المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تقرير عقيدة الأسماء والصفات - للشيخ الشنقيطي رحمه الله



عبد الغفور
05-07-2011, 11:41 AM
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين
أما بعد:
ففي زمن يعاني فيه الإسلام وأهله الموحدين من الغربة وتتهاوى فيه ثوابت الجهلاء بسبب شبه الضالين يقيض الله من ينير الطريق للتائهين ويفرض الحجه على المعاندين وهؤلاء الأئمة كثر والحمد لله رب العالمين .
ومن هؤلاء الأئمة الإمام محمد الامين الشنقيطي صاحب الكتاب الجليل أضواء البيان فقد رزقه الله اتباع السلف وذلك لما طلب العلم لوجه الله رحمه الله وها هو يبين المنهج في آيات الصفات التي ضل فيها من ضل تشبيها او تعطيلا وذلك في تفسير آية الاستواء في سورة الأعراف فلنبحر سويا في بحر علمه ولنتجرد من الهوى ونبتغي الهدى .

يقول رحمه الله :

قوله تعالى : ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار الآية .

هذه الآية الكريمة وأمثالها من آيات الصفات كقوله : يد الله فوق أيديهم [ 48 \ 10 ] ونحو ذلك ; أشكلت على كثير من الناس إشكالا ضل بسببه خلق لا يحصى كثرة ، فصار قوم إلى التعطيل وقوم إلى التشبيه ، سبحانه وتعالى علوا كبيرا عن ذلك كله والله جل وعلا أوضح هذا غاية الإيضاح ، ولم يترك فيه أي لبس ولا إشكال ، وحاصل تحرير ذلك أنه جل وعلا بين أن الحق في آيات الصفات متركب من أمرين :

أحدهما : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الحوادث في صفاتهم سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

والثاني : الإيمان بكل ما وصف الله به نفسه في كتابه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا يصف الله أعلم بالله من الله : أأنتم أعلم أم الله [ 2 \ 140 ] ، ولا يصف الله بعد الله أعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذي قال فيه : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 ، 4 ] فمن نفى عن الله وصفا أثبته لنفسه في كتابه العزيز ، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم زاعما أن ذلك الوصف يلزمه ما لا يليق بالله جل وعلا ، فقد جعل نفسه أعلم من الله ورسوله بما يليق بالله جل وعلا . سبحانك هذا بهتان عظيم .

ومن اعتقد أن وصف الله يشابه صفات الخلق ، فهو مشبه ملحد ضال ، ومن أثبت لله ما أثبته لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم مع تنزيهه جل وعلا عن مشابهة الخلق ، فهو مؤمن جامع بين الإيمان بصفات الكمال والجلال ، والتنزيه عن مشابهة الخلق ، سالم من ورطة التشبيه والتعطيل ، والآية التي أوضح الله بها هذا . هي قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ 42 \ 11 ] فنفى عن نفسه جل وعلا مماثلة الحوادث بقوله : ليس كمثله شيء وأثبت لنفسه صفات الكمال والجلال بقوله : وهو السميع البصير فصرح في هذه الآية الكريمة بنفي المماثلة مع الإتصاف بصفات الكمال والجلال .

والظاهر أن السر في تعبيره بقوله : وهو السميع البصير دون أن يقول مثلا : [ ص: 19 ] وهو العلي العظيم أو نحو ذلك من الصفات الجامعة ; أن السمع والبصر يتصف بهما جميع الحيوانات ، فبين أن الله متصف بهما ، ولكن وصفه بهما على أساس نفي المماثلة بين وصفه تعالى ، وبين صفات خلقه ، ولذا جاء بقوله : وهو السميع البصير بعد قوله : ليس كمثله شيء ففي هذه الآية الكريمة إيضاح للحق في آيات الصفات لا لبس معه ولا شبهة البتة ، وسنوضح إن شاء الله هذه المسألة إيضاحا تاما بحسب طاقتنا ، وبالله جل وعلا التوفيق .

اعلم أولا : أن المتكلمين قسموا صفاته جل وعلا إلى ستة أقسام :

- صفة نفسية
- صفة سلبية
- صفة معنى
- صفة معنوية
- صفة فعلية
- صفة جامعة

والصفة الإضافية تتداخل مع الفعلية ; لأن كل صفة فعلية من مادة متعدية إلى المفعول كالخلق والإحياء والإماتة ، فهي صفة إضافية ، وليست كل صفة إضافية فعلية فبينهما عموم وخصوص من وجه ، يجتمعان في نحو الخلق والإحياء والإماتة ، وتتفرد الفعلية في نحو الاستواء ، وتتفرد الإضافية في نحو كونه تعالى كان موجودا قبل كل شيء ، وأنه فوق كل شيء ; لأن القبلية والفوقية من الصفات الإضافية ، وليستا من صفات الأفعال ، ولا يخفى على عالم بالقوانين الكلامية والمنطقية أن إطلاق النفسية على شيء من صفاته جل وعلا أنه لا يجوز ، وأن فيه من الجراءة على الله جل وعلا ما الله عالم به ، وإن كان قصدهم بالنفسية في حق الله الوجود فقط وهو صحيح ; لأن الإطلاق الموهم للمحذور في حقه تعالى لا يجوز ، وإن كان المقصود به صحيحا ; لأن الصفة النفسية في الاصطلاح لا تكون إلا جنسا أو فصلا ، فالجنس كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان ، والفصل كالنطق بالنسبة إلى الإنسان ، ولا يخفى أن الجنس في الاصطلاح قدر مشترك بين أفراد مختلفة الحقائق كالحيوان بالنسبة إلى الإنسان والفرس والحمار ، وأن الفصل صفة نفسية لبعض أفراد الجنس ينفصل بها عن غيره من الأفراد المشاركة له في الجنس كالنطق بالنسبة إلى الإنسان ، فإنه صفته النفسية التي تفصله عن الفرس مثلا المشارك له في الجوهرية والجسمية والنمائية والحساسية ، ووصف الله جل وعلا بشيء يراد به اصطلاحا ما بينا لك ; من أعظم الجراءة على الله تعالى كما ترى ; لأنه جل وعلا واحد في ذاته وصفاته وأفعاله ، فليس بينه وبين غيره اشتراك في شيء من ذاته ، ولا من صفاته ، حتى يطلق عليه ما يطلق على الجنس والفصل سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا لأن الجنس قدر مشترك بين حقائق مختلفة .

[ ص: 20 ] والفصل : هو الذي يفصل بعض تلك الحقائق المشتركة في الجنس عن بعض ، سبحان رب السماوات والأرض وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

وسنبين لك أن جميع الصفات على تقسيمهم لها جاء في القرآن وصف الخالق والمخلوق بها ، وهم في بعض ذلك يقرون بأن الخالق موصوف بها ، وأنها جاء في القرآن أيضا وصف المخلوق بها ، ولكن وصف الخالق مناف لوصف المخلوق ، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق ، ويلزمهم ضرورة فيما أنكروا مثل ما أقروا به ; لأن الكل من باب واحد ، لأن جميع صفات الله جل وعلا من باب واحد ; لأن المتصف بها لا يشبهه شيء من الحوادث .

فمن ذلك : الصفات السبع ، المعروفة عندهم بصفات المعاني وهي : القدرة ، والإرادة ، والعلم ، والحياة ، والسمع ، والبصر ، والكلام .

فقد قال تعالى في وصف نفسه بالقدرة :

والله على كل شيء قدير [ 2 \ 284 ] و [ 3 \ 29 ] و [ 3 \ 189 ] و [ 5 \ 19 ] و [ 5 \ 40 ] و [ 8 \ 41 ] .

وقال في وصف الحادث بها : إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم [ 5 \ 34 ] فأثبت لنفسه قدرة حقيقية لائقة بجلاله وكماله ، وأثبت لبعض الحوادث قدرة مناسبة لحالهم من الضعف والافتقار والحدوث الفناء ، وبين قدرته ، وقدرة مخلوقه من المنافاة ما بين ذاته وذات مخلوقه .

وقال في وصف نفسه بالإرادة : فعال لما يريد [ 11 \ 107 ] و [ 85 \ 16 ] ، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [ 36 \ 82 ] ، يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [ 2 \ 185 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقال في وصف المخلوق بها : تريدون عرض الدنيا الآية [ 8 \ 67 ] ، إن يريدون إلا فرارا [ 33 \ 13 ] ، يريدون ليطفئوا نور الله [ 61 \ 8 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

فله جل وعلا إرادة حقيقية لائقة بكماله وجلاله ، وللمخلوق إرادة أيضا مناسبة لحاله ، وبين إرادة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وقال في وصف نفسه بالعلم : والله بكل شيء عليم [ 24 \ 35 ] ، لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه الآية [ 4 \ 166 ] [ ص: 21 ] فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين [ 7 \ 7 ] .

وقال في وصف الحادث به : قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم [ 51 \ 28 ] ، وقال : وإنه لذو علم لما علمناه [ 12 \ 68 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

فله جل وعلا علم حقيقي لائق بكماله وجلاله ، وللمخلوق علم مناسب لحاله ، وبين علم الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وقال في وصف نفسه بالحياة : الله لا إله إلا هو الحي القيوم [ 2 \ 55 ] ، هو الحي لا إله إلا هو الآية [ 40 \ 65 ] ، وتوكل على الحي الذي لا يموت الآية [ 25 \ 58 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقال في وصف المخلوق بها : وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، وجعلنا من الماء كل شيء حي [ 21 \ 30 ] ، يخرج الحي من الميت ويخرج الميت [ 30 \ 19 ] .

فله جل وعلا حياة حقيقية تليق بجلاله وكماله ، وللمخلوق أيضا حياة مناسبة لحاله ; وبين حياة الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وقال في وصف نفسه بالسمع والبصر : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] و [ 31 \ 28 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقال في وصف الحادث بهما : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا [ 76 \ 2 ] ، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا الآية [ 19 \ 38 ] ونحو ذلك من الآيات .

فله جل وعلا سمع وبصر حقيقيان يليقان بكماله وجلاله ، وللمخلوق سمع وبصر مناسبان لحاله ، وبين سمع الخالق وبصره ، وسمع المخلوق وبصره من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وقال في وصف نفسه بالكلام : وكلم الله موسى تكليما [ 4 \ 164 ] ، إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ 7 \ 144 ] ، فأجره حتى يسمع كلام الله [ 9 \ 6 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

[ ص: 22 ] وقال في وصف المخلوق به : فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين [ 12 \ 54 ] ، اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم الآية [ 36 \ 65 ] ، قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا [ 19 \ 29 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

فله جل وعلا كلام حقيقي يليق بكماله وجلاله ; وللمخلوق كلام أيضا مناسب لحاله . وبين كلام الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وهذه الصفات السبع المذكورة يثبتها كثير ممن يقول بنفي غيرها من صفات المعاني .

والمعتزلة ينفونها ويثبتون أحكامها فيقولون : هو تعالى حي قادر ، مريد عليم ، سميع بصير ، متكلم بذاته لا بقدرة قائمة بذاته ، ولا إرادة قائمة بذاته ، هكذا فرارا منهم من تعدد القديم !!

ومذهبهم الباطل لا يخفى بطلانه وتناقضه على أدنى عاقل ; لأن من المعلوم أن الوصف الذي منه الاشتقاق إذا عدم فالاشتقاق منه مستحيل فإذا عدم السواد عن جرم مثلا استحال أن تقول هو أسود ، إذ لا يمكن أن يكون أسود ولم يقم به سواد ، وكذلك إذا لم يقم العلم والقدرة بذات ، استحال أن تقول : هي عالمة قادرة لاستحالة اتصافها بذلك ، ولم يقم بها علم ولا قدرة ، قال في " مراقي السعود " : [ الرجز ]

وعند فقد الوصف لا يشتق --- وأعوز المعتزلي الحق

وأما الصفات المعنوية عندهم : فهي الأوصاف المشتقة من صفات المعاني السبع المذكورة ، وهي كونه تعالى : قادرا ، مريدا ، عالما حيا ، سميعا بصيرا ، متكلما .

والتحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بالمعاني ، وعد المتكلمين لها صفات زائدة على صفات المعاني مبني على ما يسمونه الحال المعنوية ، زاعمين أنها أمر ثبوتي ليس بموجود ، ولا معدوم ; والتحقيق الذي لا شك فيه أن هذا الذي يسمونه الحال المعنوية لا أصل له ، وإنما هو مطلق تخييلات يتخيلونها ; لأن العقل الصحيح حاكم حكما لا يتطرقه شك بأنه لا واسطة بين النقيضين البتة ، فالعقلاء كافة مطبقون على أن النقيضين لا يجتمعان ، ولا يرتفعان ، ولا واسطة بينهما البتة ، فكل ما هو غير موجود ، فإنه معدوم قطعا ، وكل ما هو غير معدوم ، فإنه موجود قطعا ، وهذا مما لا شك فيه كما ترى .

وقد بينا في اتصاف الخالق والمخلوق بالمعاني المذكورة منافاة صفة الخالق للمخلوق ، وبه تعلم مثله في الاتصاف بالمعنوية المذكورة لو فرضنا أنها صفات زائدة على صفات المعاني ، مع أن التحقيق أنها عبارة عن كيفية الاتصاف بها .

وأما الصفات السلبية عندهم : فهي خمس ، وهي عندهم : القدم ، والبقاء ، والوحدانية ، والمخالفة للخلق ، والغنى المطلق ، المعروف عندهم بالقيام بالنفس .

وضابط الصفة السلبية عندهم : هي التي لا تدل بدلالة المطابقة على معنى وجودي أصلا ، وإنما تدل على سلب ما لا يليق بالله عن الله .

أما الصفة التي تدل على معنى وجودي : فهي المعروفة عندهم بصفة المعنى ، فالقدم مثلا عندهم لا معنى له بالمطابقة ، إلا سلب العدم السابق ، فإن قيل : القدرة مثلا تدل على سلب العجز ، والعلم يدل على سلب الجهل ، والحياة تدل على سلب الموت ، فلم لا يسمون هذه المعاني سلبية أيضا ؟

فالجواب : أن القدرة مثلا تدل بالمطابقة على معنى وجودي قائم بالذات ، وهو الصفة التي يتأتى بها إيجاد الممكنات وإعدامها على وفق الإرادة ، وإنما سلبت العجز بواسطة مقدمة عقلية ، وهي أن العقل يحكم بأن قيام المعنى الوجودي بالذات يلزمه نفي ضده عنها لاستحالة اجتماع الضدين عقلا ، وهكذا في باقي المعاني .

أما القدم عندهم مثلا : فإنه لا يدل على شيء زائد على ما دل عليه الوجود ، إلا سلب العدم السابق ، وهكذا في باقي السلبيات ، فإذا عرفت ذلك فاعلم أن القدم ، والبقاء اللذين يصف المتكلمون بهما الله تعالى زاعمين ، أنه وصف بهما نفسه في قوله تعالى : هو الأول والآخر الآية [ 57 \ 3 ] - جاء في القرآن الكريم وصف الحادث بهما أيضا ، قال في وصف الحادث بالقدم : والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم [ 36 \ 39 ] ، وقال : قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم [ 12 \ 95 ] ، وقال : أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون [ 26 \ 75 ، 76 ] ، وقال في وصف الحادث بالبقاء : وجعلنا ذريته هم الباقين [ 37 \ 77 ] ، وقال : ما عندكم ينفد وما عند الله باق [ 16 \ 96 ] ، وكذلك وصف الحادث بالأولية والآخرية المذكورتين في الآية ، قال : ألم نهلك الأولين ثم نتبعهم الآخرين [ 67 \ 16 ، 17 ] ، ووصف نفسه بأنه واحد ، قال : وإلهكم إله واحد [ 2 \ 163 ] ، وقال في وصف الحادث بذلك : يسقى بماء واحد [ ص: 24 ] وقال في وصف نفسه بالغنى : والله هو الغني الحميد [ 35 \ 15 ] ، وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ، وقال في وصف الحادث بالغنى : ومن كان غنيا فليستعفف الآية [ 4 \ 6 ] ، إن يكونوا فقراء يغنهم الله الآية [ 24 \ 32 ] ، فهو جل وعلا موصوف بتلك الصفات حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، والحادث موصوف بها أيضا على الوجه المناسب لحدوثه وفنائه ، وعجزه وافتقاره ، وبين صفات الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين الخالق والمخلوق ، كما بيناه في صفات المعاني .

وأما الصفة النفسية عندهم ، فهي واحدة ، وهي : الوجود ، وقد علمت ما في إطلاقها على الله ، ومنهم من جعل الوجود عين الذات فلم يعده صفة ، كأبي الحسن الأشعري ، وعلى كل حال ، فلا يخفى أن الخالق موجود ، والمخلوق موجود ، ووجود الخالق ينافي وجود المخلوق ، كما بينا .

ومنهم من زعم أن القدم والبقاء صفتان نفسيتان ، زاعما أنهما طرفا الوجود الذي هو صفة نفسية في زعمهم .

وأما الصفات الفعلية ، فإن وصف الخالق والمخلوق بها كثير في القرآن ، ومعلوم أن فعل الخالق مناف لفعل المخلوق كمنافاة ذاته لذاته ، فمن ذلك وصفه جل وعلا نفسه بأنه يرزق خلقه ، قال : إن الله هو الرزاق الآية [ 51 \ 58 ] ، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين [ 34 \ 39 ] ، وقال : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها الآية [ 11 \ 6 ] ، وقال في وصف الحادث بذلك : وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه الآية [ 4 \ 8 ] ، وقال : وعلى المولود له رزقهن الآية [ 2 \ 233 ] ، ووصف نفسه بالعمل ، فقال : أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما الآية [ 36 \ 71 ] ، وقال في وصف الحادث به : إنما تجزون ما كنتم تعملون [ 66 \ 7 ] ووصف نفسه بتعليم خلقه فقال : الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 1 - 4 ] .

وقال في وصف الحادث به : هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة الآية [ 62 \ 2 ] .

وجمع المثالين في قوله تعالى : تعلمونهن مما علمكم الله [ 5 \ 4 ] ، ووصف [ ص: 25 ] نفسه بأنه ينبئ ، ووصف المخلوق بذلك ، وجمع المثالين في قوله تعالى : وإذ أسر النبي إلى بعض أزواجه حديثا فلما نبأت به وأظهره الله عليه عرف بعضه وأعرض عن بعض فلما نبأها به قالت من أنبأك هذا قال نبأني العليم الخبير [ 66 \ 3 ] ، ووصف نفسه بالإيتاء ، فقال : ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك [ 2 \ 258 ] ، وقال : يؤتي الحكمة من يشاء [ 2 \ 269 ] ، وقال : ويؤت كل ذي فضل فضله [ 11 \ 3 ] ، وقال : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء [ 57 \ 21 ] .

وقال في وصف الحادث بذلك : وآتيتم إحداهن قنطارا [ 4 \ 20 ] ، وآتوا اليتامى أموالهم [ 4 \ 2 ] ، وآتوا النساء صدقاتهن نحلة [ 4 \ 4 ] ، وأمثال هذا كثيرة جدا في القرآن العظيم .

ومعلوم أن ما وصف به الله من هذه الأفعال فهو ثابت له حقيقة على الوجه اللائق بكماله وجلاله ; وما وصف به المخلوق منها فهو ثابت له أيضا ، على الوجه المناسب لحاله ، وبين وصف الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق .

وأما الصفات الجامعة ، كالعظم والكبر والعلو ، والملك والتكبر والجبروت ، ونحو ذلك . فإنها أيضا يكثر جدا وصف الخالق والمخلوق بها في القرآن الكريم .

ومعلوم أن ما وصف به الخالق منها مناف لما وصف به المخلوق ، كمنافاة ذات الخالق لذات المخلوق . قال في وصف نفسه جل وعلا بالعلو والعظم والكبر : ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم [ 2 \ 255 ] ، إن الله كان عليا كبيرا [ 4 \ 34 ] ، عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال [ 13 \ 9 ] .

وقال في وصف الحادث بالعظم : فكان كل فرق كالطود العظيم [ 26 \ 63 ] ، إنكم لتقولون قولا عظيما [ 17 \ 40 ] ، ولها عرش عظيم [ 27 \ 23 ] ، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم [ 9 \ 129 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وقال في وصف الحادث بالكبر : لهم مغفرة وأجر كبير [ 67 \ 12 ] ، وقال : إن قتلهم كان خطئا كبيرا [ 17 \ 31 ] ، وقال : إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير [ 8 \ 73 ] ، وقال : وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله [ 2 \ 143 ] ، وقال : وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين [ 2 \ 45 ] .

[ ص: 26 ] وقال في وصف الحادث بالعلو : ورفعناه مكانا عليا [ 19 \ 57 ] ، وجعلنا لهم لسان صدق عليا [ 19 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال في وصف نفسه بالملك : يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس الآية [ 59 \ 23 ] ، هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس الآية [ 59 \ 23 ] ، وقال : في مقعد صدق عند مليك مقتدر .

وقال في وصف الحادث به : وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان الآية [ 12 \ 43 ] ، وقال الملك ائتوني به [ 12 \ 50 ] ، وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا [ 18 \ 79 ] ، أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه [ 2 \ 247 ] ، تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء [ 3 \ 26 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال في وصف نفسه بالعزة : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم [ 2 \ 209 ] ، يسبح لله ما في السماوات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم [ 62 \ 1 ] ، أم عندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب [ 38 \ 9 ] .

وقال في وصف الحادث بالعزة : قالت امرأة العزيز الآية [ 12 \ 51 ] ، فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب [ 38 \ 23 ] .

وقال في وصف نفسه جل وعلا بأنه جبار متكبر: هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر [ 59 \ 23 ] .

وقال في وصف الحادث بهما : كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار [ 40 \ 35 ] ، أليس في جهنم مثوى للمتكبرين [ 39 \ 60 ] ، وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 26 \ 130 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وقال في وصف نفسه بالقوة : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [ 51 \ 58 ] ، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز [ 22 \ 40 ] .

وقال في وصف الحادث بها : وقالوا من أشد منا قوة أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة الآية [ 41 \ 15 ] ، ويزدكم قوة إلى قوتكم الآية [ 11 \ 52 ] ، إن خير من استأجرت القوي الأمين [ 28 \ 26 ] ، الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة الآية [ 30 \ 54 ] [ ص: 27 ] إلى غير ذلك من الآيات .

وأمثال هذا من الصفات الجامعة كثيرة في القرآن ، ومعلوم أنه جل وعلا متصف بهذه الصفات المذكورة حقيقة على الوجه اللائق بكماله ، وجلاله . وإن ما وصف به المخلوق منها مخالف لما وصف به الخالق ، كمخالفة ذات الخالق جل وعلا لذوات الحوادث ، ولا إشكال في شيء من ذلك ، وكذلك الصفات التي اختلف فيها المتكلمون ; هل هي من صفات المعاني أو من صفات الأفعال ، وإن كان الحق الذي لا يخفى على من أنار الله بصيرته أنها صفات معان أثبتها الله - جل وعلا - لنفسه ، كالرأفة والرحمة .

قال في وصفه - جل وعلا - بهما :

فإن ربكم لرءوف رحيم [ 16 \ 47 ] ، وقال في وصف نبينا صلى الله عليه وسلم بهما : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم [ 9 \ 128 ] ، وقال في وصف نفسه بالحلم : ليدخلنهم مدخلا يرضونه وإن الله لعليم حليم [ 22 \ 59 ] .

وقال في وصف الحادث به : فبشرناه بغلام حليم [ 37 \ 101 ] ، إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] .

وقال في وصف نفسه بالمغفرة : إن الله غفور رحيم [ 2 \ 182 ] و [ 5 \ 34 ] و [ 5 \ 39 ] و [ 5 \ 98 ] و [ 8 \ 69 ] و [ 9 \ 5 ] و [ 9 \ 99 ] و [ 9 \ 102 ] و [ 24 \ 62 ] و [ 29 \ 14 ] و [ 60 \ 12 ] و [ 73 \ 20 ] . لهم مغفرة وأجر عظيم [ 49 \ 3 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقال في وصف الحادث بها : ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور [ 42 \ 43 ] ، قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله الآية [ 45 \ 14 ] ، قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى [ 2 \ 263 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

ووصف نفسه جل وعلا بالرضى ووصف الحادث به أيضا فقال : رضي الله عنهم ورضوا عنه [ 5 \ 119 ] ، ووصف نفسه جل وعلا بالمحبة ، ووصف الحادث بها ، فقال : فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم [ 5 \ 54 ] ، قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [ 3 \ 31 ] .

[ ص: 28 ] ووصف نفسه بأنه يغضب إن انتهكت حرماته فقال : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه الآية [ 5 \ 60 ] ، ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه الآية [ 4 \ 93 ] .

وقال في وصف الحادث بالغضب ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا وأمثال هذا كثير جدا .

والمقصود عندنا ذكر أمثلة كثيرة من ذلك ، مع إيضاح أن كل ما اتصف به جل وعلا من تلك الصفات بالغ من غايات الكمال والعلو والشرف ما يقطع علائق جميع أوهام المشابهة بين صفاته جل وعلا ، وبين صفات خلقه ، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا .

فإذا حققت كل ذلك علمت أنه جل وعلا وصف نفسه بالاستواء على العرش ، ووصف غيره بالاستواء على بعض المخلوقات ، فتمدح جل وعلا في سبع آيات من كتابه باستوائه على عرشه ، ولم يذكر صفة الاستواء إلا مقرونة بغيرها من صفات الكمال ، والجلال ; القاضية بعظمته وجلاله جل وعلا ، وأنه الرب وحده ، المستحق لأن يعبد وحده .

الموضع الأول : بحسب ترتيب المصحف الكريم . قوله هنا في سورة الأعراف : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين [ 54 ] .

الموضع الثاني : قوله تعالى في سورة يونس : إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون إليه مرجعكم جميعا وعد الله حقا إنه يبدأ الخلق ثم يعيده الآية [ \ 3 ، 4 ] .

الموضع الثالث : قوله تعالى في سورة الرعد : الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون [ 2 ، 3 ، 4 ] .

الموضع الرابع : قوله تعالى في سورة طه : ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا الرحمن على العرش استوى له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى [ 2 - 6 ] .

الموضع الخامس : قوله في سورة الفرقان : وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا [ 58 ، 59 ] .

الموضع السادس : قوله تعالى في سورة السجدة : الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض الآية [ 4 ، 5 ] .

الموضع السابع : قوله تعالى في سورة الحديد : هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم [ 4 ] .

وقال جل وعلا في وصف الحادث بالاستواء على بعض المخلوقات : لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه الآية [ 43 \ 13 ] ، فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك الآية [ 23 \ 28 ] ، واستوت على الجودي الآية [ 11 \ 44 ] ، ونحو ذلك من الآيات .

وقد علمت مما تقدم أنه لا إشكال في ذلك ، وأن للخالق جل وعلا استواء لائقا بكماله وجلاله ، وللمخلوق أيضا استواء مناسبا لحاله ، وبين استواء الخالق والمخلوق من المنافاة ما بين ذات الخالق والمخلوق ; على نحو ليس كمثله شيء وهو السميع البصير كما تقدم إيضاحه .

وينبغي للناظر في هذه المسألة التأمل في أمور :

الأمر الأول : أن جميع الصفات من باب واحد ، لأن الموصوف بها واحد ، ولا يجوز في حقه مشابهة الحوادث في شيء من صفاتهم ، فمن أثبت مثلا أنه : سميع بصير ، وسمعه وبصره مخالفان لأسماع الحوادث وأبصارهم ، لزمه مثل ذلك في جميع الصفات ; كالاستواء ، واليد ، ونحو ذلك من صفاته جل وعلا ، ولا يمكن الفرق بين ذلك بحال .

الأمر الثاني : أن الذات والصفات من باب واحد أيضا ، فكما أنه جل وعلا ، له ذات مخالفة لجميع ذوات الخلق ، فله تعالى صفات مخالفة لجميع صفات الخلق .

الأمر الثالث : في تحقيق المقام في الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من آيات الصفات ; كالاستواء واليد مثلا .

اعلم أولا : أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين ، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلا في الآيات القرآنية - هو مشابهة صفات الحوادث ، وقالوا : يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعا ; لأن اعتقاد ظاهره كفر ; لأن من شبه الخالق بالمخلوق فهو كافر ، ولا يخفى على أدنى عاقل أن حقيقة معنى هذا القول : أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا .

والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم [ 16 \ 44 ] ، لم يبين حرفا واحدا من ذلك مع إجماع من يعتد به من العلماء ، على أنه صلى الله عليه وسلم : لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين ، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين ، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق ، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة ، سبحانك هذا بهتان عظيم .

ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والحق الذي لا يشك فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان ، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث .

الفهم المتبادر لكل عاقل : هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته ، وجميع صفاته ، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر ‍ . ‍‍‍

والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات لا يليق بالله لأنه كفر وتشبيه - إنما جر إليه ذلك تنجيس قلبه ، بقدر التشبيه بين الخالق والمخلوق ، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا ، وعدم الإيمان بها ، مع أنه جل وعلا ، هو الذي وصف بها نفسه ، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ، ومعطلا ثانيا ، فارتكب ما لا يليق بالله ابتداء وانتهاء ، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي ، معظما لله كما ينبغي ، طاهرا من أقذار التشبيه - لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه : أن وصف الله جل وعلا ، بالغ من الكمال ، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون قلبه مستعدا للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة الصحيحة ، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، فلو قال متنطع : بينوا لنا كيفية الاتصاف بصفة الاستواء واليد ، ونحو ذلك لنعقلها ، قلنا : أعرفت كيفية الذات المقدسة المتصفة بتلك الصفات ؟

فلا بد أن يقول : لا ، فنقول : معرفة كيفية الاتصاف بالصفات متوقفة على معرفة كيفية الذات ، فسبحان من لا يستطيع غيره أن يحصي الثناء عليه هو ، كما أثنى على نفسه : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] ، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد [ 112 \ 1 - 4 ] ، فلا تضربوا لله الأمثال [ 16 \ 74 ] .

فتحصل من جميع هذا البحث أن الصفات من باب واحد ، وأن الحق فيها متركب من أمرين :

الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة الخلق .

والثاني : الإيمان بكل ما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتا ، أو نفيا ; وهذا هو معنى قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، والسلف الصالح ، رضي الله عنهم ما كانوا يشكون في شيء من ذلك ، ولا كان يشكل عليهم ، ألا ترى إلى قول الفرزدق وهو شاعر فقط ، وأما من جهة العلم ، فهو عامي [ الطويل ] :


وكيف أخاف الناس والله قابض على الناس والسبعين في راحة اليد


ومراده بالسبعين : سبع سماوات ، وسبع أرضين . فمن علم مثل هذا من كون السماوات والأرضين في يده جل وعلا أصغر من حبة خردل ، فإنه عالم بعظمة الله وجلاله لا يسبق إلى ذهنه مشابهة صفاته لصفات الخلق ، ومن كان كذلك زال عنه كثير من الإشكالات التي أشكلت على كثير من المتأخرين ، وهذا الذي ذكرنا من تنزيه الله جل وعلا عما لا يليق به ، والإيمان بما وصف به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم ، هو معنى قول الإمام مالك رحمه الله : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والسؤال عنه بدعة .

ويروى نحو قول مالك هذا عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن ، وأم سلمة رضي الله عنها ، والعلم عند الله تعالى .