المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأمن و الأمان فى الإسلام



Digital
02-20-2011, 10:22 AM
د عبد العظيم بدوى

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد
فإِنَّ الأمنَ والأمانَ من أجلِّ نِعَمِ اللهِ تبارك وتعالى، امتنَّ اللهُ بها على قُرَيْشٍ في أكثرَ من آية، فقال تعالى أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ العنكبوت ، وقال تبارك وتعالى وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ القصص
فالأمنُ والأمانُ من أجلِّ نِعَمِ الله تعالى على العباد، فيها يجدُ الإنسانُ نفسَه، ويُؤدِّي وظيفتَه، ويغْدُو ويروحُ آمنًا مطمئنًا، ومن هنا لمَّا امتنَّ اللهُ على قُريشٍ بنعمةِ الأمن؛ أمرهم أَنْ يعبدُوه شكرًا عليها، فقال جل وعلا لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ قريش
فَلَمَّا كذَّبتْ قريشٌ رسولَها، وعصتْ أمرَ ربِّها، ولم يشكروه على ما أنعم به عليهم من نعمةِ الأمنِ، بدَّل اللهُ أمنَهم خوْفًا، وشِبَعَهم جوعًا، كما قال تعالى وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ النحل ، ولَمَّا قام المؤمنون بحقِّ الله من إفرادهِ بالعبادةِ بدَّلَ خوْفهم أمنًا، وحقَّق لهم وعْدَهُ الذي وعَدَهُموه في قوله تعالى وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور ، وامتنَّ اللهُ على هؤلاء المؤمنين بما حباهم من نعمةِ الأمن، فقال تعالى وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الأنفال
وأمر اللهُ تعالى المؤمنين بالحفاظ على الأمنِ والأمانِ بالوقوفِ في وجه كلِّ من أراد أَنْ يُزعِجَ أمنَهم، أو يُحْدِثَ الفوضى في صفِّهم، ويُثيرَ القلقَ والاضطراب فيهم، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، أفرادًا كانوا أو جماعات، فقال تبارك وتعالى إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ المائدة ، وتُسمَّى هذه الآيةُ آيةَ المُحاربةِ أو الحِرابة «والمُحاربةُ مُفاعلةٌ من الحرب، وهي ضدُّ السِّلْم، وهو السَّلامةُ من الأذى والضَّررِ والآفات، والأمنُ على النَّفسِ والمال»

وقد عرَّف الفُقهاءُ الحِرابةَ بأَنَّها «خروجُ طائفةٍ مسلَّحةٍ في دار الإسلام؛ لإحداث الفوْضى وسفْكِ الدِّماء، وسلْبِ الأموال، وهتْكِ الأعراض، وإهلاكِ الحرثِ والنَّسْل، مُتحدِّيَّةً بذلك الدِّينَ والأخلاقَ والنِّظامَ والقانون ولا فرقَ بين أَنْ تكونَ هذه الطائفةُ من المسلمين، أو الذِّمِّيين، أو المُعاهدين أو الحرْبيِّين، ما دام ذلك في دار الإسلام، وما دام عُدْوانُها على كل محْقونِ الدم وكما تتحقَّقُ الحرابةُ بخروجِ جماعةٍ من الجماعات، فإِنَّها تتحقَّقُ كذلك بخروج فرْدِ من الأفراد، فلو كان لفرْدٍ من الأفراد فضْلُ جبروتٍ وبطشٍ، ومزيدُ قوَّةٍ وقُدرةٍ يغلب بها الجماعةَ على النَّفس والمالِ والعِرْض، فهو مُحارب

وكما يُسمَّى هذا الخروجُ على الجماعةِ وعلى دينِها حِرابةً، فإِنَّه يُسمَّى أيضًا قَطْعَ طريق؛ لأَنَّ الناسَ ينْقطعون بخروجِ هذه الجماعةِ عن الطريق، فلا يمرُّون فيه؛ خشيةَ أَنْ تُسْفكَ دماؤهم، أو تُسْلبَ أموالُهم، أو تُهْتكَ أعراضُهم، أو يتعرَّضون لِمَا لا قُدرةَ لهم على مُواجهته

وقد تبرَّأ رسولُ الله ممَّنْ حمل السِّلاحَ وقطع الطريقَ، وأخاف الآمنين، فقال «مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السِّلاَحَ فَلَيْسَ مِنَّا» متفق عليه ، فإِذا لم يكن له شرفُ الانتسابِ إلى الإسلام والمسلمين وهو حيٌّ؛ فليس له هذا الشرفُ بعد الموتِ أيضًا؛ لأَنَّه يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على ما ماتَ علَيْه، والنَّبِيُّ يقول «مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ، ثُمَّ مَاتَ؛ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» مسلم

إِنَّ اللهَ سُبْحَانَه كرَّم الإنسان خلقهُ بيده، ونفخَ فيهِ من رُوحه، وأسْجدَ له ملائكتَه، وسخَّر له ما في السَّمواتِ وما في الأرضِ جميعًا منه، وزوَّده بالقُوى والمواهبِ ليسودَ الأرض، وليصلَ إلى أقصى ما قُدِّرَ له من كمالٍ ماديٍّ وارتقاءٍ رُوحيٍّ ولا يُمكنُ أَنْ يُحقِّقَ الإنسانُ أهدافَه، ويبلُغَ غايتَه إِلاَّ إذا توفَّرت له جميعُ عناصرِ النُّمو، وأَخَذَ حقوقَه كاملة، وفي طليعةِ هذه الحقوقِ التي ضمنها الإسلامُ حقُّ الحياة، وهو حقٌّ مُقدَّسٌ لا يَحِلُّ انتهاكُ حُرمتِه ولا استباحةُ حماه، يقولُ الله سبحانه وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ الإسراء ، ويقول سبحانه وتعالى وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا الإسراء ]

وهذا التحريم ثابت في الشرائع كلها، وقد كتب الله القصاص على من كان قبلنا؛ زجرًا للناس ومنعًا لهم من سفك الدماء وإزهاق الأرواح بغير حق، فقال تبارك وتعالى مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ المائدة ، وكتب علينا ما كتبه عليهم، فقال تعالى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ البقرة

وليست هذه الحُرْمَةُ للنَّفسِ المؤمنةِ وحدها، بل هي للمؤمنةِ وغيرها على حدٍّ سواء، فلا يُقتل مسلم إلا بما يوجب قتله، وهو الذي عبّر الله تعالى عنه بقوله بالحق، وكذلك لا يُقتل غير المسلم إلا بما يوجب قتله، ولذلك شدَّد النبيُّ في قتْلِ المُسالم من غير المسلمين بغير حق؛ فقال «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا، لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» البخاري

أَمَّا من قتل مؤمنًا بغَيْرِ حَقٍّ؛ فقد قالَ اللهُ تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا النساء
وقد كثُرت الأحاديثُ عن النبيِّ في الحثِّ على تعظيم حُرمَاتِ المسلمين وصِيَانةِ دمائهم وبَيَانِ وعيدِ المُخَالفِ
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ أَنَّهُ قَالَ «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلاَ تَرْجِعُنَّ بَعْدِي كُفَّارًا أَوْ ضُلاَّلاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ متفق عليه
وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ نَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْبَيْتِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ «مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللهِ مِنْكِ» الترمذي
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلاَتِ متفق عليه
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِي اللهُ عَنْهمَا قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ «لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا البخاري
وَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ الترمذي وصححه الألباني
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ قَالَ «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لأَكَبَّهُمُ اللهُ فِي النَّارِ الترمذي وصححه الألباني
ولأهميَّةِ الدِّماءِ كانت هي أوَّلَ ما يَقْضِي اللهُ بيْنَ العبادِ فيه
عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللهِ «أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ» متفق عليه
وَعَنْهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ قَالَ «يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ يَا رَبِّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ قَتَلْتُهُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ فَإِنَّهَا لِي، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ إِنَّ هَذَا قَتَلَنِي، فَيَقُولُ اللهُ لَهُ لِمَ قَتَلْتَهُ؟ فَيَقُولُ لِتَكُونَ الْعِزَّةُ لِفُلاَنٍ، فَيَقُولُ إِنَّهَا لَيْسَتْ لِفُلاَنٍ فَيَبُوءُ بِإِثْمِه» النسائي وصححه الألباني
تلك عقوباتُ القاتلِ غيرَه، فما جزاءُ الذي يتعدَّى على نفسه فيقْتلُها، ما جزاءُ الانتحار؟ ما جزاءُ الذي يتعجَّلُ الموْتَ لنفسِه فيتعاطى من الأسبابِ ما يُزْهِقُ روحَه ويَذْهَبُ بنفسه؟
إِنَّ الانتحارَ جريمةٌ عظيمة، وعقوبتُه أليمة، ففي الحديث
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ؛ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ، يَتَوَجَّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ؛ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ؛ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» متفق عليه
وقال «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بِهَا يَدَه، فَمَا رَقَأ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ اللهُ تَعَالَى بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ فَحَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» البخاري
تلك هي عقوبة المنتحر، الذي أزهق روحه بيده، فإذا كان الانتحار عن طريق التفجير الذي يودي بحياة الآخرين من المسلمين وغيرهم؛ فقد ارتكب هذا المنتحر ثلاث جرائم قتل نفسه، وقتل مسلم، وقتل معاهد؛ فاستحق كل العقوبات المذكورة، فإذا أدى هذا التفجير إلى قتل عدد من الناس، فله بكل نفس قتلها عقوبتها، فما أصبرهم على النار، كما قال الله تعالى
إِنَّ من سماحة الإسلام وعظمته في وقت اشتعال نار الحرب أَنَّه قَصَرَ الحربَ على المحارِبين، ونهى عن نقل الحرب عن ميدانها إلى الآمنين المطمئنين في معابدهم، أو في بيوتهم، أو في مصانعهم ومتاجرهم، فعن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ بِامْرَأَةٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ، ثُمَّ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ متفق عليه
والعلة كونهم لا يقاتلون كما صرح بذلك النَّبِيُّ في حديث رَبَاحِ بْنِ الرَّبِيعِ أَخِي حَنْظَلَةَ الْكَاتِبِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، وَعَلَى مُقَدِّمَتِهِ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَمَرَّ رَبَاحٌ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ عَلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ مِمَّا أَصَابَتِ الْمُقَدِّمَةُ، فَوَقَفُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ خَلْقِهَا حَتَّى لَحِقَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَانْفَرَجُوا عَنْهَا فَوَقَفَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ «مَا كَانَتْ هَذِهِ لِتُقَاتِلَ، فَقَالَ لأَحَدِهِمُ الْحَقْ خَالِدًا فَقُلْ لَهُ لاَ تَقْتُلُنَّ امرأةً، وَلاَ عَسِيفًا» أبو داود وصححه الألباني
وبناء على هذه العلة فإِنَّه يلحق بالنساء والصبيان الرهبان والنساك، والشيوخ والمرضى، وغيرهم من الذين اعتزلوا الحرب والقتال ممن يسمون بالمدنيين، فيجب احترامهم وصيانة أموالهم، ومعنى هذا أننا لا ننكر التفجيرات في مصرنا الحبيبة وحدها، بل ننكرها كذلك في بلاد المسلمين وفي غيرها من بقاع المعمورة؛ لأَنَّها تستهدف المدنيين الآمنين، والإسلام نهى عن قتل المدنيين في حالة الحرب، فكيف بحالة السلم؟
إن حادث التفجير الذي وقع بالإسكندرية أمام كنيسة القديسيْن حادث أليم، آلم جميع المصريين، مسلمين ونصارى على حد سواء، ولا يمكن أن يتم هذا العمل الإجرامي إلا على يد سفهاء مفسدين في الأرض، أهل حقد وحسد، غاظهم ما عليه المصريون من اجتماع ووحدة، وما يعيشون فيه من أمن وأمان على اختلاف عقائدهم، فأراد أن يفرّق جمعهم، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء، وأن يوقد نار الحرب بين أهل البلد الواحد؛ حتى يصيبهم ما أصاب البلاد من حولهم، من الخوف والذعر والرعب
فعلى المصريين جميعًا أن ينتبهوا لما يُدَبَّرُ لهم بليلٍ، وأن يُحَكِّمُوا عقولهم في هذه الفتنة، كما قال شيخ الأزهر والبابا، حتى تنتهي هذه الفتنة على خير، وتعود البلاد إلى طبيعتها من الهدوء والاستقرار، والأمن والأمان، وعلى الشباب من المسلمين والمسيحيين أن يستجيبوا لدعوة العقلاء منهم، وأن يضبطوا مشاعرهم، ويكفوا أيديهم، وأن يسألوا الله تعالى أن يرد كيد الكائدين في نحورهم، وأن يحفظ مصر رئيسًا وحكومة وشعبًا واحدًا، يتعاون على كل ما يحقق مصلحة مصر وأمنها واستقرارها
كما نرجو من النصارى ألا يظنوا بالإسلام ظن السوء؛ فإن هذه التصرفات ليست من الإسلام في شيء، وأفعال الأفراد ليست حُجّة على الدين، بل الدين هو الحجة على الجميع، والتاريخ يشهد للمسلمين بالبر والإحسان إلى المسيحيين على مر السنين والأعوام، ولم لا؟ وهم وصية رسول الله ، وصى بهم أصحابه قبل أن يدخل الإسلام مصر، فقال «إنكم ستفتحون مصر، وهي أرض يسمى فيها القيراط، فإذا فتحتموها؛ فأحسنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحما،أو قال ذمة وصهرًا» مسلم ، يعني بالذمة الحرمة والحق ويعني بالرحم أن هاجر أم إسماعيل منهم ويعني بالصهر أن مارية أم إبراهيم منهم
والمؤمنون حقًّا هم الذين استجابوا لله والرسول، فمن أساء إلى أهل مصر؛ لم يعمل بوصية رسول الله
والحمد لله رب العالمين