفرِّق جمعهم، وخذهم ومَن ناصرهم أو أعانهم، أو هادنهم أو وادَّهم أخذ عزيز مقتدر، اللهم واجعل الدائرة عليهم، وسقِ الوبال إليهم، وأذلَّ دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم، ولا تَدَع لهم سبيلا على أحد من المؤمنين آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرا)[1].

وليس هناك أزمة أشد من فَقْد الحرية والاستقلال، وتَحَكُّم الكافر في رقبة المسلم، مع أن الله تعالى يقول: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]،وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء:141].

وبهذا لم تعد القضية الوطنية شيئا في حاشية شعور الأخ المسلم، أو على هامش حياته. بل إنها حاضرة في وعيه وحسه، تصاحبه في بيته ومسجده، وخلوته وجلوته، وتحيا في أعماق كيانه واضحة حية ملتهبة.

ولهذا لم يكن الإنجليز يخافون شيئا كما يخافون من هؤلاء (المتعصبين) لدينهم، ويخشون أن يتحول الشعور الوطني إلى شعور إسلامي متأجِّج لا يعبأ بشيء في سبيل غايته، ولا يبالي: أوَقَعَ على الموت أم وَقَعَ الموت عليه.

ولا ريب أن تكون هذه المواقف العقائدية الإيجابية للحركة الإسلامية ومؤسسها وراء مؤامرات الكيد لها من القوى الأجنبية المعادية والمتربصة والراصدة للإسلام وحركة شعوبه، وأن يكون لهذا الكيد أثره عند الحكومات الوطنية العلمانية والمستخذية، كما أثبت ذلك اجتماع سفراء إنجلترا وأمريكا وفرنسا في قاعدة (فايد) العسكرية بمنطقة (القناة) سنة 1948م، الذي طالبَ حكومة النقراشي باشا؛ رئيس الحزب السعدي المصري ورئيس الوزراء بحلِّ جماعة الإخوان المسلمين، وسَوْق أعضائها إلى السجون والمعتقلات، وكان ما كان.

كانت هذه بعض ملامح من تربية الإخوان فيما يتعلق بوطنهم الصغير: وادي النيل. ولم يشغلهم ذلك عن الاهتمام بقضايا وطنهم العربي الكبير، ووطنهم الإسلامي الأكبر. وأولى هذه القضايا بغير شك كانت قضية أرض النبوات، ومهد الرسالات، أرض أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين: قضية فلسطين، عُنِيَ بها الإخوان في وقت مبكر، ونوَّهوا بشأنها ونبَّهوا على خطرها، وأصدروا من أجلها بيانات ونشرات، وأعدادا خاصة من مجلتهم، وعقدوا الندوات والمؤتمرات في سبيلها، وطالما انتهزوا فرصة ذكرى (وعد بلفور) في الثاني من نوفمبر من كل عام، لإخراج المسيرات، وتسيير المظاهرات، توعية للرأي العام، وإيقاظا للشعور بأهمية القضية. ومَنْ قرأ مجلات الإخوان القديمة (في الثلاثينات) رأى من ذلك العَجب العُجاب.

كما كانت ذكرى الإسراء والمعراج في كل عام فرصة للتذكير بقضية المسجد الأقصى، منتهى الإسراء، ومبتدأ المعراج. وهكذا يجد حسن البنا المناسبات دائما لإحياء الوعي بقضية فلسطين.

ومن هنا: كانت الرؤية واضحة لدى كل أخ مسلم بقضية فلسطين، وكان إحساسه بها حيًا دافقًا، في الوقت الذي كان جمهور الناس في مصر لا يشعرون بأهمية هذه القضية، ولا بخطر اليهودية الطامعة المتوثِّبة بجوارهم، حتى قال رئيس حكومة مصرية يوما وقد سُئِل عن رأيه في ذلك: أنا رئيس وزراء مصر لا رئيس وزراء فلسطين[2]!

وكانت خطب الإمام الشهيد ومحاضراته عن فلسطين، ومقالاته النارية في مجلات الإخوان وصحيفتهم اليومية مثل: صناعة الموت ... وفن الموت ... وهُبِّي يا رياح الجنة ... وأحاديثه المؤثرة في لقاءاته الخاصة مع إخوانه وتلاميذه ... كلها، تُهيئ الأنفس ليوم آت لا ريب فيه. فلما جاء هذا اليوم، ونادى المنادي: أن حي على الجهاد، آتت هذه التربية والتوعية أُكُلَها، وتجلَّت آثارها في إقبال الألوف من شباب الإخوان -بل من شيوخهم أحيانا- على مكاتب التطوُّع للجهاد في سبيل الأرض المقدسة، وكانت معارك الجهاد والبطولة والاستشهاد في سبيل الله، مما يعرفه اليهود أنفسهم أكثر من غيرهم.

ولم ينسَ الإخوان قضايا سوريا ولبنان في المشرق العربي ... ولا قضايا الشمال الإفريقي أو المغرب العربي: تونس والجزائر ومُرَّاكُش، وقد كان المركز العام للإخوان بمثابة (دار العائلة) لزعماء هذه البلاد وقادة التحرير فيها.

وقُلْ مثل ذلك بالنسبة لقضايا التحرير في البلاد الإسلامية كلها مثل أندونيسيا وغيرها، فقد كان الإخوان يعتبرونها قضاياهم، ويَحْيَون فيها فكرا وشعورا وعملا، وإن بَعدت عن أبدانهم الدار، وشَطَّ المزار.



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- جريدة الإخوان اليومية العدد (135) بتاريخ 15 من ذي القعدة 1365هـ الموافق 10 أكتوبر 1946م نقلا عن الكتاب الخامس من سلسلة (من تراث الإمام البنا) عظات وأحاديث منبرية صـ 288 - 290 للأستاذ جمعة أمين. نشر دار الدعوة بالإسكندرية.

[2]- هو مصطفى النحاس باشا رئيس وزراء مصر سنة 1936م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:06 AM
(3)

إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحُكم الإسلامي

(الدولة الإسلامية)

الدعامة الثالثة: إيقاظ الوعي والشعور بفرضية إقامة (الحُكم الإسلامي)، إذ هو الغاية من تحرير الوطن، ذلك أن طرد المستعمر، وتحرير الوطن من نِيره واستعباده، ليس هدفا في ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق هدف كبير، هو أن تحقق الأمة ذاتها، وتعيش بعقيدتها ولعقيدتها، وتدبر أمر وطنها وِفْق عقائدها وقِيَمها وفلسفتها الخاصة.

وبلادنا الإسلامية لا تحقق ذاتها، بل لا تتحرر حق التحرُّر، إلا إذا تخلصت من كل آثار الاستعمار الثقافي والتشريعي والتعليمي والسياسي وغيرها.

ومن هنا كانت إقامة الحكم الإسلامي في ذلك الوقت فريضة وضرورة. فهو فريضة شرعية، وضرورة قومية وإنسانية.

أما إنه فريضة، فقد أوجب الله على الحكام والمحكومين أن يرجعوا إلى حكمه وحكم رسوله في كل شؤونهم، ولم يجعل لهم في ذلك خيارا بموجب عقد الإيمان في صدورهم.

فأما الحكَّام فحسبنا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44] ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة:45] ... وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [المائدة:47].

وأما المحكومون فحسبنا قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65].

وحسب الجميع قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51].

وأما إنه ضرورة قومية وإنسانية، فلأن أمتنا خاصة، والبشرية عامة، جَرَّبت الفلسفات البشرية، والأنظمة الوضعية، فلم تَجْن من ورائها السعادة التي ترجوها، والحياة الطيبة التي تنشدها. بل فقدت كل معنى جميل تسعى إليه وتحرص عليه. فقد الفرد سكينة نفسه، وفقدت الأسرة استقرارها وترابطها، وفقد المجتمع تماسكه وتوازنه، وفقد العالم كله أمنه وسلامه.

ولا بد للبشرية من طب جديد يعالج أدواءها، دون أن يجلب عليها أمراضا جديدة.

إذا استشفيتَ من داءٍ بداءٍ فأقتل ما أعلَّكَ ما شفاكَ!

وليس هذا الطب الجديد إلا الإسلام الذي جمع الله فيه بين مصالح الدنيا والآخرة ... بين مطالب الجسم وتطلعات الروح ... بين حظ النفس وحق الله تعالى ... بين حرية الفرد ومصلحة الجماعة. ولا غرو فهو عدل الله لعباده، وشرعة الخالق لإصلاح خلقه: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14].

وقد أكدَّ حسن البنا هذا المعنى الأساسي في كل رسائله ومقالاته ومحاضراته: المطالبة بحكم القرآن وإقامة دولة الإسلام، محاربًا بذلك الفكرة (العلمانية) الخبيثة الدخيلة، التي تنادي بفصل الدِّين عن الدولة في الحكم والتشريع والقضاء والتعليم والإعلام والثقافة وغيرها، فلئن جاز هذا في عُرْف النصرانية التي يقول إنجيلها: (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله)! لا يجوز ذلك أبدا في عُرف الإسلام الذي لا يقبل قسمة الحياة، ولا قسمة الإنسان بحال من الأحوال، بل يعتبر قيصرا وما لقيصر، والحياة كلها، والإنسان كله لله الواحد القهار.

يقول الإمام الشهيد في رسالته (إلى الشباب): (نريد (الحكومة المسلمة) التي تقود الشعب إلى المسجد، وتحمل به الناس على هدي الإسلام من بعد، كما حملتهم على ذلك بأصحاب رسول الله : أبي بكر وعمر من قبل. ونحن لهذا لا نعترف بأي نظام حكومة لا يرتكز على أساس الإسلام، ولا يُستمد منه، ولا نعترف بهذه الأحزاب السياسية، ولا بهذه الأشكال التقليدية التي أرغمنا أهل الكفر وأعداء الإسلام على الحكم بها والعمل عليها ... وسنعمل على إحياء نظام الحُكم الإسلامي بكل مظاهره، وتكوين الحكومة الإسلامية على أساس هذا النظام)[1].

وفي (رسالة المؤتمر الخامس) يعرض لهذه النقطة بمزيد من الإيضاح والبيان فيجيب عن تساؤلات الناس عن (موقف الإخوان من الحكم) فيقول:

(ويتساءل فريق آخر من الناس: هل في منهاج الإخوان المسلمين أن يُكَوِّنوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم؟ وما وسيلتهم في ذلك؟ ولا أَدَع هؤلاء المتسائلين أيضا في حَيْرَة، ولا نبخل عليهم بالجواب، فالإخوان المسلمون يسيرون في جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم على هدي الإسلام الحنيف كما فهموه، وكما أبانوا عن فهمهم هذا في أول هذه الكلمة، وهذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه، ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على الإرشاد، وقديما قال الخليفة الثالث رضي الله عنه: إن الله ليَزَع بالسلطان ما لا يَزَع بالقرآن[2]، وقد جعل النبي الحكم عروة من عرى الإسلام[3]. والحُكْم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع، فالإسلام حُكْم وتنفيذ، كما هو تشريع وتعليم، كما هو قانون وقضاء، لا ينفك واحد منها عن الآخر. والمصلح الإسلامي إن رضي لنفسه أن يكون فقيهًا مرشدًا يقرِّر الأحكام، ويرتِّل التعاليم، ويسرد الفروع والأصول، وترك أهل التنفيذ يشرِّعون للأمة ما لم يأذن به الله، ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره، فإن النتيجة الطبيعية: أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة في واد، ونفخة في رماد، كما يقولون.

قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله، وتنفيذًا لأحكامه، وإيصالاً لآياته وأحاديث نبيه ، أما والحال كما نرى: التشريع الإسلامي في واد، والتشريع الفعلي والتنفيذي في واد آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يُكَفِّرها إلا النهوض، واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف، هذا كلام واضح لم نأت به من عند أنفسنا، ولكننا نقرِّر به أحكام الإسلام الحنيف، وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة مَنْ يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه، وإن لم يجدوا فالحُكم من منهاجهم، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله.

وعلى هذا فالإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال، فلا بد من فترة تُنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود، ويتعلم فيها الشعب كيف يُؤْثِر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة..

وكلمة لا بد أن نقولها في هذا الموقف، هي: أن الإخوان المسلمون لم يروا في حكومة من الحكومات التي عاصروها -لا الحكومة القائمة ولا الحكومة السابقة ولا غيرهما من الحكومات الحزبية- مَنْ ينهض بهذا العبء، أو من يبدي الاستعداد الصحيح لمناصرة الفكرة الإسلامية، فلتعلم الأمة ذلك، ولتطالب حُكَّامها بحقوقها الإسلامية، وليعمل الإخوان المسلمون.

وكلمة ثانية: إنه ليس أعمق في الخطأ من ظنِّ بعض الناس أن الإخوان المسلمين كانوا في أي عهد من عهود دعوتهم مطيَّة لحكومة من الحكومات، أو منفذين لغاية غير غايتهم، أو عاملين على منهاج غير منهاجهم، فليعلم ذلك مَنْ لم يكن يعلمه من الإخوان ومن غير الإخوان)[4].

وفي رسالة التعاليم: شرح مجالات (العمل) الذي هو أحد أركان الدعوة أو (البيعة). فذكر أن المجال الخامس هو:

(إصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها، وعامل على مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

ولا بأس أن نستعين بغير المسلمين عند الضرورة في غير مناصب الولاية العامة، ولا عبرة بالشكل الذي تتخذه ولا بالنوع، ما دام موافقًا للقواعد العامة في نظام الحكم الإسلامي.

ومن صفاتها: الشعور بالتَّبِعة، والشفقة على الرعية، والعدالة بين الناس، والعفَّة عن المال العام، والاقتصاد فيه.

ومن واجباتها: صيانة الأمن، وإنفاذ القانون، ونشر التعليم، وإعداد القوة، وحفظ الصحة، ورعاية المنافع العامة، وتنمية الثروة، وحراسة المال، وتقوية الأخلاق، ونشر الدعوة.

ومن حقها -متى أدت واجبها: الولاء والطاعة، والمساعدة بالنفس والأموال.

فإذا قصرت: فالنصح والإرشاد، ثم الخلع والإبعاد، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[5].موقف الإخوان من استخدام القوة:

ولا ينسى حسن البنا -رحمه الله- في رسالته هذه الجامعة إلى المؤتمر الخامس للإخوان: أن يبيِّن بصراحة موقف الحركة من استخدام القوة العسكرية، أواللجوء إلى الثورة الشعبية العامة، فيقول:

(ويتساءل كثير من الناس: هل في عزم الإخوان المسلمين أن يستخدموا القوة في تحقيق أغراضهم والوصول إلى غايتهم؟ وهل يفكر الإخوان المسلمون في إعداد ثورة عامة على النظام السياسي أو النظام الاجتماعي في مصر؟ ولا أريد أن أَدَع هؤلاء المتسائلين في حَيْرَة، بل إني أنتهز هذه الفرصة فأكشف اللِّثام عن الجواب السافر لهذا في وضوح وفي جلاء، فليسمع مَنْ يشاء:

أما القوة فشعار الإسلام في كل نُظمه وتشريعاته، فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال:6]، والنبي يقول: "المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف"[6]، بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو مظهر الخشوع والمسكنة، واسمع ما كان يدعو به النبي في خاصة نفسه ويعلِّمه أصحابه ويناجي ربه: "اللَّهم إني أعوذ بك من الهمِّ والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجُبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرجال"[7]، ألا ترى في هذه الأدعية أنه قد استعاذ بالله من كل مظهر من مظاهر الضعف - ضعف الإرادة بالهمِّ والحزن، وضعف الإنتاج بالعجز والكسل، وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل، وضعف العزة والكرامة بالدَّيْن والقهر- فماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدِّين إلا أن يكون قويا في كل شيء شعاره القوة في كل شيء؟ فالإخوان المسلمون لا بد أن يكونوا أقوياء، ولا بد أن يعملوا في قوة.

ولكن الإخوان المسلمين أعمق فكرا وأبعد نظرا أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصون إلى أعماقها، ولا يَزِنوا نتائجها وما يُقصد منها وما يراد بها، فهم يعلمون أن أول درجة من درجات القوة قوة العقيدة والإيمان، ويلي ذلك قوة الوَحدة والارتباط، ثم بعد ذلك قوة الساعد والسلاح -ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعا، وأنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك- هذه نظرة.

ونظرة أخرى: هل أوصى الإسلام -والقوة شعاره- باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال؟ أم حدَّد لذلك حدودا واشترط شروطا ووجَّه القوة توجيها محـدودا؟

ونظرة ثالثة: هل تكون القوة أول علاج أم إنَّ آخر الدواء الكي؟ وهل من الواجب أن يوازن الإنسان بين نتائج استخدام القوة النافعة ونتائجها الضارة، وما يحيط بهذا الاستخدام من ظروف؟ أم من واجبه أن يستخدم القوة وليكن بعد ذلك ما يكون؟

هذه نظرات يلقيها الإخوان المسلمون على أسلوب استخدام القوة قبل أن يقدموا عليه -والثورة أعنف مظاهر القوة، فنظر الإخوان المسلمين إليها أدق وأعمق، وبخاصة في وطن كمصر جرَّب حظه في الثورات، فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون. وبعد كل هذه النظرات والتقديرات أقول لهؤلاء المتسائلين: إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يُجدي غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عُدَّة الإيمان والوَحدة، وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء، سَيُنْذِرون أولاً، وينتظرون بعد ذلك، ثم يُقْدِمون في كرامة وعزة، ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح- أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها، ولا يعتمدون عليها، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها، وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ولم يفكر أُلوا الأمر في إصلاح عاجل، وعلاج سريع لهذه المشاكل، فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم، ولكن من ضغط الظروف ومقتضيات الأحوال، وإهمال مرافق الإصلاح، وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن ويستفحل أمرها بمضى الأيام إلا نذيرا من هذه النُّذُر، فليسرع المنقذون بالأعمال)[8].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- من رسالة إلى الشباب صـ 177 من مجموعة الرسائل.

[2]- البداية والنهاية (2/10).

[3]- إشارة إلى حديث: "لتنقضن عُرَى الإسلام عُروة عُروة، فأولها نقضا: الحُكم، وآخرها نقضا الصلاة"، وقد رواه أحمد في المسند (22160) وقال محققوه: إسناده جيد، وابن حبان في صحيحه كتاب التاريخ (15/111)، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي، والطبراني في الكبير (8/98)، والحاكم في المستدرك كتاب الأحكام (4/104)، وقال: والإسناد كله صحيح و لم يخرجاه، والبيهقي في الشعب (4/326) عن أبي أمامة.

[4]- مجموعة الرسائل، رسالة المؤتمر الخامس صـ 136، 137.

[5]- من رسالة (التعاليم) من مجموعة الرسائل صـ 360،361.

[6]- رواه مسلم في القدر (2664)، وأحمد في المسند (8791)، وابن ماجه في المقدمة (79)، والنسائي في الكبرى كتاب عمل اليوم والليلة (10386) عن أبي هريرة.

[7]- رواه البخاري في الدعوات (6369)، ومسلم في الذكر والدعاء (2706)، وأحمد في المسند (12616)، وأبو داود في الصلاة (1541)، والترمذي في الدعوات (3484)، والنسائي في الاستعاذة (5452) عن أنس.

[8]- انظر: (رسالة المؤتمر الخامس) صـ 134 – 136.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:08 AM
(4)

إقامة الأمة المسلمة



الدعامة الرابعة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا: هي إقامة الأمة المسلمة، التي تنتظم شعوب الإسلام في الوطن الإسلامي أو العالم الإسلامي في رابطة واحدة، تحت راية الإسلام، الذي يجمع ولا يفرق، ويُوَحِّد أبناء القبيلة وراء زعامة محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد أشار إليها الإمام البنا في الأصل الأول من (الأصول العشرين) -بجانب الدولة والوطن– هو ما يتعلق بالأمة، فالإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة.

فكما يُعْنى الإسلام بالسُّلطة الحاكمة: يُعْنى كذلك -بل قبل ذلك– بالأمة التي تختار السلطة، وتنبثق عنها الدولة.

وقد وُلِدَ الإسلام في جزيرة العرب، وهي قائمة على القَبِيلة والعصبية لها. فالقبيلة هي أساس الولاء، ومصدر الاعتزاز والانتماء. فلا مكان لابن القبيلة إلا بها، بل لا وجود له إلا بها، فهي النَّسب والحَسب، وهي السلطة والقوة، وهي الاقتصاد والسياسة. يرضى برضاها، ويغضب بغضبها، أو بغضب شيخها، ويتعصب لابن القبيلة محقا كان أو مبطلا، شعار كل واحد فيها: (انصر أخاك -أي ابن القبيلة- ظالما أو مظلوما) بالمعنى الظاهري للعبارة. وكل قبيلة تحاول أن تستعلي على القبيلة الأخرى، وتنقص من أطرافها، ولهذا كثرت الغارات من بعضهم على بعض، حتى قال قائلهم:

وأحيانا على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا!

فلما جاء الإسلام نقلهم نقلة كبيرة في عالَم الفكر، وعالَم الشعور، وعالَم الواقع، نقلهم من سجن القَبَلية الضيقة، إلى باحة الأمة الواسعة. وحذَّر أشدَّ التحذير من الدعوة إلى العصبية بكل ألوانها، وخصوصا العصبية للقبيلة.

وفي الحديث: "ليس منا مَن دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أومات على عصبية"[1].

"ومن قاتل تحت راية عُمَّية، يغضب لعَصَبة، أو يدعو إلى عَصبة، أوينصر عَصبة، فقُتِل، فقتلة جاهلية"[2].

وسُئل عن (العصبية) فقال: "أن تعين قومك على الظلم"[3]، ففسَّرها بأثرها في واقع المجتمع القبلي، فصاحب العصبية مع جماعته وإن جاروا وظلموا. على خلاف ما جاء به الإسلام من القيام بالقسط: وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [النساء:135]، وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا [المائدة:8].

وفي لحظة من لحظات الضعف البشري، أطلَّت النزعة القَبَلية عند بعض الصحابة، فتنادوا بأسماء قبائلهم: يا بني فلان. ويا بني عِلاَّن. فغضب النبي أشد الغضب، وقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟!"[4]، وقال عن دعوة العصبية كلمته المعبرة: "دعوهـا فإنها منتنة"[5].

لقد أراد الإسلام أن يبني (أمة) على أساس العقيدة والفكرة، وليس على أساس مادي أو أرضي أو عِرقي مما يبني عليه البشر أُممهم، من عنصر أو لون أو لغة أو أرض، مما ليس للإنسان فيه إرادة أو اختيار. بل هو قدر مفروض عليه، فلم يختر الإنسان جنسه ولا لونه ولا لغته ولا أرضه التي وُلِد فيها. إنما ورث هذا كله دون أن يكون له رأي فيه.

أما العقيدة ... فالأصل فيها أنها من اختيار الإنسان: لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ [البقرة:256]، وإيمان المقلِّد مشكوك في قبوله، بل مرفوض عند المحقِّقين من علماء المسلمين.

أراد الإسلام للمسلمين أن يكونوا أمة تنتسب إلى الحق، لا إلى زيد أو عمرو من البشر، فهي لا تقوم على رابطة عِرقية ولا لونية ولا إقليمية ولا طبقية. بل هي أمة عقيدة ورسالة قبل كل شيء.

هي أمة محمد، لأنه داعيها إلى الله، وهاديها إلى الصراط المستقيم، ومُخرجها من الظلمات إلى النور بإذن الله، وهي أمة القرآن، لأنه كتاب ربها الذي أنزل إليها، ليهديها للَّتي أقوم، ويعلمها من جهالة، ويهديها من ضلالة، ويضع في أيديها موازين الحق، ومفاتيح الخير، وبصائر الهُدَى، ومعالم الرشد.

هي أمة الإسلام، أو أمة المسلمين كما قال تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ [الحج:78].

وهي أمة الإيمان أو أمة المؤمنين. ولهذا تُنادَى في القرآن بـيَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا. وهذه الأمة: أمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي لم تُفضَّل على غيرها إلا بما تحمل من رسالة الخير والهداية للإنسانية، كما قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]، وقوله عز وجل وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104].

وهي الأمة (الوسط) كما وصفها الله تعالى في كتابه، وبَوَّأها مكانة الشهادة على البشرية، فقال تعالى:وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة:143].

هذه الأمة أمة دعوة ورسالة عالمية، لأنها مبعوثة بما بُعث به رسولها إلى الناس كافة: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، ولهذا خاطبها رسولها قائلا:"إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"[6]، وقال أحد أبناء هذه الأمة-رِبعِي بن عامر- أمام قائد الفرس: إن الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَتها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام!

هكذا كان يشعر الصحابة ومن اتبعهم بإحسان: أنهم مبعوثون من الله لهداية الخلق، والأخذ بأيديهم إلى طريق النور، وإنقاذهم من براثن الطواغيت الذين أضلُّوهم عن سواء السبيل.

ولقد أقام الإسلام أمة كبرى، جمعت بينها العقيدة الواحدة، والشريعة الواحدة، والقِبلة الواحدة، والقِيَم الواحدة، والآداب الواحدة، والمفاهيم الواحدة، والمشاعر الواحدة. وحسب وحدتها أمام العالم أمور ثلاثة:

1. وحدة المرجعية، فكلها تحتكم إلى الشريعة الإسلامية المُستمدَّة من القرآن والسنة، على اختلاف المذاهب، وتعدُّد المدارس والمشارب.

2. وحدة (دار الإسلام) التي يعبَّر عنها اليوم بـ(الوطن الإسلامي) فرغم تعدُّد الأقطار، وتباعد الديار، يعبِّر فقهاء الإسلام جميعا عنها بكلمة (دار الإسلام). فهي دار واحدة وليست ديارا.

3. وحدة (القيادة السياسية) التي يمثِّلها الخليفة أو الإمام الأعظم، الذي يختاره أهل الحل والعقد في الأمة اختيارًا حرًا، وتبايعه الأمة بكل فئاتها بيعة عامة.

وقد ظلَّت هذه الخلافة أو القيادة الإسلامية العامة، ثلاثة عشر قرنا، أو تزيد، والأمة المسلمة منضوية تحت لوائها، على ما كان في بعضها من مآخذ وعيوب، ولكنها جميعها كانت تؤمن بمرجعية الإسلام، ووحدة أمته، ووحدة داره، إلى أن سعى الساعون، وكاد الكائدون، لهدم هذه القلعة التاريخية، وهتك هذه المظلة الإسلامية، فألغيت الخلافة الإسلامية على يد (أتاتورك) سنة1924م. وانتهى آخر تجمُّع للمسلمين تحت لواء العقيدة الإسلامية، ولم يأذن الله بعد بعودة هذه القيادة من جديد.

ولا زالت هناك جماعات تسعى لإعادة الخلافة من جديد، وإحياء الأمة الإسلامية، الموجودة عند كثيرين في الفكر والشعور، وإن لم تكن موجودة في الواقع[7].

ومن أقوال الأستاذ البنا في ذلك: ما ذكره في رسالة التعاليم، وهو يشرح (ركن العمل) وقد ذكر فيه: إصلاح الفرد والبيت والمجتمع، وتحرير الوطن، وإصلاح الحكومة ثم قال:

(وإعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها، وإحياء مجدها، وتقريب ثقافتها، وجمع كلمتها، حتى يؤدي ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة، والوَحدة المنشودة)[8].

وبهذا ينظر الأستاذ إلى إعادة الخلافة نظرة واقعية، فليست الخلافة بالأمر الهَيِّن، الذي ينشأ بمجرد الإعلان عنه، أو مبايعة حاكم على تسميته بذلك. بل لا بد من خطوات فكرية وثقافية وعملية ممهِّدة، ولا سيما بعد ما مزَّق الاستعمار وخلفاؤه نسيج الأمة، وباعدوا بين أقطارها وأجناسها.

وقد عاد الإمام البنا لأمر الخلافة، وتحدث عنها في (رسالة المؤتمر الخامس) فقال:

(ولعل من تمام هذا البحث أن أعرض لموقف الإخوان المسلمين من الخلافة وما يتصل بها، وبيان ذلك: أن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوَحدة الإسلامية، ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها، والاهتمام بشأنها، والخليفة مناط كثير من الأحكام في دين الله، ولهذا قدَّم الصحابة رضوان الله عليهم النظر في شأنها على النظر في تجهيز النبي ودفنه، حتى فرغوا من تلك المهمة، واطمأنوا إلى إنجازها.

والأحاديث التي وردت في وجوب نَصْب الإمام، وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها لا تدع مجالا للشك في أنَّ واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم منذ حُوِّرت عن مناهجها ثم أُلغيت بتاتا إلى الآن.

والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم مع هذا يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات التي لا بد منها، وأن الخطوة المباشرة لإعادة الخلافة لا بد أن تسبقها خطوات)[9].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه أبو داود في الأدب (5121) عن جبير بن مطعم. والحديث فيه ضعف، ولكن يشهد له حديث مسلم الآتي بعده.

[2]- رواه مسلم في الإمارة (1848)، وأحمد في المسند (7944)، والنسائي في تحريم الدم (4114)، وابن ماجه في الفتن (3948) عن أبي هريرة، وعُمَّية: الأمر لا يستبين وجهه.

[3]- رواه أبو داود في الأدب (5119)، وابن ماجة في الفتن (3949)، والطبراني في الكبير (22/78)، والبيهقي في الكبرى كتاب الشهادات (10/234) عن واثلة بن الأسقع، وضعفه الألباني في ضعيف أبي داود (1093).

[4]- ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] (1/389).

[5]- رواه البخاري في التفسير (4905)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2584)، وأحمد في المسند (14632) والترمذي في التفسير (3315) عن جابر بن عبد الله.

[6]- رواه البخاري في الوضوء (220)، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود في الطهارة (380)، والترمذي في الطهارة (147)، والنسائي في الطهارة(56).

[7]- انظر: كتابنا (الأمة الإسلامية حقيقة لا وهم) صـ31 - 32 طبعة مكتبة وهبة في مصر، ومؤسسة الرسالة في بيروت.

[8]- انظر: (رسالة التعاليم) من مجموع الرسائل صـ361.

[9]- انظر: (رسالة المؤتمر الخامس) صـ 141 – 144.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:10 AM
(5)

إيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الإسلامية



الدعامة الخامسة، وهي تتمة للدعامة الرابعة: إيقاظ الوعي والشعور بوجوب الوَحدة الإسلامية وضرورتها. فهي أيضا فريضة دينية، وضرورة دنيوية.

أما فرضيتها، فلأنَّ الله جعل المسلمين (أمة واحدة) يسعى بذمتهم أدناهم وهم يَدٌ على مَنْ سواهم: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ [المؤمنون:52]

كما أوجب الإسلام أن يكون للمسلمين -حيثما كانوا- ومهما اتسعت أقطارهم (إمام) واحد، هو رأس دولتهم، ورمز وحدتهم، حتى إن مَنْ مات وليس في عنقه بيعة لإمام مات ميتة جاهلية[1].

وأما ضرورية هذه الوَحدة، فلما هو معلوم من أن الاتحاد قوة، والتفرق ضعف، فاللَّبنة الواحدة بمفردها ضعيفة، ولكن اللَّبنة إذا ضُمت إلى أخواتها: تُكوِّن بنيانا متينا يشدُّ بعضه بعضا، يصعب هدمه أو النيْل منه. وإذا كانت الوَحدة مطلوبة في كل زمن، فهي في زمننا أشد ما تكون طلبا، فعصرنا عصر التكتلات، والكيانات الصغيرة لا بقاء لها.

ولهذا رأينا الإمام الشهيد ينادي بالوَحدة الإسلامية، ويدعو إلى التفكير بجِد لإعادة الخلافة، وينتهز كل فرصة لتأكيد هذه المعاني وتثبيتها في عقول الإخوان وقلوبهم، حتى يشبَّ عليها الصغير، ويَهْرَم عليها الكبير.

لا تنافي بين الوحدة الإسلامية والوطنية المعروفة:

وهو لا يرى تنافيا بين الدعوة إلى الوَحدة الإسلامية، والدعوة إلى الوَحدة الوطنية، أو الوَحدة العربية، إذا فُهِم كل منها الفهم السليم، ووُضِعَت في موضعها الصحيح.

استمع إليه في (رسالة المؤتمر الخامس) وهو يبيِّن موقف الإسلام -وبالتالي موقف الإخوان- من هذه الألوان أو المراتب من الوَحدة (الوطنية والعربية والإسلامية) فيقول:

(إن الإسلام قد فرضها فريضة لازمة لا مناص منها: أن يعمل كل إنسان لخير بلده وأن يتفانى في خدمته، وأن يقدم أكبر ما يستطيع من الخير للأمة التي يعيش فيها، وأن يقدِّم في ذلك الأقرب فالأقرب رحما وجوارا، حتى إنه لم يُجِز أن تُنقل الزكوات أبعد من مسافة القصر إلا لضرورة، إيثارًا للأقربين بالمعروف، فكل مسلم مفروض عليه أن يسدَّ الثغرة التي هو عليها، وأن يخدم الوطن الذي نشأ فيه، ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية, وأعظمهم نفعا لمواطنيه، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين، وكان الإخوان المسلمون أشدَّ الناس حرصا على وطنهم، وتفانيا في خدمة قومهم، وهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة المجيدة كل عزة ومجد وكل تقدم ورقي، وكل فلاح ونجاح، وقد انتهت إليها رياسة الأمم الإسلامية بحكم ظروف كثيرة تضافرت على هذا الوضع الكريم.

ثم إن هذا الإسلام الحنيف نشأ عربيا ووصل إلى الأمم عن طريق العرب. وجاء كتابه الكريم بلسان عربي مبين، وتوحدت الأمم باسمه على هذا اللسان يوم كان المسلمون مسلمين، وقد جاء في الأثر: "إذا ذلَّت العرب ذلَّ الإسلام"[2]، وقد تحقَّق هذا المعنى حين دال سلطان العرب السياسي، وانتقل الأمر من أيديهم إلى غيرهم من الأعاجم والدَيْلَم ومَنْ إليهم، فالعرب هم عُصبة الإسلام وحُرَّاسه.

وأحب هنا أن ننبِّه إلى أن الإخوان المسلمين يعتبرون العروبة كما عرِّفها النبي فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: "ألا إن العربية اللسان، ألا إن العربية اللسان"[3].

ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لا بد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته وإعزاز سلطانه، ومن هنا يجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوَحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوَحدة العربية.

بقي علينا أن نحدد موقفنا من الوَحدة الإسلامية، والحقُّ أن الإسلام كما هو عقيدة وعبادة، هو وطن وجنسية، وأنه قد قضى على الفوارق النسبية بين الناس، فالله تبارك وتعالى يقول: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، والنبي يقول: "المسلم أخو المسلم"[4]، "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على مَنْ سواهم"[5].

فالإسلام والحالة هذه لا يعترف بالحدود الجغرافية، ولا يعتبر الفوارق الجنسية الدموية، ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة، ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا، مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده، وكذلك الإخوان المسلمون يقدِّسون هذه الوَحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام، ينادون بأن وطنهم هو كل شِبر أرض فيه مسلم يقول: لا إله إلى الله محمد رسول الله)[6].

ويرد الإمام البنا على اليائسين والموئسين من توحيد كلمة المسلمين، الذين يقولون: إن هذا غير ممكن، والعمل له عبث لا طائل تحته، ومجهود لا فائدة منه، وخير للذين يعملون لهذه الجامعة أن يعملوا لأقوامهم ويخدموا أوطانهم الخاصة بجهودهم: (بأن هذه لغة الضعف والاستكانة.

فقد كانت هذه الأمم مفرّقة من قبل متخالفة في كل شيء: في الدين واللغة، والمشاعر والآمال، فوحَّدها الإسلام وجمع قلوبها على كلمة سواء، وما زال الإسلام كما هو بحدوده وبرسومه، فإذا وُجِِدَ من أبنائه مَنْ ينهض بعبء الدعوة إليه وتجديده في نفوس المسلمين، فإنه يجمع هذه الأمم جميعا من جديد كما جمعها من قديم، والإعادة أهون من الابتداء، والتجربة أصدق دليل على الإمكان.

وضح إذن أن الإخوان المسلمين يحترمون قوميتهم الخاصة باعتبارها الأساس الأول للنهوض المنشود، ولا يرون بأسا بأن يعمل كل إنسان لوطنه، وأن يُقدِّم الوطن على سواه، ثم هم بعد ذلك يؤيدون الوَحدة العربية باعتبارها الحلقة الثانية في النهوض، ثم هم يعملون للجامعة الإسلامية باعتبارها السياج الكامل للوطن الإسلامي العام، ولي أن أقول بعد هذا: إن الإخوان يريدون الخير للعالَم كله، فهم ينادون بالوَحدة العالمية، لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه، ومعنى قول الله تبارك وتعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].

وأنا في غِنَى بعد هذا البيان عن أن أقول: إنه لا تعارض بين هذه الوحدات بهذا الاعتبار، وبأنَّ كُلاًّ منها تشدُّ أزر الأخرى، وتحقق الغاية منها، فإذا أراد أقوام أن يتخذوا من المناداة بالقومية الخاصة سلاحا يميت الشعور بما عداها، فالإخوان المسلمون ليسوا معهم، ولعل هذا هو الفارق بيننا وبين كثير من الناس)[7].

الفكرة الوحدوية لا تنافي الفكرة الوطنية أو القومية:

ومن المعلوم أن الذين يدعون إلى الوَحدة الإسلامية، أو حتى الوَحدة العربية، يصطلحون عادة مع دعاة الفكرة الوطنية الضيقة، التي تريد الانغلاق على نفسها، وتحبس نفسها في قفصها الإقليمي، بمعزل عن سائر قومها من العرب، إذا وقفنا عند المنظور القومي، أو المسلمين إذا وسعنا أفقنا إلى المنظور الإسلامي.

ولكن حسن البنا كان حريصا أبدًا أن يزيل وهم التعارض بين الوَحدة الوطنية، والوَحدة العربية، والوَحدة الإسلامية، كما نقلنا عنه فيما سبق. ولكنه يركِّز على هذا المعنى في أكثر من رسالة من رسائله الموجَّهة لأبناء جماعته.

فقد رأيناه يتحدث في الأصل الأول من (أصوله العشرين) التي جعلها أساس فهم الإخوان لأسس دعوتهم، فكان في هذا الأصل: أن الأصل: أن الإسلام دولة ووطن، أو حكومة وأمة.

والواقع أنه لا دولة بدون وطن. فمن مقوِّمات الدولة أن يكون لها أرض مستقلَّة محدَّدة الأبعاد تسود فيها وتحكم. وهذه هي الوطن.

اتِّهام الإخوان في وطنيتهم وردِّ حسن البنا:

وبعض دعاة الوطنية اتَّهم دعاة الإسلام عامة، والإخوان خاصة، بأنهم لا يتحمسون للوطن والوطنية، وهذا ليس صحيح. فإن أوطانهم جزء من أرض الإسلام، أو (دار الإسلام) التي يدافعون عنها بالأنفس والأموال، ويفدونها بالمُهَج والأرواح.

إنما الذي ينكرونه هو (العصبية الإقليمية) الضيقة. والمبالغة في الوطنية بحيث تصبح بديلا عن الدِّين. ويغدو الوطن (وثنا) يُعبد مع الله أو من دون الله! وتمسي العاطفة الوطنية بديلاً عن العاطفة الدِّينية، وبعبارة أدق: العاطفة الإسلامية، ويصبح الولاء للوطن لا لله، والإقسام بالوطن لا بالله، والبداية باسم الوطن لا باسم الله، والعمل لوجه الوطن لا لوجه الله.

هذا هو الذي يُنكر من الوطنية وليس حب الوطن ولا الذَوْد عنه، ولا العمل على تحريره وتقدمه وازدهاره. وفي هذا يقول الأستاذ البنا في رسالة (إلى الشباب):

(يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين يتبرمون بالوطن والوطنية، فالإخوان المسلمون أشدُّ الناس إخلاصًا لأوطانهم وتفانيًا في خدمة هذه الأوطان، واحترامًا لكل مَن يعمل لها مخلصًا، وها قد علمت إلى أي حدٍّ يذهبون في وطنيتهم وإلى أي عزة يبغون بأمتهم. ولكن الفارق بين الإخوان وبين غيرهم من دعاة الوطنية المجردة: أن أساس وطنية الإخوان العقيدة الإسلامية. فهم يعملون لوطن مثل مصر، ويجاهدون في سبيله، ويفنون في هذا الجهاد، لأن مصر من أرض الإسلام، وزعيمة أممه. كما أنهم لا يقفون بهذا الشعور عند حدودها، بل يُشركون معها فيه كل أرض إسلامية وكل وطن إسلامي، على حين يقف كل وطني مجرد عند حدود أمته، ولا يشعر بفريضة العمل للوطن إلا عن طريق التقليد أو الظهور أو المباهاة أو المنافع، لا عن طريق الفريضة المنزَّلة من الله على عباده. وحسبك من وطنية الإخوان المسلمين: أنهم يعتقدون عقيدة جازمة لازمة أن التفريط في أي شبر أرض يقطنه مسلم جريمة لا تُغتفر، حتى يعيدوه أو يهلكوا دون إعادته، ولا نجاة لهم من الله إلا بهذا)[8]اهـ.

الوطنية المقبولة والوطنية المردودة:

وفي رسالة أخرى -دعوتنا- يفصِّل الإمام البنا القول في الوطنية تفصيلاً، فقد كان الرجل حريصا على تحديد المفاهيم الغامضة، أو المحتملة لاختلاف الأفهام، وعلى تفصيل المعاني والمصطلحات المجملة، وضبط الكلمات الهُلامية التي يفسِّرها كل فريق بما يمليه عليه هواه، أو تبعيته لفكرة معيّنة.

بيَّن في هذه الرسالة الموقف من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر، ففرَّقت القلوب وبلبلت الأفكار. ومنها: الوطنية.

قال رحمه الله:

(افتتن الناس بدعوة الوطنية تارة والقومية تارة أخرى، وبخاصة في الشرق، حيث تشعر الشعوب الشرقية بإساءة الغرب إليها، إساءة نالت من عزتها وكرامتها واستقلالها، وأخذت من مالها ومن دمها، وحيث تتألم هذه الشعوب من هذا النِّير الغربي الذي فُرِضَ عليها فرضًا، فهي تحاول الخلاص منه بكل ما في وسعها من قوة ومَنَعَة وجهاد وجِلاد، فانطلقت ألسن الزعماء، وسالت أنهار الصحف، وكتب الكاتبون، وخطب الخطباء، وهتف الهاتفون باسم الوطنية وجلال القومية.

حسن ذلك وجميل، ولكن غير الحسن وغير الجميل: أنك حين تحاول إفهام الشعوب الشرقية -وهي مسلمة- أن ذلك في الإسلام بأوفى وأزكى وأسمى وأنبل مما هو في أفواه الغربيين، وكتابات الأوروبيين: أَبَوا ذلك عليك، ولجُّوا في تقليدهم يعمهون، وزعموا لك أن الإسلام في ناحية، وهذه الفكرة في ناحية أخرى، وظنَّ بعضهم أن ذلك مما يفرِّق وحدة الأمة، ويُضعف رابطة الشباب.

هذا الوهم الخاطئ كان خطرًا على الشعوب الشرقية من كل الوجهات، ولهذا الوهم أحببتُ أن أعرض هنا إلى موقف الإخوان المسلمين ودعوتهم من فكرة الوطنية، ذلك الموقف الذي ارتضوه لأنفسهم، والذي يريدون ويحاولون أن يرضاه الناس معهم.

وطنية العاطفة والخير:

إن كان دعاة الوطنية يريدون بها: حب هذه الأرض وألفتها والحنين إليها والانعطاف نحوها، فذلك أمر مركوز في فِطَر النفوس من جهة، مأمور به في الإسلام من جهة أخرى، وإن بلالا الذي ضحَّى بكل شيء في سبيل عقيدته ودينه، هو بلال الذي كان يهتف في دار الهجرة بالحنين إلى مكة، في أبيات تسيل رقة وتقطر حلاوة[9].

ألا ليت شعري هل أبيتَنَّ ليلـةً بوادٍ وحولي إذْخِرٌ وجليـلُ؟!

وهل أردَنْ يوما مياه مجـــنةٍ وهل يبدُوَنْ لي شامةٌ وطَفِيلُ؟!



ولقد سمع رسول الله وصف مكة من (أُصَيل) فجرى دمعه حنينا إليها وقال: "يا أُصَيل دع القلوب تَقَر"[10].

وطنية الحرية:

وإن كانوا يريدون: أنَّ من الواجب العمل بكل جهد في تحرير البلد من الغاصبين وتوفير استقلاله له، وغرس مبادئ العزة في نفوس أبنائه، فنحن معهم في ذلك أيضا، وقد شدَّد الإسلام في ذلك أبلغ التشديد فقال تبارك وتعالى:وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، ويقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً [النساء: 141].

وطنية المجتمع:

وإن كانوا يريدون بالوطنية: تقوية الرابطة بين أفراد القُطر الواحد، وإرشادهم إلى طريق استخدام هذه التقوية في مصالحهم، فذلك نوافقهم فيه أيضا، ويراه الإسلام فريضة لازمة، فيقول نبيه : "وكونوا عباد الله إخوانا"[11]، ويقول القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ [آل عمران:118].

وإن كانوا يريدون بالوطنية: فتح البلاد، وسيادة الأرض، فقد فرض ذلك الإسلام ووجَّه الفاتحين إلى أفضل استعمار وأبرك فتح، فذلك قوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193].

وطنية الحزبية والانقسام:

وإن كانوا يريدون بالوطنية: تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر وتتضاغن وتتراشق بالسباب وتترامى بالتُّهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء وشكَّلتها الغايات والأغراض، وفسَّرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، ويُفرِّقهم في الحق، ويجمعهم على الباطل، ويُحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض وتعاون بعضهم مع بعض، ويحل لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره، فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس. فها أنت ذا قد رأيتَ أننا مع دعاة الوطنية، بل مع غلاتهم في كل معانيها الصالحة التي تعود بالخير على البلاد والعباد، وقد رأيتَ مع هذا أن تلك الدعوى الوطنية الطويلة العريضة لم تخرج عن أنها جزء من تعاليم الإسلام.

حدود الوطنية عند الإمام البنا:

أما وجه الخلاف بيننا وبينهم، فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتُّخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حُرمته وقداسته وحبه والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا، نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم. ودعاة الوطينة فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض، ويظهر ذلك الفارق العملي فيما إذا أرادت أمة من الأمم أن تقوِّي نفسها على حساب غيرها، فنحن لا نرضى ذلك على حساب أي قُطر إسلامي، وإنما نطلب القوة لنا جميعا، ودعاة الوطنية المجرَّدة لا يرون في ذلك بأسا، ومن هنا تتفكك الروابط، وتضعف القوى، ويضرب العدو بعضهم ببعض.

غاية الوطنية عند البنا:

هذه هي واحدة. والثانية أن الوطنيين فقط، جلُّ ما يقصدون إليه، تخليص بلادهم، فإذا ما عملوا لتقويتها بعد ذلك، اهتموا بالنواحي المادية كما تفعل أوروبا الآن، أما نحن فنعتقد أن المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها، تلك هي هداية البَشر بنور الإسلام، ورفع عَلمه خفَّاقا على كل ربوع الأرض، لا يبغي بذلك مالاً ولا جاهًا ولا سلطانًا على أحد ولا استعبادا لشعب، وإنما يبغي وجه الله وحده وإسعاد العالم بدينه وإعلاء كلمته، وذلك ما حدا بالسَلَف الصالحين رضوان الله عليهم إلى هذه الفتوح القدسية التي أدهشت الدنيا، وأربت على كل ما عرف التاريخ من سرعة وعدل ونبل وفضل.

الوحدة الوطنية واختلاف الدين:

وأحب أن أنبهك إلى سقوط ذلك الزعم القائل إن الجري على هذا المبدأ يمزِّق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام وهو دين الوَحدة والمساواة كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين على الخير: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة:8]. فمن أين يأتي التفريق إذن[12]؟

أفرأيتَ بعد هذا كيف أننا متفقون مع أشد الناس غلوًّا في الوطنية في حبِّ الخير للبلاد، والجهاد في سبيل تخليصها وخيرها وارتقائها، ونعمل ونؤيد كل مَن يسعى في ذلك بإخلاص، بل أحب أن تعلم أن مهمتهم إن كانت تنتهي بتحرير الوطن واسترداد مجده، فإن ذلك عند الإخوان المسلمين بعض الطريق فقط أو مرحلة منه واحدة، ويبقى بعد ذلك أن يعملوا لتُرفع راية الوطن الإسلامي على كل بقاع الأرض، ويخفق لواء (المصحف) في كل مكان)[13].

مصر في نظر حسن البنا:

ويعود الأستاذ إلى فكرة (الوطنية) أو (المصرية) بمعنى الانتماء إلى مصر وحبِّها، والعمل على تحريرها والنهوض بها، فيخصها بحديث جدير بمكانتها فيقول:

(فالمصرية أو القومية[14] لها في دعوتنا مكانها ومنزلتها وحقها في الكفاح والنضال.

إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة من الأرض التي نبتنا فيها ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقَّى الإسلام تلقيًا كريمًا، وذاد عنه، وردَّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر وأنبل العواطف، وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يُدَاوى إلا بعقاقيره، ولا يطب له إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه بحكم الظروف الكثيرة حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندافع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال: إنَّ الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام! إننا نعتزُّ بأنَّنا مخلصون لهذا الوطن الحبيب، عاملون له، مجاهدون في سبيل خيره، وسنظلُّ كذلك ما حيينا، معتقدين أن هذه هي الحَلْقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة، وأنها جزء من الوطن العربي العام، وأنَّنا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام.

وليس يضيرنا في هذا كله أن نُعْنى بتاريخ مصر القديم، وبما سبق إليه قدماء المصريين الناسَ من المعارف والعلوم. فنحن نرحِّب بمصر القديمة كتاريخ فيه مجد وفيه علم ومعرفة. ونحارب هذه النظرية بكل قوانا كمنهاج عملي، يراد صبغ مصر به ودعوتها إليه، بعد أن هداها الله بتعاليم الإسلام، وشرح له صدرها، وأنار به بصيرتها، وزادها به شرفًا ومجدًا فوق مجدها، وخلَّصها بذلك مما لاحق هذا التاريخ من أوضار الوثنية، وأدران الشِرك، وعادات الجاهلية)[15].

المؤتمرات الوطنية العامة:

ولم يكتف حسن البنا بما ذكره في رسائله عن الوطن والوطنية، فكثيرا ما شرح ذلك في لقاءاته الخاصة، ومؤتمراته العامة.

وأشهد لقد حضرتُ أحد المؤتمرات العامة التي كان يعقدها الإخوان لشرح المطالب الوطنية في عواصم الأقاليم المصرية. ويتحدث فيها الإمام الشهيد وصحبه. وذلك بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية في سنة 1945م، وهبوب الشعوب للمطالبة بحريتها واستقلالها.

كان ذلك المؤتمر في مدينة طنطا التي أَدرُس فيها. وقد تحدَّث الأستاذ عن الوطن، فقسَّمه إلى ثلاثة أقسام. أو إلى ثلاثة مراتب:

الوطن الصغير، والوطن الكبير، والوطن الأكبر.

فأما الوطن الصغير فهو: (وادي النيل) شماله وجنوبه. شماله: مصر، وجنوبه: السودان، وكان الأستاذ البنا يقول: مصر هي السودان الشمالي، والسودان هو مصر الجنوبية. نحن من السودان، والسودان منا. وقد تحددت المطالب هنا في أمرين: جلاء الإنجليز، ووحدة الوادي.

وأما الوطن الكبير، فهو: (الوطن العربي)، ولأول مرة أسمع تحديده من الشيخ رحمه الله: من المحيط الأطلسي إلى الخليج (الفارسي) -اتباعا للمصطلح السائد في ذلك الوقت- ولم تكن شاعت كلمة (الخليج العربي) هو فارسي من جهة، وعربي من جهة أخرى. ولهذا اقترح بعضهم تسميته (الخليج الإسلامي).

وهنا تحدَّث عن قضية فلسطين، وأطماع الصهيونية فيها، ولفت الأنظار إلى خطورتها. وكان دائم التنبيه على أهمية هذه القضية وما تحمله اليهودية من خطر على العرب والمسلمين في الحاضر والمستقبل.

وأما الوطن الأكبر، فهو: (الوطن الإسلامي) من المحيط إلى المحيط، أي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي، من الدار البيضاء إلى جاكرتا.

ومما أذكره عن هذا المؤتمر ما قاله الأستاذ عن الوطن الخاص أوالصغير (وادي النيل) وعن (الاحتلال الإنجليزي) وكيف نقاومه؟ وما وسيلتنا في ذلك. وذكر هنا عدة وسائل:

1. المفاوضة. دون أي تفريط في أي حق من حقوق الوطن شماله وجنوبه.

2. المقاطعة إذا لم تجد المفاوضة، لما هو معروف من تعنُّت الإنجليز وصلفهم. وهنا وضَّح الأستاذ أننا نحن أبناء مصر والسودان قادرون على أن نعيش على الكفاف. ونستغني عن بضائع الإنجليز. وذكر هنا المثل العامي الذي يقول: (اللِّي عنده العَيش ويِبلُّه عنده الفرح كلُّه). وقال: سنخرج فتاوى ابن حزم من أن بدن العدو الكافر وعَرَقه ولعابه نجس ... إلخ.

3. الجهاد. قال: فإن لم تُجْد المقاطعة، فليس أمامنا إلا الجهاد. وسيقوم هذا الشعب عن بَكرة أبيه للدفاع عن حريته وكرامته، منتظرا إحدى الحسنيين: النصر أو الجنة.

وهنا قال: فإنَّ من الأدعية التي حفظتُها في الصغر وكنتُ أرددها: اللَّهم ارزقني الحياة الحسنة، والموتة الحسنة. وما معنى الموتة الحسنة؟ هل هي أن يموت الإنسان على فراشه كما يموت العَيْر[16]؟ إني لا أجد لها معنى إلى أن يفصل هذا عن هذا في سبيل الله! -وأشار إلى رأسه وجسده رضي الله عنه- وهنا ضجَّ المؤتمر كله بالتهليل والتكبير.

هذا التوجُّه، وهذه التربية، قد آتت أُكُلَها في عقول الإخوان ونفوسهم، فكانوا هم السبَّاقين إلى الدفاع عن الوطن، معتبرين ذلك جزءًا من الإسلام، وتعبيرا عن الإيمان. يستوي في ذلك الوطن الصغير والوطن الكبير.

ففي فلسطين كانت لهم مواقفهم وبطولاتهم وشهداؤهم الذين رووا ثرى الأرض المقدَّسة بدمائهم، وسجَّل بعض ذلك الأخ الفاضل الأستاذ كامل الشريف في كتابه: (الإخوان المسلمون في حرب فلسطين). وكان جزاؤهم عن ذلك (حل الجماعة) في 8 ديسمبر 1948م.

بل إن ما أصاب الإخوان من محن قاسية، وضربات وحشية متتابعة، كان له ارتباط بقضية فلسطين. حل الإخوان سنة 1948م كان بناء على طلب سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا -بعد اجتماعهم في معسكر (فايد)- واستجابة النقراشي وحكومته لهم. كما أثبتت ذلك الوثائق المؤكدة.

ومحنة 1965م كان تمهيدا لنكبة 1967م.

وموقف الإخوان في معركة قناة السويس، والتل الكبير مشهور غير منكور، وشهداؤهم -خصوصا من طلاب الجامعة- معروفون (عمر شاهين، والمنيسي، وغانم).

وقد شاركنا نحن أبناء الأزهر في هذه المسيرة، وأقمنا معسكرنا بجامعة الأزهر بالدرَّاسة، وسافرت كتيبتنا إلى (الشرقية) وودعناها في احتفال مهيب بقاعة الإمام محمد عبده.

وقد سافرت أنا وعدد من طلاب الإخوان، لننضم إلى الكتائب التي تعد للهجوم على الانجليز في مقراتهم، أذكر من هذه المجموعة الإخوة: أحمد العسال، محمد الطنطاوي، محمد عبد العزيز خالد، علي عبد الحليم، عبد اللطيف زايد، وقد ظللنا عدة أسابيع نستكمل تدريبنا في (تل بسطة) بالغرب من الزقازيق، ويختار منا من الحين والحين من يقوم بعملية لضرب الانجليز.

وقد سجَّل بعض ذلك الأستاذ كامل الشريف أيضًا في كتابه عن (المقاومة السرية في قناة السويس)، والأستاذ حسن دوح في كتابه عن (كفاح الشباب الجامعي في قناة السويس).

أما ما أدَّاه الإخوان من خدمات لوطنهم في المجالات الأخرى، فشيء يجلُّ عن الحصر. وكل مدينة أو قرية في مصر تشهد بآثارهم التربوية والثقافية والاجتماعية. ومن الكتب الموثقة في الجانب الاجتماعي: كتاب الأستاذ محمد شوقي زكي (الإخوان والمجتمع المصري).

وهذا الذي حدث في مصر، حدث مثله أو ما يقاربه في الأقطار العربية الأخرى التي انتشرت فيها دعوة الإخوان المسلمين.

وبهذا ثبت بالقول والعمل، وبالنظر والتطبيق: أن الإخوان المسلمين هم أصدق الناس في حب أوطانهم، والاستماتة في خدمتها، والذود عن حياضها بالمُهَج والأرواح، لأنهم يفعلون ذلك بدافع الإيمان، وموجب حكم الإسلام.

بيان الموقف من القومية وأنواعها:

وكما حدَّد الأستاذ البنا موقفه من الوطنية: حدَّد أيضا موقفه من (القومية) وإن كانت النزعة الوطنية هي الغالبة على مصر، في ذلك الوقت، ولم تبرز الفكرة القومية -وخصوصا: القومية العربية- إلا بعد ذلك، في الخمسينات من القرن العشرين، وبعد قيام ثورة 23 يوليو1952م. ومع هذا تحدَّث عنها البنا، من الوجهة النظرية، وقسَّمها إلى أنواع وألوان، منها ما يُقبل، ومنها ما يُرفض.

قومية المجد:

فأما ما يُقبل فهو ما سمَّاه (قومية المجد) أي الدعوة إلى استعادة أمجاد الأسلاف ومفاخرهم. قال:

(إن كان الذين يعتزون بمبدأ القومية، يقصدون به: أن الأخلاف يجب أن ينهجوا نهج الأسلاف، في مراقي المجد والعظمة، ومدارك النبوغ والهمَّة، وأن تكون لهم بهم في ذلك قدوة حسنة، وأن عظمة الأب مما يعتزُّ به الابن، ويجد لها الحماس والأريحية بدافع الصلة والوراثة، فهو مقصد حسن جميل، نشجعه ونأخذ به، وهل عُدَّتنا في إيقاظ همَّة الحاضرين إلا أن نحدوهم بأمجاد الماضين؟ ولعل الإشارة إلى هذا في قول رسول الله : "الناس معادن؛ خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا"[17]. فها أنت ذا ترى أن الإسلام لا يمنع من القومية بهذا المعنى الفاضل النبيل.

قومية الأمة:

وإذا قصد بالقومية: أن عشيرة الرجل وأمته أولى الناس بخيره وبره، وأحقهم بإحسانه وجهاده، فهو حق كذلك، ومن ذا الذي لا يرى أولى الناس بجهوده قومه الذين نشأ فيهم، ونما بينهم؟

لعمري لرهط المرء خير بقية عليه وإن عالوا به كل مركب

قومية العمل والبذل:

وإذا قصد بالقومية: أنَّنا جميعًا مبتلون، مطالبون بالعمل والجهاد، فعلى كل جماعة أن تحقق الغاية من جهتها، حتى نلتقي -إن شاء الله- في ساحة النصر، فنِعْم التقسيم هذا، ومَن لنا بمن يحدو الأمم الشرقية كتائب كتائب، كل في ميدانها، حتى نلتقي جميعًا في بحبوحة الحرية والخلاص؟

كل هذا وأشباهه في معنى القومية جميل معجب، لا يأباه الإسلام، وهو مقياسنا، بل ينفسح صدرنا له، ونحض عليه).

قومية الجاهلية:

وأما القومية المرفوضة عند الإمام البنا، فهي ما سمَّاه (قومية الجاهلية) التي قال عنها:

(أما أن يراد بالقومية: إحياء عادات جاهلية دَرَسَتْ، وإقامة ذكريات بائدة خلت، وتعفية حضارة نافعة استقرت، والتحلُّل من عقدة الإسلام ورباطه بدعوى القومية والاعتزاز بالجنس، كما فعلت بعض الدول في المغالاة بتحطيم مظاهر الإسلام والعروبة[18]، حتى الأسماء وحروف الكتابة وألفاظ اللغة، وإحياء ما اندرس من عادات جاهلية، فذلك في القومية معنى ذميم، وخيم العاقبة وسيئ المَغَبَّة، يؤدي بالشرق إلى خسارة فادحة، يضيع معها تراثه، وتنحط بها منزلته[19]، ويفقد أخص مميزاته وأقدس مظاهر شرفه ونبله، ولا يضر ذلك دين الله شيئًا: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38]).

قومية العدوان:

وكما رفض البنا قومية الجاهلية: رفض كذلك قومية الاستعلاء والعدوان على الآخرين، فقال:

(وأما أن يراد بالقومية: الاعتزاز بالجنس إلى درجة تؤدي إلى انتقاص الأجناس الأخرى والعدوان عليها والتضحية بها في سبيل عزة أمة وبقائها، كما تنادي بذلك ألمانيا وإيطاليا مثلاً، بل كما تدعي كل أمة تنادي بأنها فوق الجميع: فهذا معنى ذميم كذلك، ليس من الإنسانية في شيء، ومعناه: أن يتناحر الجنس البشري في سبيل وهم من الأوهام، لا حقيقة له ولا خير فيه.

دعامتان لخير الإنسانية:

الإخوان المسلمون لا يؤمنون بالقومية بهذه المعاني، ولا بأشباهها، ولا يقولون: فرعونية وعربية وفينيقية وسورية، ولا شيئًا من هذه الألقاب والأسماء التي يتنابز بها الناس؛ ولكنهم يؤمنون بما قال رسول الله ، الإنسان الكامل، بل أكمل مُعلِّم عَلَّم الإنسان الخير: "إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظُّمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى"[20]. ما أروع هذا وأجمله وأعدله! الناس لآدم، فهم في ذلك أَكْفَاء ... والناس يتفاضلون بالأعمال، فواجبهم التنافس في الخير.

دعامتان قويمتان، لو بنيت عليهما الإنسانية، لارتفعت بالبشر إلى علياء السموات! الناس لآدم، فهم إخوان، فعليهم أن يتعاونوا، وأن يسالم بعضهم بعضًا، ويرحم بعضهم بعضًا، ويدل بعضهم بعضًا على الخير ... والتفاضل بالأعمال، فعليهم أن يجتهدوا كل من ناحيته حتى ترقى الإنسانية، فهل رأيت سموًّا بالإنسانية أعلى من هذا السمو، أو تربية أفضل من هذه التربية؟).

خواص العروبة:

ثم قال حسن البنا: (ولسنا مع هذا ننكر خواص الأمم ومميزاتها الخلقية، فنحن نعلم أن لكل شعب مميزاته وقسطه من الفضيلة والخلق، ونعلم أن الشعوب في هذا تتفاوت وتتفاضل، ونعتقد أن العروبة لها من ذلك النصيب الأوفى والأوفر؛ ولكن ليس معنى هذا أن تتخذ الشعوب هذه المزايا ذريعة إلى العدوان؛ بل عليها أن تتخذ ذلك وسيلة إلى تحقيق المهمة السابقة التي كلفها كل شعب، تلك هي النهوض بالإنسانية، ولعلك لست واجدًا في التاريخ من أدرك هذا المعنى من شعوب الأرض، كما أدركته تلك الكتيبة العربية من صحابة رسول الله )[21].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه مسلم في الإمارة (1851)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/156) عن ابن عمر.

[2]- رواه أبو يعلى في المسند (3/402) عن جابر بن عبد الله، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى وفيه محمد بن الخطاب البصري ضعفه الأزدي وغيره، ووثَّقه ابن حبان، وبقية رجاله رجال الصحيح (10/26)، وقال المناوي في فيض القدير: قال العراقي في الغريب: صحيح ... ورمز المصنف لضعفه باطل (1/348).

[3]- رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (21/407) عن معاذ بن جبل، وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا الحديث ضعيف وكأنه مركب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه صـ169.

[4]- رواه البخاري في المظالم (2442)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2580)، وأحمد في المسند (5646)، وأبو داود في الأدب (4893)، والترمذي في الحدود (1426)، والنسائي في الرجم (7251) عن ابن عمر.

[5]- رواه أحمد في المسند (6692) وقال محققوه: صحيح وهذا إسناد حسن، وأبو داود في الجهاد (2751)، وابن أبي شيبة في المصنف كتاب الديات (5/495) عن عبد الله بن عمرو.

[6]- انظر: (رسالة المؤتمر الخامس) من مجموعة رسائل الإمام البنا صـ141،142.

[7]- انظر: (رسالة المؤتمر الخامس) من مجموعة الرسائل صـ143، 144.

[8]- من رسالة (إلى الشباب) صـ 180، من مجموعة رسائل الإمام الشهيد.

[9]- الحديث رواه البخاري في التمني (7231)، ومسلم في الحج (1376)، وأحمد في المسند (24360) عن عائشة، والشعر عند البخاري فقط.

[10]- رواه أبو الشيخ في العظمة (4/1266) ونصه: "يا أُصيل لا تحزنا"، والخطابي في غريب الحديث (1/278) وفيه: "حسبك يا أُصيل".

[11]- رواه البخاري في الأدب (6064)، ومسلم في البر والصلة والآداب (2559)، وأحمد في المسند (12691)، وأبو داود في الأدب (4910) عن أنس.

[12]- انظر: كتابنا (غير المسلمين في المجتمع الإسلامي)، وفصل (الحل الإسلامي والأقليات الدينية) من كتابنا (بينات الحل الإسلامي وشبهات العلمانيين والمتغربين).

[13]- من رسالة (دعوتنا) صـ 19 - 22 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[14]- يلاحظ أن الأستاذ جعل المصرية مرادفة للقومية، فلم تكن هذه الألفاظ قد تحدَّد معناها وتمايزها تماما وإن كان في رسالة (دعوتنا) قد فرق بينهما بوضوح، وسنذكر ذلك بعد.

[15]- من رسالة (دعوتنا في طور جديد) صـ 229، 230 من مجموعة الرسائل.

[16]- العَيْر: أي الحمار.

[17]- رواه البخاري في المناقب (3493)، ومسلم في فضائل الصحابة (2526)، وأحمد في المسند (7496) عن أبي هريرة.

[18]- يعني بذلك: جمهورية أتاتورك العلمانية، وما صنعته بتركيا دولة الخلافة الإسلامية.

[19]- قالت الباحثة التركية خالدة أديب: كنا أول دولة في الشرق، فصرنا آخر دولة في الغرب!

[20]- رواه أحمد في المسند (8736) وقال محققوه: إسناده حسن، ونصه: "إن الله عز وجل قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي وفاجر شقي والناس بنو آدم وآدم من تراب، لينتهين أقوام فخرهم برجال أو ليكونن أهون عند الله من عدتهم من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن" ورواه وأبو داود في الأدب (5116) والترمذي في المناقب (3956) عن أبي هريرة.

[21]- من رسالة (دعوتنا) صـ 22 – 24 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:12 AM
(6)

الترحيب بالنظام الدستوري والنيابي

والدعامة السادسة من الدعائم أو المعالم التي قامت عليها التربية السياسية عند حسن البنا: هي توعية الإخوان بتحديد الموقف من النظام الدستوري أو النيابي بصفة عامة، ومن الدستور المصري بصفة خاصة.

فقد يقع في وهم بعض الناس، وبعض الإخوان: أنهم -حين يعلنون ويهتفون: القرآن دستورنا- يرفضون أي دستور وضعي أو بشري، يضعه الناس لأنفسهم ويتفقون عليه.

ولكن الواقع أن المقصود المفهوم من شعار (القرآن دستورنا): أنه هو المرجع الأعلى، الذي نردُّ إليه كل أمورنا، فلا يُقبل أي شيء منها إذا عارض القرآن. فهو الذي يعلو ولا يعلى عليه، ويَحكم ولا يُحكم عليه.

أما أن يضع المسلمون لأنفسهم نظاما أو دستورا ينظم العلاقات الأساسية بين الأمة والدولة، أو بين الحاكم والمحكوم، ويبين الحقوق، ويفصِّل الحريات، ويحدِّد الواجبات، ويوزِّع السلطات، ويضع النقاط على الحروف بالنسبة لنظام الحكم وعلاقاته الداخلية والخارجية، فلا يمنع الإسلام من ذلك، بشرط واحد، وهو: ألا يتعارض مع عقائد الإسلام البيِّنة، وشرائعه المُحكمة، وقِيَمه الموجِّهَة، وأن يسير في ضوء تعاليمه. ولا مانع أن يقتبس من الأمم الأخرى في إطار هذا التوجُّه، فـ"الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق الناس بها"[1].

ولهذا لم يعترض علماء الإسلام في أي بلد مسلم على فكرة الدستور في حدِّ ذاتها، ولكن قد يعترضون على بعض ما يشتمل عليه الدستور من مواد مخالفة للنصوص والقواعد الإسلامية الثابتة، أو لقصوره أو تقصيره عن النص على أشياء لا بد منها، مثل أن يكون الإسلام هو مصدر التشريع أو المصدر الأساسي للتشريع.

أو غموض بعض المواد في الدستور، بحيث يفسرها كل فريق بما يخدم أغراضه، ويتفق مع هواه.

كل ما يعترض عليه الأستاذ والإخوان: أن يعتبر بعض الناس الدستور -وهو عمل بشري أولا وأخيرا- نصًّا مقدسًا لا يقبل التغيير ولا التعديل، حتى إن بعض المتعصبين للدستور -ردًّا على مقولة الإخوان: القرآن دستورنا- قال: بل الدستور قرآننا!!

ولا ينبغي الوصول بنصٍّ بشري مهما بلغت قيمته ودقته إلى هذه الرتبة من التقديس، كما لا يجوز العبث بالدساتير المحترمة، وتغييرها بسهولة، اتباعًا للأهواء، أو تحقيقًا لغرض معين، مثل: تغيير سِنِّ رئيس الدولة، أو مُدد رئاسة الجمهورية، ونحو ذلك، وبهذا يصبح الدستور مَلْعَبة للحكام المستبدين، وليس ضابطًا لهم.

حسن البنا يؤيد النظام الدستوري وينوِّه بالدستور المصري:

ولكن المهم هنا: أن الإمام البنا رحمه الله، كان يؤيد النظام الدستوري والنيابي بصراحة، ويرحِّب به، ويراه أقرب الأنظمة إلى الإسلام، ومن المعلوم أن النظام النيابي الدستوري يأخذ برأي الأغلبية. ويتحدث عن الدستور حديث الأنصار لا الخصوم، قال ذلك في رسالة (المؤتمر الخامس) سنة 1936م، وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) سنة 1948م.

ففي رسالة (المؤتمر الخامس) التي حدَّد فيها بجلاء موقف جماعة الإخوان من كثير من القضايا الحساسة، الفكرية والسياسية وغيرها، حدَّد موقف الإخوان من (الدستور) ومن (القانون)، مفرقًا بينهما بوضوح، وهو أن (الدستور): هو نظام الحكم العام الذي ينظم حدود السلطات، وواجبات الحاكمين، ومدى صلتهم بالمحكومين. أما (القانون) فهو الذي ينظم صلة الأفراد بعضهم ببعض، ويحمى حقوقهم الأدبية والمادية، ويحاسبهم على ما يأتون من أعمال.

ثم بيَّن الموقف من كل منهما قائلا:

(الواقع أيها الإخوان: أن الباحث حين ينظر إلى مبادئ الحكم الدستوري التي تتلخص في المحافظة على الحرية الشخصية بكل أنواعها، وعلى الشورى واستمداد السلطة من الأمة، وعلى مسئولية الحكام أمام الشعب ومحاسبتهم على ما يعملون من أعمال، وبيان حدود كل سلطة من السلطات، هذه الأصول كلها يتجلى للباحث أنها تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده في شكل الحكم.

ولهذا يعتقد الإخوان المسلمون: أن نظام الحكم الدستوري هو أقرب نظم الحكم القائمة في العالم كله إلى الإسلام، وهم لا يعدلون به نظامًا آخر.

بقي بعد ذلك أمران:

أولهما: النصوص التي تصاغ في قالبها هذه المبادئ.

وثانيهما: طريقة التطبيق التي تفسر بها عمليًا هذه النصوص. إن المبدأ السليم القويم قد يوضع في نص مبهم غامض، فيَدَع مجالا للعبث بسلامة المبدأ في ذاته. وإن النص الظاهر الواضح للمبدأ السليم القويم، قد يطبق وينفذ بطريقة يمليها الهوى، وتوحيها الشهوات، فيذهب هذا التطبيق بكل ما يرجى من فائدة.

وإذا تقرَّر هذا فإن من نصوص الدستور المصري ما يراه الإخوان المسلمون غامضًا، مبهمًا يَدَع مجالاً واسعًا للتأويل والتفسير الذي تمليه الغايات والأهواء، فهي في حاجة إلى وضوح وإلى تحديد وبيان. هذه واحدة، والثانية: هي أن طريقة التنفيذ التي يطبق بها الدستور، ويتوصل بها إلى جَني ثمرات الحكم الدستوري في مصر، طريقة أثبتت التجارب فشلها، وجنت الأمة منها الأضرار لا المنافع، فهي في حاجة شديدة إلى تحوير وإلى تعديل يحقق المقصود ويفي بالغاية ...)

وضرب مثلا لذلك بـ(قانون الانتخاب) وما فيه من ثغرات يجب سدُّها، وما يعتريه من سوء التطبيق.

ثم قال:

(لهذا يعمل الإخوان المسلمون جهدهم حتى تحدد النصوص المُبهمة في الدستور المصري، وتُعدل الطريقة التي ينفذ بها هذا الدستور في البلاد. وأظن أن موقف الإخوان قد وضح بهذا البيان، ورُدت الأمور إلى نصابها الصحيح).

حسن البنا يبين موقف الإخوان من القانون:

ثم قال حسن البنا:

(قدمت أن الدستور شيء والقانون شيء آخر، وقد أَبَنْتُ موقف الإخوان من الدستور، وأبين لحضراتكم الآن موقفهم من القانون.

إن الإسلام لم يجئ خلوًا من القوانين، بل هو قد أوضح كثيرًا من أصول التشريع وجزئيات الأحكام، سواء أكانت مادية أم جنائية، تجارية أم دولية، والقرآن والأحاديث فيَّاضة بهذه المعاني، وكتب الفقهاء غنية كل الغنى بكل هذه النواحي، وقد اعترف الأجانب أنفسهم بهذه الحقيقة، وأقرها مؤتمر لاهاي الدولي أمام ممثلي الأمم من رجال القانون في العالم كله.

فمن غير المفهوم ولا المعقول أن يكون القانون في أمة إسلامية متناقضًا مع تعاليم دينها وأحكام قرآنها وسنة نبيها، مصطدمًا كل الاصطدام بما جاء عن الله ورسوله، وقد حذَّر الله نبيه من ذلك من قبل، فقال تبارك وتعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ * أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:49،50]، ذلك بعد قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ... الظَّالِمُونَ ... الْفَاسِقُونَ [المائدة:44،45،47]، فكيف يكون موقف المسلم الذي يؤمن بالله وكلماته إذا سمع هذه الآيات البينات وغيرها من الأحاديث والأحكام، ثم رأى نفسه محكومًا بقانون يصطدم معها؟ فإذا طالب بالتعديل قيل له: إن الأجانب لا يرضون بهذا، ولا يوافقون عليه، ثم يقال بعد هذا الحَجْر والتضييق: إن المصريين مستقلون، وهم لم يملكوا بعد أن يتمتعوا بحرية الدِّين، وهي أقدس الحريات!!

على أن هذه القوانين الوضعية كما تصطدم بالدِّين ونصوصه تصطدم بالدستور الوضعي نفسه، الذي يقرر: أن دين الدولة هو الإسلام، فكيف نوفِّق بين هذين يا أولى الألباب؟

وإذا كان الله ورسوله قد حرم الزنى، وحَظَر الربا، ومنع الخمور، وحارب الميسر، وجاء القانون يحمى الزانية والزاني، ويلزم بالربا، ويبيح الخمر، وينظم القمار، فكيف يكون موقف المسلم بينهما؟ أيطيع الله ورسوله ويعصى الحكومة وقانونها، والله خير وأبقى؟ أم يعصى الله ورسوله ويطيع الحكومة، فيشقى في الآخرة والأولى؟ نريد الجواب على هذا من رفعة رئيس الحكومة ومعالي وزير العدل ومن علمائنا الفضلاء الأجلاء.

أما الإخوان المسلمون فهم لا يوافقون على هذا القانون أبدًا، ولا يرضونه بحال، وسيعملون بكل سبيل على أن يحلَّ مكانه التشريع الإسلامي العادل الفاضل في نواحي القانون)[2].

تأكيد ما قاله في سنة 1936م بما قاله سنة 1948م:

ثم عاد الإمام البنا رحمه الله إلى الموضوع مرة أخرى حين كتب سلسلة من المقالات في جريدة الإخوان اليومية، وجَّهها إلى رئيس الحكومة باعتباره المسؤول الأول ... وإلى أعضاء الهيئات النيابية -على اختلافها- باعتبارهم الرعاة الرسميين لنظام الإسلام ... وإلى رؤساء الهيئات الشعبية: السياسية والوطنية والاجتماعية، باعتبارهم قادة الفكر، وموجِّهي الجماهير ... وإلى رجال الأزهر الشريف، وإلى كل محب لخير العالم، وسيادة بني الإنسان. وقد جمعت هذه المقالات بعد ذلك ونشرت تحت عنوان (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي).

وهنا تحدث البنا عن (موقف الإسلام من النظام النيابي والدستور المصري) في إطار حديثه عن (نظام الحكم في الإسلام) فكان مما قاله هنا:

(يقول علماء الفقه الدستوري: إن النظام النيابي يقوم على مسؤولية الحاكم، وسلطة الأمة، واحترام إرادتها، وإنه لا مانع فيه يمنع من وحدة الأمة واجتماع كلمتها، وليست الفُرقة والخلاف شرطًا فيه، وإن كان بعضهم يقول: إن من دعائم النظام النيابي البرلماني: الحزبية, ولكن هذا إذا كان عرفًا فليس أصلاً في قيام هذا النظام، لأنه يمكن تطبيقه بدون هذه الحزبية، وبدون إخلال بقواعده الأصلية.

وعلى هذا، فليس في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم، وهو بهذا الاعتبار ليس بعيدًا عن النظام الإسلامي ولا غريبًا عنه.

وبهذا الاعتبار يمكن أيضًا أن نقول في اطمئنان: إن القواعد الأساسية التي قام عليها الدستور المصري لا تتنافى مع قواعد الإسلام، وليست بعيدة من النظام الإسلامي ولا غريبة عنه، بل إن واضعي الدستور المصري -رغم أنهم وضعوه على أحدث المبادئ والآراء الدستورية وأرقاها- فقد توخوا فيه ألا يصطدم أي نص من نصوصه بالقواعد الإسلامية، فهي إما متمشية معها صراحة، كالنص الذي يقول: (دين الدولة الإسلام) أو قابلة للتفسير الذي يجعلها لا تتنافى معها كالنص الذي يقول: (حرية الاعتقاد مكفولة)).

وأكدَّ ما ذكره من قبل:

(أن النظام النيابي والدستور المصري في قواعدهما الأساسية لا يتنافيان مع ما وضعه الإسلام في نظام الحكم، ولكنه صرَّح بأن هناك قصورًا في عبارات الدستور، وسوءا في التطبيق، وتقصيرًا في حماية القواعد الأساسية التي جاء بها الإسلام وقام عليها الدستور، أدَّت جميعاً إلى ما نشكو منه، وما وقعنا فيه من اضطراب في كل هذه الحياة النيابية)[3].

وقد فصَّل بعض التفصيل في بيان ذلك وعلاجه، بما لا حاجة لنا إليه في هذا المقام[4]، إنما نريد بيان موقفه من النظام الدستوري والنيابي، وهما من مقومات الديمقراطية، وإن لم يذكر الديمقراطية بصراحة في حديثه.

التباس موضوع الديمقراطية على بعض الإخوان:

ومع وضوح موقف الإمام البنا من الدستور والنظام النيابي المنبثق عن الديمقراطية: ظلَّ موضوع الديمقراطية مُلتبسا على كثير من الإخوان؛ لأنَّ الأستاذ لم يذكر الديمقراطية صراحة. ولكنه نوَّه بأمور هي من لوازمها، بل من مكوناتها، مثل (الدستور) و(النظام النيابي).

بل نقلوا عنه: أنه كان يرى أن الشورى مُعلمة، وليست مُلزمة، وهذا ضد الديمقراطية: فعلى الحاكم أن يستشير أهل الحل والعقد، ولكن ليس عليه أن يلتزم برأيهم، أو برأي أكثريتهم.

وقد قال في الأصل الخامس من الأصول العشرين: (ورأي الإمام -أو نائبه- فيما لا نص فيه، وفيما يحتمل وجوهًا عدة، وفي المصالح المرسلة: معمول به ما لم يصطدم بقاعدة شرعية، وقد يتغير بحسب الظروف والعرف والعادات، والأصل في العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وفي العاديات الالتفات إلى الأسرار والحكم والمقاصد)[5].

وقد شرحت هذا الأصل بتفصيل وتوسع في الجزء الرابع من سلسلة (نحو وحدة فكرية للعاملين للإسلام)[6].

وكلام الأستاذ البنا هنا يوحي بأن الأصل العمل برأي الإمام أو الحاكم، وإن كان مخالفا لرأي أهل الشورى أو أهل الحلِّ والعقد، وإن لم يصرِّح الأستاذ بذلك، وإنما هو مستنبط من كلامه.

وهذا -للأسف- رأي كثير من كبار الدعاة مثل: الإمام أبي الأعلى المودودي في باكستان، والإمام محمد متولي الشعراوي في مصر.

وقد رددنا على هذا الرأي في كثير من كتبنا[7].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه الترمذي في العلم (2687) وقال: حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وابن ماجه في الزهد (4169) عن أبي هريرة، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي (506). ولكن معناه صحيح بالإجماع.

[2]- من رسالة (المؤتمر الخامس) صـ 138 – 140 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[3]- انظر: رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) صـ 321 وما بعدها، من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

[4]- بيَّن الأستاذ هنا مدى مسؤولية رئيس الدولة ومسؤولية الحكومة أو الوزارة، على ما عُرف في النظام البرلماني، أو الملكي الدستوري الذي يجعل المسؤول الأول هو الحكومة، ولا يحاسب الملك أو الرئيس على شيء مما يجري في السلطة، أو النظام الرئاسي الذي يكون الرئيس هو المسؤول الأول عن سياسة الحكم، والوزراء إنما هم معاونون له (كما هو المعمول به في الولايات المتحدة). وأشار الأستاذ إلى أن الفقه الإسلامي قد تضمن ذلك فيما ذكره الماوردي في (الأحكام السلطانية) من وزارة التفويض، ووزارة التنفيذ. إلخ.

[5]- رسالة (التعاليم) صـ357 من مجموعة رسائل الإمام.

[6]- انظر: كتابنا (السياسة الشرعية في ضوء نصوص الشريعة ومقاصدها) نشر مكتبة وهبة بالقاهرة، ومؤسسة الرسالة بيروت.

[7]- مثل كتابنا (الحل الإسلامي فريضة وضرورة) صـ196- 198، وكتابنا (الإسلام والعلمانية) صـ120 - 123 وكتابنا (من فقه الدولة في الإسلام) صـ146.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:14 AM
(7)

التنديد بالأحزاب والحزبية

والدعامة السابعة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا: تنبيهه وتأكيده على معارضته للأحزاب المصرية القائمة في ذلك الوقت، وما جرَّته على البلاد بسبب تفرقها واختلافها وتنافرها، وذلك ثمرة للنظام الحزبي البغيض عنده. هذا مع أنه يُقِرُّ النظام الدستوري والنيابي ويراه متفقا مع الإسلام، كما وضحنا ذلك من قبل.

ولهذا كان من عناصر الفكر السياسي الأساسية عند الإمام البنا: تنديده بتعدد الأحزاب المصرية واختلافها، وتهافتها على كرسي الحكم، واستماتتها في الوصول إليه، ولو بالتقرب إلى المستعمر، الذي يحتل البلاد، ويُذل العباد.

وكان الأستاذ البنا يرى أن الإسلام لا يُقر الحزبية، لسبب واضح عنده، وهو: أنها تؤدي إلى تفرقة الأمة -كما هو الواقع المشاهد- وهو يدعو إلى الاتحاد والائتلاف، كما تدل على ذلك آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم.

وبخاصة أن الأحزاب في مصر قد بلغ بها الاختلاف والتدابر والتخاصم حدا أمسى ينذر بخطر على الوطن، ولا يستفيد منه إلا المستعمر المتربص. وفي هذا أنشأ شوقي قصيدته المعروفة يقول فيها:

إلام الخلف بينكمو إلام؟ وهذي الضجة الكبرى علام؟!

وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصامـا؟!

كما كان الأستاذ يرى أن النظام الدستوري أو البرلماني -الذي يؤيده ويراه متفقا مع الإسلام- لا يحتاج بالضرورة إلى النظام الحزبي.

ويرى أن الأحزاب في مصر خاصة، لم تختلف على مناهج وبرامج للإصلاح والتغيير، وإنما الخلاف فيما بينها لأسباب شخصية، وأنها نشأت لأهداف وظروف معينة لم تعد قائمة، ومن هنا يرى ضرورة اختفاء هذه الأحزاب من الساحة، أو تتوحد جميعا في حزب أو تكتل واحد، يضم الجميع في رحابه، ويعمل من أجل مصلحة الوطن، حتى إنه طلب من الملك في فترة من الفترات حل هذه الأحزاب جميعا، وتخليص البلاد من أوزارها.

وقد كرَّر الأستاذ البنا هذه المعاني في عدد من رسائله، بعضها قديم، مثل رسالة المؤتمر الخامس سنة 1936م، ورسالته إلى طلبة الإخوان في محرم سنة 1357هـ.

وبعضها جديد، أي في أواخر حياته، كما في كتابه (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) التي كانت مقالات في صحيفة الإخوان اليومية ثم جُمعت.

ونرى قوله في بعض الأحيان أقرب إلى اللين، وأحيانا أقرب إلى الشدة. فمن مواقف اللين قوله في رسالة المؤتمر السادس:

(وأما موقفنا من الأحزاب السياسية، فلسنا نفاضل بينها، ولا ننحاز إلى واحد منها، ولكن نعتقد أنها تتفق جميعا في عدة أمور:

تتفق في أن كثيرًا من رجالها قد عملوا على خدمة القضية السياسية المصرية، واشتركوا فعلا في الجهاد في سبيلها، وفي الوصول إلى ما وصلت إليه مصر من ثمرات هذا الجهاد الضئيلة أو الجليلة، فنحن في هذه الناحية لا نبخس هؤلاء الرجال حقهم.

وتتفق كذلك في أن حزبًا منها لم يحدد بعدُ منهاجًا دقيقًا لما يريد من ضروب الإصلاح، ولم يضع هدفًا يرمي إليه، وهي لهذا لا تتفاوت في المناهج والأغراض والغايات.

وتتفق كذلك في أنها جميعًا لم تقتنع بعدُ بوجوب المناداة بالإصلاح الاجتماعي على قواعد الإسلام وتعاليم الإسلام، ولا زال أقطابها جميعًا يفهمون الإسلام على أنه ضروب من العبادات والروحانيات لا صلة لها بحياة الأمم والشعوب الاجتماعية والدنيوية.

وتتفق بعد ذلك في أنها تعاقبت على حكم هذا البلد فلم تأت بجديد، ولم يجد الناس في ظلِّ حكمها ما كانوا يأملون من تقدم ماديٍّ أو أدبيٍّ, ولقد كان لهذا أثره العملي, فقامت في مصر الحكومات غير الحزبية في أحرج الظروف وأدق المواقف، ومنها الحكومة الحالية.

وإذًا فلا خلاف بين الأحزاب المصرية إلا في مظاهر شكلية، وشؤون شخصية، لا يهتم لها الإخوان المسلمون، ولهذا فهم ينظرون إلى هذه الأحزاب جميعًا نظرةً واحدةً، ويرفعون دعوتهــم -وهي ميراث رسول الله- فوق هذا المستوى الحزبي كله.

ونحن لا نهاجمهم لأننا في حاجة إلى الجهد الذي يبذل في الخصومة والكفاح السلبي؛ لننفقه في عمل نافع وكفاح إيجابي، ونَدَع حسابهم للزمن، معتقدين أن البقاء للأصلح فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ [الرعد:17])[1].

ومن مواقف الشدة: ما قاله رحمه الله، في رسالة المؤتمر الخامس:

(والإخوان المسلمون يعتقدون أن الأحزاب المصرية جميعا قد وُجدت في ظروف خاصة، ولدواعٍ أكثرها شخصي لا مصلحي، وشرح ذلك تعلمونه حضراتكم جميعا.

ويعتقدون كذلك أن هذه الأحزاب لم تحدد برامجها ومناهجها إلى الآن، فكل منها يدعي أنه يعمل لمصلحة الأمة في كل نواحي الإصلاح، ولكن ما تفاصيل هذه الأعمال، وما وسائل تحقيقها؟ وما الذي أعد من هذه الوسائل؟ وما العقبات التي ينتظر أن تقف في سبيل التنفيذ؟ وما أعد لتذليلها؟ كل ذلك لا جواب له عند رؤساء الأحزاب وإدارات الأحزاب، فهم قد اتفقوا في هذا الفراغ، كما اتفقوا في أمر آخر هو التهالك على الحكم، وتسخير كل دعاية حزبية وكل وسيلة شريفة وغير شريفة في سبيل الوصول إليه، وتجريح كل من يحول من الخصوم الحزبيين دون الوصول عليه.

ويعتقد الإخوان كذلك أن هذه الحزبية قد أفسدت على الناس كل مرافق حياتهم، وعطلت مصالحهم، وأتلفت أخلاقهم، ومَزَّقت روابطهم، وكان لها في حياتهم العامة والخاصة أسوأ الأثر.

ويعتقدون كذلك أن النظام النيابي، بل حتى البرلماني، في غنى عن نظام الأحزاب بصورتها الحاضرة في مصر. وإلا لما قامت الحكومات الإئتلافية في البلاد الديمقراطية، فالحجة القائلة بأن النظام البرلماني لا يتصور إلا بوجود الأحزاب حجة واهية، وكثير من البلاد الدستورية البرلمانية تسير على نظام الحزب الواحد، وذلك في الإمكان.

كما يعتقد الإخوان أن هناك فارقا بين حرية الرأي والتفكير والإبانة والإفصاح والشورى والنصيحة -وهو ما يوجبه الإسلام- وبين التعصب للرأي والخروج على الجماعة، والعمل الدائب على توسيع هُوة الانقسام في الأمة، وزعزعة سلطان الحكام، وهو ما تستلزمه الحزبية، ويأباه الإسلام، ويُحرِّمه أشدَّ التحريم، والإسلام في كل تشريعاته إنما يدعو إلى الوَحدة والتعاون.

هذا مجمل نظرات الإخوان إلى قضية الحزبية والأحزاب في مصر. وهم لهذا قد طلبوا إلى رؤساء الأحزاب منذ عام تقريبا: أن يطرحوا هذه الخصومة جانبا، وينضم بعضهم إلى بعض، كما اقترحوا التوسط في هذه القضية على صاحب السمو الأمير محمد علي وصاحب السمو الأمير عمر طوسون ... كما طلبوا من جلالة الملك: حلِّ تلك هذه الأحزاب القائمة، حتى تندمج جميعا في هيئة شعبية واحدة تعمل لصالح الأمة على قواعد الإسلام)[2].

وكان الأستاذ البنا يفرِّق جيدا بين السياسة والحزبية، ويقول: أما إننا سياسيون، فنعم، ولا نتحرج من ذلك. وأما إننا حزبيون، فلا.

وفي (مؤتمر طلبة الإخوان) بيَّن الأستاذ البنا رأيه في مسألة الأحزاب والحزبية، بصراحة ووضوح، ذاكرًا أن هذا رأي خاص له، قال رحمه الله:

(وإن لي في الحزبية السياسية آراء هي لي خاصة ولا أحب أن أفرضها على الناس، فإن ذلك ليس لي ولا لأحد، ولكني كذلك لا أحب أن أكتمها عنهم، وأرى أن واجب النصيحة للأمة -وخصوصًا في مثل هذه الظروف- يدعوني إلى المجاهرة بها وعرضها على الناس في وضوح وجلاء، وأحب كذلك أن يُفهم جيدًا أني حينما أتحدث عن الحزبية السياسية فليس معنى هذا أني أعرض لحزب دون حزب، أو أرجِّح أحد الأحزاب على غيره، أو أن أنتقص أحدها وأزكي الآخر، ليس ذلك من مهماتي، ولكني سأتناول المبدأ من حيث هو، وسأعرض للنتائج والآثار المترتبة عليه، وأَدَع الحكم على الأحزاب للتاريخ وللرأي العام والجزاء الحق لله وحده يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً [آل عمران:30].

أعتقد أيها السادة، أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز في كلها، وهي لا تجوز في مصر أبدًا، وخاصةً في هذا الوقت الذي نستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبني أمتنا بناء قويًا يستلزم تعاون الجهود وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل والتفرغ التام لنواحي الإصلاح).

ثم بيَّن الأستاذ خطرًا آخر للتَّحزُّب، وهو:

(أن التدخل الأجنبي في شؤون الأمة: ليس له من باب إلا التدابر والخلاف, وهذا النظام الحزبي البغيض: وأنه مهما انتصر أحد الفريقين فإن الخصوم بالمرصاد: يلوِّحون له بخصمه الآخر).

ثم قال بعد ذلك:

(وإذا جاز لبعض الأمم التي استكملت استقلالها وفرغت من تكوين نفسها أن تختلف وتتحزب في فرعيات الأمور: فإن ذلك لا يجوز في الأمم الناشئة أبدًا).

ثم أعاد ما ذكره في أكثر من رسالة، وهو:

(أن هذه الأحزاب المصرية الحالية أحزاب مصنوعة أكثر منها حقيقية: وأن العامل في وجودها شخصي أكثر منه وطني: وأن المهمة والحوادث التي كونت هذه الأحزاب قد انتهت، ويجب أن ينتهي هذا النظام بانتهائها).

ومع إعلان الإمام البنا: أن موقفه من الحزبية رأي خاص له لا يفرضه على أحد، فالواقع أن هذا هو الرأي الذي ساد بين الإخوان، وجرى عليه فقههم وتربيتهم.

حسن البنا يرى: أن الإسلام لا يقر الحزبية:

ثم قال الإمام: (وبعد هذا كله أعتقد أيها السادة: أن الإسلام وهو دين الوَحدة في كل شئ، وهو دين سلامة الصدور، ونقاء القلوب، والإخاء الصحيح، والتعاون الصادق بين بني الإنسان جميعًا فضلا عن الأمة الواحدة والشعب الواحد: لا يُقرُّ نظام الحزبية ولا يرضاه ولا يوافق عليه، والقرآن الكريم يقول: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا[آل عمران:103]، ويقول رسول الله : "هل أدلكم على أفضل من درجة الصلاة والصوم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البَيْن، فإن فساد ذات البَيْن هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر؛ ولكن تحلق الدين"[3].

وكل ما يستتبعه هذا النظام الحزبي: من تنابز وتقاطع، وتدابر وبغضاء، يمقته الإسلام أشد المقت، ويحذر منه في كثير من الأحاديث والآيات، وتفصيل ذلك يطول وكل حضراتكم به عليم)[4].

طلب حل الأحزاب المصرية:

وقد عاد إلى موضوع الأحزاب، في كتاباته في جريدة (الإخوان المسلمون) اليومية، عندما تحدَّث عن مشكلات النظام الإسلامي السياسية والاقتصادية، وعن الدستور والقانون والأحزاب، ثم قال:

(ولا أدري إذا كان الأمر كذلك، فلا ندري ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم: هذه الشِيَع والطوائف من الناس التي تسمي نفسها الأحزاب السياسية؟

إن الأمر جَدُ خطير، ولقد حاول المصلحون أن يصلوا إلى وحدة ولو مؤقتة لمواجهة هذه الظروف العصيبة التي تجتازها البلاد، فيئسوا وأخفقوا. ولم يعد الأمر يحتمل أنصاف الحلول، ولا مناص بعد الآن من أن تُحلَّ هذه الأحزاب جميعًا، وتُجمع قوى الأمة في حزب واحد يعمل لاستكمال استقلالها وحريتها، ويضع أصول الإصلاح الداخلي العام، ثم ترسم الحوادث بعد ذلك للناس طرائق في التنظيم في ظل الوَحدة التي يفرضها الإسلام)[5]اهـ.

وقفة نقد وتحليل:

كان هذا هو رأي الإمام البنا وخلاصة فكره في قضية الأحزاب والحزبية، فهو لا يرى التعددية الحزبية، بل يرى النظام الحزبي في أساسه يتعارض مع التعاليم الإسلامية، لأنه يقوم على التفرق والاختلاف، والإسلام يدعو إلى التوحد والإئتلاف. ولم يكن عنده مانع من قبول نظام الحزب الواحد!

وأكدَّ ذلك لديه: حِدَّة الخلاف والتفرق والخصومة، التي كانت سائدة بين الأحزاب المصرية في ذلك الوقت، وأنها لم تكن خلافا على مبادئ وأفكار، بل على مغانم وأشخاص.

ولهذا دعا بصراحة إلى حلِّ الأحزاب القائمة كلها، والاستعاضة عنها بتكتل أواتحاد يضم الجميع، ويعمل لصالح الوطن.

ولو أن نقد الأستاذ رحمه الله، اقتصر على الأحزاب وزعمائها، ووجوب تبديلها بما هو خير منها، مع الإبقاء على التعدد الحزبي، باعتباره مبدءا لا يستغنى عنه، ما خالفناه فيما ذهب إليه، ولكن الخطر فيما قاله، في دعوته إلى إلغاء النظام الحزبي في ذاته، وإنكاره لتعدُّد الأحزاب، وأنه ضد الإسلام.

وأعتقد أن ما قاله في رسائله كان له تأثيره في رجال ثورة 23 يوليو، وفي جمال عبد الناصر خاصة، الذين ألغوا الأحزاب، والنظام الحزبي في مصر، وجمعوا الشعب كله -فيما زعموا- تحت راية (الاتحاد القومي) ثم (الاتحاد الاشتراكي) فيما بعد، وهو الذي انتهى بمصر إلى ديكتاتورية طاغية، حكمت البلد بالحديد والنار، وأخرست صوت كل معارض، وقادت كل من قال: لا، إلى السجون والمعتقلات، بل ربما إلى المشانق والمقاصل.

ولم يكن الأستاذ البنا -قطعا- يقصد إلى هذا، ولكن هذه نتيجة إلغاء التعددية، وانفراد الرأي الواحد أو الحزب الواحد بالحكم والتوجيه والتأثير. وهو اجتهاد منه رضي الله عنه، يؤجر عليه، ولكن الأيام أثبتت خطأه، وأن الخير كل الخير في التعددية، وهو الموافق للنظام الكوني كله، فهو يقوم على التعددية في كل شيء: تعدُّد الأجناس: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا [الحجرات:13]، وتعدُّد الألسنة، وتعدُّد الألوان: وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ [الروم:22]، وتعدُّد الأديان: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [يونس:99]، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ [هود:118]، أي للاختلاف خلقهم. ولا غرو أن خالفت أستاذي وإمامي حسن البنا -كما خالف تلاميذ أئمتنا الكبار (أبويوسف، ومحمد، وزفر): إمامهم الأعظم- وانتهيت إلى أن التعدُّد مشروع.

وكان من أبرز الأدلة التي سقتها من قديم على شرعية التعدُّد: أن سيدنا عليا رضي الله عنه، أقرَّ وجود جماعة (الخوارج) وهم حزب معارض، له تجمعه، وله قيادته، وأفكاره المعروفة المخالفة لرأي أمير المؤمنين علي وفكره، وقد قاتلوه قبل ذلك، وزعموا أنه حَكَّم الرجال في دين الله، ولا حُكْم إلا لله!

وحينما جابهوه بقولهم: لا حكم إلا لله، قال كلمته التاريخية البليغة: كلمة حق يراد بها باطل!

ثم قال لهم: لكم علينا ثلاث: ألا نمنعكم مساجد الله تصلون فيها معنا، وأن يكون لكم حقكم في الفيء إذا كانت أيديكم في أيدينا وسيوفكم مع سيوفنا، وألا نبدأكم بقتال[6].

وقد ناديت منذ سنين طويلة بمشروعية تعدُّد الأحزاب في الدولة الإسلامية، وكتبت في ذلك فتوى[7]، حين سئلت عن الموضوع، وقلت كلمة تناقلها الدعاة والإعلاميون، وهي: أن تعدُّد الأحزاب في السياسة أشبه بتعدُّد المذاهب في الفقه. فالأحزاب إنما هي مذاهب في السياسة، والمذاهب إنما هي أحزاب في الفقه!!

وكانت هذه الأفكار في المجتمع الإخواني -إلا قليلا منهم- في أول الأمر مرفوضة، لما رسخ في أذهانهم من قبل، من جرَّاء التربية السياسية التي توارثوها عن إمامهم البنا رضي الله عنه.

ولكن بمزيد من اللقاءات والحورات، كتابة ومشافهة، وبحكم الواقع وتأثيراته، وما خَبِره الإخوان أنفسهم من جناية تحكم الحزب الواحد على حياتهم وحريتهم ودعوتهم: استجاب جمهورهم إلى فكرة التعدُّد، بل اقتنعت القيادة بالفكرة، وأصدر مكتب الإرشاد قرارا تاريخيا في ذلك[8]، يدل على حيوية الجماعة، وتحررها من الجمود والتقليد، وأن الحق أحق أن يتبع، وإن خالف رأي مؤسس الجماعة رحمه الله.



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رسالة (المؤتمر السادس) صـ 214، 215 من مجموع الرسائل.

[2]- رسالة (المؤتمر الخامس) صـ 146، 147 من مجموع الرسائل.

[3]- رواه أحمد في المسند (27508) وقال محققوه: إسناده صحيح، وأبو داود في الأدب (4919)، والترمذي في صفة القيامة والرقائق والورع (2509)، وقال: حسن صحيح، وابن حبان في صحيحه كتاب الصلح (11/489) عن أبي الدرداء.

[4]- من رسالة (مؤتمر طلبة الإخوان) صـ 165 – 168 من مجموع الرسائل. طبعة بيروت.

[5]- من رسالة (نظام الحكم) صـ 327 من مجموع الرسائل.

[6]- رواه ابن أبي شيبة في المصنف كتاب الجَمَل (7/562) والطبراني في الأوسط (7/376)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/184) عن علي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف (6/364)، وضعفه الألباني في مختصر إرواء الغليل (2467).

[7]- انظر: كتابنا (فتاوى معاصرة) فتوى (تعدد الأحزاب في ظل الدولة الإسلامية) جـ2 صـ652، وأيضا: كتابنا (من فقه الدولة في الإسلام) فصل (تعدد الأحزاب في الدولة الإسلامية) صـ147 – 160 طبعة دار الشروق. القاهرة.

[8]- في مارس 1994م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:17 AM
(8)

حماية الأقليات والأجانب



والدعامة الثامنة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا: التركيز على حسن الصلة بغير المسلمين عموما، ما داموا مسالمين للمسلمين، وعلى المواطنين منهم خصوصا ممَّن يعيشون في دار الإسلام.

وقد لاحظنا أن حسن البنا تحدث عن الوَحدة الوطنية في مصر، وعن الوَحدة القومية بين بلاد العرب بعضها وبعض، وتحدث عن الوَحدة الإسلامية بين أوطان المسلمين في المشرق والمغرب، لتكون منها (كتلة إسلامية) تردُّ كيد العدو، وتشدُّ أزر الصديق.

وحين كان يتحدث عن الوَحدة الوطنية، كان تركيزه الأكبر على أسباب الخلاف التي تفرِّق الأمة، وتجعلها فِرَقا وشِيَعا، يخاصم بعضها بعضا، وتكيد بعضها لبعض، وذلك يتمثل في الأحزاب السياسية المتناحرة المتنافرة، المتهافتة على كراسي الحكم، وسلطان الوزارة أو المجلس النيابي، أو مجلس الشيوخ.

وقد يتعرض إلى الجمعيات الدينية وما بينها من خلاف على بعض الأمور التي تتعلق بفرعيات العقيدة، أو جزئيات الشريعة، أو تفصيلات السلوك. وكثيرا ما بيَّن أن الاختلاف في الفروع مطلوب، ولا مَفَرَّ منه، وأن الإجماع على الأمور الفرعية متعذِّر، متكئا على قاعدة المنار الذهبية: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه).

ولكني لم أجد البنا رحمه الله، في خلال حديثه عن الوَحدة: يتحدث عن الوَحدة بين المسلمين والأقباط المسيحين، إذ كانت العلاقة بين الطرفين فيما يبدو طيبة، ولم تَثُر هذه الفتنة الملعونة -فتنة الطائفية- في ذلك الوقت، بل كانت الوَحدة هي النغمة السائدة، وكانت الصلات الحسنة تجمع بين المسلمين والمسيحين بصفة عامة.

وكان الأستاذ البنا على علاقة طيبة بكثير من الأقباط في مصر، وكثيرا ما زار كنائسهم.

وكان في اللجنة السياسية العليا في المركز العام للإخوان -وخصوصا إِبَّان احتدام القضية الوطنية- اثنان من زعماء الأقباط المرموقين، وهما: وهب دوس، ولويس فانوس.

وأذكر أن الأستاذ البنا عندما كان يحضر في المؤتمرات الوطنية الكبرى التي كانت تعقد في عواصم المديريات (المحافظات) في مصر، لشرح المطالب الوطنية، التي تحدَّدت في جلاء الإنجليز، ووحدة وادي النيل: كان حريصا على أن يصطحب أحد إخواننا الأقباط المتخصصين في قضية (قناة السويس). فكان اسمه -كما أذكر- نصيف ميخائيل.

وحينما حضر إلى مؤتمر طنطا كان معه، وقدَّمه ليحدثنا عن هذه القضية المهمة، التي لم يكن الناس يتحدثون فيها، وعن حق مصر فيها، وعن تضحياتها التاريخية في حفرها وإنشائها، وعن تلاعب فرنسا وإنجلترا بها ... إلى آخره.

ولم يكن حرص الأستاذ البنا على اصطحاب هذا الأخ القبطي (نصيف ميخائيل) إلا ليكون رمزا على الوَحدة الوطنية، ودليلا على التسامح الإسلامي، وسدًّا لثغرة يتسلل منها الاستعمار عادة إلى التفرقة بين أبناء البلد الواحد (فَرِّق تَسُد).

وأذكر من مقالات مجلة (الإخوان المسلمون) الأسبوعية، مقالة بقلم حسان حتحوت، بعنوان: (أخي جرجس) تفيض حبًا وعطفًا على الإخوة الأقباط، وينقل عن حسن البنا: أنه كان أكثر الناس دعوة إلى الحب ونبذ الكراهية والبغضاء، ومما نقله عنه قوله: سنقاتل الناس بالحب!

ولم يتهم الإخوان يوما -وخصوصا في عهد حسن البنا- بأنهم دعاة عصبية طائفية، أو محرضون على فتنة.

وهذا سر ما لمستُه من عدم كتابة حسن البنا حول موضوع الأقلية القبطية في زمنه.

كل الذي وجدته: ما كتبه عن حماية الإسلام للأقليات عموما، وذلك في رسالة (نحو النور). وهي في الأصل خطاب بعث به إلى الملك فاروق ملك مصر والسودان، وإلى رفعة الرئيس مصطفى النحاس (باشا) رئيس الحكومة المصرية حينذاك، وإلى عدد من ملوك وأمراء وحُكَّام بلدان العالم الإسلامي، كما بعث به إلى عدد من الشخصيات الهامة والمرموقة في الأقطار العربية والإسلامية.

فكان مما جاء في هذه الرسالة تحت عنوان: (الإسلام يحمي الأقليات، ويصون الأجانب):

(يا صاحب ...

يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسًا لنظام الحياة، ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوَحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تمامًا، فإن الإسلام -الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها- قد احتاط لتلك العقبة وذلَّلها من قبل، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ[الممتحنة:8].

فهذا نصٌّ لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم.

وأن الإسلام الذي قدَّس الوَحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا[الحجرات:13].

ثم قدَّس الوَحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصُّب، وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا، في قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً[البقرة:136-138].

ثم قدَّس بعد ذلك الوَحدة الدِّينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:10].

هذا الإسلام الذي بُني على هذا المزاج المعتدل، والإنصاف البالغ: لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة , بل بالعكس، إنه أكسب هذه الوَحدة صفة القداسة الدِّينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط.

وقد حدَّد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم فقال تعالى بعد الآية السابقة: إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[الممتحنة:9].

وليس في الدنيا منصف واحد يُكرِه أمة من الأمم على أن ترضى بهذا الصنف دخيلا فيها، وفسادا كبيرا بين أبنائها ونقضا لنظام شؤونها.

ذلك موقف الإسلام من الأقليات غير المسلمة , واضح لا غموض فيه ولا ظلم معه.

وموقفه من الأجانب موقف سِلْم ورفق ما استقاموا وأخلصوا, فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم، فقد حدَّد القرآن موقفنا منهم بقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ[آل عمران:118-119].

وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج وأنجحه وأصفاه).

موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب

كما تعرَّض الأستاذ البنا إلى علاقة الإسلام بالغرب، وبالدول الغربية، فقال في نفس السياق: (وقد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية، وتعكِّر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر، وهو أيضًا ظنٌّ عريق في الوهم، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أم غيره، وإن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها، ما دام لا يمس حقوق الآخرين، فعلى ساسة هذه الدول جميعًا: أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.

فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً[الاسراء:34]، ويقول: إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ[التوبة:4], ويقول: فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ[التوبة:7]، ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[التوبة:6]، وهذا بالمشركين فكيف بالكتابيين؟

فالإسلام الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب: يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى، تضمن لهم حقوقهم. نقول إنه من خير أوربا نفسها أن تسودها النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى)[1].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- من رسالة (نحو النور) صـ 285، 286 من مجموع رسائل الإمام الشهيد.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:19 AM
خاتمة البحث



هذه معالم التربية السياسية عند الإمام البنا، إنها تربية جديدة تخالف التربية التي كانت تقوم عليها الأحزاب والمنظمات السياسية، إن صَحَّ أن كان لديها تربية من نوع ما. كما تخالف التربية التي كانت سائدة عند الجمعيات الدينية والطرق الصوفية في ذلك الوقت، حيث كان الاتجاه العام فيها: تحريم الاشتغال بالسياسة.

كانت تربية حسن البنا للإخوان: تربية إسلامية خالصة، لأنها تستمد مقوِّماتها ومفاهيمها من الإسلام وحده، ومعنى إسلامية التربية عند الإمام حسن البنا -رحمه الله: أنها إسلامية المصدر، وإسلامية الغاية، وهذا ما لا خلاف عليه، وإن كنا قد نخالفه في بعض الجزئيات التي يرى فيها رأيا، ونرى رأيا آخر، كما في قضية الحزبية، ووقوفه ضدها، وقضية التجنُّس بجنسية غير إسلامية، وتشديدة في تحريمها.

لكي نكون منصفين:

ولا بد لكي نقوِّم آراء الأستاذ البنا تقويما عادلا: أن نضعها في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين. كما أن الأستاذ في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس للحق، وثورة على الباطل، واندفاع في المواجهة.

مثال ذلك: رأي الأستاذ في التجنُّس بجنسية أجنبية، فهو يراه مُحرَّما من المحرَّمات القطعية، بل كبيرة من الكبائر الدينية، بل قد يؤدي بمرتكبه إلى الكفر الصريح، والرِّدة عن الإسلام.

هكذا أجاب حين سأله سائل عن نية الحكومة البريطانية إصدار قانون للجنسية لبعض مَن يقيمون في أرضها من الأجناس الأخرى. وبطبيعة الحال مَن يحمل جنسية أي بلد من البلدان، لا بد أن يكون مواليا لها، وأن يحترم نظامها، ويطيع أوامرها، وقد يحارب في جيشها مَن يحاربها أو تحاربه.

يقول الأستاذ في هذه الإجابة أو هذه الفتوى:

(مجرد تجنُّس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية: كبيرة من الكبائر، توجب مَقْت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس، قال رسول الله : "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"[1]، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهي قول الله تبارك وتعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران:28]؛ فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدي إلى أن يكون المؤمن، في صفِّ الكافر أمام أخيه المؤمن، وإن خيرا للمسلم أن يَدَع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً [النساء:100]، والله أعلم)[2].

وقد كتب الأستاذ مثل هذه الفتوى بعد ثلاث سنوات، في سياق آخر، حين أرادت إيطاليا التي كانت تحتل برقة وطرابلس الغرب وغيرهما من البلاد التي عرفت باسم (ليبيا)، وكانت تريد أن تُجنِّس الطرابلسيين وإخوانهم من أهل ليبيا بالجنسية الإيطالية، رغم أنوفهم، تريد أن تسلبهم جنسيتهم الأصلية، وتمنحهم جنسية المستعمر الغاشم.

ومن الواضح أن السؤال في هذه الصورة، غير السؤال في الصورة السابقة. ولكن الإمام رحمه الله أجاب إجابة عامة بتحريم التجنس بأي جنسية أجنبية. فهو يقول بعد الحمد والصلاة على رسول الله:

(فالذي نعلمه من دين الله تبارك وتعالى: أن التجنس بجنسية غير إسلامية لا يجوز في دين الله تبارك وتعالى، وقد قال رسول الله : "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفا ولا عدلا"[3]، والتجنس بجنسية غير إسلامية يدخل تحت الشطر الثاني من الحديث الشريف؛ فإن رضي المتجنس بالدخول في جنس الكفار ورأى ذلك أفضل من قوميته الإسلامية ... فهو كفر صُراح وخروج عن الدين، وإن لم يرض بذلك، ولكنه قَبِله -وهو يستطيع الخلاص منه- فهي كبيرة من أفظع الكبائر)[4].

وفتوى الأستاذ هنا في تحريم التجنُّس في الحالة المسؤول عنها: صحيحة بلا ريب، ولكن التعميم في التحريم هو الذي نتوقف فيه، ولا نوافق عليه.

وقد بني ذلك على أساس قد لا نسلِّم له، وهو تأويل حديث: "أو انتمى إلى غير مواليه"، حيث اعتبر التجنُّس انتماء إلى غير مواليه. والمراد به في الحديث: انتماء المعتق إلى غير مَن أعتقه، وهذا يترتب عليه حقوق في الميراث وغيره.

وقد علق الأستاذ جمعة أمين جامع هذه السلسلة من تراث البنا بقوله في حاشية فتوى التجنُّس بالجنسية الإنجليزية: (يجب على القارئ أن يستحضر الظروف التاريخية والسياسية التي زامنت صدور هذه الفتوى، وإلا فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال، كما قرر المحققِّون من علماء الأمة. وفي تلك الفترة كانت إنجلترا والدول الأجنبية تحتل معظم العالم الإسلامي، وكانت تجنِّد من يتجنَّس بجنسيتها في جيوشها، وتستخدمهم في إحكام قبضتها على تلك الدول، ومحاربة المسلمين فيها وإخضاعهم لسلطانها)[5].

وفي نهاية فتوى الطرابلسيين قال الأستاذ:

(ولقد عرض علينا مثل هذا السؤال بالنسبة لتجنس بعض التونسيين بالجنسية الفرنسية فذكرنا نحوا من هذا، وقد أفتى بنحوه علماء الإسلام، والكفر مِلَة واحدة، مَنَّ الله على المسلمين بالحرية وقرَّب يوم الإنقاذ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم).

وهنا علق جامع هذه السلسلة بقوله:

يوضح الشيخ القرضاوي ملابسات هذا الاتجاه في الفتوى فيقول:

(أخذ الجنسية من بلد غير إسلامي يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك في حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممَّن يحاربون الإسلام؛ ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسي أن أخذ الجنسية الفرنسية يُعدُّ خروجا ورِدَة عن الإسلام؛ لأن هذا سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد، ولكن في الأوقات العادية فالمسلم الذي يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوة ومَنعة؛ فلا يحق للسلطات طرده، ويكون له حق الانتخاب، مما يعطي قوة للمسلمين في هذه البلاد؛ حيث يخطب المرشحون ودَّهم، ولذا فحمل الجنسية ليس في ذاته شرًا ولا خيرًا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم، مثل أخذ الفلسطينيين خاصة الجنسية الإسرائيلية؛ فإن هذا يعد اعترافا ضمنيا بدولة إسرائيل، ولكن أخذ الجنسية في دولة من دول الغرب بغرض تقوية شوكة المسلمين هناك فلا حرمة في هذا)[6]اهـ.



الخلاصة:

أن التربية السياسية للأستاذ البنا: كانت تربية إسلامية متوازنة ومتكاملة، وكانت تربية إيجابية واعية، تقوم على الفهم لا التهريج، وعلى العمل لا الكلام، وعلى البناء لا الهدم، وعلى الحق لا الهوى، وعلى التضحية وإنكار الذات، لا على المغانم وإتباع الشهوات. وكان لهذه التربية الإيجابية ثمارها وفوائدها في الأنفس والحياة.

كان من ثمرات هذه التربية ما رآيناه من نتائج وآثار نفسية وفكرية وأخلاقية وعملية، تجلت في عالم الواقع، وعالم الأفكار والمشاعر؛ ومن ذلك:

أ‌- مطاردة عوامل اليأس والإحباط في الأمة، نظرًا للمحن والشدائد التي نزلت بها طوال القرون الماضية، حتى عهد الاستعمار، وما خَلَّفه من حكومات وطنية لم تحقق آمال شعوبها في الاستقلال الكامل، وتحقيق التنمية المطلوبة، والتقدم المنشود للأمة، وإقامة العدالة الاجتماعية، والكرامة الإنسانية، وخروجها من التبعية الفكرية والثقافية والاقتصادية والتشريعية للأجنبي، وغرس الأمل في قلوبها، بأن الغد لها، وأن النصر آت لا ريب فيه بمقتضى سنن الله تعالى.

ب‌- الطموح إلى الآفاق العالية التي تجلَّت في أنفس المؤمنين، والإيمان بأهداف كبرى في الحياة، لا يطمح إليها، ولا يفكر فيها إلا أصحاب الهمم الكبيرة، بمثل قول الإمام الشهيد في تحديد مراتب العمل أمام الأخ المسلم:

1. إرشاد المجتمع، بنشر دعوة الخير فيه، ومحاربة الرذائل والمنكرات، وتشجيع الفضائل، والأمر بالمعروف، والمبادرة إلى فعل الخير، وكسب الرأي العام إلى جانب الفكرة الإسلامية، وصبغ مظاهر الحياة العامة بها دائمًا، وذلك واجب كل أخ على حدته، وواجب الجماعة كهيئة عاملة.

2. وتحرير الوطن بتخليصه من كل سلطان أجنبي غير إسلامي سياسي أو اقتصادي أو روحي.

3. وإصلاح الحكومة حتى تكون إسلامية بحق، وبذلك تؤدي مهمتها كخادم للأمة وأجير عندها وعامل على مصلحتها، والحكومة إسلامية ما كان أعضاؤها مسلمين مؤدين لفرائض الإسلام غير متجاهرين بعصيان، وكانت منفذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

4. إعادة الكيان الدولي للأمة الإسلامية، بتحرير أوطانها وإحياء مجدها وتقريب ثقافتها وجمع كلمتها، حتى يؤدى ذلك كله إلى إعادة الخلافة المفقودة والوَحدة المنشودة.

5. وأستاذية العالم بنشر دعوة الإسلام في ربوعه: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ [الأنفال:39]، وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [التوبة:32].

ت‌- احتشاد الطاقات النفسية والعملية للأمة، وتفجير مكنوناتها المذخورة، لتحقيق تلك الأهداف العظيمة، من خلال الإيمان برسالة سامية، رسالة ربانية أخلاقية إنسانية عالمية، قدمت من قبل للبشرية حضارة ربطت الأرض بالسماء، ووصلت المخلوق بالخالق، ومزجت المادة بالروح، وجمعت بين الدين والدنيا.

ث‌- وجود الكتلة إسلامية ضخمة، تمتد من المحيط إلى المحيط، تعمل بالإسلام، وتعمل للإسلام، وتجاهد في سبيل الإسلام، فعبرت عن ذاتها، وعاشت لخير غيرها، رضيت بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالقرآن منهاجا. تآخت في الله على اختلاف أوطانها، واختلاف ألوانها، واختلاف ألسنتها، ولكن جمع بينها الإيمان، وربط بينها القرآن، فأمست قُرَّة أعين المؤمنين، وغُصَّة في حلوق أعداء الحق، وأنصار الإثم والعدوان.



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه أبو داود في الأدب (5115) عن أنس، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5987).

[2]- مجلة الإخوان المسلمين. السنة الرابعة. العدد (4). صـ11 بتاريخ 14 صفر 1355هـ الموافق 5 مايو 1936م، نقلا عن سلسلة (من تراث الإمام البنا) الكتاب الرابع. الفقه والفتوى صـ229، 230.

[3]- رواه البخاري في فضائل المدينة (1870) ، ومسلم في في الحج (1370)، وأحمد في المسند (615)، وأبو داود في المناسك (2034)، والترمذي في الولاء (2127) عن علي، ولفظه: "... ومن ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا"، قال النووي: (قوله : "من ادعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين" قال النووي: (هذا صريح في غلظ تحريم انتماء الإنسان إلى غير أبيه، أو انتماء العتيق إلى غير مواليه؛ لما فيه من كفر النعمة، وتضييع حقوق الإرث، والولاء والعقل وغير ذلك، مع ما فيه من قطيعة الرحم والعقوق). انظر: صحيح مسلم شرح النووي 4/3615. وشرح الإمام النووي هنا أبعد الحديث عن تأويل الأستاذ البنا له.

[4]- الفتوى منشورة في مجلة (النذير). السنة الثانية. العدد (8). صـ19. بتاريخ 20 صفر 1358هـ الموافق 16 إبريل 1939م، انظر: المرجع السابق.

[5]- سلسلة من تراث الإمام البنا. الكتاب الرابع (الفقه والفتوى) صـ229 طبعة دار الدعوة. الأسكندرية.

[6]- سلسلة من تراث الإمام البنا. الكتاب الرابع (الفقه والفتوى) صـ229

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:20 AM
نظرات في فكر الإمام المودودي

والمفكرون أنواع فمنهم الإقليمي أو المحلي، والمفكر العالمي الإنساني.. منهم المفكر الحر، الذي لا يتقيد بمبدأ، ولا يلتزم بفكرة.

ومنهم المفكر الملتزم بفلسفة عقلية معينة يفكر في إطارها، ويدور حول محورها. ومن هنا نجد في عصرنا المفكر الماركسي، والمفكر الوجودي، والمفكر المسيحي..... إلخ. كما نجد المفكر الإسلامي.

وقد فقد عالمنا الإسلامي في غرة ذي القعدة سنة 1399هـ الموافق 23/9/1979م مفكرا إسلاميا عالميا فذا، قلما يتكرر مثله في الأمم. ذلكم هو الأستاذ أبو الأعلى المودودي. مؤسس (الجماعة الإسلامية) في شبه القارة الهندية، وصاحب الكتب والرسائل التي ترجمت إلى شتى اللغات، وسرت مسرى النور في الكثير من الأقطار، وانتفع بها الألوف والملايين من أبناء الإسلام، ورجال الحركات الإسلامية في الشرق والغرب، وكانت لهم سلاحا في معركتهم الفكرية مع خصوم الإسلام في الداخل، وأعدائه في الخارج، كما كانت لهم مصابيح هداية في سلوكهم الحركي.

كما أثارت هذه الآثار الفكرية ـ على الجانب المقابل ـ حركة انتقاد من قبل أفراد وجماعات هنا وهناك، اختلفت غاياتهم وطرائقهم، كما اختلفت أصولهم ومنابعهم، ولكنهم اتفقوا على معارضة فكر المودودي، ودعوته، جزئيا أو كليا، وإن كان من الملاحظ أن جل المنتقدين للمودودي من داخل القارة الهندية، لا من خارجها، وهذا له أسبابه كما سنشير إلى ذلك بعد. ومما يدل على أن الخلاف ليس فكريا خالصا.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:22 AM
خصائص فكر المودودي

ولفكر المودودي خصائص تميزه، وسمات تشخصه وتحدده. وإذا أردنا أن نعرف هذه الخصائص والسمات، فلا بد أن نتعرف على الأرضية الفكرية التي سادت في الهند خاصة، وفي العالم الإسلامي عامة، في تلك الفترة التي برز فيها المودودي إلى ميدان الفكر، يجاهد بالقلم، ويحارب بالمنطق، وينازل الأقران والخصوم بالحجة والبيان. وذلك منذ أواخر النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وأوائل الربع الثاني من القرن العشرين الميلادي.

الفكر السائد في الهند عند ظهور المودودي:

أجل، فقد ظهر المودودي في إبان طغيان الحضارة الغربية والفكر الغربي على ديار المسلمين ـ بعد سقوط الخلافة العثمانية ـ وسيطرة الاستعمار عسكريا وسياسيا ثم فكريا عليها.

كان الفكر السائد في الساحة الإسلامية يتمثل في هذه الأنواع:

1- الفكر التقليدي:

الفكر (التقليدي) الجامد على القديم، الذي يرى أن الأول لم يترك للآخر شيئا، وأن باب الاجتهاد مغلق، وأن التقليد حتمٌ لازم، وأن التحرر من المذهبية الضيقة تحلل من الدين نفسه. أصحاب هذا الفكر يعيشون في مشكلات فكرية قديمة، ورثوها من علم الكلام القديم، ولم يعد لها بروز اليوم، حتى تستحق أن يقاتلوا عليها عدوا غير موجود. كما ورثوا من الفقه القديم قضايا انتهت، ولم ينتهوا هم منها. المهم أنهم يعادون كل جديد، ويرفضون كل تجديد، مغلقين بابا الاجتهاد، داعين لأن يبقى كل قديم على حاله، وإن تغير الزمان والمكان والإنسان. وليتهم وقفوا عند القديم الأصيل الحي، وإنما هو قديم المتأخرين، الذين قدر لهم أن يعيشوا في عصور الركود والتخلف و التراجع، ومن يدري لعلهم لو أدركهم عصرنا بمتغيراته لغيروا كثيرا من مواقعهم وآرائهم. فقد رأينا للشافعي مذهبين: قديما وجديدا، ورأينا أصحاب أبي حنيفة خالفوه في أكثر من ثلث المذهب. ورأينا مالك وأحمد تروى عنه في المسألة الواحدة روايات عدة، نظرا للتغير الزمان أو المكان أو الحال.

وقد هز حكيم الإسلام في الهند، ولي الله الدهلوي هذا الفكر من جموده، وأيقظه من رقوده، ولكن بقي كثيرون في الهند متمسكين بالقديم، عاضين عليه بالنواجذ، معتبرين أن ما ألفه متأخرو الحنفية في كتبهم هو غاية التحقيق، ونهاية التدقيق، ولا يجوز الخروج عنه بحال، ومحاولة ذلك تدل على التفلت من الدين، والانسلاخ من ربقة الكتاب والسنة.

2- الفكر الخرافي:

وكان في الهند الكبرى ـ كما كان في غيرها من بلاد الإسلام ـ كذلك لون سائد من التفكير له سوق نافقة، وتجارة رائجة، وله سدنته وأتباعه، وحلقاته المنتشرة بين جم غفير من الناس، ذلكم هو (التفكير الخرافي) الذي يزعم أهله الانتماء إلى التصوف، ويتمسح بالصوفية، وما هم من التصوف السني الحقيقي في شيء، إنهم في الحقيقة متخلفون عن الركب، جهلوا قوانين الكون وقوانين الشرع جميعا، وتخيلوا عالما غير مضبوط بسنن، ولا محكوم بنظام، يدعون فيه لأنفسهم أو لشيوخهم معرفة الغيوب، وكشف الكروب، وخرق العوائد، ولا يقتصر ذلك على الشيوخ الأحياء، بل الأموات أيضا، الذين يزورون أضرحتهم ومشاهدهم، ويطوفون حولها كما يطاف حول الكعبة، وينذرون لها النذور، ويذبحون لها الذبائح، ويستغيثون بالمقبورين فيها، لقضاء الحاجات، والخلاص من الملمات. ولم يجد هؤلاء العوام من يصحح لهم عقائدهم، ويصوب لهم مفاهيمهم، ويرشدهم إلى الدين الصحيح، بل وجدوا من مشايخ الدين من يزين لهم ما هم فيه من انحراف وضلال. والعوام يصدقون هؤلاء لما يزينهم من شارات أهل العلم والدين، وما يحفظون من حكم وأقوال تحرك القلوب، وتثير الشجون، وهم يسيطرون على العوام بادعاء الكرامات، وإيجاب الطاعة العمياء، حتى لقنوا أتباعهم: من قال لشيخه: لم؟ لم يفلح! والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل!! إنهم يستغيثون بالموتى، ويتبركون بقبورهم ـ بل يخترعون لهم قبورا ـ يدعونهم عندها أن يكشفوا عنهم الغم، ويزيحوا الظلم، ويعتقدون أنهم يضرون وينفعون، وينصرون ويخذلون.

وهم لا يقفون موقفا إيجابيا من مظالم ترتكب، أو منكرات تستعلن، أو فساد ينتشر في البر والبحر. وربما برروا سكوتهم على المنكر بأن من نظر إلى العصاة والطغاة بعين (الشريعة) مقتهم، ومن نظر إليهم بعين (الحقيقة) عذرهم!! فالشريعة عندهم شيء، والحقيقة شيء آخر.

إن عقيدة هؤلاء قد أفسدها الشرك والجبر، وعبادتهم قد أفسدها الابتداع والغلو، وأخلاقهم قد أفسدها الخنوع والسلبية، وعقولهم قد أفسدها التقليد الأعمى للآخرين.

هذا هو لون التفكير الذي غلب على جماعات كثيرة من أدعياء التصوف في كثير من بلاد المسلمين. ولكنه في الهند أكثر مساحة، وأعمق تأثيرا، نظرا لمجاورتهم للهندوس، سواء ممن اتخذوه تجارة، أو ورثوه كما يورث المتاع عن آبائهم وبيئتهم، ولم يزنوا معارفه وأحواله وأذواقه بميزان الكتاب والسنة، ولم يلتزموا بما التزام به كبار شيوخهم مثل (الجنيد) وغيره من التقيد بالقرآن والحديث.

يتحدث الشيخ عن الحالة الدينية في الهند الكبرى (الهند وباكستان وبنجلاديش) ويقول:

سرحوا النظر في ما عليه حال الناس الدينية في أي بقعة من بقاع بلادكم، ثم ارجعوا إلى التاريخ وابحثوا عن الدين الذي كان الناس يدينونه في هذه البقة قبل أن يأتيهم الإسلام، فستعلمون أنه توجد هناك كثير من العقائد والأعمال التي تشبه عقائد الدين المنقرض وأعماله إلا أنها في شكل آخر ولون غير لونه. فالبقاع التي كانت فيها الديانة البوذية قبل الإسلام مثلا، كان الناس يعبدون فيها آثار بوذا، فهنا سن من أسنانه، وهناك عظم من أعظمه. وثمة شيء آخر من أشيائه يعبده الناس ويتبركون به، وإنكم لتجدون اليوم أن الناس في هذه البقاع يعاملون مثل هذه المعاملة شعرا من أشعار النبي أو أثرا من آثار قدمه أو يتبركون بآثار بعض صالحي المسلمين وعابديهم. وكذلك إذا استعرضتم كثيرا من الرسوم والعادات المتفشية اليوم ببعض القبائل المتوغلة في إسلامها، ثم نظرتهم في ما يروج في البطون غير المسلمة لهذه القبائل نفسها من الرسوم والتقاليد، فقليلا ما تجدون فارقا بين هذه وتلك. أفليس ذلك مما يشهد شهادة ناطقة بأن الذين كان بيدهم زمام أمر المسلمين وشؤونهم الاجتماعية في القرون السالفة، قصروا في أداء واجبهم أيما تقصير، إذ لم يمدوا يد التعاون والمساعدة إلى الذين بذلوا جهودهم في نشر الإسلام بجهودهم الفردية، فقد انجذب مئات الملايين من الناس إلى حظيرة الإسلام متأثرين بدعوته، ولكن الذين كانوا سدنة لبيت الإسلام متولين أموره، لم يعنوا، في قليل ولا كثير، بتعليمهم وتربيتهم وتزكية حياتهم وإصلاح فكرهم، فلم يكتب لهم أن يتمتعوا ببركات الإسلام ونعم التوحيد حق التمتع ويقوا أنفسهم المضار التي هي نتيجة لازمة للشرك والجاهلية ثم ارجعوا ببصركم إلى ما كان عليه علماؤنا ومشايخنا في هذه القرون الماضية، فمما لا مجال فيه للريب والمكابرة إن كان فيهم نفر أسدوا إلى الدين خدمات جليلة كانت نافعة بالأمس ولا تزال نافعة إلى اليوم. إلا أن المشاغل التي شغلت معظم علمائنا وآلهتهم عن الجد في أمر الدين الحقيقي، كانت من قِبل أن كانوا يتناظرون في المسائل التافهة غير المهمة، ويجسمونها في نظر الناس ويوارون عنهم المسائل الهامة الجليلة، ويجعلون الخلاف أساسا لفرق مستقلة، ويجعلون التحزب والتفرق مضمارا للمجادلات والمخاصمات، ويقتلون أعمارهم في تعليم علوم المعقولات اليونانية وتعلمها، أما الكتاب والسنة فلم يكن لهم ولوع بدراستهما ولم يؤتوا حظا من معارفهما. ولذلك لم يتمكنوا من تعميم معارف القرآن والسنة وترغيب الناس في ارتياد مناهلها. وأما إن كان لهم بعض شغف بالفقه، فإنما ذلك إلى حد يعينهم على مجادلاتهم ومناقشاتهم في الجزئيات والفروع. إنهم لم يلتفتوا ولو أدنى التفات إلى التفقه في الدين بمعناه الشامل ولذا فحيثما كان لهم نفوذ أو تأثير، ضاقت وجهة نظر الناس في الدين.

فلا عجب إذا كنا قد ورثنا اليوم هذا الزرع الأخضر من المجادلات والمناظرات والتحزبات والفتن المستمرة.

وإن تعجب، فعجب من حال الصوفية، فإنكم إذا سرحتم النظر فيهم، لا تجدون من بينهم من عملوا بالتصوف الإسلامي الحقيقي وعلموه الناس إلا عددا يسيرا، أما معظمهم فكانوا يدعون الناس ويرشدونهم إلى تصوف كان مزاجا من الفلسفات الإشراقية والويدانتيه والمانوية والزرداشتية، وكانت طرق الرهبان والأحبار والإشراقيين والرواقيين اختلطت به اختلاطا، حتى لم تبق له علاقة بعقائد الإسلام وأعماله الخالصة إلا قليلا. ولقد كان عباد الله يرجعون إليهم مستهدين إلى الله، وهم يهدونهم إلى طرق معوجة وسبل زائفة. ثم لما خلف من بعدهم خلف، ورثوا، فيما ورثوا عن أسلافهم، مريدين وأتباعهم، ولم يبقوا مما كان بينهم من العلائق إلا على علاقة النذور والهدايا، دون الإرشاد والوعظ والتربية. وأكثر ما سعت له هذه الدوائر، ولا تزال تسعى له، هو: ألا يتسرب قبس من العلم الصحيح بالدين إلى (رؤوسهم وأتباعهم) حيث لمشيختهم النفوذ والتأثير، فإنهم يعرفون كل المعرفة: أنه لن يدوم لسحرهم ودجلهم تأثير في الناس إلا ما داموا جاهلين بدينهم.[1]

3- الفكر التابع للغرب:

يقابل هؤلاء أصحاب (الفكر الذَّيْلي). الفكر التابع للغرب، الممالئ للحضارة الغربية، الخاضع لنفوذها، السائر في ركابها، الراكع تحت قدميها. هؤلاء الذين سميتهم (عبيد الفكر الغربي) فليسوا مجرد تلاميذ لهذا الفكر الدخيل، فإن التلميذ يناقش أستاذه، ويأخذ منه، ويرد عليه. وإنما هم عبيد حقا له، وقفوا منه موقف الانحناء والتسليم بكل قضاياه، ورأوا وجوب نقله إلى أمتنا بعُجَره وبُجَره، لأن الحضارة في نظرهم لا تتجزأ، فلا يجوز أن يؤخذ منها الجانب العلمي أو التكنولوجي دون الرجوع إلى جذورها الفكرية والفلسفية، وأصولها الأدبية والنفسية.

ولا غرو أن نادى مناديهم في مصر بأن سبيل النهضة واضحة بينة، وهي أن نسير سيرة الأوربيين في حضارتهم، خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب، ومن ظن غير ذلك فهو خادع أو مخدوع!!

وما نودي به في مصر نودي بمثله في الهند وغيرها في بلاد الإسلام. وظهر في الهند دعاة كبار ينادون جهرة باتباع الحضارة الغربية، مثل السيد أحمد خان وغيره.

وهؤلاء قد فقدوا كل ثقة بدينهم، وبتراثهم وأمتهم، ولم يعودوا مسلمين إلا بالوراثة والأسماء. ولهذا يجب ألا يعتبر تفكير هؤلاء في عداد الفكر الإسلامي. فهو في الحقيقة فكر غربي محض، وإن كتب في بعض الأحيان بلغة شرقية. فلا فرق في الحقيقة بين فكر هذه الطائفة وبين فكر المستشرقين إلا أن هذا هو الأصل، وذلك هو الصورة، فهم يتبعونه شبرا بشبر، وذارعا بذراع!

وينقسم أصحاب هذا الفكر عادة إلى يمين ويسار، ولكنهم في النهاية عبيد الفكر الغربي مهما اختلفت مدارسه، وتنوعت وجهاته، وكلها في الواقع فروع لشجرة واحدة هي (المادية) في التفكير و(الحيوانية) في السلوك.

4- الفكر التبريري:

ويأتي بعد هؤلاء قوم أحسن حالا، وهم أصحاب (الفكر التبريري) أو (الانهزامي) وهؤلاء لا يرفضون الإسلام ولا يكرهونه، ولكنهم يشعرون بضغط الحضارة الوافدة عليهم، ويؤمنون من داخلهم بتفوقها ومقدرتها، ولذا يقعون فريسة للهزيمة النفسية أمام هذه الحضارة، شعروا بهذا أم لم يشعروا، وهم لهذا يحاولون تبرير الأوضاع التي فرضتها هذه الحضارة، وإلباسها (عمامة) شرعية، بإصدار الفتاوى والتصريحات والمقالات التي تعطيها حق البقاء باسم الإسلام، ومن ثم كانت محاولات تحليل (الربا) إذا لم يكن (أضعافا مضاعفة) أو إذا كان للإنتاج لا للاستهلاك. ومحاولات منع إباحة الطلاق، وتعدد الزوجات، ومحاولات تعرية المرأة المسلمة من حجابها الذي تميزت به، وسلخها من جلدها لتقليد المرأة الغربية حذو القذة بالقذة.

ومحاولات فسخ معنى (الجهاد) وإلغائه من الحياة الإسلامية، لتبقى الأمة الإسلامية فريسة لكل صائل لا مخلب لها ولا ناب.

ومن هؤلاء من يرى ما يرى في هذا الاتجاه مخلصا مجتهدا، وإن أخطأ في اجتهاده، ومنهم من يتخذ من آرائه وسيلة لإرضاء الحكام في الداخل، أو دوائر النفوذ في الخارج، فهو مستعد لتفريخ الفتاوى لتسويغ كل تصرف شاذ. يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا، ويشتري بآيات الله ثمنا قليلا!

5- الفكر الدفاعي:

وأفضل هؤلاء أصحاب (الفكر الاعتذاري) أو (الدفاعي) وهم الذين يفترضون الإسلام في (قفص الاتهام) قد أقيمت ضده الدعاوى العريضة بأنه أوجب كذا، وحرم كذا، وأحل كذا، وشرع كذا، مما لا يستسيغه العقل الغربي، أو العقل الشرقي المتغرب. وهؤلاء لا ينكرون ما جاء به الإسلام، ولا يبررون ما يخالفه، ولكنهم يتحدثون عنه بلغة المُدافع، ولهجة المعتذر، الذي يرى كأنما خط الحضارة الغربية هو الأصل. وكل ما خالفه جاء على خلاف الأصل.

وقد قال علماؤنا: ما جاء على الأصل لا يسأل عنه. أما ما خالف الفكرة الغربية فهو خلاف الأصل، فلا بد من تفسيره وتبريره والاعتذار عنه بعلة أو بأخرى.

ولا ريب أن انتصار الغرب عسكريا، وسيطرته اقتصاديا، ونفوذه سياسيا، وتفوقه علميا، وتغلغله في بلادنا فكريا: جعل هؤلاء ينظرون إليه نظرة فيها كثير من الإجلال والإكبار، على حين ينظرون إلى أنفسهم نظرة فيها كثير من الاستهانة والاستصغار.

6- فكر منكري السنة:

وبجوار هؤلاء وأولئك كان في الهند الكبرى،: حركة (منكري السنة) بزعم الاكتفاء بالقرآن، جاهلين أو متجاهلين: أن القرآن لا يُفهم بغير السنة، وأنها البيان النظري، والتطبيق العملي لكتاب الله. وقد كان لهم نشاط ظاهر، لفت الأنظار، وشغل الناس في الهند، وملأ الساحات بالجدل، والقيل والقال.

7- الفكر القادياني:

وأسوأ من هؤلاء: أولئك الذين اتبعوا (نبوة جديدة) بعد النبوة الخاتمة، شرعت لهم إبطال الجهاد في سبيل الله، وطاعة المستعمرين الكفار…. وصدق إقبال حين قال عن دعوة هؤلاء: إنها ثورة على النبوة المحمدية!

هؤلاء هم القاديانيون، الذين كان لهم نشاط ملموس، ولهم علم مرفوع، وصوت مسموع، يتمثل في كتب ونشرات، ورسائل ومحاضرات. وقد نشأوا في حضانة الاستعمار الإنجليزي، وصنعوا على عينه، وربوا على يديه، ونشطوا تحت أسنة رماحه.

ظهور المودودي وفكره:

في هذا الجو المزدحم بالمتناقضات، الحافل بالصراعات، والذي لم يكد أحد ينجو من رذاذه أو دخانه، حتى شاعر الإسلام في الهند، وفيلسوف المسلمين محمد إقبال، لم يسلم فكره من بعض الغبش الذي أثر فيه، فوجدناه يمدح عدو الفكرة الإسلامية، والأمة الإسلامية: كمال أتاتورك!!



--------------------------------------------------------------------------------

[1] موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه ص 148-151. نشر دار الفكر . بيروت.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:24 AM
سمات الفكر المودودي

وهنا قدر الله تعالى أن يظهر المودودي بفكره التجديدي الأصيل، يعرض الإسلام كما أنزله الله، لا كما يشتهيه الناس. الإسلام كما هو، وبما هو. لا يعتسف في تأويل، ولا يلجأ إلى تبرير، ولا يعتذر عن حكم جاء به الوحي، وصح نسبه إلى الإسلام، ولا يقيم معركة بين العقل والوحي. بل يجعل العقل في خدمة الوحي، فهما وبيانا وتعليلا.

1- الالتزام بالإسلام كل الإسلام:

لم يكن إسلام المودودي ـ الذي جند نفسه لتجديده ـ إسلام الجامدين من مقلدة المذاهب الذين رفضوا الاجتهاد والتجديد، ولم يعرفوا العلم إلا في كتب المتأخرين من علماء المذهب وما عدا ذلك فهو مردود.

ولم يكن إسلامه إسلام خصومهم الذين رفضوا المذهبية، ولكنهم وقعوا أسرى الشكلية والحرفية واللفظية، ولم تتسع آفاقهم لتفهم مقاصد الشريعة، واستيعاب روح الإسلام، وهم الذين سميتهم (الظاهرية الجدد) الذين نصبوا معركة بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية للشريعة.

ولم يكن إسلامه إسلام خصوم هؤلاء وأولئك من المخرفين من أتباع التصوف المنحرف الذين أفسدوا العقائد بالخرافات، وأفسدوا العبادة بالمبتدعات، وأفسدوا الأفكار والسلوك بالتربية السلبية التي تجعل المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل.

ولم يكن إسلامه إسلام دعاة العصرية من عبّاد الحضارة الغربية وعبيد الفكر الغربي، الذين غيروا قبلتهم من مكة إلى أوربة، وأرادوا أن يجعلوا من الإسلام ذيلا لحضارتها.

كان إسلام المودودي الذي يدعو إليه إسلاما خالصا لا يقبل الشركة ولا تشوبه شائبة، فلم يقبل في يوم من الأيام أن يشوبه باشتراكية أو ديمقراطية أو قومية. فلكل من هذه الدعوات وجهتها ومحتواها وغاياتها ووسائلها الخاصة. أما الإسلام فهو نسيج وحده، سابق عليها، متميز عنها بمضمونه، وأهدافه ووسائله، ويكفي أنها تمثل قصور البشر، وأهواء البشر، وهو يمثل كمال الله، وعدل الله: (صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة؟) البقرة: .

كان إسلام المودودي إسلاما شاملا، لا يقتصر على العقيدة وإن كانت هي أساس البناء، ومنها انطلق إلى نظرياته السياسية وغيرها. ولا يقف عند حد العبادة الشعائرية، بل ينطلق منها إلى جعل الدين كله عبادة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية من قبله.

لا يكتفي بالأخلاق، على الرغم من منزلتها في الدين: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". إنما الإسلام عنده (نظام كامل للحياة) فهو نظام عبادي، ونظام خلقي، ونظام اجتماعي، ونظام اقتصادي، ونظام سياسي. وقد وضح ذلك في رسائله وكتبه، ومنها رسالة (نظام الحياة في الإسلام).

هذه هي المزية الأولى لفكر المودودي: إنه ملتزم بالإسلام كل الإسلام بلا تنازل ولا مساومة.

2- المعاصرة:

وكانت المزية الثانية لفكر المودودي: أنه ينظر إلى الإسلام بعين، وإلى العصر بأخرى، فهو لا يعيش في الماضي معزولا عن الحاضر، بل يخاطب العقل المعاصر بلغته، ويحاجه بمنطقه، ويلزمه بمقتضى مسلماته الفكرية والعلمية. وهذا شأن الداعية الموفق الذي فقه معنى البيان في قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم [إبراهيم: 4].

وقد آتاه الله موهبة (التأصيل) و(التنظير) فهو ينظم الحبات المتناثرة في سلك يجعل منها عقدا، ويرد الجزئيات إلى الكليات، والفروع إلى الأصول، بحيث يستخرج منها الفكرة الكلية للإسلام أو ما يسمى (النظرية الإسلامية).

والذي يقرأ كتب المودودي ورسائله ومحاضراته يستبين بوضوح: أن الرجل يعيش في عصره، مطلع على مشكلاته، خبير بما يمور في مجتمعه من تيارات، مطلع على الحضارة الجديدة الغازية، وما تبهر به الجيل الجديد من إنجازات، بصير بما وراء مظهرها البراق من مخبر خبيث، فهو قارئ متعمق لمصادرها، مدرك جيد للأسس الفكرية والفلسفية والمعنوية لهذه الحضارة، واع لخصائصها ومشخصاتها، متبيّن لأمراضها وآفاقها، لا يخدعه العرض عن الجوهر، ولا الشكل عن المضمون، ولا ما تزدان به السطوح عما يجري في الأعماق.

3- المواجهة:

لم يسلك المودودي سبيل (المعتذرين) عن الإسلام، أو (المحامين) الذين تصوروه داخل قفص الاتهام ثم تولوا الدفاع عنه، أمام هجمات الحضارة الغربية ودعاتها من ليبراليين واشتراكيين.

أجل، لم يكن المودودي يوما في موقف الدفاع أو الاعتذار، أمام الحضارة الوافدة، والأفكار الدخيلة، والتيارات المنحرفة، بل كان موقفه المواجهة والهجوم. ولم يرعه هذا (الصنم الكبير) الذي وقف تجاهه الكثيرون مبهورين، وخر أمامه آخرون ساجدين، وهو صنم (الحضارة الغربية) التي بلغت أوجها بالتفوق العلمي والتكنولوجي.

فقد كان معتزا بإسلامه غاية الاعتزاز، مؤمنا بتفوق رسالته كل الإيمان، وكان أساس إيمانه أن ما وضعه المخلوق ـ بما فيه من قصور ذاتي وهوى غالب ـ لا يمكن أن يرقى إلى ما شرعه الخالق ـ الذي وسعت كل الخلق رحمته، ووسع كل شيء علمه (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 14.

وكان ـ كما ذكرنا ـ على معرفة كافية بعيوب الحضارة الغربية، ونقاط الضعف فيها، ومواضع الخلاف فيها لرسالة الإسلام، ولا غرو أن شن حملته على تلك الحضارة، ونقدها نقدا علميا أظهر عوارها، وكان أقدر من تصدوا لهذه المهمة الجليلة: مهمة إعادة الثقة بالإسلام في مواجهة الحضارة الغربية، وكان أحق بها وأهلها.

نقد الحضارة الغربية بقوة في (جانبها الاجتماعي) حين أصدر كتابه: (الحجاب) مبينا فيه فلسفة الإسلام في الاحتشام، ونظرته إلى المرأة والأسرة، التي تخالف جذريا نظرة الحضارة الغربية.

ونقد الحضارة الغربية بقوة في (جانبها الاقتصادي) حين ألف كتابه في (الربا) الذي يعتبر عصب النظام الرأسمالي الذي قامت عليه المدنية الغربية، وبين الحكمة من وراء تحريم الإسلام للربا إلى حد أن آذن القرآن فاعله بحرب من الله ورسوله.

كما بين من ناحية أخرى مزايا النظام الإسلامي في الاقتصاد، وكيف حل معضلاته في يسر، ووضع الأسس العادلة لحياة اقتصادية طيبة كما ظهر ذلك في رسالتَيْ: (معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام) و(أسس الاقتصاد في الإسلام مقارنا بالنظم المعاصرة).

وكذلك نقد المودودي الحضارة الغربية في جانبها السياسي، وإن رأى الكثيرون أنه أفضل جوانبها، لما وفرت فيه للفرد من حريات، وما حمت من حقوق وحرمات.

ربما كان عيب المودودي في هذه المواجهة: أنه ـ مبالغة منه في الحفاظ على هوية الأمة، وخصائص حضارتها، ومقومات رسالتها ـ اتخذ خط التشدد مع الحضارة الوافدة، ولم يسمح لنفسه بأي قدر من الملاينة والمرونة، كما فعل آخرون.

فرأيناه في الجانب الاجتماعي (في الحجاب): يوجب النقاب، ولا يكتفي بضرب الخُمُر على الجيوب، بل يُلزم بتغطية الوجوه، حتى إنه لم يجز كشفها للعم والخال.

وفي الجانب الاقتصادي: لم يتبن ما تبناه دعاة آخرون من اتجاهات تتعلق بالعدالة الاجتماعية، والنزعة الاشتراكية، كما فعل الشيخ مصطفى السباعي في (اشتراكية الإسلام) وكما فعل الشيخ الغزالي في (الإسلام والمناهج الاشتراكية).

وفي الجانب السياسي: رفض الديمقراطية، وانتقدها انتقادا حارا، لأنه نظر إلى جذورها الفلسفية، واعتبرها حكما للشعب في مقابلة حكم الله، ولم ينظر إليها كما نظرت إليها في كتبي ودراساتي، حيث أخذنا منه: ضماناتها ووسائلها وآلياتها: في اختيار الحاكم وأهل الحل والعقد ومحاسبتهم وإسقاطهم عند اللزوم، واعتبار الديمقراطية حكم الشعب في مقابلة حكم الفرد، فجوهر الديمقراطية هو أن تكون السلطة للأمة لا للحكومة، والديمقراطية في المجتمع المسلم مقيدة بأن تكون السيادة للشريعة.

وفي مواجهة العلامة المودودي للحضارة: حدد النقاط الأساسية التي تخالف فيها الحضارة الغربية حضارتنا الإسلامية، وهي:

1- العلمانية.

2- القومية.

3- الديمقراطية.

وتحدث عن كل منها حديثا مستفيضا، قد نعرض له بعد.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:26 AM
المودودي مصلحا وداعية للتغيير

ليس بالضرورة كل مفكر مصلحا، فمن المفكرين من يغلب عليهم (التجريد) والإغراق في (النظريات) أو القضايا الجدلية، دون اهتمام كاف بالمجتمع وإصلاحه.

والفكر الإصلاحي هو الذي يهتم بالمجتمع ومشكلاته وجذورها، فيعرف فيه مكامن الداء، ويعرف كيف يصف له الدواء.

والمفكر المصلح، هو في الواقع طبيب اجتماعي، ينفذ بعين بصيرته إلى حقيقة أدواء الأمة، ولا يكتفي بالنظر إلى الأعراض، دون أن يتعمق في معرفة الأسباب، والغوص إلى الأعماق، فإذا عرف حقيقة المرض لم يجعل دواءه مجرد مراهم تعالج السطح الخارجي، دون اجتثاث الجرثومة الداخلية، أو تصف مسكنات تخفف الألم برهة من الزمن، ولا تستأصل الداء من جذوره.

وكان المودودي هنا طبيا نطاسيا لأمته، عرف حقيقة دائها وجرثومته الأصلية وحددها في كلمة واحدة هي: الجاهلية. بل هذه في نظره هي داء البشرية على مدار التاريخ. وما بعث الرسل إلا ليقتلعوا هذه الجرثومة من جذعها. سواء كانت جاهلية الجحود والإلحاد ـ وهي الجاهلية المحضة ـ أم جاهلية الشرك والخرافة. وهو صنو الأولى، والتي بعث الله رسله لاقتلاعها. أم جاهلية الرهبانية والحرمان.

وبين المودودي أن هناك صراعا تاريخيا دائما ـ كان وسيظل أبدا ـ بين الإسلام ـ دين الأنبياء جميعا، أي الإسلام بمعناه العام ـ وبين الجاهلية بكل معانيها. وأن مهمة المجدد الحقيقي: انتزاع القيادة من يد الجاهلية.

فالجاهلية ليست مرحلة زمنية انتهت بظهور الإسلام، كما يظن الكثيرون. بل هي أفكار ومشاعر وأوضاع ذات سمات معينة، فإذا وجدت وجدت الجاهلية ولو لبست أزهى الثياب. وعلامتها المميزة: البعد عن هداية الله، وحكم الله: (أفحكم الجاهلية يبغون؟ ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) المائدة: .

لم تكن الفكرة الإصلاحية عند المودودي فكرة جزئية ترقيعية، تبقي الأوضاع الجاهلية المستوردة على ما هي عليه، مكتفية بإدخال تعديلات تخفف من غلوائها، وتقربها من الإسلام، وتقف بالأمة المسلمة في منتصف الطريق.

كلا. لم يقبل المودودي الصلح مع الجاهلية، ولم يرض معها بأنصاف الحلول، أو اللقاء في منتصف الطريق.

بل كانت فكرته تهدف إلى التغيير الكلي، التغيير من الجذور، أي تغيير الفلسفة والأفكار والقيم والمعايير، قبل تغيير القوانين واللوائح.

أجل، كانت فكرته في الإصلاح (فكرة انقلابية) أو (ثورية) تهدف إلى تغيير المجتمع من جذوره، بعد هدم صروح الجاهلية من أساسها، لتبنى على أنقاضها حياة إسلامية متكاملة، حياة توجهها ـ فكريا ـ مفاهيم الإسلام، وتزكيها ـ روحيا ـ عبادات الإسلام. وتحكمها ـ قانونيا ـ شريعة الإسلام، وتحركها ـ عاطفيا ـ دعوة الإسلام، ومشاعر الإسلام. تضبطها ـ سلوكيا ـ أخلاق الإسلام، وقيم الإسلام، وآداب الإسلام.

وكان من رسائله الشهيرة: رسالة (منهاج الانقلاب الإسلامي) الذي نقل إلى العربية في الأربعينيات من القرن العشرين.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:28 AM
الجانب الحركي في فكر المودودي

وميزة أخرى للمودودي بين المفكرين: أنه لم يكن مجرد مفكر أكاديمي، أو مصلح نظري، يعيش في برج عاجي، أو في صومعة منعزلة، يفرغ فكره الإصلاحي على الورق، ثم لا يتحمل تبعة بعد ذلك، على نحوا ما قاله الأستاذ كامل مروّة مؤسس جريدة (الحياة) اللبنانية: قل كلمتك وامش![1]

لقد كانت للمودودي بجوار رسالته الفكرية العظيمة: رسالة عملية أخرى لا تقل عظمة عن الأولى، وهي: أن يحول فكره إلى حركة: وحركة إيجابية بناءة، تعمل على (تأليف الرجال) بعد تأليف (الكتب والرسائل). ذلك أن الفكرة الصحيحة لا تفرض نفسها على الناس بمجرد صحتها، إنما تنتصر بمن ينصرها من المؤمنين بها العاملين لها، المجاهدين في سبيلها، وقديما قال الشاعر العربي:

وشيمة السيف أن يزهى بجوهره وليس يعمل إلا في يدي بطل!

وقد أشار القرآن إلى هذه الحقيقة في خطاب الله تعالى لرسوله الكريم: (هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين) الأنفال: .

ومن ثم اتجه المودودي إلى إنشاء (الجماعة الإسلامية) التي تتخذ الإسلام لها نسبا وهدفا ورسالة، والتي تحددت مهمتها في هذه المبادئ:

قال الإمام المودودي في شرح أصول دعوته، وبيان أهدافها ومطالبها الأساسية[2]:

(إننا إذا أردنا عرض دعوتنا وإجمال غايتها وأهدافها في كلمات قليلة، يمكننا أن نقسمها إلى ثلاثة مطالب مهمة أساسية، وهاك بيانها:

1- دعوتنا للبشر كافة والمسلمين خاصة، أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذوا إلها ولا ربا غيره.

2- ودعوتنا لكل من أظهر الرضا بالإسلام دينا أن يخلصوا دينهم لله ويزكوا أنفسهم من شوائب النفاق وأعمالهم من التناقض.

3- ودعوتنا لجميع أهل الأرض أن يحدثوا انقلابا عاما في أصول الحكم الحاضر الذي استبد به الطواغيت الفجرة الذين ملأوا الأرض فسادا، وأن ينتزعوا هذه الإمامة الفكرية والعملية من أيديهم، حتى يأخذها رجال يؤمنون بالله وباليوم الآخر ويدينون دين الحق ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا).

ثم طفق المودودي يشرح هذه الأصول، أو المطالب الثلاثة، فيقول:

(إن هذه المطالب الثلاثة واضحة في نفسها وضوح الشمس في رابعة النهار، ولكنه من دواعي الأسف أنها انكسفت شمس معرفتها، وتوارقت حقيقتها بأستاذ من الجهل والغفلة والجمود، حتى إن المسلمين أنفسهم أصبحوا بحاجة إلى أن تشرح لهم هذه المطالب ويبين لهم مرماها ومغزاها، دع عنك ذكر غير المسلمين والذين لم يتسن لهم معرفة دعوته وتعاليمه.

شرح المطلب الأول:

هذا، وإن العبودية لله الواحد الأحد، التي ندعو إليها، ليس المراد بها أن يقر العبد بعبوديته لله تعالى جل شأنه ثم يبقى في حياته العملية حرا طليقا كما كان من قبل في حياته الجاهلية. وكذلك ليس المقصود من عبودية العبد لله أن يعتقد كونه تعالى خالقا للكون، رازقا لمن في الأرض مستحقا للعبادة من جميع خلقه، من غير أن يكون له سلطان في هذه الحياة الدنيا ومسائلها وشؤونها المتعددة المتشعبة. وأيضا ليس من معنى العبودية أن تقسم الحياة قسمين: قسم يتعلق بالدين أو الأمور الدينية، وقسم يتصل بالدنيا وشؤونها العديدة المتنوعة، وأن تنحصر العبودية لله في القسم الديني الذي لا يخرج، ـ حسب المصطلح الشائع ـ عن دائرة العقائد والعبادات والمسائل التي لها علاقة بالحياة الفردية والأحوال الشخصية. أما الحياة الدنيوية وشؤونها المتشعبة وفروعها المتنوعة من مسائل العمران والسياسة والاقتصاد والآداب والأخلاق، فلا سلطان فيها لله الواحد الأحد ولا رواج لأحكامه في دائرتها، والعبد حر في بابها يفعل فيها ما يشاء، ويضع لنفسه من نظم العمران والملك ما يريد، أو يختار من النظم الوضعية ما يحبه ويرضاه. فالقائمون بدعوة الإسلام في هذه البلاد ـ وطبعا في سائر أقطار العالم لأن الدين واحد لم يتغير، والكتاب واحد لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ـ يرون ويعتقد أن معاني العبودية هذه كلها باطلة من أساسها ويرون القضاء عليها وتصحيحها، على غرار ما يريدون استئصال نظم الكفر والجاهلية واجتثاث شرورهما من جذورهما، لأن هذه المعاني والتعابير هي التي شوهت وجه الحقيقة ومسخت فكرة الدين مسخا. والذي نراه ونجزم به ونعتقده وندعو الناس إليه أن العبودية التي دعا إليها رسل الله الكرام من لدن أبي البشر آدم عليه السلام إلى سيدنا وسيد المرسلين وخاتمهم محمد النبي الأمي ، المراد بها أن يقر العبد ويعتقد أن ما من إله إلا الله الفرد الصمد الحاكم بين عباده، السيد المطاع في بريته، المشرع للدستور والقوانين، والمالك لأمورهم، المتصرف في شؤونهم، المجازي على أعمالهم، وأن يسلم نفسه لذلك الله العزيز المقتدر، ويخلص دينه له تعالى وحده، ويذعن لعبوديته في كل شأن من شؤون حياته الفردية منها والجماعية، الخلقية منها والسياسية، الاقتصادية منها والاجتماعية. وبهذا المعنى ورد في التنزيل قوله عز من قائل: (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) البقرة: 208 الذي يأمر فيه عباده أن ادخلوا في دين الله كافة، بمجموع حياتكم، بحيث لا يشذ عن سلطانه شيء ولا يند عن دائرة نفوذه جزء من أجزائها. فلا يكن من شأنكم في ناحية من نواحي حياتكم أن تتجردوا من عبوديته الشاملة، فتحسبوا أنفسكم أحرارا في شؤونكم تختارون من المناهج والأوضاع ما تريدون أو تتبعون من النظم والقوانين الوضعية المستحدثة ما تحبون. إن هذا هو معنى العبودية الذي نبثه ونعممه وندعو البشر كافة، المسلمين وغير المسلمين، إلى قبوله والإيمان به والإذعان له.

شرح المطلب الثاني:

والمطلب الثاني من هذه المطالب الثلاثة: "أننا نطالب الذين يؤمنون بالإسلام أو يظهرون إيمانهم به أن يزكوا أنفسهم من شوائب النفاق وأعمالهم من التناقض".

فالمراد من النفاق، في هذه الكلمة أن يدعي الرجل الإيمان بنظام خاص ويتظاهر بالانتساب إليه والتمسك بأذياله ثم يعيش راضيا مطمئنا في نظام للحياة مناقض للنظام الذي يؤمن به. ولا يجد ويجتهد لقلب ذلك النظام المعارض لعقيدته التي يؤمن بها واستبدال النظام الصالح به، بل ربما يبذل جهوده ويستنفذ قواه ومساعيه في توطيد دعائم ذلك النظام الفاسد الجائر أو إقامة نظام باطل آخر يسد مسد ذلك النظام الجائر الذي يعيش في كنفه هادئا مغتبطا. فمثل هذا الطراز من الناس كمثل المنافق، فإن الإيمان بنظامه للحياة ثم الاطمئنان بنظام آخر مناقض له، شيء يمجه السمع ويأباه العقل ولا يرضاه الشرع. فمن مقتضيات الإيمان الأولية أن يود المرء من صميم فؤاده أن تكون كلمة الله هي العليا وأن يكون الدين كله لله وأن لا يبقى في الأرض منازع ينازع حامل لواء الإسلام في دعوته وأداء مهمته تجاه البشرية، وأن لا يهدأ له بال ولا يقر له قرار إذا رأى ما يصيب ذلك الدين في صميمه أو ينقض شيئا من سلطانه أو دائرة نفوذه، وكذلك من أمارات الإيمان أن يظل الرجل قلقا مضطربا لا يهنأ له بال ولا يطيب له عيش حتى يرى ذلك النظام العادل قد استرد أبهته وسلطانه وعادت أعلامه خافقة وكلمته نافذة بين الناس. هذا من علامات الإيمان وأماراته التي لا يكابر فيها إلا متعنت أو جاحد. وأما أن يعيش المرء راضيا مقتنعا في ظلال النظم العصرية الباطلة التي لا سلطان فيها للدين، والتي جعلته منحصرا في دائرة ضيقة كمسائل الزواج والطلاق والإرث، التي لا تمس تلك النظم السائدة الجائرة ولا تتدخل في حدود إمرتها وسلطانها أما أن يعيش المرء مطمئنا بمثل تلك النظم، قانعا مغتبطا في كنفها ولا ينبض له عرق ولا يخفق له قلب، فلعمر الحق إن مثل هذه الصنيعة من أمارات النفاق ومن صميمه من غير شك. وربما يجد مثل هذا الرجل عونا ومساعدة من بعض الفقهاء والمشايخ ويبقى مسلما في سجل الإحصاء ودواوين الإفتاء؛ لكن روح الشريعة تأبى إلا أن تحكم على مثل هذه الصنيعة بالنفاق، ولو أفتى المفتون بخلاف ذلك، حرصا على المعاش الزهيد ومتاع الدنيا الزائل.

فالذي نريده من المسلمين، والذين يتظاهرون بالإسلام وندعوهم إليه، أن يخلصوا دينهم لله ويزكوا أنفسهم من شوائب النفاق. ومن حق هذا الإيمان أن يتمنى المرء في سويداء قلبه أن تكون نظم الحياة والملك ومناهج الاقتصاد والاجتماع التي جاءت بها رسل الله مرفوعة الرأس، عزيزة الجانب، عالية الذرى، نافذة الكلمة في الدنيا، دون أن ينازعها أحد أو يعوق عنها عائق، فكيف بمن رضي بها ويعيش في كنفها راضيا مغتبطا؟ أما أن يتجرأ على السعي وراء توطيد دعائم النظم الباطلة ورفع شأنها فذلك أعرق في الضلال وأشد ما يكون تماديا في الغي. أعاذنا الله وإياكم من شرور أمثاله.

وأما (التناقض) الذي نطالب المسلمين جميعا ـ من غير فرق بين من نشأ في بيت مسلم عريق ومن دخل في الإسلام حديثا ـ بتزكية أعمالهم من مظاهره، فهو أن يكون عمل الرجل مناقضا لما يدعيه بلسانه ويظهره في أقواله. كما أنه من التناقض في صميمه أن تختلف أعمال المرء باختلاف شؤون الحياة ويناقض بعضها بعضا. فليس من الإسلام في شيء أن يتبع الرجل أوامر الله ويتمسك بأهداب الشريعة في ناحية من نواحي حياته ويعصي أمر الله ويتعدى حدوده في شعبها الأخرى... ومن مقتضيات الإيمان أن يسلم المرء نفسه لله ويدخل بمجموع حياته في كنف الدين الحق، لا يعصي الله في شيء من أوامره ولا يصدر عنه شيء إلا من تلك العبودية الشاملة والاتباع الكامل لدينه وشريعته، ومن خصال المؤمن أن يكون مصطبغا بصبغة الله، لا يتأثر بشيء من مظاهر الدنيا الفاتنة ولا يتنكب الصراط السوي في شيء من حياته وأعماله. ومن علاماته أن يستغفر الله ويتوب إليه إذا بدرت منه بادرة تنم عن الخطأ والعصيان، أو حدثت منه فلتة قد تؤدي إلى الشر والطغيان. أما أن يدعي الرجل الإيمان بالله ويصلي ويصوم ويؤدي شعائر معينة محدودة، ثم يحسب نفسه حرا طليقا لا يتقيد بقيد ولا يذعن لأمر الله في دوائر الحياة العملية الأخرى، فذلك هو التناقض الذي ينافي العبودية. وما رأيك في هذه الشعوذة التي يرتكبها المسلمون اليوم في جميع أنحاء العالم؟ يتشدقون بالإيمان بالله واليوم الآخر ويتظاهرون بالإسلام ويزعمون الاتسام به، ولكنهم حينما يدخلون في معترك الحياة العملية ويخوضون غمار السياسة ويبحثون في مسائل الاقتصاد والاجتماع، لا تجد عليهم مسحة من تعاليم الإسلام ولا أثرا من آثار اتباعهم للدين الحق والشريعة الكاملة. أي شعوذة أكر من هذه وأشنع؟ يقرون صباح مساء بأنهم: "لا يعبدون إلا الله ولا يستعينون إلا به". وبعد ذلك لا يتحرجون أن يتبعوا كل ناعق ويدينون به. نظرية أو فكرة، وأن يخضعوا لكل جبار متكبر في أرض الله ويستسلموا لأمره ويذعنوا لجبروته.

فذلك هو التناقض وهذه علاماته. وهذه أسس جميع أمراض المسلمين الخلقية والاجتماعية. وما دامت فيهم هذه الأمراض الخلقية الفتاكة لا يرجى إبلالهه من مرض الانحطاط والذل والتقهقر، ولا أمل في انتشالهم من وهدتهم التي سقطوا فيها. ولا يزالون ينحدرون إلى هوة سحيقة من الشقاء والمهانة. ومما يذوب له القلب كمدا وحزنا أن علماء المسلمين ومشايخهم والمالكين لأزمة أمورهم جعلوهم يستيقنون منذ زمان أنهم يكفيهم من أمور دينهم أن يشهدوا شهادة الحق ويصلوا ويصوموا ويؤدوا المناسك والشعائر المحدودة المعينة، وأنه لا يضرهم شيء ولا يمنعهم من سبيل النجاة ولا يوصد في وجوههم أبواب الجنة إذا اقترفوا بعد ذلك ما شاؤوا من المنكرات أو اتبعوا من أرادوا من أئمة الكفر والضلال، أو اختاروا ما شاؤوا وشاءت أهواؤهم من الأفكار والنظريات الزائغة. وقد بلغت بهم الوقاحة والجرأة على الدين أن رأوا الاتسام بسمة الإسلام تكفيهم مؤونة القيام بواجبات الشريعة الملقاة على كواهلهم حتى إن أئمة الضلال منهم في هذا العصر قد تقدموا في خطوة أخرى وزعموا أن التسمي بأسماء المسلمين كاف لتدوين أسمائهم في سجل الإحصاء الرسمي، كأنهم هم الذين نقل القرآن عنهم: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة) البقرة: 80.

ومن نتائج هذا الداء العضال المتمكن من أجساد المسلمين وأرواحهم أن تراهم يدينون بالشيوعية والنازية والديمقراطية وأمثالها من النظريات المستحدثة المستوردة من الشرق والغرب، ويتبعون خطوات الظَلَمة الفجرة الذين يتكبرون في أرض الله بغير الحق، سواء أكانوا من قادة المسلمين أم غيرهم، ولا يتحرجون من ذلك، ولا قلامة ظفر، ولا يشعرون بأن هذه النظريات وتلك الآراء تناقض الإسلام. وهؤلاء الطغاة المكتبرون يناقض طريقهم طريق الإسلام، وأن مسالكهم المعوجة والصراط المستقيم على طرفي نقيض..

فمن أهم مبادئ دعوتنا التي نطالب بها كل مسلم: أن يكون حنيفا مسلما، منقطا إلى الله، متجردا من كل عصبية، صارفا بوجهه عن كل فكرة معارضة لفكرة الحق، وأن يظل مثابرا على ذلك مواصلا جهوده في الابتعاد عن الطرق المعوجة والمناهج الزائغة التي ما نزل الله بها من سلطان.

شرح المطلب الثالث:

ثم يقول:

إذا عرفتم هذا، فلا يخفى عليكم ما نريد بالمطلب الثالث من مطالبنا الثلاثة الأساسية وهو:

"ودعوتنا لجميع أهل الأرض أن يحدثوا انقلابا عاما في أصول الحكم الحاضر الذي استبد به الطواغيت والفجرة الذين ملأوا الأرض فسادا، وأن تنتزع هذه الإمامة الفكرية والعملية من أيديهم حتى يأخذها رجال يؤمنون بالله واليوم الآخر ويدينون دين الحق ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا".

فتلك نتيجة طبيعية لما أسلفنا من معاني العبودية الكاملة وإخلاص الدين لله وكون الأنفس طاهر من شوائب النفاق والأعمال بريئة من مظاهر التناقض، كما لا يخفى على اللبيب المتفطن أن ذلك لا يتأتى إلا بإحداث انقلاب عام في نظام الحياة الحاضر الذي يدور قطبه حول رحى الكفر والإلحاد والفسوق والعصيان، والذي يديره ويدبر أمره ويسير شؤونه رجال انحرفوا عن الله ورسوله واستنكفوا عن عبادته واستكبروا في أرضه بغير الحق. فما دامت أزمة أمور العالم بأيدي هؤلاء، وما دامت العلوم والآداب والمعارف والصحف والتشريع والتنفيذ والشؤون الدولية والمالية والمسائل التجارية والصناعية تتحرك دواليبها بتوجيهاتهم وتتمشى عجلاتها حسب إرشادهم ورغباتهم لا يمكن للمسلم أن يعيش في الدنيا مسلما، متمسكا بمبادئه، متبعا الشريعة الإلهية، منفذا لقوانينها في حياته العملية. فإنه من المستحيل أن يتبع الرجل الدين الإلهي الكامل المحيط بجميع نواحي الحياة وشعبها، وهو يعيش في بلاد تدين لقانون غير قانون الشريعة وتسير على منهاج غير المنهاج المرضي عند الله، بل يتعذر عليه أن يتعهد تربية أولاده وتلقينهم مبادئ الدين الإلهي وتعاليمه. وأن ينشئهم على الأخلاق المرضية والآداب الإسلامية الزكية، لأن نظام الكفر والإلحاد الذي يعيش في كنفه يسد في وجهه سبل التربية الإسلامية، والبيئة الكافرة التي يتنسم هواءها تأبى عليه إلا أن يحذو حذو القوم، ويتخلق بأخلاقهم ويتخلى عن مقومات دينه وخلقه تدريجيا.

وزد على ذلك أنه من واجب العبد المسلم المخلص لله أن يطهر أرض الله من أدناس الفساد والطغيان ويقيم فيها نظاما عادلا على دعائم الصلاح والرشاد.

ومن الظاهر البين أنه لا يتسنى الظفر بهذا المقصد ولا تنال هذه البغية السامية ما دام زمام أمور العالم بيد الطغاة والمفسدين في الأرض، يديرونه كيفما يشاؤون ويتصرفون في شؤونه حسب ما يريدون. وقد تحقق لنا بالتجربة في هذا الزمان أن المتكبرين في أرض الله بغير الحق السادرين في غلوائهم بغيا وعدوانا. هم العقبة الكبرى في سبيل إقامة نظم الصلاح والنَّصَفة، وأنهم هم الذين يحاولون دون توطيد دعائم السلام والعدل، وكذلك ثبت لنا باليقين والبرهان والمشاهدة أنه لا أمل في صلاح العالم ولا رجاء في استقامة الأمور على موازين الرشا والحق ما دام أولئك الطغاة المنحرفون في الله ورسوله يتحكمون في شؤون الدولة ويديرون أمورها ويشرفون على جليلها وصغيرها. فمن مقتضيات إسلامنا وعبوديتنا الخالصة لله الواحد الأحد أن نجد ونجتهد ونبذل الجهود المتواصلة والمساعي المتتابعة للقضاء على زعامة الكفر والضلال واجتثاث النظم الباطلة من جذورها وإحلال الإمامة العادلة والنظام الحق محلها.

وربما يسائلني القارئ في هذا المقام: فكيف السبيل إلى الانقلاب في الزعامة والإمامة؟ فالظاهر أن هذا الانقلاب لا يحصل بمجرد الأماني والأحلام المعسولة. ومن سنن الله في أرضه أنها لا بد لها من رجال يسوسون أمرها ويدبرون شؤونها.

وهذا التدبير وتلك السياسة بحاجة إلى صفات وخلق لا بد لكل من يريد إدارة شؤون العالم وتدبير أمرها من أن يتصف ويتحلى بها. وكذلك من سنة الله في خلقه أن يفوض تدبير أمور الأرض وتسيير شؤونها إلى من شاء من ذوي الصفات المطلوبة والكفاءات اللازمة، إذا لم تكن في أرضه جماعة مؤمنة صالحة متصفة بتلك الصفات ومتخلقة بتلك السجايا التي لا بد منها لكل من يتبوأ منصب الزعامة والإمارة. وأما إذا وجدت جماعة صالحة مؤمنة بالله ورسوله، متحلية بتلك الأوصاف والأخلاق اللازمة لا بد منها للقيام بالملك ولا مندوحة عنها في تسيير شؤون العالم... إذا وجدت مثل هذه الجماعة التي لا تتحلى بتلك السجايا اللازمة فحسب، بل تفوق فيها الطغاة المستكبرين الذين استبدوا بمناصب الأمر والحكم، فلا نرى المشيئة الربانية والسنن الإلهية بمثابة من حب الظلم والفساد أن تستأثر بأولئك الجائرين المفسدين في الأرض وتدع أزمة أمور العالم تبقى في أيديهم الآثمة الغاشمة، يعبثون بها كما يريدون وتريد أهواؤهم وشهواتهم. فلا تنحصر دعوتنا إذن في التمني والرجاء والابتهال إلى الله أن يقطع دابر الجور والفساد في الأرض ويفوض أمر دنياه إلى المؤمنين الصالحين من عباده، بل دعوتنا للعالم بأسره أن يعنى ويهتم بإعداد جماعة صالحة مؤمنة بالله ورسوله مستمسكة بالأخلاق الزكية الفاضلة في جانب، ومتصفة بالصفات والمزايا السامية، متحلية بالسجايا التي لا بد منها لتدبير شؤون الدنيا وتنظيم أمور العالم في جانب آخر، لا تتصف هذه الجماعة الصالحة بتلك المزايا والطباع فحسب بل تعلو وتفوق أئمة الكفر والضلال وأعوانهم ـ الذين تراهم مستبدين بأزمة أمور الدنيا اليوم ـ في تلك المواهب والخلال والمؤهلات اللازمة للاضطلاع بأعباء الملك وتدبير شؤون العالم.[3]



--------------------------------------------------------------------------------

[1] كان هذا عنوان مقاله اليومي في صحيفة (الحياة).

[2] من خطاب ألقاه الأستاذ المودودي تحت عنوان (الدعوة الإسلامية فكرة ومنهجا) في اجتماع الجماعة الإسلامية الذي عقد في قرية (دار الإسلام) بالهند، في شهر أبريل عام 1945م، والاجتماع كان يضم جميع أعضاء الجماعة في الهند آنذاك. (خليل الحامدي).

[3] انظر: (تذكرة دعاة الإسلام) ص 11-23.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:30 AM
مؤلف الكتب والرجال!

كان الأستاذ المودودي أحد الرجال القلائل الذين جمعوا بين الفكر والحركة، أو بين العمل العلمي والعمل التنظيمي والدعوي.

والمعروف أن الذين يشتغلون بالعمل الحركي والدعوي والسياسي، قلما يجدون وقتا للعمل العلمي الموثق الأصيل. وعذرهم أن مهمتهم تأليف الرجال لا تأليف الكتب، فهم إذا ألفوا الرجال، كما ينشدون، ألف الرجال الكتب المنشودة بعد ذلك.

نجد السيد جمال الدين الأفغاني قليل الإنتاج العلمي، لأن عمله الثوري والسياسي، وتعرضه للتنقل بين الأقطار، لم يدع له فرصة للكتابة والتأليف إلا ما كان من (الرد على الدهريين) ومقالات (العروة الوثقى) ونحو ذلك.

ونجد تليمذه وصديقه الأستاذ الإمام محمد عبده أغزر إنتاجا، وأعمق فكرا، وأوسع علما.

ونجد تلميذهما الإمام محمد رشيد رضا قد ملأ الآفاق علما.

وكذلك نجد الإمام الشهيد حسن البنا قد شغلته الدعوة والعمل الحركي منذ فجر شبابه، ومع هذا ترك كتابات كثيرة، بعضها رسائل، وبعضها مقالات، وبعضها بيانات ونشرات. وإن كانت للأسف لم تجمع بعد.

إلا أنه في أواخر حياته شعر بأن الجانب العلمي في الحركة يحتاج إلى تأصيل وتعميق، فأصدر مجلة (الشهاب) لتخلف (المنار) في رسالتها العلمية والفكرية التجديدية، وكان يحرر بنفسه أكثر أبوابها الأساسية: من التفسير، ومصطلح الحديث، والعقائد، والتاريخ، وأصول الإسلام كنظام اجتماعي.

وأحسب ـ ولا أتألى على الله ـ أن لو طال به العمر لخلف تراثا علميا له شأن. ولكن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.

وهنا نجد الإمام المودودي (ألّف) الرجال، و(ألّف) الكتب جميعا، ولم يشغله المجال الدعوي والحركي عن المجال العلمي والفكري، وترك لنا في كلا الميدانين ثروة مرموقة، انتفع بها المسلمون في أنحاء العالم.

فقد ترجمت كتب الأستاذ المودودي ورسائله إلى اللغات العالمية، وإلى لغات المسلمين المختلفة، واتسع نطاق النفع بها، والحمد لله.

من هذه الكتب: تفسيره القيم، الذي عكف عليه سنين طويلة، حتى وفقه الله لإتمامه، وقد سماه (تفهيم القرآن).

ومنها: الكتب التي تشرح الإسلام وأصوله، مثل: مبادئ الإسلام. الإيمان بالله واليوم الآخر.

ومنها: الكتب التي عالج فيها قضايا كبيرة تميز الإسلام عن الحضارة الغربية، والتي تتعرض لنقد الغربيين، بل لاتهامهم، مثل (الحجاب) و(الربا) و(الجهاد) و(نحن والحضارة الغربية).

ومنها: الكتب التي تشرح أصول دعوته وحركته، مثل: منهاج الانقلاب الإسلامي. النظرية السياسية. الدين القيم. شهادة الحق. نظام الحياة في الإسلام. الأسس الأخلاقية للحركة الإسلامية. واقع المسلمين وسبل النهوض بهم. موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه.

ومنها: الكتب التي تعالج مشكلات الحياة المختلفة على ضوء الإسلام، مثل: مشكلات الاقتصاد وحلها في الإسلام. ملكية الأرض في الإسلام. النظام الاقتصادي في الإسلام مقارنا بالنظم المعاصرة. تدوين الدستور الإسلامي. الحكومة الإسلامية.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:33 AM
الجانب الرباني في حركة المودودي

لم يكن الجانب الرباني ـ أو (الروحي) كما يسميه بعض الناس ـ مهملا، أو ضعيفا في دعوة المودودي وحركته، وتربية أفراد جماعته. كما يخيل ذلك لبعض الناظرين من بعيد، وذلك لغلبة الطابع العقلي على أتباع الأستاذ المودودي في كتبه ورسائله وخطاباته وتوجيهاته، وغلبة التوجه السياسي على حركة جماعته، واعتبارها جماعة سياسية.

بيد أن الإنصاف يقتضينا أن نقول: إن الرجل لم يغفل هذا الجانب، ولا كان في زوايا النسيان، أو على هامش الإدراك والشعور عنده، أو في تكوين جماعته، بل كان له شأن أي شأن في التوجيه العام، والتكوين الخاص. وبهذا لم يطغ (المودودي) المفكر، على المودودي (الداعية المربي).

وقد قال أبو الأعلى المودودي ردا على سؤال وجهه له أحد الصحفيين: إن الطريق أمامك صعب، وإن أَمَلَكَ في الإصلاح ضعيف، فماذا أعددت للمشاق والمصاعب التي ستواجهها في طريقك؟ فقال أبو الأعلى: أعددت للمعوقات: دينا، وللشدة: يقينا، وللظلم: صبرا، وللسجون والمعتقلات: قرآنا وذكرا، وللمشانق: (وعجلت إليك رب لترضى) طه: .

وبحسبنا أن نسجل هنا بعض فقرات من كتابه المنشور بالعربية تحت عنوان: (تذكرة دعاة الإسلام) حيث يبين فيه منهاج العمل للجماعة، والصفات اللازمة لكل عضو فيها.

ومن دلائل اهتمام المودودي بالجانب الرباني في دعوته، وتربية أنصاره وأتباعه على الإيمان به والحرص عليه، وجهاد الأنفس من أجله: ما كتبه عن الصفات اللازمة للعاملين في الحركة الإسلامية[1]، فقال:

(وأما أقل الصفات اللازمة التي يجب أن يكون القائمون بهذه الدعوة متحلين بها، فهي على ثلاثة أصناف:

صفات يجب أن توجد في كل فرد منهم بصفته الشخصية.

وصفات لا بد لهم منها لتكوين حياتهم الجماعية والمحافظة عليها.

وصفات يجب أن يكونوا عليها للمجاهدة في سبيل الله.

الصفات الفردية (جهاد النفس):

أما الصفة الأساسية من الصفات الفردية، فهي أن يقبل كل فرد منا على نفسه ويجاهدها حتى يجعلها مطيعة لله ورسوله، خاضعة لكل ما تتلقى عنها من الأوامر والنواهي، وذلك ما قد بينه الرسول بقوله: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله"[2] أي قبل أن تخرجوا لمقارعة أعداء الله ومقاتلتهم في العالم الخارجي، عليكم أن تبذلوا ما تستطيعون من الجهد المستمر لمقارعة ذلك المارد الذي هو كامن في داخلكم ولا ينفك يطالبكم بمعصية الله ورسوله والخروج على أحكامهما. فما دام يتربى فيكم هذا المارد وينزلكم على مطالبه المتنافية مع مرضاة الله، فإنه من العبث أن تشهروا الحرب على أعداء الله في الخارج، فإنه ما مثل ذلك إلا كمثل أن تكون في بيتكم زجاجة من الخمر وتحاربون الناس في الخارج لمنعهم من شرب الخمر، الحقيقة أن هذا التناقض لو وجد بين أقوالنا وأعمالنا، فإنه مدمر لكياننا مخنق لحركتنا ومهلك لحياتنا الاجتماعية، فعليكم أولا أن تستسلموا لله وتتجردوا عن كل حرية لذواتكم إزاء شريعته تعالى، ثم تخرجوا تطالبون الآخرين بطاعته.

الهجرة إلى الله:

ثم قال: (وبعد درجة الجهاد تأتي درجة الهجرة. ليس المعنى الحقيقي للهجرة أن تهجروا دياركم، وإنما هو أن تهجروا معصية الله، وتفروا منها إلى طاعة الله ومرضاته. والمهاجر الحقيقي إذا كان يخرج من بيته، فلأنه لا يجد في وطنه مجالا لقضاء حياته وفق أحكام الله ورسوله. أما إذا خرج رجل من بيته ومع ذلك لم يدخل في طاعة الله ولم يقلع عن معصيته؛ فإنما قد ارتكب حماقة وما استفاد شيئا مما كابد في هجرته من محنة ومشقة وهذا ما بينه الرسول في غير واحد من أحاديثه. قيل: "أي الهجرة أفضل يا رسول الله؟" قال: "أن تهجر ما كره ربك".[3] فواضح من هذا أن المرء ما دام مصابا بمعصية الله، فإن هجره لوطنه لا قيمة له ولا وزن عند الله، ولذا فإني أريد منكم أن تحاربوا القوى العاتية في داخلكم قبل أن تحاربوها في الخارج، وأن تهتموا بذات أنفسكم وتسخيرها لطاعة الله في المكره والمنشط قبل أن تبذلوا جهودكم لإدخال الكفار الاصطلاحيين في الإسلام، أو عليكم ـ إذا قلنا بكلمات أوضح ـ أن تكونوا كالفرس المربوط بالحبل إلى وتد مغروز بالأرض، فهو مهما جال، لا يرجع أدبا إلى ذلك الوتد، كما يقول : "مثل المؤمن ومثل الإيمان كمثل الفرس في آخيته. يجول ثم يرجع إلى آخيته" فمثل هذا الفرس يكون في شأنه مختلفا كل الاختلاف عن ذلك الفرس الطليق الذي يجول في كل ميدان، ويدخل في كل حقل وينقض بكل جشع على كل مكان يرى فيه كلأ أخضر. فعليكم أن تجردوا أنفسكم من صفات هذا الفرس الطليق وتروضوها على صفات الفرس المربوط بالحبل).[4]اهـ.

دعوة المجتمع إلى الله:

ثم بعد ذلك يحث المودودي أتباعه على سلوك طريق الدعوة إلى الله وهو، الطريق الذي سماه القرآن جِهَادًا كَبِيرًا في قوله تعالى لرسوله في سورة الفرقان: فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52]، وهو جهاد البيان والتبليغ والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وقول الحق وإن كان مرا.

ومن تنبيهات المودودي المهمة والنيرة هنا قوله لأتباعه:

(ولكن ينبغي أن لا يشرع في هذا الصراع والجهاد إلا بالعقلية التي يعالج بها الطبيب مريضه، فإنه في حقيقة أمره لا يحارب المريض وإنما يحارب ما فيه من المرض، ويكون كل سعيه متصفا بروح النصح والمواساة، فهو إن كان يجرّع المريض أدوية مُرة أو يجري العملية الجراحية في عضو من أعضائه، فعلى إخلاص منه ونصح للمريض لا على عداوة له، وإما يكون كل حنقه على المرض لا على المريض، فهكذا يجب أن تدعوا إخوانكم الواقعين في الغفلة والضلالة إلى طريق الرشد والهدى، فلا يشعرون أبدا بأنكم تنظرون إليهم بنظر الازدراء والاستخفاف أو أنكم تضمرن العداوة لأشخاصهم. وليجدوا فيكم المواساة والإخلاص والمحبة والأخوة الإنسانية. إنه لا يكون القيام بالدعوة الحقيقية ـ كما قلت لكم باختصار في مؤتمرنا السابق ـ بالمناظرات الخطابية والكتابية فإن هذه المناظرات طرق سطحية للدعوة، وضررها أكبر من نفعها، وإنما الطريق الحقيقي المجدي للدعوة أن تكونوا مظاهر مجسدة ونماذج حية للدعوة. فحيثما يقع عليكم نظر الناس، فليعرفوا من سمو سيرتكم وطهارة أخلاقكم: أن هؤلاء هم السالكون لسبيل الله، وفي ذلك قال النبي : "فإذا رُؤوا ذُكِر الله"[5] ا.هـ.[6]

وصايا وتوجيهات:[7]

وتحن عنوان (وصايا وتوجيهات) تحدث الإمام المودودي حديثا قويا عميق التأثير فقال:

(ويحلو لي أن أتقدم إليكم ـ ونحن في الجلسة الختامية من اجتماعنا السنوي الذي استغرق أربعة أيام ـ بطائفة من الوصايا والتوجيهات اللازمة التي لا بد لنا منها في مواصلة المعركة، كسلاح خلقي، وزاد روحي، حتى لا تتجه كل خطوة من خطواتنا في المستقبل إلا إلى الطريق الصحيح، وبصورة تقرّب إلينا غايتنا).

ويهمنا أن ننقل عنه هنا ما قاله عن ضرورة (الاتصال بالله) حتى لا يظن الظانون أن المودودي كان رجلا (عقلانيا) وكان صوت (الروحانية) عنده خافتا. وذلك ناشيء عن القراءة الناقصة للتراث المودودي.

الاتصال بالله:

قال المودودي:

إن أول شيء ما زال الأنبياء والخلفاء الراشدون وصلحاء الأمة يوصون به أتباعهم وأصحابهم عند كل مناسبة، هو أن يتقوا الله ويعمروا قلوبهم بحبه ويتقربوا إليه بطاعته وعبادته. وهذا ما أوصيت به رفاقي دائما ولا أزال أوصيهم به إذا ما سنحت لي الفرصة لذلك في المستقبل، اتباعا لسنة الأنبياء وأسوة بالخلفاء والصلحاء، فإن هذا ما يجب أن يكون مقدما على غيره، ما في ذلك شك. فالإيمان بالله مقدم على غيره في العقيدة، والاتصال بالله والتقرب إليه مقدم على سواه في العبادة، وخشية الله في السر والعلانية مقدم على سواه في الأخلاق والعادات، وطلب مرضاة الله مقدم على سواه في المعاملات والأعمال. وبالجملة فإن صلاح حياتنا إنما هو منحصر في أن لا يكون مقصودنا وراء كل ما نبذل من الجهود والمساعي إلا ابتغاء مرضاة الله، ولا سيما هذا الأمر الذي قد قمنا لتحقيقه بصورة جماعية، فإنه لا يمكنه أن يتقدم ويؤتي ثمراته إلا باعتمادنا على اتصالنا بالله سبحانه وتعالى، فسيكون قويا على قدر ما يكون اتصالنا بالله قويا محكما، وضعيفا على قدر ما يكون اتصالنا بالله ضعيفا.

من الظاهر الذي لا خفاء فيه أن كل عمل يقوم به الإنسان في هذه الدنيا، دينيا كان أو دنيويا، لا يحفزه عليه ولا يقدمه في سبيله إلا الغرض الذي لأجله يقوم بذلك العمل، ولا ينشأ فيه الجد والكد والجهد إلا إذا كان ذلك العمل آخذا عليه لبه ملتحما مع روحه وقلبه وكان متحمسا لتحقيقه في واقع الأمر. فالذي يعمل ـ مثلا ـ لنفسه، لا يمكنه أن يعبد نفسه بدون أن يكون فيه الأثرة وحب الذات، وهو على قدر ما يكون شديدا في حب النفس، يخدمها بكل إخلاص وحماسة وجد واجتهاد، والذي يعمل لذريته، يكون مأخوذا بحبها، ولأجل هذا الحب يضحي براحته وماله ونفسه في صلاح ذريته ولا يخاطر بدنياه فقط، بل يخاطر بآخرته أيضا في سبيل أن يترك ذريته بعده مترفلة في النعيم والرفاه وغد العيش، والذي عمل لأمته أو وطنه، يكون مشبعا بحبها، لذا يحتمل الخسائر والأضرار الفادحة ويعاني مصاعب السجن والاعتقال ومحنهما ويصل ليله بنهاره وقد يضحي بنفسه ونفائسه في سبيلهما. فأنتم إن لم تكونوا قد قمتم بأمر هذه الدعوة، لنفوسكم وأهوائكم، ولا يحملكم عليه غرض من أغراضكم العائلية ولا تطمحون من ورائه إلى مصلحة من مصالحكم القومية أو الوطنية، وإنما الذي تقصدونه وتطمعون فيه بقيامكم بأمر هذه الدعوة هو أن تظفروا بمرضاة الله في الدنيا والآخرة، فلا يعصبن عليكم إدراك أنه ما دامت علاقتكم بالله غير قوية، لا يمكن أن يكتب لهذا الأمر شيء من التقدم والرقي، وإنه لا يمكن أن يقترن بشيء من الجد والإخلاص والتجرد والحماسة، إلا إذا أصبحت كل مطامعنا مركزة على إعلاء كلمة الله. إنه لا يكفي أن تكون للمشركين في هذا الأمر علاقة بالله؛ بل يجب أن لا تكون لهم علاقة إلا بالله وحده، لا تكون علاقتهم به سبحانه وتعالى علاقة من علاقاتهم، بل يجب أن تكون هي وحدها علاقتهم الحقيقية الوحيدة، فيكون كل تفكيرهم متجها إلى أن لا تنقص علاقتهم بالله ولا يعتريها شيء من الوهن بل تتقوى وتزداد مع مرور الأيام.

لا خلاف بيننا أن علاقتنا بالله هي روح هذا الأمر وعماده، وإني أحمد الله سبحانه وتعالى وأشكره على أن ليس في جماعتنا أحد يغفل عن هذه الحقيقة، ولكن هناك طائفة من التساؤلات قد تقلق أكثر أعضاء الجماعة، هي: ما هو المراد الحقيقي بعلاقة الإنسان بالله؟ وكيف له أن يعمل على تقوية هذه العلاقة وتنميتها؟ وكيف له أن يتبين هل حقا هو متمتع بالعلاقة بالله، وإن كان فإلى أي مدى؟ وقد شعرت مرارا بأن أعضاء الجماعة ربما لا يعرفون لهذه الأسئلة جوابا واضحا، يجدون أنفسهم في صحراء لا معالم فيها ولا إشارات تبين لهم الطريق واضحا إلى غايتهم المقصودة، فلا يعرفون كم قطعوا من الطريق وكم من مراحل لا تزال أمامهم لقطعها، ولأجل هذا، فإن كثيرا منهم يضلون في طيات تصورات مبهمة، وبعضهم يميلون إلى طرق غير موصلة إلى غايتهم المقصودة، وبعضهم يتعذر عليهم التمييز بين الأمور المتعلقة بغايتهم من قريب أو بعيد، وبعضهم تعتريهم الحيرة والوجوم. ولذا فإني لا أريد اليوم الاكتفاء بنصيحتكم بأن تتصلوا بالله وتتقربوا إليه، بل سأحاول ـ على قدر جهدي وعلمي ـ أن أرد لكم على ما مر من الأسئلة:

معنى العلاقة بالله:

ثم يشرح المودودي مفهوم العلاقة أو الاتصال بالله تعالى، شرح المربي العارف البصير، فيقول:

المراد بعلاقة الإنسان بالله، على حسب القرآن الكريم: أن تكون حياته ومماته وصلاته ونسكه لله تعالى وحده قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] وأن يعبده مخلصا له الدين حنيفا.

وقد شرح النبي في عدة من أقواله هذه العلاقة بين العبد وربه بحيث لم يترك غبار على مفهومها. فإذا تتبعنا أقواله ، علمنا أن معنى العلاقة بالله: "خشية الله في السر والعلانية"[8] و"أن تكون بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك"[9] و"أن تلتمس رضا الله بسخط الناس"[10] خلافا لأن تلتمس رضا الناس بسخط الله. ثم إن هذه العلاقة إذا توثقت حتى يكون حب الإنسان وعداوته، ومنعه وعطاؤه، كله لله وحده، دون أن تشوبه شائبة من رغبة النفس أو كرهها، فمعنى ذلك أنه قد استكمل علاقته بالله "من أحب لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان".[11]

ثم عليكم أن تستحضروا في كل وقت من أوقاتكم دعاءكم الذي تدعون به كل ليلة في آخر ركعة من صلاتكم الوتر، أفلا تقولون: "اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونتسغفرك ونؤمن بك ونتوكل عليك ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد. وإليك نسعى ونحفد[12]، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحَق"[13] عليكم أن تتدبروا كلمات هذا الدعاء وتروا أي علاقة تقرن بإبرامها بينكم وبين الله في كل ليلة من لياليكم.

وقد انعكست صورة هذا العلاقة أيضا في ذلك الدعاء الذي كان يدعو به النبي الكريم إذا قام يصلي بالليل. فكان يقول في هذا الدعاء مخاطبا ربه جل وعلا: "اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت".[14]

طريقة توطيد العلاقة بالله:

ويزيد المودودي الأمر بيانا وتوضحيا في طريقة ترسيخ الصلة بالله، فيقول:

(أما تنشئة هذه العلاقة بالله، فليس لها إلا طريق واحد هو: أن يؤمن الإنسان بالله وحده ربا وإلها لنفسه ولسائر المخلوقات في السماوات والأرض، ولا يعقد صفات الألوهية وحقوقها وصلاحياتها إلا مختصة به سبحانه وتعالى، وأن يطهر قلبه من كل شائبة من شوائب الشرك. فإذا ما أتم الإنسان كل هذا على هذا الوجه انعقدت العلاقة بينه وبين الله تبارك وتعالى.

وأما توطيد هذه العلاقة وتنميتها فإنما تنحصر في طريقين: طريق الفهم والتفكر. وطريق العمل.

وتقويتها بطريق الفهم والتفكر هي أن تدرسوا القرآن الكريم والأحاديث النبوية الصحيحة عن كل فهم وتدبر مرة بعد أخرى، لتستعينوا بهما في معرفة ما يوجد بينكم وبين الله تعالى من وجوه النسبة من حيث الفطرة، ومن حيث الواقع، حتى إذا عرفتم هذه الوجوه واستعرضتم حالكم، فعليكم أن تنظروا أي وجه من هذه الوجوه قد حافظتم عليه، وإلى أي حد تحققون مقتضياته، وأي نقص تشعرن به في أنفسكم في شأنه، فعلى قدر ما يتقوى هذا الشعور فيكم، تزداد علاقتكم بالله تعالى استيثاقا.

فمن وجوه النسبة بينكم وبين الله ـ على سبيل المثال ـ أنكم عباده وهو معبودكم، ومنها أنكم خلفاؤه في الأرض، قد خول إليكم ما لا يعد ولا يحصى من نعمه وآلائه، ومنها أنكم لما آمنتم به فقد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة. ومنها أنكم مسؤولون أمامه وهو لا يحاسبكم حسب ظاهركم بل قد سجل عنده جملة حركاتكم وسكناتكم ونياتكم وإرادتكم. فهذه وكثير من أمثالها هي وجوه النسبة بينكم وبين الله تعالى، فعلى فهمها والشعور بها والوفاء بمقتضياتها تتوقف قوة علاقتكم بالله وتقربكم إليه. وإنكم على قدر ما تغفلون عنها ولا تتفكرون في الوفاء بمقتضياتها تبتعدون عن الله وتنفصم صلتكم عنه، وعلى قدر ما تكونون منتبهين إليها ساهرين على الاحتفاظ بها والاهتمام بشأنها، تكون علاقتكم به قوية عميقة.

إلا أن هذا الطريق الفكري لا يؤتي ثماره، بل لا يمكن التمسك به إلى مدة طويلة، ما لم يكن مستندًا إلى الطريق العملي، وهو الطاعة المخلصة للأحكام الإلهية، وبذل النفوس والنفائس في كل طريق يفضي إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. ومعنى الطاعة للأحكام الإلهية: أن تعملوا بكل ما أمر به الله تعالى، عن طواعية نفوسكم، وعلى منشط منكم ومكره، سرًا وعلانية، بدون أن تراعوا فيه غرضًا دنيوياً، وإنما تراعون فيه وجه الله عز وجل، وأن تنتهوا عن كل ما نهى عنه الله سبحانه وتعالى سرًا وعلانية، على كراهية ونفرة قلبية منكم، وأن لا يكون الباعث لكم على هذا الانتهاء خوفكم من مضرة دنيوية، ولكن خوفكم من الله تعالى وحده، وهذا ما سيرتفع بكم إلى درجة تقوى الله.

وأما ما سيرتفع بكم إلى درجة الإحسان بعد درجة التقوى هذه، فهو أن تعملوا لترقية كل فضيلة يحبها الله ورسوله،وإحباط كل رذيلة يبغضها الله ورسوله، وأن لا تضنوا في هذه السبيل بكل ما تملكون من نفوسكم ونفائسكم،وأوقاتكم وجهودكم، وقواكم الفكرية والقلبية، مع ملاحظة أن لا ينشأ في قلوبكم شيء من الزهو والاغترار بما تأتون به في هذه السبيل من أعمال التضحية والإيثار والفداء، ولا أن يمر بخلدكم أنكم قد صنعتم بها إلى أحد يداً، بل يجب أن تكون فكرتكم على كل حال أنكم مقصرون في أداء ما عليكم من حق خالقكم سبحانه وتعالى.

وسائل تنمية العلاقة بالله:

وإن اختيار هذا الطريق وسلوكه ليس بشيء هين، بل هو شعب من أصعب الشعاب يحتاج اجتيازه إلى قوة غير عادية. وفكر المودودي في الوسائل التي يمكن أن يستعان بها في تنشئة هذه القوة في الإنسان: من الصلاة بفرائضها ونوافلها، مع إحياء النوافل ما أمكن ذلك.

ومن ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا على كل حال، مع الاجتهاد في استحضار القلب ليوافق اللسان.

ومن إنفاق المال في سبيل الله، ومنه الزكاة، وليست هي كل المطلوب. وكذلك صوم رمضان والتطوع بعد رمضان (لعلكم تتقون).

مقياس العلاقة بالله:

ويبين المودودي لأنصاره ورجال دعوته (المعيار) الذي يعرفون به مدى علاقتهم بالله صعودا وهبوطا، قوة وضعفا، فيقول:

(أما كيف لكم أن تعرفوا مدى علاقتكم بالله وهل أنها في ازدياد وتقدم أم في نقص وتقلص مع مرور الأيام، فلا حاجة لكم لذلك إلى البشائر في النوم ومظاهر الكشف والكرامات ومشاهد الأنوار في الحجرات المظلمة لكل ذلك، فالله تعالى قد وضع في قلب كل إنسان آلة لمعرفة مدى علاقته بالله، فله أن يقيسها بهذه الآلة في حالة اليقظة وفي ضوء النهار في أية ساعة من ساعاته إذا شاء. استعرضوا حياتكم وتصرفاتكم ومساعيكم وكل ما تجيش به قلوبكم من العواطف والمشاعر والنزوات، ثم حاسبوا أنفسكم لتروا إلى أي حد أنتم صادقون مخلصون في بيعكم الذي عقدتموه بينكم وبين ربكم، بإيمانكم به وتصديقكم لكتابه ورسوله، وهل أنتم تتصرفون في ما عندكم من ودائعه تصرف الأمين أو تختانون فيها، وأي جزء من أوقاتكم وأموالكم ومواهبكم الفكرية تصرفونه للسعي في سبيله وأي جزء منها تصرفونه في أعمالكم وشؤونكم الأخرى، وكيف يكون من قلقكم واضطرابكم وحزنكم وألمكم لو حل المكروه في مصالحكم الشخصية، وماذا يبلغ بكم هذا القلق والاضطراب والحزن والألم عندما ترون الناس في الدنيا يخرجون على الله وشريعته خروجا سافرا وينتهكون حرماته علنا؟ فهذه وأمثالها من الأسئلة التي يمكنكم أن تلقوها على أنفسكم ثم تتلقوا منها جوابا في أي ساعة من ساعات ليلكم أو نهاركم، فتعرفوا مدى علاقتكم بالله أو قطيعتكم عنه؟ وأما البشائر والانكشافات والكرامات والأنوار والتجليات فلا يهمنكم اكتسابها، فإنه لا كشف أعظم من إدراك حقيقة التوحيد في متاعب هذه الدنيا المادية الخلابة، ولا كرامة أكبر من الاستقامة على جادة الحق إزاء ترغيبات الشيطان وذريته وترهيباته ومواعيدهم ووساوسهم، ولا مشاهدة للأنوار أحق للقدر والإجلال من الاهتداء لنور الحق، واتباعه في دياجير الكفر والفسق والعصيان والضلال المطبق على رؤوسنا اليوم، وإن أكبر بشرى يمكن أن يرتاح إليها المؤمن وهي: أن يقول: ربي الله، ثم يستقيم على صراطه المستقيم (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فصلت: .

إيثار الآخرة على الدنيا:

ثم يختم الإمام رحمه الله هذه الوصايا بوصيته الضرورية الأخيرة، فيقول:

وأريد أن أوصيكم بعد ذلك بأن تؤثروا الآخرة على الدنيا في كل علم من أعمالكم، وتجعلوا سعادتكم هي المقصود الوحيد من ورائه.

إن الذي نجد بيانه في غير موضع واحد من القرآن الحكيم: أن الدار الآخرة هي (دار القرار) وهي (دار الحيوان) أي هي المقام الأبدي السرمدي لحياة الإنسان، وإننا ما بعثنا في هذه الدنيا الفانية إلا للاختبار: مَنْ منا يثبت نفسه أهلا لوراثة جنة الله ونعيمها، مستخدما ما أوتي في هذه الدنيا من المتاع القليل، والتصرفات المحدودة والفرص الضيقة؟ ليس اختبارنا في هذه الدنيا في إبراز مهارتنا في تسيير الصناعات والتجارات والزراعات والحكومات، ولا في إنشاء الأبنية والشوارع، ولا في إحداث مدنية راقية رائعة، وإنما هو في أداء حق خلافة الله في ودائعه: هل نقضي هذه الحياة الدنيا متمردين عليه أم خاضعين لقانونه؟ وهل نعمل فيها تحقيقا لمرضاته أم تحقيقا لمرضاة أنفسنا ومرضاة أرباب من دون الله؟! وهل نبذل فيها جهودنا لتزيين الأرض حسب المعيار الإلهي أم نكثر فيها الفساد، ونهلك فيها الحرث والنسل؟ وهل نقاوم فيها القوى الشيطانية ونعمل على كسر شوكتها أم نستسلم لجبروتها ونخضع لقوانينها؟ إنه ما كان اختبار أبينا آدم في الجنة إلا في هذا الأمر. وهو الذي سيكون فيه اختبارنا لوراثة الجنة الأبدية في الآخرة. إذن فليس المقياس الحقيقي لفوزنا أو خسراننا أنه من أدى اختباره متربعا فوق كرسي للحكم ومن أداه معلقا على خشبة الشنق ومن منا كان اختباره بإعطائه سلطات عالية أو بإعطائه كوخا متواضعا. إن هذه الظروف المؤقتة الطارئة خلال فترة الاختبار إن كانت ملائمة للإنسان، فهي لا تدل على فوزه وسعادته، وإن كانت على عكس ذلك، فهي لا تدل على خسرانه وشقائه، وإنما الذي ينحصر فيه نجاحه وسعادته الأبدية في حقيقة الأمر هو أن يثبت نفسه في حياته الدنيا عبدا وفيا لله، متبعا لمرضاته أينما جلس من الأماكن ومهما أعطي من الوسائل لأداء الاختبار.

إخواني وسادتي! إن هذه الحقيقة التي وضعتها بين أيديكم، لا يكفي أن تفهموها مرة واحدة، بل إنه من الواجب عليكم أن تبذلوا كل جهودكم لتجعلوا أنفسكم تتذكرونها وتستحضرون مقتضياتها في أذهانكم دائما، وإلا فإنكم لا تأمنون أبدا أن تغفلوا عنها ولا تعملوا في الدنيا إلا غافلين عن الآخرة وجاعلين الدنيا أكبر همكم. والسبب في هذا أن الآخرة حقيقة وراء الحواس والمشاعر لا تشعرون بها في هذه الدنيا، وإنما تشعرون بها بعد مماتكم فلا يمكن أن تدركوها وتركوا نتائجها المرضية وغير المرضية إلا بالفكر والكد الذهني، وأما الدنيا ـ على العكس من هذا ـ فشيء تشعرون به، وتذوقون حلاوته ومرارته، وتمثل أمامكم نتائجه المرضية وغير المرضية في كل حين من أحيانكم، ولذا فهي تحاول دائما أن تغركم بأن نتائجها هي النتائج الحقيقية. إن آخرتكم إذا فسدت، فإنما تشعرون بشيء من مرارتها في ضمائركم بشرط أن تكون ضمائركم حية. وعلى العكس من هذا فإن دنياكم إذا فسدت، تشعر كل جارحة من جوارحكم بوخزتها، كما أنه يستشعر بها ويُشعركم بها كل من أولادكم وأقاربكم وأصدقائكم وعامة أفراد المجتمع، منفردين ومجتمعين. وكذلك إن الآخرة إذا صلحت، فإنما تشعرون بحلاوتها في ناحية من نواحي قلوبكم بشرط أن لا تكون هذه الناحية مصابة بالغفلة والشلل، وأما إذا صلحت الدنيا، فهي تنعش جميع وجودكم، وتستلذ بها كل حاسة من حواسكم. وتشارككم في الشعور بها جملة أفراد مجتمعكم. وهذا هو السبب في أن الإيمان بالآخرة وإن لم يكن صعبا من حيث هو عقيدة، إلا أنه من الصعب حقا أن تقضوا حياتكم كلها وفقا لمقتضياتها بجعلها وجهة وحيدة لنظركم وأساسا وحيدا لنظامكم للأخلاق والأعمال، وأن الاستخفاف بالدنيا باللسان مهما كان هينا فإنه ليس من السهل أبدا أن تجردوا قلوبكم عن حبها وفكرتكم عن طلبها. فهذه الكيفية ـ التجرد عن حب الدنيا ووطأتها ـ يتطلب التكيف بها إلى جهد كبير غير عادي ولا يمكنكم أن تحافظوا عليها في أنفسكم إلا بسعي متواصل.[15]اهـ.

أبو الأعلى والعنف:

ويرى المودودي: أن أقوى أنواع التغيير هو التغيير الفكري والنفسي، فالإنسان إنما يقاد من فكره ومن إرادته. وإذا كان الماركسيون يقولون: غير علاقات الإنتاج ووسائله يتغير التاريخ، فالمودودي يرى ما يراه القرآن حيث يقول: غير الأنفس ـ أو غير ما بالأنفس ـ يتغير التاريخ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم [الرعد: 11].

ولهذا لا يرى المودودي ضرورة لاستخدام السلاح أو العنف في التغيير المنشود، ولا يقبل التغيير عن طريق انقلاب عسكري.

ولقد مرت بالأستاذ المودودي وجماعته ظروف عصيبة، وتحديات عنيفة، واعتداءات شرسة، لم تتورع عن إراقة الدم عندما وجدت الفرصة. وكان يمكن أن تنهزم فكرة (الصراع السلمي) أمام هذه الهجمات العدوانية من خصوم الجماعة من حكام وأحزاب، لا تخشى خالقا ولا ترحم مخلوقا.

ولكن المودودي لم تلن قناته، ولم يحد عن مبدئه، وظل إلى آخر رمق يرفض أن يقاتل إلا بسلاح الفكر، وسيف الحجة والبرهان.

تطاول عليه بعض خصومه الحزبيين برهة من الزمن، وتناولوا شخص الأستاذ بكلمات وتصرفات ينفد معها صبر الحليم، وأراد بعض إخوانه يوما أن يردوا الأذى بأذى، ويدفعوا السيئة بمثلها، فيأبى الرجل كل الإباء. فلما قالوا له: يا أستاذ إنهم يؤذوننا فيك إيذاء عظيما! أجابهم بقوله: إذا آذوكم إيذاء عظيما، فعليكم أن تصبروا صبرا عظيما، بل صبرا أعظم!

وفي أوائل الستينيات كان الحكم العسكري الحاكم يضطهد الجماعة الإسلامية ويضيق عليها بكل الوسائل، ولكنه لم يجد مبررا يمنع به نشاط الجماعة، ويحول دون اجتماعاتها، فلما كان يوم اجتماع أركانها السنوي، حرضت السلطة الحاكمة من يطلق النار على المودودي عند خطابه السنوي المعتاد. ولكن الرصاصة أخطأته فقتلت عضوا آخر. وهنا قال بعض المقربين للأستاذ: ينبغي أن تجلس، ولا تقف لتتكلم، تفاديا لرصاص الآثمين. فكان جواب المودودي بكل بساطة ووضوح: إذا قعدت أنا فمن يقوم؟!

ورغم هذا كله لم يستشط غضبا، ولم يدفعه هذا الموقف وأمثاله بعده إلى اتخاذ العنف سبيلا.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] من خطاب الأستاذ المودودي ألقاه في الاجتماع السنوي للجماعة الإسلامية الذي عقد في دار الإسلام بالهند في شهر مارس 1944م. (خليل الحامدي).

[2]

[3]

[4] تذكرة دعاة الإسلام ص 45-47.

[5]

[6] تذكرة دعاة الإسلام ص 49،48.

[7] ألقى الأستاذ المودودي تلك الوصايا والتوجيهات في ختام الاجتماع السنوي الذي عقدته الجماعة الإسلامية في 13 من نوفمبر 1951م بمدينة كراتشي (خليل الحامدي).

[8]

[9]

[10]

[11]

[12] نحفد مضارع حفد أي نسرع ونخدم.

[13] هذا هو القنوت المأثور عن ابن مسعود رضي الله عنه، ويلتزم الأحناف قراءته بعد القيام من ركوع الركعة الثالثة في الوتر.

[14]

[15] راجع فصل (وصايا وتوجيهات) الفصل الخامس من (تذكرة دعاة الإسلام) ص 45-77.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:36 AM
المنتقدون لفكر المودودي وأصنافهم

لا يتصور في شأن رجل مفكر مجدد مؤسس حركة إسلامية، كالمودودي: له منهجه الأصيل، وطابعه الخاص، واستقلاله الفكري، ودعوته الانقلابية: ألا يكون له نقاد ومعارضون. وما من رجل عظيم في الماضي والحاضر إلا وقد انقسم الناس في شأنه، ما بين مادح وقادح. بل ما بين مغال في المحبة والمدح، ومسرف في البغض والقدح، شأن البشر في كثير من القضايا والمواقف، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم. ورضي الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقد قال: هلك فيّ اثنان: محب غال، ومبغض قال.

قال العلامة ابن عبد البر: كان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب أنه هلك فيه فتيان: محب أفرط، ومبغض أفرط. وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مُطر، ومبغض مفتر. وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية.[1]

وصدق الشاعر إذ قال:

ومن في الناس يرضي كل نفس وبين هوى النفوس مدى بعيد؟!

العلمانيون والماركسيون عبيد الفكر الغربي:

والمنتقدون للمودودي أصناف:

فمنهم من ينتقده، لأنه يكره دعوته، فهو في الحقيقة لا يكره المودودي، وإنما يكره الإسلام ذاته. وهذا مثل كثير من عبيد الفكر الغربي، من الماركسيين والعلمانيين وخصوم الإسلام، وكل من لا يحب أن تقوم للإسلام دولة تحكم بشريعة الله، ويبنى مجتمع الإيمان، وتمكن لدين الله في أرض الله، وتربي الناس على منهج الإسلام، دولة لا تريد علوا في الأرض ولا فسادا، من (الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) الحج: .

وقد كانت معركة المودودي الأولى مع هؤلاء، الذين يرفضون الإسلام منهاجا للحياة، ممن جعلوا ولاءهم لغير الله ورسوله، والمؤمنين.

وخصومة هؤلاء للمودودي خصومة جذرية جوهرية، ليست خصومة سطحية ولا هامشية، لأنها خصومة عقائدية (أيديولوجية). خصومة في الأسس والأصول لا في المباني والفروع. كخصومة مع أدعياء النبوة الجديدة من (القاديانيين) الذين رفضوا ما نطق به القرآن والسنة وأجمعت عليه الأمة، وأصبح معلوما من الدين بالضرورة، وهو أن الله ختم بمحمد الرسل والنبيين جميعا، فلا نبي بعد محمد، ولا كتاب بعد القرآن، ولا شريعة بعد الإسلام. وقد أفضت خصومته مع هؤلاء إلى أن حكم عليه بالإعدام. وكذلك خصومته مع العلمانيين الأقحاح من عبيد الغرب، يمينيين كانوا أم يساريين.

ومعارضة أمثال هؤلاء للمودودي تزيده فضلا على فضل، وترفعه درجة فوق درجاته، وتحسب له في سجل مفاخره، وميزان حسناته. فإنهم بباطلهم لا يعارضون إلا حقا. وقديما قيل: حسبك نصرا أن خصمك يحارب الله ورسوله!

ومن قبل قال الشاعر:

لقد زادني حبا لنفسي أنني بغيض إلى كل امرئ غير طائل

وأني شقي باللئام، ولا ترى شقيا بهم إلا كــريم الشمائل!

المتاجرون بالتصوف:

ومن هؤلاء الخصوم: الذين يعيشون ـ أو يتعيشون ـ باسم الإسلام، وهو منهم بريء، من المنحرفين الذين يتاجرون بالتصوف، ويضحكون على عوام المسلمين، ممن قال فيهم الشاعر:

وقالوا: سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القُصَع!

أدخلوا على الإسلام ما ليس منه، فأفسدوا حقائقه، ولوثوا تعاليمه. أفسدوا توحيده بالشركيات، وعباداته بالمبتدعات، وأخلاقه بالمداهنات، وبعض هؤلاء الجهلة يفتقرون إلى أن يعلموا الإسلام من جديد، وبعضهم مرتزقة ليس لهم من التصوف إلا اسمه أو رسمه!

لقد كرهوا من المودودي أن يفضح زيفهم، ويكشف دجلهم، ويأخذ أتباعهم منهم لينضموا إلى الركب المستنير بعقل الإسلام، بدل القطيع المسوق بعصا الخرافة والتهويل.

اختلاف التكوين الثقافي:

ومنهم من ينتقده، لأنه لم يفهمه، ولم يدرك أغواره، لاختلاف التكوين الثقافي، واختلاف الاهتمامات، وتوافر سوء الظن، وعدم وجود الثقة، من بعض العلماء المدرسيين الكبار، الذين يعيشون في دائرة غير دائرته، وأفق غير أفقه، ولهموم غير همومه، ولا يواجهون من التيارات ما يواجهه، فهم يبحثون عن زلاته يضخمونها، ويؤاخذونه باللوازم يحاسبونه عليها، وقد رأيت الكثير من مآخذهم قابلا للتأويل، والحمل على محمل صحيح، لو توافر حسن الظن، وهو مطلوب مع المسلم العادي، فكيف مع رجل نصب نفسه للدفاع عن الإسلام والدعوة إليه نظاما كاملا للحياة؟

وبعض هؤلاء المنتقدين للأستاذ ممن ضاقت آفاقهم، من الجامدين أو المقلدين، أو المتعصبين لوجهة نظر واحدة، وإن كان كثير منهم مخلصين.

وهذا أمر يتكرر في كل الأعصار، حتى مع الأئمة الكبار. ومن هذا ما ذكروه عن إمام الجرح والتعديل يحيى بن معين: أنه تكلم في الإمام الجليل محمد بن إدريس الشافعي، وزعم أنه ليس بثقة!! ولما نقل هذا القول للإمام أحمد بن حنبل قال: ومن أين يعرف يحيى بن معين الشافعي؟! هو لا يعرف الشافعي، ولا يعرف ما يقول الشافعي! ومن جهل شيئا عاداه!

هذا مع أن يحيى إمام في فنّه، ومن أقرب الناس إلى ابن حنبل. قال الإمام أبو عمر بن عبد البر: صدق أحمد بن حنبل رحمه الله: إن ابن معين كان لا يعرف ما يقول الشافعي، وقد حكي عن ابن معين: أنه سئل في مسألة من التيمم، فلم يعرفها![2]

وهذا يبين لنا: أن اختلاف التكوين، واختلاف الهموم: مؤثر في الحكم على الأشخاص، فابن معين ـ ولا شك ـ من أفق غير أفق الشافعي، ومن تيار غير تياره.

ومن هنا لا نعجب مما جاء من خلاف وطعن متبادل، بين مدرسة الحديث والأثر ومدرسة الرأي والنظر، حفلت به كتب الجرح والتعديل، وكتب التراجم والطبقات، وخصوصا من مدرسة الأثر وأهل الحديث في حق مدرسة الرأي وإمامها الأشهر أبي حنيفة النعمان رضي الله عنه.

ومن قرأ ما نقله أهل الحديث من انتقادات بل طعون واتهامات للإمام أبي حنيفة: لم يصدق أن يكون في المسلمين من يصدر عنه مثل هذه الأقوال، والحمد لله: أنه غير معروفة لدى عوام المسلمين، فقد تجاهلها العقل الإسلامي العام، ودفنها، ولم يلق لها بالا، وظل أبو حنيفة في القمة العالية: مكرما معظما يتبعه مئات الملايين من المسلمين، ويترضون عنه في كل مكان.

قال الحافظ المجتهد أبو عمر بن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضلة):

أفرط أصحاب الحديث في ذم أبي حنيفة، وتجاوزوا الحد في ذلك. والسبب الموجب لذلك عندهم: إدخاله الرأي والقياس على الآثار، واعتبارهما. وأكثر أهل العلم يقولون: إذا صح الأثر بطل القياس والنظر. وكان رده لما رد من أخبار الآحاد بتأويل محتمل. وكثر منه تقدمه إليه غيره، وتابعه عليه مثله بمن قال بالرأي. وجل ما يوجد له من ذلك: ما كان منه اتباعا لأهل بلده، كإبراهيم النخعي، وأصحاب ابن مسعود... الخ.[3]

تحاسد المعاصرين:

ومن نقاد المودودي: من ينتقده حسدا وبغيا، وهو شأن البشر بعضهم مع بعض، فليسوا ملائكة مطهرين. وهذا يحدث كثيرا من انفعال طارئ، وغضب عارض، فيفقد الإنسان اتزانه في الحكم، ولهذا جاء التحذير من الغضب، وصح: "لا يقضي القاضي وهو غضبان". ويحدث أحيانا من حسد كامن، ولا سيما من المتعاصرين بعضهم لبعض. وقد نقل من هذا شيء كثير عن علماء السلف المتعاصرين ـ على فضلهم ـ فكيف بأهل عصرنا؟!

ذكر الحافظ ابن عبد البر في كتاب (العلم) بابا في "حكم قول العلماء بعضهم في بعض" بدأه بالحديث النبوي: "دب إليكم داء الأمم من قبلكم: الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة، لا أقول: تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين".[4]

وثنّى فيه بما جاء عن ابن عباس: استمعوا علم العلماء، ولا تصدقوا بعضهم على بعض، فوالذي نفسي بيده، لهم أشد تغايرا من التيوس في زربها!!

وذكر في ذلك أمثلة من قول أهل العلم بعضهم في بعض، يعجب الواحد منا كيفي صدر من أمثالهم! ولكن الكمال لله وحده، والعصمة لرسوله وإنك لعلى خلق عظيم [القلم: 4].

وقد رأينا أنموذجا من ذلك: ما ساقه الخطيب البغدادي في (تاريخ بغداد) من أقوال بعض كبار رجال الحديث عن الإمام أبي حنيفة، يقشعر لها البدن، وهو ما دعا الشيخ الكوثري أن يكتب كتابا: (تأنيب الخطيب على ما ساقه في حق أبي حنيفة من الأكاذيب).

وقد قرأت في كتاب (السنة) المنسوب لعبد الله بن أحمد بن حنبل: أقوالا عن أبي حنيفة، قفّ لها شعر رأسي، ولم أكد أصدق أن يخرج مثلها من فم عالم! وفيها اتهام للأمة المسلمة أنها راج عليها الباطل، واتبعت من لا علم عنده ولا دين!

وما من إمام من الأئمة إلا وجد من تكلم فيه بطعن أو تجريح، لسبب أو لآخر، قال ابن عبد البر: وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظرائهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى:

كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها، وأوهى قرنَه الوَعِلُ!

أو كما قال الحسين بن حميد:

يا ناطح الجبل العالي ليكلمه أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل!

ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:

ومن ذا الذي ينجو من الناس سالما وللناس قالٌ بالظنون وقيل!!

قيل لأبي عاصم النبيل: فلان يتكلم في أبي حنيفة! فقال: هو كما قال نصيب: سلمت، وهل حيّ على الناس يسلم؟!

وقال أبو الأسود الدؤلي:

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم!

وروي أن موسى عليه السلام قال: يا رب، اقطع عني لسان بني إسرائيل! فأوحى الله إليه: يا موسى، لم أقطعها عن نفسي، فكيف أقطعها عنك؟![5]

هذا بعض ما ذكره الحافظ ابن عبد البر من قول العلماء بعضهم في بعض في أزمنة هي خير من زمننا، ومن أناس هم خير من معاصرينا، فكيف بزماننا وأهله، وقد قل فيه الإنصاف، وكثر الميل والاعتساف؟!

الخلاف في الجزئيات:

ومن هؤلاء من ينتقد المودودي لخلافهم له في بعض ما ذهب إليه من آراء واجتهادات، ولكنهم يجعلون خلافه لهم كأنما هو خلاف للإسلام نفسه، أعني أنهم اعتبروا أنفسهم وحدهم ممثلي الإسلام، والمتحدثين الرسميين باسمه، فليس لأحد قول مع قولهم، ولا يقبل فكر يخالف فكرهم. وغالبا ما نجد أكثر هؤلاء لا يفرقون بين الجزئيات والكليات، فالمخالفة في جزئية أو اثنتين أو ثلاث، توقد عندهم نارا لا يخمد أوارها.

فإذا أوّل المودودي حديثا أو خالف أمرا متوارثا، أو رفض الرأي المشهور في قضية: شهروا في وجهه سيف الاتهام، وأثاروا غبار الشبهات، وأطالوا الألسنة فيه بالذم والغيبة، كما فعل ذلك قوم قبل في مثل الإمامين: أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما، حيث اتهم كل منهما بترك الحديث والأثر، للرأي والنظر. حتى قال من قال: لو خرج أبو حنيفة على هذه الأمة بالسيف، كان أيسر عليهم مما أظهره فيهم. يعني من القياس والرأي! واتهم بعضهم مالك بن أنس لما ذهب إليه من اعتبار المصالح المرسلة بأنه خلع ربقة الإسلام، أي تحلل من التقيد بنصوص الشرع الحنيف!! فيا لها من كلمة، ويا له من اتهام!! ومنشأ هذا تعصب المرء لما عنده، وسوء ظنه بما عند غيره.

وهب أن المودودي أخطأ في بعض المسائل الجزئية، أو خانه التعبير الدقيق فيها، على ما يقوله هؤلاء، فهل يعني هذا أن تسقط إمامته، وتجرح عدالته، ويحمل عليه في دينه وفكره؟ وأي عالم سلم من هفوة، وأي جواد خلا من كبوة؟ وإنما المعصوم من عصمه الله، وذلك هو النبي وحده.

وأوضح من ذلك ما اتهم به شيخ الإسلام ابن تيمية من خروج على الإجماع، ومخالفة للصحابة، ومجافاة لأئمة المذاهب، وكلها دعاوى غير صحيحة ولا مقبولة، ولكنه حوكم من أجلها، وامتحن بسببها، ودخل السجن أكثر من مرة، ومات فيه، رضي الله عنه.

خلاف بعض الدعاة الكبار في بعض قضايا الفكر:

وهناك من ينتقدون الأستاذ المودودي، لخلافهم له في الرأي في بعض القضايا والموضوعات، لاختلاف زاوية النظر عنده وعندهم، مع تسليمهم له بالمنزلة والفضل، وصدق النية، وطل والباع، في نقد الحضارة الغربية، والفلسفات المادية، وفي الدعوة إلى الإسلام، وفضح خصومه، وتزييف أفكارهم وتوجهاتهم، وإنما خالفوه في بعض مسائل العلم، أو بعض قضايا الفكر، أو في مناهج العمل الإسلامي العام. وهذا لا حرج فيه، وسيظل الناس يختلفون في مثله، ولكل وجهة هو موليها، ولكل مجتهد نصيب، والمصيب في اجتهاده مأجور، والمخطئ معذور بل مأجور، وإن كان دون أجر المصيب.

نقد الشيخ أبي الحسن الندوي:

وأحسب من هؤلاء الداعية الإسلامي الكبير السيد أبا الحسن علي الحسني الندوي، الذي انتقد بعض ما كتبه الأستاذ المودودي ولا سيما في كتابه (المصطلحات الأربعة في القرآن).

ولست هنا في مقام الفصل بين الرجلين الكبيرين، ولكني فقط أسجل هنا ثلاث ملاحظات:

الأولى: ذكرتها للعلامة الندوي حين سعدت بلقائه في الدوحة عاصمة دولة قطر إبّان انعقاد المؤتمر الثالث للسيرة والسنة النبوية، وهي أن الأستاذ الندوي سمى كتابه حين نشره بالعربية (التفسير السياسي للإسلام) فقلت له: إن هذه التسمية فيها شدة وعنف، وقد تُوهِم غير ما قصدت إليه، وكان من إنصاف الشيخ أنه أقر بهذا، وقال: ليتني سمعت هذا قبل نشره، وإنه يخشى أن يستغل هذا في بلاد العرب من ينادون بفصل الدين عن السياسة! أو على حد تعبيرهم بـ (تسييس الدين) وأذكر أن أحد الإخوة في الهند نبهه أيضا إلى هذه الملاحظة. وأن الكتاب حينما نشر بالأوردية كان له عنوان آخر.

الثانية: أن هناك أناسا أخذوا كلام المودودي، ورتبوا عليه نتائج لم يرتبها المودودي نفسه، وإن كانت قد تلزم من مفهوم كلامه، ولكن المعروف عند المحققين من علماء الأمة: أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن العالم لا يؤاخذ إلا بما التزمه صراحة من الأقوال والأفكار. فقد يرى العالم الرأي، ويؤمن به، ويدعو إليه، ولا يخطر له لازمه على بال.

فإذا وجدنا بعض الغلاة من منتحلي بدعة (التكفير) وأشياعهم أخذوا كلمات معينة مما كتبه الأستاذ المودودي، مستشهدين لها بما ذهبوا إليه من تطرف في الفكر، وغلو في الدين، وكفروا بها جماهير المسلمين، فالمودودي ليس مسؤولا عن ذلك، لأنه لم يرد بكلامه نفس ما أرادوا، ولم ينته به إلى ما انتهوا إليه من نتائج في الاعتقاد والسلوك.

ولقد أساء الناس قديما وحديثا فهم كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عيه وسلم، ولم يكن هذا عيبا في كلام الله جل شأنه، ولا في كلام رسوله الكريم، بل كان عيبا فيمن ساء فهمه، وانحرف عقله، من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه، على نحو ما قال أبو الطيب:

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته مـن الـفهم السقيم!

من يك ذا فم مُرّ مـريض يجـــد مرًّا به الماء الزلالا!

الثالثة: يتعلق بموقف الإمام المودودي من هذا النقد الموجه إلى كتابه، وهو الموقف اللائق بمثله، أمانة وتواضعا وإنصافا، فقد ذكر الأستاذ الندوي في كلمته المخلصة التي رثى بها المودودي في مجلة (البعث الإسلامي) التي تصدر عن ندوة العلماء بالهند: أن الأستاذ المودودي رحب بنقد الأستاذ الندوي، وشكره عليه، وتمنى لو كتب ملاحظاته على جميع مؤلفاته، فليس في العلم كبير، والمؤمن مرآة أخيه، والمسلمون نصحة بعضهم لبعض.

نقد د. محمد عمارة:

وممن انتقد الأستاذ المودودي في حديثه عن الجاهلية والتكفير: المفكر المصري المسلم الدكتور محمد عمارة الذي يرى أنه غلا في وصف المجتمعات المسلمة المعاصرة، بل ضم إليها التاريخ الإسلامي، والحضارة الإسلامية كلها، فوصفها بالجاهلية، ويرى ذلك ضربا من المجازفة: يقول في بحثه الذي قدمه لندوة اقرأ الأعلامية في رمضان 1424هـ:

"لكن المودودي قد انطلق من دعوى غيبة الحاكمية الإلهية عن المجتمعات الإسلامية والدول الإسلامية – فضلا عن مجتمعات الحضارة الغربية- فذهب من هذا المنطلق إلى الحكم على كل المجتمعات الإسلامية ودولها بالجاهلية – ومن ثم بالكفر- وذلك دون أن يكفر الأفراد أو الأمة.

بل ذهبت به المجازفة إلى الحكم بسيادة الجاهلية في التاريخ الإسلامي – والحضارة الإسلامية منذ السنوات الأخيرة لخلافة الراشد الثالث عثمان بن عفان (47هـ - 35هـ / 577 –656م)!..

لقد كتب عن جاهلية الغرب، فقال عن عصرها: (إنه عصر الجاهلية المحضة.. الجديدة.. والمعاصرة ..والمتحضرة)[6].

وكتب عن ارتداد حضارتنا الإسلامية وثقافة أمتنا الإسلامية، والنظام الاجتماعي الإسلامي إلى الجاهلية منذ عهد عثمان بن عفان، فقال: (إن الغايات التي حققها النبي، ، قد سار على نهجه فيها أبوبكر الصديق (52ق هـ - 13هـ / 573-634م) وعمر الفاروق ( 40 ق هـ -23 هـ / 584 – 644م) .. ثم انتقل الأمر بعدهما إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه، وبقي على ما أقامه عليه النبي إلى عدة من السنين في صدر ذلك العهد.. ولكن الخليفة الثالث كان لا يتصف بتلك الخصائص التي أوتيها العظيمان اللذان سبقاه.. فلقد كان ينقصه بعض تلك الصفات اللازمة للحكم والأمر، التي كانت على أتمها في أبي بكر وعمر.. فوجدت الجاهلية سبيلها إلى النظام الإجتماعي الإسلامي، وإن تيارها الجارف، وإن حاول عثمان صده ببذل نفسه ومهجته، إلا أنه لم ينكفئ. ثم خلفه علي (23 ق هـ - 40 هـ/ 600 – 661م) كرم الله وجهه، واستفرغ جهده لمنع هذه الفتنة، وصيانة السلطة السياسية في الإسلام من تمكن الجاهلية منها، ولكنه لم يستطع أن يدفع هذا الإنقلاب الرجعي المركوس حتى ببذل نفسه، فانتهى بذلك عهد الخلافة على منهاج النبوة، وحل محلها الملك العضوض Tyrant Kingdom وبدأ الحكم والسلطة يقومان على قواعد الجاهلية بدلا من قواعد الإسلام)[7].

ويمضي المودودي فيقول عن هذه الردة إلى الجاهلية: (فكان من الطبيعي أن يصحب ذلك كله رواج فلسفة الجاهلية وآدابها وفنونها، فتدون العلوم والمعارف على طرازها[8].. فالحضارة التي أزدهرت في قرطبة وبغداد ودلهي والقاهرة لا دخل للإسلام فيها ولا صلة .. وتاريخها ليس إسلاميا، بل الأجدر أن يكتب في سجل الجرائم بمداد من أسود..)[9].



--------------------------------------------------------------------------------

[1] جامع بيان العلم وفضلة (2/150).

[2] انظر: جامع بيان العلم وفضلة (2/150).

[3] جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/148) طبعة دار الكتب العلمية ـ بيروت.

[4] رواه أحمد والترمذي والضياء عن الزبير، كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته ( ) ولم يحكم عليه الألباني بشيء، وضعفه الشيخ شاكر في تخريج المسند (1412).

[5] جامع بيان العلم وفضلة (2/162،161).

[6] الحكومة الإسلامية ص113 وموجز تاريخ تحديد الدين وإحيائه ص 16 ترجمة محمد كاظم سباق، طبعة بيروت 1975م.

[7] موجز تاريخ تجديد الدين ص 34-37.

[8] المصدر السابق 63، 64.

[9] نفسه ص39.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:37 AM
تعقيب متمهل

ولا ريب أن حكم المودودي على الحضارة الغربية بالجاهلية: حكم صحيح، نظرا للاتجاه العام فيها، والروح الغالبة عليها، فهي – كما قال ليوبولد فايس - محمد أسد- لا تجعل لله مكانا في نظامها الفكري الحالي، وفلسفتها العامة تقوم على المادية المجحفة، والإباحية المسرفة، والنفعية المتطرفة، فالاعتبار الأخلاقي لا مكان له في اقتصادها ولا سياستها ولا في سلمها ولا في حربها، وهي كلها تتبنى مبدأ : (الغاية تبرر الوسيلة).

أما حكمه على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، فهو حكم قاسي، بل شديد القسوة، وقد ناقشناه في كتابنا (تاريخنا المفترى عليه) وبينا خطأ هذه النظرة السوداء إلى تاريخنا وحضارتنا، وذكرنا هناك: أن المودودي وغيره من الكتاب والمفكرين الإسلاميين مثل سيد قطب والشيخ محمد الغزالي، وأبي الحسن الندوي – إلى حد ما- كانوا ضحية مصادرنا التي نقلت إلينا صورة غير صادقة تماما عن تاريخنا الإسلامي، كما بينا مسؤولية المؤرخين المسلمين، ومسؤولية علماء الحديث، ومسؤولية مؤرخي الأدب: في تشويه هذه الصورة وإعطاء هذا الانطباع الزائف عن تاريخنا.

بيد أن الإمام المودودي – غفر الله له- كان أقسى المتحدثين عن تاريخنا عبارة، وأشدهم حرارة، لذا كان نقد الدكتور عمارة له في هذا الموقف شديدا مرا، برغم دفاعه المجيد عنه فيما كتبه من قبل.

لقد اعتبر الأستاذ المودودي عصر الصحابة والتابعين وأتباعهم من العصور التي وثبت عليها الجاهلية، وحرفتها عن مسارها الإسلامي، مع أن هذه العصور هي العصر التي استفاضت فيها الأحاديث الصحاح، بأنها خير قرون هذه الأمة: "خير القرن قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم". وذلك لأن نور النبوة كان لا يزال قوي التأثير في هذه القرون، أو هذه العصور، وهي عصور الفتوحات التي شرقت وغربت، ودخلت فيها الأمم في الإسلام، وكان لبني أمية فيها إسهام كبير لا ينكره مكابر، ففي عصرهم دخل الإسلام على الهند وسمرقند والصين شرقا، وإلى الأندلس (أسبانيا) غربا.

وانظر إلى الروح التي كتب بها العلامة المودودي عن الحضارة الإسلامية، والروح التي كتب بها علامة آخر، هو الداعية الإسلامي مصطفى السباعي في كتابه الرائع البديع (من روائع حضارتنا) وما قدم فيه من إنجازات هذه الحضارة وخدماتها للمسلمين وللبشرية كلها بصفة عامة.

ضم كلام المودودي بعضه إلى بعض:

على أني أنصح دائما: ألا يحكم على المودودي بما يكتبه في موضع من كتبه، حتى نطلع على تراثه كله، فإن ما أطلقه في كتابه يقيده في آخر، وما عممه في رسالة خصصه في رسالة أخرى، وما أجمله في محاضرة أو خطبة قد فصله في محاضرة أو كتاب أو مقال في مكان آخر.

وإذا كنا نفعل ذلك في فهمنا لكلام الله الحكيم، وفي فهمنا للقرآن الكريم، فكيف لا نفعله في فهمنا لكلام المخلوقين، وحكمنا لهم أو عليهم؟!

وأود من القارئ المتأمل المنصف: أن يقرأ معي هذه الفقرة من نفس كتابه الذي شن فيه الغارة على التاريخ والحضارة الإسلامية، يقول في (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) تحت عنوان (الحاجة إلى المجددين):

(لا يذهب بأحد الظن في هذا الصدد أن كانت الجاهلية قد محت آية من الإسلام تماما وذهبت بآثاره جميعا وملكت عليه أمره من جميع الوجوه إبان هجومها وطغيانها، بل الواقع أن الشعوب التي كانت خضعت لتأثير الإسلام حينئذ أ و خضعت لها فيما بعد لم يزل باقيا أثر الإصلاح الإسلامي – قليلا أو كثيرا- مدى الدهر. ولم يكن إلا من تأثير الإسلام أن كان الآمرون المطلقون من الملوك تأتي عليهم من حياتهم أحيان ترتعد فرائصهم من خشية الله، فيرجعون عن غيهم إلى الرشد وعن ظلمهم إلى الإنصاف. وليس إلا من ثمرات الإسلام أنك تبصر هنا وهناك في الصفحات السود من تاريخ الملكية لمحات من نور الصلاح والأخلاق الفاضلة، ولم يكن إلا من فضل الإسلام أن نبغ في البيوتات الحاكمة رجال مؤمنون متقون عادلون تولوا الحكم والأمر مع الشعور التام بمسئوليتهم على قدر الإمكان، على كونهم يملكون سلطان الملكية. وكذلك ما زال الإسلام يعم ببركاته وخيراته – ولو على وجه غير مباشر – قصور الدول والحكومات ومدارس الفلسفة والحكمة ودور التجارة والصناعة وزوايا الخلوة والاعتكاف وسائر شعب الحياة، واستمر نفوذه في العامة على رغم أنف جاهلية الشرك التي كانت فاشية فيهم، وبقي يؤثر في عقائدهم وأخلاقهم واجتماعهم من جهتي الأمر والنهي والتوجيه والتحذير، ومن كل ذل ظل مستوى أخلاق الشعوب المسلمة أعلى وأرفع دائما من أخلاق سائر الأمم. وفوق ذلك كله ما خلا عصر من العصور من أناس استمسكوا بعروة الإسلام وبقوا يسعون في إحياء هدايته العلمية والعملية في حياتهم أنفسهم وفي الحلقة المحدودة الواقعة تحت تأثيرهم ونفوذهم، بيد أن ذلك كله لم يكن كافيا لتحقيق الغاية الرئيسية التي بعث من لأجلها الأنبياء عليهم السلام.

فكان الإسلام لا يكفيه أن تكون السلطة بيد الجاهلية ويقف الإسلام منها موقف التابع المتخلف ولا كان يكفيه أن يكون هنا وهناك رجال متمسكون بالإسلام في حياتهم الفردية المحدودة، وتشيع في الحياة الجماعية الواسعة أخلاط شتى من الجاهلية والإسلام ولذلك كان –ولا يزال- الدين الإسلامي في كل عصر في حاجة إلى رجال أقوياء يأتون ويسددون خطى الزمان ويوجهون مسيره إلى الإسلام، سواء أكان عملهم في ذلك محيطا شاملا أو كان على بعض النواحي الأمر مقتصرا – وهؤلاء هم الذين يدعون بـ"المجددين"!)[1].

انتشار الإسلام في العالم:

ولكي نستكمل الصورة في كتابات الأستاذ المودودي عن التاريخ الإسلامي، ننقل هذه الفقرة من رسالة من رسائله، كتبها بعنوان (الإسلام اليوم) تحدث فيها عن انتشار الإسلام في العالم، وبين فيه القوة الذاتية في دعوة الإسلام، فبعد أن تحدث عن دعوة الرسول الكريم، وبنائه للأمة المسلمة، والدولة المسلمة المثالية، قال رحمه الله:

(وبعد أن قامت في الدنيا أمة هذه سماتها وخلالها وتأسست دولة هذه خصائصها ومزاياها بدأ الإسلام ينتشر في أرجاء الدنيا في عصر الخلافة الراشدة بسرعة وصفت في التاريخ بكلمة (الانفجار) (EXPLOSION) أي مثل السرعة الهائلة التي أخذ بها الإسلام في الانتشار والازدهار كمثل انفجار المتفجرات. ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى امتدت المسيرة الإسلامية من بلاد الأفغان والتركستان شرقا إلى أفريقية الشمالية غربا، ونتيجة أي شيء كان هذا الانفجار الرائع يا ترى؟! ولكم أن تذهبوا إلى جزيرة العرب اليوم لتنظروا كم نسبة العمالقة فيها؟ وما هي مصادر الثروة المادية في هذه الجزيرة؟ دعوا البترول فإنه لم يكتشف إلا مؤخرا، ماذا فيها من الوسائل المادية بعد البترول؟ وانظروا كذلك إلى عددهم: يكاد لا يزيد عددهم في جزيرة العرب بأسرها على عشرة ملايين من النفوس. ومن المؤكد أن كان عددهم في عصر الخلافة الراشدة أقل بكثير من هذا، فهيمنة شعب كهذا، على هذا القدر من المساحة الأرضية، وبهذه الصورة الفجائية لم تكن في الواقع حصيلة تفوقه على غيره في القوة المادية، بل السبب الذي مكنه لإخضاع رقاب العالم كليه يكمن في ذلك السلوك الرائع الفريد الذي سلكه كل فرد من المسلمين بصفته الفردية، والأمة الإسلامية بصفتها الجماعية في الصلح، والحرب، وإدارة البلاد المفتوحة، وحسن المعاملة مع شعوبها.

إن الذين عاشوا تحت الإمبراطورية الفارسية الرومية كرعايا: لم يكونوا يتصورون – بله أن يشهدوا- ذلك النوع الفريد من الولاة الذين يمشون على الأقدام وفي الشوارع، يعيشون عيشة عامة السكان، ويتركون أبوابهم مفتوحة على مصراعيها في وجه كل من مسته الحاجة، ويضع يده في عنقهم كل من داهمته الداهية، ليطلب منهم إزالة شكواه. إن سكان فارس والروم ما رأوا هذا النمط الرائع من الحكام في الأحلام فضلا عن أن يروه في اليقظة، بل لم يكن يدور بخلدهم احتمال بوجود هذا النوع الفريد من رجال الحكم، والإرادة، إلا أنه لما دخل النظام الإسلامي بسموه ونظافته أرض هذه البلدان، وقدم لسكانها هذا النوع من الولاة، فمن ذا عسى أن يكون منهم من يمنعه التعصب الأعمى من أن لا يعترف بهذا التفوق الخلقي والسمو الإنساني اللذين يتفرد بهما الإسلام، اللهم إلا شرذمة قليلة طمس الباطل معالم فطرتها وعميت أبصارها عن رؤية الحق.

ومن النماذج الرائعة في السمو الخلقي الذي عرضته الجنود الإسلامية على الدنيا أنها كانت تدخل مدينة تفتحها، وتجوب في شوارعها، ونساء هذه المدينة واقفات في الشرفات في أبهى ثياب التبرج والإغراء، يتطلعن إلى المواكب، ولم يحاول جندي من هؤلاء الجنود البواسل، أن يرفع رأسه، وينظر إليهن ولو بنظرة عابرة، تقطع المواكب الشوارع بدون أن تعلم ما إذا كان هناك من النساء من يطللن عليهن من الشرفات، الأمر الذي كان يختلف تماما عما جربته تلك الأمم المغلوبة من ويلات الغزاة فيما خلا من القرون، وما تناقله الناس من القصص والحكايات عن الأمم الغازية، إذ كان من السنة المتبعة أنه كلما وطئ الغزاة أرض قوم، عاثوا فيها فسادا، ولم يتركوا عرض امرأة منهم إلا وانتهكوه، وارتكبوا معها الفظائع، فبعد هذه المواقف الفذة مع أهالي البلاد المفتوحة، كيف كان من الممكن أن لا تكسب الجيوش الإسلامية قلوبها: الجيوش التي تكتسح المناطق بدون أن تنتهك حرمة أحد أو تمس بكرامة أحد.

وكذلك من روائع الأخلاق التي تقدم بها هؤلاء الفاتحون الربانيون الجدد أمم الدنيا: أنهم إذا اضطروا إلى سحب جيوشهم من منطقة من المناطق المفتوحة، أعادوا إلى أهاليها كل ما أخذوه منهم من الضرائب والأموال لدعم الأمن فيها، قائلين: إن هذه الضرائب إنما أخذناها منكم للقيام بواجب حراستكم، غلا أننا اضطررنا للانسحاب، ولا نتمكن من القيام بهذه المسؤولية، فهذه بضاعتكم ردت إليكم، هذا في الوقت الذي لم يكن الناس يعرفون من الغزاة إلا الذين إذا اضطروا للجلاء من بلد من البلدان المحتلة، فبدلا من أن يردوا إلى أهاليها ما كانوا قد جلبوه منهم من الأموال: كانوا ينهبون ما تبقى عندهم من الأموال، فلم يكن أحد من الناس يتوقع من الحكام والولاة: أن يحتذوا ما عرف عن أنبياء الله وأوليائه من السجايا والفضائل، ويحتلوا هذه المكانة السامية من الأمانة والنزاهة حتى في مجال السياسة والحكم.

هذه هي الطاقة الهائلة التي تمتع بها المسلمون في صدر الإسلام فغزوا بفضلها القسم الأكبر من العالم، ومن الحقيقة التي لا يكابر فيها أحد أن الذي حققته أخلاقهم السامية وسلوكهم النزيه من المعجزات، لا يقارن بما أنجزته سيوفهم، لأن من اعتنق منهم الإسلام اعتنقه بعد إدراكه الكامل لحقيقته ومقتضياته، ثم صاغ فيه شخصيته وسيرته وسلوكه، ولذلك أيما عمل قاموا به مثلوا فيه الإسلام بكامل الوجه، وبهذه الخاصية الربانية لم تستطع أية قوة في العالم أن تصمد في وجههم، وكان يسبق تأثير أخلاقهم في قلوب الناس مضاء سيوفهم في عنقهم.

ولهذا السبب نفسه نرى أن الأقطار التي فتحوها لم يكتف سكانها بالخضوع لقوتهم السياسية، بل أصبحوا من المولعين بهم، والمريدين لهم: اعتنقوا دينهم، واتبعوا حضارتهم، وارتضوا لغتهم، وها هي الأقطار التي فتحها المسلمون الأوائل ما زال سكانها يعتبرونهم، مدار التاريخ، أبطالهم، وروادهم، ولا يحبون أن يرجعوا بأواصرهم إلى أسلافهم الكافرين أو ينسبوا إليهم ماضيهم التليد، فهل لسيف أن يحقق هذه المعجزة في العالم؟

هذه هي المرحلة الأولى من مراحل التاريخ الإسلامي، ولا أريد في هذا المقام سرد المعلومات التفصيلية عن هذه المرحلة، وإنما الذي يهمني أن أؤكد لكم أن الإسلام إذا تمكن من بسط سلطانه المدهش على القسم الأكبر من العالم، لم يتمكن من ذلك إلا لأجل أن الأمة بكاملها قد آمنت بالإسلام إيمانا صادقا، وتمسكت به بعزيمة ماضية وتفهم صادق وإخلاص عميق وصار نور الإسلام يتلألأ في سلوك أفرادها الفردي والجماعي بمنتهى النصوع والكمال.

وقد برزت إلى الوجود دولة تبنت الإسلام هدفا رئيسيا لها، وهبت تسنفذ كل ما تملك من الوسائل والإمكانيات لتغليب كلمته في العالم، وهكذا تيسرت للإسلام في أولى مراحله حركة مستميتة قوية ما زالت آثارها في التاريخ واضحة المعالم جلية الملامح حتى اليوم، وبعد مرور ثلاثة عشر قرنا على إنشائها. وتستطيعون أن تشاهدوا ـ مع هذه الحالة التعيسة التي تدنت إليها الأمة الإسلامية ـ آثار الطابع الذي انطبعت به الأمة الإسلامية في أولى مراحل تاريخها.

إن أي فرد من المسلمين مهما فسد أمره وساءت أخلاقه، إذا استشففت ذات نفسه، وجسست نبضه: تعلم أنه لا يحن إلا إلى نفس المجتمع المثالي الذي أسسه محمد وخلفاؤه الراشدون. وهذا هو الهدف الذي يطمح إليه دائما ولا يتناساه أبدا، كأن هذا المجتمع شمس تشرق أمامه بنورها الساطع بصفة دائمة، لا يدعها تغيب عن نظره.

إن كل فرد من المسلمين يرى هذه المرحلة الذهبية نموذجا وقدوة، ويولع بها لحد الغرام،ويتمنى رؤيتها متمثلة في الواقع مرة ثانية. وما انفك الإسلام يشع بنوره على العالم من عصر الخلافة الراشدة إلى هذا اليوم. ولم يبق صقع من أصقاع العالم، إلا قد تغلغلت إليه أشعته. وقد نال هذا الازدهار على رغم ما منيت به هذه الأمة من الأمراء المنغمسين في حياة الترف والبذخ، ونكتب بالطغاة والجبابرة، ولم تعد متعاطي المنكرات في يوم من الأيام، ولم تعد منذ مدة غير قصيرة أمة مثالية تحتذى، وتنجذب إليها قلوب الناس. ولكن رغم كل ذلك لم تقف دعوة الإسلام من الانتشار. وليس مرجعه كون المسلمين على طريقة مثلى في الحياة تستهوي الناس إلى دينهم، بل الذين يعتنقون الإسلام من غير المسلمين لا يعتنقونه إلا بعد أن يتأكدوا أن الإسلام ليس الذي يتمثل في واقع المسلمين، وإنما الإسلام الحقيقي هو الذي جاء به محمد وأصحابه. ثم إنما يوجد اليوم في واقع المسلمين من بعض السمو والنظافة وجوانب الخير في تفكيرهم وأعمالهم وسلوكهم وخلقهم فليس كل ذلك إلا البقية الباقية من الآثار التي تركها الإسلام فيهم، ولا تزال تعمل عملها على مرور أربعة عشر قرنا. وبكلمة أخرى: إن المرحلة الأولى من تاريخها كانت تبلغ من حيويتها درجة استحال معها أن يزول أثر طابعها على التاريخ. بل إن الحيوية التي تشاهدونها اليوم في العمل الإسلامي هي ناتجة عن تلك الحركة المثالية التي أنشأها الإسلام في أولى مراحله.[2] اهـ.

فانظر وتأمل قوله هنا: وما انفك الإسلام يشع بنوره على العالم من عصر الخلافة الراشدة إلى هذا اليوم، ولم يبق صقع من أصقاع العالم إلا وقد تغلغلت إليه أشعته!

ويؤكد أن المرحلة الأولى من تاريخنا بلغت من حيويتها وقوة تأثيرها درجة استحال معها أن يزول أثر طابعها على التاريخ!

كما يؤكد أن الحيوية التي نشاهدها في العمل الإسلامي اليوم، هي من آثار تلك الحركة المثالية التي أنشأها الإسلام في أولى مراحله.

بهذا يؤكد ما جاء في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم: أن النبي قال: "مثل أمتي كالمطر: لا يدرى أوله خير أم آخره".[3]

كثرة الملوك الصالحين في عصور الملكية الإسلامية:

ومع شدة الأستاذ المودودي عل المرحلة التي سماها (المرحلة الملكية) من تاريخنا، وما حدث فيها من تغير في الحياة الإسلامية، من قلة النماذج الإسلامية الرفيعة من المسلمين، ومن إهمال الدعوة إلى الإسلام، وتحويل الدولة الإسلامية إلى دولة جباية لا دولة هداية، على خلاف ما قال الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز: أن الله بعث رسوله هاديا، ولم يبعثه جابيا!

على الرغم من هذا اعترف المودودي بكثرة الملوك الصالحين والأتقياء في التاريخ الإسلامي، فقال: (ومما لا يستحق الجدل أن عصر الملكية في التاريخ الإسلامي لا يقاس أبدا بعصور الملكية في تاريخ الشعوب الأخرى، لأن الملكية في تاريخنا الإسلامي مع ما جاءت به مشحونة بكثير من السيئات والويلات، إلا أنك لن ترى عبر التاريخ الإسلامي تلك العصور المظلمة التي هي علائم بارزة في تاريخ الأمم الأخرى. ولا أملك نفسي في هذه المناسبة إلا لأسجل إعجابي واستحساني لما توافر في التاريخ الإسلامي من الملوك الأتقياء الصالحين، وما استطاع أي شعب أن ينجب هذا العدد الوفير من الملوك الصالحين).[4]

وإن عاب عليهم: أنهم لم يقوموا بأمر الدعوة إلى الإسلام، كما ينبغي، وهذا أمر عام في التاريخ الإسلامي كله، وجب أن يبحث على حدة.

قضية الحاكمية وما أثارته من جدل:

ومما عيب على الأستاذ المودودي: أنه أول من نادى بفكرة (الحاكمية) التي اقتبسها منه الشهيد سيد قطب، ويحملون هذه الفكرة وزر (التكفير) وجماعاته، كما أنها قديما كانت سبب فتنة الخوارج الذين قالوا: لا حكم إلا لله!

صحيح أن قضية (الحاكمية) قد ألح عليها الأستاذ المودودي إلحاحا بينا، حتى تكاد تعتبر هي المحور المركزي الذي يدور حوله كثير من أفكاره ونظراته.

والفكرة في ذاتها إسلامية أصولية صحيحة، وقد سبق أن قررها علماء أصول الفقه من قرون، فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يتحدث في مقدمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلق بالحاكم وهو الشارع، وبالمحكوم عليه وهو الملكف، وبالمحكوم فيه وهو فعل المكلف.. ثم يقول: وفي البحث عن الحكم يتبين أن (لا حكم إلا لله) وأنه لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كذلك ذلك حكم الله تعالى ووضعه لا حكم لغيره.[5]

ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين، فيقول: أما استحقاق نفوذ الحكم فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له. أما النبي ، والسلطان والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب الله تعالى طاعتهم. ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجب عليه أن يقبل عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته".[6]

إن إثبات (الحاكمية) لله: أمر مقرر في الإسلام، وانفراد الله تعالى بالحاكمية لخلقه أحد عناصر التوحيد التي قررها القرآن، وخصوصا في (سورة الأنعام) وهي ثلاثة عناصر أساسية:

1- ألا يبتغي غير الله ربا (قل أغير الله أبتغي ربا وهو رب كل شيء؟) الأنعام: .

2- ألا يتخذ غير الله وليا (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض؟) الأنعام: .

3- ألا يبتغي غير الله حكما (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا؟) الأنعام: .

إلى عدد من الآيات الأخرى التي تثبت له الاختصاص بالحكم سبحانه، وتنفيه عن غيره، كقوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57] إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ [يوسف: 40] وَاللهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ [الرعد:41] وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [الكهف: 24] لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:70] الْحُكْمُ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر: 12].

وإن كان (الحكم) في الآيات الأخيرة قد يراد به (الحكم الكوني) أي التصرف المطلق في الكون، بحيث إذا قضى أمرا قال له: كن، فيكون. لا (الحكم الأمري) التشريعي، وهو المراد من كلمة (الحاكمية).

وعلى كل حال إذا كان المراد من الحاكمية: السيادة والهيمنة التشريعية العليا والمطلقة، التي تملك وحدها الأمر والنهي، والإذن والمنع، والتحليل والتحريم، والإلزام والإيجاب، فهذه لا شك أنها لله وحده، فهو الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، وله وحده أن يكلف خلقه بما يشاء، ويعفيهم مما شاء.

وأما إن كان المراد بهذه (الحاكمية): منع البشر من التقنين مطلقا، ورفض أي حاكمية بشرية مقيدة، كما كان رأي الخوارج الساذج قديما، حينما رفضوا التحكيم بين المسلمين فيما تنازعوا فيه، وقالوا: لا حكم إلا لله، واتهموا الإمام المرتضى عليا رضي الله عنه، بأنه حكَّم الرجال في دين الله، إن كان هذا هو المراد بالحاكمية، كما قد يفهم أحيانا من بعض عبارات العلامة المودودي، فهو أمر مرفوض. وقد رد حبر الأمة ابن عباس على الخوارج، وحاجهم بكتاب الله الذي شرع التحكيم بين الزوجين إذا خيف شقاق بينهما، وفي قتل المحرم للصيد (يحكم به ذوا عدل منكم) المائدة: .

ويجب على الدراس المنصف هنا: أن يضم كلام المودودي بعضه إلى بعض، ولا يكتفي بكتاب عن آخر، ولا بفترة من أخرى، فربما صنف بعض الكتب والرسائل وهو في سن الشباب الدافق المتحمس، قبل تقسيم الهند وظهور دولة باكستان الإسلامية، وقبل اكتمال نضجه وتجربته. فقد كتب رسالة (موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه) في سنة 1940م وهي في الأصل مقالة مطولة نشرت في مجلة (الفرقان) في عددها الخاص بذكرى الإمام المجدد ولي الله الدهلوي (ت 1176هـ).

انظر ما قاله المودودي بصراحة في كتابه عن (الحكومة الإسلامية) عن التشريع ودور الأمة فيه. فبعد أن تحدث عن الحاكمية ومعناها قال:

نطاق التشريع:

قد يظن البعض حين يسمع هذه الحقائق الرئيسية أن الدولة الإسلامية بهذه الصورة لا مجال فيها أمام الإنسان على الإطلاق لقيامه بالتشريع والتقنين. لأن الله في هذه الدولة هو المشرع الوحيد، ولا عمل للمسلمين سوى اتباع قانونه وتشريعاته التي قدمها لهم الرسول عليه الصلاة والسلام.

غير أن الإسلام في الواقع لم يغلق باب التشريع تماما في وجه الإنسان، وإنما حدده وضيق إطاره بأن جعل الحاكمية والسيادة للقانون الإلهي. فما هي الدائرة التي يقوم الإنسان فيها بالتشريع في ظل هذا القانون الأعلى؟ هذا ما سأوضحه باختصار فيما يلي:

توضيح الأحكام:

ثمة قسم من أمور الحياة الإنسانية أصدر القرآن والسنة فيه حكما قاطعا، أو وضعا له قاعدة خاصة، وفي مثل هذه الأمور لا يستطيع أي فقيه أو قاض أو مشرع أن يغير ما صدر فيها من أحكام، أما تقرر لها من قواعد. لكن هذا لا يعني أن الإنسان لا يستطيع التحرك في ميدان التشريع في هذه الأمور، فدائرة عمله فيها أن يعرف جيدا الحكم الصادر، ثم يحدد ويعين مفهومه وأصله، ويتحقق من الظروف والحالات التي يختص بها هذا الحكم، ثم يستخرج بالفعل الأشكال والصورة التي ينطبق فيها هذا الحكم على ما قد يقع من المسائل مستقبلا، ويقوم بوضع الدقائق والتفاصيل الجزئية لمجمل الأحكام والقواعد في الحالات الاستثنائية.

القياس:

كما تضم حياة الإنسان قسما آخر، يشمل المسائل التي لم تُدْل الشريعة فيها بحكم، لكنها أصدرت حكما في أمور تشابهها. وممارسة التشريع في هذا القسم تكون بفهم أسباب الأحكام وعللها فهما دقيقا، وتنفيذها في الأمور التي تكمن فيها نفس العلل والدواعي، وتحديد ما هو مستثنى من هذه الأمور وما يخلو حقيقة من أسباب الحكم ودواعيه.

[وهذا هو ما يطلق عليه الفقهاء: اسم (القياس) وهو: إلحاق الشيء الذي لم ينص عليه بشبهه المنصوص عليه إذا اشتركا في العلة، ولم يوجد بينهما فارق معتبر].

الاستنباط:

كما أن هناك قسما ثالثا، لم تبين فيه الشريعة أحكاما بعينها، وإنما أعطت في شأنه بعض المبادئ العامة الجامعة، أو بيّن الشارع المستحب المطلوب فعله، والمكروه الذي ينبغي منعه وإزالته. ومهمة التشريع في هذه الدائرة: فهم مبادئ الشريعة وأصولها في هذه المسائل، وكذلك قصد الشارع مما قرره من مبادئ، ثم وضع القوانين في الأمور الواقعية الفعلية بحيث تُبنى على ما أوضحته الشريعة من أصول ومبادئ، وبحيث يتحقق منها قصد الشارع وهدفه.

دائرة التشريع الحر:

كذلك ثمة قسم من حياة الإنسان سكتت الشريعة عنه تماما، فليس فيه حكم صريح أو قياسي أو مستنبط. وهذا المسكوت في حد ذاته دليل على أن الحاكم الأعلى أعطى الإنسان حق إبداء رأيه في أمور ومسائل هذا القسم.

ومن ثم يمارس الإنسان التشريع فيها بحرية تامة، شريطة أن يتطابق ما يشرعه ويتلاءهم مع روح الإسلام ومبادئه العامة، ولا يشذ في مزاجه عن مزاج الإسلام العام، الذي يكسو نظام الحياة الإسلامي ويسوده.

الاجتهاد:

إن التشريع الذي يحرك نظام الإسلام القانوني وينميه ويضيف إليه بمرور وتطور ظروف الزمن وحالاته: إنما يتم عن طريق بحث علمي خالص، وتحقيق عقلي دقيق. ويسمى بالاصطلاح الإسلامي (الاجتهاد). والمعنى اللغوي لهذا اللفظ: (بذل قصارى الجهد في إنجاز عمل ما)، ولكن معناه الاصطلاحي: (بذل قصارى الجهد لمعرفة حكم الإسلام وهدفه في مسألة معينة).

وقد استعمل البعض اصطلاح (الاجتهاد) خطأ في معنى حرية استخدام الرأي، بيد أن أي إنسان يقف على نوعية القانون الإسلامي، هيهات أن يقع في خطأ القول بأن مثل هذا النظام القانوني يتسع لأي نوع من الاجتهاد الحر تماما، إذ يشكِّل القرآن والسنة نواة هذا النظام وأصله. ولا بد لمن يمارس التشريع: إما أن يتخذ هذا الأصل (الكتاب والسنة) أساسا للتشريع، أو أن يظل داخل إطار تلك الحدود التي تتاح له فيها حرية إعمال رأيه. أما ما يحدث من اجتهاد بعد الاستغناء عن هذا الأصل، فهو ليس اجتهادا إسلاميا، ولا مكان له في نظام الإسلام القانوني.[7]

ويؤكد المودودي:

أن الاجتهاد الصادر عن تأويلا، وتفاسير عشوائية ـ دون مراعاة لهذه الاحتياطات والشروط ـ من المستحيل أن يقبله ضمير المسلمين الاجتماعي أو أن يصبح جزءا حقيقيا من نظام الإسلام القانوني. حتى ولو صار في منزلة القانون عن طريق القوة السياسية، وسرعان ما يلقى به في سلة المهملات، بمجرد الإطاحة بالقوة السياسية التي نفذته.

كيف تصبح للاجتهاد منزلة القانون؟:

ويعرض الأستاذ المودودي هنا لمسألة هامة، وهي: كيف تصبح الاجتهادات الفقهية قانونا، أو لها منزلة القانون؟ وأجاب بقوله:

توجد في نظام القانون الإسلامي عدة حالات صارت لبعض الاجتهادات فيها منزلة القانون.

الأولى: ما يجمع عليه كافة أهل العلم في الأمة.

والثانية: الاجتهادات الشخصية أو الجماعية التي يبدأ الناس من أنفسهم في اتباعها، بعد أن تلقى بينهم قبولا عاما، ومثال ذلك اتخاذ بعض المدن الإسلامية الكبرى: الفقه الحنفي أو الشافعي أو المالكي أو الحنبلي قانونا لها.

والثالثة: الاجتهادات التي اعترفت بها أية حكومة إسلامية، وأقرتها قانونا لها، مثلما اتخذت الدولة العثمانية الفقه الحنفي قانونا لها [ودون ذلك في مجلة (الأحكام)].

والرابعة: الاجتهادات التي تقوم بها أية مؤسسة إسلامية ذات صفة دستورية في مجال السياسة.

أما ما يقوم به العلماء من اجتهادات ـ عدا هذه الحالات ـ فلا يتعدى منزلة الفتاوى.

والأحكام التي يصدرها القضاة لا بد من تنفيذها كقوانين في قضايا خاصة، ولها صفة السوابق والنمطية Precedents لكنها ليست قوانين بالمعنى الكامل الصحيح. وحتى أحكام وأوامر الخلفاء الراشدين التي كانوا يصدرونها بوصفهم قضاة لم يكن يعترف بها قوانين في الإسلام، لأن نظام القانون الإسلامي يخلو من وجود قوانين من صنع القضاة Judge Made Law.[8]

أعتقد أننا وجدنا المودودي ـ في هذه النقول التي أوردناها ـ ينظر إلى موضوع الحاكمية نظرتنا إليها، ويتيح للعقل المسلم أن يكون له دور في التشريع أو التقنين للأمة عن طريق الاجتهاد، الذي لا زال بابه مفتوحا لأهله في محله.

وإنما يغلق في وجوه الدخلاء الذين ليسوا أهلا للاجتهاد، أو الذين يخرجون عن دائرة ما يسوغ الاجتهاد فيه، إلى الدائرة المغلقة التي لا تقبل الاجتهاد، لأنها دائرة (الثوابت) القطعية التي حسمتها النصوص المحكمات.

وقد لخص المودودي (مبادئ التشريع) في الإسلام في هذه العبارة الموجزة:

"ما كان من العبادات فأدوه، ولا تبتدعوا طريقا للعبادة. أما في مجال المعاملات، فما صدر فيه حكم فأطيعوه ونفذوه، وما نهيتم عنه فانتهوا، وما اختار الشارع (الله ورسوله) الصمت إزاءه، فأنتم أحرار في أمره، بما يتفق ونظرتكم الصائبة، على ألا تشذوا فيه عن روح الإسلام العامة".[9]



--------------------------------------------------------------------------------

[1] موجز تاريخ تجديد الدين ص49، 50.

[2] انظر: رسالة (الإسلام اليوم) ص 20-25. نشر الدار السعودية.

[3] رواه أحمد والترمذي والطيالسي عن أنس، وأحمد وابن حبان عن عمار، وأبو يعلى عن علي، والطبراني عن عمر وابن عمرو. وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير بدرجة صحيح (5854).

[4] الإسلام اليوم ص30.

[5] المستصفى (1/8) ط. دار صادر ببيروت. مصورة عن طبعة بولاق.

[6] المستصفى (1/83) وفي فواتح الرحموت: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ: أن هذا عندنا، وعند المعتزلة: الحاكم العقل. فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا. وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا (يعني الماتريدية) ص 25 مع المستصفى.

[7] الحكومة الإسلامية ص173-175.

[8] الحكومة الإسلامية ص 179،178.

[9] الحكومة الإسلامية ص184.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:46 AM
استهلال

(اللهم باسمك نبتدي، وبهديك نهتدي، وبك يا معين نسترشد ونستعين، ونسألك أن تكحل بنور الحق بصائرنا، وأن تجعل إلى رضاك مصايرنا، نحمدك على أن سددت في خدمة دينك خطواتنا، وثبت على صراط الحق أقدامنا.

ونصلى ونسلم على نبيك الذي دعا إليك على بصيرة، وتولاك فكنت وليه ونصيره، وعلى آله المتبعين لسنته، وأصحابه المبينين لشريعته.

اللهم يا ناصر المستضعفين انصرنا، وخذ بنواصينا إلى الحق، واجعل لنا في كل غاشية من الفتنة: رداء من السكينة، وفي كل داهمة من البلاء: درعا من الصبر، وفي كل داجية من الشك: علما من اليقين، وفي كل نازلة من الفزع: واقية من الثبات، وفي كل ناجمة من الضلال: نورا من الهداية، ومع كل طائف من الهوى: رادعا من العقل، وفي كل عارض من الشبهة: لائحا من البرهان، وفي كل ملمة من العجز: باعثا من النشاط، وفي كل مجهلة من الباطل: معالم من الحق واليقين، ومع كل فرعون من الطغاة المستبدين: موسى من الحماة المقاومين)[1].

أما بعــد

فهذه صحائف كتبتها للملتقى الفكري الذي دعت إليه جمعية علماء المسلمين في الجزائر، لإحياء ذكرى الإمام: محمد البشير الإبراهيمي، علامة الجزائر، ولسانها الناطق بالحق، وسيفها القاطع لعنق الباطل، وقلبها النابض بحرارة الإيمان، ونجمها الثاقب الذي يهدى الحائرين، وينقضّ رجماً للشياطين.

وذلك بمناسبة مرور أربعين سنة على وفاته رحمه الله، وتقبله في الصالحين، والأئمة العاملين الصادقين.

وشكر الله لجمعية العلماء ما صنعت، فهذا ما يوجبه الوفاء والعرفان بالجميل، وبر الأبناء للآباء، وتقدير الأخلاف للأسلاف، وبناء اللاحق على ما أسسه السابق، وبهذا تتواصل الأجيال، ويكمل بعضها بعضاً، فالأمة في أجيالها المختلفة: سلسلة متكاملة الحلقات، يتصل بعضها ببعض، ويستفيد بعضها من بعض، ويدعو المتأخر للمتقدم، على نحو ما علمنا القرآن بعد أن حدثنا عن المهاجرين والأنصار، ثم قال: وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ[الحشر:10].

ولقد لقيت العلامة الإبراهيمي مرة أو مرتين - لا أتذكر- في القاهرة واستمعت إليه وأعجبت به، كما أعجب به كل من شهده وسمعه.

وقد كان الشيخ إذا تحدث يتدفق كأنه البحر الثجاج، ويتألق كأنه السراج الوهاج، وأشهد أنه شد الحاضرين جميعاً بيانه الناصع، وخطابه الرائع، وسعة اطلاعه على الأدب والتاريخ، واستشهاده بحكم البلغاء، وروائع الشعراء، ووقائع المؤرخين.

ولقد جاءتني دعوة جمعية العلماء، ورئيسها صديقنا العزيز الشيخ عبد الرحمن شيبان، الذي عرفناه في ملتقيات الفكر الإسلامي في الثمانينات من القرن العشرين: أخاً كريما، وصديقاً حميماً، قبل أن نعرفه وزيراً للشؤون الدينية، ورئيساً للملتقيات الإسلامية. .. جاءتني الدعوة وأنا في شغل شاغل، وزحمة في المطالب والواجبات، وضيق في الأوقات، وهذه مشكلة أمثالي، ولا يعين على حلّها إلا الله تعالى، فمنه نستمد، وعليه نعتمد، وبه نعتصم: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران:101].

ولم يسعني إلا أن ألبي الدعوة من أجل الجزائر، ومن أجل صاحب الذكري، ومن أجل صاحب الدعوة، فلكل واحد من هؤلاء الثلاثة حق عليّ لا أملك أن أتخلى عنه. فلا غرو أن كتبت هذه الصحائف على عجل، وفاء بحق هذا الرائد العظيم، وهذا المصلح الكريم، وإن لم نوفه حقه، ولم نشف الغليل مما كنت أريد، ولكن القليل خير من العدم فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ [البقرة:265].

رحم الله الشيخ الإبراهيمي، ورحم الله ابن باديس، ورحم الله علماء الجزائر، وشهداء الجزائر، وبارك الله في شعب الجزائر، وحفظه من كل سوء.

وحفظ عليه وحدته وأخوته، وجعل يومه خيرا من أمسه، وغده خيرا من يومه. آمين.

الفقير إلى الله تعالى

يوسف القرضاوي



--------------------------------------------------------------------------------

[1] - مقتبس من افتتاحية الإمام الإبراهيمي: نشرت في العدد 1 من جريدة البصائر سنة 1947م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:50 AM
مقومات الفكر الإصلاحي

عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي

الإمام محمد البشير الإبراهيمي: أحد أئمة الإصلاح والتجديد في العصر الحديث، ومن عايشه واستمع إليه خطيباً ومحاضراً ومدرساً ومحدثاً، أو قرأ مقالاته وبحوثه كاتباً مبدعاً، وباحثاً متعمقاً، سواء قرأ ذلك في حياته أم بعد مماته: أدرك تمام الإدراك أننا أمام رجل مصلح يعرف ماذا يريد من إصلاح لوطنه وشعبه وأمته ؟ وكيف الطريق إلى تحقيق ما يريد ؟ ويملك من الأدوات والمؤهلات (العقلية والعلمية والنفسية والخلقية والبيانية): ما يُمَكنه من تحقيق هدفه الذي يصبو إليه.

ولا يستطيع دارس أن يعرف حقيقة الدور الذي قام به الإبراهيمي – العالم المربي المصلح الثائر المجاهد – إلا إذا عرف دور (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) وما قامت به في الجزائر من إحياء لما مات، ومن تجديد لما رث، ومن تجميع لما افترق، ومن بناء لما تهدم، ومن تطهير لما تلوث. وقد كان البشير الإبراهيمي شريكاً مع مؤسس الجمعية، وباني النهضة الجزائرية الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس، فقد كان نائبه في حياته، وخليفته بعد وفاته.

وحديث الإبراهيمي عن ابن باديس: حديث الأخ المعجب بأخيه، والمرؤوس المزهو برئيسه، والصديق الوفيّ لصديقه، الذي جعله شيخاً له وإماماً في العلم والعمل والخلق والدعوة والتربية والجهاد.

ومن تأمل في سيرة الإمام الإبراهيمي، وفي تراثه الأدبي والفكري: تبين له بوضوح وجلاء: خطه الإصلاحي، ومنهجه التجديدي.

ونستطيع أن نجمل مقومات الفكر الإصلاحي والتجديدي عند البشير الإبراهيمي في هذه النقاط أو المحاور:

1- الإسلام والعروبة: أساساً ومنطلقاً.

2- الوحدة والحرية (أو التوحيد والتحرير): محوراً وهدفاً.

3- التوعية والتربية: منهاجاً وطريقاً.

4- العمل الجماعي: ضرورة وشرطاً.

5- الأمة العربية والإسلامية: ساحة وميداناً.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:52 AM
(1)

الإسلام والعروبة: أساساً ومنطلقاً


كان الإسلام هو المرجعية الأولى، بل المرجعية الوحيدة للإبراهيمي وجماعته وهو أمر طبيعي لا غرابة فيه ولا دهشة منه، بل الغريب أن تكون له مرجعية أخرى غير الإسلام.

فالرجل عالم مسلم، حفظ القرآن منذ صباه، وقرأ الحديث، ودرس التوحيد والفقه والأصول، وسائر علوم الإسلام، ونبغ فيها، وأمسى معلما لها، وداعيا إليها، فلا يتصور منه أن يتخذ مرجعا غير الإسلام.

ولكن ما مفهوم الإسلام الذي يؤمن به الشيخ ويدعو إليه، ويزود عنه شبهات المرتابين وأكاذيب المفترين ؟.

إنه ليس الإسلام الذي شابته شوائب الأزمنة والأمكنة، والأعراف المتباينة، فكدرت صفاءه، وغبشت ضياءه. إنه ليس للإسلام مذهب من المذاهب، ولا طائفة من الطوائف، ولا قطر من الأقطار، ولا عصر من الأعصار. إنه (الإسلام الأول) إسلام القرآن الكريم، والسنة الصحيحة. إسلام الرسول الكريم وصحابته الميامين، وتلاميذهم الأخيار من التابعين.

إنه إسلام القوة لا الضعف، وإسلام التجديد لا الجمود، وإسلام الحرية لا القيود، وإسلام القوة والكرامة، لا الذلة والمهانة ! ولقد حرص الإبراهيمي على أن يبين باستمرار رسوخ الإسلام في الجزائر رسوخ الجبال الشم، وأنه أصل أصول حياتها، وأنه منها بمثابة الروح من الجسد. إذا انفصل أحدهما عن الأخر فمعناه الموت.

يقول في مقالة له: (إن الإسلام في الجزائر ثابت ثبوت الرواسي، متين القواعد والأواسي، قد جلا الإصلاح حقائقه فكان له منه كفيل مؤتمن، واستنارت بصائر المصلحين بنوره فكان له منهم حارس يقظ، وعاد كتابه (القرآن) إلى منزلته في الإمامة فكان له منه الحمى الذي لا يطرق، والسياج الذي لا يخرق)[1]

الإسلام الذي يدعو إليه الإبراهيمي:

وطالما شرح الإمام الإبراهيمي هذا الإسلام العظيم بقلمه الفياض، وعباراته المشرقة، فجلى أسراره، وجسد آثاره، وكشف اللثام عن عقيدته الحنيفية، وعن شريعته السمحة، وعن قيمه الملائمة للفطرة، المهذبة للغريزة، التي تسمو بالإنسان حتى يتميز عن الحيوان.

اقرأ له هذه القطعة، التي يتحدث فيها عن الإسلام دين التحرير، فيقول[2]:

(إن الإسلام هو " دين التحرير العام "، فنرسل هذا الوصف إرسالاً بدون تحفظ ولا استثناء، لأنه الحق الذى قامت شواهده، وتواترت بيناته، ومن شواهده وشهوده: تلك الأجيال التى صحبت محمداً وآمنت به، واتبعت النور الذي أنزل معه، ثم الذين صحبوهم، ثم الذين اتبعوهم بإحسان.

ونحمد الله على أن العلاقة بين الألفاظ ومعانيها لم تنقطع عند جميع العقلاء من أجناس البشر، والعقلاء هم حجة الله على من سواهم، وما زال الخير يسمى خيراً، والشر يسمى شراً، والفضيلة فضيلة، والرذيلة رذيلة، فالسارق يسرق وهو يعتقد أنه متعد على مال الغير، والمتبع لخطوات الشيطان لا يقول: رضي الله عن إبليس، وإنما يقول: لعنة الله، وأن هذه لمن أسرار فطرة الله التى فطر خلقه عليها، يواقعون الشر ولا يسمونه خيراً، فيسجلون بذلك الشهادة على أنفسهم، إلا المطبوع على قلوبهم، الفاقدين للشعور، كالذين إذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض. قالوا: إنما نحن مصلحون، وكصرعى التقليد للحضارة الغربية الذين استرقتهم الشهوات فاستباحوا المحرمات باسم الحرية. وكالمسيرين للدول الغربية، أسكرتهم القوة فبغوا على الضعفاء وسلبوا أوطانهم، وسموا بغيهم استعماراً.

إن من الظلم والحيف والغش والفساد في الأرض تسمية الأشياء بغير أسمائها، لأنه قطع للأسباب عن مسبباتها وقد قيل في قوله تعالى: وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ[البقرة: 27]، أن منه قطع الدوالي عن مدلولاتها، وأن أعظم شرور هذه الحضارة الغربية أنها فتحت الباب لهذا النوع من المسخ وشجعت عليه، فأفسدت الفطرة - والضمير الذي سماه محمد - - (وازع الله في نفس المؤمن) والتحرير الذي جاء به الإسلام شامل لكل ما تقوم به الحياة وتصلح عليه كل المعاني والأشخاص، والدين الإسلامي لا يفهم التحرير بالمعنى الضيق، وإنما يفهمه على أنه كل إطلاق من تقييد، أو تعديل لوضع منحرف، أو انصاف لضعيف من قوى، أو نقل شئ من غير نصابه إلى نصابه، قالت أسماء بنت أبي بكر حينما بعث لها أبوها بجارية تقوم لها بعلف الفرس: فكأنما أعتقني.

الإسلام دين التحرير العام:

حرر الإسلام العقل وجميع القوى التابعة له في النفوس البشرية، والعقل هو القوة المميزة للمتضادات والمتنافرات التي بنى عليها هذا العالم، كالصلاح والفساد، والخير والشر، والنفع والضر، ولذلك جعل مناطا للتكاليف الدينية والدنيوية، وقد يطرأ عليه ما يطرأ على الموازين المادية من الاختلال فيتعطل أو ينعكس ادراكه، والإسلام يعلو بتقدير العقل والفكر إلى أعلى درجة، ويقرر أن ادراك الحقائق العليا في الدين أو الكون إنما هو حظ العقول الراجحة والأفكار المسددة، وأن العقول المريضة والأفكار العقيمة تنزل بصاحبها إلى الحيوانية بل إلى أحط من الحيوانية، ففي القرآن العظيم لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ[الأعراف: 179].

ولهذه المنزلة التي وضع الإسلام العقل فيها حماه من المؤثرات والأمراض والعوائق، وأحط دركة يرتكس فيها العقل هي الوثنية، فهي أكبر معطل له عن أداء وظيفته حين لا يسمو إلى الجولان في العوالم الروحية وحين تفتنه بالماديات بظواهرها من طريق الجوارح الحسية.

أعلن الإسلام من أول يوم حربا شعواء على الوثنية بجميع أنواعها، وهي أشد ما كانت سلطانا على النفوس، وتغللا فيها، وإفسادا لفطرة الخير واطفاء لنورها، حتى اجتثها ومحا آثارها من النفوس والآفاق، وعمر مكانها بالتوحيد، أتدرون السر في تلك الحملات على الوثنية ؟ هو تحرير العقل من نفوذها وسلطانها حتى يواجه أمانة الدين الجديد صحيحا معافى، ويؤدي الوظيفة التي خلق لأدائها، وما هدم أصحاب محمد الأصنام بأيديهم إلا بعد أن هدم محمد الوثنية في نفوسهم، وبعد أن بنى عقولهم من جديد على صخرة التوحيد، ولولا ذلك لما أقدم خالد على هدم طاغية ثقيف.

وحررت الخلطاء بعضهم من بعض بما شرعه الله من أحكام عادلة تقوم بالقسط، وترفع الحيف والظلم، ووقف بكل واحد عند حده، وحفظ له حقوقه.

فحد الحدود بين المرأة والرجل، وبين المحكوم والحاكم، وبين الفقير والغني، وبين العبيد والسادة، وبين العمال وأصحاب المال، وهذه الأنواع من التحرير تناولتها النصوص القطعية من القرآن والأحاديث، واكتنفتها في طلب النصوص مؤثرات من الترغيب والترهيب تزيدها قوة ورسوخا في النفس فأما تحرير المحكومين من الحاكمين فلا مطمع أن يأتي فيه على وجه الدهر ما جاء به الإسلام من شرائع العدل والإحسان والشورى والرفق والرحمة وعدم المحاباة حتى في النظرة والكلمة والمجلس.

وأول ما يسترعي النظر من ذلك سيرة محمد – – وأقضيته في حياته وما أدبه به ربه من مثل قوله: وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ [المائدة: 49] قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ[الأنعام: 66] وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ[ق: 45] ثم سيرة الخلفاء الراشدين في الحكم فإنها كانت مثالا من أحكام النبوة التي هي وحي يوحى، وأن الأمثلة التي ضربها عمر في إقامة العدل وقوة الاضطلاع، لأمثلة خالدة على الدهر، فاق بها من قبله، وأعجز من بعده، وما أروع قوله: من رأى منكم إعواجا في فليقومه، وأروع منه قول مجيب من أفراد الرعية: لو رأينا فيك إعوجاجا لقومناه بسيوفنا، وأبلغ منهما في الروعة أن يحمد عمر ربه على أن يكون في أمة محمد من يقوم عمر بسيفه.

والتشريع الإسلامي متصل الحلقات من العقائد والعبادات إلى الآداب والمعاملات، وكله يرمي إلى غاية واحدة، وهي إنشاء أمة متحدة المبادئ والغايات، متناسقة ما بينها، لتحمل الأمانة كاملة صحيحة إلى الأجيال اللاحقة، وقد تم للإسلام ما أراد عدة قرون، وما زلنا – بحمد الله – نحمل بقايا من ذلك، ولولاها لكنا في الغابرين.

وحرر الإسلام الفقير من الغني، فجعل للفقراء حقا معلوما في أموال الأغنياء، ووجه التحرير هنا أن الفقير كان يسأل الغني فيعطيه أو يحرمه تبعا لخلقه من تسهل أو كزازة، فإذا أعطاه شيئا أخذه على أنه مكرمة ممنونة، تجرح نفسه، وإن أشبعت بطنه، ولكن الإسلام ألزم الغني بدفع الزكاة للفقير وسماها حقا معلوما، وتسمية هذا المال حقا لله تشعر الغني بالرضا والتسليم، والاطمئنان إلى أخلاقه ومضاعفته، وترفع عن الفقير غضاضة الاستجداء ومهانة السؤال، وتطهر نفسه مع ذلك من رذيلة الحقد على الغني، وهذا الحقد هو أساس الشيوعية.

ومن عجائب الإسلام في إدخال التربية النفسية في الأحكام، أنه لا يأمر بشئ ولا ينهى عن شئ من العمليات إلا بعد أن يمهد للنفس ويعمرها بخوف الله وحده، ويقنعها بالآثار التي تترتب على المأمور به أو المنهي عنه، فإذا جاء دور العمل كانت النفس مطمئنة بالعلم وراضية بالعمل مهما شق، ولهذا كانت عقائد الإسلام وعباداته وأحكامه وآدابه كلها مترابطة وكلها متعاونة على تهذيب المسلم، ولهذا السر أيضا صلح شأن المسلمين الأولين، لأنهم أقاموا الدين كله، عينيا في العينيات، وكفائيا في الكفائيات، وكانوا لا يتهاونون في الصغيرة، احتياطا للكبيرة، ومن أوامر القرآن: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[الشورى:13].

وحرر الإسلام المرأة من ظلم الرجال وتحكمهم فقد كانت المرأة في العالم كله في منزلة بين الحيوانية والإنسانية، بل هي إلى الحيوانية أقرب، تتحكم فيها أهواء الرجال وتتصرف فيها الاعتبارات العادية المجردة من العقل، فهي حينا متاع يتخطف، وهي تارة كرة تتلقف، تعتبر أداة للنسل أو مطية للشهوات، وربما كانت حالتها عند العرب أحسن، ومنزلتها أرفع، يرون فيها عاملاً من عوامل ترقيق العواطف وإرهاف النفس، ودواء لكثافة الطبع وبلادة الحس، ويجدون فيها معاني جليلة من السمو الإنساني، وأشعارهم – على كثرتها – عامرة بالاعتراف بسلطان المرأة على قلوبهم وبشرح المعاني العالية التي يجدونها فيها، ولا عبرة بما شاع عنهم من وأد البنات، فإنه لم يكن عاماً فاشياً فيهم، وتعليله عند فاعليه يشعر أنه نتيجة حب طغى حتى انحرف، وأثر عقل أسرف في تقدير العواقب، لا نتيجة كراهية لنوع الأنثى، وعلى كل حال فالوأد خطأ كبير، وجريمة شنيعة، وشذوذ في أحكام الرجال خارج عن نطاق الإنسانية، وحسبه تسفيه قوله تعالى:أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ[النحل:59].

وحرر الإسلام الحيوان الأعجم من الإنسان، وحرم عليه أن يحمله مالا يتيح من الأحمال والأعمال، وأن يجيعه أو يعطشه، فإذا فعل فيه شيئا من ذلك بيع عليه جبرا بحكم الحاكم، وأوصي في الرفق بالحيوان وصايا زاجرة، وفي حديث نبوي أن امرأة دخلت النار بسبب هرة أمسكتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض، وأن امرأة عاصية لله دخلت الجنة بسبب كلب وجدته يلهث عطشاً على حف بئر فأدلت خفها وسقته، وما من شيء تفعله جمعيات الرفق بالحيوان في هذا العصر إلا وقد سبق الإسلام إلى أكمل منه.

ربط الإسلام بالعروبة:

والإسلام الذي يدعو إليه الإبراهيمي: مختلط بالعروبة اختلاط اللحم بالدم وكأنما عنده مركب كيماوي امتزج فيه العنصران كما امتزج الأكسوجين والهيدروجين فكونا (الماء) الذي جعل الله به كل شيء حي.

والعروبة التي يدعو إليها ليست عرقية ولا عنصرية، بل هي عروبة لغة وثقافة، وجوهرها اللسان العربي وهو الذي نزل به القرآن الكريم

1. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ* بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ [الشعراء: 193، 194، 195].

وهو الذي تكلم به الرسول عليه الصلاة والسلام، ورويت به أحاديثه، ودونت به سنته، التي هي المصدر الثاني للإسلام بعد القرآن.

والعربية هي لغة الأذان والإقامة، والقراءة في الصلاة، والتلبية في الحج وغيرها.

وقد أوجب الإمام الشافعي على كل مسلم أن يتعلم من العربية ما يؤدي به صلاته وعبادته.

كما أن القرآن عربي، ومحمد رسول الإسلام عربي، وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزله معه: عرب، حتى من لم يكن منهم عربي الأرومة والعرق، فقد تعرب باللسان حين تكلم العربية، وقد روي حديث عن النبي يقول: "إنما العروبة اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي"[3].

وأرض العرب هي أرض الإسلام ومهده ومنبته، فيها نشأت الدعوة، وإليها كانت الهجرة، وبها كانت الوفاة، وهي التي ضمت رفاته عليه السلام، والمساجد الكبرى المقدسة في الإسلام والتي لا تشد الرحال إلا إليها في أرض العرب: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى.

ويعتبر الشيخ الإبراهيمي أهم مكونات (الذات الجزائرية) إنما هي (الإسلام والعروبة) الإسلام الذي لا يرفض العروبة، مثل إسلام الغلاة، الذين زعموا أن الإسلام يرفض كل القوميات، لا فرق بين قومية عربية، وقومية هندية أو طورانية أو فرعونية أو غيرها. ونسوا خصوصية العروبة وما لها من صلة حميمة بالإسلام، أشرنا إليها.

والعروبة التي لا تنفصل عن الإسلام ولا تعتبر نفسها نداً له أو خصماً. مثل عروبة (القوميين) المتعصبين الذين ينصبون حرباً بين العروبة والإسلام، والذين اعتبر بعضهم القومية العربية (ديناً جديداً) أو (نبوة) جديدة والذين قال شاعرهم:

بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر، ومن أجلها صم!

سلام على كفر يوحد بيننا وأهـلا وسهـلا بعـده بجهـنـم

وطالما أبدأ الشيخ وأعاد، وأفاض وأجاد، حول هذه القضية، ليقنع بها العقول، ويحرك بها العواطف، ويحفز بها العزائم.

حماية الإسلام من المتأكلين باسمه:

وكان من حرص الشيخ على حماية الإسلام من الدجالين، يصب جام غضبه على أولائك الذين يلبسون لبوس العلماء، ثم هم يعملون لخدمة الإستعمار تحت عنوان الوظائف الدينية: كالإمامة والخطابة والتدريس والفتوى، وهذه هي الكارثة: أن يتحدث باسم الإسلام رؤوس جهال، يُسألون فيفتون بغير علم، فيَضلون ويُضلون أو أسوأ من ذلك: أن يفتوا بما يرضي سادة الاستعمار، وإن أسخط الواحد القهار، وإنما ينتصر الإسلام بالعلماء لا بالعملاء، وبالدعاة لا بالأدعياء.

يقول الشيخ: إن المسجد لا يؤدي وظيفته، ولا يكون مدرسة للقرآن، إلا إذا شاده أهل القرآن، وعمروه على مناهج القرآن، وذادوا عنه كل عادية. وما جعل القرآن المساجد لله، إلا لتكون منبعاً لهدايته، وما وصف الذين يعمرون مساجد الله بأنهم لا يخشون إلا الله [4]، إلا ليقيم الحجة على ضعفاء الإيمان ويعزلهم عن هذه المرتبة.

وصدق الله وصدق رسوله الذي وصف القرآن بأنه (لا تنقضي عجائبه)! فو الله لكأن هذه الجملة لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ من هذه الآية بهذا الأسلوب المقيد للحصر بأبلغ صورة نزلت اليوم، وهّاجة بأنوار الرسالة، مطولة بأنداء الوحي، لتكون حجتنا القاطعة على هذا النمط من عمار المساجد الذين يخشون المخلوق ولا يخشون الله [5] .

لقد وقفت جمعية العلماء لتذود عن الإسلام في شتى الميادين، كما يذود الأسد عن عرينه، وكما يدافع الحر عن عرضه، وكما يدافع الوالد عن ولده وفلذة كبده.

دافعت عنه في ثلاث ميادين في وقت واحد:

أ‌- في الميدان الخارجي بما ردت به من شبه الطاعنين، وكفكفت من غلواء المبشرين، وبما أقامت من حصون في وجوه الملحدين.

ب‌- وفي الميدان الخاص بالحكومة الجزائرية، وخصوصاً في قضية (فصل الدين عن الحكومة) التي تناولها الشيخ في مقالات عدة تحمل النور والنار، تناولتها بالشرح والتحليل، وبالبيان والتذليل، ولم يهن لها عزيمة، ولا خارت لها في المطالبة قوة، لم يخدعها وعد ولا ردها وعيد.

ت‌- وفي الميدان الداخلي: بينها وبين قومها وأبناء ملتها، حتى تعلم الجاهل، واهتدى الضال، وفاء إلى الرشد الغوي.

عمل جمعية العلماء لخدمة الإسلام:

ويخاطب الشيخ الاستعمار الفرنسي بلغة قوية لا دهن فيها صريحة لا جمجمة فيها، موضحاً ماذا تريده جمعية العلماء وما تعمل من أجل الإسلام والعروبة فيقول: (ياحضرة الاستعمار) إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده، وتفهيم حقائقه، وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالبك بتسليم مساجده وأوقافه إلى أهلها.

وتطالبك باستقلال قضائه، وتسمي عدوانك على الإسلام ولسانه ومعابده وقضائه: عدوانا بصريح اللفظ.

وتطالبك بحرية التعليم العربي، وتدافع عن (الذاتية الجزائرية) التي هي عبارة عن (العروبة والإسلام) مجتمعين في وطن.

وتعمل لإحياء اللغة العربية وآدابها وتاريخها، في موطن عربي، وبين قوم من الغرب.

وتعمل لتوحيد كلمة المسلمين في الدين والدنيا. وتعمل لتمكين أخوّة الإسلام العامة بين المسلمين كلهم.

وتذكر المسلمين الذين يبلغهم صوتها بحقائق دينهم، وسير أعلامهم، وأمجاد تاريخهم.

وتعمل لتقوية رابطة العروبة بين العربي والعربي ؛ لأن ذلك طريق إلى خدمة اللغة والأدب.

فإذا كانت هذه الأعمال تعد – في فهمك ونظرك – (سياسة)، فنحن سياسيون في العلانية لا في السر، وبالصراحة لا بالجمجمة.

إننا نعد كل هذا (ديناً) على الحقيقة لا على التوسع والتخيل، ونعده من واجبات الإسلام التي لا نخرج من عهدتها إلا بأدائها على وجهها الصحيح الكامل.

ولتعلم أننا نفهم الإسلام على حقيقته ؛ وأننا لا نستنزل عن ذلك الفهم برقية راق، ولا بتهديد مهدد ؛ ولتعلم سلفاً، ولتسلم منطقياً وواقعياً: أننا حين تختلف الأنظار بينك وبين الإسلام، فنحن مع الإسلام، لأننا مسلمون ؛ ولتعلم أن تلك الأعمال تزيدنا مع جلال العلم جلال العمل.

لتعلم ما دام الإسلام عقيدةً وشعائر، وقرآناً وحديثاً، وقبلة واحدة، فالمسلمون كلهم أمة واحدة ؛ وما دامت اللغة العربية لساناً وبياناً وترجماناً فالعرب كلهم أمة واحدة ؛ كل ذلك كلما أراد القدر المقدور، والطبيعة المطبوعة، والأعراق المتواصلة، والأرحام المتاشبكة، (فلا إسلام جزائري) [6] كما تريد ولا عنصرية بربرية كما تشاء.

ولتعلم – آخر ما تعلم – أن زمناً كنت تسلط فيه المسلم على المسلم ليقتله في سبيلك – قد انقضى وأنه لن يعود 000

ولكن ما قولك – أيها الإستعمار – في تدخلك في ديننا، وابتلاعك لأوقافنا، واحتكارك للتصرف في وظائف ديننا، وتحكمك في شعائرنا، وتسلطك على قضائنا، وامتهانك للغتنا ؟

ما قولك في كل ذلك – أهو من الدين أم من السياسة ؟

وكيف تبيح لنفسك التدخل فيما لا يعنيك من شئون ديننا، ثم تحرم علينا الدخول فيما يعنينا من شؤون دنيانا ؟

وهبنا وإياك فريقين، فريق أخضع الدين للسياسة ظالماً، وفريق أدخل السياسة في الدين متظلما فهل يستويان ؟ إننا إذا حاكمناك إلى الحق غلبناك، وإذا حكمتنا إلى القوة غلبتنا؛ ولكننا قوم ندين بأن العاقبة للحق لا للقوة [7]. انتهى.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] العدد 13 السنة الأولى من السلسة الثانية 1947م.

[2] من بحث ضاف تحت عنوان: الرق في الإسلام. انظر: آثار محمد البشير الإبراهيمي (4 / 356- 360)

[3]- رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (21/407) عن معاذ بن جبل، وقال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم: هذا الحديث ضعيف وكأنه مركب على مالك، لكن معناه ليس ببعيد بل هو صحيح من بعض الوجوه صـ169.

[4]- يشير إلى قوله تعالى {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ[التوبة:18].

[5]- من مقالة نشرت في البصائر العدد 153 سنة 1921م تحت عنوان: كلمتنا عن الأئمة.

[6]- (الإسلام الجزائري) هو غاية كان يعمل لها الإستعمار بجميع الوسائل ليفصل – على مر الزمن – بين مسلمي الجزائر وبين بقية المسلمين، ولكن الله خيبه !

[7]- نشرت في العدد (3) من البصائر سنة 1947

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:57 AM
(2)
التحرير والتوحيد: محورا وهدفا

وكان هدف الشيخ الإبراهيمي من عمله الإصلاحي الكبير الذي بدأه مع ابن باديس ورفقائه في الدرب، هو إعداد الشعب الجزائري المسلم ليوم لا ريب فيه، هو يوم التحرر من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني المتغطرس، الذي طال ليله، وطّم سيله.

ولن يحرر الوطن الجزائري من نير الاستعمار إلا الشعب الجزائري، ولن يتم ذلك إلا إذا حررنا نفسية الشعب من الخنوع للمستعمر، ومن التبعية لثقافته، ومن اليأس من مقاومته.

وحينئذ سيتحول هذا الشعب كله إلى جنود للكفاح، بل إلى أبطال تنشد الجهاد والاستشهاد، حين تُحلّ العقدة، وتتحكم العقيدة، وتتضح الغاية، وتستبين الطريق، وتستحكم العزيمة، ويسود قبل ذلك كله: الإيمان بالله، والثقة بنصره، والإيمان بأن الحق مع الشعب المجاهد، وأن الباطل مع العدو المستعمِر، وأن الحق لا بد أن ينتصر على الباطل. بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ [الأنبياء:18].

كان لا بد من غرس العزة في الأنفس، واليقين في السرائر، والأمل في القلوب، والبغض للذل والخنوع، والشعور بالسّيادة، والتوق إلى الحرية، وهذا ما فذ بـ(جمعية العلماء) ورجالها منذ تأسيسها، وفي مقدمتهم رئيس الجمعية الأول: الإمام عبد الحميد بن باديس، ونائبه الإمام محمد السيد الإبراهيمي.

وكان الإبراهيمي - وهو أديب من الطراز الأول، له طابعه المتميز وأسلوبه الخاص – يرسل قلمه شواظا من نار على الاستعمار ووحشيته، وأساليبه في القهر والإذلال، ومحاولة طمس الهُوية، وتغيير معالم الشخصية الجزائرية.

وكانت (البصائر) تحمل دائما ما يجود به قلم الشيخ، من نفحات على الوطن، ولفحات على الاستعمار.

التحرير الذي ينشده الإبراهيمي:

والتحرير الذي ينشده الإمام الإبراهيمي: تحرير عام شامل، يشمل تحرير الإنسان، وتحرير الأرض، تحرير الفرد، وتحرير المجتمع.. تحرير الرجل، وتحرير المرأة.. تحرير العقل، وتحرير البدن. التحرير من الاستعمار الخارجي، والتحرير من الاستعمار الداخلي.. هذا هو التحرير المنشود للإبراهيمي، وإن شئت قلت: إنه التحرير الذي تنشده جمعية العلماء، فما الشيخ في وقفته إلا لسانها المُعبِر، وعقلها المفكِر، وداعيتها المذكِر.

إشاعة كلمة (الحرية) في محيط الشعب:

وكانت كلمة (الحرية) من الكلمات المحظورة، التي لا يجوز ذكرها في حديث ولا خطبة، ولا درس ولا محاضرة ولا كتاب. كأنما لا توجد في اللغة أصلا. وكان الاستعمار حريصا على إخفائها وإماتتها، حتى جاء ابن باديس وإخوانه، فأحيوها بعد موتها، ونشروها من قبرها، وأشاعوها بين الناس، وحببّوها إليهم. يقول العلامة الإبراهيمي متحدثا عن سنوات المخاض والتحضير للنهضة الكبرى:

(كانت السنوات العشر التي هي أوائل المرحلة الثالثة في تقسيمنا كلها إرهاصات بتكوين جمعية العلماء، وكانت كلمات الوطنية، والإسلام وتاريخه، والحرية والاستقلال، قد وجدت مساغها في النفوس، وممرها إلى العقول، لأنها كانت تخرج من لسان ابن باديس وصحبه العلماء الشجعان، الموثوق بعلمهم ودينهم وأمانتهم، فيرن رنينها في الآذان، ويجاوز صداها إلى الأذهان، بعد أن كانت هذه الكلمات محرمة في فقه الاستعمار، ومهجورة في فقه الفقهاء، الذين نشأوا تحت رهبة الاستعمار، ومجهولة عند بقية الأمة، فكان أول من نطق بها على أنها لغة حيّة صحيحة الاستعمال، هو عبد الحميد بن باديس العالم الديني، واثنان أو ثلاثة من طرازه، ولكن ابن باديس كان يقولها لتلامذته في حِلَق الدرس ليطبعهم عليها، فلما أحس بالنجدة من إخوانه أصبحت هذه (العملة) مطروحة للاستعمال في السوق العامة، ولذلك ارتاع لها الاستعمار وقدر عواقبها الوخيمة عليه، فاحتاط لها بما نشرحه لكم في الفصل الثاني، وهو: أعمال الاستعمار في هذه المرحلة.

وكنت على أثر رجوعي واجتماعي بهذا الأخ نتداول الرأي في هذا الموضوع، ونضع مناهجه، ونخطط خططه، ومعنا بعض الإخوان، فأجمعنا في معرض الرأي الفاصل على أننا أمام استعمارين يلتقيان عند غاية.

أحدهما: استعمار روحاني داخلي:

يقوم به جماعة من إخواننا الذين يُصلّون لقبلتنا باسم الدين، وغايتهم استغلال الأمة، ووسيلتهم صدّ الأمة عن العلم، حتى يستمر لهم استغلالها، وهؤلاء مشايخ الطرق الصوفية التي شوهت محاسن الإسلام.

والثاني: استعمار مادي:

تقوم به حكومة الجزائر باسم فرنسا، وغايته استغلال الأمة، ووسيلته سد أبواب العلم في وجه الأمة حتى يتم لها استغلالها، والاستعماران يتقارضان التأييد، ويتبادلان المعونة، كل ذلك على حساب الأمة الجزائرية المسكينة، أولئك يضلّونها، وهؤلاء يذلّونها، وجميعهم يستغلّونها!!

كنا نتفق على هذا، ولكننا نجمل الرأي في أي الاستعماريين، يجب أن نبدأ بالهجوم عليه، ولم يكن من الصعب علينا الاتفاق على الهدف الأول للهجوم، فاتفقنا على أن نبدأ بالهجوم على الاستعمار الأول وهو الطرق الصوفية، لأنها هي مطايا الاستعمار الفرنسي في شمال أفريقيا ووسطها وغربها، ولولاها لم يتم له تمام.

والصوفية أو الطُّرُقية كما نسميها نحن في مواقفنا معها، هي نزعة مستحدثة في الإسلام، لا تخلو من بذور فارسية قديمة، بما أنّ نشأة هذه النزعة كانت ببغداد في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة، واصطباغ بغداد بالألوان الفارسية في الدين والدنيا معروف، وتدسس بعض المتنطعين من الفرس إلى مكامن العقائد الإسلامية لإفسادها، لا يقل عن تدسس بعضهم إلى مجامع السياسة، وبعضهم إلى فضائل المجتمع وآدابها لإفسادها، ومبنى هذه النحلة في ظاهر أمرها التبتل والانقطاع للعبادات التي جاء بها الإسلام، ومجاهدة النفس من طريق الرياضة بفطمها عن الشهوات، حتى تصفو الروح وتَشِف وتَرِق، وتتأهل لمشارفة الملأ الأعلى، وتكون بمقربة من أفق النبوة، وتتذوق لذة العبادة الروحية، وقد افترق النازعون إلى هذه النزعة من أول خطوة فرقا.وذهبوا فيها مذاهب، من القصد الذي يمثله أبو القاسم الجنيد، إلى الغلو الذي يمثله أبو منصور الحلاج، إلى ما بين هذين الطرفين.

وكانت لأئمة السنة وحماتها، الواقفين عند حدودها ومقاصدها ومأثوراتها: مواقف مع الحاملين لهذه النزعة، وموازين يزنون بها أعمالهم وآراءهم، وما يبدر على ألسنتهم من القول فيها، ولسان هذه الموازين هو صريح الكتاب وصحيح السنة، وكانت في أول ظهورها بسيطة تنحصر في الخلْوة للعبادة، أو الجلوس لإرشاد وتربية من يشهد مجالسهم، ثم استفحل أمرها فاستحالت علما مستقلا، يشكل معجما كاملا للاصطلاحات، ودونت فيها الدواوين التي تحلل وتشرح، وتصف الألوان الباطنية للنفس، وتبين الطريق الموصل إلى الله، والوسيلة المؤدية للسعادة، وكيفية الخلاص من مضايق هذا الطريق وأوعاره، ثم انتقلت في القرون الوسطى من تلك الأعمال التي تستر أصحابها، إلى الأقوال التي تفضحهم، فخاضوا في شرح مغيبات، وأفاضوا في جدال مكشوف بينهم وبين خصومهم، وكانوا سببا من الأسباب الأصيلة في شق الأمة شقين: أنصار، ومنكرين، وضاعت في هذا الضجيج ثمرة هذه النحلة، وهي رياضة النفس اللجوج على العبادة، وقمع نزواتها البدنية، وأصبحت هذه النحلة أقوالا تدافع، يقولها من لا يفقه لها معنى، فضلا عن أن تصطبغ بها نفسه. والحق في هذه النزعة أنها صبغة روحية مرجوحة في ميزان الشرع وأحكامه، وإنما يقبل منها ما يساير المأثور، ولا يجافي المعروف من هدي محمد وأصحابه، فإن الدين قد تكامل بختام الوحي، والزيادة فيه بعد ذلك كالنقص منه، كلاهما منكر، وكلاهما مرفوض، وما لم يكن يومئذ دينا فليس بدين بعد ذلك.

ولكن تلك النزعة التي عفا رَسْمُها، بقي اسمها، ولم يبق بقاء تاريخيا للعظة والاعتبار، وإنما بقي فتنة بين المسلمين، وميدانا لعلمائهم يتراشقون فيه ويتنازعون، ولعامتهم يلهون فيه ويلعبون، ويضلون بسببه عن حقائق دينهم ودنياهم.

وانتهى بها الأمر في القرون الأخيرة إلى نسبة مجردة من جميع المعاني، ينتسب إليها– تقحما- كل من هبّ ودب، لا يطلبها من طريق علم ولا تربية، ولكن من طريق الشعوذة والحيلة، ثم تدلت دركة أخرى، فأصبحت وسيلة معاش! ومصيدة لابتزاز أموال العامة، وانتهاكا لأعراضهم.. وهناك التقت مع الاستعمار في طريق واحد، فتعارفا وتعاهدا على الولاء.

ابحثوا في تاريخ الاستعمار العام، واستقصوا أنواع الأسلحة التي فتك بها في الشعوب، تجدوا فتكها في الاستعمال هذا النوع الذي يسمى (الطرق الصوفية)، وإذا خفي هذا في الشرق، أو لم تظهر آثاره جليّة في الاستعمار الانجليزي، فإن الاستعمار الفرنسي مارست قواعده في الجزائر، وفي شمال أفريقيا على العموم، وفي أفريقيا الغربية وفي أفريقيا الوسطى، إلا على الطرق الصوفية وبواسطتها!

ولقد قال قائد عسكري فرنسي معروف، كلمة أحاطت بالمعنى من جميع أطرافه قال: (إن كسب شيخ طريقة صوفية أنفع لنا من تجهيز جيش كامل، وقد يكونون ملايين، ولو اعتمدنا في إخضاعهم على الأموال والجيوش لما أفادتنا ما تفيده تلك الكلمة الواحدة من الشيخ، على أن الخضوع لقوتنا لا تؤمن عواقبه لأنه ليس من القلب. أما كلمة الشيخ فإنها تجلب لنا القلوب والأبدان والأموال أيضا).

هذا معنى كلمة القائد الفرنسي وشرحها، ولعمري إنها لكلمة تكشف الغطاء عن حقيقة ما زال كثير من إخواننا الشرقيين منها في شك مريب، وهم لا يدرون أن أول من خرج عن جماعة الأمير عبد القادر الجزائري في أيام جهاده شيخ طريقة معروفة، وأن من أكبر أسباب هزيمته استعانة فرنسا عليه بمشايخ الطرق الصوفية، وإعلان كثير من أتباعهم الخضوع لفرنسا، فهل نحتاج بعد هذا إلى دليل؟ وأن تاريخ تلك الوقائع لم يزل مداده طريّا، وما زال الاستعمار بالجزائر يُسمي هؤلاء المشايخ (أحباب فرنسا).

وإني أتعجل لكم البشرى بأن أحفاد أولئك المشايخ – إلا ما قل – أصبحوا من أكبر الناقمين على الاستعمار، بل أصبح بعضهم من الغلاة في الوطنية، ومن الصفوف الأولى من أنصار العلم والتعليم، والداعين إليهما، والعاملين على نشرهما بالجاه والمال، ولا تكاد توجد مدرسة من مدارس جمعية العلماء خالية من عدد من أولادهم، متعلمين أو معلمين، ومنهم كثير في الجامعات الإسلامية: القرويين والزيتونة والأزهر.)[1] ا هـ.

ولي ملاحظتان على حملة العلامة الإبراهيمي على الطرق الصوفية ومشايخها:

الأولى: أنه لم يستحسن أحدا، على نحو ما قال تعالى: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ[ص: 24].

الثانية: أن الشيخ الإبراهيمي كان شديد الوطأة، حار الهجوم، حديد اللسان، على التصوف والصوفية.

ولعل الحرب التي كانت دائرة بين الطرفين، هي التي زادت النار اشتعالا، وأن الاستعمار كان يؤيد أصحاب الطرق ويستعين بهم، وأن المتصوفة كانوا يتطرفون في محاربة دعاة الإصلاح والتجديد، حتى حكى الإبراهيمي أنه سمع أحد الصوفية الكبار يقول عن العلامة رشيد رضا: إنه أضر على الإسلام من ألف كافر.

التوحيد هو الهدف الثاني:

كانت الحرية – أو التحرير- هي الأمل الأول الذي يسعى إلى تحقيقه الإمام الإبراهيمي، وكانت الوحدة – أو التوحيد- هي الأمل الثاني الذي يرنو إليه أو يصر عليه.

وهذه الوحدة تبدأ بوحدة الجزائر أولا، قوة الشمال الإفريقي أو المغرب العربي، فوحدة الأمة العربية، وانتهاء بوحدة الأمة الإسلامية.

وكانت وحدة الجزائر والجزائريين هي شغله الشاغل، فهو يعمل دائبا بعلمه ولسانه، وفكره ووجدانه، وحركته مع إخوانه، لصهر عنصري الشعب الجزائري: عربه وبربره – كما هو الواقع – في بوتقة واحدة. ويرى أن الإسلام قد عرّب الشعب الجزائري، كما عرّب المغرب العربي كله.

وهو يعجب من الذين يريدون أن يجعلوا البربر فرنسيين، وليس بينهم وبين فرنسا نسب ولا آصرة دينية، ولا عرقية، ولا تاريخية، ولا جغرافية – في حين بينهم وبين العروبة أكثر من آصرة!!.

البداية بتوحيد الشعب الجزائري:

كان سعي الشيخ في مجال التجميع والتوحيد: البدء بتوحيد الشعب الجزائري أولا. وهذا بدء طبيعي منطقي كما في الحديث: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"[2].

كان يريد أن يتوحد الشعب الجزائري توحدا حقيقيا، بحيث يكون كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، أو كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تألم سائر الأعضاء.

وهنا لا يسمح بإثارة أي نوع من الخلافات المفرقة بين الشعب الواحد، فلا مجال للقول بانقسام الجزائر إلى عرب وبربر، فقد عرّب الإسلام البربر، كما عرّب المصريين وغيرَهم من الشعوب.

ولقد بذل الأستاذ جهده، بتفنيد هذه الأسطورة، فنقضها من أساسها، وأثبت أن الأخوة الإسلامية قد أذابت الفوارق بينهما، وجعلت منهما شيئا واحدا، على مدار التاريخ.

واجتهد الشيخ الإبراهيمي أن يُجَنّب الشعب الجزائري أسباب الخلاف الديني، من جرّاء الاختلاف في قضايا علم الكلام، أو مذاهب الفقه، أو اتجاهات التصوف.

كما حذّر الشيخ من مكايد الاستعمار ودسائسه، ومن همزاته ووساوسه، ومن سياسته المعروفة،التي شعارها (فرق تسد).

وحاول الشيخ هو ورفقاء دربه: أن يجمعوا الشعب على الإسلام الصحيح، الإسلام الأول، إسلام القرآن والسنة، وأن يحرروه مما سوى ذلك من مبتدعات العامة، وضلالات الخاصة، أو ما سماه الإمام محمد عبده: شهوات سلاطين، أو نزغات شياطين.

وقد حرص الإبراهيمي على توحيد الشعب الجزائري في شعائره الدينية، كما حرص على توحيد مواقفه الوطنية، وقد جاهد وكافح من أجل توحيد الشعب في صيامه وفطره وكتب في ذلك مقالات ضافية، يَرُدّ بها على لجنة الأهلة المعينة من قبل السلطة الفرنسية، ويهيب بالشعب المسلم أن يوّحد صيامه وإفطاره.

ضرورة الاتحاد وضرر الخلاف:

بدأ الشيخ دعوته إلى الاتحاد ـ كما قلنا ـ من المنطلق الطبيعي والمنطقي: أن تتحد الجزائر وشعبها أولا في مواجهة الاستعمار الفرنسي بسلطانه وجبروته، فكانت الدعوة إلى توحيد عنصري الوطن: العرب والبربر. ثم كانت الدعوة إلى اتحاد الأحزاب الوطنية التي تعمل لتحرير الجزائر. وكان الشيخ يلح في هذه الدعوة ويؤكدها ويكررها، ويناضل عنها بقوة يقول في ذلك:

(كل مسلم عربي جزائري مخلص يُؤيدنا في الدعوة إلى هذا الاتحاد. وَيَودُ منه ما نَوَد، ويَعتقد فيها ما نعتقده، من أنّه المعقل الوحيد للقضية الجزائرية، والوسيلة الوحيدة لنجاحها؛ ويرى ما نرى من آثار هذا التفرق الشنيع الذي شتّت شمل هذه الأمة الضعيفة، فزادها ضعفا على ضعف، في وقت تطلّعتْ فيه إلى المطالبة بحقها، فهي فيه أحوج ما تكون إلى جمع القوى، والتئام الشمل، واتحاد الكلمة.

تَرِد علينا رسائل كثيرة من عقلاء الأمة المخلصين لها، السالمين من عصبية الحزبية، وكلها حض على السعي في الاتحاد بين الأحزاب، وجمع الكلمة المتفرقة في هذا الوقت، التي تجمعت فيه جموع الاستعمار على دحض حقنا بباطله، وفي هذا الجو الذي كله نذر ومخاوف، والرسائل على كثرتها بحيث لا يخلو منها بريد يومي، وخصوصا في الأسابيع الأخيرة – كأنما كتبت بقلم واحد في أمور ثلاثة: التشهير بضرر الخلاف، والتنويه بضرورة الاتحاد، وتعليق الأمل في جمع الكلمة على كاتب هذه السطور وجمعية العلماء. وقد تغالى بعض الكاتبين، فعصب قضية الاتحاد برأس كاتب هذه الكلمة، وجعلها عهدة في عنقه، وبالغ بعضـهم – وهو من ذوي الآراء النيرة والعلم الواسع والإخلاص المحقق – فقفز إلى غاية الغايات، وهي جمع الكفاءات في حزب واحد.

أما ضرر الخلاف على القضية الجزائرية، فهو أمر يستوي في إدراكه جميع الناس، وأما ضرورة الاتحاد فهي أمر لا يختلف فيه عاقلان، وهو أمنية كل مسلم مخلص لدينه وجنسه ووطنه، وقد شعر به المسؤولون من رجال الأحزاب فتداعوا إليه جهرة، في حين حدّة الخلاف وعنفوانه، ووجود أقوى أسبابه. ولا يماري في لزوم الاتحاد إلا قصير النظر في العواقب، أو خادم لركاب الاستعمار من حيث يدري أو لا يدري، أو مدخول النسب في الوطنية)[3].

توحيد الشمال الإفريقي:

وبعد توحيد الجزائر شعبا ووطنا: توحيد فكرتها، وتوحيد عبادتها، وتوحيد وقفتها، ورصها صفا واحدا في مواجهة المعركة المرتقبة، الآتية في يوم لا ريب فيه: إتجه الشيخ إلى توحيد الشمال الإفريقي – أو المغرب العربي- كله. فإنما هو وطن واحد، وشعب واحد، بعضه من بعض، وأقصاه موصول بأدناه، فهو شعب عربي مسلم، ربطت بينه العروبة والإسلام، كما ربط بينه الهَمّ الواحد، والمصير الواحد، هو محاربة الاستعمار، وتحرير البلاد من نيره وناره، ومن ذله وإساره.

لذا كان حريصا أن يثبت بنصاعة بيانه، وفصاحة لسانه، وسطوع برهانه: أن الشمال الإفريقي كله عربي، كما أن كله مسلم. وأن الإسلام قد أذاب بين الجميع كل الفروق العرقية، ووحدهم خلف القرآن الكريم، والرسول العظيم، كما وحدهم في الصلاة خلف إمام واحد، يتلون كتابا واحدا، ويؤدون حركات واحدة، ويتعرفون إلى الله بعبادة واحدة، تفتتح بالتكبير، وتنتهي بالتسليم.

تحدث الشيخ عن وحدة الشمال الإفريقي بلسان صادق، وبيان دافق، وبرهان ناطق، يقيم الحجة على الخصم، ويخرس لسانه فلا يتكلم، ويفحمه فلا يجادل، تقرأ للشيخ مقالا في (البصائر) تحت عنوان (عروبة الشمال الإفريقي) يقول فيه:

(عروبة الشمال الإفريقي بجميع أجزائه طبيعية، كيفما كانت الأصول التي انحدَرتْ منها الدماء، والينابيع التي انفجرتْ منها الأخلاق والخصائص، والنواحي التي جاءت منها العادات والتقاليد؛ وهي أثبتُ أساسا، وأقدم عهدًا، أصفى عنصرًا من إنكليزية الإنكليز، وألمانية الألمان.

قضت العروبة بقوّتها وروحانيتها، وأدبها، وسمُوّ خصائصها، وامتداد عروقها، في الأكرمين الأُوَل من نبات الصحارى، وبُناة الحضارات فيها – على بربرية كانت منتشرة بهذا الشمال، وبقايا آرية كانت منتشرة فيه؛ وفعل الزمن الطويل فعلَه حتى نسى الناس ونسي التاريخُ الحديثُ أنَّ هنا جنسا غير عربي؛ وضرب الإسلام بيسره ولطف مداخله، وملاءمة عقائده للفطر، وعبادته للأرواح، وآدابه للنفوس، وأحكامه للمصالح – على كل عرق ينبض بحنين إلى أصل، وعلى كل صوت يهتف بذكرى إلى ماض بعيد؛ وزاد العروبةَ تثبيتا وتمكينا في هذا الشمال هذه الأبجدية العربية الشائعة التي حفظت أصول الدين، وحافظت على متون اللغة، ودوّنت الآداب والشرائع، وكَتَبت التاريخ، وسجَّلت الأحكام والحقوق، وفتحت الباب إلى العلم، وكانت السبيل إلى الحضارة.

كل هذه العوامل صيّرت هذا الشمال عربيا قارَّ العروبة على الأسس الثابتة: من دين عربي، ولغة عربية، وكتابة عربية، وآداب عربية، ومنازع عربية، وتشريع عربي.. وجاء التاريخ – وهو الحكم في مثل هذا – فشهد وأدَّى، وجاءت الجغرافيا الطبيعية فوصلت هذا الشمال بمنابت العروبة من جزيرة العرب.. وجاء الزمن بثلاثة عشر قرنا، تشهَد سِنوها وأيامها بأنها فرَغتْ من عملها، وتمّ التمام.)[4].

ويعود إلى الموضوع في خطابه التاريخي للوفود العربية والإسلامية للأمم المتحدة في باريس فيقول:

(وإن هذا الشمال الإفريقي كل لا يتجزأ تربط بين أجزائه دماء الأجداد، ولسان العرب، ودين الإسلام، وسواحل البحر في الشمال، وحبال الرمال في الصحاري وسلاسل الأطلس الأشم في الوسط. واتحاد الماء والهواء والغذاء، وإنها لخصائص تجمع الأوطان المتباينة، فيكف لا تجمع الوطن الواحد؟ إن تفرق هذه الأجزاء لم يأت من طبيعتها وإنما جاء من طبائعنا الدخيلة، ومن تأثراتنا الغربية بالدخلاء، وإنني متفائل بأن هذه الليلة ستكون فاتحة لعهد جديد، واتحاد عتيد، ونور من الرحمة والإخاء، يتنظم المغارب في سلك، إنني متفائل بما يتفاءل به السارون المدلجون من انبلاج الفجر، فعسى أن يتحقق هذا التفاؤل فتكون هذه الليلة أول خيط في نسيج الوحدة الإفريقية التي هي آخر أمل للمتفائلين مثلي، وأن العنوان الدال على ما وراءه هو: اجتماع جميع حركات الشمال الإفريقي في هذا المحفل الزاهر، وأن البشير بتحقق هذا الأمل هو امتزاجنا بإخواننا الشرقيين حول هذه الموائد ومن بركاتهم أن تجتمع حركاتنا كلها في صعيد واحد، وكلها لسان يعبر، وقلب يفكر، وآذان تسمع، وإنا لنرجو أن تكون قلوبنا غدا غير قلوبنا بالأمس، وأن نفيء إلى الحق الذي أمر الله بالفيأة إليه، وإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[5].

توحيد العرب:

وبعد وحدة الشمال الإفريقي أو المغرب العربي: الجار ذي القربى، يسعى إلى الجار الجنب، وهم: بقية العرب في المشرق، فيدعو إلى وحدة أمة العرب جمعاء، من محيطها إلى خليجها.

توحيد أمة الإسلام:

وهو حين يدعو إلى وحدة الجزائر، فوحدة المغرب العربي، فوحدة العرب: ينتهي إلى الوحدة الكبرى لأمة الإسلام كلها، من المحيط إلى المحيط، من جاكرتا إلى مراكش.

وطالما كتب الإبراهيمي يستصرخ المسلمين ليجتمع شملهم، ويتحد صفهم، وينعي عليهم تفرقهم، ودينهم يوجب عليهم أن يجتمعوا، وينكر عليهم تقاطعهم ومصلحتهم تفرض عليهم أن يتواصلوا. وقد كتب كلمة قوية في البصائر تحت عنوان (أرحام تتعاطف) جاء فيها:

(طالما نعينا على المسلمين خصوصاً، وعلى الشرقيين عموما، هذا التقاطع الذي شتت شملهم، وفرّق جامعتهم، وصيّرهم لقمة سائغة للمستعمرين، وطالما شرحنا للمسلمين أسرار التواصل والتراحم والتقارب الكامنة في دينهم، وأقمنا لهم الأدلة، وضربنا لهم الأمثال، وسُقنا المثُلات، وجَلوْنا العبر؛ وكانت نُذُر الشر تتوالى، فيتمارَوْن بها، وصيحاتُ الضحايا منهم تتعالى، فيصِمُّون عنها ؛ والزمن سائر، والفلك دائر ؛ وهم في غفلة ساهون.

دعوناهم إلى الجامعة الواسعة التي لا تضيق بنزيل، وهي جامعة الإسلام ؛ إلى الروحانية الخالصة التي لا تشاب بدخيل، وهي روحانية الشرق ؛ وحذّرناهم من هذه الأفاحيص الضيقة، والوطنيات المحدودة، التي هي منبع شقائهم، ومبعث بلائهم، وبيَّنا لهم أنها دسيسة استعمارية، زيّنها لهم سماسرة الغرب، وعلماؤه وأدّلاؤه ؛ وغايتُُهم منها التفريق، ثم التمزيق، ثم القضم، ثم الهضم، وأن الاستعمار – بهذه الدسيسة وأشباهها – يُفسد فطرة الله فيهم، وينقُض دين الله عندهم ؛ ففطرة الله تُلهِم نصر الأخ لأخيه، وحماية الجار لجاره؛ ودين الله يوجب حقوق الأخوة، ويدعو إلى إيثار الجار والإحسان إليه ؛ وهو بهذا يعمِّم التناصر، ويقيم في الأرض شرعة التعاون، فما من جار إلا له جار والناس كلهم متجاورون، جوار الدار للدار، فجوار القرية للقرية، فجوار المدينة للمدينة، فجوار الوطن للوطن؛ فإذا أخذوا بهذه الشرعة وأقاموا حدودها عمّ التناصر والتعاون، وسدّت المنافذ على المتغيرين، وعلى المفسدين في الأرض)[6].

داؤنا الانقسام ودواؤنا الوحدة:

ويذكر الشيخ الإبراهيمي في خطابه الذي ألقاه في باريس أمام الوفود العربية الإسلامية في الأمم المتحدة هذه الكلمات القوية المزلزلة والمعبرة عن داء الفرقة ودواء الوحدة بقلمه البليغ المبدع: أيها الأخوان:

(إن النقطة التي ابتدأ منها بلاؤنا وشقاؤنا هي أنهم أرادونا على الانقسام، وزينوه لنا كما يزين الشيطان للإنسان سوء عمله، فأطعناهم وانقسمنا، فوسعوا شقة الانقسام بيننا بأموالهم وأعمالهم وآرائهم وعلومهم، ولم يتركوا أداة من أدوات التقسيم إلا حشدوها في هذا السبيل، ولم يغفلوا الأستاذ والكاتب والراهب والمرأة والتاجر والسمسار حتى بلغوا الغاية في تقسيمنا شيعا ودولا وممالك، كما توزع قطعة الأرض الكبيرة الصالحة، إلى قطع صغيرة لا تصلح واحدة منها ولا تكفي، ثم عمدوا إلى خيرات الأرض فاحتكروها لأنفسهم، واستخرجوها بعقولهم المدبِّرة، وأيدينا المسخَّرة، فكان لهم منها حظ العقل، ولنا منها حظ اليد، ولو أننا تعاسرنا عليهم من أول يوم في تقسيمنا، ولذنا بكعبة الوحدة نطوف بها ونلتزم أركانها لما نالوا منها نيلا، ولما وصلنا إلى هذه الحالة.

أما وقد بلغوا من تقسيمنا ما يريدون، وأصبحنا في درجة من الضعف المادي والضعف العقلي نعتقد فيها أن الله خلقنا خلقة الأرنب، وخلقهم خلقة الأسد، وجف القلم، ولا تبديل لخلق الله فأول واجب علينا، بل أول نقطة يجب أن نبتدئ منها السير، هي أن نُكَفِّر بهذا الانقسام، ونُكَفِّر عليه بضده، وهو الوحدة الشاملة لجميع الأجزاء، وكيف يكون ذلك وقد بنيت على ذلك التقسيم أوضاع جديدة، وممالك وملوك وحدود، وإن تغيير الممالك لصعب، وإن فطام الملوك عن لذة الملك لأصعب منه ؟ فلنلتمس مفتاح قضيتنا من بين هذا الركام من الأدوات البالية، ولنعتصم بالأمر الميسور، وهو أن نوحّد التعليم ومناهجه، والتجارة وأوضاعها، ولنطمس هذه الحدود الفاصلة بين أجزاء الوطن الواحد، وليرتفق بعضنا ببعضنا، فيما يزيد فيه بعضنا على بعضنا، ولنكن يدا واحدة على الأجنبي، ولنعتبر المعتدي على جزء منا معتديا على جميع الأجزاء، وعدو العراق هو عدو مراكش، ولنذكر من خصال الأمم ما فعلته ايطاليا في ضم أجزائها، وما فعلته ألمانيا، وما فعلته فرنسا التي لم تنم لها عين في قضية الألزاس واللورين، ولو أن معتديا اعتدى على جزء من انكلترا (وهي كجزيرة العرب) تداعى الانكليز من أطراف الأرض لاسترجاعه، فلم لا نكون كذلك؟

إنهم إن علموا ذلك منا، وعلموا جدنا فيه تابوا عن سيرتهم فينا وأقلعوا، أما من لان للأكل فليس من حقه أن يلوم الأَكَلَة.

والذي روحي بيده... ما يسرني أن للعرب ثماني دول، ولا أن للمسلمين عشرين دولة، ما داموا على هذه الحالة، وإنما يسرّني ويثلج صدري ؛ أن يكون المسلمون كلهم شعبا واحدا بحكومة واحدة، وعلى عقيدة في الحياة واحدة، وعلى اتجاه إلى السعادة واحد، فإذا وجد هذا الشعب لم يبق لهؤلاء الأقوياء إلا أن يقولوا: إن في الشرق قوما جبارين، وإنه لم يبق لنا بينهم موضع.

إن القوم استضعفونا، ففرقونا فأكلونا لقمة لقمة، فأَوْجِدوا هذا الشعب الموحد تَحْيوا وتُحْيوا العالم به، أوْجِدوه تَسْعَدوا وتُسْعِدوا العالم به.... إن العالم اليوم مريض، وإنه يلتمس الشفاء، فأروه أن في الإسلام شفاءه، وأنه في خصام منهك، وأنه يلتمس الحكم، فأحيوا الإسلام الصحيح يكن حكما في مشكلة هذا العصر... مشكلة الغِنَى والفقر...تكتّلوا ففي استطاعتكم أن تتكتلوا.. تكتّلوا يمدكم العصر بروحه... إنه عصر التكتل، وإن الأقوياء لم تُغْن عنهم قوتهم شيئا، فأصبحوا يلتمسون أنواعا من التكتل مع القريب، ومع الغريب، فهذه، انكلترا تتكتل، وهذه أميركا، وهذه روسيا. .. فكيف لا يتكتل الضعفاء؟![7]) انتهى.

قال هذا الشيخ قبل أكثر من نصف قرن (سنة 1952م) فكيف لو عاش إلى عصرنا، ورأى ما فيه من تكتلات واتحادات مثل الاتحاد الأوروبي؟!. الذي أمسى حقيقة واقعة، بعد حروب بين الأوربيين بعضهم وبعض استمرت قرونا، آخرها الحربان العالميتان، اللتان سقط فيهما من القتلى والضحايا بالملايين.

بدء تفرق المسلمين في الدين:

و يتحدث الشيخ الابراهيمي عن بدء ظهور التفرق في المسلمين حديثاً ينبئ عن وعي بتاريخ الأمة الفكري فيقول:

أول ما نشأ في المجتمع الإسلامي من جراثيم التفرق في الدين: الكلام في القدر و الخوض في الصفات. و قارَن ذلك حدوث الخلاف في الخلافة: فهل هي شعبة من الدين تفتقر إلى تنصيص من الشارع ؟ أو هي مصلحة دنيوية ترجع إلى اختيار أهل الرأي من الأمة؟ و قد سبق الخلاف العملي الخلاف العلمي في هذه المسألة. و هي المعترك الأول الذي اشتجرت فيه الآراء حتى تطرفت، بعد أن اشتجرت فيه الرماح حتى تقصفت. كما أنها أول مسألة امتزجت فيها الأنظار الدينية بالأنظار الدنيوية (أو السياسية) كما يقولون. و في هذا المعترك جرثومة من التعصب الخبيثة.

ثم توسعت الفتوحات و بسط الإسلام ظله على كثير من الممالك التي كانت لها أثارة من عمران و شيء من سلطان. و دانت له كثير من الأمم. و في كل أمة طوائف دخلت الإسلام، و هي تحمل أوزارًا من بقايا ماضيها. و ما كادت هذه المجموعات البشرية تمتزج ويفعل الإسلام فيها فعله. حتى ظهرت عليها أعراض التفرق.

فظهر أصحاب المقالات في العقائد، و أحدثوا بدعة (التأويل) الذي هو في الحقيقة تحريف مسمى بغير اسمه.

و توفرت الدواعي لظهور المذاهب الفقهية، والمذاهب الكلامية، و المذاهب الصوفية، في أزمنة متقاربة، و كان لترجمة الفلسفة اليونانية و الحكمة الفارسية و الهندية: أثر قوي في تعدد المذاهب الكلامية و الصوفية، بما أتت به الأولى من بحث في الإلهيات على الطريقة العقلية الصرفة، و بما غذت به المتكلمين من الأنظار المختلفة، و أمدتهم به من طرائق الجدل وقوانينه. وهذا هو مبدأ التفرق الحقيق في الدين ؛ لأن المتكلمين يزعمون أن علومهم هي أساس الإسلام. و الصوفية يقولون: إن علومهم هي لباب الشريعة و حقيقتها ![8]

ظهور المذاهب الفقهية و التعصب لها:

أما المذاهب الفقهية، فحدوثها ضروري و طبيعي ما دامت السنة لم تُجْمَع، و بعد جمعها لم تكن وافية بالتنصيص على الوقائع الجزئية. و متونها و أسانيدها بعد خاضعة للتزكية و التجريح؛ لأنها لم تنقل بطريق التواتر. و ما دامت مدارك المجتهدين الذين هم المرجع في هذا الباب متفاوتة بالقوة و الضعف في الاستنباط و وجوه القياس و علله، و ما دامت الوقائع التي تناط بها الأحكام لا تنضبط.

وقد استحدث العمران أنواعاً جديدة من المعاملات الدنيوية لا عهد للإسلام الفطري بها. وصوراً شتّى من المعايش ووجوه الكسب لم تكن معروفه. فمن سماحة التشريع الإسلامي و مرونته أن نتناول هذه المستحدثات الجديدة بأنظار جديدة، وتستنبط من أصوله أحكام لفروعها. و كل هذا لا حرج فيه و ليس داخلاً فيما نشكوه، بل نحن أول من يقدر قدر تلك الأنظار الصائبة، والمدارك الراقية، و يقيمها دليلاً على اتساع التشريع الإسلامي لمصالح الناس، و صلاحيته لجميع الأزمنة، و ينكر على من سد هذا الباب على الأمة، فزهّدها في استجماع و سائله. و نحن أول من يقدر قدر أولئك الأئمة الذين هم مفاخر الإسلام.

و هي في حد ذاتها ليست هي التي فرّقت المسلمين، وليس أصحابها هم الذين ألزموا الناس بها، أو فرضوا على الأمة تقليدهم، فحاشاهم من هذا بل نصحوا وبينوا، و بذلوا الجهد في الإبلاغ. وحكّموا الدليل ما وجدوا إلى ذلك السبيل، و أتوا بالغرائب في باب الاستنباط و التعليل، والتفريع والتأصيل، و لهم في باب استخراج علل الأحكام، وبناء الفروع على الأصول، و جمع الأشباه بالأشباه، و الاحتياط و مراعاة المصالح ما فاقوا به المتشرعين من جميع الأمم.

و إنما الذي نعده في أسباب تفرق المسلمين هو هذه العصبية العمياء التي حدثت بعدها للمذاهب، والتي نعتقد أنهم لو بُعثوا من جديد إلى هذا العالم، لأنكروها على أتباعهم و مقلديهم، و تبرأوا إلى الله منهم و منها ؛ لأنها ليست من الدين الذي أؤتمنوا عليه، و لا من العلم الذي وسّعوا دائرته.

و قد طغت شرور العصبية للمذاهب الفقهية في جميع الأقطار الإسلامية، و كان لها أسوأ الأثر في تفريق كلمة المسلمين. و إن في وجه التاريخ الإسلامي منها لندوبا.

أما آثارها في العلوم الإسلامية، فإنها لم تمدها إلا بنوع سخيف من الجدل المكابر، لا يسمن و لا يغني من جوع. و لا عاصم من شرور هذه العصبية إلا صرف الناشئة إلى تعليم فقهي يستند على الاستقلال في الاستدلال، و إعدادها لبلوغ مراتب الكمال، و عدم التحجير عليها في استخدام مواهبها إلى أقصى حد. [9]

المذاهب الكلامية و خطرها:

و أما المذاهب الكلامية، فلم يكن أثرها بالقليل في تفرق المسلمين و تمزق شملهم. و لكنها لما كان موضوعها البحث في وجود الله و إثبات صفاته، و ما يجب له من كمال، و ما يستحيل عليه من نقص، كل ذلك من طريق العقل – كانت دائرتها محدودة، و كان التعمق فيها من شأن الخواص. و قعد بالعامة عن الدخول في معتركها إحساسها بالتقصير في أدواته، من جدل و عقليات يحتاج إليها في مقامات المناظرة و الحجاج. فليس علم الكلام كعلم التصوف: مطية ذلولاً يندفع لركوبها العاجز و الحازم. فالتصوف شيء غامض يسعى إليه بوسائل غامضة. و يسهل على كل واحد ادعاؤه و التلبيس به. فإن خاف مدعيه الفضيحة لم يعدم سلاحاً من الجمجمة و الرمز و تسمية الأشياء بغير أسمائها. تم الفزع إلى لزوم السمت، و التدرع بالصمت، و الاعراض عن الخلق، و الانقطاع و الهروب منهم، ما دام هذا كله معدوداً في التصوف، و داخلاً في حدوده. و لا كذلك علم الكلام الذي يفتقر إلى عقل نير و قريحة وقادة و ذكاء نافذ و يحتاج منتحله إلى براعة و لسن و مران على المنطق و مقدامته و نتائجه و أقيسته و أشكاله. و لم كل هذا العدد ؟ كل هذه العدد للمناظرات و ما تستلزمه من إيراد و دفع و افحام و الزام. و أين العامة من هذا كله ؟ لذلك لم يكن لها من حظ في هذا العلم إلا معرفة أسماء بعض الفرق و الانتصار لها انتصاراً تقليدياً و لذلك كانت آثار التفريق الناشئة عن هذه المذاهب الكلامية قاصرة على طبقات مخصوصة و لم تتغلعل في العامة كما تغلغلت آثار التصوف.

و قد انقرضت تلك الفرق، و انقرض بانقراضها سبب جوهري من أسباب التفرق، بل مات بموتها شاغل طالما شغل طائفة من خيرة علماء المسلمين ببعضهم، و جعل بأسهم بينهم شديداً، و ألهاهم بما يضر عما ينفع.

تلاشت تلك الفرق و لم تبق إلا أخبار معاركها الجدلية في كتب التاريخ، و إلا آراؤها المدونة في كتبها فتنة للضعفاء، و تبصرة للحصفاء. و لم يبق من تلك الأسماء التي كونت قاموساً في الأنساب إلا إسمان يدوران في أفواه العامة و أشباه العامة، و يستعملونها في أغراض عامية، وهما (أهل السنة و المعتزلة). [10]

تخلف دراسة علم التوحيد:

و من المحزن أن دراسة علم التوحيد حتى في كلياتنا (الراقية)- كالأزهر و الزيتونة- لا تزال جارية على تلك الطرائق، و في تلك الكتب. و لا تزال تقرر فيها تلك الآراء، و لا تزال تذكر فيها أسماء تلك الفرق التي لم يبق لها وجود. و يستعرض سيدنا المدرس تلك الآراء، ثم يدحضها، و يقيمها ثم ينقضها. و تقطع أوقات الطلبة المساكين في ذلك. و يا ضيعة الأعمار.

أما الشبهات التي يوردها كل يوم ملاحدة العصر و مبشرو المسيحية على الإسلام، ويفتنون بها العلماء فضلاً عن العوام، فإن كلياتنا (العلمية الدينية) و مدرسيها لا يعيرونها أدنى اهتمام، و لا يعمرون بها وقت الطلبة. فيا للفضيحة.

و أما المذاهب الصوفية فهي أبعد أثراً في تشويه حقائق الدين و أشد منافاة لروحه، وأقوى تأثيراً في تفريق كلمة المسلمين؛ لأنها ترجع في أصلها إلى نزعة غامضة مبهمة تسترت في أول أمرها بالانقطاع للعبادة، و التجرد من الأسباب، و العزوف عن اللذات الجسدية، والتظاهر بالخصوصية، و كانت تأخذ منتحليها بشيء من مظاهر المسيحية، و هو التسليم المطلق، و شيء من مظاهر البرهمية، و هو تعذيب الجسد و إرهاقه، توصلاً إلى كمال الروح، زعموا ! و أين هذا كله من روح الإسلام و هدي الإسلام ؟ و لم يتبين الناس خيرها من شرها لما كان يسودها من التكتم و الاحتراس حتى جرت على ألسنة بعض منتحليها كلمات كانت ترجمة لبعض ما تحمل من أوزار. فراب أئمة الدين أمرها. و انفتحت أعين حراس الشريعة، فوقفوا لها بالمرصاد، فلاذ منتحلوها بفروق مبتدعة يريدون أن يثبتوا بها خصوصيتهم كالظاهر و الباطن، و الحقيقة و الشريعة، إلى ألفاظ أخرى من هذا لا تخرج في فحواها عن جعل الدين الواحد دينين.

و ما كاد السيف الذي سلّ على الحلاج و صرعى مخرقته يغمد، و يوقن القوم أنهم أصبحوا بمنجاة من فتكاته حتى أجمعوا أمرهم و أبدوا للناس بعض مكنونات أسرارهم ملفوفة في أغشية جميلة من الألفاظ، و محفوفة بظواهر مقبولة من الأعمال. و حاولوا أن يصلوا نحلتهم تلك بعجرها و بجرها بصاحب الشريعة أو بأحد أصحابه فلم يفلحوا و افتضحت حيلتهم و انقطع الحبل من أيديهم فرجعوا إلى ادعاء الكشف و خرق الحجب و الاطلاع على ما وراء الحس إلى آخر تلك (القائمة) التي لا زلت تسمعها حتى من أفواه العامة، و تجدها في معتقداتهم[11].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- أنظر: آثار البشير الإبراهيمي جـ4 صـ342 – 344، وهو جزء من مجموعة محاضرات ألقاها الشيخ البشير في معهد الدراسات العربية العليا في القاهرة في أوائل الخمسينات من القرن العشرين تحت عنوان: الاستعمار الفرنسي في الجزائر.

[2]- انظر في ذلك مقالات: رمضان: لجنة الأهلة والأعياد الإسلامية (97/3)، وحدة الصوم والإفطار (169/3)، وبيانات للأمة الإسلامية (301/3)، أكبر زلة تقترفها لجنة الأهلة (307/3)، وتعود إلى لجنة الأهلة (313/3)، هلال رمضان: معلومات وتنبيهات (319/3).
[3]- من آثار البشير الإبراهيمي جـ 3 صـ337.

[4]- نشرت في العدد 150 من جريدة البصائر سنة 1951.

[5]- البصائر العدد 183 / السنة الخامسة من السلسة الثانية / 18 فبراير 1952م.

[6]- نشرت في العدد 148 من جريدة البصائر سنة 1951م.

[7]- دار البصائر العدد 183 / السنة الخامسة من السلسة الثانية / 18 فبراير 1952م.

[8]- انظر: آثار البشر الإبراهيمي (1/ 94، 95).

[9]- انظر: آثار البشر الإبراهيمي (1/95، 96).

[10]- انظر: آثار البشر الإبراهيمي (1/ 96، 97).

[11]- انظر: آثار البشر الإبراهيمي (1/ 97، 99).

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 03:59 AM
(3)
التوعية والتربية: طريقا ومنهاجا

اعتمد الشيخ الإبراهيمي في منهجه الإصلاحي على ركيزتين أساسيتين؛ هما: التوعية والتربية. وهما في الواقع ركيزتا جمعية العلماء، فما كان للشيخ أن يحيد عنهما. وهو الأمين على مسيرة الجمعية والمُضِي بها قٌدُما في طريقها الذي رسمته من أول يوم.

أما التوعية، فهي لجماهير الشعب، الذي هو هدف الإصلاح ووسيلته معا.

وأما التربية، فهي للطلائع التي ينتظر منها أن تقود معركة التحرير، ومعركة البناء والتقدم فيما بعد.

التوعية:

وكانت التوعية في نظر الشيخ –كما هي في نظر جمعية الإصلاح منذ نشأت- تقوم على فهم الدين فهما صحيحا، بحيث تنشئ مسلما سليم العقيدة، صحيح العبادة، مستقيم السلوك، عزيز النفس، قوي الجسم، حر الإرادة، مستنير العقل، محبا للخير، غيورا على أهله ووطنه ودينه، عالما بمن هو صديقه ومن هو عدوه.

وكان إنشاء هذا الجيل هو قُرّة عين الشيخ وإخوانه، وكان هو معقد الأمل في تحقيق النصر المنشود على الاستعمار الفرنسي، وما خلّفه من آثار في الأنفس والعقول والحياة، وكان الاستعمار الفرنسي اللعين يعرف تمام المعرفة: أن هذا الجيل هو الخطر الحقيقي على وجوده وبقائه في الجزائر، ولذا كان له بالمرصاد، وكان يعوق طريقه بكل ما يمكنه، ولكن الإبراهيمي كان ماضيا في سبيله، مستعينا بربه، مشدود الأزر بإخوانه من العلماء، وبشعبه الجزائري الأبيّ.

وكانت جولات الشيخ في طول البلاد وعرضها، ودروسه وخطبه ومحاضراته، وأحاديثه الخاصة والعامة، ومقالاته في (البصائر): كلها تدور حول إيقاظ الوعي الديني الحقيقي، وتنقية الفكر الإسلامي من الخرافات والأباطيل والبدع، التي شوّهت وجه الدين الجميل، وأضافت إليه من الزوائد والشوائب ما كدّر صفاءه، ولوث نقاءه، ومن المحدثات ما عسّر الدين الذي أراد الله به اليُسر ولم يرد به العُسر، وما جعل فيه من حرج.

وكل عمل في هذا السبيل يهدم لبنة من لبنات الاستعمار المخرِّب، ويضع لبنة في بنيان الجزائر العربية المسلمة، جزائر الغد، ويغرس الآمال في أنفس الجزائريين؛ بقدر ما يغرس المخاوف في قلوب الفرنسيين.

أشنع أعمال فرنسا في الجزائر:

ويتحدث العلامة الإبراهيمي عن التخريب الهائل الذي مارسته فرنسا في الجزائر منذ احتلالها، فيقول[1]:

(كانت الجزائر قبل احتلال الفرنسيين لها في سنة 1830م دولة مستقلة غنية، تملك خصائص الدولة في ذلك العصر، وأهمها العلم بالدين والدنيا، وفيها من الأوقاف الإسلامية الدارّة على العلم والدين ووجوه البر ما لا يوجد مثله في قُطْر إسلامي آخر، ومنذ تغلّب عليها الاستعمار الفريد في الخبث، وهو يعمل جاهدا على قتل شخصيتها بالقضاء على الدين واللغة العربية، وكان أول عمل قام به هو مصادرة الأوقاف الإسلامية والمعاهد التابعة لها من مساجد ومدارس وزوايا، وتحويلها إلى كنائس وثكنات واصطبلات وميادين ومرافق عامة، ثم أصدرت قانونا لا نعرف له نظيرا في تاريخ البشرية العاقلة يقضي باعتبار اللغة العربية لغة أجنبية في وطنها وبين أهلها، يتوقف تعليمها على إذن خاص وشروط ثقيلة، وزادت تلك الشروط على الأيام ثقلا وعنتا، حتى أصبحت في السنوات الأخيرة لا تطاق، وأصبح معلّم العربية يقف في قفص الاتهام مع اللصوص والسافكين، وتجري عليه العقوبات مثلهم بالسجن والتغريم والتعذيب.

(ثم دأب الاستعمار (من مائة ونيف وعشرين سنة) على طمس كل أثر للإسلام والعربية، وقطع كل صلة بينهما وبين الشرق، ليتم له مسخ الأمة الجزائرية، وإدماجها في الأمة الفرنسية، ولكن المناعة الطبيعية في هذه الأمة، وتصلبها في المحافظة على التراث الإسلامي المقدس، وعلى خصائصها الشريفة: دفع عنها ذلك البلاء، وأنقذها من ذلك المصير.

توعية الشعب وتنويره:

ويشرح الشيخ ما تقوم به جمعية العلماء من تنوير وتوعية للشعب الجزائري، وتحرير عقله ووجدانه وإرادته من الأوهام والضلالات، وشغله بمعالي الأمور عن سفاسفها، ووصله بالحق بدلا من ركضه وراء الباطل، عن طريق المساجد والأندية وغيرها. فيتحدث عن مبدأ جمعية العلماء وغايتها فيقول:

غاية جمعية العلماء تحرير الشعب الجزائري:

(مبدأ جمعية العلماء يرمي إلى غاية جليلة، فالمبدأ هو العلم، والغاية هي تحرير الشعب الجزائري، والتحرير في نظرها قسمان: تحرير العقول والأرواح وتحرير الأبدان والأوطان، والأول أصل للثاني، فإذا لم تتحرر العقول والأرواح من الأوهام في الدين وفي الدنيا، كان تحرير الأبدان من العبودية والأوطان من الاحتلال متعذرا أو متعسرا، حتى إذا تم منه شيء اليوم، ضاع غدا، لأنه بناء على غير أساس، والمتوهم ليس له أمل، فلا يرجى منه عمل.

لذلك بدأت جمعية العلماء-من أول يوم نشأتها- بتحرير العقول والأرواح، تمهيدا للتحرير النهائي، فوضعت برنامجا محكما، لوعظ الكبار وإرشادهم بالدروس والمحاضرات، حتى بلغت من ذلك أقصى غاية من الجهد وأقصى غاية من النتائج، وأصبح الشعب –في جملته- صافي الفكر، مستقل العقل، متوهج الشعور، مشرق الروح، فاهما للحياة، واسع الأمل فيها، عاملا للحرية والاستقلال، مؤمنا بماضيه، عاملا على ربط الحاضر بالماضي، ووصله بالوطن العربي الأكبر، متبصرا في وزن رجاله، لا ينطلي عليه غش الغشاشين ولا تدجيل الدجالين. ومعلوم أن هذه المعاني لا تدخل النفوس دفعة واحدة، وإنما تكمل بالتدرج، والذي وصل إليه الشعب الجزائري من هذا هو نتيجة نيف وعشرين سنة من أعمال جدية متواصلة، ولكنه لا يتم عادة في أقل من خمسين سنة.

أعمال جمعية العلماء في التعليم العربي والتوعية:

ويعدد الشيخ ما قامت به جمعية العلماء من أعمال مجيدة للشعب، فيقول:

أولا: زادت الجمعية على هذا العمل العام آخر خاصا، وهو العمل على تخريج جيل جديد، يتلقى هذه المعاني في الصغر، ويثبتها بالعلم الصحيح، لتحارب الاستعمار بسلاح من نوع سلاحه وهو العلم، فأسست في هذين العقدين من السنين نحو مائة وخمسين من المدارس الابتدائية للعربية والدين، وشيدتها بمال الأمة، وصيرتها ملكا للأمة، وهي تضم اليوم ما يقرب من خمسين ألف تلميذ، من حملة الشهادات الابتدائية من مدارس الجمعية. (وسنتحدث بتفصيل عن هذا الأمر عند حديثنا عن عنصر التربية).

ثانيا: بما أن المساجد التي هي تراث الأجداد، صادرتها الحكومة الفرنسية وصادرت أوقافها من يوم الاحتلال، فأحالت بعضها كنائس وبعضها مرافق عامة، وهدمت كثيرا منها لتوسيع الشوارع والحدائق، واحتفظت بالباقي لتتخذ منه حبالة تجر أشباه الموظفين الدينيين، وما زالت إلى الآن هي التي تعين الأئمة والخطباء والمؤذنين والقومة، ولكنها تستخدمهم في الجاسوسية والمخابرات، وتجري عليهم المرتبات من الخزينة العامة، لذلك التفتت الجمعية إلى هذه الناحية الحيوية وشيدت بمال الأمة نحو سبعين مسجدا في أنحاء القطر، لأداء الشعائر وإلقاء الدروس الدينية، والحكومة الفرنسية تنظر إلى هذه المساجد نظرتها إلى الحصون المسلحة.

ثالثا: في الجزائر مئات الآلاف من الشبان العرب المسلمين، فاتهم التعليم الديني والعربي، ولا تلقاهم الجمعية في المدارس ولا في المساجد، والاعتناء بهم واجب، فأنشأت لهم الجمعية عشرات من النوادي المنظمة الجذابة، تلقي عليهم فيها المحاضرات العلمية والدينية، والاجتماعية، وأدّت هذه النوادي أكثر مما تؤديه المدارس والمساجد من التربية والتوجيه.

رابعا: أنشأت الجمعية للعمال الجزائريين في باريس وغيرها من مدن فرنسا عشرات من النوادي وزوّدتها بطائفة من الوعاظ والمعلمين من رجالها، يتعلم فيها أولئك العملة ضروريات دينهم ودنياهم، ويتعلم فيها أبناؤهم اللغة العربية تكلما وكتابة، ويتربون على الدين والوطنية، وقد استفحل أمر هذه النوادي وأتت ثمراتها قبل الحرب الأخيرة، ثم قضت عليها الحرب، ثم حاولت الجمعية تجديدها بعد الحرب، غير أن التكاليف المالية تضاعف واحدها إلى الآلاف، فكان ذلك وحده سببا للعجز.

خامسا: أنقذت الجمعية عشرات الآلاف من أبناء الجزائر من الأمية، بوسائل دبرتها ونجحت فيها نجاحا عجيبا، وأن هذا العمل من غرر أعمالها لأن الأمية تشل الشعوب. أ. هـ.[2]

الميدان الداخلي أولى بالاهتمام:

كان أمام الشيخ البشير - ومن قبله الشيخ ابن باديس- ميدانان للكفاح: ميدان الاستعمار الخارجي، وميدان الاستعمار الداخلي... استعمار العقول والنفوس والضمائر بالأوهام والضلالات والبدع، فاختار الشيخان البدء بالميدان الداخلي، فهو أحق وأولى بالاهتمام.

وعلل ذلك الشيخ الإبراهيمي، فقال:

(كانت الحكمة لاختيارنا الميدان الأول للهجوم، أن موضوع النزاع ديني، ونحن علماء دين يعترف لنا بالإمامة العلمية حتى الاستعمار وأعوانه، ولا يستطيع الاستعمار أن ينتصر لأوليائه في نزاع ديني انتصارا سافرا، وإنما ينتصر لهم بوسائل أخرى لا تؤثر في هدفنا الذي نرمي إليه، وهو انتزاع الأمة من هؤلاء المستغلين لها باسم الدين، وإنقاذها من جبروتهم، وأننا إذا حررناهم من سلطانهم الوهمي، كانت معنا على الاستعمار الخارجي الحقيقي، ومن لم يكن الشعب معه كان مخذولا في كل ميدان.

بدأنا هذه الحركة بجنب حركة التعليم الديني العربي، وأطلقنا عليها اسمها الحقيقي، وهو: (الإصلاح الديني) وهو اسم يهيج أصحاب البدع والضلالات من المسلمين في الدرجة الأولى، ويهيج الاستعمار الخارجي في الدرجة الثانية، فكان من تفاوت التهيج فسحة، سرنا فيها خطوات إلى النجاح، وكانت أعمالنا تسير في دائرة ضيقة، لأن الاستعداد لظهور جمعية العلماء لم يتم إذ ذلك، وكان مبدأ (العمليات) بدروس دينية ومحاضرات.

ورأى المرحوم عبد الحميد بن باديس: أنه لا بد من جريدة تظاهر الفكرة وتخدمها، فأنشأ جريدة (المنتقد) وهي أول جريدة إصلاحية بالشمال الإفريقي، فكانت أرفع صوت وأفعل وسيلة لنشر الإصلاح الديني، فارتاع لها الاستعمار الفرنسي وعطلها في مدة قريبة بما يملك من قوانين، فأصدر المرحوم جريدة أخرى باسم (الشهاب) كانت أسد رماية، وأوسع خطى من سابقتها، وسكت عنها الاستعمار فنقلها صاحبها من جريدة إلى مجلة، طال عمرها بضع عشرة سنة ورافقت سنوات الإرهاص بجمعية العلماء، فسجلت خطوات الحركة، وكانت لها مواقف رائعة في عدة ميادين، فخدمت العلم والدين والسياسة، وتردد صداها في المغارب الثلاثة، فتركت في كل قطر أثرا حميدا في النفوس، وفضحت الاستعمار الفرنسي فضائح لا ينسى خزيها، وبدروس الأستاذ عبد الحميد بن باديس، ومجلته الشهاب، استحق لقب (باني النهضة الجزائرية بجميع فروعها)، وأنشأ بعض الإخوان جريدة سماها (الإصلاح) كانت لها جولات في حرب البدع ولكنها لم تعمر إلا قليلا.

تساوقت الآثار المختلفة إلى غرض واحد، آثار دروس الإسلام الحية من ابن باديس، في نفوس تلاميذه، وقد أصبحوا آلافا، وآثار دروسه العامة في التفسير والأخلاق والاجتماع، وقد أصبح سامعوها المتأثرون بها عشرات الآلاف، وأكثرهم من العامة، وآثار الحرب في الأمة كلها، وآثار العلماء المصلحين بعد أن تكاثر عددهم وتلاحق مددهم، وعاونوا على تنوير الأفكار وتوجيه الأذهان لفهم حقائق الدين والدنيا، وهداية النفوس الضالة بإرشاد القرآن وسيرة محمد وأصحابه، وتجلية التاريخ الإسلامي.

وتألف في ذلك كله حداء قوي مطرب، سارت عليه الأمة الجزائرية عقدا من السنين، من سنة 1920م إلى سنة 1930م، واستوى في التأثر الموافق منها والمخالف، وأوائل نهضات الأمم تفتقر دائما إلى المخض العنيف بالكلام والرأي والجدال والوفاق والخلاف، وذلك المخض هو الذي ينشئ فيها الحياة ثم يصفيها، وهو دليل حياة الشعور فيها.[3]

التربية:

وكانت التربية في نظر الشيخ – وفي نظر الجمعية- هي الوسيلة المُثْلى لغرس التعاليم الإسلامية التجديدية، - ومعها النزعة العروبية والوطنية-، في عقول الناشئة وفي قلوبهم. ومقاومة تيار (الفرنسة) الذي يعمل منذ احتل الجزائر على أن يجردها من هويتها الإسلامية والعربية. وذلك بفرض الفرنسية لغة وحيدة في التعليم، وإبعاد العربية تماما عن هذا المجال. وحذف الدين الإسلامي من مجال التربية والتعليم حذفا تاما، باعتبار أن الدولة (علمانية) (لائكية) وأنها لا تعلم الدين في مدارسها.

فكان المطلوب هنا عملا مضادا لما يهدف إليه المستعمر، تقوم التربية فيه على أساس أن الدين هو الأساس. والعربية هي اللسان.

(فإذا كان التعليم الفرنسي السائد يقصد إلى فرنسة الجزائريين، فإن التعليم الذي قاده من قبل ابن باديس، وقاده من بعده الإبراهيمي، يقصد إلى إعادة (أسلمة) الجزائريين و(تعريبهم) أو إلى إبقاء الإسلام والعروبة عند من بقيا عنده، وكان شعار جمعية العلماء منذ البداية: الإسلام ديننا.. العربية لغتنا.. الجزائر وطننا!!

ولذا كان تركيزهم المستمر والدؤوب على ضرورة (التعليم العربي) الذي يجب أن تتاح له فرصة بجوار (التعليم الفرنسي) السائد والمهيمن على الساحة كلها).

وكانت مناهج هذا التعليم وكتبه ولغته ومعلموه وإدارته والجو المدرسي العام، كلها تصب في هذا الاتجاه.

حتى الأناشيد التي تحفظ للطلاب تغرس فيهم هذه المعاني، وتنمي فيهم هذه المشاعر، مثل النشيد المعروف الذي ألفه الإمام ابن باديس نفسه، ويحفظه الجميع:

شعب الجزائر مسلــم وإلى العروبة ينتسبْ

من قال حاد عن أصله أو قال: مات، فقد كذبْ
ومن حسن حظ الجزائر: أن الله تعالى وهبها رجلا مربيا من الطراز الأول، ومنحه من المواهب والملكات ما قاد به كتيبة التربية على بصيرة ووعي بالهدف المنشود، والمنهج المقصود، وأعد له من الرجال الكفاءة من يذلل بهم الصعاب، ويتخطى بهم العقاب. إنه الإمام ابن باديس الذي كان هدية الله للجزائر، كما يتحدث عنه الإبراهيمي.

ومن أراد أن يعرف أثر التربية والتعليم الذي قامت به جمعية العلماء، وبدأها الإمام ابن باديس، فليقرأ ما كتبه الإمام الإبراهيمي في البصائر، ونشر الكثير منه في (آثاره) التي نشرت بعد وفاته، وإن لم تستوعب كل ما خطه قلمه.

يقول الإبراهيمي في إحدى مقالاته أو دراساته عن جمعية العلماء ومؤسسها:

(وعبد الحميد بن باديس باني النهضة وإمامها ومدرب جيوشها: عالم ديني، ولكنه ليس كعلماء الدين الذين عرفهم التاريخ الإسلامي في قرونه الأخيرة، جمع الله فيه ما تفرّق في غيره من علماء الدين في هذا العصر، وأربى عليهم بالبيان الناصع، واللسان المطاوع، والذكاء الخارق، والفكر الولود، والعقل اللماح، والفهم الغواص على دقائق القرآن وأسرار التشريع الإسلامي، والاطلاع الواسع على أحوال المسلمين ومناشئ أمراضهم، وطرق علاجها، والرأي السديد في العلميات والعمليات، من فقه الإسلام وأطوار تاريخه، والإلمام الكافي بمعارف العصر، مع التمييز بين ضارها ونافعها، مع أنه لا يحسن لغة من لغاتها غير العربية، وكان التضلع في العلوم الدينية واستقلاله في فهمها. إماما في العلوم الاجتماعية، يكمل ذلك كله: قلم بليغ شجاع يجاري لسانه في البيان والسحر، فكان من أخطب خطباء العربية وفرسان منابرها، كما كان من أكتب كتابها.

وهو من بيت عريق في المجد والملك والعلم، يتصل نسبه الثابت المحقق بالمعز بن باديس، مؤسس الدولة الباديسية الصنهاجية، إلى صنهاجة القبيلة البربرية العظيمة التي حدثناكم عن دولها وأثارها بالجزائر، والمعز بن باديس هو جذم الدولة التي كانت بالقيروان، ويزعم بعض النسّابين أنها يمنية وقعت إلى شمال إفريقيا في إحدى الموجات التي رمى بها الشرق الغرب من طريق برزخ السويس في الأولين، كما رماه بالموجة الهلالية في الآخرين.

هذا الرجل النابغة يشهد التاريخ أنه واضع أساس النهضة الفكرية في الجزائر، وقد سلك لها المسلك العلمي الحكيم، وهو مسلك التربية والتعليم، وأعانه على ذلك استعداده الفكري وكمال أدواته، فتصدر للتعليم حوالي سنة 1914م ببلدة قسطنطينة التي هي مستقر أسرته من المائة السابعة للهجرة، وعمره إذ ذاك دون الخامسة والعشرين، فجمع عليه عشرات من الشبان المستعدين فعلمهم ورباهم وطبعهم على قالبه ونفخ فيهم من روحه، وبيانه، تطوعا واحتسابا، لا يرجو إلا جزاء ربه ولا يقصد غير نفع وطنه.

وكان – رحمه الله- يؤثر التربية على التعليم، ويحرص على غرس الفضائل في نفوس تلامذته قبل غرس القواعد الجافة في أدمغتهم، ويدربهم على أن ينهجوا نهجه في العمل للعروبة والإسلام، فما انتهت الحرب العالمية الأولى حتى تخرّج على يده وعلى طريقته جيل من الشبان، تتفاوت حظوظهم من العلم النظري، ولكنهم طراز واحد في العمل، وصحة التفكير، والانقطاع للجهاد.

وكان من طريقته في التربية: أن يرمي إلى تصحيح الفكر، وصقل العقل، وترقية الروح، وتقوية الخلق، وتسديد الاتجاه في الحياة، وأنه يستخرج من قواعد العلوم التعليمية قواعد للاجتماع، وينتزع منها دروسا في التربية والأخلاق.

فمن القواعد الإصلاحية المعروفة قولهم – مثلا- الفاعل مرفوع، والعامل يتقدم. فمن أمثال هذه الجمل المبتذلة الدائرة على الألسن في دراسة العلوم: كان يستخرج من معانيها اللغوية: نظرات اجتماعية طبيعية. ككون الفاعل العامل مرفوع القدر عند الناس، وككون العامل يجب تقديمه على الكسلان العاطل، في جميع المقامات.

وقد ذكر لي بعض من حضر درسه[4] في قول صاحب الألفية: (كلامنا لفظ مفيد كاستقم). قال: سمعته يقرر القاعدة النحوية التي أرادها ابن مالك فسمعت ما أدهشني من التحقيق الذي لم يعهد من علماء عصرنا، بالأسلوب الذي لم يعهد من شراح الألفية سابقهم ولاحقهم، ما عدا أبا إسحاق الشاطبي، ثم انتقل إلى شيء آخر نقلني إلى شيء آخر، وسما بي من الدهشة التي ما فوقها مما لا أجد لها اسما، فكان درسا اجتماعيا، أخلاقيا، على ما يجب أن يكون عليه الحديث الدائر بين الناس، وأنه إذا لم يكن مفيدا في المعاش والمعاد: كان لغوا وثرثرة وتخليط مجانين، وإن سمّته القواعد كلاما، ثم أفاض في الاستقامة الدينية والدنيوية وأثرها في المجتمع، فعلمت أن الرجل يعمل على أن يخرج من تلامذته رجالا، وأنه يجري بهم على هذه الطرائق ليجمع لهم بين التربية والتعليم، وكأنه يتعجل لهم الفوائد، ويسابق بهم الزمن، ما دامت الأمم قد سبقتنا بالزمن.

وهكذا كان الأمر، فإنه أخرج للأمة الجزائرية في الزمن اليسير جيلا يفهم الحياة، ويطلبها عزيزة شريفة، ويتدرع إليها بالأخلاق المتينة، وقد كان يدربهم على الأعمال النافعة، كما يدرب القائد المخلص جنوده، ويعدهم لفتح مصرٍ، أو لقاء مصرع، ولتلامذته إلى اليوم سمات بارزة في إتقان الدعوة الإصلاحية، التي أعلنتها جمعية العلماء في حياته، وفي صدق الاتجاه، وفي إتقان صناعة التعليم على طريقته. وهم الرعيل الأول في الثورة الفكرية الجارفة، التي نقلت الجزائر من حال إلى حال.

وقد كان تعليمه والآفاق التي فتحها ذهنه الجبار، وأسلوبه في الدروس والمحاضرات، كل ذلك كان ثورة على الأوضاع التعليمية المعروفة في بدلنا، حيث ابتدأ التعلم، وتوسط فيها، وفي جامع الزيتونة حيث انتهى، ولم يكن علمه نتيجة دراسته التقليدية في البلدين، المحدودة بسنوات معدودة، وكتب مقروءة، على نحو ما في الأزهر، وإنما كان علمه نتيجة استعداد قوي، وذكاء خارق، وفهم دقيق، وذهن صيود لشوارد المعاني، غواص إلى نهاياتها، كما وصفناه في أول الحديث.

وحج في سنة 1913م ومر بالقاهرة ذاهبا وبدمشق آيبا وجاور بالمدينة ثلاثة أشهر بعد هجرتي إليها بسنتين، وكنا نجتمع في أغلب الليالي اجتماعا خاصا لا نتحدث فيه إلا عن القطر الذي يجمعنا وهو الجزائر، والبلد الذي يضمنا وهو قسطنطينة، والآمال التي تملأ نفوسنا، في ترقيته وإعداده للتحرير، فكنا نُجْمِع على أن لا وسيلة لذلك إلا العلم تنتشر أعلامه، والجهل ينقشع ظلامه، ثم تصور الخواطر لي وله مدارس تشاد للنشء وألسنة تفتق على العربية، وأقلاما تتشقق على الكتابة، فتصور لنا قوة الأمل، ذلك كله كأنه واقع نراه رأي العين. فإذا انتهينا من التصورات أخذني بالحجة، وألزمني بالرجوع إلى الجزائر، لنشترك في العمل، المحقق للأمل، وأقام لي الدليل من الدين على أن هذا العمل أشرف وأقرب إلى رضى الله من الهجرة، ولم أكن أنكر عليه هذا، ولكن والدي – رحمه الله- كان يأبى على ذلك، فكنت أتخلص بالوعد بالرجوع عند سنوح الفرصة.

ورجع هو من عامه، فابتدأ التعليم، وانثال عليه الطلبة من المقاطعات الثلاث، وقدّر الله فرجعت بعد سبع سنوات من افتراقنا، فوجدت عمله قد أثمر، وأملنا قد بدأ يتحقق، ووجدت الحرب قد فعلت فعلها في نفوس أمتي، فكان من آثارها حياة الاستعداد الفطري، الذي أماته الاستعمار في تلك المرحلة، التي عددنا لكم ما غرسته أيامها في نفوس الجزائريين من بذور خبيثة، كان من ثمراتها: تخدير الشعور، وإضعاف المعنويات.

وكان لرجوعي إلى الجزائر في نفس الشيخ عبد الحميد بن باديس ما يكون في نفس القائد اتسعت عليه الميادين، وعجز عن اقتحامها كلها، فجاءه المد لوقته، وتلقاني رحمه الله بمدينة تونس، مهنئا لي ولنفسه وللوطن، ومذكرا بعهود المدينة المنورة، ومبشرا بمواتاة الأحوال، وتحقق الآمال، فكانت مشاركتي له بالرأي والتفكير والتقدير والدعاية، أكثر مما هي بالتعليم والتدريب، لما كان يحول بيني وبين الانقطاع إلى ذلك من عوائق، وإن كنت شاركت في تحضير أذهان العامة للنهضة الكبرى بسهم وافر، بواسطة دروس ومحاضرات، ورجع أفراد من الإخوان الذين كانوا بالشرق مهاجرين، أو طلابا للعلم، وجماعة من تلامذة الأستاذ ابن باديس الذين أكملوا معلوماتهم بجامع الزيتونة، تنطوي نفوسهم من أستاذهم على فكره وروحه، ومن جامع الزيتونة على متونه وشروحه، فاستقام الصدد، وانفتح السدد، وتلاحق المدد، وكانت من أصواتنا مسموعة ما يكون من الصيحة رَجّت النائم، ومن أعمالنا مجموعة ما يكون من الروافد انصبت في النهر فجاشت غواربه، وكانت تلك بداية النهضة بجميع فروعها، والثورة الفكرية بتمام معانيها. أ. هـ.[5]

وبعد الشيخ ابن باديس: قاد الإبراهيمي سفينة التربية والتعليم، فكان يعلم بنفسه أحيانا، ويوجه المعلمين، ويؤلف في التربية، حتى أنه صنف كتابا باسم(مرشد المعلمين) قدمه أحد أبناء الجمعية(الأستاذ محمد الغسيري) فقال:

(وضع أستاذنا الجليل محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء منذ سنوات، برنامجا حافلا للتعليم العربي بجميع أنواعه، وضمّنه أصولا عظيمة من علم التربية، وقد سألناه منذ عامين: أن يجرد لنا فصولا عملية تتعلق بالسنوات الست الابتدائية ففعل، وسلّمه لنا لنطبعه وننتفع به، وطالعناه فلم نجده كالبرامج المعتادة، وإنما هو (معلم مكتوب). فهو يأخذ بيد المعلم ويسير به خطوة بخطوة إلى الغاية لا يضل عنها ولا يجوز، وكأنما هو (ملقن) من وراء المعلم يملي عليه الكلام ويرشده إلى كيفية العمل. لذلك آثر جماعة من قدماء المعلمين تسميته(مرشد المعلمين).[6]



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- في المذكرة التي قدمها مكتب جمعية العلماء في القاهرة إلى مجلس الجامعة العربية، ونشرت في صحيفة (منبر الشرق) و(الدعوة) في أغسطس 1954م. القاهرة.

[2]- نشرت في صحيفة (منبر الشرق) وصحيفة(الدعوة) أغسطس 1654م.

[3] انظر: آثار البشير الإبراهيمي (/4 342 وما بعدها).

[4]- سمعت هذا شخصيا من الجزائري المجاهد الأستاذ الفضيل الورتلاني رحمه الله.



[5]- انظر: آثار البشر الإبراهيمي (/4 340 وما بعدها).

[6]- البصائر: العدد67/ السنة الثانية من السلسلة الثانية 19/ 2 / 1949م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:02 AM
(
4)

العمل الجماعي: ضرورة وشرطاً

وإذا كان الشيخ الإبراهيمي يؤمن بالتوعية والتربية منهاجا للإصلاح، ولا يكتفي بمجرد الخطب الرنانة، والكلمات المسجوعة، أو الدعايات الحزبية، فإنه يؤمن كذلك، كما آمن شيخه ورفيقه وأسوته الإمام ابن باديس (بالعمل الجماعي) ضرورة وشرطاً للنجاح وتحقيق الرجاء.

فالعمل الفردي ـ مهما يصحبه من الإتقان والإخلاص محدود ـ الأثر، محصور القدرة، مقيد الإمكانات، ولكن إذا تضامّت الجهود، وتلاحمت القوى، أصبحت اللبنات المتفرقة بنيانا مرصوصا، يشد بعضه بعضا.

فالمرء قليل بنفسه، كثير بإخوانه، ضعيف بمفرده، قوي بجماعته، ويد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، والشيطان مع الواحد، وهو من الاثنين أبعد، وقد قال الله تعالى لموسى:سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ [القصص:35].

وفكرة الإمام ابن باديس ورفقائه هنا، هي نفس فكرة الإمام حسن البنا وإخوانه في مصر، حيث لم يكتف بالوعظ والإرشاد طريقا للإصلاح، ولكنه رأى أن العمل الجماعي المنظم ضرورة لابد منها لنصرة الإسلام وإحيائه وتجديد أثره في الأمة، ولتحرير مصر وبلاد العرب والمسلمين من الاستعمار وكل سلطان أجنبي لإقامة دولة الإسلام فيها.

توافق الإمامان على غير التقاء بينهما، وأنشأ حسن البنا جمعية الإخوان المسلمين، سنة 1928 أو 1929م وأسس ابن باديس جمعية العلماء سنة 1931م.

وإن كنت قرأت مقالة العلامة الإبراهيمي: أن فكرة الشيخ ابن باديس في إنشاء الجمعية، كانت أسبق من ذلك، فقد حاول أن ينشئ جمعية أطلق عليها: جمعية (الإخاء العلمي) سنة 1924م ولكن حالت الحوائل دون ذلك.

أسس ابن باديس جمعية العلماء للنهضة والإصلاح والتحرير، وكان نائبه ورفيق دربه البشير الإبراهيمي. وبعد وفاته كان أمينا على العمل الذي بدآه معا، وفيّا له، حريصا على أن يستمر في إيتاء أُكُله، وتحقيق أهدافه الكبيرة. كما كان حريصا أبلغ الحرص على أن يعطي كل ذي حق حقه، فيتحدث عن ابن باديس أنه: هو المؤسس والباني والبادئ، وأول من بذر بذور الإصلاح والتجديد، وأول من ارتفعت صحيفته بتحرير الجزائر ونهوضها وبنيانها من جديد. بل أول داعية إلى التجديد والإصلاح في المغرب العربي كله.

من آثار العمل الجماعي:

والعمل الجماعي أقدر على إنجاز المشروعات الكبيرة، وتحقيق الآمال الطموحة، مما لا يستطيع الأفراد – وإن بلغوا ما بلغوا – أن يحققوه. وها هو الإبراهيمي يعدد لنا في مقال له: ما قامت به (جمعية العلماء) من أعمال أصيلة ومنجزات جليلة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف:58].

(مائة وثلاثون مدرسة عربية مجهزة بكل الأسباب المادية العصرية اللازمة للمدارس، وبجهاز آخر من المعنويات أعظم منها شأنا وأجل خطرا، وبجند من المعلمين الأكفاء قوامه: مائتان وخمسون معلما، من بينهم عشرات النوابغ في التعليم والإدارة، ومشحونة بزهاء ثلاثين ألف تلميذ من أبناء الأمة بنين وبنات، يتلقون مبادئ الدين الصحيح: عقيدة وأعمالا، ومبادئ العربية الفصيحة: نطقا وكتابة وإنشاء، ويتربون على الوطنية الحقيقية وعلى الهداية الإسلامية والآداب العربية، ويتكوّن منهم جيل مسلّح بالعلم، ثابت العقيدة في دينه ووطنه، قوي العزيمة في العمل لهما 000 ويزيد في قيمة هذه الحصون العلمية أن الأمة تملك أعيان نحو الخمسين منها، وتملك الانتفاع بالباقي على وجه الكراء. وسبعة وثلاثون مدرسة أخرى شرعت الأمة الإسلامية في تشييدها في هذه السنة، وفيها ما يحتوي على ستة عشر قسما، وفيها ما تقدر نفقاته بخمسة عشر مليونا من الفرنكات.

ومعهد تجهيزي عظيم، يخطو إلى الرقي والكمال في كل يوم في نظامه وبرامجه وأساتذته وتلامذته. يؤوي من تخرجه تلك المدارس، ليزود الأمة منهم بالوعاظ والمرشدين وخطباء المنابر، ويزود الطامحين منهم إلى المزيد من العلم بالمؤهلات إلى ما يطمحون إليه.

وجمعيات بلغت المئات، مقسمة على العلم والإحسان والأدب والرياضة، تبث في الأمة: النظام، والإدارة، وآداب الإجتماع، وديمقراطية الانتخاب، وتعلمها كيف تناقش، وكيف تصوغ الرأي، وكيف تدافع عنه، وكيف تنقضه بالحجة، وكيف تزن الأفكار، وكيف تحاسب العاملين. وتدربها على التدرج من الإدارات الصغرى إلى الإدارات الكبرى. لأن الأمة التي لا تحسن إدارة جمعية صغيرة، لا تحسن بالطبع – إدارة مجلس فضلا عن حكومة، ولا كالجمعيات مدارس تدريب، ونماذج تجريب.

ونواد بلغت العشرات، غايتها إصلاح ما أفسدت المقاهي والملاهي من أخلاق الشباب، وكلها ميادين للعمل، ومنابر للخطابة، ومستغلات للعلم والتعليم.

وآلاف من الشباب العربي المسلم كان كالمجهول في نسبه، وكالجاهل لحسبه، ففتحت المحاضرات الحية أذهانه على تاريخ أسلافه وفتقت ألسنته على آدابهم، فتقاسم على أن يقفو الأثر، ويجدد ما اندثر، وأقبل على العلم حتى إذا ضاقت به الجزائر فارقها كالنحلة، ترحل إلى المكان السحيق، لترجع إلى خليتها بالرحيق.

وإصلاح ديني تمكن من النفوس وتغلغل في الأفئدة، فطهرها من الشوائب التي شابت الدين، ومن النقائص التي شانت الدنيا، وصحح العقائد فصحت القواعد، وصحح العزائم، فأقدمت على العظائم، وإذا صحت العقائد وصلحت النيات، ظهرت الآثار في العزائم والإرادات.

وفضائل شرقية كانت مشرفة على التلاشي فأحيتها مدارسة القرآن وممارسة التاريخ، وإفشاء الآداب العربية، ونشر المآثر العربية.

وأمة كاملة كانت نهبا مقسما بين استعمارين متعاونين على إبادتها: مادي متسلط على الأبدان. وروحاني متسلط على العقول، فصححت حركة الإصلاح الديني عقولها فصح تفكيرها، واتزن تقديرها، واستقام اتجاهها للحياة. وإن تحرير العقول من الأوهام، سبيل ممهد إلى تحرير الأبدان من الاستعباد.

هذا هو رأس المال الضخم الذي أثلته جمعية العلماء للأمة الجزائرية في بضع سنين، وغدت به البقايا المدخرة من ميراث الأسلاف).

(وهذه هي الأعمال التي عملتها جمعية العلماء للعروبة والإسلام، فحفظت لهما وطنا أشرف على الضياع، وأمة أحاطت بها عوامل المسخ، فأصبحت أمة عربية مسلمة شرقية نضاهي بها أخواتها في العروبة والإسلام، بل نباهيهن بها.

وما شيدت جمعية العلماء هذا البناء الشامخ من الماديات والمعنويات ورفعت سمكه إلا بعد أن أزالت أنقاضا من الباطل والضلال تنوء بالعصب أولي القوة والأيد، وبعد أن نازلت جيوشا من المبطلين المضللين تكع عن لقائها الأبطال، وبعد أن لقيت من حماة الاستعماريين ما تلقاه فئة الحق من فئات الباطل: كانوا أكثر وأوفر، وكنا أثبت وأصبر، وكانت العاقبة للصابرين)[1].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- البصائر: العدد 46- السنة الثانية من السلسة الثانية – 23 أوت 1948م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:03 AM
(5)

الأمة العربية الإسلامية: ساحة وميدانا

كان الإمام الإبراهيمى يجاهد في معركة كبيرة، كَثُر فيها الخصوم والأعداء، وقل فيها الأعوان والنصراء، وشحذت فيها أسلحة كثيرة من قبل هؤلاء الأعداء، المجهّزين بكل ما تطلبه المعركة، فهم مجهزون بالعلم، ومجهزون بالمال، ومجهزون بالمكر، ومجهزون بالعدد والعدة، ومجهزون بالتكاتف والتعاضد. فهم يختلفون فيما بينهم على أمور شتى، ولكن إذا كان العدو هو الإسلام: اتفقت كلمتهم، والتأم شملهم، وتوحد صفهم، ونسوا ما بينهم من خلافات جانبية.

ومما ضاعف من صعوبة هذه المعركة وشدتها وخطرها: أن ساحتها واسعة جدا، مساحتها (الأمة الإسلامية) على امتداد أقطارها، واتساع مساحاتها، وتباعد أطرافها، وتنوع عروقها، وتعدد لغاتها.

الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها كانت ميدان العمل والدعوة والجهاد للإبراهيمي.

قضية فلسطين في المقدمة:

ولذا كان اهتمامه بكل قضايا الأمة، وعلى رأسها قضيتها المحورية: قضية أرض الإسراء والمعراج والأقصى: فلسطين، التي خصّها بالمزيد من الاهتمام فهو يعيش فيها، وتعيش فيه، يذكر بمحنتها، ويحامي عن حقها، ويحرض العرب والمسلمين على الذود عن حياضها، ويدعو الجزائريين خاصة أن ينهضوا بواجبهم نحوها، ولا يتخاذلوا عن نصرتها بكل ما يستطيعون.

كان هذا موقفه قبل أن تقوم دولة الكيان الصهيوني، وبعد أن قامت.

استمع معي إلى ما كتبه في البصائر في العدد (5) سنة 1947م:

(يا فلسطين ! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عنق كل مسلم جزائري لك – يا فلسطين – حق واجب الأداء، وذمام متأكد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو ضاع بعض حقك، فما الذنب ذنبه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبيلته.

يا فلسطين ! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأن فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك المرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا ؛ وإليك إليك ترامت هِمم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذللُ بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد، إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وردا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهّرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان) [1].

وفي هذه المقالة يقول: (أيظن الظانون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين ؟! وتضعها في غير منزلتها التى وضعها الإسلام من نفسها ؟ لا والله: يأبى لها ذلك شرف الإسلام، ومجد العروبة ووشائج القربى.

ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى أن يحلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته: هو الذى يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، وهيهات).

ويستمر الشيخ على هذا النهج في التركيز بفلسطين، والتعريف بعدالة قضيتها، وجمع الأمة كلها حولها، في سبع مقالات مطولة، بأسلوب الشيخ الذي يُحرّك السواكن، ويثير الكوامن، ويفجر المكنون من الطاقات.

انظر ما كتبه عن (عيد الأضحى وفلسطين): النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع ؟

إخواننا مشردون، فهل نحن من الرحمة والعطف مجردون ؟

تتقاضانا العادة أن نفرح في العيد ونبتهج، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر.

وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها ونغتم، ونُعْنَى بقضيتها ونهتم.

ويتقاضانا إخواننا المشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافى، أن لا ننعم حتى ينعموا، وأن لا نطعم حتى يطعموا.

ليت شعرى !. . . هل أتى عبّاد الفلس والطين، ما حل ببني أبيهم في فلسطين ؟

أيها العرب، لا عيد حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحر حتى تقذفوا بصهيون في البحر.

ولا أضحى حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى.

أيها العرب: حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء، وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع، وحرام أن تطمئن بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء.

أيها المسلمون: افهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والمعاناة لا ما فيه من معاني الزينة والدعة والمطاعم، ذلك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم.

إن بين جنبي ألماً يتنزّى، وإن في جوانحي ناراً تتلظى، وإن بين أناملي قلماً سُمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وإن في ذهني معاني أنحى عليها الهم فتهافتت، وإن على لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت.

ولو أن قومي أنطقتنى رماحهم نطقت ولكن الرماح أجَرّت[2]

وكتب مرة أخرى بمرارة مقالاً يقول فيه: هل لمن أضاع فلسطين عيد ؟؟

ولنقرأ هذه الكلمات البليغة المعبرة التي ارتجلها الإبراهيمي في حفل إقامة جمعية الإخوة الإسلامية في العراق ونشرتها مجلتها: قال[3]:

إن معرفة كارثة فلسطين لا تعدو أن تكون أسئلة وأجوبة ؛ فإن استطعنا أن نعرف الداء، ثم نعالجه. .

أما السؤال الأول، فهو:

هل أضعنا فلسطين ؟

الجواب: نعم.

السؤال الثاني:

هل أعطيناها أم أخذوها منا ؟

الجواب: أعطيناها نحن !!

السؤال الثالث:

هل يمكن استرجاعها ؟

الجواب: يمكن استرجاعها. .

ثم قال: بماذا أضعنا فلسطين ؟

الجواب: أضعناها بالكلام.

فقد كان الشعراء ينظمون القصائد الطويلة العريضة في مديح العرب وتسفيل اليهود، والكُتّاب يكتبون، والسّاسة يصرحون، فبين النظم والتصريح والكتابة والخطابة ضاعت فلسطين !!

ثم قال:

الرجل البطل يعمل كثيرا، ولا يقول شيئا. ا.هـ

وفي مقام آخر ختم مقالة بهذه الكلمات المضيئة التي يكاد يحفظها الجزائريون كافة:

أيها العرب، أيها المسلمون !

إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون !

مشاركة تونس في محنتها:

وإذا كان الشيخ يهتم بفلسطين - على بعد الدار – فلا غرو أن يهتم بالمغرب العربي أو بالشمال الأقصى، وهو أقرب دارا فهو يألم لألمه، ويبكي في أحزانه، ويشدو في أفراحه. وقد كتب تحت عنوان (كوارث الاستعمار) مواسيا لتونس يقول: فات " البصائر " بسبب عطلة المطبعة أسبوعين في آخر رمضان – أن تشارك الأمة التونسية العزيزة في إعلان الحزن على ما أصابها في العهد الأخير من كوارث الاستعمار التي تجلت في الحادثتين الداميتين، حادثة (جبل الجلود) وحادثة (صفاقس).

أما التألم والامتعاض من قتل الأبرياء المسالمين، وأما الحزن والأسى لإخواننا الذين ماتوا مظلومين، ولأطفالهم وزوجاتهم الذين بقوا بلا مال ولا عائل فإن حظنا منها لا يقل عن حظ إخواننا التونسيين، ومحال أن يتألم عضو من جسد ولا يتألم له سائر الأعضاء، وقد ألّفت هذه المصائب المتوالية، وهذه المصائب المتحدة المصدر، بين قلوبنا تأليفا جديدا محكم النسج، وأرهفت إحساسنا وصيرتنا كتلة من لحم مرضوض، في لجة من الدموع المرفضة، فلا يمتاز في مصائبنا معز من معزى.

عذرنا إلى إخواننا أننا لم نخسر في باب التعزية إلا سطورا سوداء في أوراق بيضاء تقرأ وتهجر. وعوضنا الغالي عنها إحساسات مضطربة في نفوس متألمة [4].

ويكتب المقالات في الصفحات المتعددة عن (المغرب) وقد كان يسمى في ذلك الوقت (مراكش). أو المغرب الأقصى، ويتحدث عن الملك محمد الخامس الذي وقف ضد فرنسا، وقامت بنفيه خارج البلاد، وأثنى عليه جميلا، على قلة ثنائه على الملوك والأمراء. بل كثيرا ما يصليهم نارا من كلمه، الذي نراه أحيانا أحدّ من السيف.

ولليبيا حق مؤكد:

كما تحدث الشيخ كثيراً عن تونس ومراكش – أو المغرب الأقصى كما كان يسمى – تحدث عن ليبيا فقال: ولإخواننا الليبيين – أو الطرابلسيين كما نسميهم - علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدى، وإن من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال، من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدواً واحداً مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع، إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين، ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال، ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم، وقصمت الحرب ظهره، جائعاً يتضور، وقابعاً يتحفز، وحانقاً يتلظى، وراجياً يتعلق، وطامعاً يتملق.

قاوم هؤلاء الإخوان الاستعمار الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجار العنيد ختم عليهم بالعبودية المؤبدة جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا، وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدرون أنهم يعينون استعماراً على استعمار، وأنهم سينتقلون من شدق الأفعى، إلى ناب الأفعوان، ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصُمت الآذان عن سماع صوتهم حيناً ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعاً كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952م.

جزيرة العرب في وجدان الإبراهيمي:

وهو يتابع بفكره وقلبه وأعصابه وإحساسه كل بلاد الإسلام. فاقرأه وهو يتحدث عن جزيرة العرب، ومصر وشمال أفريقيا وغيرها يقول:

(وهذه الجزيرة العربية مَجْلى البيان والوحي، ومسرح الخيال والشعر، ومنبت حماة الحقائق من قطحان وعدنان – تنصب فيها أشراك الشركات ووراء كل شرك صائد ؛ وتتناطح فيها رؤوس الأموال ؛ ووراء كل رأس مال رؤوس حيوانية تفكر في الكيد، وأيد حريرية تحمل القيد ؛ وأرجل تسعى للاحتلال والاستغلال ؛ وقد فجعت صحراؤها في الدليل الذي كان يستاف أخلاف الطرق [5]، بالدليل الذي جاء يستشفّ [6] أطباق الأرض، ويشتفّ [7] ما فيها من سوائل ؛ وأصبح ما في الأرض من الكنوز السائلة والجامدة بلاء وشقاء لمن على ظهرها من أهل وسكان.

وهذه مصر كنانة السهام ؛ أرض العبقرية وسماء الإلهام، وقبلة العرب ومحراب الإسلام تدفع بقوة إيمانها ألوهية فرعون جديد. وتدفع بيقظتها كيد شيطان مريد، بعد أن أنقذها الإسلام من تعبد الفراعنة الأولين ؛ وإن فرعون الجديد لعال في الأرض – كأخيه – وإنه لمن المفسدين.

وهذا الشمال [8] قد أصبح أهله كأصحاب الشمال، في سموم من الاستعمار وحميم، وظل من يحموم، ، لا بارد ولا كريم ؛ أفسد الاستعمار أخلاقهم.

ولمصر مكانة خاصة:

ويتحدث في مقال خاص رائع يخاطب فيه مصر (يا مصر) فيقول وما أبدع ما يقول:

(انثري كنانتك – يا كنانة الله – فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تراعي، واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد، وهو العزائم ؛ والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف ؛ والمِسن الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر ؛ فلعمرك – يا مصر – إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفيلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت ؛ وبالحشيش الذي يهدم الصحة ؛ وبالممثلة التي تمثل الفجور ؛ وبالراقصة التي تغري بالتخنث ؛ وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة ؛ وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال ؛ وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة ؛ وبالعادات التي تناقض فطرة الله ؛ وبالمعاني الكافرة التي تطرد معاني الله من القلوب ؛ فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة. .. ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها. .. إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم. .. وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا... وماذا يصنع " المرابي" في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معـه بالربا؟)[9] انتهى.

قومي هم العرب والمسلمون:

ويتحدث الشيخ عن قومه وقضاياهم ومآسيهم التي تُؤرق عليه ليله، وتكدر عليه نهاره. وقومه هم العرب والمسلمون. يقول رحمه الله:

(والحقيقة هي أني كلما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية – أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات، والقرب من الموبقات. ... وقومي هم العرب أولا، والمسلمون ثانيا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمة تفكيري.

أفكِّر في قومي العرب فأجدُهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتَنون في كل عام مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون، وأراهم لا ينقلون قدما إلى أمام، إلا تأخروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلى بحلاهن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لضَرّة، نكاية في ضرة، وأفكر في علة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرق المبيد لهم، فأجدها آتية من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذل، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بسفافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يقيم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم ؛ وأصبحوا يتوهمون كل حركة من إسرائيل، أشباحا من عزرائيل.

وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورا بلا لباب، وألفاظا بلا معان ؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل والشيع ؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها ؛ وقد نسوا حاضرهم افتنانا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادا على أوليهم، ولم يحفلوا مستقبلهم لأنه – زعموا – غيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه من ثمارها، ولكن زرع الأولون، ليجني الآخرون.

وهم على ذلك إذ طوقتهم أوروبا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوة والكيد والصولة والأيد – أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها، حظهم منها حظ الأوكس، وجزائهم منها جزاء الأبخس.

إن من يفكر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق – يفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يجن فيستريح!

وجاء هذا العيد. .. والهوى في مراكش يأمر وينهي، والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى، والكيد في تونس يسلط الأخ على أخيه، وينام ملء عينيه، والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال ؛ ومشكلة فلسطين أكلة خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري ؛ والأردن قنطرة عبور، للويل والثبور، وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته)، معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها، مقتولة بسيوفها ؛ والعراق، أعيا داؤه الراق ؛ وتركيا لقمة في لهوات ضيغم، وهي تستدفع تيارا بتيار، وتستجير من الرمضاء بالنار، وفارس طريدة ليثين يتخاطران، وباكستان لم تزمع التشمير، حتى رهصت بكشمير؛ والأفغان تحاول الكمال، فيصدها الخوف من الشمال، وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو.

هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها ؛ وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يقبل عليهم العيد فيقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعللون بالأماني ؛ أفلا أعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكي، وقلم جاف، وقلب حزين ؟. ..

حركة الإسلام في أوربا:

ولا يكتفي الشيخ بحمل هموم الإسلام وأمته في العالم الإسلامي فقط، بل تمتد هممه إلى الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب وفي غيره، فتراه يكتب عن حركة الإسلام في أوربا قائلا [10]:

(الإسلام روح تجري ؛ ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى.

لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل أفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوربا مع الفتوحات العثمانية. كما دخل غربها في الجنوب مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان من غير استئذان.

وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراها على الدين. وإنما مكنت للإسلام: طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرقوه شيعا ومذاهب، فضعف تأثيرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نسمع.

لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغير ما به، فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهما الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي، وإصابة الصواب، ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.

ولو كان المسلم مسلما حقا لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قويا به في المادة. ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد. ونكون قد أضفنا إلى هذا العصر المادي العصري الفوار: عنصرا روحانيا فوارا يلطف من حدته، ويخفف من شدته، فيتكون منهما مزاج صالح، يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم.

إنك لترى للمسلمين وجودا في كل قطر، وتسمع عنهم نبأ في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطا للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساسا للقوة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون. ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضعيفة الآفاق، من جنسية وإقليمية، في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة – إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية.

وهناك في الأقاصي من شمالي أوربا طوائف من إخواننا المسلمين المنحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جزيرة البلقان، ثم مدت مدها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في (فنلندا).

ولا نشك أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشك أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوته وجده، ولكنهم في حياتهم الدينية – مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تقوي ضعفهم المادي، وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة، وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم.

ويظهر للقارئ من كلمة الأستاذ محمد فهمي عوض المنشورة في الماضي ومن الصور التي ننشرها اليوم، ومن الرسالة المفصلة التي كتبها إلينا الشيخ حبيب الرحمان شاكر إمام المسلمين في فنلندا – يظهر من ذلك كله ما هم في حاجة إليه، فليس لهم مسجد جامع يؤدون فيه الشعائر الدينية، وإنما يصلون الجمعة في قاعة سينما يكترونها لساعات، وليس عندهم من الكتب الدينية العربية شيء إلا المصاحف، وإنما يتمتعون بشيئين مهما تكن قيمتها غالية فإنهما لا تغنيان عن المفقود. وهما: العقيدة المتينة، والحرية التامة.

وجمعية العلماء تبتهج بهذه الصلة الجديدة بإخواننا مسلمي فنلندا، وتصل بهذه الكلمة وشائج القربى الدينية، وتحرك بها سواكن همم المسلمين في الشرق والغرب ليلتفتوا إلى هذه الناحية من جسمهم فيداووا علتها، ويسدوا خلتها، ويربحون بها ما يزيد في عددهم ؛ وإن هذا لأقل ما يوجبه الإسلام على المسلم) انتهى.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] - نشرت في العدد (5) من جريدة البصائر سنة 1947.

[2] - نشرت في العدد (53) من جريدة البصائر سنة 1948.

[3] - مجلة الأخوة الإسلامية العدد الرابع، بغداد، الجمعة 20 جمادى الأولى 1372هـ الموافق 5 فيفري 1954م، السنة الثانية.

[4] - البصائر – العدد (5) – السنة الأولى من السلسة الثانية – 5 سبتمبر 1947 م. (بدون إمضاء).

[5] - الاستياف: شم الدليل لتراب الأرض ليعرف أين موقعه عند الضلال، ومن هذا الفعل أخذت كلمة المسافة.

[6] - استشف الشيئ صيره شفافا أو وجده كذلك بعد الاختيار.

[7] - اشتف ما في الإناء إذا أتى على آخره فلم يترك منه شيئا.

[8] - يريد شمال إفريقية.

[9] - نشرت في العدد178 من جريدة البصائر سنة 1952م.

[10] - البصائر: العدد 147 – السنة الرابعة من السلسة الثانية – 19 مارس 1951 م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:05 AM
خاتمة

دعاء وابتهال

ونختم بحثنا هذا عن العلامة الإبراهيمي بدعاء جامع، اقتبسناه من كلام الشيخ رحمه الله، ذكره في مقدمة التقرير الأدبي. وهي خطبة أدبية رائعة من الأدب الديني صادرة عن قلب مؤمن، عبر عنها قلم بليغ [1]:

رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ[آل عمران:8]

رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ[آل عمران:193-194].

اللهم هب لنا توفيقا ينير الطريق، وهداية تقي العثرات، وعناية تأخذ باليد إلى الحق، ويقينا يزيل اللبس في مواطن الشبهات، وتأييدا يثبت الأقدام في مواضع الزلل، وثباتا يعصم من الفرار في ميادين الصراع بين الخير والشر، وصبرا يزع عن النكوص على الأعقاب، وشجاعة تفل الحديد، وتنسخ آية هذا العصر الجديد، وبيانا يفحم الخصم في مواقف الجدل، وعفة تقهر الغرائز الجامحة، والشهوات العارمة، والمطامع المتعرضة بكل سبيل، وأفض علينا لطفا يصحب خفايا الأقدار عند حلول المصائب، وأصحبنا ولاية منك تخرجنا من الظلمات إلى النور،رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ[البقرة:250].

اللهم جنبنا زلة الرأي، وزلزلة العقيدة، ودغل الضمير، ورين البصيرة، وخيبة الرجاء، وطيش السهام، وجنبنا الخوف من غيرك، والجحود لخيرك، والبخل عليك برزقك، والرهبة من عدوك، والضلال في معرفتك، والهجر لكتابك، والشك في وعدك، والاستخفاف بوعيدك، والدخل في الانتساب إليك، واجنبنا وقومنا أن نعبد هذه الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس.

اللهم ارزق أمة محمد التفاتا صادقا إليك، والتفاتا محكما حول كتابك، واتباعا كاملا لنبيك، وعرفانا شاملا بأنفسهم فقد جهلوها، وتعارفا نافعا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة، وهب لهم من لدنك نفحة تصحح الأخوة السقيمة وتصل الرحم المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحاد يجمع الشمل الممزق ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوك وعدوهم، ورجوعا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبب لهم رحمتك ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.

اللهم واحفظ هذه العصابة الذائدة عن حماك، والمعظمة لحرماتك الواقفة بالمرصاد لكل معتد عليها، الناصرة لدينك، والمدافعة – ولا منة – عن بيوتك، القائدة لرعيل الحق في سبيلك، فإنها كثيرة بك، معتزة بعزتك، قوية بتوفيقك، وإنها إن هلكت لم تعبد في هذه الأرض).

أيها الإخوان الكرام، أيها الأبناء الأعزاء !

مرحباً بالوفود غير خزايا ولا ندامى، وسلام لكم من أصحاب اليمين، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.



--------------------------------------------------------------------------------

[1] - البصائر: العدد172 – 173- السنة الرابعة من السلسلة الثانية – 15 أكتوبر1951 م.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:09 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبع هداه ...

أيها الإخوة والأخوات:

خير ما أحييكم به تحية الإسلام، وتحية الإسلام السلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فنحن نجتمع اليوم لنحتفل بكتاب ومؤلَّف.

وكم تُخرج المطابع كل يوم من ألوف الكتب بمختلف اللغات، وفي شتَّى الثقافات، ولكن الذي يلفت النظر منها قليل، والذي يَخلُد منها ويبقى أقل من القليل.

الذي يَخلُد ويبقى أثره، ويدوم نفعه، ولا يُبليه مرور الأيام والليالي: هو الأصيل الذي قدَّم صاحبه جديدًا للناس، ولا سيما إذا كان الناس في حاجة إلى هذا الجديد.

ومن هذه الكتب في عصرنا: كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) لأخينا وحبيبنا عبد الحليم أبو شقة رحمه الله.

ومن حقِّ الكتاب أن ينوِّه به العلماء، ويتحدث عنه النقَّاد، ويقتبس منه الدعاة، فهو موسوعة فريدة في بابها كانت الأمة في مسيس الحاجة إليها.

ومن حق الكاتب أن يحتلَّ مكانته في العلم والفكر، وأن يأخذ حقَّه ومكانه بين العلماء والمفكرين والمصلحين المجددين.

وحق على مثلي أن يتحدث عنه بما يجب له وما يستحقه من تقدير وتكريم، فهو شقيق الفكر والروح، ورفيق الدرب والمنهج، وصديق الشباب والكهولة والشيخوخة.

ولكن المقام لا يتسع، فسأكتفي هنا بكلمتين موجزتين:

كلمة عن الكتاب، وكلمة عن المؤلف.

كلمتي عن الكتاب:

أما الكتاب فقد كان يحمل إلى القارئ المسلم، وإن شئت قلت: يحمل إلى الأمة المسلمة: رسائل ثلاثا:

1- رسالة تحرير.

2- ورسالة تيسير.

3- ورسالة تنوير.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:11 AM
(1)

رسالة التحرير:

فأما رسالة التحرير التي يحملها الكتاب إلى الأمة، فنأخذها من عنوان الكتاب ذاته (تحرير المرأة في عصر الرسالة) ومفهوم هذا العنوان: أن المرأة لم يحرِّرها قاسم أمين أو غيره في هذا العصر، بل حرَّرها محمد ، منذ أربعة عشر قرنًا أو تزيد.

وهذا ما أثبته هذا الكتاب بأجزائه الستة، وبنصوصه الوفيرة، ونقوله الغزيرة، واستنباطاته البصيرة، وتعليقاته المنيرة، ومناقشاته المستفيضة.

وهو يسعى من وراء إثبات تحرير المرأة في العصر النبوي إلى ضرورة تحرير المرأة المسلمة في العصر الحديث: تحريرها ممن اعتبروها مجرد وعاء للحمل والولادة، ومن الذين اعتبروها مجرد جسد للإثارة والفتنة، وكلا الفريقين من المتعصبين للقديم، ومن المتعبدين للحديث: لم يعتبرها إنسانا ذا عقل وروح ورسالة، وأنها مثل شقيقها الرجل: مكلفة بعبادة الله تعالى، وعمارة الأرض، والقيام بخلافة الله فيها.

لقد ضاعت رسالة المرأة بين الإفراط والتفريط، أو بين دعاة الغلو ودعاة التسيب.

بين الذين يريدون أن يحبسوا المرأة في البيت، فلا تخرج منه إلا مرتين: مرة إلى بيت الزوج، والمرة الأخرى إلى القبر.

وبين الذين يريدون أن يطلقوها كاسية عارية، مُتبرجة بكل زينة، مُتحللة من كل قيد.

وكلا هؤلاء وهؤلاء دعاة جاهلية، ولكن الأولين -كما قال عبد الحليم رحمه الله- دعاة جاهلية التقليد الأعمى للآباء، والآخرون دعاة جاهلية التقليد الأعمى للغرب.

وقد سمَّى الجاهلية الأولى (جاهلية القرن الرابع عشر)، كما سمَّى الجاهلية الأخرى (جاهلية القرن العشرين).

كان هذا الكتاب (فتحًا) في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر في قضية المرأة، وإن كان قد سبقه كثيرون من علماء الإسلام قد تكلموا في قضية المرأة وأنصفوها: رشيد رضا، محمود شلتوت، البهي الخولي، مصطفى السباعي، عباس العقاد، وآخرون.

ولكن مزيَّة باحثنا: أنه جمع النصوص من القرآن الكريم ومن صحيح السنة، وخصوصا صحيحي البخاري ومسلم، جمعًا مستوعبًا لم يسبق أن قام به أحد قبله، حتى إنه جمع أكثر من ثلاثمائة نص في مشاركة المرأة في مجالات الحياة المختلفة بحضرة الرجال، كلها من الصحيحين.

كما أن له مزيَّة أخرى لم تتوافر لغيره، وهو: أنه صنَّفها تصنيفًا جديدًا، واستنبط منها دلالات مهمة، ووصل إلى نتائج طيبة، منطقية غير متكلفة ولا متعسفة، كلها في صالح المرأة، حتى قال شيخنا وشيخ الدعاة في عصره الشيخ محمد الغزالي في تقديم الكتاب: وددت لو أن هذا الكتاب ظهر من عدة قرون، وعرض قضية المرأة في المجتمع الإسلامي على هذا النحو الراشد.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:13 AM
(2)

رسالة التيسير

وأما (رسالة التيسير) التي يحملها هذا الكتاب، فهي واضحة فيه من أوله إلى آخره.

والتيسير من أبرز مظاهره (التجديد) الذي عني به الكاتب رحمه الله، وقال في التعريف بالكتاب على صفحة الغلاف: (هذا الكتاب بأجزائه الستة: محاولة لـ(التجديد الإسلامي) في قضايا المرأة، تضاف إلى جهود رائدة لأساتذة لنا أجلاء).

وعرَّف (التجديد) بالمفهوم الإسلامي: (أنه يعني العودة إلى الكتاب والسنة لمعرفة هدى الله، وتنزيل هذا الهدى على الواقع، حتى يستقيم على أمر الله).

وهذا صحيح، فإن تجديد الشيء ليس معناه إزالته، وإتيان شيء حديث بدله، إنما معناه أن نحاول إعادته إلى صورته يوم نشأ وظهر، أو إلى أقرب ما يكون منها.

وقد كان الدِّين عند ظهوره سهلاً ميسرًا، بعيدًا عن الحرج والإعنات، كما عبَّر عن ذلك القرآن، في مثل قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6]، يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً [النساء:28].

وجاء في وصف النبي في كتب أهل الكتاب: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ [لأعراف:157].

وعبَّرت عن ذلك الأحاديث النبوية: "يسروا ولا تعسروا"[1]، "إنما بعثتم مُيسرين، ولم تبعثوا مُعسرين"[2].

فتجديد الدِّين يعني: أن نعيده إلى مَعين السهولة الأولى، ونضع عنه الآصار التي أثقلته طوال القرون، فكل عصر يضيف بعض الأحوطيات إلى ما قبله، والأحوط يعني: الأشد والأثقل. وقد حظي فقه المرأة بنصيب كبير من ذلك، وقد بيَّنت ذلك في تقديمي للكتاب، فكان مما قلته:

الكتاب يَسِيرُ في اتجاه التيسير ورفع الحرج والإعنات عن المرأة المسلمة. وسبب ذلك أن الاتجاه الذي ساد العالم الإسلامي قرونًا هو اتجاه التزمُّت والتشديد على المرأة وسوء الظن بها.

وعِلَّة ذلك الموقف المتشدِّد تتجلى في أمرين:

الأول: جهل الأكثرين بالنصوص الشرعية التي تتضمن التيسير، وتقاوم التعسير، وبخاصة نصوص السنة النبوية الصحيحة، فإن نصوص القرآن معلومة للجميع. أما السنة فقد جُمعت في الكتب، ودونت في الدواوين الكثيرة من الجوامع والمسانيد والمعاجم والأجزاء وغيرها، واشتغل الناس بكتب المذاهب وفقهها عن الكشف عن السنة وكنوزها.

وقد ترتب على هذا أن ترى كثيرين من المسلمين يَغفلون عن أحاديث صحيحة، ويستدلون بأحاديث ضعيفة، أو موضوعة.

الثاني: سوء فهمهم للنصوص التي عرفوها، بوضعها في غير موضعها، أو قَسْرها على استنباط أحكام منها، لا تدلُّ عليها إلا باعتساف، أو بترها عن سبب ورودها أو عن سباقها وسياقها. أو عزلها عن باقي أحكام الإسلام، ومقاصده الكلية، فلا يوفِّق بين بعضها وبعض.

ولهذا أمثلة كثيرة، لا يتسع المجال لذكرها.

وقد وفِّق الكاتب البصير إلى رؤية هاتين العلَّتين بوضوح، فجعل أكبر همِّه في أمرين:

أولهما: البحث عن النصوص المُحكَمة، وخاصة من الحديث الشريف، وحشد هذه النصوص المعبرة عن روح الإسلام وموقفه من المرأة، وهي غزيرة وفيرة ناصعة البيان، ويكفي أن تقرأ عناوين القضايا والجزئيات التي حشدها لتدرك مدى وفرتها ووضوح دلالتها.

وهو يسوق هذه النصوص في كثير من الأحيان دون أن يعلِّق عليها، فهي ناطقة بما يريد أن يقوله للناس، شارحة نفسها بنفسها.

ولكنه إذا علَّق على النصوص مستنبطًا أو شارحًا، أو مُرجِّحًا أو مُطبقًا لها على واقع الحياة، وجدته طويل الباع في التعبير عما يريد.

أما الأمر الثاني الذي وجه إليه الكاتب همَّه: فهو ردُّ الأفهام الخاطئة التي حرَّفت النصوص عن موضعها، بقصد حينا، وبغير قصد أحيانا، ومحاولة استنباط الحكم الصحيح منها. ومثال ذلك: نظره في قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، وفي حديث وصف النساء بأنهن "ناقصات عقل ودين".

قال الكاتب في حكم آية: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنّ َ: (إن الآية -مع الآيات السابقة واللاحقة- موجهة لنساء النبي ، ومما يؤكد أن أمر القرار في البيوت خاص بنساء النبي : أن عمر بن الخطاب ظل يمنعهن من الخروج للحج، ولم يأذن لهن إلا في آخر حجة حجها.

قال الحافظ ابن حجر: (قوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي )[3].

وقال الحافظ في موضع آخر: (… وفهمت عائشة ومَن وافقها من هذا الترغيب في الحج -أي قوله : "لكن أحسن الجهاد وأجمله الحج"[4]- إباحة تكرير الحج، وخص به عموم قوله: "هذه ثم ظهور الحُصْر"[5]، وقوله تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ، وكان عمر متوقفا في ذلك ثم ظهر له قوة دليلها، فأَذِن لهنَّ في آخر خلافته)[6].

وعلى فرض أن الآية مقصود بها عامة المسلمات، فلننظر في نصوص السنة -وهي المُبيِّنة للكتاب- لنرى كيف طبَّق نساء المؤمنين على عهد رسول الله الأمر بالقرار في البيوت، وكيف لم يمنعهن هذا الأمر من الخروج للمشاركة في الحياة الاجتماعية. وقد أوردنا مئات النصوص من صحيحي البخاري ومسلم، وهي تؤكد هذه المشاركة في كثير من المجالات).

وقال الكاتب في شرح حديث: "ناقصات عقل ودين"، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: خرج رسول الله في أضحى أو فطر إلى المصلى فمر على النساء، فقال: "يا معشر النساء … ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن …"[7].

سنعرض لهذا الحديث من ثلاث زوايا: (سنكتفي نحن بأولاها وعلى القارئ أن يستكمل قراءتها كلها):

الزاوية الأولى: هي الدَّلالة العامة لقوله : "ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن".

إن النص يحتاج إلى دراسة وتأمل سواء من ناحية المناسبة التي قيل فيها، أو من ناحية مَن وُجِّه إليه الخطاب، أو من حيث الصياغة التي صيغ بها الخطاب، وذلك حتى نتبيَّن دلالته على معالم شخصية المرأة.

فمن ناحية المناسبة: فقد قيل النَّص خلال عِظَة للنساء في يوم عيد، فهل نتوقع من الرسول الكريم صاحب الخلق العظيم أن يَغضَّ من شأن النساء أو يَحطَّ من كرامتهن أو ينتقص من شخصيتهن في هذه المناسبة البهيجة!!

ومن ناحية مَن وُجِّه إليه الخطاب: فقد كنَّ جماعة من نساء المدينة-وأغلبهن من الأنصار- اللاتي قال فيهن عمر بن الخطاب: فلما قدمنا المدينة إذا قوم تغلبهم نساؤهم فطفق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار[8]. وهذا يوضِّح لماذا قال الرسول الكريم: "ما رأيت أذهب للُبِّ الرجل الحازم من إحداكن".

أما من حيث صياغة النَّص: فليست صيغة تقرير قاعدة عامة أو حكم عام، وإنما هي أقرب إلى التعبير عن تعجُّب رسول الله من التناقض القائم في ظاهرة تغلب النساء -وفيهن ضعف- على الرجال ذوي الحزم. أي التعجُّب من حكمة الله: كيف وضع القوة حيث مَظِنَّة الضعف، وأخرج الضعف من مَظِنَّة القوة! لذلك، نتساءل: هل تحمل الصياغة معنى من معاني الملاطفة العامة للنساء خلال العِظَة النبوية؟ وهل تحمل تمهيدًا لطيفًا لفقرة من فقرات العِظَة، وكأنها تقول: أيها النساء إذا كان الله قد منحكنَّ القدرة على الذهاب بلُبِّ الرجل الحازم برغم ضعفكنَّ، فاتقينَ الله ولا تستعملنها إلا في الخير والمعروف.

وهكذا كانت كلمة "ناقصات عقل ودين"، إنما جاءت مرة واحدة، وفي مجال إثارة الانتباه والتمهيد اللطيف لعِظَة خاصة بالنساء، ولم تجئ قط مستقلة في صيغة تقريرية سواء أمام النساء أم أمام الرجال).

كما أن الكاتب حرص على أن يناقش بعض القضايا الأصولية الهامة التي لها علاقة بالموضوع، والتي اتَّكأ عليها كثيرون من العلماء في التضييق على المرأة، على خلاف ما أثبتته السنة المطردة. وذلك مثل قضية (سد الذرائع) التي ناقشها مناقشة العالم الواثق الذي يقف على أرض صُلْبَة.



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- متفق عليه: رواه البخاري في العلم (69)، ومسلم في الجهاد والسير (1734)، وأحمد في المسند (12333)، عن أنس.

[2]- رواه البخاري في الوضوء (220) ، وأحمد في المسند (7255)، وأبو داود (380)، والترمذي (147)، والنسائي (56) ثلاثتهم في الطهارة، عن أبي هريرة.

[3]- فتح الباري لابن حجر (7 /108) ط. دار المعرفة. بيروت.

[4]- رواه البخاري في الحج (1861)، وأحمد في المسند (24497)، والنسائي في مناسك الحج (2628)، عن أم المؤمنين عائشة.

[5]- رواه أحمد في المسند (21905) عن أبي واقد الليثي، وقال محققوه: حسن لغيره وهذا إسناد حسن في المتابعات والشواهد، وأبو داود في المناسك (1722)، وأبو يعلى في المسند (3/32)، والطبراني في الكبير (3/252)، والبيهقي في الكبرى كتاب الحج (4/327)، قال الحافظ في الفتح: إسناد حديث أبي واقد صحيح (4/74).

[6]- فتح الباري (4/75).

[7]- متفق عليه: رواه البخاري في الحيض (304)، ومسلم في الإيمان (80)، عن أبي سعيد الخدري.

[8]- رواه البخاري في المظالم (2468)، ومسلم في الطلاق (1479)، وأحمد في المسند (222)، والترمذي في تفسير القرآن (3318)، عن عمر.

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:15 AM
(3)

رسالة التنوير:

أما رسالة (التنوير) فهي الرسالة التي كانت أكبر همِّ عبد الحليم في حياته الفكرية. إنها رسالته للرجل والمرأة على حدٍّ سواء، فهو يؤمن أن تحرير المرأة لا يتم إلا بتحرير الرجل، وتحرير كليهما لا يتم إلا بتحرير العقل منهما، وهذا لا يتم إلا بإزاحة العوائق من طريق الإنسان، وإزالة الغشاوة عن عينيه حتى يرى، والأغلال عن أقدامه حتى يتحرك، ورفع كل القيود التي تعطله عن التفكير الحر والحركة الحرة.

لقد كان كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة) شمعة أضاءها عبد الحليم في طريق (التنوير) الإسلامي الصحيح. الذي يردُّ المسلمين إلى هُدى الله تعالى، وهدْي رسوله الكريم: هُدى الله المُتمثِّل في تعاليم كتابه أوامر ونواهي، وهَدْي الرسول المتمثل في أقواله وأعماله وتقريراته التي هي البيان النظري، والتطبيق العملي للقرآن، كما قال تعالى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44]، وقال: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [الأحزاب:21]، وقد حجبت المفاهيم الخاطئة، والتقاليد الخاطئة المسلمين عصورًا طويلة عن هذين النورين.

كان عبد الحليم يرى أن أزمة المسلمين الأولى في عصرنا: أزمة عقلية في أساسها، وأن هذا ليس في جماهير المسلمين وحدهم، ولا في النخب العلمانية المقلدة للغرب فحسب، بل هي في النخب الإسلامية أيضًا، وقد لمسها هو عن كثب في العاملين في الجمعيات الدِّينية، والحركات الإسلامية، وقد كان عضوا عاملا فيها، قريبا من قياداتها، مساهما في أنشتطتها المختلفة، حتى دخل السجن متَّهمًا في إحدى قضاياها.

ولهذا كان أول مقال كتبه في العدد الافتتاحي لمجلة (المسلم المعاصر) التي سعى في إصدارها: مقالا تحت عنوان (أزمة العقل المسلم المعاصر)، وهو المقال الذي لفت إليه أنظار الباحثين والمفكرين، وعلَّق عليه كثيرون، لما فيه من بصيرة وشجاعة في نقد الذات.

وقد نقد هذا المقال العقل نقدًا مستبصرًا، كشف به اللثام عن مواضع ضعفه، ومواقع قصوره وخطئه، ولكنه لم يكن نقدًا غايته الهدم، بل غايته البناء، والأخذ بيد العقل المسلم، ليعرف الطريق القويم، ويمضي فيه على هدى.

وقد وضَّح المؤلف رحمه الله، في مقدمته الثرية التي وضعها لكتابه، فبعد أن بين هدفه من كتابه، وهو الإسهام في إعادة تحرير المرأة المسلمة المعاصرة كما حررت في العصر النبوي قال:

(ويلفتنا هذا الهدف إلى قضية أكبر وأخطر-تستدعي تضافر جهود العلماء والمفكرين- وهي قضية تحرير العقل المسلم المعاصر، تحريره من قيود هائلة، وموازين باطلة، وأفكار فاسدة، سيطرت عليه عبر القرون، فأعجزته وشوَّهته. فإذا تحرَّر من كل ذلك استيقظ وعمل على نور من هدى الله، وإن تحرير العقل المسلم هو السبيل الذي لا سبيل غيره إلى التحرير الكامل والأصيل للمرأة وتحرير الرجل معًا، بل هو السبيل إلى إعادة بناء المجتمع كله على أساس صحيح متين، ذلك أن العقل هو المُوِّجه لحركة الإنسان، فإذا تحرَّر عقله واهتدى تحرَّرت حركته واستقامت وِجهته، وانطلق راشدًا على نور وبصيرة، ونحسب أن هذه القضية هي أم القضايا، إذ أدت التشوهات المتراكمة إلى خلل بالغ في منهج تفكير المسلم، وتبع ذلك خلل عام في جميع نواحي الحياة).

فخر الدين المناظر
02-20-2011, 04:16 AM
المؤلف عبد الحليم أبو شقة:

أيها الإخوة والأخوات:
بقي أن أحدثكم عن الشقِّ الثاني من كلمتي، وهو عن مؤلف الكتاب الأستاذ عبد الحليم أبو شُقَّة رحمه الله، والحديث عنه ذو شجون وشؤون، ومجال القول فيه ذو سَعَة، وخصوصًا ممَّن عايشه مثلي عن قرب ثلث قرن من الزمان أو يزيد، وعرف مَدخله ومَخرجه، وخلوته وجلوته، وسارَّ كل منا صاحبه بما في نفسه. وأشهد أني لم أر مثل هذا الرجل في صفاء نفسه، ونقاء سريرته، وقوة التزامه، وصدقه واستقامته في قوله وفعله ونيته، ظاهره كباطنه، وعلانيته كسرِّه، لا يتلوَّن تلوُّن الحرباء، ولا يقابل الناس بوجهين، ولا يتكلم بلسانين. هو في معاملة الناس في ليونة الحرير، وفي أمر الله في صلابة الحديد. إنك تستطيع أن تتحدث عنه عالمًا باحثًا، وتتحدث عنه معلمًا مربيًا، وتتحدث عنه مصلحًا مجددًا، وتتحدث عنه أخًا وصديقًا، وتتحدث عنه رجلاً وإنسانًا.

وسأكتفي هنا بالحديث عن ثلاث خصال من خصاله، لعلها أوصل بحديثنا عنه باحثًا ومؤلفًا ومفكرًا. هذه الخصال هي: خلق الحلم والأناة، وخلق التسامح، وخلق الحوار.

أ. رجل الحلم والأناة:

كثيرًا ما يكون للأسماء نضحها وأثرها على صاحبها، أو كأنما هي تنبؤ بما يكون عليه المسمَّى من صفات وفضائل.

وكأنما كان اسم (عبد الحليم) توفيقا من الله لأبيه: أن يسميه بهذا الاسم المعبَّد لله تعالى موصوفًا بهذا الاسم من أسمائه الحسنى (الحليم)، رجاء أن يكون لابنه منه نصيب من هذا الاسم أو هذه الصفة، فيتخلق بخُلق وفضيلة الحلم، كما وصف تعالى نفسه بأنه: شَكُورٌ حَلِيمٌ[التغابن:17]، وغَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران:155].

وكما وصف خليله إبراهيم بقوله إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة:114].

كان خلق (الحلم) و(الأناة) من أبرز أخلاق أخينا وحبيبنا عبد الحليم أبو شقة، وقد قال رسول الله لأشج عبد القيس: "يا أشج، إن فيك خَصلَتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة"[1].

وقال : "الأناة من الرحمن، والعجلة من الشيطان"[2].

وهذان الخُلقان: الحلم والأناة، كان لهما أثرهما البالغ في العمل العلمي والفكري لعبد الحليم، فلم تغلبه العجلة يوما فيما يكتبه، بل كان يقرأ طويلاً حتى يكتب، وما كتبه يراجعه طويلاً حتى يراه صالحًا للعرض، ثم تأتي مرحلة أخرى، وهي: عرضه على أصدقائه ومَن حوله من أهل العلم والفكر، على اختلاف ألوانهم، وتنوع ثقافاتهم، وتباين اتجاهاتهم. منهم أهل العلم الشرعي، وأهل العلم الوضعي، ومنهم الميَّال إلى التراث، والمواكب للعصر، ومنهم الجانح إلى التشديد، والداعي إلى التيسير، ومنهم ... ومنهم ...

وأذكر أحيانا أن الموضوع الواحد كان يعيد صياغته عدَّة مرات، بعد أن يقرأه مَن يقرأه ويبدي ملاحظاته عليه، ثم يجلس مع صاحبه، ويناقشه في ملاحظاته واحدة بعد أخرى.

كما أذكر أن الموضوع الواحد كان يعرضه عليَّ أكثر من مرة، ولا سيما بعد الاستشارات، وإبداء الملاحظات، وفي أحيان قليلة كنَّا نختلف في بعض المسائل التفصيلية، ونظل نتناقش فيها ونطيل المناقشة، حتى يُسلِّم أحدنا للآخر غالبًا.

وما يزال هكذا يناقش ويراجع في كل موضوع حتى يَنضَج لديه، ويستقر عليه، ويصوغه الصياغة النهائية.

أحسب أن كتاب (تحرير المرأة) قد أخذ منه نحو عشرين سنة في إعداده وتحريره، ومن أجله ترك عمله في دولة قطر، وقد كان مديرًا لمدرستها الثانوية وكان موضع الرضا والقبول والثناء، فإذا هو يفاجئنا بالاستقالة، وكم راجعه أصدقاؤه وزملاؤه في هذا الأمر، عسى أن يغير رأيه، ولكنه صمَّم على قراره. وكان الجميع يتعجَّب من هذا الرجل (الصوفي) الذي يتخلى مختارًا عن عمله المرموق في بلد يتهافت عليه المتهافتون، للتعاقد معه، أو الإعارة إليه. ولما سألناه عن السبب قال: إني أريد أن أتفرغ للبحث العلمي، وإن لديَّ مشروعات أريد أن أُنجزها، قلنا له: ألا تستطيع أن تبدأ ذلك وأنت في عملك؟ قال: إن سلفنا قالوا: إن العلم لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك[3]. وقد استخرت الله تعالى وتوكلت عليه، وعزمت على أن أسلك طريقي في البحث. وقد ادَّخرت مبلغا من المال يكفي أن أبدأ به مشروعًا استثماريًا يكفي دخله لإعاشتي وأسرتي.

وكان هذا المشروع دار نشر افتتحها في الكويت.

وبدأ الرجل رحلته في البحث والقراءة بأناته المعروفة، يقرأ في كتب الحديث، وفي كتب التفسير، وفي كتب الفقه، وفي كتب التصوف، وفي كتب السيرة والتاريخ، وفي الكتب الحديثة في علم النفس، وعلم التربية، وعلم الاجتماع، وغيرها، لا يملُّ من القراءة، ولا يكتفي بالقليل من الاطِّلاع، فهو منهوم بالعلم، ومثله لا يشبع ولا يرتوي.

وهو يقرأ وينقل ويسجل ملاحظات وأفكارًا متناثرة، وقد تكون في صورة تساؤلات تفتقر إلى جواب لا يزال يبحث عنه.

لم يستكثر عبد الحليم أي وقت، أو أي جهد، أو أي مال، يبذله من أجل وليده أو كتابه المأمول، الذي استغرق تأليفه سنين. كثيرًا ما احتاج أن يسافر فيها هو وزوجه -أم عبد الرحمن حفظها الله- بعيدًا عن الناس وعن البيت والأولاد، في بلد عربي أو أوربي، لفترة خَلوة أو عزلة -كثيرًا ما تطول- لا يشوش عليه فيها أحد يقتحم عليه خَلوته. وبهذا كانت أم عبد الرحمن شريكه الكامل في إنجاز الكتاب كما ذكر رحمه الله، في مقدمته، وهي التي بيَّضت الكتاب بخطها، كما ساعدته بالمناقشة في بعض الأفكار، وفي تحضير بعض المواد، فضلاً عن تهيئة الجو النفسي المناسب. وربما كان ذلك في بعض الأحيان على حساب الأولاد، فهما يسافران، ويتركانهم وحدهم، وبعضهم كان يشعر بحاجته إلى الرعاية الوالدية، ولا سيما الجانب العاطفي منها.

وبهذه الأناة الفريدة العجيبة: أنهى كتابه الأصيل والكبير: موسوعة (تحرير المرأة في عصر الرسالة) الذي يُعَد بحق (كتاب القرن) في شأن المرأة المسلمة.

ب. رجل التسامح:

ومن الأخلاق الأساسية عند عبد الحليم: التسامح مع الآخر، وسَعَة الصدر مع المخالف: سواء كان مخالفًا في العقيدة، أم مخالفًا في الفكر، أم مخالفًا في الموقف.

فهو يؤمن بأن الله سبحانه خلق الناس مختلفين، ومنح كل واحد منهم عقلا يفكر به، وإرادة يرجِّح بها، وطاقة يعمل بها، وما دام الناس مختلفين في العقول والإرادات والطاقات، فلا بد أن تختلف وجهاتهم، وتختلف مواقفهم، ولا بد للإنسان العاقل الحكيم أن يحترم هذا الاختلاف، وإلا صادم حقائق الكون. وفي القرآن الكريم ما يشير إلى هذه الحقيقة الكبيرة حيث يقول تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ [هود:118،119].

قال كثير من المفسرين في معنى: وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ، أي وللاختلاف خلقهم، أي خلقهم ليتغايروا، ولا يكونوا نسخًا مكرَّرة.

وهذا هو الذي قرَّبه من كل الفئات والاتجاهات المختلفة: قوميين أو إسلاميين، يمينيين أو يساريين، سنيين أو شيعيين، سلفيين أو صوفيين، لأنهم رأوا فيه -من الناحية العقلية- الأفق الرحب، كما رأوا فيه -من الناحية العاطفية- الصدر الرَّحب، وكذلك لمسوا فيه -من الناحية الخُلقية- الضمير الحي. ولم يشعروا بأنه رجل متعصِّب، ضيق الأفق، منغلق على نفسه، سجين في قفص رأيه، كلا، فلم يكن يوما أسيرًا لمثل هذه النظرة.

فئة واحدة هي التي ضاقت به وبفكره ذرعًا، ورفضته ورفضت فكره، ورفضت كتابه كلَّه. وهي الفئة المتحجِّرة الجامدة التي سمَّيتُها (الظاهرية الجدد).

لقد رفضوا كتابه بمجرد ظهوره رفضًا قاطعًا، وأحسبهم لم يقرأوه، وإنما قرءوا عناوينه، وعلموا أنها تخالف ما انتهى إليه علمهم، وما استقرَّ عليه رأيهم، دون أن يفحصوا ما استند إليه من أدلة واعتبارات من صحيح المنقول، وصريح المعقول.

ولقد دعاهم وألحَّ في دعوتهم برفق إلى اللقاء والمناقشة في موضوعات الكتاب، وخصوصا الموضوعات المختلف فيها، ليسمعوا إلى وجهة نظره، ويستمع إلى وجهة نظرهم، عسى أن يقرِّب هذا اللقاء بين الفريقين، فربما عدَّل من رأيه، وربما عدَّلوا من رأيهم. فأبوا ذلك أيضا، وقالوا: إن الكتاب غير مقبول عندهم جملة وتفصيلا، فلا داعي للنقاش حوله.

وقد علَّق على ذلك الداعية الكبير الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله، قائلا: إنهم إذن يرفضون البخاري ومسلمًا، لأن الكتاب أساسا قائم -بعد القرآن- على أحاديث الصحيحين، فأعجب لمسلم يرفض الاحتكام إلى القرآن والصحيحين!!

جـ. رجل الحوار:

وهذه الأخلاق كلها أثمرت عند عبد الحليم: فكر الحوار، وخُلق الحوار. فهو رجل يعشق الحوار، ويؤمن به، ويدعو إليه على كل صعيد.

ليس الحوار عنده جدلاً بيزنطيًا، أو مغالبة بالحق وبالباطل، يريد فيها الانتصار للنفس، وقهر الخَصم. ولكن الحوار عنده وسيلة لفهم أعمق، واستبصار أوثق، هو بحث -أو تباحث- عن الحقيقة، وسعي للكشف عنها، بواسطة تلاقح الأفكار، وتفاعل الآراء المختلفة بعضها مع بعض. فهو نوع من عمل الفريق، بدل أن يعمل الفرد وحده، ويبحث وحده، لا يناقشه أحد، ولا يسائله أو يجيبه أحد.

إنه يؤمن أن الناس -مهما يختلفوا في الدِّين أو الدنيا- فإن هناك جوامع مشتركة يمكن أن يلتقوا عليها. ومهمة الحوار البنَّاء البحث عن هذه الجوامع، وتوسيع نطاقها، وتضييق دائرة المختلف عليه ما وجد إلى ذلك سبيل.

لم يكن عبد الحليم يؤمن بحتمية الصراع بين الثقافات والحضارات أو الأديان، بل يتبنَّى إمكان التعايش بينها، وأن الاختلاف بين الحضارات لا يؤدي بالضرورة إلى صراع وعداوة، بل يؤدي إلى نوع من (التفاعل) المطلوب، بدلاً من (التصارع) المرفوض. ويكون هذا كما قيل في الاختلاف الموروث بين بعض علماء الإسلام وبعض في أقوال معينة: إنه اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد.

أعلن هذا الأستاذ عبد الحليم -تفاعل الحضارات لا تصارعها- في العدد الافتتاحي لمجلة (المسلم المعاصر)، الذي كان هو صاحب فكرتها، والذي جمع لها المفكرين والعلماء مرات ومرات، من بلاد شتَّى في جلسات طويلة، حتى تبلورت فكرتها، وظهرت إلى الوجود تعبِّر عن هدف ورسالة، ولا سيما رسالة الحوار، ولا زالت موصولة العطاء إلى اليوم، بفضل جهود أخينا وصديقنا الأستاذ الدكتور جمال الدين عطية حفظه الله.

ولقد تجلَّى اتجاهه النقدي والحواري منذ مقالته الأولى في المجلة (أزمة العقل المسلم المعاصر) التي أشرنا إليها من قبل.

نتعاون في المتفق عليه ونتحاور في المختلف فيه:

ولقد كنت أتحدث معه مرة حول (قاعدة المنار الذهبية) التي وضعها العلامة المُجدِّد الشيخ رشيد رضا، وروَّج لها في مجلته، ودعا إليها، وهي التي تقول: (نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه)، وهي من قواعد التسامح المهمة، والتي تشرع للعمل المشترك بين المختلفين، ولا تشترط الاتفاق في كل شيء، ليبدأ عمل مشترك لمصلحة الأمة.

لكن أبا عبد الرحمن رحمه الله، كان له تعليق على الشقِّ الثاني من هذه القاعدة، وهو: أنه اقترح أن تكون القاعدة هكذا: (نتعاون في المتفق عليه، ونتحاور في المختلف فيه).

فقد رأى أن عذر بعضنا بعضا وإن كان مفيدا في إشاعة خلق التسامح: أمر سلبي، لا يقدم جديدًا للعلم والفكر، وستظل هذه القضايا الخلافية ثابتة جامدة أبد الدهر، فلماذا لا نذيب هذا الجليد، ونتحاور في أمرها بروح علمية حيادية، وبمنهج عقلي موضوعي لا يحتكم إلى العواطف، ولا إلى الشائع بين الناس، فلعل هذا الحوار يخفف من حدة الخلاف، أو يقرب بين المتخالفين.

قلت له: إذا كانت قاعدة الشيخ رشيد رحمه الله، سميت (القاعدة الذهبية) فإن قاعدتك هذه جديرة أن تسمى: (القاعدة الماسيَّة)!

الثوابت لا تمنع الحوار:

ومن حرص الأستاذ عبد الحليم رحمه الله، على إرساء دعائم الحوار والترغيب فيه، وإشاعة الدعوة إليه بين المثقفين، سواء كانوا دينيين أم وضعيين: أنه لم يرَ (الثوابت العَقَدية والفكرية) عقبة تقف في سبيل الحوار، وتمنع من إجرائه والاستفادة من ثماره.

وقد عرض لهذه القضية -وهو يناقش أمر الحوار- في كتابه القيِّم الخصب الذي نُشر بعد وفاته، مستمدًا من أوراقه الثرية الكثيرة التي خلفها لمَن بعده، والذي سُمِّي (نقد العقل المسلم: الأزمة والمخرج) والذي كتب مقدمته المفكر المسلم الكبير الدكتور محمد عمارة.

أجل، عرض لمسألة الثوابت، وعلاقتها بالحوار، وتأثيرها فيه، وناقشها بصراحة وشجاعة وموضوعية، وكان مما قاله فيها:

(أما القضايا الجديدة أو المتجددة المتطورة في حياة الإنسان، فهي قضايا تثيرها الحياة المتطورة، وهي قضايا ما زال الإنسان يبذل جهده في تأملها وبحثها ودراستها، ويشعر أنها بحاجة إلى مزيد من الدراسة والتريث والتأمل، وطرحها للحوار إحدى الوسائل المعينة للبحث والدراسة والتأمل.

وما دامت هذه الأفكار المُتجدِّدة مطروحة بهذا القصد -أي للحوار- فهي أشبه بمرحلة التجريب في مجال تحسين زراعة محصول ما أو اكتشاف دواء ما، وطرحها للحوار حولها فرصة لتعاون عدة عقول على الدراسة والبحث والتأمل.

ومن مميزات الحوار الجاد الذي نريده ما يلي:

§ الحوار نوع من (عمل الفريق) لا عمل الفرد.

§ الحوار يجلو الصدأ الذي قد يصيب العقل، بكسر القيود والسدود التي قد تكون مُترسِّبة في عقل الفرد، ويكشف علاقات منطقية كانت غائبة عن عقل الفرد.

§ يربط النتائج بأسبابها، وقد يغفل الفرد عن هذا الربط.

§ يربط الظواهر بالبواطن، وقد يغفل الفرد عن هذا الربط.

§ يوفر النظرة الشاملة للموضوع، وقد يقف عقل الفرد عند بعض جوانب هذا الموضوع فقط.

§ الحوار يصقل الفكرة (الرأي والاجتهاد).

§ الحوار نوع من التجربة، وكما أن التجربة تدعم الفرضية أو تُعدِّلها أو تُلغيها، فكذلك الحوار يدعم الفكرة أو يُعدِّلها أو ينفيها.

§ الحوار في مجال الفكر يقوم مقام إجراء التجارب في مجال المادة، وإن كان لا يتوافر في مجال الفكر ما يختبر صحة الفرضية، فإن ندوة الحوار هي في مقام مختبر التجارب.

§ الحوار تجربة في عالم الفكر أو عالم العقل تسبق التجربة في عالم الواقع؛ ولا بد أن يسبق هذا النوع من التجربة (أي ميدان الفكر) التجريب في مجال الواقع، حيث يكون الثمن باهظا عند الخطأ.

§ يعطي الحوار صاحبه الحق ليظهر حقه وهنا نقول: لا محايد إلا الانتهازيون أو السلبيون، ولا خير فيمن خلا من المعتقدات والمبادئ العامة والخاصة ... ولكن على أصحاب المعتقدات أن يتحلُّوا بالتعقُّل والاستنارة، وأن يؤمنوا بأن الحوار هو أساس كل نظام اجتماعي مُتجدِّد وأساس التقدم.

وإذا كان سنا البرق يبدو من التقاء سُحب شتَّى، فإن سنا الحق يبدو من التقاء آراء شتَّى ...

(لقد انتهى زمن المعصومين الذين يساندهم الوحي، ولا يقولون إلا الحق. وأدرك العالم كله أن من جاء بعدهم -أي الأنبياء- مهما شمخت عبقريته فهو يخطئ ويصيب ويكبو ويمضي ...)[4].

ومما يجعل الحوار الجاد الذي نبغيه ضرورة لازمة: ضعف العقل البشري، بمعنى عدم كماله، وليس بمعنى عجزه.

ومن آثار هذا الضعف:

- يدرك شيئا وتغيب عنه أشياء.

- قد يدرك شيئا إدراكًا غير صحيح.

- يرى اليوم ما لم يره بالأمس.

وننبِّه في خواتيم هذه الجولة إلى أن هناك فرقا بين الحوار من أجل التصحيح أو مع الاستعداد للتصحيح، وبين الحوار (المنتقى) من أجل التدعيم والتنمية لنفس الأخطاء والاتجاه، أو الاستماع لبعض الشخصيات الجدلية لتدعيم بعض ما عندي ما دام هو الغالب وبصرف النظر مقدما عن قدر الخلاف.

إن التعاون بالميزان الصحيح يقضي بأنه ليس في العمل الجماعي أنا وأنتم، بل نحن كلنا نقدِّم لله، والعمل يحتاجنا جميعا، ونحن جميعا نحتاج رضا الله وثواب الله، ونخاف عقاب الله وإن قصرنا في واجبنا. المهم: حرام أن يزهد طرف في الآخر، ويحدث التقاطع والتباعد مع إمكانية التقارب والتعاون.

ونحن إذ نتحاور لسنا في موقف تحدِّ، وإنما هو تشاور وتناصح وتحاور، تحاور بين طرفين مختلفين: تحاور في البيت الواحد، وتحاور للتعارف وللتقارب، والاستيثاق؛ أي يستوثق كل منا من صاحبه، فينبغي أن يتقدم كل منا خطوة أو خطوات (عن اقتناع) نحو الآخر)[5].



--------------------------------------------------------------------------------

[1]- رواه مسلم في الإيمان (25)، والترمذي في البر والصلة (2011)، وابن ماجه في الزهد (4188)، عن ابن عباس.

[2]- رواه الترمذي في البر والصلة (2012)، وقال: حديث غريب، وفي نسخة : حسن غريب كما قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (6/130)، والطبراني في الكبير (6/122)، عن سهل بن سعد، وله شاهد من حديث أنس رواه أبو يعلى في المسند (7/247)، والبيهقي في الشعب باب في تعديد نعم الله (4/89)، وفي الكبرى كتاب في آداب القاضي (10/104)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح (8/43)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1795).

[3]- روى الخطيب في تاريخ بغداد عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة: يقول العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك، وأنت إذا أعطيته كلك من إعطائه البعض على غرر(14/249).

[4]- من كتاب نظرة على واقعنا الإسلامي مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري للشيخ محمد الغزالي صـ79 ط. دار ثابت. القاهرة.

[5]- انظر: نقد العقل المسلم..الأزمة والمخرج ص 207 - 210.