في بيان حفظ الله الحديث الشريف

[أبو القـاسم]

الحمد لله القائل "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون". والصلاة والسلام على من أوتي الكتاب ومثله معه..ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين
سئل الإمام الرباني المجاهد عبد الله بن المبارك رضي الله عنه : أما تخشى على هذا الحديث أن يفسدوه؟ قال: (كلا! فأين جهابذته؟) ثم تلا قول الله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ..ففهم من الآية الشريفة أن حفظ القرآن يقتضي حفظ السنة ..أو جعَل السنة من مسمى الذكر ,فالحمد لله الذي أكمل الدين وأتم النعمة بحفظة الكتاب والسنة ..أما بعد ,فهذه سلسلة ميسرة مختصرة..تعين الغريب عن علم الحديث على تصورٍ ما ,مقاربٍ لقضية حفظ الله تعالى كلامَ نبيه صلى الله عليه وسلم..وهي التي أخذت بألباب بعض المستشرقين إلى حد الاندهاش وما هم ممن يمكن وصفهم بالحياد فضلا عن الانحياز إلى الإسلام..اعتبر مثلا بمرجليوث حيث يقول: (ليفخر المسلمون ما شاؤوا بعلم حديثهم).
على أن بعض المستشرقين فطن إلى ملمح آخر فهذا "روبسون" يقرّ أن لو كان المحدثون هم من اخترع الأسانيد وركبوا عليها المتون لكان بمقدورهم جعلها تعود إلى كبار الصحابة والحاصل أن معظم السنة نقلها صغارهم!..فكان هذا آية على صحة بلوغها إيانا وفق المنهج العلمي المحكم لأن مصلحتهم في عزو النقل إلى الكبار أعظم في تحقيق المصداقية من نسبتها إلى الصغار..وليس هذا مقام بسط الكلام في الرد على مزاعم المرجفين
يتبع بحول الله تعالى

[أبو القـاسم]

(يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا )
على هذه الآية يقوم علم نقد المنقول وتمييز المردود منه عن المقبول. أرأيت لو اتصل بك صديق معروف عندك بالأمانة والصدق ,وقال لك:توفي فلان بن فلان صديقنا..فإنك تصدّقه بداهة ,وغاية ما قد يصدر منك أن تستحلفه ,ربما لثقل الخبر على نفسك فتقول:بالله عليك؟ فيجيب أن نعم..وساعتها لاتجد بدا من تصديقه دون أن يخطر ببالك أنه تخلى عن صدقه وأمانته فجأة لسبب ما مجهول! وإلا يكن هذا هو الشأن فإن أحوال المجتمعات لا تستقيم حتى في أتفه الأشياء..تصور لو قال أخوك :جاء أبي من العمل ,وقالت أمك :سأطبخ لكم ثريدا..وقال معلمك :غدا امتحان..إلخ ,فلو لم يكن الصدق هو الأصل لفسدت أحوال الناس وتفشت فيها أدواء الاضطراب والتخوين وصار الشك هو الأصل والاستثناء هو اليقين..وهذا من جملة الأمراض بإجماع العقلاء وأهل الشأن .فماذا لو عضد اتصال صاحبك الآنف شخص آخر تعرف صدقه ليقول لك:مات فلان..؟ لاشك أن يقينك بانتفاء وراد الشك سيكون آكد.عوداً على الآية "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" لاحظ كيف لم يقل الله :إن جاءكم فاسق فردوا خبره..لاحتمال أن يكون الفاسق صادقاً,فدل بذلك على أن المتصف بضد الفسق وهو العدالة,الأصل فيه قبول خبره من فور سماعه حتى ترد قرينة تدل على أنه أخطأ في هذا الخبر خاصة..هب أن رجلا لعّابا تعرفه أخبرك شيئاً وليس هو ممن تثق فيه من مراعاة مراقبة حاله..فقال لك مثلا :مات فلان..فإن دلالة العقل قاضية :بأن تستوثق من طريق أخرى مأمونة الجانب ..فإما أن يتأكد و إما أن يتفند..والآن: اعتبر ما لو كان من أخبرك مع كونه ثقة في نفسه ,كلامه محل اهتمام بالغ عندك فأنت متشوف لسماع ما يقول من حكم عالية وحجج بالغة ودرر نفيسة ومواعظ بليغة..؟
رسول الله كان معلماً لجمع غفير من تلاميذه الصحابة ولم يكن أحدٌ في التاريخ معظّما عند أحد كرسول الله في نفوس أصحابه باعتراف المناوئين
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم أن يعلمهم مما أفاء الله عليه من وحي..وهم على أشد ما يكون الحرص لتلقي كلماته ولها في حجرات قلوبهم مستقر مكين ومستودع أمين.ثم ساح هؤلاء على كثرتهم في البلاد فبلغوا مقالاته ونشروا آدابه وحكوا سيرته وتفاصيل حياته..فتلقفها منهم تلاميذهم كتلقف الظمآن المشرف على الهلكة للماء العذب النمير..بعد أن عرفوا الله ووقفوا على اختصاص هذا الدين باستحقاق التفرد بالحق بالبراهين الدامغة التي تواطأت مع فطرهم النقية من شوائب الفلسفات القديمة والسفسطة..فقل لي بربك ,يحكي عراقي في الشمال حديثا عن رسول الله فيواطيء ما يحكيه اليماني عنه في الجنوب..مع ما قدمت لك من وفاء التلاميذ وتلاميذ التلاميذ..جيلا بعد جيل مع تباعد الأمصار ..ثم تجد طرق الأخبار مشيرة كلها إلى صدق النقلة وصحة المقالة ..فهذا ينقل ما سمع على مجمع منهم ولا ينكر عليه أحد ..وذاك ينقل في محفل فيعضد قالته من سمع..فتأمل هذا كله وتدبر مع ما تعلمه من أن للحق قوة قاهرة تغلب زيف الكذب وبهرجه ..ولا تجد كاذبا إلا وقد ظهر من مسالكه ما يكشف حاله عند قوم ولابد..وهو حالة من الاضطراب النفسي ينعكس لها أثر على فلتات لسان صاحبها ويبين في لحن قوله ما يفضحه عند أدنى بصير..
وإذا جاءك المشهور بالصدق والنزاهة عن الريبة برسالة من حبيب إلى قلبك ,فإنك تجمع إلى تصديقه أمرا آخر ..إنه الحفاوة البالغة بما يحمله إليك ..وصونه عن أن تمسه يد الأغيار ..وقبل أن تحفظه في مذخوراتك الأثيرة ,يكون قلبك قد وعى ما فيها واستظهر مواقع معانيها.. على أقل تقدير, لا ريب في ذلك
يتبع إن شاء الله تعالى..

[أبو المظفر السناري]

موضوع جيد. بارك الله في أخينا أبي القاسم.
متابعون.

[أبو القـاسم]

وفيك أسأل الله أن يبارك ..وجزاك خير الجزاء وأوفاه
---------
استقرأ علماء الحديث منهج الأئمة الأوائل في العصور الذهبية للإسلام التي دُوِّن فيها حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجوا بنفائس "علم النقد" (التي أذعن لها مثل برنارد لويس وما إخالك تجهل حاله فهو ممن ينزف حقداً على الإسلام* ) , تماماً كما استقرأ علماء العربية كلامَ العرب الأقحاح فخرجوا بهذا العلم الشريف بشقيه :الإعراب والصرف المسمى "علم النحو", سواء بسواء..وكي لا أطيل عليك أيها القاريء الفطن :
هب أنك سمعت خبراً في قناة ما معروفة ,مفاده "فلان بن فلان الإعلامي يقول :قال : الوزير فلان : قال الرئيس : كيت وكيت "
ما الذي يلزمك في العادة لتوثيق صحة ما قاله الرئيس بعد سماع هذا الخبر ؟
لابد أنك ستقول :-
1-أن تكون القناة مشهورة بالصدق والأمانة في النقل
2-وأن يكون الصحفي المذكور معروفاً بذلك أيضاً
3-والوزير لابد أن يعرف كونه صادقاً مأموناً في نقله
وإذا تحققت من ذلك..فعامة الناس سيسلمون به وأن الرئيس قال حقاً :كيت وكيت
والآن اعتبر ما سأهديك (أي خذ العبرة منه):
هذا هو أول شرط فحسب!! وضعه أئمة الإسلام في القرون الفاضلة الأولى في توثيق صحة الخبر المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن صحابته بالنظر للنقلة ومعرفة دقائق ,واعرف الحق في هذه إن شئت من خصوم الإسلام , قال شبرنجر المستشرق الألماني :"إن الدنيا لم تر ولن ترى أمة مثل المسلمين فقد درس بفضل علم الرجال الذى أوجدوه حياة نصف مليون رجل" ..
فيقال إذن: هل اكتفى عباقرة الإسلام الذين قيضهم الله تعالى لحفظ الدين وصنعهم سبحانه على عينه بمعرفة صدق النقَلة في دعوى أن رسول الله أو أحد صحابته الكرام البررة قال :مقالة معينة؟ الجواب القطعي :لا..فما ذا بقي؟
يتبع إن شاء الله ..
-----------------------------
* يقول برنارد :من الأيام الأولى أدرك علماء الإسلام خطورة النقل غير الموثق ومن ثم الخطأ في نقل التعاليم (يعني تعاليم الرسول)فأسسوا علماً دقيقاً لنقد التراث (أي تمييز سليمه من سقيمه)
From an early date Muslim scholars recognized the danger of false testimony and hence false doctrine, and developed an elaborate science for criticizing tradition tradition

[أبو القـاسم]

تصوّر أن بعض الباحثين (الذين لا يقبلون النقول إلا بعد تدوير ما يسمعون وفق منهج المعقول) اعترض على ما سبق وقال: ما يدرينا أن جميع من في السلسة :قناة ما معروفة , نقلت خبراً مفاده "فلان بن فلان الإعلامي يقول :قال : الوزير فلان : قال الرئيس : كيت وكيت " قد ضبطوا ما سمعوا ..؟ أليس قد يكون بعضهم ممن يتفلت منهم المحفوظ إذا حفظوا أو ربما ليسوا هم من أهل الحفظ أصلاً ؟ هذا واردٌ مع الإعلاميّ والوزير..خلافاً للقناة فإن لديها مخزوناً(أرشيف) يدوّن فيه كل ما يعرض عليها..قال هؤلاء الباحثون:وإذن لابد أن نشترط متانة حفظ عناصر السلسة الثلاثية المذكورة قبل نسبة الخبر إلى الرئيس كيما نقبله على أكف الاطمئنان والجزم أنه لم يفت النقَلةَ شيء ولا دخل عليهم تغيير للحقائق بخلط معلومة بأخرى دون قصد (ارجع للرد السابق)..فهذان شرطان لا بد منهما لا محالة..! قال هؤلاء الباحثون:وافتقاد أحدهما يكسبنا مشروعية في التشكيك في صحته ..ولا ملامة علينا في ذلك!
والآن اعلم -علّمك الله-أن هذين الشرطين :حاضران في أذهان أئمة الحديث منذ القرون الأولى فكلهم مجمع على اشتراطهما قبل قَبول أيّ خبر عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فمن دونه كالصحابة الأبرار..وإذا انتقض واحدٌ منهما رُدّ الخبَر
ومن كلام الأئمة في ذلك قول الإمام الشافعي مثلاً رحمه الله تعالى في الرسالة : (ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا ، منها : (أن يكون من حدّث به ثقةً في دينه ، معروفًا بالصدق في حديثه ... وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمع)
فهل اكتفى علماؤنا الأكابر في القرون الفاضلة القريبة العهد بعهد رسول الله بهذين الشرطين قبل أن ينسبوا شيئا لهذا الرسول العظيم؟ أو حتى من دونه كالصحابة ؟..سنرى إن شاء الله تعالى

[عابرة سبيل2]

أسأل الله أن يبارك فيك ..
متابعون معك ..

[نور الدين الدمشقي]

بارك الله فيك...ورزقك الختام في مدينته...وجواره في الفردوس.

[أبو القـاسم]

شكر الله لكما..وبارك فيكما
ماذا تعني بقولك :الختام في مدينته؟

[نور الدين الدمشقي]

اقصد حصول شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن مات في مدينته.

[عياض]

بارك الله فيكم شيخنا...ما زلت السباق في هذا المنتدى في توضيح المسائل بامثلة من الواقع المعاش باخصر عبارة و اوضحها...زاد الله من قوة تأملكم

[أبو القـاسم]

بارك الله على حسن ظنك ولطافة عبارتك..وأكرمك الله كما أكرمتني , وجزى الله أخي وحبيبي الغريب على دعائه المستطاب :ولك بمثل
-----------
# اتفقنا في الحلقة الماضية أن جميع من في السلسة :صادقون مأمونون وليس هذا فحسب بل قد ضبطوا ما سمعوا ..أي حفظوه كما هو على التمام, ويحسن تغيير المثال لملاءمة المقام :قال زيد : عن عمرو قال : عن خالد : لقد اعترف لي نديم أنه احتال على فلان (وزيد وعمرو وخالد موثوقون أمانة وحفظاً) ..فتناقل الناس الخبر وطاروا بإشاعته ,وهنا انبعث أحد خبراء البحث الجنائي ,وقال: ما نسبتموه لنديم لابد أن يخضع للتحقيق ..لأن لدينا قرائن تدل على أن زيداً لم يسمع من عمرو وقد عبر بلفظ "عن" ولم يقل" حدثني" أو" قال لي" ثم أردف يقول :صحيح أن عناصر السلسة التي ينتهي بها كلام خالد(المتن) موثوقون , لكن عبارة زيد ليست جازمة في أنه سمع كلام عمرو منه مع ما نعرفه من قرائن فيكون سمعه عبر :واسطة مجهولة لا نعلمها, وهذا "الواسطة" أخبره عن خالد قوله"اعترف لي.." , وحينئذ لا نضمن أن تكون القولة صحيحة لأنه حصل انقطاع في سلسلة النقَلة الموصلة إلى رأس الهرم..فلا يحق لكم تشويه صورة نديم حتى يثبت الأمر !
قلت:ما قاله المحقق وجيه جداً من الناحية العقلية وينم على يقظة نابهة ووعي عال في الحس الجنائي ..فلهذا اشترط أئمة الحديث النقاد العباقرة في عصر الرواية والنقد في القرون الفاضلة الأولى أن يكون السند (مجموعة رجال السلسلة التي تنتهي بالكلام المنقول) متصلا لا انقطاع فيه بأن يكون كل واحد سمع عمن فوقه ..فهذا الشرط الثالث من شروط قبولهم الأخبار المنقولة عن الرسول (ص) او غيره كالصحابة الكرام البررة..فهل اكتفى علماؤنا بهذه الشروط المحكمة!؟ وهل بقي شيء ليشترط..!!؟ يتبع إن شاء الله تعالى

[عابرة سبيل2]

رائع يا شيخنا الفاضل ..
تعتمد على أسلوب التشويق وهذا ما يجذب القارىء للمتابعة معكم ..
أسأل الله أن يبارك فيكم ويجعلكم جندا من جنده في الدفاع عن الحديث الشريف ..

[باحث عن النور]

جزاك الله خيرا وقد استفدت مما كتبت استاذي ابو القاسم

وان شاء الله بفضل الله ثم فضلكم سادرس السنه وعلومها بهذا المنتدى

[الإصبع الذهبي]

جزاك الله خير و وفقك يا أبا القاسم في إنتظاركم ولا تتأخروا أعانكم الله وسددكم وصوبكم آمين آمين

[أهل الحديث]

موضوع طيب وفقكم الله وأعانكم على إتمامه شيخنا الكريم .