المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سلسلة كشف الشخصيات (21) : ديكارت



حازم
10-07-2005, 03:56 AM
الوجه الآخر لديكارت !

بقلم أحمد دعدوش

"...إن المفارقة تكمن لدينا نحن العرب والمسلمين، وتحديداً لدى أولئك المتشبثين بقناع الحداثة، والذين لا يسأمون من تكرار توجيه النقد اللاذع للعقلية العربية ، ويعلنون صراحة أن عقدتنا الحضارية لن تنحل أبداً حتى نتخلى عن موروثنا الثقافي والحضاري برمته، ثم نتخذ من قصور الرمال الديكارتية أساساً متيناً نبني عليه حداثتنا الضرورية .

..."

هو "أبو الفلسفة الحديثة" حينا و"نبي العقلانية" حينا آخر، هكذا أراده حداثيو فرنسا الذين خرجوا من ظلامهم الكنسي القروسطي إلى فسحة التنوير العقلاني، حاملين بإحدى أيديهم مبادئ ثورتهم الدستورية في "الحرية والإخاء والمساواة"، وباليد الأخرى إنجيلهم الجديد "مقالة في المنهج".


رينيه ديكارت (1596- 1650) أشهر فلاسفة فرنسا على الإطلاق، وواحد من رموز الفلسفة الأوربية الحديثة، ولد في لاهاي - من إقليم تورين في فرنسا - وترك الدراسة في سن السادسة عشرة بسبب فشله الدراسي!، فنصحه والده بالتطوع في إحدى جيوش أمراء الإقطاعيات الأوربية في ذلك الزمان، فعاش مرتزقا في جيش دوق ناسو ثم دوق بافاريا لمدة أربع سنوات، لينسحب بعدها إلى هولندا، ويصرف وقته في القراءة والتفلسف .


بدأ الرجل بقراءة علوم اللاهوت، واطلع على أعمال الفلاسفة "التنويريين" الذين بدؤوا للتو في الخروج على تعاليم الكنيسة، فحاول التوفيق بين الاتجاهين، واصطنع لنفسه منهجا في الشك ضمّنه في كتابه "مقالة في المنهج"، والذي اشتهر فيما بعد بمنهج الشك الديكارتي .


وبالرغم من أن بعض الباحثين المسلمين قد تمكنوا من إثبات تورّط "أبو الفلسفة الحديثة" في سرقة منهجه المذكور من منهج الإمام الغزالي الذي سبقه بخمسة قرون، ولعل أشهرهم الدكتور محمود حمدي زقزوق في كتابه "المنهج الفلسفي بين الغزالي وديكارت"، والدكتور نجيب محمد البهبيتي في كتابه "المدخل إلى دراسة التاريخ والأدب العربيين"، وكذلك المفاجأة التي أطلقها الباحث التونسي الراحل عثمان الكعاك في الملتقى العاشر للفكر الإسلامي في مدينة عنتابة بالجزائر (1976) وهي عثوره على ترجمة لكتاب المنقذ من الضلال للإمام الغزالي في مكتبة ديكارت الخاصة بمتحفه في باريس، وفي إحدى صفحاتها إشارة بالخط الأحمر وضعها ديكارت بنفسه تحت عبارة الغزالي الشهيرة "الشك أولى مراتب اليقين" وحشّى عليها بعبارة "تنقل إلى منهجنا".


أقول: على الرغم من ذلك كله، فإننا لن نقف الآن على ما سبق، وإنما سنتطرق لبعض ما يثيره هذا الفيلسوف من ضجة في فرنسا نفسها قبل غيرها، ثم نقارنه بالموقف المؤسف لحداثيي العرب .


من الجدير ذكره أن نوعاً من الانتقائية قد حكمت على بروز بعض المفكرين الغربيين وتناسي بعضهم الآخر، فتحت سطوة الرؤية المادية في الغرب تم تنصيب ديكارت معلماً وأبا للفلسفة الحديثة، وجعلت منه نقطة فصل بين مرحلتين زمنيتين مرت بهما الحضارة الغربية، في الوقت الذي أهمل فيه عدد من الفلاسفة الذين لا يقلون شأناً عن ديكارت لمجرد أنهم انتهجوا منهجاً آخر، رفضوا فيه النموذج المعرفي الديكارتي ونقدوه بقوة، ومن أشهر هؤلاء الفيلسوف الإيطالي جيامباتيستا فيــكو (1668- 1744)، الذي تم طي صفحته في المراجع الفلسفية حتى كاد يضيع ذكره، فما الذي رفضه فيكو في النموذج الديكارتي؟


ينطلق فيكو في رفضه هذا من القاعدة الديكارتية القائمة على قصر الحقيقة في العلوم الطبيعية المادية والتي يجسدها ديكارت في الرياضيات التي يجعل منها الحقيقة المطلقة، ويهمل ما عداها من العلوم الإنسانية، وهي القاعدة التي انطلق منها الغرب فيما بعد في نظرته المادية للوجود، والتي تفترض وحدة الإنسان والطبيعة والمادة في كل لا يتجزأ، والتي تطورت في زمن قياسي لتصل إلى ما هي عليه الآن من تسليع للوجود، وإهدار لقيم الإنسانية .


ويمضي فيكو في نقده لهذا المنهج إلى القول بأن اليقين الرياضي الذي يعتمد عليه ديكارت يقوم أساساً على النماذج الرياضية التي يبدعها العقل نفسه، وأن الحقيقة التي نتوصل إليها عبر هذه النماذج الرياضية تختلف عن تلك الناتجة عن التجارب الطبيعية، مما يعني تفاوت اليقين المعرفي بين فروع المعرفة الطبيعية، إذ تقع الفيزياء في درجة أقل من اليقين الرياضي، وذلك لأن النماذج الرياضية موضوعة من قبل العقل مما يجعله قادراً على فهمها بشكل كامل، وذلك على عكس الظواهر الفيزيائية التي تعود في وجودها إلى الإله الخالق، مما يؤدي بالضرورة إلى صعوبة التأكد من استكمال الإحاطة بها على وجه اليقين .


وفي هذا نقد وجيه لموقف الفلاسفة الماديين من الطبيعة، ولاعتقادهم بوحدة العقل في الطبيعة فضلا عن استعلائه عليها، والإحاطة بها عن طريق الملاحظة والتجربة، وهو الفكر الذي أوقع الغربيين اليوم في سُكر وجنون العظمة، وأوحى لهم بنهاية التاريخ وسيادة الكون .


ويعتقد فيكو أن الكوجيتو الديكارتي قد لعب دورا في تأسيس هذا الفكر أبستمولوجيًا، إذ أن نقطة انطلاق ديكارت المتجسدة في الكوجيتو تنطوي على نزعة فردية ذاتية قائمة على التجرد المطلق، في الوقت الذي ينطلق فيه فيكو من مبدأ إمكان تحويل الذات إلى الآخر أو ما يسميه بترادف الحقيقي والمصنوع، والذي يتلخص في الاعتقاد بأن اليقين الكامل لا يتأتى للإنسان إلا من خلال ذاته، وبالتحديد عبر ما يصنعه بيديه حسيا أو يبدعه في عقله ووجدانه، وهذا ما دفعه للاعتقاد بأن طريقة ديكارت في التعرف على العقل عبر العقل نفسه طريقة بدائية، لأن العقل لم يخلق نفسه، فكيف يكون قادرا على التفكير في ذاته وإدراك كنهه كما يفكر في الموجودات الأخرى التي ينظر إلها من موضع المراقب ؟ وقد دفع هذا فيكو إلى اتهام ديكارت بتأليه العقل، بالرغم من محاولة هذا الأخير لاحترام الميتافيزيقيا ودعوته لعقلنة الدين بدلا من نسفه .


إن فهمنا لهذا الموقف الذي يتخذه فيكو يبدأ من إدراكنا للثنائية الديكارتية القائمة على وجود الجوهرين المستقلين من المادة وغير المادة (أو الروح والجسد) والتي يبدو أنها أدت بديكارت إلى عزل هذين الجوهرين عن بعضهما واعتبار الإله مهندسا للكون، في الوقت الذي يقتصر فيه فهم الكون على العقل بإدراكه للغة الرياضيات . وقد ترجم ديكارت موقفه هذا من العقل في دعوته لسيطرة الإنسان على الطبيعة ومحاولة البرهنة على قدرته على ذلك . وكان للتقدم العلمي الذي أحرزه الغرب فيما بعد، وما قام به نيوتن من تأكيد لطروحاته الكبرى حول سيرورة الظواهر الكونية وفق قوانين طبيعية بالغة الدقة، قد أدت بالفعل إلى تأليه العقل في فلسفة العلم لدى الأوربيين، ونسيان الثنائية التي بنى عليها نظامه الفلسفي من ثنائية للعقل والروح .


إذ نجد فرنسا العلمانية التي وجدت في عقلانية ديكارت فرصة للثورة على استئثار الكنيسة بالمعرفة، ومن ثم لتأليه العقل الذي كان مغيبا في ظلامية القرون الوسطى، قد وصلت في انتهاجها لهذا النسق المعرفي إلى أقصى مراحل التطرف في نبذ الجوهر الروحي اللامادي، وبنت عليه ما يحلو لها من نظام إبستمولوجي أحادي النظرة، وبما يتناسب مع ميولها وتطلعاتها المعرفية والاقتصادية التي مهدت لها الخروج على السلطة الكنسية الطاغية، على النحو الذي يوحي بتفسير هذه الثورة المعرفية على أنها لم تكن أكثر من ردة فعل على الاستئثار الكنسي المفرط للمعرفة، والتي أدت بدورها إلى إفراط مماثل في الجهة المقابلة بعد أن أحكم التكنوقراطيون الفرنسيون قبضتهم على زمام السلطة، ودفعتهم دون رادع للتطلع إلى توسيع نفوذهم بعد إعادة توليده تحت اسم العلمانية والعلم للسيطرة على العالم الأقل تطورا، الأمر الذي سوغ لنابليون دك أسوار الإسكندرية بالمدافع الثقيلة، تحت ذريعة نشر مبادئ الحرية والأخوة والمساواة !! التي قامت عليها الثورة الفرنسية، وذلك قبل مضي تسع سنوات فقط على هذه الثورة، وما أشبه اليوم بالغد !


ومن جهة أخرى، رفض عدد من أشهر الفلاسفة الألمان الموقف الديكارتي، ومنهم "كانط" و"نيتشه" و"هايدجر"، فقد رأى هذا الأخير أن الأنطولوجيا الغربية قد ارتكبت خطأ فادحاً عندما نظرت إلى الوجود على أنه كيان موضوعي مفارق للذات، مما أدى إلى فصل الذات عن الطبيعة ثم اعتبار الذات كمركز للكون، وهو الذي ترافق مع الإرهاصات الأولى للفكر الإمبريالي الغربي فيما بعد .


ويؤسس هايدجر نقده لكل من الثنائية الديكارتية والمنهج الابستمولوجي التنويري على اعتباره أن وجود الإنسان متميز عن الموجودات الأخرى، فهو ليس جوهرا ثابتا بل دائم التغير من فرد لآخر، وهو إلى ذلك مشروع مستمر دائما أمام احتمالية التغير والحوار مع العالم .


وبالإضافة إلى ذلك الموقف الذي اتخذه هذا الجمع من الفلاسفة إزاء المنهج الديكارتي، نجد اليوم نزعة مضادة للديكارتية تخرج من فرنسا نفسها، ويقوم بها عدد من المفكرين الفرنسيين الثائرين على جمودهم الثقافي . نذكر منهم اثنان من أشهر فلاسفة فرنسا المعاصرين، الذين ضربوا بعُرض الحائط كل تلك الهالة النورانية التي ما زال الفرنسيون يضفونها على نبيهم المزعوم .


أما أولهما فهو "فرانسوا روفيل"، والذي أصدر كتاباً عنونه بـ "ديكارت المتقلب، الانتهازي، وغير المفيد" وقد شن فيه حربا على ديكارت زاعماً بأنه السبب الرئيس في شيوع العقلية المتحجرة المستعلية لدى الفرنسيين، والتي أدت فيما بعد إلى عزلة فرنسا عن الوسط الحضاري الغربي، وبالتالي استعصائها على التطور . ويستشهد في كتابه بعدة حوادث تشير إلى أن ديكارت كان رجلا شديد التمسك برأيه ولو كان مخطئاً، وأنه كان عاجزاً عن الاعتراف بالتناقض، فضلاً عن فشله في الإفادة من التجربة الحسية، والتي تعتبر اليوم عصب العلم الحديث .


وأما الثاني فهو المفكر الشهير "روجيه غارودي" والذي لم يكن أقل عنفاً من سابقه في ثورته على الديكارتية، وهي - أي الثورة - التي يعتبرها سبباً في تحرره من عقدة الانغلاق على الذات، والانفتاح على الحضارات الإنسانية الأخرى، ولا شك أن اعتراف هذا الفيلسوف الفرنسي "الثائر" والمؤسس لمعهد الحوار بين الحضارات، يشكل صفعة مؤلمة للمنهج الديكارتي برمته، تماماً كما فعلت قنابله السابقة في "ماركسية القرن العشرين" و "الولايات المتحدة طليعة الانحطاط" ثم كتابه الخطير "الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية" والذي سبب له الكثير من المتاعب، وأخيراً كتابه "الإرهاب الغربي" والذي اتهم فيه ديكارت بأنه المؤسس الأول للعقل الاستبدادي الغربي عموماً - والفرنسي خصوصاً - . والمتجلي في فردية الوجود الديكارتي القائم على الكوجيتو المصطنع "أنا أفكر، إذن أنا موجود" إذ يعتبره غارودي مبرراً للغطرسة الإمبريالية الغربية، وتجريداً للإنسان من مشاعر الحب والتسامح والعطف على الآخرين .


إن هذا "الفتح" الجديد في فكر الفيلسوف المسلم - غارودي - قد تسبب في الغرب "المتغطرس والإمبريالي" بهزة عنيفة طالت واحداً من أهم رموزه، وأسقط عنه آخر أوراق التوت التي كانت تستر عوراته التي لن ينساها التاريخ .


ولكن المفارقة تكمن لدينا نحن العرب والمسلمين، وتحديداً لدى أولئك المتشبثين بقناع الحداثة، والذين لا يسأمون من تكرار توجيه النقد اللاذع للعقلية العربية، وللفكر الماضوي العربي (الديني طبعاً)، وهم يعلنون صراحة أن عقدتنا الحضارية لن تنحل أبداً حتى نتخلى عن موروثنا الثقافي والحضاري برمته، ثم نتخذ من قصور الرمال الديكارتية أساساً متيناً نبني عليه حداثتنا الضرورية .


وكمثال سريع على هذا الموقف، نذكر مقالاً نُشر في جريدة الشرق الأوسط للباحث هاشم صالح العدد (9363) بتاريخ 17/7/2004 والذي لم يكتف فيه بتنصيب ديكارت نبيا للعقلانية فحسب؛ بل نجده يعد وصفنا للشيء بأنه ديكارتي بمثابة وصفنا لـه بالعقلاني، بل إن وصفنا للفرنسيين بأنهم ديكارتيون يعني في المقابل أنهم عقلانيون، مما يدفعنا لاعتباره وبكل بساطة "أمة وحده"، إذ أن تنظيم الشوارع والساحات في فرنسا يحمل نهجه على حد تعبيره . مردداً بذلك مقولات الثقافة الغربية بحذافيرها على اعتبار أنها النموذج الأمثل للبناء الحضاري!


إن ترديدنا الببغائي للنموذج النهضوي الغربي لا يمكن أن يتم تطبيقه بهذه الصورة المبتورة عن السياق التاريخي الذي كان حاكماً للتفرد الكنسي في أوربا إبان عصور الظلام في القرون الوسطى، فضلاً عن الخصوصية التي غالبا ما يتم تجاهلها للنسق الديني المسيطر على السلطة الدينية الأوربية، واستساغة تعميم النظرة المقولبة للسلطة الدينية بجانبيها الاجتماعي والسياسي .


وبناء على ذلك؛ فإن استمرار مفكرينا الحداثيين في تسليط الضوء على أساطين الفكر النهضوي الأوربي على أنهم يشكلون النموذج الأوحد للخروج من عنق الزجاجة في عالمنا العربي والإسلامي، لا يمكن أن يبرح مكانه طالما ظل مقتصراً على الانبهار بمنجزات التقدم العلمي (ومن جانبه المادي البحت)، دون أن ينطلق في تحليله لمشكلة التخلف من خصوصـية كـل من المجتمعين الغربي - المسيحي، والعربي - الإسلامي، وأن يسعى لتفكيك عوامل التخلف التي يعاني منها الأخير ضمن السياق التاريخي الذي أدى به إلى التراجع عن ماضيه الحضاري المشرف، والذي أثبت فيه قدرته على المزج بين المادة والروح دون اصطناع لأي نوع من الفصل أو الإثنينية المؤدية إلى تغليب أي منهما على الآخر .

يحيى
02-28-2008, 07:44 PM
بارك الله فيك