المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رمضان يرد على اللادينين والملحدين



شاهد عيان
10-06-2005, 06:36 PM
رمضان يرد على اللادينين والملحدين

لاحظتُ كما لاحظ غيري هنا أن كثيرًا من الملحدين يؤمنون بعقائد الجبرية التي تقول: إن الإنسان مسير، وليس مخيرًا، وأنه يقع تحت الجبر وليس له من الاختيار أي شيء، فهو مسلوب الإرادة.
حتى وصل الأمر بتلك التي دخلت المنتدى من قريب باسم ((لادينية)) لتقول في رابط آخر ما نصه:

عندما يتخلص الإنسان من عقدة الخوف من النار والوعيد يصبح قادرآ علي النقد الجرئ وتجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها الدين امام معتنقيه من اجل عدم الخروج عليه , ويصبح قادرآ علي التفكير السليم بعيدآ عن العوامل المؤثرة والتي قد تشل تفكيره فلا يقوي علي البحث الصحيح ويعيش متقوقعآ داخل اسوار دينه الموروث ...

وكثيرآ ما تصورت نفسي امام الله يسألني لماذا لم تؤمني بالإسلام يا رانيا فأجد الإجابة عندي جاهزة ما هي حجتك علي يا رب ؟
هل كان لك حجة علي وانا انكرتها ؟؟
وإن كانت لك فعلآ حجة علي فلماذا انكرها الا اذا كنت مجنونة ولكني غير ذلك , وان كان لك حجة فلماذا يراها البعض ولا يراها البعض الآخر هل حجتك حكر علي بشر دون الآخرين ؟؟
لماذا يري ابوجهاد حجتك بينما انا لا اراها , هل عقله افضل من عقلي , وهل انا من اختارت عقلها , فلماذا التمييز اذن
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?p=23215#post23215

والآن وقد بقي نحو الربع ساعة تقريبًا على إفطار يوم الخميس الثالث من رمضان المبارك لعام 1426 من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم:
جلست أتدبر شأن الصيام العجيب وحِكَمه التي لا تنقضي، فرأيتُ أنه عبادة خفية لا يطلع عليها غير الإنسان.
فالصلاة مثلاً عبادة ظاهرة أراها ويراها غيري على من يصلي، لأن بها من الركوع والسجود وهيئات الصلاة ما يستلزم ظهورها.
وكذلك الحج وغيره من الأعمال البدنية التي تدل بهيئاتها على حقيقتها وظهورها.
فأنا حينما أرى راكعًا أو ساجدًا لا أكون بحاجة إلى سؤاله: هل أنت في صلاة أم في حج؟ بخلاف ما لو رأيت ملايين البشر فلا أجزم من يا ترى منهم الصائم ومن المفطر!
عبادة كما سبق باطنية قلبية، وسرٌّ مصون بين الله عز وجل وبين خلقه.
ونظرًا لسرِّيتها فقد تفضل الكريم المنان بثوابها سِرًّا ليناسب الثواب العمل في الإسرار، وهذه من لطائف الشريعة الإسلامية وتناسب أركانها حيث تتناسب مع بعضها البعض في لطائف رائعة تدل العقول على أنها من لدن خبير لطيف عظيم كريم حكيم عزيز سبحانه وتعالى.

فما الذي يدفعك أيها الصائم إلى الصوم؟
أهو الجبر والقهر والذل كما يقول اللادينيون والملحدون؟
أهو عقدة الخوف من النار كما تقول الكاتبة التي تكتب باسم ((لادينية)) وسبق نقل كلامها هنا؟

إنه سِرٌّ أيها الصائم لا يعلم به سوى الله عز وجل؟
فماذا يدفعك لتحقيق السر، والالتزام بما لا يعلمه سوى الله؟
أين القهر؟
أين عقدة الخوف من النار؟

سيقول اللادينيون: عقدة الخوف من النار موجودة في النصوص الشرعية الكثيرة التي تحرم على المسلم الإفطار في نهار رمضان مع القدرة على الصيام، وغير ذلك.
وأقول: صحيح النصوص الناهية عن الإفطار في نهار رمضان موجودة بلا شك، ولا ريب فيها أبدًا.
لكن أليست النار غيبًا لا يُرَى بالعين المجردة ولا حتى بالميكروسكوب؟
فما الذي يدفعك أيها الصائم للإيمان بالغيب أصلاً؟
وما الذي يدفعك لتحويل الغيب الذي لا يُرى بالعين ولا تلمسه جوارحك إلى يقينٍ جازمٍ لديك؟

الجواب بلا تعقيد: إنها الثقة المتناهية واليقين الجازم في صدق الله عز وجل فيما يقوله، والحب اللامتناهي للتقرب إلى الله عز وجل، والتزلّف والتملق إلى الله عز وجل بالطاعات والقُرَب.

نعم أيها الصائم الكريم هذا ما يدفعك إلى الإيمان بالغيب، كما وأنه هو هو نفسه ما يدفعك إلى الإتيان بعبادة السر التي لا يعلمها إلا الله عز وجل.

الموضوع كله كما نرى غيب في غيبٍ، فالإيمان به يحتاج إلى قوة أخرى وأدلة خارجية تثبته، فهل يصلح الجبر والإرهاب والقهر والذل على إجبار الناس بالإيمان بالغيب والإتيان بعبادة السر؟
سؤال مهم يوجه إلى اللادينين والملحدين؟
وسنريح أنفسنا من انتظار أجوبتهم العليلة ونجيب بالنفي مرة ومائة مرة بل وألف ومليون مرة على هذا السؤال.

لا يصلح القهر ولا الذل ولا عقدة النار في دفع الناس للإيمان بالغيب أو للإتيان بعمل السر.
لأنه من غير المعقول أن أراقب ما لا أراه، فما الدليل عند صاحب العقدة أو صاحب القهر والذل للناس على إتيانهم بما لا يراه هو أصلا ولا يعلم به؟
فلم يعد أمامنا خيار إلا:
أولا: الاعتراف بأن الدافع على الإيمان بالغيب والإتيان بعبادة السر هو الحب اللامتناهي لله عز وجل ولذاته الكريمة والتملق إليه بكافة وسائل الحب والطاعة، ثم اليقين الجازم والثقة اللامتناهية في كلامه حين قامت في النفس أمارات صدقه سبحانه وتعالى على الدوام فيما أخبر به أو قاله.
ثانيًا: الاعتراف بأن الله عز وجل هو الخالق المستحق للعبادة؛ لأنه هو وحده الذي يعلم السر، وهو وحده الخبير بعبادة السر، وما يكون فيها، فلو لم يكن خالقًا عليمًا لما قدر على معرفة ذلك، فدل هذا على أنه الخالق العليم القادر.

وإذا كان هو سبحانه وتعالى الخالق والعالم والخبير، وإذا كانت النفس هي هي التي اعترفت له بذلك، ثم هي التي أحبته وتملقت إليه، فلم يعد لنا بعد ذلك من خيار في أنه سبحانه وتعالى هو المستحق بفصل القضاء في كل أمورها، وأنه سبحانه وتعالى هو وحده الحاكم على النفس، وله الحكم والحجة عليها.
وفي هذه اللحظة انطلق مدفع الإفطار وبدء المؤذن في النداء للصلاة فحانت لحظة التوقف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

شاهد عيان
10-06-2005, 08:01 PM
أواصل ما توقفت عنده عند انطلاق مدفع الإفطار الآن، وبعد أن أفطرنا وفرحنا بفطرنا ودعونا الله عز وجل أن يتقبل منا الصيام، ودعوات أخرى لنا ولأحبابنا ولأمواتنا وأحيائنا، وبعدها أرجع إلى ما كنتُ فيه:

ما الذي يدفعك أيها الصائم المستسر بعبادتك لله عز وجل إلى الإيمان بالغيب إيمانًا مطلقًا لا رجعة فيه ولا مثنوية، وما الذي يدفعك إلى الإتيان بعبادات السر؟
اتفقنا سلفًا أنه الحب اللامتناهي، والثقة واليقين اللامتناهي في الله عز وجل وصدقه فيما أخبر به وقال، وقد اتفقنا أن القهر والإذلال وعقدة النار لا يمكن بحال من الأحوال أن تؤدي إلى الإيمان بالغيب ولا الإتيان بعبادة السر؛ لأنه بعفوائية متناهية يمكن استخدام التقية أو الكذب والإيمان بخلاف ما نقول.
ألا يمكن عند القهر والذل وعقدة النار أن أقول خلاف ما أفعل؟ بلى يمكن لي ذلك، خاصة وأنني سأخبر عن أمرٍ باطني لا يمكن التحقق منه بحال من الأحوال، ولا يمكن لغيري من بني البشر معرفته.
إذن نتفق الآن على أن عالم السر وأخفى من السر لابد أن يكون أعلى من البشر، فهو أعلم من البشر، ربما كانت قوة خارقة أو غيرها، ولكن هل ستعلم القوة الخارقة سر الإنسان؟
بالطبع لا.
إذن من يا تُرى سيعلم سر الإنسان وبإمكانه محاكمتِه عليه؟
لابد وأن يكون صانعًا للإنسان وخالقًا له حتى يعلم طبيعته ويصل إلى معرفة سره.
فمن خلق الإنسان؟
إنه الله عز وجل، الذي خلق، ثم هدى.
فإذا خلق وهدى فهو أعلم بصنعتِه، وأحق بالتحكم فيها، وأقدر على تنظيم أمورها وما يصلحها، فله الحجة عليها بلا شك.
ويصور لنا القرآن الكريم هذا المعنى الجميل في مشهد رائع وآيات سامية، حيث يقول الله عز وجل:
{قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ. كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ. فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا المَاءَ صَباًّ. ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقاّ. فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَباًّ. وَعِنَباً وَقَضْباً. وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً. وَحَدَائِقَ غُلْباً. وَفَاكِهَةً وَأَباًّ. مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} [عبس:17 - 32].

في هذه الآيات الكريمات يقرر المولى سبحانه وتعالى الأمر من بدايته إلى نهايته.
فيذكر سبحانه وتعالى أنه قد خلق الإنسان، ولم يتركه هملاً، بل تفضل عليه حين كان نطفة لا قيمة لها فقدَّرَه إنسانًا عاقلاً، ثم يسره سبيله، وهداه وأرشده، وظل مراعيًا له، فصب له الماء صبًّا، وشقَّ له الأرض فأخرج له من بطونها ألوانًا من الأطعمة والخيرات، متاعًا للإنسان ولأنعام الإنسان.
خلق وهدى وأرشد ثم أطعم وشفى، وتكفل برزقه وما يصلح له حياته، أفلا يستحق بعد ذلك أن يُعْبَد وحده لا شريك له؟
بلى يستحق العبادة، ولذا نعى سبحانه وتعالى على أولئك المعرضين بقوله: (قُتِل الإنسان ما أكفره..) إلى آخر الآيات.
فهي كما يقول المَثَل العامي عندنا: (يا أخي خلي عندك شوية دم) خلقك وسواك وعدلك وأحسن صورتك وهداك وأرشدك وتكفل برزقك وما يصلحك وينفعك، ثم تعترض عليه بعد ذلك أو تتنكر له، أو تزعم أنه ليس مستحقًا للعبادة، أو لا يملك الحكم على صنعته كيف يشاء؟
يا ابن آدم خليك عادل ولا تتنكر للجميل.

شاهد عيان
10-06-2005, 08:18 PM
ونضيف هنا أيضًا أنه ما دام أن الله عز وجل هو وحده عالم السر، وهو وحده خالق الإنسان والعالم بما يصلحه، فهذا يعني بدون مقدمات ولا إطالة في الكلام أنه هو وحده المتصرف فيه، وهو وحده القادر على الحكم عليه، وهو وحده الذي يملك الحجة والقدرة على الإنسان.
وما دمنا نعلم أن ضرب المثال يُظهر المقصود فلا مانع من ضرب المثال:
ما رأيكم لو قلتُ لكم: إن شركة الأمن الغذائي المختصة بإنتاج الدواجن وبيض المائدة قد عقدت صفقة عمرها اليوم مع شركة مصر للطيران على أن تقوم شركة إنتاج الدواجن بإصلاح عدة طائرات معطوبة لدى شركة مصر للطيران؟
هل تصدقون هذا الخبر؟
بالطبع لا
لماذا؟
لأنه غير مطابق للمعقول أبدًا؛ لأنه لا دخل للدواجن وإنتاجها بإصلاح الطائرات وعطبها.
لكنكم في الوقت نفسه تصدقوني لو قلتُ لكم: إن شركة بوينج المختصة بإنتاج الطائرات قد عقدت صفقة مع مصر للطيران لإصلاح بعض الطائرات المعطوبة.

فما السر الذي يكمن وراء تصديق القضية الثانية دون الأولى؟
السر يكمن في أن القضية الأولى غير مطابقة للحقيقة لأنه لا شأن لتربية الدواجن بالعلم بإصلاح الطائرات، لكن في القضية الثانية مطابقة للمعقول وهو أن الشركة المنتجة والمصنعة للطائرات هي وحدها التي لها الحق والعلم بما يصلح الطائرات المعطوبة، ولا دخل لمنتجي الدواجن ولا مستوردي اللحوم الفاسدة في هذه المسألة أصلا.

وهنا يأتي السؤال المهم:
لماذا نسلم بهذه القضية في حق الإنسان والطائرات، ولا نسلم بها في حق الله؟
لماذا الكيل بمكيالين؟
أليس هو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان وصنعه؟
فلماذا بعد أن خلقه وصنعه يعترض البعض؟
ألا يدل هذا على جحود المعترض للحقيقة والواقع، ومخالفته لما عليه العقلاء؟
بلي يدل على خروج المعترض عن صراط العقل القويم والحجة الدامغة التي تدل على أن الله الذي صنع وخلق سبحانه وتعالى هو العالم الخبير بما يصلح للإنسان وما ينفعه، ولا خيار لنا الآن إلا التسليم بأن الله عز وجل هو مالك أمر الإنسان والمتصرف فيه، وهو وحده الذي يدين له الإنسان بالحكم المطلق والطاعة المطلقة، كما وأنه سبحانه هو وحده الذي يملك التصرف المطلق في الإنسان لأنه صنعته، وهو أعلم بصنعتِه.

شاهد عيان
10-07-2005, 03:31 PM
دافع الحب

دخلت إحدى المحال التجارية بالأمس فوجدت شابتين صغيرتين تمسك كل منهما بمصحفٍ وتنهمك في القراءة وكأنهما ينتظران لحظة الوفاة فيخشيان من فوات الأجل قبل الاستزادة من القرآن، أو كراكب القطار حين يرى القطار قادمًا فيحاول جاهدًا إدراك إحدى المقاعد وسط الزحام لينجو من عناء الزحام ومصائبه.

لفت انهماك الشابتين في قراءة القرآن نظري وأخذتُ أسأل نفسي: لماذا يفعلان هذا؟ فأجابتني النفس ببراعة نادرة فكأنها قالت لي: كما تفعله أنت يفعله غيرك.

سبحان الله.
ما أعظم الله في سماه، وما أحلمه في علاه، جل وعز.

لقد فرض الله عز وجل علينا صيام رمضان، ولم يفرض علينا قراءة القرآن، ثم لو أن المسألة مسألة روتين يومي، أو حتى لو كانت استزادة من الحسنات بعدد معين ربما كان لها حد، أو لم يكن ثمة ما يدفعنا إليها بهذه الدرجة العالية، وكأنَّنا نسارع جيشًا قادمًا، أو نسابق زمنًا في علاج من يكون الزمن فيصلا في علاجه وإنقاذ روحه!!

ما دافعك أيها الصائم؟
ما الذي يحرك مشاعرك، ويستحث خطاك لتجري مسرعة نحو القرآن الكريم؟

إنه ((الحب)).
نعم ((الحب)).

إنه ((حب الله)) عز وجل الذي تمتلئ به نفس المؤمن النقي التقي، وترتوي منه قلوب المسلمين.
إنه ((حب الله)) عز وجل الذي لا يدانيه حب بشر ولا مخلوق، كما قال سبحانه وتعالى: (والذين آمنوا أشدُّ حبًّا لله).
فهم أشد حبًّا لله عز وجل من غيره.
وهم الذين عبدوه حق عبادته، فجمعوا بين حبه وخوفه في آنٍ واحدٍ، عملا بقوله سبحانه وتعالى في صفة عباده: (يدعوننا رَغَبًا ورَهَبًا).
فاستحقوا صفة الله فيهم حين وصفهم بأنهم (يسارعون) في ماذا يا رب؟ يأتي الجواب (في الخيرات).

(ربنا إننا سمعنا مناديًا أن آمنوا بربكم فآمنا) هكذا يلخص المؤمنون حالتهم في سرعة استجابتهم وحبهم لله عز وجل، وسرعة طاعتهم وإيمانهم به.

إنه ((الحب)).
ولذا كانت خاتمة المحبين لله عز وجل: ((للذين أحسنوا الحسنى وزيادة)) كما في الآية المباركة، والزيادة هي ((لذة النظر إلى وجه الله عز وجل)) وهذا لا يكون إلا لمن أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
فاللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب عملٍ يقربني إلى حبك.

muslimah
10-08-2005, 10:57 AM
http://www.55a.net/firas/arabic/index.php?page=show_det&id=563

شاهد عيان
10-09-2005, 04:57 AM
جزاكم الله خيرًا وبارك فيكم.

شاهد عيان
10-09-2005, 08:28 AM
عندنا في كلامنا الدارج نقول: (الحب يصنع المعجزات) أو (حبيبك يمضع لك الزلط وعدوك يتمنى لك الغلط) وقديمًا قال مجنون ليلى:

أَمُرُّ على الديار ديار ليلى ..... أُقَبِّل ذا الجدار وذا الجدار
وما حُبّ الديار شغفن قلبي.....ولكن حُب من سكن الديار

نرجع لقضية ((الحب)) الذي يربط العباد بربهم سبحانه وتعالى، ويربطهم بدينهم وبنبيهم صلى الله عليه وسلم، ولننقل هنا نصًا عجبًا.
ففي صحيح الإمام البخاري رحمة الله عليه (2734) في القصة الطويلة في مسألة صُلْحِ الحديبية نرى مبعوث كفار قريش (عروة بن مسعود) كما في نص الحديث: ((ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنَيْهِ قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ، تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ وَإِذَا أَمَرَهُمْ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ))أهـ

أين الكبت أو القهر أو الإرهاب؟ لا محل لهذه المصطلحات هنا، بل حتى لا محل هنا لتأثير الترغيب على العلاقة والتعظيم الحاصل من الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم.
فهو صلى الله عليه وسلم في صحراء جرداء، وحرارة شمسٍ، وسفرٍ طويلٍ من المدينة حتى بلغ الحديبية، وأصحابه قد أصابهم الجهد والتعب، شأنهم شأن المسافر في مثل هذه المسافات الطويلة، والجو الحار، والوسيلة الخشنة، إما على ظهر بعيرٍ أو فرسٍ، فلا طائرة ولا مكيفات ولا غيرها مما تيسر لنا الآن.
الكل مجهد، متعبٌ، ولا لوم على أحدٍ لو جلس واستراح برفقة الناس، ولا بأس أبدًا على الجالسين، وما ثمة ترهيب ولا حتى ترغيب في هذا الموطن، فالكل هنا سواسيه، وليست ثمة عروض لجنة أو نار، ولا طلب النبي صلى الله عليه وسلم الخدمة شيئًا من أحدٍ.
لكننا نلحظ أن المتعبين رفضوا الراحة، وأن المجهدين من السفر رأوا لذتهم وراحتهم في لذة القرب من النبي صلى الله عليه وسلم، حبًّا فيه، أو كما يقول الحديث: ((تعظيمًا له)).
ويصف مبعوث الكفر الأمر وصفًا دقيقًا فيقول فيما قال: ((أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَمَّدًا، )).
فانظر إلى المقارنة المذكورة والدافع عليها؟
لم يذهب الكافر العدو المتربص بالمسلمين الدوائر ليزرع أشواك العدواة والبغضاء في صفوف المسلمين فيقول: لقد ضحك عليكم نبيكم وأغلق عليكم تفكيركم بالإرهاب تارة وبالترغيب والوعود تارة أخرى؟ ولو رأى ذلك لما أخفاه وهو العدو اللدود للمسلمين.
لكنه كالعرب القدماء من ذوي الصدق في الكلام والأمانة في نقل وتصوير الصورة كما هي ((بلا رتوش)) يرى أن تعظيم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يفوق كافة ما رآه من تعظيم أصحاب الملوك لملوكهم!
وما ذاك إلا لاختلاف الدافع.
فرق بين النائحة والثكلى، وليست النائحة المستأجرة للنوح كالثكلى صاحبة الهم والغم.
فرق بين المستأجر بأجرٍ للحراسة أو غيرها، أو الموظف الذي يؤدي عملا مفروضًا عليه، مفاده كذا وكذا، وشروطه كذا وكذا.
فرقٌ بين هؤلاء جميعًا وبين رجلٍ لا يرفع بصره في النبي صلى الله عليه وسلم ((تعظيمًا له))، حبًّا فيه، واحترامًا وإجلالاً له صلى الله عليه وسلم.

مشرف 5
10-09-2005, 08:39 AM
بارك الله بك أخي الكريم على هذه السلسلة الرمضانية ،،، سيتم تثبيت الموضوع طيلة شهر رمضان المبارك.

احمد المنصور
10-09-2005, 01:41 PM
بارك الله في الأخوين الكريمين شاهد عيان، ومشرف 5.

شاهد عيان
10-09-2005, 05:33 PM
بارك الله في الأخوين الكريمين شاهد عيان، ومشرف 5.
وبارك الله فيكم أخانا الفاضل أحمد المنصور، وجزاكم الله خير الجزاء.

شاهد عيان
10-09-2005, 05:36 PM
والحقيقة أن ((الحب)) أساسٌ في كثيرٍ من تشريعاتنا الإسلامية، وينبغي لنا الاعتراف أولاً بأن ((الحب)) شيءٌ زائدٌ على الرضى، فمجرَّد الرضى بالأمر لا يعني الحب له، فقد يقع الرضى مع الكراهة، وقع يقع الرضى المجرَّد عن ((الحب)).
ولكن الإسلام في علاقاته بأفراده أراد أن تكون العلاقة قائمة على حبهم له، بناءً على قناعةٍ داخليةٍ قائمةٍ على العقل والشعور معًا.

وانظر في هذا الحديث الموجز الكلمات ماذا يقول؟
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ)) رواه البخاري (13)، ومسلم (45).
وفي روايةٍ لهذا الحديث: ((حَتَّى يُحِبّ لأَخِيهِ الْمُسْلِم مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ مِنْ الْخَيْر)).
قال الإمام ابن حجر في شرحه على صحيح البخاري رحمهم الله: ((فَبَيَّنَ الْمُرَاد بِالْأُخُوَّةِ, وَعَيَّنَ جِهَة الْحُبّ... وَالْمُرَاد بِالنَّفْيِ كَمَال الإِيمَان , وَنَفْي اِسْم الشَّيْء - عَلَى مَعْنَى نَفْي الْكَمَال عَنْهُ - مُسْتَفِيض فِي كَلامهمْ كَقَوْلِهِمْ : فُلان لَيْسَ بِإِنْسَانٍ... وَقَدْ صَرَّحَ اِبْن حِبَّانَ مِنْ رِوَايَة اِبْن أَبِي عَدِيّ عَنْ حُسَيْن الْمُعَلِّم بِالْمُرَادِ وَلَفْظه: (لا يَبْلُغ عَبْد حَقِيقَة الإِيمَان) وَمَعْنَى الْحَقِيقَة هُنَا الْكَمَال؛ ضَرُورَة أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِف بِهَذِهِ الصِّفَة لا يَكُون كَافِرًا,.. و(الْخَيْر) كَلِمَة جَامِعَة تَعُمّ الطَّاعَات وَالْمُبَاحَات الدُّنْيَوِيَّة وَالْأُخْرَوِيَّة, وَتُخْرِج الْمَنْهِيَّات لأَنَّ اِسْم الْخَيْر لا يَتَنَاوَلهَا. وَالْمَحَبَّة إِرَادَة مَا يَعْتَقِدهُ خَيْرًا, قَالَ النَّوَوِيّ : الْمَحَبَّة الْمَيْل إِلَى مَا يُوَافِق الْمُحِبّ, وَقَدْ تَكُون بِحَوَاسِّهِ كَحُسْنِ الصُّورَة, أَوْ بِفِعْلِهِ إِمَّا لِذَاتِهِ كَالْفَضْلِ وَالْكَمَال, وَإِمَّا لإِحْسَانِهِ كَجَلْبِ نَفْع أَوْ دَفْع ضَرَر. اِنْتَهَى... وَالْمُرَاد هُنَا بِالْمَيْلِ الِاخْتِيَارِيّ دُون الطَّبِيعِيّ وَالْقَسْرِيّ, وَالْمُرَاد أَيْضًا أَنْ يُحِبّ أَنْ يَحْصُل لأَخِيهِ نَظِير مَا يَحْصُل لَهُ, لا عَيْنه, سَوَاء كَانَ فِي الأُمُور الْمَحْسُوسَة أَوْ الْمَعْنَوِيَّة, وَلَيْسَ الْمُرَاد أَنْ يَحْصُل لأَخِيهِ مَا حَصَلَ لَهُ لا مَعَ سَلْبه عَنْهُ وَلا مَعَ بَقَائِهِ بِعَيْنِهِ لَهُ؛ إِذْ قِيَام الْجَوْهَر أَوْ الْعَرَض بِمَحَلَّيْنِ مُحَال... قَالَ الْكَرْمَانِيّ: وَمِنْ الْإِيمَان أَيْضًا أَنْ يَبْغَض لِأَخِيهِ مَا يَبْغَض لِنَفْسِهِ مِنْ الشَّرّ , وَلَمْ يَذْكُرهُ لِأَنَّ حُبّ الشَّيْء مُسْتَلْزِم لِبُغْضِ نَقِيضه , فَتَرَكَ التَّنْصِيص عَلَيْهِ اكْتِفَاءً))انتهى.
فانظر ما وقع هنا: فالإيمان حاصلٌ وليس كافرًا من لم يحب لأخيه ما يحب لنفسِه، لكنَّه في الوقت نفسه ناقص الإيمان غير مكتمله؛ إلا إذا أحبَّ لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه من الخير!!
الإيمان حاصل، ولا كفر أو عقاب على عدم الحب في هذا الموطن؛ لكن نظرة الإسلام وعلاقته القائمة على الحب تأبى إلا أن يرتبط مع أتباعه ويرتبطون هم مع بعضهم بدافع الحب الاختياري لا الطبيعي ولا القسري أو القهري!

وانظر في هذا الحديث الآخر الذي رَوَتْهُ أُمُّ المؤمنين عَائِشَةُ رضي الله عنها وهي تصف بعض الجوانب من حياة النبي صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: ((وَالَّذِي ذَهَبَ بِهِ مَا تَرَكَهُمَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ وَمَا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى ثَقُلَ عَنْ الصَّلاةِ وَكَانَ يُصَلِّي كَثِيرًا مِنْ صَلاتِهِ قَاعِدًا؛ تَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّيهِمَا وَلا يُصَلِّيهِمَا فِي الْمَسْجِدِ مَخَافَةَ أَنْ يُثَقِّلَ عَلَى أُمَّتِهِ وَكَانَ يُحِبُّ مَا يُخَفِّفُ عَنْهُمْ)) رواه البخاري (590) ومسلم (835).
ومثل هذا في صلاته صلى الله عليه وسلم لصلاة قيام الليل في بيته، مخافة أَن تُفْرَضَ على أُمَّتِه!
فهل من يرحم ويخفف يمكن أن يقال في حقِّه: إنه أجبر وقهر وكبت وأرهب؟!
اللهم لا وألف لا.

وأكتفي بهذه الإشارة السريعة الآن، على أمل أن نعودَ إليها بالمزيد إن شاء الله عز وجل.
والمهم الإشارة إلى أن مَن يَرْحم عِبَادَهُ ويخفف عنهم، ثم يجتهد النبي صلى الله عليه وسلم في تحقيق سُبُل التخفيف عن المسلمين؛ فمَن يَرْحَم ويرأف ويُخَفِّف لن يعامل عِبَادَهُ بالقهر أبدًا، ولن يقهرهم على ما يشق عليهم أبدًا، ولن يجبرهم على ما لا يختارونه بأنفسهم طواعية، وحُبًّا فيما يعملون ويعتقدون، فلا كبت لدينا ولا قهر ولا يحزنون.
تدبرت ذلك فوجدتُ أنه يتنافى مع الكبت والقهر والإذلال، أو معاملة المسلمين بالجبر والفرض عليهم قسرًا وجبرًا بلا اختيار، فعجبتُ جدًا ممن يقولون: الإسلام هو دين الكبت والإرهاب، أو أولئك الذين يقولون: إن الترهيب في الإسلام قد أغلق عقول المسلمين وسَدَّ عليهم طرق التفكير وأفزعهم فآمنوا رغمًا عن أنفهم!!
وهذا ما تأباه نصوص الشريعة، وروحها، وأصولها، وقواعدها.
والنصوص أمامك أيها العاقل فَتَدَبَّر بعقلك، ودعك مما ترسَّب في نفسك من وساخات الإعلام المشبوه أو المشوه، وتدبَّر بعقلك ما ذكرتُه لك.
أريد عقلك الواعي أن يطرح الدنيا كلها خلف ظهره ثم يتدبَّر: هل من يخفف عن أمة الإسلام ويعاملهم بهذه المعاملة الرحيمة يمكن أن يقال في حَقِّه: إنه قد قهرهم أو أجبرهم على شيءٍ؟!
اللهم؛ لا وألف لا.

شاهد عيان
10-12-2005, 03:15 PM
ومِمَّا يدل على إرادة الإسلام للتخفيف على المسلمين، والرحمة والشفقة بهم: ما رواه الإمامان الكبيران البخاري (1943) ومسلم (1121) رحمة الله عليهما، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَأَصُومُ فِي السَّفَرِ -وَكَانَ كَثِيرَ الصِّيَامِ-؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ شِئْتَ فَصُمْ وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ)).
وفي لفظ لمسلم: عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَجِدُ بِي قُوَّةً عَلَى الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ فَهَلْ عَلَيَّ جُنَاحٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((هِيَ رُخْصَةٌ مِنْ اللَّهِ، فَمَنْ أَخَذَ بِهَا فَحَسَنٌ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يَصُومَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ)).

فالمسافر قد رخَّص الله عز وجل له أن يفطر في رمضان، بلا لوم ولا حرج، وثمة أصناف أخرى من الناس قد رخص الله عز وجل لها الفطر في رمضان، وهذه الرخصة الربانية تلفت الانتباه إلى أن التخفيف على المسلمين، والرحمة بالعبادة أمرٌ مقصودٌ، بل هو مقصدٌ من المقاصد السامية للشريعة الإسلامية.

ولذا رأينا عددًا من القواعد تصب في هذا المعنى اللطيف، وصارت الضرورة عاملاً فاعلاً في التأثير على الأحكام، فهي تفرض شيئًا خاصًا بها على الحكم لم يكن موجودًا قبل وجودها، ولذا رأينا فقهاء الإسلام يقعدون في قواعدهم: ((الضرورات تُبِيح المحظورات)) غير أنهم قدَّروا الضرورة بقدرها، وضبطوها بضوابطها فقالوا: ((الضرورة تُقَدَّر بقدرها)).

كما رأينا فقهاء الإسلام يذكرون هذا المعنى أيضًا في مثل قولهم: ((المشقة تجلب التيسير))، فمشقة السفر مثلا تجلب التيسير على المسافر بجواز صلاة الصلوات الرباعية ركعتين فقط، كما يجوز له الفطر في رمضان.

ورأيناهم يذكرون هذا المعنى أيضًا في قولهم: ((رفع الحرج))، أو ((الضرر يزال)) ونحو هذه القواعد الأصيلة في الفقه الإسلامي الرصين، والمأخوذة أصلا من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.

دعني أستحث عقلك أيها النبيه الفَطِن أينما كنتَ: هل تصدق في مثل هذه الشريعة الإسلامية القائمة على الرحمة والشفقة بالعباد أن تكون هي هي تلك الشريعة التي يقول عنها إعلام الغرب ما يقول؟
هل تصدق أنها هي هي شريعة الكبت والقهر والذل والرأي الواحد؟ أو هي شريعة الغاب؟ كما يحلو للملاحدة واللادينين أن يصفوها بين الفينة والفينة؟!

أستحث فيك عقلك أيها النابه الفطن الذكي، أن تُفكِّر بعقلك ونباهتك ورشدك، لا بقلبك وعواطفك: هل تصدق فيمن يرحم، ويخفف، ويرفع الضرر، ويزيل الحرج، بل يجيز المحرمات القطعية عند الضرورة، وييسر في المشقات؛ هل تصدق فيمن هذا حاله أن يسلك سبيل الكبت والقهر وما سواها من الأوصاف التي يحكونها في الإعلام عن جهلٍ وعدم بصرٍ بالحقيقة؟ هذا إن لم تكن مقصودة بغرض التشويش وقلب الحقائق؟

ثم دعني أيها النابه الفطن الذكي أينما كنتَ أسألك: أيهما تختار؟ شريعة من يخفف عنك ويقول لك (على سبيل المثال لا الحصر): إذا استحالت الحياة بينك وبين زوجتك لأمرٍ ما فطلقها بمعروفٍ وإحسانٍ، واحفظ ما كان بينكما من عهدٍ وودٍ وعشرةٍ، فلا تفحش القول، ولا تأتي بمنكرٍ من الأفعال والأعمال، أم شريعة الذي يقول لك: هي زوجة واحدة إن لم تعجبك فامكث بجراحك مدى الحياة، ولا يحق لك حتى مجرد الأنين، مِمَّا يدفعك للإعراض عن الزواج تارةً، أو الفجور والفاحشة تارةً أخرى، سواء قبل الزواج أم بعده؟

أستحث فيك عقلك أيها النابه الفطن الذكي أن تختار بين الشريعتين؟ وأن تقارن؟ أيهما يُشبع عقلك ويعالج قلبك؟
سأترك لك الجواب، وأرجو أن لا تخدع نفسك أكثر مِمَّا خدعتها به وسائل الإعلام!!

شاهد عيان
10-12-2005, 04:30 PM
القرآن كلام الله عز وجل ضرورةً وحتمًا

تدبرتُ حِرْص الملايين من المسلمين على قراءة القرآن، فظهر لي من ذلك الشيء الكثير من الحكم والفوائد، سأجتهد في سردها هنا تِبَاعًا إن شاء الله عز وجل.
وأبدأ ذلك بدلالة ذلك على أن القرآن كلام الله عز وجل.
ودلالة ذلك من غير وجهٍ، غير أنني أعتذر للقراء عن ترك الاستفاضة في الحديث عن هذا الأمر في مثل هذه الخواطر الرمضانية الموجزة.

تدبر معي أيها القارئ النابه الذكي العاقل ما ذكره اليهود والنصاري وحكوه عن الله عز وجل من كلامٍ، فكلٌّ منهم يزعم أن لله سبحانه وتعالى كلامٌ تكلَّم به سبحانه وتعالى.
الكل يحكي عن الله عز وجل كلامًا قاله الله عز وجل.
كذلك الحال بالنسبة لجميع الأنبياء فكلٌّ منهم قد أرسله الله عز وجل إلى قومٍ من الأقوام، وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة.

المهم أيها القارئ النابه الذَّكِي الفطن العاقل أن تتخلَّى الآن من رواسب الإعلام المشوه والدراسات المختلة التي تهدف إلى قلب حقائق الإسلام الناصع البياض.
تخلي معي أيها القارئ النابه الفطن العاقل عن أقوال الملحدين واللادينين والمستشرقين وغيرهم وفَكِّر معي بعقلك الذكي:
إذا كان لجميع الأنبياء كتب أرسلهم الله عز وجل بها، وإذا كانت هذه الكتب قد اشتملت على كلامٍ لله عز وجل، ألا يدل هذا أيها القارئ الذكي على أن الله عز وجل لا يرسل نبيًّا إلا بكتابٍ يقرأه على قومه ويبلغهم ما كتبه الله عز وجل له فيه من كلامه؟

فإذا كان الله عز وجل قد جَرَتْ عادته بإرسال كل نبيٍّ من الأنبياء بكتابٍ من الكتب، يكتب له فيه من كلام الله عز وجل وأحكامه ما شاء الله عز وجل له أن يكتبه، ألا يدل ذلك أيها القارئ الذكي العاقل على ضرورةِ أن يكون الله عز وجل قد أرسل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وأعطاه كتابًا كتب له لله عز وجل فيه ما شاء الله عز وجل من كتابه؟
هل في ذلك من شكٍّ أيها القارئ الفطن الذكي العاقل؟

ضرورة العادة الربانية في إرسال الرسل ومعهم كتبهم تستلزم أن يكون خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم قد جاء بكتابٍ من الله عز وجل هو أيضًا.
ثم إن ضرورة الدعوة والرسالة تستلزم كتابًا يجمع أحكام الشريعة الجديدة ليقوم النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس.

كل هذا وغيره يدل دلالة واضحة للعاقل النابه الذكي العاقل على ضرورة وجود كتاب وكلام لله عز وجل قد أَيَّد به سبحانه وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم، تمامًا كما أيَّد الله عز وجل موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء عليهم السلام بكتبه وكلامه عز وجل.
وأنبياء الله عز وجل لا فرق بينهم إلا في اختلاف الشرائع، غير أنهم كما وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم: ((إخوة لِعِلاَّت، أُمهاتهم شتَّى، ودينهم واحد)) رواه البخاري (3443)، ومسلم (2365).
يعني دين الإسلام فهو الذي أرسل الله عز وجل به جميع الأنبياء، لكنهم كما اختلفوا في ((الشرائع))، ولم يختلفوا في أصل الدين أبدًا، وقد ورد النص بذلك صريحًا في القرآن الكريم في أكثر من مناسبة، ولعلي أتعرض لذلك فيما بعدُ إن شاء الله عز وجل.

المهم هنا أيها القارئ الذكي العاقل النابه الفطن أننا اتفقنا أنه لابد من وجود كلام لله عز وجل، وكتاب لله عز وجل قد أَيَّد الله عز وجل به نبي الإسلام وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم.
فهل تعلم أيها القارئ العاقل كتابًا للنبي صلى الله عليه وسلم غير القرآن كلام الله الذي أيَّدَه الله عز وجل به؟

تَدَبَّر أيها القارئ العاقل الفطن بعقلك الذكي اعتراف البشرية كلها بأن القرآن هو كتاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وقد أقر بذلك جميع البشر، مسلمهم وكافرهم.
فأقرَّ المسلمون بأن القرآن هو كتاب الله عز وجل الذي أَيَّدَ به النبي صلى الله عليه وسلم، وآمنوا بذلك واعتقدوه.
كما أقرَّ بذلك أهل الملل الأخرى المخالفة للإسلام، ولم ينكروا أبدًا أن القرآن هو الكتاب الذي أَيَّد الله به النبي صلى الله عليه وسلم؛ بدليل معارضتهم له بأنواع المعارضات، وطعوناتهم فيه بألوان الطعونات.
فلو كان شيئًا هامشيًا لم يكن لهم ليتعرضوا له أصلا.
ولو كانوا لا يعتقدون أنه هو الكتاب الذي أيده الله عز وجل به صلى الله عليه وسلم، لو كانوا لا يعتقدون هذا لما بارزوه العداء دون غيره.
فدلَّت معاداتهم له ومبارزتهم له بالعداء على أنَّه الكتاب الذي أَيَّد الله عز وجل به النبي صلى الله عليه وسلم باعتراف جميع البشرية.

دعني أرجع بك أيها القارئ النابه الذكي إلى ما اتفقنا عليه آنفًا بضرورة وجود كلام لله عز وجل مع النبي صلى الله عليه وسلم، ودعني أُذَكِّرك أيها القارئ العاقل الذكي أننا هنا اتفقنا إلى أن القرآن هو الكتاب الذي أَيَّد الله عز وجل به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كان القرآن هو الكتاب المؤيد به النبي صلى الله عليه وسلم فليكن هو كلام الله عز وجل.

ولزيادة التوضيح: دعني أسألك أيها العاقل الذكي: هل يرسل الله عز وجل نبيَّه صلى الله عليه وسلم بكتابه وكلامه سبحانه وتعالى ثم يؤيِّده سبحانه بشيء آخر ويترك تأييده بكلامه؟
هل يؤيده سبحانه وتعالى بعدة معجزات أخرى ويترك معجزة القرآن لا يؤيده بها؟
لاشك أيها العاقل في أن القرآن هو المعجزة الكبرى التي أَيَّد الله عز وجل بها نبيَّه بدليل اتفاق البشر مسلمهم وكافرهم على ذلك، فالمسلم آمن به وسلَّم له، والكافر عارضه العداء وبارزه الحرب، لكنهم جميعًا أَكَّدوا بصنيعهم هذا على أنه هو المعجزة الكبرى التي أيَّد الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
لأنه لو لم يكن هو المعجزة الكبرى في نظرهم لما شغلوا أنفسهم بها أصلاً، ولما آمن المؤمن، أو حارب الكافر وبارز العداء.
لأنه من غير المعقول أن يعادي الناس ما لا قيمة له.
فدلَّت هذه الإلزامات العقلية على أن القرآن الذي بأيدي المسلمين الآن لابد وحتمًا أن يكون هو كلام الله عز وجل الذي أَيَّدَ الله عز وجل به نَبِيَّه صلى الله عليه وسلم.

تَدَبَّر هذا أيها الذكي العاقل:
لابد من وجود كلام لله عز وجل مع كل نبيٍّ من الأنبياء، يكتبه الله عز وجل لأنبيائه أو يوحيه إليهم.
القرآن هو الكتاب الذي قصدَهُ المؤمنون بالإيمان والكافرون بالعداء، وشغل هؤلاء وأولئك على مرِّ العصور، واعترفوا بأنه هو الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
ضرورة وجود كلام لله عز وجل وكتاب له مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم اعتراف البشرية بأن القرآن هو الكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هذه الضرورة تقتضي ضرورة أخرى وهي أن يكون القرآن هو كلام الله عز وجل قطعًا.

اتفقنا على ضرورة وجود كتاب، ووجود كلام لله عز وجل، ثم رأينا البشرية كلها قد أجمعت على أن القرآن هو الكتاب الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا يستلزم بالضرورة العقلية أن يكون القرآن هو كلام الله عز وجل.

وهذا يستلزم أيضًا أن تكون المزاعم الاستشراقية والإلحادية واللادينية والادِّعاءات المتكررة حول بشريَّة القرآن لا تتجاوز مجرد ((الهراء)) أو هي جزء من ((أوساخ الإعلام)) تقبَّلَتْهُ نفوسٌ ضعيفة، قد عطَّلَتْ عقلها عن التفكير، لأن الضرورة كما سبق أيها النابه الذكي تستلزم أن يكون كلام الله عز وجل وليس كلامًا بشريًّا.
وبطبيعة الحال فإن الضرورة المذكورة في حتمية كونه كلام الله عز وجل توافق مقتضى العقل ودلالته كما مَرَّ بك أيها الفطن الذكي، كما يوافق هذا وذاك مقتضى إجماع البشريَّةِ.

شاهد عيان
10-12-2005, 04:53 PM
بارك الله بك أخي الكريم على هذه السلسلة الرمضانية ،،، سيتم تثبيت الموضوع طيلة شهر رمضان المبارك.
وبارك فيكم أيها الحبيب، وشكر الله لكم ما تبذلونه، وأثابكم عليه خير المثوبة.
وتقَبَّل تحياتي.

شاهد عيان
10-13-2005, 07:57 PM
دلالة الإيمان والكفر

تدبَّرتُ حرص بعض الناس على الطاعة في رمضان مع تفريطهم عليها قبل رمضان، ثم هم كما جرت العادة ربما رجعوا بعد رمضان إلى سابق عهدهم.
ألم يكن الله عز وجل قادرًا على سلبهم حرية الاختيار؟
ألم يكن قادرًا على توحيد نمط حياتهم على شيءٍ واحدٍ؟ إما طاعة دائمة أو تفريط دائم؟

لاشك أن الله عز وجل كان ولا يزال قادرًا على ذلك كله، إذْ هو سبحانه الذي خلق الإنسان، بل وأكبر من الإنسان كالسموات والأرض، فهو سبحانه وتعالى خالق الكون كله، ما نعلمه منه وما لا نعلمه.

لكنَّا نرى أن الله عز وجل يقبل المذنب إذا تاب، ويغفر الذنب لمن استغفر وأناب، في الوقت الذي كان ولا يزال فيه سبحانه وتعالى قادرًا على جبر الإنسان على الطاعة المطلقة له، والعبادة الدائمة، لكنه سبحانه وتعالى لم يفعل شيئًا من هذا كله.
وفي ذلك دلالة لك أيها القارئ العاقل الذكي على أن الله عز وجل لا يجبر أحدًا من خلقه على شيءٍ، ولا يضطر أحدًا إلى شيءٍ، لكنه سبحانه وتعالى خلق الخلق وترك لهم حريتهم في الوقت الذي تكفل سبحانه بإرشادهم إلى الطريق الصحيح، فمن أبصر واهتدى وأراد الخير لنفسه فقد فاز، ومن عاند واستكبر فعلى نفسه يجني، وما ربك بظلام للعبيد.

وتَدَبَّر معي أيها القارئ الكريم في حالي وحالك هل تقبل أن يخالفك من يعمل عندك؟ أو من هو تحت إذنك وتصرفك كأولادك أو خدمك أو نحوهم؟
نحن لا نقبل مخالفة من هم تحت تصرفنا أبدًا مهما كانوا، خاصةً إذا كنا نقدر على توقيع العقوبة عليهم وإلزامهم بقبول اختياراتنا بصورة أو بأخرى.
لاشك أننا والصورة هذه لن نقبل منهم المعارضة ولا المخالفة أبدًا.
ومع هذا فنحن لا نرمي أنفسنا بالدكتاتورية أو نحوها من الصفات، في الوقت الذي لا نقبل فيه أية مخالفة.

بل تَدَبَّر معي خلاف الناس مع بعضهم البعض في محاوراتهم حول بعض النقاط، حتى ربما اجتمع خمسة أشخاص فخرجوا بخمسين رأيًا!!
تَدَبَّر أيها القارئ الكريم العاقل الذكي خلافات الناس وحواراتهم هذه مع تشنجهم المقيت من قبول الرأي الآخر إذا كان لقبوله وجهًا سائغًا، أو كان قبوله مما تقتضيه ضرورة الإنصاف والبحث.

تَدَبَّر معي أيها القارئ العاقل الذكي الفارق بيننا بجبريتنا وديكتاتوريتنا حيث لم نقبل المعارضة ممن لنا عليهم سلطة، أو ممن لا سلطة لنا عليهم، في الوقت الذي لم يجبر الله عز وجل أحدًا على الإيمان به، بل وضع الطريق وأرشد الناس للحق والباطل ثم ترك لهم حرية الاختيار.
والدليل على ذلك أنك تجد من الناس من هو مؤمن بالله، ومن هو كافر معاند.

فهل من يترك الخيار لنا نحن يصح أن يزعم زاعمٌ بعد ذلك أنه قد جبر الناس على الإيمان به ولم يترك لهم اختيارًا، أو أنه لم ينصح لعباده ويرشدهم إلى الحق والباطل ثم يترك لهم الاختيار؟
اللهم لا وألف لا.
والبشرية هي الدليل بدليل إيمان المؤمن وكفر الكافر باختياراتهم، ولو كان الله مجبرًا لهم على شيءٍ لأجبر البشرية كلها على الطاعة والعبادة وما رأيتَ فيها من كافرٍ قط.
فتدبَّر هذا بعقلك أيها الذكي، ولا ترفض نداء العقل السليم حين يناديك.

شاهد عيان
10-16-2005, 10:08 PM
كعبٌ وصاحباه



رجعتُ إلى قوله سبحانه وتعالى: ((والذين آمنوا أشد حبًّا لله)) ونحوها من الآيات الدالة على حب المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، فتوقفتُ طويلا أمام هذه الآيات المباركات.

وأخذتُ أسرح بعقلي كثيرًا، أطوف بين آيات الموضوع وأحاديثه، فبهرني حديث كعب بن مالكٍ رضي الله عنه وصاحبيه الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، والحديث مشهور في الصحاح والمسانيد وغيرها من كتب الإسلام.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم لغزوتهِ، وكان سفرًا طويلا وشاقًا، وفي الناس حاجةٌ وجهد، غير أن بعض ميسوري الحال لم يهمه أمر الرحلة كثيرًا، فهو يملك راحلته القوية التي تعينه على إنفاذ المهمة أكثر من غيره، وهو يملك المؤنة فلا حاجة به لغيره، فلم ير بأسًا أن يتخلف بعض الوقت عن الركب الأول، ويدرك الجيش السائر بعد وقت، خاصة وراحلته تعينه على هذا، وحالته ميسورة.
لكنه لم يكن يعلم أن تسويفه هذا سيفقده القافلة، وسيعطله عن اللحاق بها.

إنه يحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يتخلف لنفاق فيه، غير أنه سَوَّف، وما أدراك ما ضرر التسويف على النفس حين يتمكن منها؟

سبقت القافلة ولم يعد أملٌ في إدراكها، ورحل الراحلون، وانقضى الأمر، ولم يعد سوى حسرات وندم على ما كان من تسويفٍ.
وما لبثت القافلة المباركة والجيش المكلل بالنصر أن عاد ثانية، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم، وطفق كلٌّ يدلي بعذره لينجو من لائمة النبي صلى الله عليه وسلم، ويخرج من نظرات المسلمين وتأنيبهم وشكهم في نفاقه.. غير أن منهم من لم يفعل هذا.
منهم من ثبتَ على حُبِّه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فأصر على الصدق، فجاء كعبٌ وصاحباه أهل الصدق فذكروا الحقيقة للنبي صلى الله عليه وسلم كما كانت بلا (رتوش)، فذكروا تسويفهم وندمهم على ما صدر منهم، وطلبوا العفو والمسامحة.
فاعتزلهم النبي صلى الله عليه وسلم شهرًا كاملا حتى قضى الله عز وجل فيهم بقضائه، وتاب عليهم توبة مسطرة في كتابه الكريم، تقرأها الأجيال صباحًا ومساءًا وفي كل وقتٍ.

كعبٌ رضي الله عنه رجلٌ شريفٌ عزيز في قومه، صاحب منزلة كبيرة، يمرُّ صاحب المنزلة والشرف على الناس فيلقي عليهم السلام فلا يجيبونه.
يرجع كعبٌ لأقاربه ويلقي على بعضهم السلام فلا يجيبونه.
صاحب المنزلة والمكانة لا يجاب سلامه، ولا يرد عليه أحدٌ، الكل قد أجمع على اعتزاله حتى يقضي الله فيه أمرًا.

لم يغترَّ كعبٌ بمنزلتِه، ولم تفتنه حالته الميسورة، وجلس يبكي ويتذلل ويتضرع لله عز وجل، ويمشي والدموع بعينيه مما يرى، حتى تنكَّرَتْ له الأرض، وضاق عليه الرحب والفضاء الواسع، فصاروا كما وصفهم سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].

ضاقت عليهم الأرض الواسعة بما رحبت، بل وضاقت عليهم أنفسهم التي بين ضلوعهم، لكنهم لغلبة حبهم وقناعتهم بهذا الدين (ظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه).
لغلبة قناعتهم بهذا الدين الذي خاطب عقولهم ومشاعرهم حتى اقتنعت به ورسخ الإيمان في عقولهم وقلوبهم رسوخ الجبال، لذلك كله تأكدوا يقينًا أن لا ملجأ لهم من الله إلا إليه.

في هذه الأثناء يأتي البريد لكعب بن مالك؟
وممن؟
إنه ملك غسان يرسل لكعب بن مالك رسالة يطلب فيها من كعب أن يلحق به، ويرحل إليه، فيواسيه ويكرمه، وينزله المنزل اللائق به.
العزيز الشريف ميسور الحال يعتزله ضعاف الناس وفقراء المسلمين كما يعتزله كبارهم استجابة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم باعتزاله وصاحبيه حتى يقضي الله فيهم أمرًا.
وفي هذه الأثناء تأتي له رسالة من ملك يطالبه أن يرحل إليه على الفور ليواسيه ويكرمه وينزله منزلته التي يستحقها فيما يظن.

لكن قناعة كعب بالإسلام والإيمان حالت دون ذلك، وجعلت مصير رسالة الملك إلى التنور، لتأكل النار رسالة الملك التي يرى فيها كعب فتنة أخرى من الفتن التي يتعرض لها.

ما أصبرك على اعتزال الناس أيها الشريف العزيز؟
ما أصبرك على اعتزالهم لك وأنت أنت في المنزلة؟
ثم لديك العرض الكبير من ملك كبير؟
فرصة عمرك كما يتصورها البعض قد حانت، فارحل يا كعب.
هكذا يقول لك الذين لا يؤمنون..
لكن قناعة كعبٍ رضي الله عنه بالإسلام، تحول بينه وبين الفتن.

إنها قناعة العقل والروح معًا، وهي في الوقت نفسه بشاشة الإيمان وحلاوته حين تتذوق النفس حلاوة الإيمان وطعمه، وتتلذَّذ به، فتتحمل في سبيله الغالي والرخيص.

إنه رجل مطرود من الجماعة، محكوم عليه بالاعتزال، فهو أمر من السجن، وأقصى عقوبة من النفي، حين يمشي في الناس لا يكلمه أحد، وكأنه ليس موجودًا أصلا.
فلم يكن ثمة إرهاب أو قمع له على البقاء، بل التأثيرات العاطفية والنظرة السطحية ربما جاءت في صف ملك غسان، وألقت باللائمة على كعبٍ لماذا لم يستجب لملك غسان ويرحل إليه ليواسيه في محنتِه، وينزله منزلته التي كانت له قبل تخلُّفِه عن الخروج مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن ثمة قناعات أخرى لدى كعب بن مالك رضي الله عنه تقول لنا: بل الله ورسوله أريد!!

فهل يلتفت الذين يقولون لنا: أنتم تدخلون الناس في دينكم بحد السيف إلى هذا الدرس العظيم؟
وهل يلتفت الذين يقولون لنا: بل ربكم أجبركم على ما تصنعون دون رغبة منكم إلى هذا الدرس العظيم؟

درسٌ يقول لنا: مطرودٌ معزولٌ يصر على البقاء، ويتمسك في الإسلام..
كلا؛ بل ويسمى مطالبة ملك غسان له بالرحيل إليه فتنة من الفتن!!
فهل يفعل كعبٌ العربي الفطن الذكي هذا كله بغير قناعة مسبقة بهذا الإسلام العظيم؟ ورؤية ثاقبة بوجود النجاة في الإسلام؟
اللهم لا وألف لا

شاهد عيان
10-17-2005, 07:01 PM
لعل السر يكمن وراء الخاصية الإسلامية الأصيلة في خطاب الإسلام للعقل والروح معًا.
فلا هو بالذي يخاطب العقل وحده حتى يخرج بالإنسان إلى جفافٍ لا عاطفة فيه.
ولا هو بالذي يخاطب العاطفة وحدها حتى يخرج بأتباعه إلى مهيع من العواطف والأحاسيس التي لا ضابط لها ولا رقيب.

لكنه خاطب العقل وضرب له الأمثال، وأمره بالتدبر فيما ضربه له، ولفت انتباهه إلى خلق الله عز وجل، وأمره بالسير في الأرض متفكرًا متدبِّرًا، والنظر في خلق الله عز وجل متفكرًا متدبرًا.

كل هذا فعله الإسلام العظيم، وشواهده في القرآن والسنة لا حصر لها.

نعم كما خاطب الروح، وعُنِي بالإجابة على ما يدور بداخلها من أسئلة، وأرشدها إلى طريق الطمأنينة والسكينة وهناءة العيش في هذه الدنيا، ثم السعادة في الآخرة، إذا هي رجعت إلى بارئها وخالقها.

وهذا الخطاب الإسلامي ((المزدوج)) إن جاز التعبير سرٌّ من أسرار قوة الخطاب الإسلامي، وهيمنته على العقول والنفوس حين يلامسها..
ولذلك رأينا ملوك الأرض وفسقتها يحولون بين أقوامهم وبين سماع الإسلام، خشية أن يخطف الإسلام عقولهم وقلوبهم بقوة حجته، ورصانة عرضه وخطابه.

ما من نبي من الأنبياء إلا وطلب أن يخلى بينه وبين الناس، يبلغهم رسالة ربه كما انزلت.
لم يطلب الأنبياء أكثر من هذا؛ لأنهم كانوا يعلمون جيدًا معجزة الخطاب الإسلام وقوته على الإقناع.

المسألة ليست ضربًا بالعصا، ولا قهرًا على الإيمان، فإنه لا إكراه في الدين.
نعم (لا إكراه في الدين) كما في الآية الكريمة من سورة البقرة، رغم أن الله عز وجل قادر على أن يجبر من يشاء على ما شاء، لكنه سبحانه لا يُجبر أحدًا على الإيمان أو الكفر، ورغم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهوره وانتصاره وبناء دولة الإسلام كان قادرًا لو أراد على إرغام الجزيزة ومن حولها على الإسلام، لكنه لم يفعل هذا، وحاشاه، إذ لا إكراه في الدين.

فقط المطلب الدائم هو: (دعو السنة تمضي ولا تعترضوها بالآراء) على حد تعبير بعض السلف الصالح.
المطلب الدائم: دعونا نعرض الإسلام على الناس، ونترك لهم حرية الاختيار، لن نجبرهم لأننا لسنا أصحاب جبرية ولا عنصرية ولا ديكتاتورية، ولن نمنِّيهم بما لا نقدر عليه، لأننا لسنا نملك شيئًا من الكون، وليس بأيدينا جنة ولا نار، فلا نملك لمؤمنٍ جنةً، ولا نملك لكافر نارًا.
ما نقول إلا ما أُمرنا بإبلاغه للناس وكفى، ولا نطلب منهم إلا ما طلبه الله عز وجل منهم، أن ادخلوا في الإسلام، وآمنوا خيرًا لكم.

فقط نرجو أن يترك الإعلام رسالته المغرضة في التشويش والتضليل، كما يترك المستشرقون واللادينيون والإلحاديون وغيرهم التشويش على الدين الإسلامي لدى القراء العرب والغربيين.
فقد اتركوهم صفحة بيضاء.
دعوهم نعرض عليهم الإسلام، ليختاروا بأنفسِهم.

كفاكم أيها الناس سلبًا لحريات الشعوب واختياراتهم!
كفاكم تغييرًا للحقيقة أو وقوفًا في وجهها.

إن لم يكن لكم في الهداية من حاجةٍ فدعوا غيركم يهتدي، فلستم أوصياء على عقول الناس.

وكفاك أيها القارئ العاقل الذكي طاعة مطلقة لهؤلاء.
كفاك تسليمًا لعقلك وجوارحك لغيرك يصنعهما لك كيفما يشاء.

عُد إلى عقلك حيث كان في بياضه أول أمره.
عُد إلى عقلك وتدبر ما يصلح لك أن تختاره.

وأنا أثق في اختيار عقلك إذا سمع نداء الإسلام وخطابه العظيم

جـواد
09-09-2009, 07:29 PM
مثل هذا الموضوع يجدر به أن لا ينزل أبدا
لذا يرفع