المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : سؤال دليل وجود الله اللاساسى هل حقيقة لم يعد له قيمة ارجو سرعة الرد على للا



hanyaldeen
05-07-2011, 09:34 PM
البرهنة على وجود الله في عصر "ما بعد الميتافيزيقا"؟(*)

دفاع "فينومونولوجي" عن البرهان الأنطلوجي

لوجود الله في عصر ما بعد الميتافيزيقا؟

جوزيف سايفرت

ترجمة: ذ. حميد لشهب

إن الله، الشامل لكل الموجودات، والخير في ذاته كان على مر العصور، محط اهتمام ليس فقط الدين لكن الفلسفة والميتافيزيقا أيضا. ولقد احتلت محاولات البرهنة على وجود الله مكانة الصدارة في أعمال فلاسفة عديدين. وعلى العكس من هذا فإن الكثير من المعاصرين وخاصة المثقفين منهم قد يرون في محاولة البرهنة على وجود الله أو صفات ذاك الذي يعتبر المصدر الأصلي والشامل لكل الموجودات ابتعادا عن وضوح أرضية الواقع الموضوعي. ومؤرخوا الفلسفة أنفسهم لم يوضحوا بما فيه الكفاية كيف تحدثت العصور السابقة عن الله وعن البرهنة على وجوده.

* من أوائل الحكم المعروفة في تاريخ الفلسفة هناك قول طاليس الميلي Thales von Milets إن كل شيء ملئ بالآلهة(1). وحتى إن كان العصر القديم قد عرف كذلك فلاسفة ملحدين مثل أبي قور Epicure، فإن جل الفلاسفة القدماء ابتداء من سقراط إلى أفلوطين حاولوا بحجج عديدة البرهنة على أن العالم الواقعي المرئي � وكذا ما سمي بالنفس الإنسانية في محاورة تيماوسي الأفلاطونية(2) قد خلقا من طرف الله. وقد كانت القوانين القديمة للكلام عن الله شهادات إثبات على الأهمية الاجتماعية للوجود الإلهي. فبدء من Nomoi (القوانين) الأفلاطونية إلى العصر الحديث يبقى الاعتقاد واضحا وقويا في كون الله موجودا، وكون الإدراك قد اعترف بأن الوجود المطلق لله ممكن عن طريق العقل، ون القانون يجب أن يعاقب الإلحاد والمتشككين في وجود الله. وتكفي الإشارة أن قوانين أفلاطون تؤكد على عقاب الملحدين، وأن قوانين أكثرية إمبراطوريات القرن السادس عشر كانت تعدم الملحدين والسابين للدين. وعلى امتداد العصر الوسيط لم يكن جل الفلاسفة المهتمين في هذا العصر توحيديين، اعترفوا بوجود الله، ومؤمنين مسيحيين، يهودا أو مسلمين، بل أنهم دافعوا كذلك على إدراك الله بواسطة العقل. ولم يرفض المصلحون الكبار وخاصة لوثر، تفينغلي وكالفان لا براهين وجود الله، ولا براهين عدم موت الروح، التي وجدت مكانها أيضا عند ميلانشتونس Melanchthons الفيلسوف الإنساني وصديق لوثر(3). ومن المعروف أن هؤلاء المصلحين لم تكن لهم ثقة بالعقل الذي كان في نظرهم ضعيفا، خاطئا، والذي نعته بعضهم بـ"العاهرة Hure". ونجد نفس الشيء في القرن 18، حيث حاول كبار فلاسفة هذا القرن، كل واحد على حدة، الدفاع عن برهان من براهين وجود الله.

إلا أنه وبعد نهاية تأثير مدرسة لايبنز Leibniz وفولف Wolf، وظهور فلاسفة جدد مثل هيوم Hume وكنط Kant بدأ النقاش يدور حول براهين وجود الله نفسها، وبذلك تقوى الاتجاه الملحد أو على الأقل الاتجاه اللاإدري (Agnotisme). من طبيعة الحالة لم تكن الأمور بكل هذه البساطة. فقد كان الوضع في الجامعات الألمانية ولمدة طويلة بعد كنط لا يسمح للأستاذ الألماني نفي وجود الله، وإلا فإنه كان معرضا للفصل من التدريس.

وما وقع لفيخت Ficht، الذي أكد في فلسفته على أن مكان الله لا يأتي إلا في الدرجة الثانية بعد إثبات الأنا، وقد اتهم على إثرها بالإلحاد، إلا دليل على أن المعركة بين الاتجاه التوحيدي والاتجاه الملحد لم تكن قد حسمت بعد.

وقد تغيرت الوضعية بعد كنط ما بين القرن 18 والقرن 20 حيث أصبح الحديث عن الله يدخل في إطار النسيب واللاعلمي والشخصي العقائدي الذي لا يهم إلا صاحبه، وليس له أي وزن فلسفي. وعلى الرغم من كل هذا فقد كانت هناك استثناءات في الاستمرار على البرهنة على وجود الله عند ممثلي الاتجاه الأرسطي الأكويني الذي وجد مكانا في الكنيسة المسيحية باستثناء البروتسطان واليهود(4) إلى حدود القرن 20، مع أول مؤتمر للفاتيكان. وخارج الكنيسة المسيحية، وحتى فيها، وابتداء من القرن 18، بدأ اتجاه رفض البراهين العقلية لوجود الله ينتشر في الفلسفة.

والعامل الأساسي، على الأقل العالم الجرماني، الذي أدى إلى هذا التحول هي "الاعتراضات الكبرنيكية" لكنط، ونقده لكل براهين وجود الله. وفكرة كنط التي مفادها أن مضمون المعرفة غير تابع لظروف المعرفة (ظروف تحصيل المعرفة)، وأن مضمون هذه المعرفة غير محدد من طرف الموضوع (Subjekt) وإدراكه، قد قادت إلى فكرة أن الله لم يعثر عليه مسبقا نفسيا، ولا يمكن الاعتراف به ككائن مطلق، ولا يمكن الاعتراف به كأصل لكل الأشياء وككل متناه وكعالم بكل الأشياء، بل إن فكرة الله هي من صنع العقل الإنساني وحتى إن كانت فكرة كنط هذه كافية وحدها للقضاء على قوة براهين وجود الله، فإنه (كنط) قد أضاف ضربة أخرى في "الدياليكتيك الترنسندنتالي" في نقده للعقل الخالص لكل البراهين الكلاسيكية لوجود الله، وهذه الانتقادات الراديكالية، وخاصة ما يتعلق منها بالبرهان الأنطلوجي، هي في معظمها مستقلة عن مبدأ نظرية المعرفة، ولها على كل حال إلى يومنا هذا تأثير على ثقة المختصين في الفلسفة في إمكانية العقل البرهنة على وجود الله.

وقد انتشرت انتقادات كنط هذه في كل مكان، على الرغم من أنه حاول في فرضيته الأخلاقية الموضوعية ترك المكان للاعتقاد بالله على حد تعبيره. ولازال لحد اليوم ما قاله هيجل قبل قرون ساري المفعول: "ليس هذا البرهان أو ذاك، هذا الشكل من البرهان أو ذاك، هذا المكان من البرهان أو ذاك هو الذي فقد من قيمته، بل إن البراهين الدينية للحقيقة في حد ذاتها هي موضوع تساؤل (نقد) طريقة تفكير هذا الزمن". فعدم جدوى هذه البراهين قد أصبحت حكما مطلقا(5)، وهذه الوضعية المزرية لازمت البراهين على وجود الله ولم يستطع هيجل منذ أكثر من 150 سنة إصلاحها حتى وإن كان قد قدم بعض الأدلة التي لم تعرف أي نجاح تاريخي لافي جانبها كنظرية للمعرفة ولا في جانبها الميتافيزيقي. وقد تقوت الانتقادات الكنطية بعد موت هيجل بشكل لقن لفيورباخ وكذا الورثة الكانطيين والهيجليين الآخرين على أن الطيلوجيا ما هي إلا أنطولوجيا، وعلى أن فكرة الله ما هي إلا تعبير داخلي للإنسان، عكس للتجارب الإنسانية، حاجات، أشواق، أو أنها فقط سلوكات سوسيولوجية، سيكولوجية أو اقتصادية في جانب خيالي. وقد استطاع فيورباخ وماركس، وكذا مجموعة كبيرة أخرى من المفكرين، إقناع الجزء الأكبر من مثقفي الإنسانية على أنه إذا كان هدف الميتافيزيقا، وخاصة عندما تكون معرفية فلسفية عقلية، هو الوصول إلى الوجود الإلهي المطلق، فإنها تكون غير معقولة.

وقد أعلن نيتشه بحماس أكبر وبثبات أكبر عن موت الله حتى وإن كان يعترف بإمكانية بناء اعتقاد عقلي في الله. فلا يوجد هناك أي معتقد في الله استطاع أن يعبر عن هذا الاحتواء وعن هذه النتائج المخيفة "الاعتراضات الانثربلوجية" كنيتشه الملحد الذي تحدث عن قتل الله، المقدس، الذي لم تكتسبه الإنسانية قط.

وعلى أساس هذه اللمحات التاريخية يمكننا أن نفهم الفكرة المنتشرة عن براهين وجود الله. فإذا كانت إشكالية الله قابلة للحل عقليا، فإنها ستكون كذلك على الأكثر في المعنى الذي حدده نيتشه عندما أعلن عن "موت الله" أو عن طريق "إلحاد علمي" أو كذلك -في أحسن الأحوال- في معناه الذي يترك إشكالية الله للاعتقاد الديني أو للفرضيات الأخلاقية والوجودية. في فلسفة نسقية حالية، على كل حال عندما تريد أن تكون أكثر من منطق خالص أو تحليل لساني لكلام الله (Das God Talks) فإن الله ليس له مكان يذكر في كليات الفلسفة.

لقد كان لهذه الاعتراضات الانثروبولوجية، والتي عرفت نجاحا كبيرا بعد كنط وهيجل، سواء تعلق الأمر "بالاعتراضات الكبرنيكية" لكانط، أو بأفكاره الأخرى، تأثيرا كبيرا على تطور الاتجاه الملحد. وقد صادفت هذه الأفكار عصرا تحول فيه الدين إلى انثربلوجيا، وبهذا فإن البراهين الكلاسيكية لوجود الله، ومن بينها البرهان الأنطلوجي، فقدت مكانتها.

وقد كان هناك تطور راديكالي آخر لم يهتم فقط بالبرهنة على عدم صلاحية براهين وجود الله، بل اهتم أيضا بالبرهنة على أن تعريف الله ليست له أية أهمية، لأن المرء لا يمكن أن يبرهن على ذلك تجريبيا ولا يمكن التأكد من صحة أو عدم صحة تعريف من هذا القبيل. ولقد كان لكل من الاتجاه الامبريقي (التجريبي) البريطاني والاتجاه الوضعي الجديد الذي مثلته دائرة فيينا في القرن العشرين تأثيرا كبيرا على تطور الاتجاه الملحد هذا. وهكذا حاولت كل من التجريبية والكنطية شرح العوامل المؤثرة في موضوع ظواهر فكرة الله والدين. فعن طريق الاهتمام بالتاريخ وباللغة، وكذا بالدوافع الامبريقية النفسية، ومنها بالخصوص فكرة الله التي نجد جذورها ومعانيها في الموضوع، خلص كنط إلى فكرته الغامضة "الموضوع الترنسندلتالي"، والتي ستأخذ مكان الظواهر التجريبية التي يمكن تعريفها. وبهذا ستنهي هذه الفكرة القوالب الانثروبولوجية وتساعد على تطبيقها. إن فكرة العالم بأكمله وفكرة الروح حسب كنط ليستا وحدهما إنتاجا ضروريا للعقل الترنسندتالي (المتعالي)، بل إن فكرة الله تنتمي أيضا إلى هذا الإنتاج، وقبولها كحقيقة متعالية (مستقلة عن الإنسان) يقود حتما إلى اعتبارها "تجليا ترنسندنتاليا Transzendentalen Schein" خدم فقد الأهداف الظاهرة للعقل كحقيقة مستقلة. وعلى العكس من هذا فإن الامبريقية اعتبرت فكرة الله من خلق الإنسان في بعده الجسدي والسيكولوجي، وكذا في بعده الثقافي والتاريخي. على كل حال، نظريا على أن وجود فكرة الله تابع للروح الإنسانية.

ولقد استطاعت الموضوعانية (Subjektivismus) أن تحصل على تأثير كبير، لأنها وظفت التجريبية عوض الشروح المتعالية الكنطية فيما يخص أصل فكرة الله والروح والعالم. وفي العالم الفلسفي والسياسي وحتى الديني لليوم يظهر على أن المرء قد حقق حلم أجوسط كونط Comte في اعتبار الإنسان ذاك الكائن الكبير (Grand �tre) وإلغاء الله، وكذا غياب أي تدخل على مستوى الأخلاق والأخلاق البيولوجية (Bioethik) كمساعدة الفرد على الموت (Euthanasie) والتجارب الجينية (G�n�tiques) التي لها آثار تطبيقية مخيفة، وبهذا نكون حققنا نهاية كل ميتافيزيقا إلهية بالمعنى الكلاسيكي.

لعل التاريخ يثبت ما سبقت الإشارة إليه. ففي جامعات وكليات وقتنا الحاضر يجب على المرء أن يبحث طويلا عن الفيلسوف الذي يدافع عن براهين وجود الله، فلا يتعلق الأمر حاليا بالإلحاد الجدلي والواضح للماضي ولا إلى الاستهزاء بالدين ولا إلى الإلحاد الجدلي الطوطاليري، الذي قاد إلى موت عدد لا حصر له منذ عهد ستالين إلى وقت غير بعيد عنا، لكن الأمر يتعلق بإلحاد مهم مستتر لفكرة الله والدين، والذي يصعب التعرف عليه كإلحاد إذا لم نمعن النظر.

وحتى الكثير من رجال الدين البرتستان والكاثوليك لليوم قد تأثروا بمثل هذه الاعتقادات، ويعتبرون أنفسهم سرا، أو حتى علانية، فيورباخين، بودهم اعتبار خصوصيات الله، كما يفكر فيها الإنسان، انعكاسات فقط. وكلهم يتكلمون عن الله كما لو أنه فقط مأنسن (Antropomorph). فالله في حد ذاته -التعالي المطلق- غير معروف لنا. وقد وجدت الطويولوجيا (الدين) نفسها اليوم، بعد موت الله، أو على الأقل بعد سقوط أي برهان على مضمون فكرة الله، دون بدائل: فإما أن يتحرك الدين ويستمر في الوعظ لأسباب دينية طقوسية (لأن المرء لا يريد أن يقول للشعب إن الله وباقي المواضيع الدينية الأخرى ما هي إلا خرافات) � وهذا الوعظ يكون دائما مغلف بصورة خيالية للعالم وبلغة إنجيلية قحة. وهذا النوع من الكلام الخرافي عن الله لا يمكن تبريره من طرف رجل الدين المثقف للقرن العشرين إلا إذا قدمه المرء على أنه ضروري من الناحية الاجتماعية والسيكلوجية والأخلاقية "للعيش في الوهم". وهذا من طبيعة الحال لمصلحة اجتماعية أو سياسية أو سيكولوجية بعينها. فـ"التعالي المطلق" الموضوعي، الراديكالي، الذي لا يمكن إدراكه في خصوصياته الحقيقية وفي معناه الكلاسيكي، لا يمكن حاليا اعتباره أكثر من أنسنة ساذجة. أو على المرء أن يختار نتيجة معقولة وراديكالية ليتخلص من مواضيع مهمة للوعي الإنساني كأن يخلص الإنجيل وكذا فكرة الله للفلاسفة أنفسهم من الأوهام، ومن الآلهة الترنسندلتاليين، الأقوياء، ومن العجائب. وهذا المطلب صالح خاصة في الأماكن التي لم يستطع فيها العقل تحقيق وظيفة إيجابية في اكتشاف التصورات المتعالية، واعتبارها أوهاما وفي نفس الوقت مصادرا للخوف وحجرة عثرة للحياة السياسية والاجتماعية كما أكد ذلك فردرك هير أو أوجين دريورمان Friderich Heer, Eugen Drewermann.

وعندما فارق الفلاسفة وكذا رجال الدين مضمون نوع خاص من التعالي وجدوا أنفسهم أمام نظرية الارتقاء/التطور (Evolutionism) الداروينية، التي قدمت نفسها كعلم، لكنها في الحقيقة لا تعدو أن تكون إلا فلسفة مادية؛ وكذا أمام مدارس سيكولوجية جد متخصصة كما نظر لها سيجموند فرويد ويونغ، والتي ترى أن فكرة الله هي إما وهم (Illusion) كبير على حد تعبير فرويد، وإما أساس سيكولوجي قد تأسس انطلاقا من نماذج أثرية والثقافة، ولم تغب تأثيرات أخرى من قبيل ما دافع عنه هرمان لوبيا Hermann Luebbe على سبيل المثال، والذي لم يعترف لفكرة الله إلا بوظيفة الغلبة العرضية سواء على الصعيد السياسي أو الثقافي أو السيكولوجي، دون الأخذ بعين الاعتبار لحقيقتها الموضوعية(6).

وقد ساهم مؤرخوا العلوم بالمقارنة مع علماء الدين، عن طريق تحاليلهم الواسعة لكل براهين وجود الله المعروفة، في زرع الشك في براهين وجود الله عند الإنسان، وترك الاجتهادات التي حاولت تقديم معرفة موضوعية وحقيقية عن الله جانبا، وعلى ضوء مثل هذه التأملات يظهر على أن شعار الأكاديمية العالمية للفلسفة بالليكتنشطاين البحث عن الحقيقة هو شعار معقد، على الأقل عندما نريد تطبيقه في ميدان الميتافيزيقا، وخاصة عندما نريد تطبيقه على المعرفة الفلسفية لله.

فمنذ كنط والامبريقية البريطانية، وخاصة منذ ظهور الوضعية الجديدة لدائرة فيينا وتطور دور الفلسفة التحليلية للقرن العشرين، أصبح الحديث عن نهاية "الميتافيزيقا" عاديا، كان هذا قدر لا يمكن مقاومته. وعبارات مثل "لا يمكنا الرجوع إلى ما بعد كنط" أو "لا يمكن الرجوع إلى ما وراء الفلسفة التحليلية" أصبحت على كل لسان. وكثير من فلاسفة اليوم، خاصة في العالم الجرماني، حتى وإن لم يكونوا كنطيين، يعتبرون أنفسهم "فلاسفة نقد"، بإمكانهم الحديث دائما عن فلسفة كنط كقدر لا يمكن الإفلات منه كنموذج وليس كمبدأ. وهكذا حاولت اتجاهات فلسفية عديدة، والتي لها علاقة إما بالهيجيلية المحدثة (Neo-Hegelianismus) أو بالماركسية، فرض نوع خاص فقط من الخطاب الفلسفي سواء التاريخي أو الأخلاقي، والتي لم تكف بعد الثقة في الميتافيزيقا كما وضح ذلك هيجل، بل بمحاولة إزاحتها (الميتافيزيقيا) من الخطاب الفلسفي المعاصر، أو على الأقل اختزال الخطاب الميتافيزيقي في تحليل اللغة أو في تاريخ الفلسفة.

فهذا الرفض للميتافيزيقيا، أي الاختفاء الشكلي لها، أصبح حاليا في الدوائر الفلسفية التحليلية محط بحث من جديد(7). وقد أصبح الحديث عن "الأنطولوجيا واللغة" أو حتى "الميتافيزيقا واللغة مباح من جديد دون أن ينظر إلى مؤلف مثل هذه الإنتاجات نظرة سلبية. والحقيقة أن الفلسفة التحليلية تفتقر إلى أساس فلسفي عتيد، كالذي دافعت عنه الميتافيزيقيا في معناه الكلاسيكي. يجب على المرء دق ناقوس الخطر للاستعمال الدقيق لمبادئ فلسفة مثل هذه ما دام المرء لم يكف بعد عن استعمال مبادئ الفلسفة التحليلية المؤسسة على الوضعية الجديدة، ما دامت تبقى في نهاية المطاف في إطار تحليل لغوي قح على طريقة فتجنشطاين Wittgenstein، والتي تسمح لنا لعبا ميتافيزيقيا أو دينيا باللغة، لكن دون السماح بمعرفة الأسس التي تنبني عليها حقائق وجواهر هذا اللعب باللغة.

وعلى الرغم من كل هذه المحاولات الجديدة لضبط المصطلحات الميتافيزيقية فإن هناك محاولة لتعطيل الميتافيزيقيا نهائيا في الأماكن التي أشار إليها هيجل والمتعلقة بالأحكام المسبقة ضد كل براهين وجود الله. وهذه الوضعية المتناقضة، المحاولات الجديدة للاهتمام بالميتافيزيقا ومحاولات إقبارها في نفس الوقت، لا تسمح بالقضاء على هذا الشك في الميتافيزيقيا في معناها الغربي التقليدي ابتداء من أغلاطون إلى ليبنز.

فكل عوالم روح هذا العصر قد قادت إلى وضعية لم تعد فيها التربة صالحة لقبول أعمال (مؤلفات) كالذي قمنا به، حتى وإن كانت الفلسفة المعاصرة تعرف نجاحا منقطع النظير، وحتى وإن اختبأت الميتافيزيقيا وتاريخ الفلسفة في أعمال أدبية مثل عمل جوسط جاردر وصوفي فايط Joost Garrder,Sophies Weit وحتى إن كان جمهور القراء المثقف لا يعتبر كل حكم على الميتافيزيقيا غير مطلق.

ومع ذلك فلا يبارح شك كبير وعي الطبقة عندما يتكلم أحد بجدية عن البرهنة على وجود الله -باستثناء مجموعات سكولاتية جديدة صغيرة، والتي تحاول إحياء أفكار الأكويني- لأن كلام من هذا القبيل يعتبر في نظرهم رجوع إلى الماضي فقط، لأن مثل هذا الادعاء ليس له أي مستقبل وقد يعتبر المرء ميتافيزيقا الله التي حاولنا تطويرها في هذا الكتاب، لأنها تعرضت إلى كل هذه الاتجاهات بصفة شاملة "كعمل جزئي*" كما عبر عن ذلك فيلسوف مشهور من فرانكفورت.

من الممكن أن لا يحظى هذا الكتاب بقبول كبير، ويمكن للمرء أن يرى فيه بعثا جديدا للميتافيزيقيا بعد موتها النهائي. وأكيد أن تغيير الوعي الميتافيزيقي العام بطرح أسئلة ميتافيزيقية يمكن التفكير فيها، فبالنظر إلى قصور الحدود الإنسانية وكذا محدودية تجاربها كما نشاهد ذلك كل مساء على شاشة التلفزة من فضاحة الحرب والمجازر في البوسنة أو إفريقيا وقتل النفس بالنفس، بالنظر إلى هذا فإن أسئلة ميتافيزيقية تطرح على كل إنسان. ولعل هذا الكتاب، وعلى الرغم من ادعاءات نهاية الميتافيزيقيا، قد يلفت اهتمام بعض القراء، وقد يعتبر الميتافيزيقيا كرد فعل عكسي فقط وخيبة أمل على انتشار نهاية الميتافيزيقيا، ومحاولة إحياء للمسائل الميتافيزيقية.

أن يوقظ هذا المؤلف الاهتمام أو لا يوقظه بالمشاكل الميتافيزيقية فهذه مسألة غير مهمة في حد ذاتها. فطرحنا الإشكاليات ومحاولة الإجابة عنها بجدية لا تتأسس أبدا على ما هو حاسم بالنسبة للوعي التاريخي العام. فسواء أعاد الاهتمام بالميتافيزيقيا اليوم أم لا، وسواء أكانت قد مسحت من عهد كنط وهيوم، وسواء أوجد المرء نفسه في عهد ميتافيزيقي جديد أو في عهد ما بعد الميتافيزيقيا، كل هذا ليست له علاقة بتلك الإجابات الفلسفية التي اهتممنا بها كما سيتضح ذلك لاحقا. فهمنا الأساسي هو محاولة الإجابة عن سؤال ما إذا كانت ميتافيزيقا الله ممكنة بإعادة الاعتبار المعقلن للبرهان الأنطولوجي أم لا. والجواب على هذا السؤال غير تابع لاعتقاد الأغلبية. هذا وإنه واضح لنا أن ميتافيزيقا موضوعية للوجود الإلهي هي غير ممكنة موضوعيا، وعلى أن كل الأشكال والتعاريف والأفكار التي تنعت بها فكرة الله ما هي إلا إنتاجات إنسانية ذاتية، ومنتوجات عقلية، انعكاسات -حتى وإن كان كل العالم يمارس الميتافيزيقا-. وواضح أيضا أن على الفكرة السائدة اليوم ضد عدم إمكانية معرفة الله ميتافيزيقيا لا يمكن لها التأكد ما إذا كانت أسس البرهان الأنطولوجي صحيحة أم لا.

وهكذا فإنه واضح للتفلسف الحقيقي أن الأسس الميتافيزيقية المعاصرة الإرادية والنسبية لا يمكن قبولها بهذه البساطة، بل يجب فحصها ونقدها. هل استطاع كنط وهيوم التفنيذ الكلي للأسس التي تنبني عليها براهين وجود الله؟ أو هل يجب على الفلسفة المعاصرة، وحتى ولو لم تكن فلسفة تتفق مع الأسس النقدية والأهمية الموضوعية التي تتأسس عليها الاعتراضات الأنثروبلوجية(8)، أن تتأسس على فلسفة للتعالي واقعية ونقدية، والتي تبرهن على أن لا كنط ولا أتباعه لم يستطيعوا الدحض الموضوعي لجوهر الكائن بتأسيسهم لجوهر الكائن القبلي، وعلى أن ميتافيزيقا نقدية جديدة ممكنة اليوم كذلك، إذن تلك الميتافيزيقا النقدية المنتظرة في وقتنا الحاضر؟

لكن هل لا يعدو هذا النوع من الجرأة الفلسفية لمحاولة بناء جديد للميتافيزيقا أن يكون ساذجا؟ هل بالإمكان اليوم بناء ميتافيزيقا إلهية؟ إذا كان الأمر يتعلق بتأسيس فينمنولجي للبرهان الأنطلوجي لوجود الله، كما هو واضح من العنوان الفرعي للكتاب، فإن هذا يتعارض والأسس الميتافيزيقية للفينومنولوجيا. هل لم ير هوسرل بالرجوع إلى الأشياء نفسها على أن كل ميتافيزيقا الله -على الأقل في معناها الكلاسيكي- غير ممكنة؟ هل لم يؤكد على أن وصف ودراسة كل الأفعال الفينمنلوجية تتأسس في الوعي، وعلى أنها لا يمكن أن تكون صالحة للبحث الفينمنولوجي إلا إذا كانت ماثلة متعالية Immanente Transzendenz كمواضيع واعية خالصة للحياة؟ وبهذا يكون كل طريق للميتافيزيقيا مغلوقا، ويكون الطريق إلى الموضوعية مفتوحا. كيف يمكن إذن لطريقة فلسفية بعينها، والتي تقتصر على تحليل الأفعال المفكر فيها فقط، إيجاد طريق للتعالي وللميتافيزيقا.

إن كل هذا يكون غير ممكن في الواقع، ولهذا السبب لا يكون تأسيس فينمنولوجي للبرهنة على وجود الله ممكنا إلا إذا كان بالإمكان شرح مبدأ المبادئ الفلسفية، كما عبر عن ذلك هوسرل(9) كاعتراف بالوعي الإنساني كوجود مستقل عن كل شرط موضوعي. لا يجب أن يتعلق الأمر في هذا الفهم لمقولة هوسرل بـ"تحليل اختياري فقط"، لكن يجب تأكيد فهم من هذا القبيل لمقولة هوسرل، من المعطيات نفسها. يجب على المرء أن يؤكد على أن الواقعة التي مفادها أننا لا يمكن أن نعرف ما هو غير معطى في وعينا، لا تعني أبدا أنه بإمكاننا إبعاد أي موضوع معرفتنا الواعية في تعاليه (الموضوع) اتجاه هذا المفكر فيه الواعي أو ذاك.

يظهر على أن عصرنا الحاضر يعرف عودة جزء منسي في الاتجاه الفينمونلوجي، والذي تحدث عنه إدموند هوسرل(10) سنة 1900/1901 -بمشاركة كل من شيلر وبفيندر(11)- ويتعلق بالعودة إلى الموضوعية وإلى القوانين المنطقية الصالحة، وكذا إلى عدد لا يحصى من القوانين الجوهرية على مستوى الميتافيزيقا الفلسفة الدينية، الأخلاق، فلسفة القانون وغيرها: يتعلق الأمر بالحركة الفينمنلوجية الأولى، والتي تنفي الاعتراضات التي قبلها هوسرل ابتداء من سنة 1905 و1913 كفلسفة ترنسندنتالية. فـA. Reinach, R. Ingarden, A. Pfaender, M. Scheler, D. Von Hildebrand, H. Conrad-Martins, Edith Stein، لذكر بعض ممثلي الاتجاه الفينمنلوجي الواقعي، مثلوا (بدرجات متفاوتة من الرادكالية وببراهين مختلفة) وجهة النظر القائلة أن دعوة هوسرل الرجوع إلى الأشياء نفسها "Ruekher zu den Sachen Selbst" كانت أيضا عودة إلى الأشياء نفسها Dinge an sich العقلانية التي نسيت منذ عهد كنط(12). يظهر على أن هذه المدرسة قد ماتت، لكنها عادت إلى الساحة الفلسفية في السنوات العشرة الأخيرة مع جيل جديد من الفلاسفة لتقود إلى نظرية جديدة في المعرفة وإلى ميتافيزيقا شخصانية أنثروبولوجيا وأخلاقيا. فإذا كان هوسرل يعتبر الفينمونولوجين، الذين كانوا يعارضون اعتراضاته الترنسندلتالية ساذجة، فإن الفيومنوجية الواقعية النقدية الجديدة تحاول أن تبرهن على أن الواقعية ليست دوغمائية وعلى أن الموضوعية نقدية، بل على العكس أن الفلسفة النقدية الوحيدة هي واقعية وموضوعية.

إن هذه الشذرات حول هذا الاتجاه الفلسفي تؤسس نسقا ونقديا هذه النتيجة التي مفادها أن هناك جواهر ضرورية وقوانين جوهرية غير مؤسسة من طرف الموضوع الإنساني (الإنساني كموضوع)، بل أنها مؤسسة انطلاقا من نفسها في زمن مثالي غير محدود ومطلق. إنها تكتشف وسبق اكتشافها، وغير مكتشفة من طرف الموضوع (الإنسان الباحث). عند هوسرل، في فكرة الفينمنلوجية "Idee Der Phenomenologie" فإن هذا النوع من تعالي الإنسان في المعرفة غير ممكن، وهذا التعالي سيصبح نقديا كخاصية وجودية Wesenmerkmal للمعرفة وشرطا لإمكانية وجود كل المواضيع المركبة أو الخيالية.

من جهة أخرى فإن هذا التطور الجديد داخل الاتجاه الواقعي للفينمونولوجيا قد أحدث ما أسماه رايناخ بالماهوية "Essentilismus"، وقد أعطى بذلك لطريقة ذاك العصر معنى جد جديد من أجل تحقيق بعد جديد للمعرفة الوجودية بتحرير التحليل الفكري من تقوقعه على الجواهر الخالصة. على هذه الأسس ينبني بحثنا. من طبيعة الحال هناك سؤال يطرح نفسه، وهو ما إذا كان الأمر يتعلق بارتسامات إيمانية ظنية، بمعرفة عقائدية دينية شخصية، أو بحجج فلسفية خالصة.

من هنا فإن الدراسات المعرفية النظرية، والي في إطارها يتم تقديم الجواهر المعرفية التركيبية الضرورية، تكون في الحقيقة تمهيد هذا الكتاب. فإذا لم يكن هناك وجود مستقل تماما عن أفكار وإنتاجات الكائن الإنساني، نعم إذا لم يكن هناك شيء لا يمكننا الاعتراف بجواهره الضرورية، فلن توجد ثمة فلسفة بل "فلسفة رأي" فقط Philodoxie**، التحرك الذاتي في الأفكار المؤقتة فقط، في اللغة، أو حتى في الحدود الضيقة للرضى الاجتماعي -التاريخي فقط- يمكننا إعادة دراسة نظرية المعرفة من منظور بارمنيد Parmenide، أفلاطون وأرسطو، أو كذلك أغوسطين، ديكارت وهوسرل(13) بالرجوع إلى الأشياء نفسها. ولا يتعلق الأمر هنا بتكرارها أو بتلخيصها بل بنقدها(14). وعلى كل حال سنتطرق كل مرة في هذا الكتاب، وخاصة في الجزء الثاني منه إلى النقطة الجوهرية المهمة في نظرية المعرفة والميتافيزيقا للجوهر والوجود.

فالمحاولة المحدودة للفينمنولوجيا الواقعية هي في نفس الوقت شخصانية فلسفية: إنها لا تحاول فقط إظهار أن الموضوع كشخص هو قمة الوجود الموضوعي في الأنطولوجيا، لكنها تحاول أيضا أن تظهر على أن الكمالات الشخصية الخاصة هي كمالات خالصة، والتي بإمكانها ومن واجبها وصف الكائن الإلهي كما هو مناقش في هذا الكتاب.

يمكن للمرء أن يلاحظ جوهر البرهان الانطلوجي في كون المخلوق أكبر من الخالق، حيث أن "الذي لا يمكن التفكير في شيء آخر منه خارجا عنه "Id Quo maius nihil Co-gitari possit"ليس بإمكانه الوجود فقط، لكن ضروري أن يكون الهو(Is) شخصيا يتوفر على الكمالات المطلقة (الكمالات الخالصة)، والتي وصفها أنسيلم الكانطيبوري Can-terbury في البرهان الأنطلوجي الشعور (الوعي)، الحرية، القوة، كل القوة، المعرفة، العلم، العدالة، وإلى حد ما ألوهية مجردة، والتي لن تكون "Deus vivens et videns" بل تكون تحت الإنسان. بكلمة أخرى فالاله الغير الواعي والغير الحي لا يمكن أبدا للإنسان تقديمه كإله. سنرجع للحديث عن البعد الشخصاني الواقعي للبرهان الأنطلوجي فيما بعد(15).