المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ..!



مالك مناع
03-12-2011, 03:59 PM
قَالَ تَعَالى: (( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ))

" بَيَّنَ تَعَالَى فَسَادَ مَا عَلَيْهِ الْمُقَلِّدُونَ مِنِ اتِّبَاعِ مَا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ ، وَضَرَبَ لَهُمْ مَثَلًا زِيَادَةً فِي تَقْبِيحِ شَأْنِهِمْ ، وَالزِّرَايَةِ عَلَيْهِمْ ، بِقَوْلِهِ : ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ) أَيْ : صِفَتُهُمْ فِي تَقْلِيدِهِمْ لِآبَائِهِمْ وَرُؤَسَائِهِمْ ( كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً ) أَيْ : كَصِفَةِ الرَّاعِي لِلْبَهَائِمِ السَّائِمَةِ يَنْعِقُ وَيَصِيحُ بِهَا فِي سَوْقِهَا إِلَى الْمَرْعَى وَدَعْوَتِهَا إِلَى الْمَاءِ وَزَجْرِهَا عَنِ الْحِمَى فَتُجِيبُ دَعْوَتَهُ وَتَنْزَجِرُ بِزَجْرِهِ بِمَا أَلِفَتْ مِنْ نُعَاقِهِ بِالتَّكْرَارِ ، شَبَّهَ حَالَهُمْ بِحَالِ الْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي يَدْعُوهَا فَتُقْبِلُ ، وَيَزْجُرُهَا فَتَنْزَجِرُ ، وَهِيَ لَا تَعْقِلُ مِمَّا يَقُولُ شَيْئًا وَلَا تَفْهَمُ لَهُ مَعْنًى ، وَإِنَّمَا تَسْمَعُ أَصْوَاتًا تُقْبِلُ لِبَعْضِهَا وَتُدْبِرُ لِلْآخَرِ بِالتَّعْوِيدِ ، وَلَا تَعْقِلُ سَبَبًا لِلْإِقْبَالِ وَلَا لِلْإِدْبَارِ ، وَمَعْنَى الْمَثَلِ هُنَا - كَمَا قَالَ سِيبَوَيْهِ - أَنَّ صِفَةَ الْكُفَّارِ وَشَأْنَهُمْ كَشَأْنِ النَّاعِقِ بِالْغَنَمِ ، وَلَا يَقْتَضِي هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْمُشَبَّهِ كَمُقَابِلِهِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ ، وَهُوَ مَا سَمَّاهُ عُلَمَاءُ الْبَيَانِ بَعْدَ سِيبَوَيْهِ بِالتَّمْثِيلِ ، وَفَرَّقُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تَشْبِيهِ مُتَعَدِّدٍ بِمُتَعَدِّدٍ ، وَالْكُفْرُ جُحُودُ الْحَقِّ وَالْإِعْرَاضُ عَنِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ عَلَيْهِ عِنْدَ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الضَّلَالِ ، فَإِنَّ الضَّالَّ مَنْ أَخْطَأَ طَرِيقَ الْحَقِّ مَعَ طَلَبِهِ أَوْ جَهْلِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ بِنَفْسِهِ وَلَا بِدَلَالَةِ غَيْرِهِ . وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ يَرَى الْحَقَّ وَيُعْرِضُ عَنْهُ ، وَيَصْرِفُ نَفْسَهُ عَنْ دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ فَلَا يَنْظُرُ فِيهَا ، فَهُوَ كَالْحَيَوَانِ يَرْضَى بِأَلَّا يَكُونَ لَهُ فَهْمٌ وَلَا عِلْمٌ ، بَلْ يَقُودُهُ غَيْرُهُ وَيَصْرِفُهُ كَيْفَ شَاءَ ، فَهُوَ مَعَ مَنْ قَلَّدَهُمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ كَالْغَنَمِ مَعَ الرَّاعِي تُقْبِلُ بِدُعَائِهِ وَتَنْزَجِرُ بِنِدَائِهِ ، مُسَخَّرَةً لِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ ، وَلَا تَفْهَمُ لِمَاذَا دَعَا وَلِمَاذَا زَجَرَ ؟ فَدَعْوَتُهَا إِلَى الرَّعْيِ وَإِلَى الذَّبْحِ سَوَاءٌ . وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مَنْ يُسَلِّمُ اعْتِقَادًا بِلَا دَلِيلٍ ، وَيَقْبَلُ تَكْلِيفًا بِغَيْرِ فِقْهٍ وَلَا تَعْلِيلٍ .

[ ص: 77 ] وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ التَّقْلِيدَ بِغَيْرِ عَقْلٍ وَلَا هِدَايَةٍ هُوَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ ، وَأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَكُونُ مُؤْمِنًا إِلَّا إِذَا عَقَلَ دِينَهُ وَعَرِفَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى اقْتَنَعَ بِهِ . فَمَنْ رُبِّيَ عَلَى التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ عَقْلٍ ، وَالْعَمَلِ - وَلَوْ صَالِحًا - بِغَيْرِ فِقْهٍ ، فَهُوَ غَيْرُ مُؤْمِنٍ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنَ الْإِيمَانِ أَنْ يُذَلَّلَ الْإِنْسَانُ لِلْخَيْرِ كَمَا يُذَلَّلُ الْحَيَوَانُ ، بَلِ الْقَصْدُ مِنْهُ أَنْ يَرْتَقِيَ عَقْلُهُ وَتَتَزَكَّى نَفْسُهُ بِالْعِلْمِ بِاللَّهِ وَالْعِرْفَانِ فِي دِينِهِ ، فَيَعْمَلُ الْخَيْرَ ; لِأَنَّهُ يَفْقَهُ أَنَّهُ الْخَيْرُ النَّافِعُ الْمُرْضِيُّ لِلَّهِ ، وَيَتْرُكُ الشَّرَّ ; لِأَنَّهُ يَفْهَمُ سُوءَ عَاقِبَتِهِ وَدَرَجَةَ مَضَرَّتِهِ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ ، وَيَكُونُ فَوْقَ هَذَا عَلَى بَصِيرَةٍ وَعَقْلٍ فِي اعْتِقَادِهِ ، فَلَا يَأْخُذُهُ بِالتَّسْلِيمِ لِأَجْلِ آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ ، وَلِذَلِكَ وَصَفَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بَعْدَ تَقْرِيرِ الْمَثَلِ بِأَنَّهُمْ ( صُمٌّ ) لَا يَسْمَعُونَ الْحَقَّ سَمَاعَ تَدَبُّرٍ وَفَهْمٍ ( بُكْمٌ ) لَا يَنْطِقُونَ بِهِ عَنِ اعْتِقَادٍ وَعِلْمٍ ( عُمْيٌ ) لَا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآفَاقِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ( فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ) مَبْدَأَ مَا هُمْ فِيهِ وَلَا غَايَتَهُ كَمَا يُطْلَبُ مِنَ الْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا يَنْقَادُونَ لِغَيْرِهِمْ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْحَيَوَانِ ، وَلِذَلِكَ اتَّبَعُوا مَنْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَا يَهْتَدُونَ ، فَالْعَاقِلُ لَا يُقَلِّدُ عَاقِلًا مِثْلَهُ ، فَأَجْدَرُ بِهِ أَلَّا يُقَلِّدَ جَاهِلًا ضَالًّا هُوَ دُونَهُ".

تفسير المنار للشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله ..

مالك مناع
03-12-2011, 04:20 PM
وقد وصف الله تبارك وتعالى الكفار بأنهم شر الدواب من حيث عدم تعقلهم مع امتلاكهم الوسيلة، ولبيان وجه ذلك نقول أن العقل في اللغة يُطلق على المنع والحبس، ووجه تسمية العقل بهذا الاسم: كونه يمنع صاحبَه عن التورطُّ في المهالك، ويحبسُه عن ذميم القول والفعل. وللعقل معان أربعة:

المعنى الأول: الغريزة، التي هي إحدى معاني العقل، وهي شرطٌ في المعقولات والمعلومات, وهي مناط التكليف؛ فإذا عُدِمَتْ في الإنسان، سقطت عنه التكاليف الشرعيَّة. وهو منقول عن الامام أحمد. يقول أبو حامد الغزالي (ت 505هـ) إنَّه: "الوصفُ الذي يُفارق الإنسان به سائر البهائم، وهو الذي استعدّ به لقبول العلوم النظريَّة, وتدبير الصناعات الخفيَّة الفكريَّة".

وعن هذا المعنى نفسه، يقول ابن تيمية: "العقلُ شرطٌ في معرفة العلوم، وكمال وصلاح العمال، وبه يكمل العلم والعمل، ولكنَّه ليس مستقلاً بذلك، لكنَّه غريزةٌ في النَّفس، وقوَّة فيها، بمنزلة قوَّة البصر التي في العين". وتأمل تشبيهه العقلَ بالبصرِ. وقد سبقه إلى هذا التشبيه البليغ قومٌ، قالوا عن العقل: "هو نورٌ وضعه الله طبعاً وغريزة، يُبصر به، ويُعبّر به، نورٌ في القلب، كالنُّور في العين، وهو البصر..". لكنّ هذا البصر إنَّ اتصل به نور الشمس، أو ضوء النَّار، صار أشد قوَّة وإبصاراً، وإن انفرد بنفسه، ضَعُفَ.

كذلك صاحب العقل إن وصله بنور الإيمان والقرآن، اهتدى وسَعُدَ. وإذا لم يتصل بهما عجز عن إدراك الأمور التي لا يُمكن أن يستقلّ بإدراكها. وهذا معنى قول ابن تيمية عن العقل، إنَّه: "بمنزلة قوَّة البصر التي في العين؛ فإن اتّصل به نور الإيمان والقرآن، كان كنور العين إذا اتَّصل به نور الشمس والنَّار. وإن انفردَ بنفسه، لم يُبصر الأمورَ التي يعجز وحدَه عن دَرْكِهَا".

وهذا التشبيه الرائع مع ابن تيمية ومِمَّن سبقه ينطبق على أولئك الذين اعتصموا بالكتاب والسنَّة، وعلى مخالفيهم الذين اتّكلوا على عقولهم، معرضين عن الاهتداء بنور الوحي، فعموا عن الحقّ، وضلّوا عنه، وآل أمرهم إلى التخبُّط والحيرة.

المعنى الثاني: العلومُ التي تُلازم الإنسان العاقل؛ فتقع في نفسه ابتداءً، ولا تنفكّ عن ذاته؛ كالعلم بالممكنات والواجبات والممتنعات (كالعلم بأنّ الاثنين أكثر من الواحد وأنَّ الشخص الواحد لا يكون في مكانين في وقتٍ واحدٍ وأنَّ الشيء لا يخلو من وجودٍ أو عدم، وأنَّ الموجود لا يخلو من حدوثٍ أو قِدَم، وأنَّ من المحال اجتماع الضدَّين ..إلخ) . وهذه العلوم تشمل جميعَ العقلاء.

المعنى الثالث: العلوم المستفادة من التجارِب، والمكتَسَبَةُ بواسطة العقل، والتي يضبطها الإنسان ويُمسكها. وهذا العقل يُعدُّ نتيجةً للعقل الغريزيّ، وهو "نهاية المعرفة، وصحّة السياسة، وإصابة الفكرة. وليس لهذا حدٌّ؛ لأنَّه ينمو إنَّ استُعمل، وينقُص إنَّ أُهمل". وعنه يقول الغزالي: "الثالث: علومٌ تُستفاد من التجارب بمجاري الأحوال؛ فإنَّ من حنَّكَتْهُ التجاربُ، وهذَّبَتْهُ المذاهبُ، يُقال: "إنَّه عاقلٌ في العادة، ومن لا يتصف بهذه الصفة، يُقال: "إنَّه غبيّ، غُمْرٌ، جاهلٌ. فهذا نوعٌ آخر من العلوم يُسمَّى عقلاً".

المعنى الرابع: الأعمال التي يستوجبها العلم؛ من إيمان بالله، وتصديق بكتبه، ورسله، والتزام بأمره ونهيه؛ كحَبْس النفس عن الطاعات، وإمساكها عن المعاصي. وعنه يقول ابن تيمية: ".. لفظ العقل يُطلق على العملِ بالعلمِ". فالعمل من لوازم العقل؛ لأنَّ صاحب العقل إذا لم يعمل بعلمه، قيل: إنَّه لا عقلَ له؛ "فإنَّ العقل مستلزمٌ لعلومٍ ضروريَّةٍ يقينيَّةٍ، وأعظمها في الفطرة: الإقرار بالخالق". فحالُ مَنْ لم يعمل بعلمه، أنَّه صاحبُ عقلٍ يُمسكُ علوماً ضروريَّةً فطريَّةً، يعرِف بها ربَّه، ولكنّ هواه صدَّه عن اتباع موجب العقل، فصار لا عقل له بهذا الاعتبار.

وقد اتّصف هذا بمعاني العقل الثلاثة المتقدِّمة؛ فمعه غريزة العقل التي فرَّق الله بها بين العقلاء والمجانين، ومعه علومٌ ضروريَّة فطريَّة، ولديه علومٌ مكتسَبَةٌ؛ فقد جاءته الرسل بالبيِّنات، ولكنَّه لم يحظ بشرف الاتّصاف بهذا المعنى الرابع؛ وهو العمل بعلمه، لذلك يُقال عنه: إنَّه غيرُ عاقلٍ عن الله. لذلك لمّا وُصِفَ رجلٌ ممتنعٌ عن الدخول في الإسلام بالعقل أمام أحد العلماء قال: "مَه! إنَّما العاقل مَنْ وَحَّدَ الله؛ وعَمِلَ بطاعتِهِ".

والله تعالى قد حكى عنهم قولَهم وهم في النَّار: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10].

"وقد كانت لهم عقولٌ وأسماع، لزمتهم بها الحجَّة لله، وإنَّما عنى أنَّها لم تعقِل عند الله فَهْمَاً لِمَا قال؛ من عظيم قدرِه، وقدر عذابه، فندمت، وتأذَّت بالويل والندم، لا لأنَّها لم تكن تسمع ولا تعقل، ولا كانوا مجانين، ولكن يعقلون أمر الدنيا، ولا يعقلون عن الله ما أخبر عنه، وتوعَّد ووعد".

فالحاصل أنَّ العقلَ يُطلق على كلّ هذه المعاني الأربعة مجتمعةً؛ الغريزة, والعلوم الضروريَّة, والعلوم المكتسبة, والعمل بالعلم. ويشهد لهذا قول ابن تيمية عن العقل: "هو علمٌ، أو عملٌ بالعلمِ، وغريزةٌ تقتضي ذلك". فالعقل لا يُسمَّى به مجرَّد العلم الذي لم يَعمل به صاحبُه، ولا العمل بلا علمٍ؛ بل إنَّما يُسمَّى العلمُ الذي يُعملُ به، والعمل بالعلم، ولهذا قال أهل النَّار: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السَّعِيرِ). [الملك: 10] وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا في الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ أَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ) [الحج: 46].

إذا تبيَّنْتَ هذا؛ دقّ فهمك لوصف الله تعالى للكفار بالبهائم فإن العملُ ثمرةُ العقل وفائدتُه؛ ولا عقلَ لمن لم يعمل بموجب ما دلَّه إليه عقلُهُ.