نور الدين الدمشقي
04-07-2011, 06:47 PM
الى كل من يتقلب في وساوس الشيطان: انتبه الى مهماته:
خلق الله هذه الدنيا دارًا للابتلاء، فوفر فيها كل شروط الابتلاء وكل أدواته. ولعل من أهم شروط الابتلاء تلك الظروف المعاكسة والأحوال المعيشية الصعبة إلى جانب المصائب ووضعيات الرخاء والرفاهية الزائدة. أما أهم أدواته فهي الميول والغرائز وأثمان ما يفرضه البدن من حاجات ومتطلبات، بالإضافة إلى وجود نفس توسوس، وشيطان يزين المعصية، ويصرف عن الطاعة، ويستغل نقاط الضعف. وعلى مدار التاريخ كان الوعي بالشيطان بوصفه ذاتًا شريرة وسيئة أوضح من الوعي بوساوس النفس. حيث إنه يشكل ذاتًا منفصلة ومبلورة، وليست الوساوس كذلك. حين هبط أبونا آدم وأمنا حواء من الجنة لم يهبطا وحدهما، وإنما هبط معهما إبليس أيضًا، وكان في ذلك إشارة واضحة إلى الجدلية التي ستسود في هذه الحياة: جدلية الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، وما يجوز وما لا يجوز. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في مواضع عدة، منها قوله - سبحانه -: }فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"
إن التدين الحق ينشئ لدى صاحبه (عضلة أخلاقية) اعتدنا تسميتها (الضمير) أو (الوازع الداخلي). وهذه العضلة هي التي تصارع الشيطان، وتقدم للوعي الشخصي الكثير من التحذير من خطورة الانسياق وراء وساوس الشيطان. ولهذا فإن الشيطان يُبدي الكثير من الارتياح، ويحقق الكثير من النجاح في مهماته الشريرة حين يخفت صوت الضمير، أو يمنحه صاحبه إجازة مفتوحة. وهذا يعني أن على المربين والمصلحين أن يتعلموا كيف يوفرون الشروط والظروف التي توقظ الضمائر، وتؤسس لدرجة عالية من الحساسية ضد الخطأ والشر والمنكر.
إن في إمكاننا أن نقول: إن الشيطان يستخدم في عمله عين الأسلوب الذي يستخدمه (السوس) الذي ينخر في أسنان البشر. إن السوس يفضل العمل في (مقاتل الأسنان) وهي المواضع التي لا يصل إليها السواك، ولا تصل إليها الفرشاة. وهكذا الشيطان يلعب على نقاط ضعفنا وغرائزنا، ويستغل معاناتنا والثغرات الموجودة في حياتنا كي يحصل على ما يحب الوصول إليه. إن طموحاته واسعة وحركته دائبة وشاملة، والأبواب التي يدخل منها علينا تفوق الحصر والعد. ونلمس الإشارة إلى هذا فيما حكاه الله تعالى عن إبليس: }قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"
إن هناك من النصوص ما يدل صراحة على أن البشر من خلال أخطائهم الشخصية ومن خلال ما يظهرونه من قابلية للغواية والانقياد يقدمون الأرضية التي يقف عليها الشيطان وقت وسوسته لهم. إنهم يوفرون له رأس الجسر الذي سيعبر عليه متسللاً إلى أعماقهم وأعمالهم. وهذا واضح في عدد من الآيات منها قوله سبحانه }إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم|. وقد حكى لنا القرآن الكريم جهود إبليس في التنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقه حين قال: }قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد|. ولهذا قال أحدهم: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن جزاء السيئة السيئة بعدها». وهذا يعني أن على الناس أن يوجهوا اللوم لأنفسهم عوضًا عن لوم إبليس، وأن يحموا أنفسهم من شروره من خلال المجاهدة والاستقامة، وأن يجعلوا من ملازمة الآداب والسنن خط الدفاع الأول عن الفرائض والواجبات، كما أن عليهم أن يجعلوا بينهم وبين الوقوع في الكبائر والمعاصي واقيًا منيعًا، يتمثل في تجنب الشبهات والمكروهات، وما هو موضع خلاف ونزاع، حيث إن الشيطان لا يحاول الوسوسة لشخص يقوم الليل بترك صلاة الفريضة، كما لا يوسوس لمن يتورع عن عمل شيء مختلف في جوازه بعمل شيء متفق على حرمته.
وأود الآن أن أذكر نماذج من المهمات التي يقوم بها إبليس في إضلال البشر، وذلك عبر المفردات الآتية:
- إن المهمة الأولى التي ندب الشيطان نفسه لها، هي خديعة أبينا آدم وأمنا حواء حين حلف لهما أن الله تعالى ما نهاهما عن الأكل من الشجرة إلا من أجل حرمانهما من أن يكونا ملكين أو من أجل حرمانهما من نيل الخلد والمكوث الأبدي في الجنة: }فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين|. وقال سبحانه في موضع آخر: }فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى|. قد رأى إبليس النعمة العظمى التي كان يتقلب فيها آدم وحواء في الجنة، فما كان منه إلا أن حسدهما، وأخذ يفكر في سلبهما تلك النعمة، وقد أدرك نقطة الضعف الكبرى لدى الإنسان، وهي حبه الخلود والبقاء السرمدي. وخوفه من الموت وما بعده. إن الإنسان يفعل كل ما في وسعه من أجل التشبث بهذه الحياة والبقاء فيها أطول مدة ممكنة مع الاعتراف بأن النهاية لجميع البشر هي مغادرة هذه الحياة إلى العالم الأخروي. ويبدو أن الغفلة وسوء الفهم يزيدان في ارتفاع وتيرة هذا التعلق، وإلا فإن المتوقع من أهل الإيمان أن يكون لهم موقف مختلف، حيث إن ما نعتقده في هذا الشأن هو أن المسلم إذا أدى ما افترضه الله تعالى عليه، وانتهى عما نهاه عنه لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت؛ أي أن الحياة التي يتفانى الناس بالاستمساك بها هي الحائل الوحيد بين صالحيهم وبين دخول الجنة!
حين تتعلق غرائزنا بشيء، ويصبح الحصول عليه محورًا من محاور تفكيرنا فإن من السهل علينا قبول المساومة وقبول التنازل؛ وهذا ما جرى لأبينا وأمنا، فإنهما على الرغم من تحذير الله لهما من الأكل من الشجرة، فإنهما استجابا لإغراء إبليس؛ ولذا فإن القرآن الكريم يذكرنا بضرورة أخذ العبرة مما حصل، حيث قال سبحانه: }يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون|.
- حين يحاول الشيطان إغراء الإنسان بالوقوع في معصية أو في شيء يخالف قناعاته، فإنه يصطدم بعقيدة ذلك الإنسان ووعيه الذاتي، كما يصطدم برؤاه حول ركائز الممانعة لديه، مما يجعل بالتالي نجاحه أمرًا صعبًا؛ ومن هنا فإن الشيطان يمارس نوعًا من الاستدراج في الوسوسة أو نوعًا من التحايل على الوعي من أجل تجاوز لاءاته وحساسياته، وكثيرًا ما يكون ذلك عبر تمرير الفكرة بالتقسيط. وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يأتي أحدكم، فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟. فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسله، فإن ذلك يذهب عنه». إن من الصعب على الشيطان أن يفاجئ المؤمن الراسخ الإيمان بسؤال من نوع: (من خلق الله؟) ولهذا فإنه يحاول أولاً زج من يوسوس له في سياق عام قائم على التساؤل وعدم اليقين. وورد في بعض الآثار ما يدل على أن الناس أنفسهم يقدمون المساعدة للشيطان في القيام بمهامه من خلال استخدام بعض الألفاظ أو من خلال الإغراق في الأسى والأسف على بعض ما جرى، على نحو ما نجده في قوله صلى الله عليه وسلم: «... احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»(9). إن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلمين هنا إلى طيّ ملفات الماضي بعد أخذ العبرة منها، لأن تحديث النفس بالنتائج التي يمكن أن تترتب على بعض التصرفات سيعني الأسف على شيء لا يمكن استدراكه، كما سيعني إفساح المجال للشيطان كي يُضعف إيمان المسلم بنفاذ ما قدره الله وأراد ولهذا جاء إرشاد من وقع في خطأ، أو أصيب بمصيبة أن يقول: «قدر الله، وما شاء فعل». إذًا حتى لا نفتح الباب أمام وساوس الشيطان فإن علينا أن نقف الموقف القائم على الجزم واليقين والتسليم، وإلا نكون كمن يفتح أبواب القلعة الحصينة من الداخل ليدخل منها العدو.
- إن حب الإنسان للمال والخير غير محدود بحدود، وكلما حصل على مرفه من المرفهات، نظر إليه على أنه شيء يصعب التخلي عنه أو العيش من دونه؛ وهذه الحالة ولدت لديه نوعًا من الرُهاب من المستقبل، والخوف مما يُخبئه قابل الأيام من ضيق وقلة، وجعلت مشاعره نحو موارد رزقه في حالة من التوتر الدائم. وقد وجد الشيطان في هذا مدخلاً جيدًا لوساوسه وإيحاءاته. يقول سبحانه: }الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم|. إن الشيطان يستغل خوفنا من انحسار الرزق في أن يوسوس لنا بقبض أيدينا عن الإنفاق في سبيل الله وبذل المال لمساعدة العناصر الضعيفة في المجتمع. إنه يجعل من الفقر هاجسًا ملحًا لدى الناس حتى أصحاب الثروات الطائلة، ومع ذلك فإنه يحضهم على الوقوع في الآثام والمعاصي؛ لكن الله يرشد عباده إلى عدم الاستجابة لوساوس الشيطان، فهو واسع عليم، وخزائنه تفيض بالخير العميم، وإذا وقعوا في المعاصي، فلا يقنطوا لأنه وعد بالمغفرة لمن تاب وأناب.
- يدرك الشيطان - على ما يبدو - دور الوئام الاجتماعي عامة والأسري خاصة في توفير الهناء والسعادة للناس، ومن هنا فإن إفساد العلاقات بين العباد يشكل واحدة من أولوياته. وقد ورد في الحديث الصحيح ما يشير إلى أن الشيطان الأكبر أو قائد الشياطين يتخذ من البحر قاعدة تنطلق منها جيوشه لإيقاع الناس في الفتنة والضلالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئًا. قال: ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال فيدنيه، ويقول: نِعمَ أنت»(11). إن معقد الابتلاء في حياتنا الاجتماعية هو هذا الاختلاف في الطبائع والميول والأفكار والخلفيات والمصالح والطموحات والإدراكات.. وإن أكثر ما يثير النزاع بين الناس هو تجاهل هذه الحقيقة، والإصرار من قبل كل واحد منا على أن يجعل من نفسه المحور أو الأصل، وعلى الآخرين أن يكونوا نسخة منه أو تابعين له. وقد دلت بعض الدراسات على أن معظم وقائع الطلاق يحدث في السنوات الأربع الأولى من الحياة الزوجية، وذلك - في كثير من الأحيان - بسبب عدم إدراك الزوجين لحقيقة مهمة، هي أن العلاقة بينهما يجب أن تقوم على قاعدة التخالف وليس على قاعدة التشابه. إنهما مختلفان من أجل تحقيق التكامل والتآلف. إن إبليس يستغل أوهام الناس، كما يستغل غرورهم وطموحاتهم غير المحدودة من أجل التحريش بينهم، وإفساد علاقاتهم، عليهم أن يفطنوا لذلك.
أعتقد أن أفضل ما ننتقم به من إبليس هو أن نقتبس منه روح المثابرة، ولكن في عمل الخير، واستخدام المعرفة ولكن في مقاومة الشر
منقول: للدكتور عبد الكريم بكار.
خلق الله هذه الدنيا دارًا للابتلاء، فوفر فيها كل شروط الابتلاء وكل أدواته. ولعل من أهم شروط الابتلاء تلك الظروف المعاكسة والأحوال المعيشية الصعبة إلى جانب المصائب ووضعيات الرخاء والرفاهية الزائدة. أما أهم أدواته فهي الميول والغرائز وأثمان ما يفرضه البدن من حاجات ومتطلبات، بالإضافة إلى وجود نفس توسوس، وشيطان يزين المعصية، ويصرف عن الطاعة، ويستغل نقاط الضعف. وعلى مدار التاريخ كان الوعي بالشيطان بوصفه ذاتًا شريرة وسيئة أوضح من الوعي بوساوس النفس. حيث إنه يشكل ذاتًا منفصلة ومبلورة، وليست الوساوس كذلك. حين هبط أبونا آدم وأمنا حواء من الجنة لم يهبطا وحدهما، وإنما هبط معهما إبليس أيضًا، وكان في ذلك إشارة واضحة إلى الجدلية التي ستسود في هذه الحياة: جدلية الصراع بين الحق والباطل والخير والشر، وما يجوز وما لا يجوز. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى في مواضع عدة، منها قوله - سبحانه -: }فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين"
إن التدين الحق ينشئ لدى صاحبه (عضلة أخلاقية) اعتدنا تسميتها (الضمير) أو (الوازع الداخلي). وهذه العضلة هي التي تصارع الشيطان، وتقدم للوعي الشخصي الكثير من التحذير من خطورة الانسياق وراء وساوس الشيطان. ولهذا فإن الشيطان يُبدي الكثير من الارتياح، ويحقق الكثير من النجاح في مهماته الشريرة حين يخفت صوت الضمير، أو يمنحه صاحبه إجازة مفتوحة. وهذا يعني أن على المربين والمصلحين أن يتعلموا كيف يوفرون الشروط والظروف التي توقظ الضمائر، وتؤسس لدرجة عالية من الحساسية ضد الخطأ والشر والمنكر.
إن في إمكاننا أن نقول: إن الشيطان يستخدم في عمله عين الأسلوب الذي يستخدمه (السوس) الذي ينخر في أسنان البشر. إن السوس يفضل العمل في (مقاتل الأسنان) وهي المواضع التي لا يصل إليها السواك، ولا تصل إليها الفرشاة. وهكذا الشيطان يلعب على نقاط ضعفنا وغرائزنا، ويستغل معاناتنا والثغرات الموجودة في حياتنا كي يحصل على ما يحب الوصول إليه. إن طموحاته واسعة وحركته دائبة وشاملة، والأبواب التي يدخل منها علينا تفوق الحصر والعد. ونلمس الإشارة إلى هذا فيما حكاه الله تعالى عن إبليس: }قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم. ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين"
إن هناك من النصوص ما يدل صراحة على أن البشر من خلال أخطائهم الشخصية ومن خلال ما يظهرونه من قابلية للغواية والانقياد يقدمون الأرضية التي يقف عليها الشيطان وقت وسوسته لهم. إنهم يوفرون له رأس الجسر الذي سيعبر عليه متسللاً إلى أعماقهم وأعمالهم. وهذا واضح في عدد من الآيات منها قوله سبحانه }إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم|. وقد حكى لنا القرآن الكريم جهود إبليس في التنصل من المسؤولية الملقاة على عاتقه حين قال: }قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد|. ولهذا قال أحدهم: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، وإن جزاء السيئة السيئة بعدها». وهذا يعني أن على الناس أن يوجهوا اللوم لأنفسهم عوضًا عن لوم إبليس، وأن يحموا أنفسهم من شروره من خلال المجاهدة والاستقامة، وأن يجعلوا من ملازمة الآداب والسنن خط الدفاع الأول عن الفرائض والواجبات، كما أن عليهم أن يجعلوا بينهم وبين الوقوع في الكبائر والمعاصي واقيًا منيعًا، يتمثل في تجنب الشبهات والمكروهات، وما هو موضع خلاف ونزاع، حيث إن الشيطان لا يحاول الوسوسة لشخص يقوم الليل بترك صلاة الفريضة، كما لا يوسوس لمن يتورع عن عمل شيء مختلف في جوازه بعمل شيء متفق على حرمته.
وأود الآن أن أذكر نماذج من المهمات التي يقوم بها إبليس في إضلال البشر، وذلك عبر المفردات الآتية:
- إن المهمة الأولى التي ندب الشيطان نفسه لها، هي خديعة أبينا آدم وأمنا حواء حين حلف لهما أن الله تعالى ما نهاهما عن الأكل من الشجرة إلا من أجل حرمانهما من أن يكونا ملكين أو من أجل حرمانهما من نيل الخلد والمكوث الأبدي في الجنة: }فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين. وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين|. وقال سبحانه في موضع آخر: }فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى|. قد رأى إبليس النعمة العظمى التي كان يتقلب فيها آدم وحواء في الجنة، فما كان منه إلا أن حسدهما، وأخذ يفكر في سلبهما تلك النعمة، وقد أدرك نقطة الضعف الكبرى لدى الإنسان، وهي حبه الخلود والبقاء السرمدي. وخوفه من الموت وما بعده. إن الإنسان يفعل كل ما في وسعه من أجل التشبث بهذه الحياة والبقاء فيها أطول مدة ممكنة مع الاعتراف بأن النهاية لجميع البشر هي مغادرة هذه الحياة إلى العالم الأخروي. ويبدو أن الغفلة وسوء الفهم يزيدان في ارتفاع وتيرة هذا التعلق، وإلا فإن المتوقع من أهل الإيمان أن يكون لهم موقف مختلف، حيث إن ما نعتقده في هذا الشأن هو أن المسلم إذا أدى ما افترضه الله تعالى عليه، وانتهى عما نهاه عنه لم يكن بينه وبين أن يدخل الجنة إلا أن يموت؛ أي أن الحياة التي يتفانى الناس بالاستمساك بها هي الحائل الوحيد بين صالحيهم وبين دخول الجنة!
حين تتعلق غرائزنا بشيء، ويصبح الحصول عليه محورًا من محاور تفكيرنا فإن من السهل علينا قبول المساومة وقبول التنازل؛ وهذا ما جرى لأبينا وأمنا، فإنهما على الرغم من تحذير الله لهما من الأكل من الشجرة، فإنهما استجابا لإغراء إبليس؛ ولذا فإن القرآن الكريم يذكرنا بضرورة أخذ العبرة مما حصل، حيث قال سبحانه: }يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون|.
- حين يحاول الشيطان إغراء الإنسان بالوقوع في معصية أو في شيء يخالف قناعاته، فإنه يصطدم بعقيدة ذلك الإنسان ووعيه الذاتي، كما يصطدم برؤاه حول ركائز الممانعة لديه، مما يجعل بالتالي نجاحه أمرًا صعبًا؛ ومن هنا فإن الشيطان يمارس نوعًا من الاستدراج في الوسوسة أو نوعًا من التحايل على الوعي من أجل تجاوز لاءاته وحساسياته، وكثيرًا ما يكون ذلك عبر تمرير الفكرة بالتقسيط. وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الشيطان يأتي أحدكم، فيقول: من خلق السماء؟ فيقول: الله. فيقول من خلق الأرض؟ فيقول: الله. فيقول: من خلق الله؟. فإذا وجد ذلك أحدكم فليقل: آمنت بالله ورسله، فإن ذلك يذهب عنه». إن من الصعب على الشيطان أن يفاجئ المؤمن الراسخ الإيمان بسؤال من نوع: (من خلق الله؟) ولهذا فإنه يحاول أولاً زج من يوسوس له في سياق عام قائم على التساؤل وعدم اليقين. وورد في بعض الآثار ما يدل على أن الناس أنفسهم يقدمون المساعدة للشيطان في القيام بمهامه من خلال استخدام بعض الألفاظ أو من خلال الإغراق في الأسى والأسف على بعض ما جرى، على نحو ما نجده في قوله صلى الله عليه وسلم: «... احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل فإن (لو) تفتح عمل الشيطان»(9). إن النبي صلى الله عليه وسلم يوجه المسلمين هنا إلى طيّ ملفات الماضي بعد أخذ العبرة منها، لأن تحديث النفس بالنتائج التي يمكن أن تترتب على بعض التصرفات سيعني الأسف على شيء لا يمكن استدراكه، كما سيعني إفساح المجال للشيطان كي يُضعف إيمان المسلم بنفاذ ما قدره الله وأراد ولهذا جاء إرشاد من وقع في خطأ، أو أصيب بمصيبة أن يقول: «قدر الله، وما شاء فعل». إذًا حتى لا نفتح الباب أمام وساوس الشيطان فإن علينا أن نقف الموقف القائم على الجزم واليقين والتسليم، وإلا نكون كمن يفتح أبواب القلعة الحصينة من الداخل ليدخل منها العدو.
- إن حب الإنسان للمال والخير غير محدود بحدود، وكلما حصل على مرفه من المرفهات، نظر إليه على أنه شيء يصعب التخلي عنه أو العيش من دونه؛ وهذه الحالة ولدت لديه نوعًا من الرُهاب من المستقبل، والخوف مما يُخبئه قابل الأيام من ضيق وقلة، وجعلت مشاعره نحو موارد رزقه في حالة من التوتر الدائم. وقد وجد الشيطان في هذا مدخلاً جيدًا لوساوسه وإيحاءاته. يقول سبحانه: }الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم|. إن الشيطان يستغل خوفنا من انحسار الرزق في أن يوسوس لنا بقبض أيدينا عن الإنفاق في سبيل الله وبذل المال لمساعدة العناصر الضعيفة في المجتمع. إنه يجعل من الفقر هاجسًا ملحًا لدى الناس حتى أصحاب الثروات الطائلة، ومع ذلك فإنه يحضهم على الوقوع في الآثام والمعاصي؛ لكن الله يرشد عباده إلى عدم الاستجابة لوساوس الشيطان، فهو واسع عليم، وخزائنه تفيض بالخير العميم، وإذا وقعوا في المعاصي، فلا يقنطوا لأنه وعد بالمغفرة لمن تاب وأناب.
- يدرك الشيطان - على ما يبدو - دور الوئام الاجتماعي عامة والأسري خاصة في توفير الهناء والسعادة للناس، ومن هنا فإن إفساد العلاقات بين العباد يشكل واحدة من أولوياته. وقد ورد في الحديث الصحيح ما يشير إلى أن الشيطان الأكبر أو قائد الشياطين يتخذ من البحر قاعدة تنطلق منها جيوشه لإيقاع الناس في الفتنة والضلالة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة. يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا وكذا. فيقول: ما صنعت شيئًا. قال: ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته. قال فيدنيه، ويقول: نِعمَ أنت»(11). إن معقد الابتلاء في حياتنا الاجتماعية هو هذا الاختلاف في الطبائع والميول والأفكار والخلفيات والمصالح والطموحات والإدراكات.. وإن أكثر ما يثير النزاع بين الناس هو تجاهل هذه الحقيقة، والإصرار من قبل كل واحد منا على أن يجعل من نفسه المحور أو الأصل، وعلى الآخرين أن يكونوا نسخة منه أو تابعين له. وقد دلت بعض الدراسات على أن معظم وقائع الطلاق يحدث في السنوات الأربع الأولى من الحياة الزوجية، وذلك - في كثير من الأحيان - بسبب عدم إدراك الزوجين لحقيقة مهمة، هي أن العلاقة بينهما يجب أن تقوم على قاعدة التخالف وليس على قاعدة التشابه. إنهما مختلفان من أجل تحقيق التكامل والتآلف. إن إبليس يستغل أوهام الناس، كما يستغل غرورهم وطموحاتهم غير المحدودة من أجل التحريش بينهم، وإفساد علاقاتهم، عليهم أن يفطنوا لذلك.
أعتقد أن أفضل ما ننتقم به من إبليس هو أن نقتبس منه روح المثابرة، ولكن في عمل الخير، واستخدام المعرفة ولكن في مقاومة الشر
منقول: للدكتور عبد الكريم بكار.