نور الدين الدمشقي
04-07-2011, 06:24 PM
النبوة
يذكر لنا التاريخ على مدار الزمن أنه ظهر في الأقوام القديمة أشخاص يدّعون أن الله خالق الكون أرسلهم إلى الناس يدعونهم إلى عبادته ويعلمونهم ويرشدونهم إلى الحق وإلى الخير والإحسان إلى الخلق وإعطاء كل ذي حق حقه والابتعاد عن الظلم وبالجملة التمسك بالمعروف والأمر به والبُعد عن المنكر والنهي عنه، وأن الله أعدّ للمؤمنين الذين يتبعونهم سعادة دائمة وللكافرين شقاء أبدياً في حياة ثانية ينتصف فيها المظلومون من الظالمين ويأخذ كل ذي حق حقه، ويسمى هؤلاء الذين يتكلمون عن الله (الأنبياء).
وهؤلاء الأنبياء لم يكونوا إلا ممن عرفوا بالصدق في القول والعمل وحُسن السيرة والعفة في كل شيء ولم يُؤثر عنهم أنهم كذبوا على أحد أو كان فيهم ما يشين. وبالجملة كانوا هم الصفور من بني الإنسان والمثل الأعلى له.
ويذكر لنا التاريخ أن هؤلاء كانوا مزودين بقوى غيبية يعجز عنها بقية البشر يستدلون بها على صدق نبوتهم من إخبار بالغيوب أو أفعال خارقة كقلب العصا حيّة وتكثير الماء والطعام وفَرْقِ البحر ونحو ذلك من الآيات إضافة إلى مضمون الدعوة السامي الذي يأمر بكل خير وينهى عن كل شر والذي يرتضيه كل عقل سليم.
فهل – يا ترى – كان هؤلاء (الأنبياء) كاذبين في دعواهم وأنهم تواطأوا على الكذب؟ هل كان هذا الصنف الذي لم يُعرف عنه إلا الصدق في القول والاستقامة في العمل مفترياً على الله؟ فمن يصدق إذن إذا كذب هؤلاء؟ إنهم لم يكذبوا البتة على أحد فهل يمنعون الكذب على الناس ويستجيزونه على الله؟
نحن نرى أناساً من بيننا ممن عُرفوا بالصدق وشبّوا عليه وآثروه يصدقهم الناس فيما يقولون ويعسر علينا تذكيبهم لما لمسنا منهم في حياتهم الطويلة من إيثارهم للصدق وإن أضرّ بهم وابتعادهم عن الكذب وإن جرّ منفعة لهم أو أدّى بهم إلى الهَلَكة، لأنا نعلم أن الذي يعتاد على الصدق وينشأ عليه ويتخذه منهاجاً له يصعب عليه أن يذكب وذلك شأن الأنبياء فإنه من الصعوبة تكذيبهم لما عرف عنهم من الصدق والتزام ذلك البتة بل إنهم أعلى الخلق صدقاً وخلقاً.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى لا نظن أن الله خالق الخلق يترك عباده بلا هداية ولا إرشاد يتخبطون في حياتهم الدنيا، فالنبوة فيما نرى ضرورة للبشر من أوجه متعددة:
1. من ناحية العلاقة بين الإنسان وخالقه، من ينظِّمها؟ وكيف يعرف الناس ما يرضي ربهم ويغضبه؟ إنهم إذا أُوكلوا إلى رأيهم ضلّوا وتفرقوا. ألا ترى أن منهم من يعبد الحجر ومنهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد النجم ومنهم من يعبد البقر ومنهم من يعبد القردة إلى غير ذلك من الآلهة المضحكة التي ليس لها حصر، ولا يزال ذلك إلى يومنا هذا، ثم ألا ترى إلى اختلاف الشعائر والعبادات فمن الطوائف من يعدّ الزنى عبادة، ومنهم من يعده فاحشة كبيرة، ومنهم من يُحرِّم لحم الخنزير ومنهم من يستحله، ومنهم من يشرب الخمر ومنهم من يمنعها وهكذا. أفلا ترى إزاء ذلك أن البشر في حاجة إلى الله يعرِّفهم بنفسه ويرشدهم إلى الطريق الصحيح الذي ضلوا عنه ويهديهم إلى سبيل رضاه وينهاهم عما يؤدي إلى الإضرار بهم وإلى غضبه وعقابه؟
إن من لوازم ربوبية الله لخلقه أن يبين لهم ذلك كله وأن يهيئ لهم سبل تفهم هذا البيان وخير هذه السبل إنزال هذا البيان على أناس من البشر يخاطبونهم بلسانهم ويبلِّغونهم ما أنزله الله عليهم.
وهؤلاء هم الأنبياء والقول بخلاف ذلك جهلٌ بربوبية الله وتنقيض لقدره تعالى يتنزه عنه. قال تعالى (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ (91) الأنعام).
2. العقل الإنساني ناقص وهذا أمر مسلَّم به، ألا ترى أنه قد تأتيه مسائل يصعب عليه معرفة وجه الحق فيها ويدخل في الظن والتخمين وذلك دليل نقصه إذ لو كان كاملاً لعرف وجه الحق في كل مسألة ولما احتاج إلى الظن والتخمين، ودليل نقصه أيضاً أنه يزداد علماً ومعرفة بمرور الوقت بالتجارب والمطالعات وكلما ازداد تجربة واطلاعاً ازداد علماً ومعرفة وهذا دليل نقصه إذ لو كان كاملاً ما احتاج إلى ذلك وما ازداد علماً ومعرفة لأنه كامل.
ثم إن وسائل الإنسان للوصول إلى الحق ناقصة. فالحواس ناقصة معرضة للخطأ فالين لها مدى للرؤية لا تتعداه، وهي لا تبصر الحركات البطيئة كحركة عقرب الساعة
أو حركة الكوكب كما لا تبصر الحركات السريعة فهناك عجلات تدور بسرعة يصعب معها تمييز حركتها. ثم إن لعين لا تبصر كثيراً مما حولنا. فهي لا ترى الكهرباء وإنما ترى آثارها عندما تشعل مصباحاً أو تدير مروحة، وهي لا ترى الهواء ولا كثيراً من الغازات ولا كثيراً من الإشعاعات فهي لا تبصر الماء الرائق في القدح ولا تبصر الزجاج الصافي في النافذة.
وهي تخطئ أيضاً فقد ترى البنايات المتنائية المتباعدة بجنب بعضها وهناك أمثلة يضربها المتخصصون لتبيين أخطاء النظر.
والأذن كذلك، فهي ناقصة إذ هي لا تسمع الأصوات الخفيفة كحركة النملة ولا تسمع الأصوات البعيدة كما لا تسمع الأصوات الهائلة كالانفجارات المدوية، فإنها تسمع الإنفجار الأول الذي يصم الأذن ثم لا تسمع ما بعده من أصوات الإنفجارات الهائلة، وقد يحجب الصوت القريب الصوت البعيد وهكذا وذلك لأن الأوتار السمعية محدودة الدرجة فهي لا تسمع ما يتعدى هذه الدرجة علواً وانخفاضاً.
وهكذا بقية الحواس. فالعقل الإنساني ناقص في نفسه، ناقص في الآلآت التي تزود بالمعلومات.
فالإنسان على هذا في حاجة إلى عقل كامل لا يعتريه الخطأ ينظم له أموره ويبين له علاقته بربه وبغيره من المخلوقات وإلا ضلّ وتاه واختلف مع غيره من ذوي العقول في الوصول إلى الحكم الصحيح.
3. العقل البشري غير قادر للوصول إلى الحكم الصحيح في كثير من المسائل الرئيسة. ولذا اختلف مفهوم الحق عند الناس، وأظهر دليل على اختلاف العقل الإنساني في الوصول إلى الحق أو إلى الرأي الصحيح ما نراه في كل وقت من اختلاف أرباب العقول في اتجاهاتهم فمنهم من يرى أن الإتجاه المادي في الحياة هو الصواب ومنهم من يرى عكس ذلك، ومنهم من يرى أن طريق الرأسمالية هو الصحيح وآخر يذهب إلى الشيوعية وآخر إلى الاشتراكية وآخر إلى غيرها، وقسم يدعو إلى القومية وآخر إلى الإنسانية، وقسك يدعو إلى الحرية وآخر يدعو إلى الدكتاتورية، وقسم يدعو إلى التحفظ وآخر يدعو إلى الانطلاق وهكذا، ولا شك أن الحق لا يمكن أن يكون مع كل هؤلاء، وهم كلهم بلا شك أرباب عقول.
فهذا الاختلاف الحاصل الذي نراه في زماننا وفي كل زمان يدلنا دلالة واضحة على أن العقل الإنساني غير قادر وحده للوصول إلى الحق الكامل وإلى الرأي الصحيح في المسائل كلها.
فالنبوة ضرورة لتدارك الخلق ولتعريفهم بالطريق الصحيح الذي أخطأوه وضلّوا عنه وإلا فقد قضى الله على خلقه بالشقاء.
ألست ترى أنه في هذا العصر الذي تقدّم فيه العلم تقدماً هائلاً لم يستطع البشر أن يتبين الطريق الصحيح للسير في هذه الحياة؟ ولم يُتفق على واحد بعينه؟
ثم – يا ترى – أي عقل يؤخذ ليتفق عليه البشر؟ أهو عقل مادي أو عقل روحاني؟ أهو عقل فلسفي أم واقعي؟ أهو عقل تجاري مصلحي أم عقل متسامٍ إيثاري؟ أهو عقل شيوعي أم عقل رأسمالي أو بينهما؟
ثم ستخرج بمرور الزمن عقليات متباينة وأفكار متضاربة يزداد معها الاختلاف والتباين فمتى يصل الناس إلى الحق أو إلى الطريق الصحيح؟!
4. التشريعات البشرية يسيطر عليها الهوى والمصلحة الضيقة في الغالب إضافة إلى النقص الفطري في واضعيها، وإذا هي نجت من الهوى في نطاق بلد معين لم تنج منه بالنسبة لخارج هذا البلد، ولا أدلّ على ذلك من تشريعات الدول التي تمس مصالح الدول الأخرى وفيها كل الظلم لها كما نشاهده في علاقات الدول الكبرى مع الصغرى وما تشرّعه من تشريعات تبيح إنفاق الأموال الطائلة لتقويض الدول الصغيرة وامتصاص خيراتها وقتل أبنائها، بل إن الهوى يسيطر على واضعي القوانين ويسوغ لهم ظلم فريق من أبناء البلد الواحد لاعتبارات باطلة سخيفة لا يقرِّها عقل سليم كما نشاهده في تشريعات أميركا بالنسبة للسود من مواطنيها.
5. إن التشريعات مهما كانت صالحة في نفسها لا يمكنها أن تؤدي إلى المطلوب منها إلا إذا ظفرت بقدر كبير من الاحترام لها والخضوع الذاتي والنفسي لواضعيها على نحوٍ يحملُ الأفراد على طاعتها طاعة اختيارية في السر والعلن، وبدون ذلك لا يمكن لأي تشريع مهما كان صالحاً في نفسه أن يجد طريقة في التطبيق لأن سبل التفلت منه كثيرة ولا تستطيع القوة ولا الإرهاب حملَ الناس على طاعته الطاعة المطلوبة، وحتى إذا
نجحت في ذلك حسب الظاهر، فإن ذلك لا يكون إلا إلى حين وبالتالي يسقط التشريع أو يبقى قائماً ولكنه ميت. والشواهد على ذلك كثيرة منها ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية في عصرنا الحالي. فقد حاولت أن تمنع مواطنيها من شرب الخمر عن طريق التشريع، فاصدرت قانوناً بتحريم الخمر صنعاً وبيعاً ومتاجرة وشرباً واستيراداً، وهددت بالعقوبات القاسية لكن يرتكب شيئاً من ذلك، وقد مهّدت لتشريعه بكل وسائل الإعلام من صحف ومجلات وغيرها واستعانت بالمختصين من أطباء واجتماعيين وأساتذة لبيان مضارّ الخمر كلٌ في نطاق اختصاصه، وأنفقت في سبيل ذلك ملايين الدولارات ثم شرعت القانون، فماذا كانت النتيجة؟ كانت نتيجة ذلك أن المواطنين لم يكفّوا عن شرب الخمر والمتاجرة به لأن الهوى كان أكبر من هذا القانون وكانت نفوسهم خالية من الاحترام والهيبة لواضعيه وخالية من الخضوع الذاتي لهم بحيث يعينهم على قهر أهواء نفوسهم وبالتالي إلى طاعة هذا القانون.
وبخلاف ذلك كان تحريم الخمر في الاسلام مانعاً لأولئك المسلمين الأولين الذين عاصروا الجاهلية وتعودوا على شرب الخمر من شربها لأن نفوسهم كانت عامرة بالخضوع لله رب العالمين وممتلئة هيبة واحتراماً له، مما يقتضي الوقوف عند حدوده وتحريمه وتحليله.
6. ثم إن الذين يشرِّعون للناس يجيئون إلى السلطة عن طرق معروفة قد يكون عن طريق القوة، أو عن طريق الانتخابات التي تُشترى فيها الأصوات، ولنفترض أنهم جاؤوا عن طريق صحيح لم يُشتَر فيه ضمير ولكن أليس في المجتمع نظائرهم أو من هم أكفى منهم أو أعلم منهم بالتشريع. فقد يكون في المجتمع من هو أعلى منهم كعباً في العلم والتشريع، وأنأى عن المصلحة الضيقة وأبعد عن الهوى ولكن لم يستطيعوا الوصول إلى سدة التشريع، فهؤلاء لهم وجهات نظر وملاحظات على القانون المشترع وبهذا لا يكون في نفوسهم احترام له أو تقدير وبهذا يتعالون على التشريع ويهوِّنون من شأنه ولا يُلزمون أنفسهم بتطبيقه لأن أولئك ليسوا أولى من هؤلاء بالتشريع. ولذلك نرى لأنه إذا جاءت حكومة في أعقاب حكومة ثانية أو فئة في أعقاب فئة ثانية تهدم كثيراً من القوانين والأنظمة بحجة أنها مصلحية أو غير عادلة أو بإدّعاءات أخرى قد تكون صحيحة أو باطلة.
ثم إن الذين يشرِّعون لا يكون في أنفسهم ذلك الإحترام العالي للنظام لأنهم يعرفون كيف شرعوه ويعلمون أنهم قادرون على إبداله متى شاؤوا.
أما إذا كان الشارع هو الله، فالجميع أمامه سواء ولا يحدث من جانب أحد تعالٍ عليه أو ترفّع عنه أو ادّعاء أن عليه ملاحظات جديرة بالقبول!!!
ولذا فالنبوة ضرورة لحسم مثل هذه الأمور.
7. ثم نظرة من ناحية أخرى، إننا نرى أن الكون ذو نظام دقيق وضعت له كل العوامل التي تهيئ للحياة على الأرض وبالتالي لظهور الإنسان على الأرض، والكون مخلوق مسخّرٌ للإنسان. قال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ (13) الجاثية). فليس من المعقول أن يجعل الله هذا النظام الدقيق المحكم لظهور الإنسان ويترك الإنسان نفسه بلا نظام ولا قانون.
إنه من تمام الانسجام أن يضع الله للبشر تشريعاً ينظِّم علاقاتهم مه الله والناس، تشريعاً يسيرون عليه كما وضع النظام للكواكب والشمس والقمر وكما رسم السنن لهذا الوجود.
لذا نرى أن النبوة ضرورة لا معدى عنها، ولم يقدر الله حقّ قدره مَنْ يدّعي أن الله لم يرسل نبياً، إذ معنى ذلك أن الله سبحانه رضي لخلقه أن يتخبطوا ويتفرقوا ورضي لخلقه أن يسير بهم الضلال في كل مركب وأن يكلهم إلى أنفسهم مع أنهم غير مزودين للوصول إلى الكمال أو ما يقرب من ذلك. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ (91) الأنعام).
منقول.
يذكر لنا التاريخ على مدار الزمن أنه ظهر في الأقوام القديمة أشخاص يدّعون أن الله خالق الكون أرسلهم إلى الناس يدعونهم إلى عبادته ويعلمونهم ويرشدونهم إلى الحق وإلى الخير والإحسان إلى الخلق وإعطاء كل ذي حق حقه والابتعاد عن الظلم وبالجملة التمسك بالمعروف والأمر به والبُعد عن المنكر والنهي عنه، وأن الله أعدّ للمؤمنين الذين يتبعونهم سعادة دائمة وللكافرين شقاء أبدياً في حياة ثانية ينتصف فيها المظلومون من الظالمين ويأخذ كل ذي حق حقه، ويسمى هؤلاء الذين يتكلمون عن الله (الأنبياء).
وهؤلاء الأنبياء لم يكونوا إلا ممن عرفوا بالصدق في القول والعمل وحُسن السيرة والعفة في كل شيء ولم يُؤثر عنهم أنهم كذبوا على أحد أو كان فيهم ما يشين. وبالجملة كانوا هم الصفور من بني الإنسان والمثل الأعلى له.
ويذكر لنا التاريخ أن هؤلاء كانوا مزودين بقوى غيبية يعجز عنها بقية البشر يستدلون بها على صدق نبوتهم من إخبار بالغيوب أو أفعال خارقة كقلب العصا حيّة وتكثير الماء والطعام وفَرْقِ البحر ونحو ذلك من الآيات إضافة إلى مضمون الدعوة السامي الذي يأمر بكل خير وينهى عن كل شر والذي يرتضيه كل عقل سليم.
فهل – يا ترى – كان هؤلاء (الأنبياء) كاذبين في دعواهم وأنهم تواطأوا على الكذب؟ هل كان هذا الصنف الذي لم يُعرف عنه إلا الصدق في القول والاستقامة في العمل مفترياً على الله؟ فمن يصدق إذن إذا كذب هؤلاء؟ إنهم لم يكذبوا البتة على أحد فهل يمنعون الكذب على الناس ويستجيزونه على الله؟
نحن نرى أناساً من بيننا ممن عُرفوا بالصدق وشبّوا عليه وآثروه يصدقهم الناس فيما يقولون ويعسر علينا تذكيبهم لما لمسنا منهم في حياتهم الطويلة من إيثارهم للصدق وإن أضرّ بهم وابتعادهم عن الكذب وإن جرّ منفعة لهم أو أدّى بهم إلى الهَلَكة، لأنا نعلم أن الذي يعتاد على الصدق وينشأ عليه ويتخذه منهاجاً له يصعب عليه أن يذكب وذلك شأن الأنبياء فإنه من الصعوبة تكذيبهم لما عرف عنهم من الصدق والتزام ذلك البتة بل إنهم أعلى الخلق صدقاً وخلقاً.
هذا من ناحية، من ناحية أخرى لا نظن أن الله خالق الخلق يترك عباده بلا هداية ولا إرشاد يتخبطون في حياتهم الدنيا، فالنبوة فيما نرى ضرورة للبشر من أوجه متعددة:
1. من ناحية العلاقة بين الإنسان وخالقه، من ينظِّمها؟ وكيف يعرف الناس ما يرضي ربهم ويغضبه؟ إنهم إذا أُوكلوا إلى رأيهم ضلّوا وتفرقوا. ألا ترى أن منهم من يعبد الحجر ومنهم من يعبد الشمس والقمر ومنهم من يعبد النجم ومنهم من يعبد البقر ومنهم من يعبد القردة إلى غير ذلك من الآلهة المضحكة التي ليس لها حصر، ولا يزال ذلك إلى يومنا هذا، ثم ألا ترى إلى اختلاف الشعائر والعبادات فمن الطوائف من يعدّ الزنى عبادة، ومنهم من يعده فاحشة كبيرة، ومنهم من يُحرِّم لحم الخنزير ومنهم من يستحله، ومنهم من يشرب الخمر ومنهم من يمنعها وهكذا. أفلا ترى إزاء ذلك أن البشر في حاجة إلى الله يعرِّفهم بنفسه ويرشدهم إلى الطريق الصحيح الذي ضلوا عنه ويهديهم إلى سبيل رضاه وينهاهم عما يؤدي إلى الإضرار بهم وإلى غضبه وعقابه؟
إن من لوازم ربوبية الله لخلقه أن يبين لهم ذلك كله وأن يهيئ لهم سبل تفهم هذا البيان وخير هذه السبل إنزال هذا البيان على أناس من البشر يخاطبونهم بلسانهم ويبلِّغونهم ما أنزله الله عليهم.
وهؤلاء هم الأنبياء والقول بخلاف ذلك جهلٌ بربوبية الله وتنقيض لقدره تعالى يتنزه عنه. قال تعالى (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ (91) الأنعام).
2. العقل الإنساني ناقص وهذا أمر مسلَّم به، ألا ترى أنه قد تأتيه مسائل يصعب عليه معرفة وجه الحق فيها ويدخل في الظن والتخمين وذلك دليل نقصه إذ لو كان كاملاً لعرف وجه الحق في كل مسألة ولما احتاج إلى الظن والتخمين، ودليل نقصه أيضاً أنه يزداد علماً ومعرفة بمرور الوقت بالتجارب والمطالعات وكلما ازداد تجربة واطلاعاً ازداد علماً ومعرفة وهذا دليل نقصه إذ لو كان كاملاً ما احتاج إلى ذلك وما ازداد علماً ومعرفة لأنه كامل.
ثم إن وسائل الإنسان للوصول إلى الحق ناقصة. فالحواس ناقصة معرضة للخطأ فالين لها مدى للرؤية لا تتعداه، وهي لا تبصر الحركات البطيئة كحركة عقرب الساعة
أو حركة الكوكب كما لا تبصر الحركات السريعة فهناك عجلات تدور بسرعة يصعب معها تمييز حركتها. ثم إن لعين لا تبصر كثيراً مما حولنا. فهي لا ترى الكهرباء وإنما ترى آثارها عندما تشعل مصباحاً أو تدير مروحة، وهي لا ترى الهواء ولا كثيراً من الغازات ولا كثيراً من الإشعاعات فهي لا تبصر الماء الرائق في القدح ولا تبصر الزجاج الصافي في النافذة.
وهي تخطئ أيضاً فقد ترى البنايات المتنائية المتباعدة بجنب بعضها وهناك أمثلة يضربها المتخصصون لتبيين أخطاء النظر.
والأذن كذلك، فهي ناقصة إذ هي لا تسمع الأصوات الخفيفة كحركة النملة ولا تسمع الأصوات البعيدة كما لا تسمع الأصوات الهائلة كالانفجارات المدوية، فإنها تسمع الإنفجار الأول الذي يصم الأذن ثم لا تسمع ما بعده من أصوات الإنفجارات الهائلة، وقد يحجب الصوت القريب الصوت البعيد وهكذا وذلك لأن الأوتار السمعية محدودة الدرجة فهي لا تسمع ما يتعدى هذه الدرجة علواً وانخفاضاً.
وهكذا بقية الحواس. فالعقل الإنساني ناقص في نفسه، ناقص في الآلآت التي تزود بالمعلومات.
فالإنسان على هذا في حاجة إلى عقل كامل لا يعتريه الخطأ ينظم له أموره ويبين له علاقته بربه وبغيره من المخلوقات وإلا ضلّ وتاه واختلف مع غيره من ذوي العقول في الوصول إلى الحكم الصحيح.
3. العقل البشري غير قادر للوصول إلى الحكم الصحيح في كثير من المسائل الرئيسة. ولذا اختلف مفهوم الحق عند الناس، وأظهر دليل على اختلاف العقل الإنساني في الوصول إلى الحق أو إلى الرأي الصحيح ما نراه في كل وقت من اختلاف أرباب العقول في اتجاهاتهم فمنهم من يرى أن الإتجاه المادي في الحياة هو الصواب ومنهم من يرى عكس ذلك، ومنهم من يرى أن طريق الرأسمالية هو الصحيح وآخر يذهب إلى الشيوعية وآخر إلى الاشتراكية وآخر إلى غيرها، وقسم يدعو إلى القومية وآخر إلى الإنسانية، وقسك يدعو إلى الحرية وآخر يدعو إلى الدكتاتورية، وقسم يدعو إلى التحفظ وآخر يدعو إلى الانطلاق وهكذا، ولا شك أن الحق لا يمكن أن يكون مع كل هؤلاء، وهم كلهم بلا شك أرباب عقول.
فهذا الاختلاف الحاصل الذي نراه في زماننا وفي كل زمان يدلنا دلالة واضحة على أن العقل الإنساني غير قادر وحده للوصول إلى الحق الكامل وإلى الرأي الصحيح في المسائل كلها.
فالنبوة ضرورة لتدارك الخلق ولتعريفهم بالطريق الصحيح الذي أخطأوه وضلّوا عنه وإلا فقد قضى الله على خلقه بالشقاء.
ألست ترى أنه في هذا العصر الذي تقدّم فيه العلم تقدماً هائلاً لم يستطع البشر أن يتبين الطريق الصحيح للسير في هذه الحياة؟ ولم يُتفق على واحد بعينه؟
ثم – يا ترى – أي عقل يؤخذ ليتفق عليه البشر؟ أهو عقل مادي أو عقل روحاني؟ أهو عقل فلسفي أم واقعي؟ أهو عقل تجاري مصلحي أم عقل متسامٍ إيثاري؟ أهو عقل شيوعي أم عقل رأسمالي أو بينهما؟
ثم ستخرج بمرور الزمن عقليات متباينة وأفكار متضاربة يزداد معها الاختلاف والتباين فمتى يصل الناس إلى الحق أو إلى الطريق الصحيح؟!
4. التشريعات البشرية يسيطر عليها الهوى والمصلحة الضيقة في الغالب إضافة إلى النقص الفطري في واضعيها، وإذا هي نجت من الهوى في نطاق بلد معين لم تنج منه بالنسبة لخارج هذا البلد، ولا أدلّ على ذلك من تشريعات الدول التي تمس مصالح الدول الأخرى وفيها كل الظلم لها كما نشاهده في علاقات الدول الكبرى مع الصغرى وما تشرّعه من تشريعات تبيح إنفاق الأموال الطائلة لتقويض الدول الصغيرة وامتصاص خيراتها وقتل أبنائها، بل إن الهوى يسيطر على واضعي القوانين ويسوغ لهم ظلم فريق من أبناء البلد الواحد لاعتبارات باطلة سخيفة لا يقرِّها عقل سليم كما نشاهده في تشريعات أميركا بالنسبة للسود من مواطنيها.
5. إن التشريعات مهما كانت صالحة في نفسها لا يمكنها أن تؤدي إلى المطلوب منها إلا إذا ظفرت بقدر كبير من الاحترام لها والخضوع الذاتي والنفسي لواضعيها على نحوٍ يحملُ الأفراد على طاعتها طاعة اختيارية في السر والعلن، وبدون ذلك لا يمكن لأي تشريع مهما كان صالحاً في نفسه أن يجد طريقة في التطبيق لأن سبل التفلت منه كثيرة ولا تستطيع القوة ولا الإرهاب حملَ الناس على طاعته الطاعة المطلوبة، وحتى إذا
نجحت في ذلك حسب الظاهر، فإن ذلك لا يكون إلا إلى حين وبالتالي يسقط التشريع أو يبقى قائماً ولكنه ميت. والشواهد على ذلك كثيرة منها ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية في عصرنا الحالي. فقد حاولت أن تمنع مواطنيها من شرب الخمر عن طريق التشريع، فاصدرت قانوناً بتحريم الخمر صنعاً وبيعاً ومتاجرة وشرباً واستيراداً، وهددت بالعقوبات القاسية لكن يرتكب شيئاً من ذلك، وقد مهّدت لتشريعه بكل وسائل الإعلام من صحف ومجلات وغيرها واستعانت بالمختصين من أطباء واجتماعيين وأساتذة لبيان مضارّ الخمر كلٌ في نطاق اختصاصه، وأنفقت في سبيل ذلك ملايين الدولارات ثم شرعت القانون، فماذا كانت النتيجة؟ كانت نتيجة ذلك أن المواطنين لم يكفّوا عن شرب الخمر والمتاجرة به لأن الهوى كان أكبر من هذا القانون وكانت نفوسهم خالية من الاحترام والهيبة لواضعيه وخالية من الخضوع الذاتي لهم بحيث يعينهم على قهر أهواء نفوسهم وبالتالي إلى طاعة هذا القانون.
وبخلاف ذلك كان تحريم الخمر في الاسلام مانعاً لأولئك المسلمين الأولين الذين عاصروا الجاهلية وتعودوا على شرب الخمر من شربها لأن نفوسهم كانت عامرة بالخضوع لله رب العالمين وممتلئة هيبة واحتراماً له، مما يقتضي الوقوف عند حدوده وتحريمه وتحليله.
6. ثم إن الذين يشرِّعون للناس يجيئون إلى السلطة عن طرق معروفة قد يكون عن طريق القوة، أو عن طريق الانتخابات التي تُشترى فيها الأصوات، ولنفترض أنهم جاؤوا عن طريق صحيح لم يُشتَر فيه ضمير ولكن أليس في المجتمع نظائرهم أو من هم أكفى منهم أو أعلم منهم بالتشريع. فقد يكون في المجتمع من هو أعلى منهم كعباً في العلم والتشريع، وأنأى عن المصلحة الضيقة وأبعد عن الهوى ولكن لم يستطيعوا الوصول إلى سدة التشريع، فهؤلاء لهم وجهات نظر وملاحظات على القانون المشترع وبهذا لا يكون في نفوسهم احترام له أو تقدير وبهذا يتعالون على التشريع ويهوِّنون من شأنه ولا يُلزمون أنفسهم بتطبيقه لأن أولئك ليسوا أولى من هؤلاء بالتشريع. ولذلك نرى لأنه إذا جاءت حكومة في أعقاب حكومة ثانية أو فئة في أعقاب فئة ثانية تهدم كثيراً من القوانين والأنظمة بحجة أنها مصلحية أو غير عادلة أو بإدّعاءات أخرى قد تكون صحيحة أو باطلة.
ثم إن الذين يشرِّعون لا يكون في أنفسهم ذلك الإحترام العالي للنظام لأنهم يعرفون كيف شرعوه ويعلمون أنهم قادرون على إبداله متى شاؤوا.
أما إذا كان الشارع هو الله، فالجميع أمامه سواء ولا يحدث من جانب أحد تعالٍ عليه أو ترفّع عنه أو ادّعاء أن عليه ملاحظات جديرة بالقبول!!!
ولذا فالنبوة ضرورة لحسم مثل هذه الأمور.
7. ثم نظرة من ناحية أخرى، إننا نرى أن الكون ذو نظام دقيق وضعت له كل العوامل التي تهيئ للحياة على الأرض وبالتالي لظهور الإنسان على الأرض، والكون مخلوق مسخّرٌ للإنسان. قال تعالى (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ (13) الجاثية). فليس من المعقول أن يجعل الله هذا النظام الدقيق المحكم لظهور الإنسان ويترك الإنسان نفسه بلا نظام ولا قانون.
إنه من تمام الانسجام أن يضع الله للبشر تشريعاً ينظِّم علاقاتهم مه الله والناس، تشريعاً يسيرون عليه كما وضع النظام للكواكب والشمس والقمر وكما رسم السنن لهذا الوجود.
لذا نرى أن النبوة ضرورة لا معدى عنها، ولم يقدر الله حقّ قدره مَنْ يدّعي أن الله لم يرسل نبياً، إذ معنى ذلك أن الله سبحانه رضي لخلقه أن يتخبطوا ويتفرقوا ورضي لخلقه أن يسير بهم الضلال في كل مركب وأن يكلهم إلى أنفسهم مع أنهم غير مزودين للوصول إلى الكمال أو ما يقرب من ذلك. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً (وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ (91) الأنعام).
منقول.