المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العالـَم الإنساني



عبدالرحمن العيسى حلب
03-25-2011, 09:02 PM
العالـَم الإنساني
بين
حكم الجاهلية .. وحكم الإسلام
بقلم
الشيخ عبد الرحمن العيسى ـ حلب
10 ربيع الآخر 1432 هـ ـ 15 آذار 2011 م
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة :
يؤكد القرآن المجيد , أن نمَط الحكم في الأرض , وبين البشر أنفسِهم , إما أن يكون حكماً جاهلياً , يستمد مفاهيمه وقراراتِه , من النفس الأمارة بالسوء , ومن دولة الشيطان , ونزوات العقول الضالة , والضمائر الخربة .. ومزيدٍ من الجُبن والخسة والنذالة ..
فيكون الجوْر والظلم , والأنانية القاتلة , والمطامع الثائرة , والدماء الفائرة , والدموع الجارية , والمصائب الفادحة .. والفقر والحرمان , والغيظ المكبوت , والقهر المشحون ..
وإما أن يكون حكماً إلهياً ربَّانياً , يستمد مفاهيمه وأهدافه , من روح ما يُنـْزله الله من تشـريع , وما يجيء به من رحمة ونور , وبيان وشفاء لما في الصدور ..
إن حكم الإسلام الحق , هو في حقيقته وواقعه , حكم الله الملكِ القدُّوس , الذي يحكم الله به في الأكوان , ويفصل في قضايا الصراع والنزاع , بين بني الإنسان , ويضع المعالم والحدود ..
وهو حكم رصين ومتين , ومتوازن جداً , ودقيق حتماً , وحياديٌّ أيضاً , ومشفوع بالأسباب التقديرية والتخفيفية .. ويُقصد به : إنشاءُ الحياة الصالحة , وردمُ منابع الفساد المتفشية , وسدُّ الذرائع الجاهزة , وإتاحة العيش الكريم , ووقفُ تيار الظلم , وشيوع الفاحشة والإثم ..
ويقول سبحانه : ( واتـَّبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ) ..
أما حكم الجاهلية : فإنه ألوان وأفانين .. منه الرجعي القديم , والأسطوري العديم , ومنه الدينيُّ والكهنوتي , ومنه الحديث المستحدَث , المدعَّـمُ بالعلم والطاقة , وسائر الأسباب الفائقة والخارقة , والمخترعات والاتصالات , والسرعات العجيبة .. وهو ما عليه واقع عالمنا الراهن , حيث كل شيء يُدار بما هو ضد العلم والمعرفة , وضد الحكمة والمصلحة العامة , وضد الإنسانية والرحمة .. وما هو طاغوت وطغياني , وشرس وعدواني , وتجاوز لكل المحارم والحرمات والمحرمات .. وما هو إباحيٌّ ووحشي , وإجرامي وأثيم ..
إن النبوات والرسالات الإلهية , الغاية منها : إنقاذ البشر والأمم , من حكم الجاهلية والجاهليين , والوثنيين السياسيين والدينيين , الذين يفرضون أنفسهم أرباباً وآلهة , ويأخذون الناس بسيف البطش والانتقام , ويستعبدونهم ويضطهدونهم , ويصادرون كل حرية وكرامة لهم , ويتعاملون معهم , على أنهم مجرد عبيد وأرقـَّاء , ويستبيحون دماءهم وأموالهم وأعراضهم ..
وتقول النبوة والرسالة : ( إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم .. ) ..
حكم الجاهلية : حكم اعتباطي وفوضوي , يتـْبع أمزجة الأقوياء الأغبياء , والمترفين الأغـنياء , فيرتجلون لشعوبهم , ما في عُـرفهم من أحكام عُرفية , وما هو ساقط ومفضوح , من سلوكيات الخيانة والخونة والمارقين , وكبار الشُّـذاذ والمفسدين .. والقضاة الجائرين ..
ويقول سبحانه : ( وكان في المدينة تسعة رهـْطٍ يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) ..
عبد الرحمن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفرقان الإلهي الحاسم :
يقول الله سبحانه في القرآن المجيد : ( أفحكمَ الجاهلية يَبغون ؟.. ومَنْ أحسنُ من الله حُكماً لقوم يوقنون ؟.. ) ..
وتأسيساً على هذا الفرقان الإلهي , بين حـكـم الإسـلام , وقِـيـمه ومدلـولاته المقدسـة .. وحكم الجاهلية , ورموزها , وإسهاماتها المتدنية .. أقول : إن الجاهلية لا تعني الجهل والبداوة , والأمية والهمجية دائماً , بل تعني ممارسة الحياة والحكم , وقيادة المجتمعات والأمم , بأسلوب التعامي والتجاهل , والإفساد العريض في الأرض , والظلم المبيَّـت , والتجاوز المتعمَّد لمنطق الحكمة والرحمة , والسلوكِ السويِّ , والشعور العالي بالمسؤولية ..
ولكل عصر جاهليته المهيمنة عليه , والمتفرعة عنه .. وفي هذه الحِقبة التاريخية , المتدفقةِ علماً وثقافة , وفنوناً وتحضراً مادياً , وتمديناً دنيوياً , وسرعة واتصالاتٍ , وجنوداً ومعسكرات , وفكراً هائلاً , ونظريات وتحليلات .. تبدو الجاهلية أمراً مُفـْزعاً , تستثير في النفس السَّوية , مشاعرَ التقزُّز والاشمئزاز .. وتميت النخوة والاعتزاز ..
ويصطبغ وجه الحياة , وسطح الكوكب , بسحابات كثيفة وقاتمة , من حكم هذه الجاهلية , التي نـَصَّبت من الجنس والمال , والمناصب والسياسة , أصناماً مؤلـَّهة ومعبودة , يركع لها الجبابرة والصعاليك , ويَخِروُّن على أعتابها وأبوابها سَُجَّداً ومستسلمين ..
حقيقة الإسلام .. وواقع العالم :
الإسلام قدَر وحق , ومسؤولية عالمية الأداء والحكم , لإنجاز ما هو مفقود من العدل المطلق , والتوازن الراحم والمنـْصف , والتصفية الحاسمة , لكل العقد والتسيُّـبات , العاصفةِ بأمن هذه البسيطة ومَنْ عليها .. والمفجِّرةِ براكينَ الإثم والجريمة ..
هناك قاعدة أصولية مُؤصَّلة تقول : الحكمُ على الشيء فرعٌ عن تصوره .. فالقاضي لا يمكن أن يُصدر الأحكام الصائبة , إلا بعد أن يستوعب القضايا المعـروضة , ويُـلِمَّ : دراية وإحاطة , بشتى تفرعاتها واحتمالاتها .. ويوازنَ بين أدلتها ومدلولاتها ..
العالم بتركيبته الراهنة , وإشكالاته الحضارية والسياسية , وخططه الاستعمارية , ليس إلا قضية كبرى , مترامية الأبعاد , متشتتة الاتجاهات والمواقف , متهافتة القواعد والأسس .. معقـَّدة الشواهد والأدلة .. مُسْـفـِرة الأهداف والمآرب , التي ليست من الحق في شيء ..
وليس في الارض من شرعية حقيقية متوازنة , تمتلك القرار والقانون والحكم , للفصل والحل والحسم : إدانة وتبرئة , وإنصافاً عادلاً , وحكماً محيطاً وشاملاً .. وصائباً .. وحيادية ناقدة ورائدة .. وإن التركيز الإعلامي الدوْلي , على الشرعية الدولية , لهو أكبر حجة وبرهان على افتقاد هذه الشرعية وغيابها , في أوساط هذا العالم , الذي دمر الدساتير والمعايير , واخترق كل ما في الأرض من المعروف والأعراف , على أيدي الطغاة والظالمين ..
الآن تقوم ولا تقعد , عدوانية الإنكار والتحدي الصارخ , لكل شرعـية مشروعة وموضوعة , ولكل حق مكتسَب .. إلا ما كان حقاً مزعوماً للأقوياء والقادرين , وشراهة وظلماً وكفراً لمن بأيديهم قرار العالم , يتداولونه كالأسهم والعمْلات , في أسواق السياسة الفاجرة , وصفقاتها الغادرة .. ويتاجرون بدماء الشعوب المظلومة , والجماهير المسحوقة ..
وأخطر ما في الأمر :
وما دام الشأن كذلك , والعالم برمته قضية لا حل لها , وهي تخضع لقـُضاة جُناة , يُحكـِّمون الأهواء الجامحة , والمصالح الجنونية , والحقوق المصنوعة والمصطنعة .. فإن الحاجة المُلحَّة والضاغضة , تستدعي الحكم المجرَّد والمتجرد , المتفرعَ عن التصور النزيه والبريء , والنظرةِ الشمولية الهادفة , والقصدِ الطيب والجاد .. والإرادةِ المنصفةِ والعادلة .. وهذا هو الإسلام الحق , ومستوى أحكامه الرائعة .. وتلك هي الجاهلية , ومستوى صفاتها المنحطة !..
الخطير في الأمر , أن قِـيم هذا العالم ودساتيره , مستهلكة وهالكة قطعاً , وأن شرعيته الجديدة , جاءت متأخرة جداً , وشوهاءَ وعرجاء , ليس فيها قطرة من ماء الحياة والحياء .. بل هي الموت الزُّؤام حقاً , والعدمية المَحْضة , والهلاك المحقق , والرجعية الذميمة ..
فالعالم الآن , تكتلات سرطانية , وكتل من الترسبات والتعفنات , التي تراكمت عبر مسيرة مُضْـنية وقاسية , من الإخفاق والإحباط , والحروب العبثية والجنونية , والانكفاء والتآكل , والمظالم والدماء والثارات , والخطط الاستعمارية والتبشيرية الجهنمية .. فمن اين يأتي ويُـنتظر من كل ذلك , خلاصٌ وفصل واعتدال ؟.. أو علاجٌ ووقاية وصلاحُ حال ؟..
المستجيرُ بعَمْروٍ يومَ كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار
ملامح الزمن المتأخر :
ألا إن البشر في آواخر هذا الزمن المتأخر , يسبحون فوق بحر من الإرهاب والرعب , والفوضى الخلاقة !.. والتجسس المعقد والمخيف .. وردودِ الأفعال العدوانية والانتقامية , التي لا ترحم .. ولا مانع لها ولا زاجر .. ولا يكشفها إلا الله ذاته ..
وفوق كل أرض , ترى وتسمع ما يُذهل المراضع , ويُسيل المدامع , أسىً وحسرة , على ما ألمَّ ببني آدم , وما حل بساحتهم من اللعنات والمصائب , والأمراض الحسية والمعنوية , والانهيارات الأخلاقية والاجتماعية , بما يضيق به , ويعجز عنه , أحدثُ ما في الأرض , من مشافي وعيادات ومختبرات , عقليةٍ ونفسيةٍ وجسديةٍ , وإجراءاتٍ علاجية واحترازية .. فنشهد أمام طوفان الألم الصاعق , والمعاناة المقطعة للأمعاء والأعصاب , هزيمة وانجرافَ كل إمكانات هذه الحضارة العريضة , واقتداراتها الخارقة , وثرواتها الطائلة , وتنمياتها الهائلة ..
وإنه لضياع أكبر , لم يَمُرَّ له مثيل من قبل , وحيرة وتصدع , وإيغالٌ في ظلمات المتاهة , حتى النهاية .. وكتم وطمس لكل حقيقة وغاية شريفة , ونيةٍ راحمةٍ وصالحة ..
لذا رأينا الأحرار المنصفين , من أهل العلم والفكر والبحث والنظر , في حواضر العالم الغربي , ومنذ سنين غير قريبة , قد نفضوا أيديهم , من كل ما ترامى إليهم , من تـُراث هـذا العالم , وتـَمثـُّلاته الجديدة , بعد أن رأوا في كل ذلك , معالـَم التحريف والتصحيف والتجديف , والانحياز الفاضح , والمعلومة المغلوطة , ودعاوى التفوقات العِرقية والقومية والعنصرية ..
وفي الوقت ذاته , عَـبَّـروا عن إيمانهم وثقتهم بالإسلام العظيم , على أنه الدين القـيِّم , وبالقرآن المجيد , على أنه كلام الله المحقـَّق والموَثـَّق , الذي لا يأتيه الباطل ولا التحريف .. فأعطوْا بذلك الضوء الأخضر للإسلام , ليتقدم ويعْـبُرَ بوابات العالم من جديد , ويُقـَدم ثبوتيات الريادة , ومنهجَ الانعتاق , وكسرَ القيود والأطواق .. رغم كل الضبابيات والمؤامرات , لتشويه صورة الإسلام , وصرفِ الأنظار عنه , وجعلِ أتباعه وأبنائه , يجافونه قبل أعدائه ..
القيمة الكبرى للإسلام :
إن القيمة الكبرى للإسلام , تظهر وتتجلى , في كونه يرتكز على الكتاب المحفوظ من ظواهر التبديل والتحريف , التي تطرقت إلى الوثائق والكلمات , والعهود والكتب الأخرى .. القديمةِ منها والجديدة .. كما يرتكز على مُعْطيات نبوة خاتمة , اخـْتـُتمت بها كلُّ النبوات , وهي نبوة ثابتة ومستمرة , ومتدفقة حياة وجـِدَّة وحيوية , في الحياة الإنسانية ..
فيظهر الإسلام , في زمن التردي والانبهار والانهيار , والارتجاج الكبير , والتداعي التراثي : المادي والحضاري , وهو أكـبر وأقـدر , وأصلح وأظهر , وأنقى صفحة , وأصدقُ لهجة , وأصح تقييماً وحكماً .. وحكمة متوازنة , وتيسيراً ورحمة , وعطاءً بلا حدود ..
وهكذا فالإسلام , من حيث كونـُه شريعة وحضارة , يحمل في ثنايا ذاتياته , وتضاعيف حُكمه المعقـِّب , مؤهلاتِ الإمامة الرائدة , والإجابة الوافية والموفية والسامية , كلما كان البشر في وضع مُخـْتلّ ومُعْـتلّ , وينشد الإغاثة , ويستدعي التداركَ .. مثلما هو عليه واقع دنيانا المريبة اليوم , التي تعج بالحقد وبالإباحية , وتفور بالدماء وبالأنقاض , ومن تحتها الأشلاء والأعراض ..
وإن إجابة الإسلام هذه , بديعة ورائعة حقاً , وليست مما هو متداوَل ومتدارَس , ولا مما تحفِل به المكاتب والمكتبات , ودور النشر والجامعات .. لأنها إن تكن كذلك , فغير مُغـْنية ولا ناجعة , في طوفان الإعلام الجامح , والعولمة الماحقة , والتخريب والفساد المبرمَج ..
إنها إجابة متخصصة ورائدة , تـُلبي في وقتها وحينها , اضطرارات الخليقة الضائعة , إلى الضرورات الإنسانية الكريمة , التي تعرضت لأفدح عمليات النفي والمصادرة , أثناء غياب الإسلام , وتغييبه المتعمَّد والمقصود , وتهميش دوره العظيم ..
انعدام حقوق الإنسان :
وإن الإعلان عن حقوق الإنسان , مؤشر على انعدام تلك الحقوق أصلاً , وأن الإعلان جاء متأخراً ومسبوقاً أيضاً .. وفي كل مكان , نشهد مصرع حقوق الإنسان , على أيدي الأدعياء والمدعين .. الأمر الذي يثـْبت للإسلام وأهله , السَّـبْقَ المتقدم , والأولوية الحضارية الفـَذة , ويبرئهم من هضم حقوق الإنسان : عقيدة وتشريعاً وتطبيقاً .. وأحداث التاريخ الصادق , أكبر شاهد على ذلك , ولا يجحده إلا الصُّمُّ الـبُـكمُ الذين لا يعقلون , ويقولون الكذب وهم يعلمون !..
الإسلام .. ذلك المثل السائر :
وَمَثـَلُ الإسلام في إجابته وريادته , المنوَّهِ عنها آنفاً .. كمثل عيادة طبية عـريقة ومتخصصة , ويشرف عليها طبيب حاذق وعليم , ذو تجربة وخبرة عالية ..
فـَمِنْ غير المعقول أبداً , أن تـُشحن هذه العيادة , بوصفات جاهزة , وتشخيصات مُسْبقة .. بحيث يحصل عليها المرضى والزوار , دونما فحص ولا تشخيص .. فحجم الوصفة ونوعيتها , مما يتبع حجـم العـلة الكامنة , ومسـتوى الـداء المستـوطِن , حـسب الـتشـخيص المفـترض .. سواء بسواء .. وإلا عم المرض , وعز الشفاء , وتفاقم البلاء ..
فالإسلاميون ـ أي العاملون في الحقل الإسلامي ـ : علماً وتعليماً ودعوة , يأخذون (عَيِّناتٍ) من المجتمع , بصورة انتقائية , وقد يُشْبعونها أو لا يشبعونها بحثاً واستدلالاً , ووعظاً حاضراً ورخيصاً , وحلاً شكلياً منتقى وموجَّهاً .. وفي المدارس والمعاهد والجامعات : توجد المناهجُ والمقرارت المعدة والمعدلة , والبحـوثُ والـنصوص المخـتارة والمفضلة .. وفي المساجد والجوامع , الخطب والدروس المعتادة والمعادة , والمكررة والمتداولة , كالعملة المهترئة ..
وكل ذلك لا يشكل في واقع الأمر , وحقيقة الأزمة , والتساؤلات القلقة , إجابة وافية ومُغـْنية وكافية , ولا تلبية محيطة ومهيمنة ومتكاملة , تفصل في قضايا الصراع والنزاع , وتـُغير على مَغاراتِ الإثم والظلم , وتـَنـْصبُ معالم التوازن الحق , الداحضِ لموبقات العصر , ودواهي المنكر والفتنة , ودواعي القهر والكفر , والإباحية الجارفة .. والظلم الضاغط ..
سبيل الإسلام الواعد :
من هنا يتوضح لنا ويستبين سبيل الإسلام اليوم , والمتمثل في أنه قد استوعب مشكلة العالم الماثل والمائل , وأحاط بما لديه من جُنوح فاضح , وقوة عاتية , وعلم متمرد , وأن ذلك يؤهله ـ أي الإسلام ـ لأن يُصْدر أحكامه , وينشر ألويته وأعلامه , ويُنهيَ آخر فصول المأساة البشرية , والجدل الإعلامي والسياسي , السقيم والعـقـيم , الذي يتـتبع بقايا الاتـزان الإنـسـاني , للوصول إليها , والإجهاز عليها .. وتفريغ العالـَم من محتواه , ليبقى مجرد عظام نخِرة لا غير ..
لقد أصبح أخيراً من حق الإسلام , أن يباشر عملية الوراثة العظمى , في هذه الأرض المنهوبة والمنكوبة , والمتـْرعةِ بالجور والجنايات والجرائم , التي تهب كالإعصار والنار , وتحرق الجباه والجُنـُوبَ , وتـُلهب الظهور والمشاعر , وتـَطـَّلعُ على الأفئدة والسرائر , كالنار الموقدة , والشُّـواظ المسْتـَعِر , واللهب اللافح ..
مظاهر الجاهلية الحديثة :
تبدو الحياة الإنسانية , في أواخر هذا الزمن العصيب , ولا مَنْ يَغار عليها غـَيْرة الشهْم الكريم , ولا مَنْ يهتم بها اهتمام العاقل المستبصر .. ونرى تهافتاً فظيعاً على اهتبال الفـُرص , وجمع الثروات وتفجُّر الغرائز , فكأن الأرض تركة متروكة , على قوارع الطـُّرق , تـُغـْري كل السُّعاة والجُناة , على أن يكون أحدهم , هو صاحبَ الحق الشرعي , في الوراثة , ووضع اليد , وفرض الوصاية والحماية , على هذه الأوساط الدنيوية , المتسيبة للغاية , والمتدهورة أمانة وأمناً حتى النهاية .. وتمتزج فيها الدماء بالدموع , لتشكل نهراً تغرق فيه الحياة , ويغرق فيه الأحياء ..
ورب الشاةِ ينفي الذيبَ عنها فكيف إذا الذئابُ لها رُعاةٌ
إنها بإيجاز : نتائجُ ونهاياتُ حكـم الجاهـلية , حيث تقاليد القبائل البالية , ومآثرُ البداوة العفِـنة , ومنطق الضراوة والشراسة , في الصحراء والغابة .. تـُتـَرجمه سرعة الضوء , وأشعة الليزر , واستطاعة الذرة , وإنجاز الألكترون والكمبيوتر .. وأسلحة الدمار الشامل , والجنودُ المجنـَّدة والمرتزقة , الباحثة عن الدم والعرض والمال الحرام , لوجه الشيطان والطغيان ..
ألا إنه منذ إقصاء الإسلام الحق , وتعطيل حُكمه المَهيب , وخـُلقه المُحبَّـب والحبيب , أطبقت على الكرة الأرضية , أحكام وأنظمة جاهلية حديثة , ووثنية سياسية وكهنوتية هائجة , هـيَجانَ البحر الزاخر , لا تـُبقي ولا تذر , وتصيب الحياة الإنسانية , بشلل خطير ومدمِّر , وتضع الشعوب أخيراً , في مهب المآلات الصادعة بالمظالم الكبرى , ونهاياتِ الأنفاق المظلمة , والمقابر الموحشة , والسجون المُكتظـَّة , وبقايا الغادرين والظالمين , من الحاكمين والقضاة والمسؤولين ..
وبعد : فلقد شاع في القرن الماضي , مقولة : جاهلية القرن العشرين , وكـَتب حولها الكاتبون .. وهذه من المفارقات العجيبة واللافتة .. لأن ذلك القرن , موصوف بالتنور والتحضر , والعراقة المادية والصناعية , والعلوم والمعارف والثقافات , وتطور البيئات والمجتمعات , وتقارب البحار والمحيطات والقارات .. وارتفاع المساكن والمكاتب , فوق السُّحُب والغيوم , والآفاق التي لا نهاية لها .. ناطحات السحاب !.. وأبراج العذاب والتباب !..
ورغم ذلك كله , فقادة العالم وحكوماته , ومنظومات السياسة والسياسيين , وعِـلـْية القوم في كل قوم , يُمْعنون في جهالات جهلاء , وضلالات عمياء , ويُطلقون الأحكام جُزافاً , ويمارسون المحظور والحرام , بصورة جنونية , وعقلية متخلفة جداً , ونظرة سطحية حقاً , وتـَمسُّك بالقشور والفتات , وبحثٍ عن المظالم والتجاوزات .. والرشاوى والخيانات !..
وقد أحالوا كوكب الأرض , إلى حماماتٍ وبـِركٍ من الدماء , ومسالخَ بشرية , يـُذبح فيها الناس بالملايين , وتـُصهرُ أرواحهم , وتـُقـدَّم نذوراً وقرابين , في جنون الطواغيت والشياطين !..
وتحت حكم الجاهلية الحديثة , تضيع الحقيقة , فلا تـُعرف أعراف , ولا تـُحد حدود , ولا تـُصَدَّق مصداقية ولا قضية , وكل القيم والمباديء والوعود , برسم البيع , في أسواق البحث عن الشُّهرة والثروة , والسمعة الزائفة , والجاه الخادع , والمنصب الرفيع , والتظاهر الكاذب !..
وفي الحديث : ( .. يبيع أحدهم دينه بعَـرَض من الدنيا قليل ) ..
والله سبحانه وتعالى أجل وأعلم .. وحسبنا الله ونعم الوكيل ..