المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مع المستشرق موراني حول دعوى ((تحقيق القرآن)) واحتمال الزيادة والنقص واختلاف الترتيب



المستشار سالم عبد الهادي
06-25-2005, 04:51 PM
المستشرق الألماني د. ميلكوش موراني، كلية الآداب ـ جامعة بون ـ بألمانيا، وهو مستشرق بروتستانتي، تيسر له الاطلاع على بعض المخطوطات العربية والإسلامية، في بلاد المغرب وغيرها، خاصة مخطوطات الفقه المالكي.
وقد سجل في (ملتقى أهل الحديث) و(ملتقى أهل التفسير)، ورأيتُ له كلامًا في هذا وذاك.
وله لقاء مطول أجرته معه شبكة (ملتقى أهل التفسير).
ليس جديدًا عليَّ، ولستُ جديدًا عليه، فبيننا مراسلات خاصة لا حصر لها، منذ أن تكلمتُ حول (الرقابة على التراث)، وجميعها حول التراث وقضايا المخطوطات، عدا بعض الرسائل الأخيرة فكانت من نصيب موضوعنا الحالي.
دعوتُه للحوار والمناقشة العلنية العامة هنا في هذا المنتدى أو غيره، فلم أتلق منه أي ردٍّ حتى الساعة، ولا زلتُ في انتظار رده..
ولذا لن أبادر بالدخول في الموضوع مباشرة، وسأقتصر على التمهيد اليسير له حتى يأتيني رد د.موراني بالإيجاب أو السلب على طلب مناظرته ومحاورته فيما ذهب إليه.
ولن يطول انتظاري، وسأبدأ في طرح الموضوع في حال تأخر رده، أو التأكد من عدم حضوره، وإن كان الأمل في حضوره الآن قد أصبح ضعيفًا نوعًا ما، ولكن لا علينا من الانتظار قليلاً.
لماذا الإصرار على طرح الموضوع؟
لأنه يتعلق بأصل الإسلام العظيم ومعجزته الخالدة القرآن الكريم، وسيأتي كلام د.موراني وما فيه من مساس بجانب القرآن، واعتبار ذلك إهانة كبرى منه للقرآن المقدس، لها توابعها التي ستأتي الإشارة إليها إن شاء الله.
وله أن يأتي ويتبرأ من هذا الكلام، أو ينفي صلته به، أو يعترف بأنه قد أخطأ في التعبير، ويعتذر للمسلمين في شتى البقاع عن خطئه الذي لم يقصده.
نعم له هذا، ولسنا ممن يصدرون النتائج قبل سماع الشهود، ولا نحن ممن يصادر أقوال الآخرين ورأيهم الحر النزيه القائم على البحث العلمي المجرد، طلبًا للحقيقة، ولا شيء سوى الحقيقة..
ولنا أن نقوم بالكشف والبيان له ولغيره عن حقيقة هذه الفكرة المغلوطة عن القرآن الكريم، والتي أنتجتها عداوة وبغضاء وحقد القرون الطويلة لدى الكنيسة النصرانية..
ثم هاهي تتسرب شيئًا فشيئًا إلى ديار العروبة والإسلام بأقلام المستشرقين، تحت ستار البحث العلمي النزيه، أو التجرد والإنصاف، وهلم جرًّا من العبارات الجوفاء التي لا تنطلي على الجاد في البحث، العارف بما بين السطور من خبايا الأمور..
ونحن هنا لا نبخس أحدًا حقَّه أبدًا، وإنما نعترف بالحق والصواب إذا كان لدى مخالفنا، بنفسٍ راضية مطمئنة؛ لأنه العدل الذي أسَّسَه الإسلام في أرواحنا، وأصَّلَه القرآن في قلوبنا، وغزَّتْه السنة وروته في أجسادنا.
لكنَّا في الوقت نفسه لن نقبل المساس بديننا ولا بمقدساتنا بوجهٍ من الوجوه، ونعرف معنى كلام الخصم ومغزاه، ولا يخفى علينا بحمد الله ما يرمي إليه خصمنا من الطعن في الإسلام العظيم جملة وتفصيلا عن طريق إهدار القرآن والسنة وإثبات الانقطاع في هذا وذاك، ليصل إلى تلك الحقيقة التي باتت مشهورة عن الإنجيل المعاصر الآن، وهي أنه ليس وحيًا ربانيًّا، وإنما هو من تأليفات عقول البشر، وعمل أيديهم؛ والله أعلم بما عملوا..!!
لا تخفى علينا هذه الحقيقة أبدًا، وسنكشف أبعادها وأطوارها، وكيف أردوا لها أن تسري في عقول أمتنا!!
كل ذلك وغيره لابد من كشفه؛ لأنه حق من حقوق القرآن والإسلام في أعناقنا، كما وأنه حق للقراء المسلمين علينا أن نكشف لهم ما يحاك بدينهم، وأن نحذرهم منه، وأن ندافع لهم عن دينهم وكيانهم، وقرآنهم.
ثم هو حق للمستشرقين جميعًا، بما فيهم د.موراني أن نعلمهم ما علمناه القرآن والسنة والإسلام العظيم، وأن نوضح لهم صورته الحقيقية الناصعة البياض، ليهلك من هلك بعد ذلك عن بينةٍ، ويحيى من حيَّ عن بينةٍ.
كما وأنه من حق البحث العلمي علينا أن لا نبخل عليه بعلم علمناه، ولا بجهد قدرنا عليه دفاعًا عن الحقيقة التي يؤمن بها البحث، ويؤكدها النظر السليم، فمن الخيانة للبحث العلمي وللنظر السليم أن نعمّي نتائجهما عن الناس، أو أن نحيد بهما ونزورهما في نظر التاريخ والأجيال اللاحقة..

وأختم بقول الله عز وجل:
((إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجَحِيمِ [119] وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ [120] الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ [121] يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمِينَ [122] وَاتَّقُوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ)) [البقرة :123].



ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير..
ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا..
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين..

المستشار سالم عبد الهادي
06-25-2005, 04:59 PM
رأيتُ كلامًا للدكتور موراني سبق نقله في قسم الكلام على الكتب من ملتقى أهل الحديث، أثناء الكلام عن موطإ مالكٍ رحمه الله، في هذا الرابط:
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?p=176729#post176729
وفيه (نقلا عن لقاء شبكة التفسير بالمستشرق د. موراني) يقول الدكتور موراني:
(.....كان هناك مشروع في النص القرآني قبل الحرب العالمية الثانية ، وجَمعَ تلاميذُ نولدكه المشهورون المتخصصون في القراءات نسخاً للقُرآنِ بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث.إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق. ويقال : إِنَّ هذه المَجموعة من النسخ قد فُقِدت أثناءَ الحربِ ولا أحدَ يعلمُ بوجُودِها ، إلاَّ أَنَّ هناك مَن يَزعمُ أَنَّها في المكتبة الدوليةِ في مِونيخ ، والله أعلم.
لدينا اليوم عدةُ نُسخٍ ثَمينةٍ ونادرةٍ ، مثل المصاحف التي في جامع صنعاء وفي غيرها في المكتبات. بعضها على البَردي ، وبعضها الآخر على الرَّقِّ أو الكاغد، لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ (القرآن). رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا ، وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ ، وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص .حدث ذلك ـ نعم ! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل ....).


ـــــــــــ
انتهى كلام د.موراني، فلما رجعتُ إلى لقاء شبكة ملتقى أهل التفسير به إذا بهذا الكلام هناك بنصه، واضحًا جليًّا لا لبس فيه، وواضحٌ من السياق أن د.موراني كان يقظًا حين ألقاه، ولم يكتبه في لحظة ضعفٍ أو سهوٍ..
ملتقى أهل التفسير: http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3015&page=7&pp=15

المستشار سالم عبد الهادي
06-25-2005, 05:30 PM
لقد تسربت هذه الفكرة الغريبة إلى بعض الناس غير د. موراني، فرأينا من يقول بالمساواة بين القرآن وبين بقية الكتب الإلهية التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه ورسله السابقين، ورأينا من يتكلم عن الجميع، ويقول: الكتب السماوية الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن.
كما رأينا من يحاول جاهدًا كالدكتور موراني هنا أن يطعن في أسانيد القرآن وإلهيته وكونه وحيًا ليوافق بذلك ما أقرَّ هو نفسه به من بشرية الإنجيل!!
وسيأتي هذا كله..
فكان لزامًا علينا للفصل بين هذه الثلاثة أن نُعَرِّف القراء الكرام بها أولاً.
لابد أن نعرف أولاً ماذا تعني التوراة والإنجيل، ثم نعرف ماذا يعني القرآن؟
الموضوع شائك وحساس؛ نعم..
ولكني آمل تفاعلا منصفًا من القرآء الكرام، كما وآمل بحثًا علميًّا وجادًّا، يخرج من قول الله عز وجل في قرآنه الكريم: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)) [المائدة :8]
نعم؛ آمل تفاعلا عادلا مع المخالف والموافق، وأن لا تخرجنا عصبيتنا لديننا وقرآننا عن العدل الذي قامت به السموات والأرض.
ولما كان د.موراني قد ربط بين القرآن وبين الإنجيل في كلامه، فسنقتصر في التعريف هنا بالقرآن والإنجيل.
ولكني سأبدأ بأهم المهمات في الموضوع.
نعم أهم المهمات أن نعرف البناء الذي خرج منه د.موراني..
أن نعرف المحيط والكيان الذي جاء منه..
فالإنسان ما هو إلا إفراز من إفرازت كيانٍ بعينه، يعيش فيه، يؤثر ويتأثر..
فلنعرف كيان د.موراني وما هي الصلة بين ما ذكره وبين بقية أقاويل المستشرقين؟
وهل ثمة فرق بين ما يراه د.موراني وبين ما يراه غيره؟
أم ثمة خيط مشترك بين الجميع؟
وبعدها لابد أن نبدأ بالإنجيل فنعرفه؟
نعم ؛ لابد أن نعرف ما هو الإنجيل على الحقيقة، ولكن مع لزوم الاختصار غاية الاختصار وبلا إخلال..
فإلى موراني وكيانه ننطلق بإذن الله تعالى..
وإلى لقاءٍ قريبٍ قادمٍ إن شاء الله..

المستشار سالم عبد الهادي
06-25-2005, 07:38 PM
الإنجيل هو كتاب الله عز وجل الذي أنزله على عيسى بن مريم البتول عليهما السلام.
وأعظم الناس توقيرًا للإنجيل هم أهل الإسلام.
كما أن أعظم الناس وأكثرهم توقيرًا ومحبةً لعيسى ومريم عليهما السلام هم أهل الإسلام.
فنحن في الإسلام نعتقد أن الإنجيل كتاب الله عز وجل المنزل على عيسى عليه السلام، ونؤمن به، ونذعن ونقِرّ بأنه كتاب الله سبحانه وتعالى.
كما نُقر بنبوة عيسى عليه السلام، وأنه كان عبدًا رسولا، وأن الله رفعه إليه سبحانه وتعالى، وسيعود في آخر الزمان كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا بإيجاز ما يؤمن به المسلمون ـ وأنا منهم ـ حول الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى عليه السلام.
وهذا الإنجيل العظيم لا يجوز الطعن فيه أبدًا، ولا يصح إيمان مسلمٍ حتى يؤمن بكتب الله كلها، ومنها الإنجيل.
فالمسلم يؤمن بالإنجيل وغيره من الكتب الإلهية، إضافةً إلى إيمانه بالقرآن الكريم..
بخلاف غيرنا من الأمم..
ولهذا كان المسلم هو أسعد الناس حظًّا في الإيمان بكل الرسل، وبكل الكتب..

أحببتُ البدء بهذه المقدمة الضرورية حتى لا يُساء فهم كلامنا، ولا يظنَّن ظانٌّ أننا نطعن في الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى، حاشا وكلا..

إِذن ما هو الإنجيل الذي سنبحث فيه فيما بعدُ؟ ولماذا؟
الإنجيل نوعان:
الأول: الإنجيل الذي نزل على عيسى بن مريم عليهما السلام، فهذا قد مضت عقيدة المسلمين فيه، ونحن نؤمن به إيمانًا مجملا.
الثاني: الإنجيل الذي بيد النصارى الآن، وهذا هو محل بحثنا، لنتعرف عليه.
وبناءً على هذا آمل من القراء الكرام الانتباه إلى أن البحث سيدور حول الإنجيل الذي بيد النصارى الآن، وليس مرادنا في البحث ذلك الكتاب الرباني الإلهي الذي أنزله الله على نبيه عيسى عليه السلام.

ومن أي جهة سيكون البحث؟
لن نبحث في الإنجيل من حيث التحريفات التي صاغها النصارى فيه، ولا من حيث الاضطرابات والاختلافات التي لا حصر لها فيه، ولكنا سنتناوله من زاوية واحدةٍ فقط، وهي زاوية الثبوت.
هل يثبت هذا الإنجيل عن عيسى عليه السلام؟
هل يثبت عن غير عيسى من أنبياء الله؟ أم هو كتاب مؤلف صاغه بعض الكذابين في أزمنة ماضية؟ أم ..
كل هذا سنتناوله باختصار من خلال بعض النقول اليسيرة التي تؤكد كلامنا ومذهبنا فيما نقول..

ولماذا الاقتصار على قضية الثبوت فقط؟
لأن كلام د.موراني عن قضية الثبوت من حيث كونه وثيقة، كما صرح لي بذلك، وكما صرح به في موضعٍ آخر، سيأتي نقله، فهو يرى أن الكلام عن هذه الأشياء لابد أن يكون متجردًا من الكلام في الإيمان، وأن هذه الأشياء تخضع للبحث العلمي المجرد، بعيدًا عن قضايا الإيمان..
كذا يرى د.موراني، وبغض النظر عن مناقشتنا لهذا الكلام الآن، إلا أن علينا الأمانة في النقل، وأن نعامله كما صاغه كاتبه وأراده..

ولماذا الاختصار؟
لأن البحث في هذا ليس مطلوبًا على الحقيقة هنا، وإنما جاء مكملا لبحثنا الأم حول القرآن، فأردنا أن نكمل الموضوع برسم الصورة التي بنى عليها د.موراني كلامه السابق نقله عنه..

وبعدها سنأتي على د.موراني ونحاول التعرف عليه أيضًا من خلال الربط بينه وبين غيره من المستشرقين.

وبهذا نكون قد مهدنا لبحثنا حول دعوى د. موراني محل الرد..

وإلى لقاءٍ..

المستشار سالم عبد الهادي
06-26-2005, 10:13 PM
نفع الله بكم جميعًا، وممتنٌ لكم..
وقد أعجبني هذا المقال السابق، لحداثة صدوره، وإلا فالنتيجة التي توصل إليها قد باتت مقررة لدى الكثيرين من كبار علماء العهدين القديم والجديد من زمنٍ سحيقٍ.
ولعل أشهر من شهرها في أوائل عصرنا هذا أستاذ اللاهوت الكبير الذي أسلم وصار اسمه: ((إبراهيم خليل)) رحمة الله عليه، وناظر عددًا كبيرًا من القسيسين في السودان، في مناظرة شهيرة طبعتها دار الإفتاء السعودية تحت عنوان: ((المناظرة بين الإسلام والنصرانية)) لمحمد جميل غازي رحمة الله عليه..
لا أطيل في هذا فسيأتي ما يؤكده.
بل لم ينف هذا د.موراني، فهو ممن أكدوا بشرية الإنجيل أيضًا، وسيأتي كلامه.
لكن دعونا نرجع إلى كلام د.موراني السابق هنا، والذي ردده في أكثر من مناسبة في رسائله الخاصة وكلامه العام في ملتقى أهل التفسير..
وذلك بعد التذكير إلى أنه ليس من حق د.موراني أدبيًا أن ينسحب الآن، ومن حق البحث العلمي والقراء الكرام عليه أن يفسر لهم مراده، ولا يكفي أن يفسره لي أو لغيري في رسالتين أو ثلاثة، بل ما كُتِبَ علانية لا يُفسَّر إلا علانية..
ثم هذا من حقوق المسلمين اللذين اطلعوا على هذا الكلام وفهموا منه الإهانة للقرآن الكريم..
فآمل أن يفهم د.موراني هذا الأمر جيدًا..
ثم مِنْ حقِّنا بعد ذلك إذا رفض الحضور أن نفسِّر كلامَه حسبما تقضيه طبيعة معرفتنا وخبرتنا بالاستشراق والمستشرقين وواقع الدراسات الاستشراقية وغير ذلك من الكيانات المحيطة بـ د.موراني، ثم من خلال كلام د.موراني نفسه وتصرفاته وألفاظه وخبرتنا به.
ولا لوم علينا في الدفاع عن القرآن الكريم بالطريقة التي تناسبنا، ونرى فيها مصلحةً للبحث العلمي والقارئ الكريم؛ لأننا نحاكم كلامًا ماثلاً أمامنًا، ولسنا نحاكم شيئًا خفيًّا أو كلامًا لا زال في ضمير كاتبه لم يخرج للعيان..
فسواء حضر د.موراني أو لم يحضر لن يغير ذلك من الأمر شيئًا بالنسبة لنا؛ ولكنه ربما نفعه حضوره من وجوهٍ كما لا يخفى.. ولا شأن لنا باختيارات غيرنا على كل حال!!

المستشار سالم عبد الهادي
06-27-2005, 01:16 AM
إهانات د.موراني المتكررة للقرآن، وانطلاقه في كلامه عنه من أسسٍ دينيةٍ
عبارة د.موراني السابقة تقول: ((وجَمعَ تلاميذُ نولدكه المشهورون المتخصصون في القراءات نسخاً للقُرآنِ بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث.إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق)).
ويقول أيضًا: ((لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ القرآن .رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص . حدث ذلك ـ نعم ! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل...)).
فهذا الكلام الواضح الصريح الذي لا يحتاج لتأويل أو كبير تدبُّرٍ وتدقيق لفهمه، يحتوي على الآتي:
أولاً: ((إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق)).
ثانيًا: ((لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ القرآن)).
ثالثًا: ((رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر حتى ولو كان جزئي للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص)).
رابعًا: ((حدث ذلك ـ نعم ! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل)).
فهنا يُثْبت د.موراني أن النصَّ القرآني المتفق عليه الآن ليس محققًا، وأنه ربما ترتب على تحقيقه إعادة صياغة هذا النص القرآني من جديدٍ؛ لأننا قد نحصل على كلمةِ نقصٍ هنا وكلمة زيادة هناك.
ويفطن د.موراني إلى أن القراء الكرام سيصدمهم هذا الكلام فحاول إزالة الاستغراب والصدمة عنهم بقوله: ((حدث ذلك ـ نعم! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل)).
والسؤال الذي يطرح نفسَه هنا:
إذا كان د.موراني ينطلق من البحث العلمي المجرد، كما يزعم، فهل من قواعد البحث العلمي أن نثبت النتيجة ونصل إليها قبل البحث؟
هل من قواعد البحث أن نقول: ربما أدت المقابلة والتحقيق إلى وجود نقص هنا وزيادة هناك واختلاف في الترتيب؟ نقول هذا كله ونحن لم نبدأ بعدُ في البحث أو المقابلة؟
خاصة وأننا نتعامل مع المتفق عليه، كما يعترف بذلك د.موراني نفسه.
فهل يُعامل المتفق عليه، وعبر أربعة عشر قرنًا من الزمان بمثل هذه المعاملة المبنية على احتمال النتيجة قبل البحث فيه؟
فكيف سيفعل د.موراني فيما لم يُتَّفَق عليه إذن؟
فهل هذه أمانة العلم والبحث التي يزعمها د.موراني، ويطالبنا بالسير خلفه فيها؟
فليقل لنا: مَن مِن الناس على مدار التاريخ قد توصل للنتيجة قبل بحثه؟
خاصةً وأن المستقر والمعمول به والمتفق عليه بشهادة د.موراني هو النص الموجود بين يدي المسلمين الآن..
وحتى لا يتشتت معنا القراء الكرام أقول بعبارة وجيزة:
البحث وسيلة والنتيجة غاية، والغاية لدى د.موراني توضع قبل الوسيلة، وأمام القراء الكرام نصّ كلامه الدال على ذلك.
بخلاف الباحثين والجادين في العلم فالوسائل عندهم لا تتجاوز قدرها ولا حدّها، وتبقى عاجزةً عن طرح النتيجة التي هي الغاية من الوسائل إلا باستكمال أكثر الوسائل، والسير قُدُمًا نحو الغاية المنشودة.
مجرد معرفة الوسائل لا يكفي في استخراج الغايات أو النتائج منها؛ ما لم نسلك هذه الوسائل، لتؤدي بنا في نهاية المطاف إلى النتيجة التي هي الغاية..
ومن لم يسلك الطريق مسافرًا إلى بلدةٍ معينة فلن يصلها أبدًا، ولو ظل عمره جالسًا يفكر في طريقة السفر!!!
بخلاف د.موراني فقد بلغ البلدة، وسافر من محله الذي هو فيه إلى الغاية والنتيجة مباشرة وبلا وسائل أو بحثٍ مسبقٍ.
يقول هذا كله رغم اعتراف بأن الموجود من القرآن الآن هو المتفق عليه!!
فأي اتفاقٍ هذا الذي يزعمه د.موراني بعد نسفه لكل اتفاق؟
ولا أقول أين كان علماء المسلمين على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان، وهم من هم دينًا وعلمًا وفطنةً وذكاءً؛ بل أقول: وأين كان علماء النصارى الأكثر علمًا وحقدًا على الإسلام من د.موراني؟ أمثال: إبراهيم أحمد خليل الذي تحول إلى الإسلام، وهو أستاذ اللاهوت المعروف، والذي صار بعد ذلك شيخًا عظيمًا ينافح عن القرآن الكريم، ويكشف فساد فهم المستشرقين وغيرهم حول مسائل الإسلام المختلفة..
دعنا ننقل لـ د.موراني كلمة ذاك المستشرق الألماني (بلد د.موراني) رودي بارت (1143م) حين يقول: (إن الهدف من الكتابات الاستشراقية كان إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين المسيحي) [الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية للمستشرق رودي بارت ص 11 ترجمه إلى العربية مصطفى ماهر، ونشرته دار الكتاب العربي].
ثم دعنا نرى ما هو الخط المشترك بين د.موراني وبين غيره من المستشرقين في قضية القرآن الكريم.
لنرى ما هو المنطلق الذين ينطلقون منه؟
وما هي الزاوية التي يقصدونها بالتحديد وبلا (لف أو دوران)؟
نرى أن جولدزيهر اليهودي وغيره من المستشرقين يرددون في غير مناسبة دعوى أن القرآن ليس وحيًا من عند الله، وما هو من وجهة نظرهم العليلة إلا مجموعة من ترهات محمدٍ [صلى الله عليه وسلم]، وأنه قد اعتراه التحريف والتبديل بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يثبت جمعه في زمن النبي صلى الله علي وسلم، وأن الحروف الموجودة في أوائل السور (حم عسق) ونحو ما هي في نظرهم إلا أسماء لأصحاب النسخ التي استخدمها زيد بن ثابت [رضي الله عنه] في جمع المصحف في مصحفٍ واحدٍ!!
ويقول هاملوت جيب (1895 ـ 1965م): ((ولما كان محمد يريد أن يشمل دينه الشعوب الأخرى غير العربية أدخل ذلك كله ضمن منهج القرآن)).
وقد فنَّد هذه الأباطيل وردها كلها الأستاذ أنور الجندي رحمه الله في ((المستشرقون والقرآن الكريم)) والشيخ محمد الغزالي في ((دفاع عن العقيدة والشريعة)) وغيرهما..
والذي يهمنا هنا أن الكيان الذي تعلم فيه د.موراني وقرأ وتغذى على كتبه هو هذا الكيان السابق بالطعن في القرآن ونفي إلهيته ومعجزته..
لكن فاق د.موراني كيانه المذكور فجاء يزعم البحث العلمي، حتى إذا سلمنا له بالبحث العلمي المزعوم قال لنا: لا توجد نسخة واحدة من نسخ المصحف الحالي قد كُتِبَتْ في عصر النبوة، وأقدم نسخ مخطوطات المصاحف كتبت بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فيظن أنه بذلك يصل بنا إلى أن القرآن منقطع الإسناد، وأنه لم يثبت به نقل ثابت، وأنه ليس وحيًا!!!
كذا أراد ويريد د.موراني أن يقول، ولكنه لا يصرح به، ومن هنا يفصل د.موراني بين الوحي والعلم في قضيةٍ يستحيل فيها الفصل!!
فيقول: (القرآن نص) ولابد لنا أن نعامله كوثيقة، ووثيقة مهمة، ولا شأن لنا بالوحي، ويزعم أنه لن يكون منصفًا لو تعامل معه على أنه وحي..
ثم يُتْبِع ذلك بأن البحث العلمي في هذا النص القرآني ربما أدى إلى وجود زيادة ونقص واختلاف ترتيب في هذا النص القرآني الموجود بيد المسلمين الآن؛ لأنه في نظره ليس محققًا بمعنى التحقيق، وإن كان متفقًا عليه؟!!!
فهل رأى القراء الكرام عبثًا بالألفاظ، ولا تناقضًا وتنافرًا بين لفظين متجاورين أبشع في تاريخ البشرية من هذه الدعوى المتهالكة؟!!
ثم لنا أن نسأل: هل تغيَّرَت نظرة جولدزيهر وغيره من المستشرقين للقرآن؟ أم أن د.موراني وغيره يرددون تلك النظرة القديمة الرامية للطعن في القرآن ولكن بأسلوب جديد؟
نجد الجواب عن ذلك عند د.موراني حين يقول لنا بوضوحٍ تامٍّ أثناء كلامه عن إدوارد سعيد فيقول د.موراني: ((غير أنه قال كلمة حق ولم يرد بها الا الحق عندما زعم أنّ موقف المستشرقين لم يتغير في جوهره عن موقف أسلافهم , يعني بذلك في الدرجة الأولى موقف المستشرقين من النبي ومن القرآن . الاّ أنه أخطأ عندما زعم أن منهجية الأبحاث لم تتغير)) [مستند 5].
ويقول د.موراني أيضًا: ((أما الموقف المبدئي من القرآن فهو لم يتغير : الاستشراق لا ينظر الى القرآن انه وحي وكتاب منزل بل يعتبره ( كما سبق لي أن قلت) نصا تأريخيا ومصدرا لنبوة محمد . وهذه النظرة متواترة في الدراسات الدينية حول تأريخ النصرانية واليهودية أيضا)) [مستند 5].
ويُفسِّر لنا د.موراني الأمر ويزيده تلبيسًا وتزويرًا للحقيقة في مكانٍ آخر فيقول: ((ومن جانب آخر لا أذكر طعنا ما أو حقدا ( الحقد.... لماذا ؟ ) او حتي تشويها مقصودا لدى Nöldeke الذي أجرى دراسات دقيقة حول (عربية القرآن) حسب منهجية اللغويين , أي بحث وحلل بعض الآيات من ناحية اللغة وأشار الى بعض الظواهر اللغوية والنحوية في نص القرآن ولم يتدخل في شؤؤن العقيدة ولم يطعن أو (يحارب) شيئا من هذا الدين . بل اعتبر المواد التي درسها , كما فعل جولدزيهر , نصا وموضوعا للبحث فقط بدون أي اشعار الى عقيدته هو أو الى عقيدة غيره)) [مستند 6].
فهو راضٍ عن بلايا جولدزيهر وطعوناته في القرآن، والتي سبقت الإشارة لبعضها، ثم هو يلعب بعقول القراء ويُلَبِّس عليهم ويستخف بهم فيقول: ((وأشار الى بعض الظواهر اللغوية والنحوية في نص القرآن ولم يتدخل في شؤؤن العقيدة ولم يطعن أو (يحارب) شيئا من هذا الدين)).
وكأن القرآن ليس أساسًا لعقيدة المسلمين، بل هو لا يمت لعقيدتهم في نظر د.موراني بصلة، فهو كأن لم يكن!! لأن البحث في الظواهر اللغوية فيه وغير ذلك ليس تدخلاً في العقيدة، فإذا كان البحث في القرآن ليس تدخلاً في العقيدة كما يزعم د.موراني، فهذا يعني أن القرآن ليس من العقيدة أصلاً، ولا يمت لها بصلة!!
فهذا هو البحث الحر النزيه الذي يريده د.موراني.
مما يؤكد للقراء الكرام أن د.موراني ينطلق من أسسٍ دينية بحتة، وأنه هو هو جولدزيهر وغيره من الطاعنين في القرآن لا فرق بينهم سوى في آليات التناول كما أشار هو نفسه من قبل في كلامه على إدوارد سعيد.
ويؤكد هذه الحقيقة قول د.موراني في سبب عناية المستشرقين بالقرآن: ((ان السبب ليس كما يقال : كلمة الحق يراد بها الباطل ! بل , القرآن يحتل المرتبة الأولى والعليا باعتباره كتابا مقدسا للدين , ومن هنا يعتبر منطلقا أساسيا لفهم الدين ولدراسته)) [مستند 6].
وهكذا يكتب الله عز وجل التصريح الواضح الجلي على لسان د.موراني لتشهد عليه الأجيال الحالية واللاحقة بما كتبه و خطَّه..
ومن هنا لم يجد د.موراني حرجًا في الإعلان عن مؤتمرٍ أولى محاضراته بعنوان: [اللحن في القرآن . مسائل لغوية وتفسيرية ( ملخص)] [مستند 4].
كما لم يجد د.موراني حرجًا أيضًا أن يُصَرِّح بأن درسات نولدكه المخربة للقرآن والطاعنة في لغته هي ((من الأعمال المعتمد عليها)) فيقول د.موراني:
((فيما يتعلق بدراسات نولدكه حول لغة القرآن ( القرآن والعربية) , فهي دراسات لغوية وأيضا مقارنة باللغات السامية الأخرى فهي تعتبر حتى اليوم من الأعمال المعتمد عليها في االدراسات الحديثة . لا يقول نولدمه انّ في الفرآن (عيوب لغوية) , بل يقول أن فيه عدة ظواهر لغوية متناقضة لغويا واستعمال مفردات استعمالا متناقضة لغويا ليس لها مثيل عند الشعراء وفي لغتهم)) [مستند 3].
ولا ينس د.موراني هنا أن يستخفَّ بعقول المسلمين والقراء كعادته فيقول: ((لا يقول نولدمه انّ في الفرآن (عيوب لغوية) , بل يقول أن فيه عدة ظواهر لغوية متناقضة لغويا واستعمال مفردات استعمالا متناقضة لغويا)).
فلينتبه القراء الكرام‌‌‍‍‍‍!! فهي ليستْ عيوبًا ولكنها ((ظواهر لغوية متناقضة لغويا)) و((استعمال مفردات استعمالا متناقضة لغويا)).
وعليكم يا قراء أن تصدقوا بالشيء ونقيضه في مكانٍ واحدٍ وعلى الرحب والسعة!!
فهل ظنَّ د.موراني بعقول القراء أنها قد بلغت مثل هذا السَّفَه؟!!
أم غرَّه سكوتُ الناسِ عنه على مدار الأيام الماضية؟!! فظنَّ أن سيفلت بجريمته وطعوناته في القرآن المقدس ومن وجهةِ نظرٍ دينية؟!!
وبعد هذا الاستخفاف بعقول القراء والإهانة للقرآن المقدس والانطلاق في طعوناته عليه من أسسٍ دينية كما مضى ذلك واضحًا صريحًا، فبعد هذا كله لا مانع لدى د.موراني أن يمرر تلك الجرائم والإهانات بكلمةٍ تخفي ما مضى في ظنّه، أو يخدع بها السذّج فيقول:
((الباجي يكتب في اجابته مشكورا :

أما أصل المسألة فنحن المسلمين على ثقة فوق التامة بصحة نقل كتابنا حرفا حرفا، هذا أمر منتهى منذ نزل به الروح الأمين، وإلى يوم يرفع من الأرض.

أقول : أنا لا أشكّ ولم أشك أبدا بما تقولون, غير أنّه ليس موضوع الحوار)) [مستند 7].

فأين هذا الذي لا تشك فيه؟! وهل أبقيتَ منه شيئًا حتى تشك أو لا تشك؟!!

المستشار سالم عبد الهادي
06-27-2005, 05:11 AM
هل يُعَدّ د.موراني مبشِّرًا نصرانيًّا؟!

لا زلنا نُمَهِّد لموضوعنا الذي قصدنا لبيانه، وهو إزالة شبهة د.موراني المذكورة حول القرآن الكريم، ولكن كان علينا كما سبق أن نتعرف أولاً على د.موراني، وأفضل من يُعَرِّفنا به هو كلامُه الذي وقفنا عليه، ثم علينا بعد ذلك أن نتعرَّف على هذا الكتاب الذي قرَنَه د.موراني بالقرآن الكريم، وأراد عبثًا أن يُسوّي بينهما، وإِنْ لم يقلها صراحةً؛ لكنها فاحتْ من بين السطور، وما بين السطور يهتك خبايا المستور‍‍!!
لا زلنا نتعرف على د.موراني، وجوانب شخصيته!!

وقد أثبتنا في المداخلة السابقة بما لا يدع مجالا للشك، ومن خلال كلام د.موراني انطلاقه في بحثه ودراسته حول القرآن وغيره من علوم الإسلام من أسسٍ دينيةٍ بحتةٍ، وأشرنا إلى تلك الإهانات التي وجهها للقرآن الكريم، وللدين الإسلامي.

كما أشرنا إلى أسلوبه الملتوي في الاستخفاف بعقول القراء والتلبيس عليهم، لتنطلي عليهم حيلته!!
وإِذْ وصلنا إلى هذا الحد: علينا الآن أن نسأل: هل كان د.موراني مبشرًا نصرانيًّا؟
نسأل د.موراني عن هذا الأمر وننتظر جوابه كعادتنا فإذا به يقول لنا:
((ومن يتساءل ويشك فيما يؤمن المسلم به أو يرفض علانية ان هذا الكتاب غير منزل ويخوض حوارا ومجادلة من زاوية دينه وايمانه ضد (أهل القرآن) فهو ليس من المستشرقين . قد يكون (مبشرا) أو داعيا الى فرقة من الفرق الدينية الكثيرة)) [مستند 6].
فالمبشر عند د.موراني هو من رفض أن الكتاب (يعني القرآن) غير منزل، وهو من خاض حوارًا ومجادلة من زاوية دينه وإيمانه ضد أهل القرآن كما يقول، ففي هذه الحالة:
ليس من المستشرقين
قد يكون مبشرًا
أو داعيًا إلى فرقة من الفرق الدينية الكثيرة..
هذه هي النتائج الثلاثة التي ذكرها لنا د.موراني.
وأقول: قد سبق بيان انطلاق د.موراني في بحثه من أسسٍ دينيةٍ، كما سبق ما يدل على متابعته لأسلافه في الطعن في القرآن وعدم الإيمان بإلهيته أصلا؛ لأنهم هكذا كانوا يؤمنون به ـ يعني أسلافه ـ ثم جاء د.موراني ليقرر كما سبق في المداخلة السابقة أن موقف الاستشراق من القرآن لم يتغير، في الوقت الذي أشاد فيه د.موراني بأمثال جولدزيهر وغيره ممن أنكر أن يكون القرآن وحيًا، فهذا يعني لدى أقل العقول فهمًا أن يكون د.موراني متابعًا لهم حذو القذة بالقذة..
ثم يعني ذلك لدى أقل العقول ممارسةً للفهم: أن يكون د.موراني مبشِّرًا نصرانيًّا حتى النخاع!!
ولسنا في حاجة للإطالة بعد كلام د.موراني السابق نقله عنه في المداخلة السابقة، فقد قطع قولَ كلِّ خطيب!!


وما هي أوصاف هؤلاء المبشِّرين لدى د.موراني؟ وهل تعرفها وتبينها لنا أيها الكاتب؟
أقول: نعم وقفتُ على بعض الأوصاف في كلام د.موراني للمبشرين أو لمن يقوم بتحريف القرآن.
فيقول لنا في وصفه لجماعة قاموا بإصدار مصحف اسمه مصحف الفرقان، حرفوا فيه تحريفًا عظيمًا، واخترعوا سورًا من عندهم، وحشوه بالتنصير والنصرانية، وسموا بعض سوره بأسماء سور القرآن تلبيسًا وتزويرًا منهم للحقيقة، فقال د.موراني: ((هذا مثل آخر لتلك الفرق الكثيرة المنتشرة في الغرب خاصة في أمريكا كان من المستحسن تجاهلهم تماما وعدم ذكرهم لان ذكرهم بمثابة اشهار لهم وهذا ما يريدون......وهم شرار خلق الله
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا)).
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=2683

وقال موراني في موضع آخر أثناء كلامه عن كتاب (جمع القرآن) لبعض المستشرقين [مع ملاحظة عدم الانخداع بتفريقه بين المبشرين والمستشرقين هنا]، حيث قال:
((الى من بصدد هذا الأمر :
لقد صدر هذا الكتاب عام 1989
ولم اسمع به الى يومنا هذا ( والحمد لله !)
أما المؤلف فلم اجد اسمه مذكورا في الدراسات الاستشراقية حتى اليوم
ولم أعثر على اسمه مشاركا في المؤتمرات والندوات الاكاديمية حتى يومنا هذا أيضا
كل ما يقلقني في هذا الأمر أن كل من يغمس لسانه في الحضارة الاسلامية
دينا كان قرآنا او حديثا تفسيرا أو أدبا أو شعرا ...الخ فهو يسمى ب(مستشرق).
هذا أيضا من الشبهات ! هذا المؤلف قام بشيء مرفوض رفضا تاما
وينبغي ألا نعالج أسلوبه بأساليب العلم أو بأساليب الايمان
لأن كل ما وراء كلامه لا يدخل من باب الاستشراق بل مكانه في دار النصارى المتعصبين والمبشرين .
وأرجو من الجميع أن يتفضلوا بالتفريق بين هذا وبين الاستشراق مشكورين لأن هذا في واد والمستشرق في واد آخر تماما
موراني
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا))
وقال في موضع آخر أثناء الكلام عن ((الاختلافات اللفظية في استشهادات قرآنية... شبهات تنصيرية)):
((الاخ الكريم ش . م .
ربما كنت أنا متفاءلا أكثر منكم عند معالجة المسألة المطروحة هنا .
لأنني لا أظن أنّ هناك مسلما واعيا معتصما بدينه يتعرض لفتنة بسبب ما يزعم هؤلاء أذلة وأقلة من الناس .
السبيل الوحيد لايقاف هذه الآراء الفاسدة من جانب هؤلاء الضالين هو عدم ذكرهم وعدم الرد عليهم . هذا الطريق نافع جدا في الانترنيت على الأقل .
عندما تجيب عليهم بما هو أحسن وأصح , بل الصحيح , فدخلت معهم في الحوار والمجادلة . وهذا هو بالضبط ما يريدون !
التجاهل الكامل في هذه الحالة خير من مجادلتهم .
وفقكم الله
موراني
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا)).
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?p=7471#post7471
ولا شك أن دعوة د.موراني لتجاهلهم هنا المراد منها أن يتجاهلهم أولوا العلم والنهى، ليُتْرك لهم المجال الرحب الفسيح مع عامة الناس وضعفاء العلم يلبسون عليهم دينهم ويفعلون ويفعلون!!
وبهذا الذي سبق عن د.موراني أختتم لقاء اليوم مع القراء الكرام، آملاً أن ييسر لي الله عز وجل العودة القريبة لاستكمال الموضوع بكافة جوانبه إن شاء الله.
خاصةً وأننا لا زلنا في بداية الطريق، ولا زلنا نمهد للكثير والكثير!!
وآسف لاستعجال كشف هذه الحقيقة التي ربما طالبني بعض الأفاضل بتأخيرها حينًا؛ لكني ممَّن يؤمنون بالحكمة القائلة: ((لا تؤخِّر عمل اليوم إلى الغد))!!
وإلى لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى..
بعد أن نُذَكِّر القراء الكرام بحصاد اليوم الإخباري!!..

المستشار سالم عبد الهادي
06-27-2005, 06:34 PM
المستندات
لكننا نؤجل حصاد اليوم الإخباري حتى يقف القراء الكرام أولا على مصدرنا الذي أخذنا منه كلام د.موراني، وأشرنا إليه عقب النقل منه بقولنا: ((مستند1، مستند 2)) إلخ..
فلابد أولا من وضع هذه المستندات تحت تصرف القراء الكرام، ليروا بأنفسهم، ويستخرجوا منها ما لم يسبق لنا استخراجه، ويعينونا في هذا السبيل بالنصح والمشورة والمساعدة إن شاء الله عز وجل..
وهذه المستندات التي أذكرها للقراء الآن هي مشاركات د.موراني، أذكرها بنصها عن طريق القص واللصق بالجهاز مباشرة، وأضع في نهايتها رابطها على الشبكة إن شاء الله تعالى..
وآمل أن يتدبر القراء الكرام فيها، ويخرجوا منها ما لم نخرجه فيما سبق..
وهي كالتالي:


[مستند 1]
يقول د.موراني في بعض المناسبات:
((الباجي المحترم يقول :
فكلا قصديه باطل لا محالة، لأن القرآن مصدره الوحي الإلهي ليس غير، فهو من عند الله لفظا ومعنى، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.

حسن ! يتبين من خلال هذا القول ان صاحبه ينطلق من ايمانه المطلق بالوحي . وليس لي أن أمسّ شيئا في هذا الايمان بل عليه أيضا أن أحترمه . فهذا هو ما أفعله دائما في الحوار العلمي مع غيري , مع المسلم المؤمن .
الي جانب هذا الاحترام هناك شيء آخر لا بد من ذكره (بدلا من مهاجمته) , فهو :
انّ القرآن نصّ ( الى جانب أنه وحي لمن يؤمن به)
والأبيات لهؤلاء الشعراء أيضا نص ( ولا أقول انّ هذا النص مزيّف )

ومن هنا لا أقول انّ النص القرآني أدخل فيه شيء من الشعر
كما لا أقول أن الشعر قد أخذ شيئا من نص القرآن .

عندما نجتنب القضايا التي تتعلق بالايمان فقط نجد أننا نواجه نصّين : القرآن من ناحية والأبيات في شعر هؤلاء الشعراء من ناحية أخرى .

فمن هنا لا نقول : القرآن جزء من الشعر المعاصر في عصر النبوة , كما لا نقول انّ النص القرآني ( الوحي ) له تأثير على هذا الشعر .
لا شك في أن المجتمعات في جزيرة العرب تأثرت بالأفكار الحنيفيين , أي بفكرة التوحيد .

وقد بلغت هذه الحركة التأريخية ذروتها في النبوة : .....(ورضيت لكم الاسلام دينا ) , كما ذكرت ذلك في اللقاء مع هذا الملتقى المفيد من قبل .

الباجي المحترم : عندما تترك مسألة الايمان الى الجانب وتحاول اجراء الحوار وفق البحث الوضعي سترى اننا سنصل في النهاية الى خلاصة في البحث لا يشك فيها أحد : هذا يرضى بايمانه بالنص , وذلك يرضى برأيه العلمي المعتمد على النص أيضا .
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا)).
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3363

[مستند 2]
الجمع بين الأسئلة
أشكر للجميع على اهتمامهم ومشاركاتهم في هذا الحوار .
قد يكون من المستحسن أن أجمع بين بعض الأسئلة المطروحة في الأيام السابقة وذلك بسبب
التشابه بعضها بالبعض حينا وبين أهدافها حينا آخر .
كما أبرزت في مطلع هذا الحوار ليس في الاستشراق المعاصر والحديث أغراض لتشويه الدين الاسلامي أو زرع بذور الشكوك في قلوب المسلمين . الهدف الرئيس في البحث هو اتّباع المبدأ الأساسية في جميع نواحي الدراسات , وهو الموضوعية في البحث. ليس هذا المبدأ وليدة العقود الماضية بل هو المنطلق عند دراسة جميع الأديان والحضارات شرقية كانت أو غربية.
نقطة الخلاف بين الاستشراق الغربي والمفهوم الذاتي لدى المسلمين ترجع أساسا الى مسألة الفصل بين الدين ومتطلباته من ناحية وبين العلم ومتطلباته من ناحية أخرى . ما كان في الدين فرضا لا مجال للشك فيه يصبح في العلم موضوع البحث ومن هنا لا يخضع للمعايير الدينية .
عندما يقترب الباحث من القرآن باعتباره وحيا وكتابا منزلا يأتي بنتائج لا تخرج من نطاق المتطلبات الدينية بل تتفق مع ما فرضت التعاليم الدينية على الباحث .
عند القراءة في الكتب التي ألفت حول نبي الاسلام يتبين للجميع مسلما كان أو غير مسلم أنّ الاستشراق يعتبر محمدا شخصية تاريخية ونبيا معا . فالسبب لذلك لا يعود الى (ايمان) الباحث بالنبوة بل الى اقتناعه الثابت أن محمدا قد رأى نفسه رسولا وعبرت عن ذلك عدة آيات في القرآن كما عبرت عن اخلاصه وعن أبعاد ايمانه الذي لا يشك فيه أحد . فالوثيقة التأرخية التي تؤدّي بالباحث الى هذه المعرفة هي القرآن نفسه . أو بعبارات أخرى : لقد وصلت الى نفس الحقيقة والى نفس المعرفة التي يؤمن به المسلم بعدم اعتبار مصدري ( أي القرآن) وحيا بالضرورة أو كتابا منزلا .
لقد كتب الاستشراق كتبا ومقالات ودراسات حول عصر النبوة والتاريخ الاسلامي في مختلف فتراته غير أنني لا أذكر كتابا رفض مؤلفه فيه النبوة . من هذه الكتب الأساسية ما أصدره المستشرق الانجليزي W.Montgomery WATT في مجلدين : محمد في مكة ومحمد في المدينة . ولخصهما في كتيب عام 1961 تحت العنوان : محمد النبي والسياسي Muhammad Prophet and Statesman .
فالباحث يعترف اذا بهذه الشخصية نبيا وسياسيا ويرى في سيرته تطورا هائلا مرسوما في كتب السيرة وفي الفرآن معا . بل يرى أيضا أن هناك تطورا ملموسا حتى في اللغة من الآيات المكية الأولى الى ما بلغ هذا الدين ذروته في الآية:

( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا )
وكذلك في خطبة حجة الوداع .
اذا يتخذ الباحث مبدأ (الموضوعية) أساسا لبحثه فيجب أن يعترف بالعظمة التأريخية وأبعادها بكل سهولة تاركا مسألة الايمان والشعور الدينية الى الجانب .

(سيتبع)
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3015&page=2&pp=15

[مستند 3]
فيما يتعلق بدراسات نولدكه حول لغة القرآن ( القرآن والعربية) , فهي دراسات لغوية وأيضا مقارنة باللغات السامية الأخرى فهي تعتبر حتى اليوم من الأعمال المعتمد عليها في االدراسات الحديثة . لا يقول نولدمه انّ في الفرآن (عيوب لغوية) , بل يقول أن فيه عدة ظواهر لغوية متناقضة لغويا واستعمال مفردات استعمالا متناقضة لغويا ليس لها مثيل عند الشعراء وفي لغتهم. ويتأسف على أنّ كتاب القراءات للطبري بقي في حكم المفقود .
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3015&page=3&pp=15

[مستند 4]
المؤتمر ال29 للمستشرقين الألمان
يعقد المؤتمر التاسع والعشرون للمستشرقين الألمان في مدينة Halle في ألمانيا بين 20 الى 23 هذا الشهر .
ونظرا الى أن الأخبار حول هذا اللقاء العلمي باللغة الألمانية في الغالب أود أن أفيدكم بعناوين بعض المحاضرات المتعلقة بدراسات القرآنية :
- اللحن في القرآن . مسائل لغوية وتفسيرية ( ملخص) .
- حول تفسير بعض الآيات القرآنية في الكتاب لسيبويه.
- أقدم مدرسة للغة العربية .
- ملاحظات حول نشأة فقه اللغة وعلاقته بتفسير القرآن .
- يسار نوري أزترك و(العودة الى القرآن) في تركيا .
- التفسير الأدبي في مصر .
- قضية الحكم في التفسير لدي سيد القطب .
- تأريخية القرآن . مناقشات معاصرة عند الأكادميين في تركيا .

http://www.dot2004.de/aktuell.php

موراني
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=2627

[مستند5]
(الاستشراق) لأدوارد سعيد
لم يكن مؤلف هذا كتاب مستشرقا ولم يدرس المواد الاستشراقية , بل (كما يقال) كان (مفكرا عربيا) ومتخصصا في الأدب الانجليزي . وحكمه وموقفه من الاستشراق الحديث يتركزان على بعض أعمال الاستشراقية باللغة الانجليزية بغير لفط النظر الى الاستشراق الألماني أو الفرنسي وحتى الاسباني حتى ولو بجملة قصيرة .
غير أنه قال كلمة حق ولم يرد بها الا الحق عندما زعم أنّ موقف المستشرقين لم يتغير في جوهره عن موقف أسلافهم , يعني بذلك في الدرجة الأولى موقف المستشرقين من النبي ومن القرآن . الاّ أنه أخطأ عندما زعم أن منهجية الأبحاث لم تتغير . انه كان عاجزا من أن يرى أن المنهجية والاقتراب من العلوم الاسلامية قد تغيّر كما تغيرت الأوضاع بظهور المصادر الجديدة التي لم يتناولها الأسلاف بسبب عدم وجودها في بداية القرن 20 م مثلا .
أما الموقف المبدئي من القرآن فهو لم يتغير : الاستشراق لا ينظر الى القرآن انه وحي وكتاب منزل بل يعتبره ( كما سبق لي أن قلت) نصا تأريخيا ومصدرا لنبوة محمد . وهذه النظرة متواترة في الدراسات الدينية حول تأريخ النصرانية واليهودية أيضا . اذ لا يعتبر الباحث الانجيل (مثلا) كتابا مقدسا في الأبحاث الموضوعية اذ ان اعتبره مقدسا أو حتى وحيا فارق ميدان الموضوعية في البحث . وكيف يعتبره وحيا عندما يجد في بداية كل كتاب فيه اسم مؤلفه الذين نشؤوا ما بين 60 الي110 عام بعد نشاط عيسى ! النظرة التأريخية شيء ونظرية الكنيسة وتعاليمها شيء آخر تماما . وهكذا الامر في الدراسات حول القرآن أيضا الذي يعتبر نصا تأريخيا . أنا شخصيا أنصح وأصرّ على النصيحة لطلابي ألا ينسوا أن هذا الكتاب الذي جعلوها موضوعا لدراساتهم ليس نصا فحسب بل هو أيضا وحي لمن يؤمن به ولذلك ليس لي أن أتجاوز حدودا رسمتها الأخلاق كما فرضها عليّ الاحترام تجاه ايمان الآخر به .
عندما ننظر الى الحضارة الاسلامية بعد الانتشار السريع والمذهل للاسلام ديانة جديدة من الحجاز الى بلاد الشام والعرق ومصر خلال ما يقل عن 30 سنة من التأريخ فلا بد أن نعترف بالحقيقة أن لقاء الحضارات والمجتمعات المختلفة بعضها ببعض لم يتم بغير تأثير متبادل , فمن هنا للاسلام وجوه حتى الى يومنا هذا , أم لا يرى المرء المتأمل آثارا فارسيا وهنديا وغيرها في الحضارة العربية ؟
لقد قلتم :
الإسلام مزيج ثقافي مستعار من عدة ثقافات أخرى يهودية ونصرانية، يونانية وفارسية , كما جاء ذلك على لسان الاستشراق .
ربما كانت العبارة ( مستعار) في غير موضعها . قد يكون من المستحسن أن يقال أنّ الأديان التوحيدية تكمن فيها جميعا عناصر متشابهة وأصول تجمع بين هذه الأديان , وهي فكرة التوحيد . لا أحد يزعم حسب علمي أنّ الاسلام لا ذاتية أصلية له كما لا أحد يزعم أنّ جميع العناصر والأفكار الاخلاقية (مستعارة) من غيره .
ومن يزعم أن الاسلام دينا وحضارة قد نشأ في فراغ بغير علاقة بما حوله من البيئة فتجاهل الوقائع التأريخة المسلّم بها في حضارة البشرية .
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3015&page=2&pp=15

[مستند 6]
لكي أجيب على السؤال الذي طرحه الاستاذ عبد الرحمن الشهري مشكورا , وهو :
(وهل ما كتب أعلاه على صواب أم أن فيه تحاملاً على المستشرقين .)
أقول صراحة لكن بتحفظات :
ليس صوابا ! بل هو تحامل شديد لأسباب لا يذكرها الا القليل النادر , وسأذكرها أنا
فيما بعد .
نعم , كل من يهتم باللغات والحضارات الشرقية بدءا باللغة التركية ( العثمانية القديمة) عبر الحضارات الى الحضارة اليابانية اهتماما علميا وعلى مستوى الكليات والجامعات
يسمى بمستشرق . أما نحن فالمقصود في هذا المجال المستشرق القائم بدراسات لجوانب الحضارة الاسلامية . ولهذه العبارة جوانب سلبية بلا شك غير أنني لا أتحدث ههنا بلسان رسمي الذي لا وجود له ولا أدافع عن أحد في الفئات الاستشراقية المعاصرة أو الماضية , بل أحب أن أشير الى أن هناك اختلافا ملموسا وأساسيا عند معالجة ظواهر هذه الحضارة وهذا الدين وعند البحث فيه, وهو يرجع الى الآتي :
المستشرق لا ينطلق في أبحاثه من الأسس الثابتة في الايمان أو العقيدة , بل هو بذاتي علماني بالمعنى أنه لا يقوم بابحاث قرآنية على الأساس أن هذا الكتاب وحي
أو بأخرى أن هذا الكتاب منزل , بل يقول :
ان هذا الكتاب الذي يعتبره كل مسلم وحيا وكتابا منزلا على البشر , هذا الكتاب نص !

ومن يتساءل ويشك فيما يؤمن المسلم به أو يرفض علانية ان هذا الكتاب غير منزل ويخوض حوارا ومجادلة من زاوية دينه وايمانه ضد (أهل القرآن) فهو ليس من المستشرقين . قد يكون (مبشرا) أو داعيا الى فرقة من الفرق الدينية الكثيرة .
ومن هنا يأتي الاختلاف ( في نظري) بين المسلمين والمستشرقين وما أدى الى وصف المستشرقين (بطعن) و(تشويه) و (عداوة ) و(حقد) ما الى ذلك في القاموس من المفردات والصفات السلبية ضد المستشرقين .

ولذلك ( بمنتهى الايجاز ) أرى أن الرأي المذكور أعلاه ليس صوابا بل ينطلق من نقطة أخرى غير انطلاق المستشرق .
يبقى السؤال المطروح : ما هو السبب لاهتمام المستشرقين بالقرآن وجمعه وعلومه ؟

ولهذه المشاركة تتمة .

تقديرا

موراني
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا


لقد جاء ذكر بعض المستشرقين الذين قاموا بدراسات حول القرآن وعلومه , وهم من قدماء المستشرقين ما عدا John Burton
الذي أخرج كتاب الناسخ والمنسوخ لأبي عبيد القاسم بن سلام ( اعتمادا على المخطوط أحمد الثالث , الرقم 143 أ ) عام 1987 . هذا , فيرى بيرتون أن القرآن كان بين يدي المسلمين عند وفاة نبي الاسلام كما هو بين يدينا اليوم . هذا من جانب .

ومن جانب آخر لا أذكر طعنا ما أو حقدا ( الحقد.... لماذا ؟ ) او حتي تشويها مقصودا لدى Nöldeke [SIZE=6]الذي أجرى دراسات دقيقة حول (عربية القرآن) حسب منهجية اللغويين , أي بحث وحلل بعض الآيات من ناحية اللغة وأشار الى بعض الظواهر اللغوية والنحوية في نص القرآن ولم يتدخل في شؤؤن العقيدة ولم يطعن أو (يحارب) شيئا من هذا الدين .
بل اعتبر المواد التي درسها , كما فعل جولدزيهر , نصا وموضوعا للبحث فقط بدون أي اشعار الى عقيدته هو أو الى عقيدة غيره .

نعم , ما هو السبب لهذا الاهتمام بالقرآن وعلومه لدى المستشرقين ؟

ان السبب ليس كما يقال : كلمة الحق يراد بها الباطل ! بل , القرآن يحتل المرتبة الأولى والعليا باعتباره كتابا مقدسا للدين , ومن هنا يعتبر منطلقا أساسيا لفهم الدين ولدراسته .
وكذلك أيضا عند المسلمين : أليس القرآن هو البداية والنهاية لجميع أمور الناس في حياتهم اليومية ومعاملاتهم بعضهم البعض وما بعدها في ايمانهم بالآخرة ؟
الفرق بين هؤلاء وأولائك أن الأول لا يبحث حسب معايير القواعد العقائدية الثابتة ( كما قلت سابقا ) بل يبحث في القرآن باعتباره الوثيقة العليا نصا لهذه الحضارة التي لا يشك في عظمتها الا الضال والمضل في الفئات والفرق الدينية السابق ذكرها !

الاهتمام بالقرآن وبعلومه اذا مفروض وفهمه واجب (حسب القدرة !) والبحث فيه
من الضروريات العلمية الملحة على كل من يود التقارب الى هذا الدين علميا ( ولا أقول روحيا .... وأرجو التمييز في هذا الموضع بالذات ) .

لقد ازداد اهتمام بعض المستشرقين المعاصرين بالقرآن في الأعوام العشرة أو أكثر الماضية وقام بعضهم في دراسات لغوية وتحليلية حول نص القرآن وعرضوا أبحاثا لا بأس بها حول النحو والتفسير في القرون الأولى للاسلام ( المدارس النحوية في البصرة والكوفة ) ,
وقام البعض الآخر بدراسات تأريخية حول روايات كتب التفسير وتحديد نشأتها تاريخيا
( وقد هاجموني أنا شخصيا فيها لرأئي المغاير لهم ....لكن هذا سيكون موضوعا آخر) ,
كما درس الآخرون النص وميزات السور المكية والمدنية من ناحية اللغة فيها .

لا أذكر في هذه الدراسات شيئا من الطعن .

هكذا الأمر في حضارة النصارى : الاهتمام في (انجيل) مستمر كما الاهتمام بالتوراة لدى اليهود مستمر أيضا . هنا عند النصارى وهناك عند اليهود فرقتان : احداهما يدرس الكتاب من الناحية الدينية فقط
والأخرى يدرسه من الناحية العلمية التأريخية اللغوية فيترك الايمان ايمانا ويفضل
في ذلك العلم علما .
الدراسات حول الانجيل تملي مكتبات , وهي دراسات موضوعية ومتناقضة بعضها البعض حول فهم النص وتأريخه كما هو بين يدينا اليوم . وليس في ذلك شيء من الحرج , بل هذه دراسات تعتبر من المواد العلمية في الدراسة في كليات الجامعات
منذ أكثر من 100 عام . أما الفريق الآخر فيتمسك بمفاهيم الايمان لما جاء في هذه الكتب .
وهكذا الأمر في دراسات المستشرقين حول القرآن وعلومه .

لتجنب سوء التفاهم بين أعضاء الكرام في هذا الملتقى وبين ما ذكرت هنا في سطور سريعة أود أن أبرز انني لا أدافع عن أحد له نصيب في صنعة الاستشراق قديما كان أو حديثا , الا أنني أرجو وأتمنى أن يحترم المرء الرأي الآخر ويضع في عين الاعتبار أن هذا الآخر لا يتركز على القواعد العقائدية بالضرورة عندما يدرس الكتب المقدسة للأديان عامة .

ولهذه المشاركة أيضا ربما (!) تتمة .



موراني
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?s=&threadid=1454


[مستند 7]
الباجي يكتب في اجابته مشكورا :

أما أصل المسألة فنحن المسلمين على ثقة فوق التامة بصحة نقل كتابنا حرفا حرفا، هذا أمر منتهى منذ نزل به الروح الأمين، وإلى يوم يرفع من الأرض.

أقول : أنا لا أشكّ ولم أشك أبدا بما تقولون , غير أنّه ليس موضوع الحوار .
__________________
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3333

المستشار سالم عبد الهادي
06-28-2005, 06:44 AM
والآن جاء أوان الوفاء للقراء الكرام بما وعدتهم به سابقًا من التذكرة بـ (حصاد اليوم الإخباري)، وهي عادة سنكررها بإذن الله تعالى كل مدة للتذكير بأهم الأنباء..

الــعـــنــاوين

ـ إهانات د.موراني المتكررة للقرآن، وانطلاقه في كلامه عنه من أسسٍ دينيةٍ

ـ هل يُعَدّ د.موراني مبشِّرًا نصرانيًّا؟!

ـ وما هي أوصاف هؤلاء المبشِّرين لدى د.موراني؟ وهل تعرفها وتبينها لنا أيها الكاتب؟

ـ المستندات

أهم أقوال د.موراني السابقة

ـ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق

ـ رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ

ـ لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ القرآن

ـ الاستشراق لا ينظر الى القرآن انه وحي وكتاب منزل بل يعتبره ( كما سبق لي أن قلت) نصا تأريخيا ومصدرا لنبوة محمد .

ـ القرآن يحتل المرتبة الأولى والعليا باعتباره كتابا مقدسا للدين , ومن هنا يعتبر منطلقا أساسيا لفهم الدين ولدراسته
ـ لا يقول نولدمه انّ في الفرآن (عيوب لغوية) , بل يقول أن فيه عدة ظواهر لغوية متناقضة لغويا واستعمال مفردات استعمالا متناقضة لغويا
ـ وهم شرار خلق الله

أقوال محورية سابقة

يقول المستشرق الألماني (بلد د.موراني) رودي بارت (1143م): ((إن الهدف من الكتابات الاستشراقية كان إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين المسيحي)).

المستشار سالم عبد الهادي
06-29-2005, 11:50 PM
ماذا وراء مقارنة د.موراني
بين القرآن وبين الإنـجـيـل (الحالي)؟

الإنجيل نوعان:
الأول: ما أنزله الله عز وجل على عيسى عليه السلام، فهذا نؤمن به إيمانًا مجملاً؛ بل لا يصح إيمان المسلمين إلا بالإيمان بالله وكتبه ورسله..
والثاني: الإنجيل الذي بيد النصارى الآن، وهذا هو محل هذه اللفتة السريعة هنا..
وعلى الرغم من أنه ليس مقصودًا بالبحث هنا؛ إلا أنه قد فرض نفسَه على البحث لوروده في عبارة د.موراني التي قرن فيها القرآن بالإنجيل حين قال: ((كان هناك مشروع في النص القرآني))..إلخ.
فالكلام هنا كما يرى القراء عن النص القرآني، لا عن الإنجيل، لكنه استطرد في كلامه عن القرآن حتى وصل إلى احتمال نتائج تحقيق القرآن وما تُسفر عنه الدراسة المقارنة لنُسَخِه ـ بزعمه ـ فقال: ((رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر حتى ولو كان جزئي للآيات كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص)) وقبل أن يعترض معترِضٌ بسؤال أو استغراب بادر هو بالجواب عن هذا كله عقب كلامه السابق مباشرة فقال: ((حدث ذلك ـ نعم ! ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل .....)) (وقد سبق نقلها عن شبكة التفسير مباشرة، مع ضرورة لفت أنظار القراء أن النقل دائمًا هو عن الشبكة نفسها، لا عن لقائها بـ د.موراني بعد تعديله ونشره في عدة منتديات).
ومهما قال د.موراني من كونه لم يقصد المقارنة ولا المقابلة بين القرآن الكريم وبين الإنجيل الذي بأيدي النصارى الآن؛ فمهما حاول د.موراني نفي هذه المقارنة؛ فإن السياق الذي سبق له يأْبَى إلا المقابلة والمقارنة بين القرآن العظيم، وبين الإنجيل الذي بيد النصارى الآن..
لأنه لابد للمذكورين معًا في سياقٍ واحدٍ من رابطٍ مشتركٍ بينهما، أيًّا كان هذا الرابط!!
فالمقابلة أو المقارنة حاصلةٌ لا محالة في عبارته.
فهو تكلم أولاً على القرآن، وذكر حاجته للتحقيق، ثم نفى استغراب القراء حول هذه القضية بأن ربطها بما حصل من قبلُ في الإنجيل.
فكأنه يقول لهم: ربما حصلنا على اختلاف ترتيب وزيادة ونقص عند الدراسة المقارنة، ثم يحتمل أن غيره قاطعه واعترض عليه مندهشًا لهذا الكلام، فأزال عنه الدهشة والاستغراب بقوله: ((حدث هذا ـ نعم ـ عند دراسة النصوص في الإنجيل))!!
فهذه مقابلة ومقارنة مقصودة، كما يرى القراء الكرام..

ولا يكاد د.موراني يملّ من هذه المقارنة أبدًا، فهو يرددها في أكثر من مناسبة، فنراه يقول في موضع آخر مثلاً: ((أما الموقف المبدئي من القرآن فهو لم يتغير : الاستشراق لا ينظر الى القرآن انه وحي وكتاب منزل بل يعتبره ( كما سبق لي أن قلت) نصا تأريخيا ومصدرا لنبوة محمد . وهذه النظرة متواترة في الدراسات الدينية حول تأريخ النصرانية واليهودية أيضا)) [مستند 5].

وبناءً على هذه المقابلة والمقارنة المتعمدة، وفي أكثر من مكانٍ؛ كان علينا أن نتعرض لهذا الجزء من عبارة د.موراني، لنقف على غايته ومقصده من وراء هذه المقارنة..
نعم.. كان لابد من فهم غاية د.موراني من هذه المقارنة المتكررة والمقصودة؟

واختصارًا لجدلٍ طويلٍ ربما يقوم به بعضهم، وقطعًا للنقاش فسنسأل د.موراني نفسه عن رأيه في الإنجيل؟ لنتعرف من خلال ذلك على ما وراء مقارنته بين القرآن وبين الإنجيل في عبارته السابقة.
وبلا شك أن مقارنة السيف بالسيف تختلف عن مقارنة السيف بالعصا!!

المستشار سالم عبد الهادي
06-30-2005, 01:34 PM
مقدَّسٌ حتى إشعار آخر!!
الإنجيل في نظر د.موراني
وماذا يريد من القرآن؟

يتحدث د.موراني عن الإنجيل فيقول: ((لا يعتبر الباحث الانجيل (مثلا) كتابا مقدسا في الأبحاث الموضوعية اذ ان اعتبره مقدسا أو حتى وحيا فارق ميدان الموضوعية في البحث . وكيف يعتبره وحيا عندما يجد في بداية كل كتاب فيه اسم مؤلفه الذين نشؤوا ما بين 60 الي110 عام بعد نشاط عيسى ! النظرة التأريخية شيء ونظرية الكنيسة وتعاليمها شيء آخر تماما)).http://www.tafsir.net/vb/showthread.php?t=3015&page=2&pp=15
وسنقتصر من عبارة د.موراني على أمرين:
أولاً: أن مؤلفي الإنجيل الحالي لم يُدْرِكوا نبي الله عيسى عليه السلام، فالإسناد منقطع، بدلالة قول د.موراني: ((الذين نشؤوا ما بين 60 الي110 عام بعد نشاط عيسى!)).
ويُعَلِّل أحد القسيسين هذه القضية في مناظرة العلامة رحمة الله الهندي له بقوله (يعني القس): ((إن سبب فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على المسيحيين إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة)).
وهذه ليست بعلة على الحقيقة، لأن ما أصاب المسلمين عبر العصور هو أكبر وأعظم مما أصاب النصارى، ومع هذا احتفظ المسلمون بأسانيدهم حتى اليوم، مما يؤكد أن الله عز وجل اختصهم دون غيرهم بشرف الإسناد، وقد ذكر ذلك جماعة من علماء المسلمين، كأبي عمرو بن الصلاح في ((معرفة أنواع علم الحديث)) المشهور بـ ((مقدمة ابن الصلاح))، وغيره..
فالنصارى لم يأتِ عليهم ما أتى على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الاضطهاد والأذى، ولا ما أتى على المسلمين بعد النبي صلى الله عليه وسلم، من ألوان الحروب المختلفة التي قادها التتار حينًا والصليبيون أحيانًا..
ومع كل هذا احتفظ المسلمون بأسانيدهم..
وقد ألمح الإنجيل الذي بيد النصارى الآن إلى بعض ما أصاب المسلمين حين قال: ((وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي، فهو يعلّمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم... متى جاء المعزي ...، فهو يشهد لي، وتشهدون أنتم أيضاً ...... لكني أقول لكم الحق: إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي، ولكن إن ذهبت أرسله إليكم.... إن لي أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك، روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية)) [يوحنا 14/26، 15/26، 16/14].
فهذه البشارة الواردة في الإنجيل بالنبي صلى الله عليه وسلم تُسَمِّيه صلى الله عليه وسلم: ((المعزي))، وذلك لكثرة ما كان يعزي أصحابه، من جراء ما يلحقهم من الأذى والعنت الشديد.
ثم تتابعت على المسلمين أيام وليالي، ذاقوا فيها ألوانًا عديدة من القهر والاستبداد والاحتلالات ومحاولة قلب الحقائق وتغيير الهوية وقطع الصلة بينهم وبين إسلامهم.. ومع كل هذا بقي الإسلام، وبقيت الأمة المسلمة، وبقيت الأسانيد والإجازات حتى عصرنا هذا.. وستبقى إن شاء الله إلى ما شاء الله.
وأنا شخصيًّا أتشرَّف ببعض هذه الأسانيد..
فالعلة إذن في فقدان أسانيد النصارى ليست في المصائب ولا الفتن كما يبررها القس المشار إليه.. ولو كانت المصائب والفتن هي العلة لكانت أمتنا المسلمة أولى وآكد على ضياعِ أسانيدها، وهذا ما لم يحدث بحمد الله تعالى..

ثم الانقطاع في أسانيد الإنجيل بدأ مبكرًا جدًا.. في قصة بولس الذي يعتبره النصارى: ((مؤسس النصرانية)) كما يعبر القس عبد الأحد داود، لكنا نلحظ أنه لم يأخذ عن المسيح مباشرة، وإنما ذكر قصةً حاصلها أنه كان في قافلةٍ متوجهًا ناحية دمشق، فتجلى له المسيح بعد رفعه بسنوات فمنحه منصب الرسالة، واختلفت روايات الإنجيل كالعادة هل رأت القافلة ما حدث أم لم تره؟ ولكن المهم لدينا أنه كان رجلا يهوديًا معاديًا للمسيح وأصحابه، بل وحضر إعدام بعض أصحاب المسيح!! ومع هذا اصطفاه المسيح بالرسالة دون أصحابه المقربين!! كما يزعم الإنجيل الذي بيد النصارى، ثم يذهب بولس فيجلس ثلاثة أعوام في ((العربية)) (مكان) ثم يعود..
فمهما حاول النصارى ادِّعاء الاعتماد على المشافهة أو النَّقْل الحي للإنجيل فلن يفلحوا إِذن أبدًا؛ لأن الانقطاع حاصلٌ في الأسانيد، وباعتراف علمائهم أنفسهم!!

ثانياً: ويستفاد من كلمة د.موراني السابقة أيضًا أن الإنجيل الذي بيد النصارى الآن ليس وحيًا! وإنما هو كتابٌ مؤلَّفٌ صاغه بشرٌ، بدلالة قول د.موراني: ((وكيف يعتبره وحيا عندما يجد في بداية كل كتاب فيه اسم مؤلفه)).
ويطيب لي هنا أن أنقل النص الأول من كتاب العلامة أحمد ديدات ((هل الكتاب المقدس كلام الله؟)) الذي يقول فيه: ((يعتبر السيد و.جراهام سكروجي عضو معهد مودي للكتاب المقدس من أكبر علماء البروتستانت التبشيرين وهو يقول في كتابه (هل الكتاب المقدس كلام الرب؟)، تحت عنوان (كتاب من صنع البشر ولكنه سماوي) ص 17: (نعم؛ إن الكتاب المقدس من صنع البشر، بالرغم من أن البعض جهلا منهم قد أنكروا ذلك) (إن هذه الكتب قد مرت من خلال أذهان البشر، وكُتِبَت بلغة البشر وبأقلامهم، كما أنها تحمل صفات تتميز بأنها من أسلوب البشر)) أهـ

وهذه الحقيقة هي التي يقررها مؤلفوا الإنجيل أنفسهم..
فنرى يوحنا يقول في خاتمة إنجيله: ((وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله)) [يوحنا: 20/30 – 31].
بينما يفتتح لوقا إنجيله بمقدمة يقول فيها: ((إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة في الأمور المتيقنة عندنا، كما سلمها إلينا الذين كانوا منذ البدء معاينين وخداماً للكلمة، رأيت أنا أيضاً إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق أن أكتب على التوالي إليك أيها العزيز تاوفيلس، لتعرف صحة الكلام الذي علمت به)) [لوقا: 1/1-4].
وأما بولس فبلغ به الأمر مبلغًا عجبًا، حتى وصل به الحال أن طلب رداءً تركه في كورنثوس، فيقول لصاحبه: ((الرداء الذي تركته في تراوس عند كابرس أحضره متى جئت)) [تيموثاوس: (2) 4/13 – 21].

فهذه مقدمات وخواتيم الأناجيل وأنصافها دالةٌ على أنه كلام بشر، ورسائل أشخاص لأناسٍ بأعيانهم، إما أصدقاء لهم، أو أهل قريةٍ بعينها.. إلخ.
وقد أكدتْ ذلك كلمة د.موراني السابقة في هذا الصدد، كما أكد ذلك غيره من علماء النصارى.

لكن حتى هذه الأناجيل البشرية الموجودة بيد النصارى لم يثبت لها إسنادٌ كما سبق، بل ولم تثبت لها نسخة خطية مكتوبة في زمن مؤلفيها، أو تلامذتهم، أو قريبًا من ذلك..
وقد اعترف علماء النصارى بهذا كله، لكن اختلفوا في المدة التي كُتِبَتْ فيها هذه النُّسَخ الكثيرة التي تكلم عنها القس سويجارت في مناظرته الشهيرة مع العلامة أحمد ديدات، فحصرها سويجارت بقوله: ((يوجد ما يقرب من أربعة وعشرين ألف مخطوط يدوي قديم من كلمة الرب من العهد الجديد)).
لكن سويجارت يتحدث عن أقدم هذه النُّسَخ فيقول: ((وأقدمها يرجع إلى ثلاثمائة وخمسين عاماً بعد الميلاد، والنسخة الأصلية أو المنظورة، أو المخطوط الأول لكلمة الرب لا وجود لها)).
ويخالفه موريس نورن في (دائرة المعارف البريطانية) فيزيد مدة الانقطاع بالنسبة لكتابة هذه النسخ فيقول: ((إن أقدم نسخة من الأناجيل الرسمية الحالية كتب في القرن الخامس بعد المسيح، أما الزمان الممتد بين الحواريين والقرن الخامس فلم يخلف لنا نسخة من هذه الأناجيل الأربعة الرسمية، وفضلاً عن استحداثها وقرب عهد وجودها منا، فقد حرفت هي نفسها تحريفاً ذا بال، خصوصاً منها إنجيل مرقس وإنجيل يوحنا)).

وبعد هذا الانقطاع الطويل، وصلت النسخ محرَّفةً مختلفةً متنافرة الأجزاء.
ولهذا يقول د. روبرت في كتابه ((حقيقة الكتاب المقدس)): ((لا يوجد كتاب على الإطلاق به من التغييرات والأخطاء والتحريفات مثل ما في الكتاب المقدس)).
ويقول دنيس نينهام في تفسيره لإنجيل مرقس: ((لقد وقعت تغييرات تعذر اجتنابها، وهذه حدثت بقصد أو بدون قصد، ومن بين مئات المخطوطات لإنجيل مرقس، والتي لا تزال باقية حتى اليوم لا نجد نسختان تتفقان تماماً، وأما رسائل بولس فلها ستة قراءات مختلفة تماماً)). ويقول: ((ليس لدينا أي مخطوطات يدوية يمكن مطابقتها مع الآخرين)).

وهذا يعني أنه لا توجد أية وسيلة من وسائل الاتصال بين هذا الإنجيل الذي في يد النصارى الآن، وبين عيسى عليه السلام، لا من حيث السند، ولا من حيثُ النسخ الخطية‍‍!!

ولا زال النصارى يُحدِّثون طبعاتهم ونسخهم من الأناجيل، بناءً على ما يظهر من نسخٍ خطية، أو بناءً على ما يتفقون عليه في مجامعهم، حتى قال د. منقذ السقار في كتابه ((هل العهد الجديد كلمة الله)): ((والنص المنشور للعهد الجديد ليس نصاً نهائياً، إذ هو رهين اكتشاف المزيد من المخطوطات، تقول مقدمة العهد الجديد للرهبانية اليسوعية: (وبوسعنا اليوم أن نعد نص العهد الجديد نصاً مثبتاً إثباتاً حسناً، وما من داع إلى إعادة النظر فيه إلا إذا عثر على وثائق جديدة). إنه عهد جديد مؤقت حتى إشعار آخر)).

وعليكم أيها القراء الكرام الآن الربط بين قول الرهبانية اليسوعية عن الإنجيل: ((وما من داع إلى إعادة النظر فيه إلا إذا عثر على وثائق جديدة)). وبين قول د.موراني عن القرآن: ((لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ)) يعني: ((تحقيق القرآن)) على نسخه الخطية: ((رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ )). انتهى.
إذن فهو قرآن ليس نهائيًّا عند د.موراني، ولكنه قابل للتطوير والتغيير إذا وُجِدَتِ النُّسخ الجديدة، وكلما وُجِدَت نسخة أخرى أضافت شيئًا آخر، وهكذا..

هذا ما يريده د.موراني!!
فهو يستدل بما جرى في أناجيلهم من زيادات وتغييرات على جواز ذلك بالنسبة للقرآن لو تم تحقيقه كما يزعم!!
ويمكن صياغة عبارة ومراد د.موراني بلغة المناطقة على الشكل الآتي:
قرآن = إنجيل
إنجيل = محرف، ليس وحيًا، منقطع
النتيجة المنطقية لكلامه هنا: قرآن = محرف، ليس وحيًا، منقطع

فقد آن للقراء الكرام أن يعرفوا الوجهة التي ينطلق منها د.موراني، والخلفية التي يبني عليها نظرياته هذه.. وما يرمي إليه من كلامه

نعم هذا هو البحث الذي يرمي إليه د.موراني:
بعد أن صار الإنجيل الحالي ((إنجيل حتى إشعار آخر)) = يريد د.موراني أن يكون لدينا ((القرآن حتى إشعار آخر)) مِثْلاً بِمِثْل..

وصدق الله عز وجل حين قال: ((وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ)) [البقرة: 109].

المستشار سالم عبد الهادي
06-30-2005, 02:13 PM
مَنْ يملك حق تحقيق القرآن؟!

وعلى سذاجة السؤال، لكن لابد منه ليرى القرآء ما يجرهم إليه د.موراني رويدًا رويدًا..
بداية يدعو لتحقيق القرآن، حتى لا يكون هناك مجالا لتخطئة القرآن.. ويضيف إلى ذلك احتمال وجود زيادة ونقصان واختلاف ترتيب!!
فإذا انخدع به المغفلون قال لهم: قفوا فالتحقيق ليس لكم!!
ليس من حقكم أن تحققوا القرآن، ولكنه مقصور على فئة معينة تخيلها د.موراني، وأوكل إليها الحق في ذلك حين قال:

((أود أن أعيد السؤال الذي طرحه مشرفو هذا الملتقي موضوعا للحوار مع الأستاذ الكريم غانم قدوري وفقه الله وهو :
ما هي أهم المصاحف المخطوطة في العالم ؟ وهل يمكن الحصول على مصوراتها للتدرب على دراسة رسمها ؟ وهل يمكن الظفر بشيء من هذه المصورات في ملتقى التفسير؟
فلا شك في أن هذا الموضوع الهام لدراسة النص القرآني يتعلق من طريق مباشر بالسؤال المطروح أيضا للحوار :
وهو : من هم الخبراء في قراءة المصاحف المخطوطة في العالم الآن ؟ وكيف يمكن الاستفادة من هؤلاء ؟

هل يرى الاستاذ المحترم فائدة في البحث النقدي المقارن للنص معتمدا فيه على ما ورد في المصاحف القديمة مثل ما تم اكتشافها ـ على سبيل المثال ـ بالخط الحجازي من أواخر القرن الأول الهجري باليمن) , وهو أمر لا يخفى عليكم لما قضيتم من الزمن هناك .
هل هناك معاهد خاصة لقراءة هذه المصاحف المخطوطة ومقارنتها بالمصحف المطبوع ؟الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا )).
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=3507

فهناك مرحلة أخرى قبل مرحلة التحقيق التي يدعو إليها، وهي مرحلة: مَنْ هم الخبراء في قراءة المصاحف المخطوطة الآن؟
فليس من حق الجميع النظر والتحقيق، ولكنه من حق الخبراء بطبيعة الحال، وسيكون د.موراني أول هؤلاء الخبراء، فهو صاحب الفكرة وحامل لوائها..
فهل هذا الترتيب إلا متعمَّد ومقصود؟
لأنه صادر عن رجل يزعم الاطلاع على المخطوطات الإسلامية، وأنه يحتفظ ببعضها!
ولماذا فرَّق د.موراني بين المصحف وغيره هنا؟ ولماذا حددَ طائقة معينة هي طائفة الخبراء؟
ألم أقل لكم: آن أن يقف القراء على خلفية د.موراني التي ينطلق منها، وعلى غايته ومقصده في كلامه..

نحن نعلم أن النسخ الخطية تستوي جميعها من حيثُ المكتوب فيها بالنسبة للقارئ لها؛ بمعنى أنه لا فرق بين أن يقرأ مخطوطة للمصحف، أو مخطوطة لصحيح البخاري..
الفارق بين النسخ الخطية يأتي من وجوهٍ أخرى لا دخل للمكتوب فيها به، مثل وضوح الرؤية، فالمخطوطة الواضحة الرؤية تختلف عن كثيرة الطمس والسواد..
كما أن الخط المشرقي أيسر في القراءة من الخط المغربي لدى المشارقة، بخلاف المغاربة فخطهم أيسر لهم.. وهكذا.
ولا دخل لهذا كله بالمكتوب داخل المخطوطة.
فالمكتوب بداخلها شيء، وقراءة المخطوطة والقدرة على القراءة شيءٌ آخر.
وهنا يستوي المصحف مع غيره من حيثُ ضرورة وضوح المخطوطة والتدرب على قراءة الخط.. إلى آخر ما يلزم لقراءة المخطوطات.
فيمكن للباحث في الحديث مثلا أن يكون خبيرًا ضليعًا في قراءة المخطوطات، ولدينا ما لا حصر له من الباحثين المقتدرين على قراءة النسخ الخطية والتعامل معها بحمد الله، وهؤلاء تستوي عندهم مخطوطة المصحف مع مخطوطة البخاري، مع بقية النسخ الخطية؛
لأن العبرة ليست بالمكتوب داخل المخطوطة، وإنما العبرة في العوامل الخارجية التي تؤثر سلبًا وإيجابًا على قراءة المخطوطة، مثل ما أشرتُ إليه من مسألة الخط، أو وضوح الرؤية..

وهنا يطرح السؤال نفسه: هل كان د.موراني من السذاجة بحيث لم يعلم مثل هذا الجواب؟
أم أنه قصد أن يوصل رسالة تشكيك في القرآن الكريم رويدًا رويدًا كما ذكرتُ لكم؟
فهو يدعو أولا لتحقيق المصحف، ثم يبحث عن الخبراء، فكأنه يقول لكم: لابد من تحقيق المصحف؛ لأنه بزعمه السابق ليس محققًا، ولكن ثمة مشكلة في نظره ستقابلكم، وهي عدم وجود الخبراء والأكفاء لهذا العمل، وبناءً على هذا، ونتيجةً منطقية وحتمية لما قرَّره: عليكم أيها القراء الرضى بكتابكم الذي ليس محققًا إلى أن يمن الله عليكم بالخبراء في يوم من الأيام، وبطبيعة الحال إذا لم يكن ثمة خبراء اليوم، فلن يكون غدًا.. إلا أن يشاء الله..
وهكذا يبقى القرآن دائمًا وأبدًا في أيديكم ليس محققًا كما يقوله لكم د.موراني..

فهل فهمتم الرسالة؟!!

وإنها لإحدى الْكُبَر!!

المستشار سالم عبد الهادي
06-30-2005, 07:06 PM
[CENTER]شهادة من ألماني

يقول د. مراد هوفمان: ((إن المستشرقين حاولوا إثبات أن القرآن ليس من عند الله وفشلوا، كما فشلوا فى إثبات حدوث تغيير فى أى حرف أو كلمة فيه، وقد يرفض غير المسلم محتوى القرآن، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل تأثيره الخلاب على قارئه والمستمع إليه، ويجد الباحث أن فى القرآن إشارات علمية لم تكن معلومة فى هذا الزمان ثم ثبت صدقها مؤخرا . والقرآن هو الكتاب الوحيد فى العالم الذى يحفظه ملايين البشر عن ظهر قلب، ولغة القرآن هى العربية التى تجمع العالم الإسلامى الذى يزيد على 1200 مليون مسلم، والقرآن هو الذى حافظ على اللغة العربية بقواعدها وكلماتها، ولذلك فهى اللغة الوحيدة فى العالم التى كتب بها القرآن منذ أكثر من 1400 عام، ولا يزال مئات الملايين من عامة أهلها يستطيعون قراءته دون تأهيل بدراسات خاصة ودون ترجمته إلى اللغة المتداولة الآن عند العرب، فلغة القرآن هى اللغة التى يتكلم ويكتب بها العرب حتى اليوم. ولأن قراءة القرآن على أسس غير صحيحة تؤدى إلى نتائج عكسية فقد جاءت السنة شارحة ومفصلة للقرآن، وكثيرا ما تؤدى عدم الإحاطة بالأحداث التى نزلت فيها آيات، أو عدم الأخذ بكامل السياق القرآنى إلى افتقاد الصواب فى الفهم))أهـ
http://64.233.161.104/search? (q=cache:QlulhhJ22MsJ:www.sis.gov.eg/islamic/html/is07.htm+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B 1%D9%82%D9%8A%D9%86+%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2 %D9%86&hl=ar&safe=vss&ie=UTF-8&inlang=ar]رابط الموضوع على الشبكة

المستشار سالم عبد الهادي
06-30-2005, 08:39 PM
وصلني الآن من أستاذنا الجليل (حارث همام) نفع الله به الفصل السابع من كتاب: (الفيزياء ووجود الخالق) لـ أ.د جعفر شيخ إدريس، فرأيتُه فصلا ماتعًا في الكلام عن (الإنجيل) وتاريخ مخطوطاته، فأردتُ إتحاف القراء به..
وأشكر أستاذنا الكريم (حارث همام) نفع الله به على تفضُّله بإرساله لي، ورجوتُ لو وصلني قبل كتابة ما سبق عن نسخ الإنجيل للاستفادة منه وإفادة القراء، فقدر الله وما شاء فعل؛

وتفضلوه الآن في المرفقات أدناه..

المستشار سالم عبد الهادي
06-30-2005, 10:02 PM
هكذا يُبْطِلُونَ المعجزةَ القرآنية ويهدمون الإسلام!!
فهل يقدرون على مثلِه؟!

يقول الدكتور موراني:
(.....كان هناك مشروع في النص القرآني قبل الحرب العالمية الثانية ، وجَمعَ تلاميذُ نولدكه المشهورون المتخصصون في القراءات نسخاً للقُرآنِ بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث.إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق. ويقال : إِنَّ هذه المَجموعة من النسخ قد فُقِدت أثناءَ الحربِ ولا أحدَ يعلمُ بوجُودِها ، إلاَّ أَنَّ هناك مَن يَزعمُ أَنَّها في المكتبة الدوليةِ في مِونيخ ، والله أعلم.
لدينا اليوم عدةُ نُسخٍ ثَمينةٍ ونادرةٍ ، مثل المصاحف التي في جامع صنعاء وفي غيرها في المكتبات. بعضها على البَردي ، وبعضها الآخر على الرَّقِّ أو الكاغد، لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ (القرآن). رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات
كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا ، وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ ، وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص .

كان لابد من إعادة كلام د.موراني ثانية لنرى ما سبق لنا الكلام عليه مما لم يسبق، ولنُذكِّر به القراء؛ لحاجتنا إليه هنا..
وسنخصص هذا اللقاء للكلام على أمرٍ في غاية الأهمية، ليقف القراء على خطورة الكلام المذكور، وأثره على الإسلام من ناحية، وعلى قائله من ناحية أخرى.
لا يشك القراء الكرام، ولا يشك أحدٌ أبدًا في أن الدراسة المقارنة التي يتكلم عنها د.موراني (مع اعتراضنا على هذا الكلام أصلا كما سيأتي لاحقًا)، فلا يشك القراء في أنها تعني وبإيجاز شديد: مقارنة أشياء بعضها ببعضٍ، وإثبات ما بينها من تفاوتٍ وفروق!
وبالنسبة لدعوى د.موراني المذكورة فهو يطالب بمقارنة نسخ المصحف لأنها كما يزعم أسلافه مختلفة فيما بينها، وكما يزعم هو: ربما يترتب على ذلك ترتيب آخر، كما قد يحصل هو على كلمة نقصٍ هنا وكلمة زيادة هناك..
الأمر في نظر د.موراني إلى هنا لا يتصل بعقيدة، ويردد دائمًا لا شأن لي بمسائل الإيمان.
وأقول: صدقتَ، لإنه لن تكن ثمة مسائل لإسلام أو إيمان بعد كلامك هذا الذي يؤدي إلى هدم الدين الإسلامي ونسفه من أساسه وقواعده!!
الدراسة المقارنة ستؤدي في نظر د.موراني إلى وجود فروقات، وتغيير في الترتيب ولو جزئي؛ فماذا يعني هذا الكلام؟
يعني بكل إيجاز أن يُغير بشرٌ في المصحف، ويؤخر ويُقَدِّم في ترتيب القرآن، كما يعني أنه سيكون الْحَكَم والقاضي على هذه الفروقات التي يزعمها د.موراني فيُرَجّح بينها حسب المعطيات التي يتوصل إليها بعقله البشري!

ربما لم تصل الصورة لذهن القراء بعدُ فأُكَرِّر:
يعني بكل إيجاز أن يُغير بشرٌ في المصحف، ويؤخر ويُقَدِّم في ترتيب القرآن، كما يعني أنه سيكون الْحَكَم والقاضي على هذه الفروقات التي يزعمها د.موراني فيُرَجّح بينها حسب المعطيات التي يتوصل إليها بعقله البشري!

ومعنى أن يوجد بشرٌ يؤخر ويُقَدّم في القرآن الكريم، ويُصَيّر نفسَه حكمًا على القرآن؛ معنى ذلك بكل إيجاز: أن القرآن قد صار مقدورًا عليه.. يعني لم يصبح القرآن معجزة إلهية غير مقدورٍ عليها..

ففي ذلك أمور:
الأول: إثبات البشرية على القرآن، ونفي المعجزة عنه؛ لأنه قد صار مقدورًا عليه للبشر، بحيث يستطيع بعض البشر أن يُقَدّم ويؤخر فيه.
الثاني: أنه بذلك يهدم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم، بل يهدم الإسلام كله؛ لأن القرآن هو المعجزة الخالدة التي مَدّ الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم، كما أنه أصل الإسلام.

لابد أن يُعْلَم أن الأصل في نقل القرآن على السماع لا على النُّسخ، وسيأتي التفصيل في هذا إن شاء الله، ولنقتصر هنا على بيان أقوال المسلمين فيمن زعم أن القرآن مقدورٌ عليه، وكيف أنه بهذا يهدم الإسلام جملة، وأن سبيل من زعم هذا أن يزعم أن بإمكانه أن يأتي بمثل القرآن، أو بعضه، أو يزعم الزيادة والنقصان فيه، أو يزعم إعادة ترتيبه..إلخ.

فماذا لديكم يا علماء المسلمين؟ وما قولكم أعلى الله درجاتكم، وأدام النفع بكم؟

وقفتُ على عشرات الأقوال لعلماء المسلمين في هذه المسألة، وقد جمع طائفةً منها صاحب كتاب ((الفرقان في بيان منزلة القرآن)) لمؤلفه صلاح فتحي هَلَل (إصدار: مكتبة الأنصار، بالقاهرة) فرأيتُ أن أقتصر على نقل بعضها من الكتاب المذكور لالتصاقه بما نحن فيه، وحاجتنا لتعليقات المؤلف على هذه الأقوال، [مع رجاء مراعاة الملاحظات المذكورة في مداخلتنا الآتية إن شاء الله عز وجل].
حيث يقول صاحب ((الفرقان)) [والكلام له حتى آخر هذه المداخلة]: تحدَّى اللهُ عز وجل فُصَحاءَ العرب، وأئمةَ اللغةِ أَنْ يأتوا بمثل القرآن فعجزوا عن ذلك.
كما قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة:23-24].
وقال عز وجل: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يونس:38].
وقال جلَّ شأنه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [هود:13].
يتحدَّاهم سبحانه وتعالى بهذا كله فيعجزوا، وهم مَنْ هم في الفصاحة والبلاغة ونبوغ اللغة.
يقول القاضي أبو بكرٍ الباقلاني: ((والذي يدل على أنهم كانوا عاجزين عن الإتيان بمثل القرآن: أنه تحدَّاهم إليه حتى طال التَّحدِّي، وجَعَلَهُ دلالةً على صِدْقه ونُبُوَّتِه، وضَمَّنَ أحكامَهُ استباحةَ دمائِهم وأموالِهِمْ وَسَبْى ذُريتهم، فلو كانوا يقدرون على تكذيبه لفعلوا، وتوصَّلُوا إلى تخليص أنفسِهم وأهليهم وأموالهم من حُكْمِهِ بأَمْرٍ قريبٍ هو عادتهم في لسانهم ومألوف مِن خطابهم، وكان ذلك يغنيهم عن تَكَلُّفِ القتال، وإكثار المراء والجدال، وعن الجلاء عن الأوطان، وعن تسليم الأهل والذرية للسبي.
فلمَّا لم تحصُل هناك معارضة منهم عُلِمَ أنهم عاجزون عنها.
يُبَيِّنُ ذلك: أَنَّ العدوَ يقصد لدفع قول عدوِّه بكل ما قَدَر عليه من المكايد، لا سيما مع استعظامه ما بَدَهَهُ [فَجَأَهُ] بالْمَجِيء مِنْ خَلْعِ آلهته، وتسفيه رأيه في ديانته، وتضليل آبائه، والتَّغريب عليه بما جاء به، وإظهار أمر يُوجِبُ الانقياد لطاعته، والتصرُّف على حُكْمِ إرادته، والعدول عن إِلْفِهِ وعادتهِ، والانخراط في سلك الأتباع، بعد أَنْ كان متبوعًا، والتشييع بعد أَنْ كان مُشَيَّعًا، وتحكيم الغير في ماله، وتسليطه إِيَّاه على جملةِ أحواله، والدخول تحت تكاليف شاقة، وعبادات متعبة بقوله، وقد علم أن بعض هذه الأحوال مما يدعو إلى سلب النفوس دونه، هذا والحمية حميتهم، والهمم الكبيرة هممهم، وقد بذلوا له السيف فأخطروا بنفوسهم وأموالهم!
فكيف يجوز أن لا يتوصلوا إلى الرَّدِّ عليه، وإلى تكذيبه، بأهون سعيهم، ومألوف أمرهم، وما يمكن تناوله من غير أن يعرق فيه جبين، أو ينقطع دونه وتين، أو يشتمل به خاطر، وهو لسانهم الذي يتخاطبون به، مع بلوغهم في الفصاحة النهاية التي ليس وراءها متطلع، والرتبة التي ليس فوقها منزع ومعلوم أنهم لو عارضوه بما تحداهم إليه لكان فيه توهين أمره وتكذيب قوله وتفريق جمعه وتشتيت أسبابه، وكان مِنْ صدق به يرجع على أعقابه، ويعود في مذهب أصحابه.
فلمَّا لم يفعلوا شيئًا مِنْ ذلك، مع طول المدة، ووقوع الفسحة، وكان أمره يتزايد حالًا فحالًا، ويعلو شيئًا فشيئًا، وهم على العجزِ عن القدحِ في آيتهِ، والطعن بما يُؤَثِّر في دلالته؛ عُلِمَ مِمَّا بَيَّنَّا أَنَّهم كانوا لا يقدرون على معارضته، ولا على توهين حُجَّته.
وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم قومٌ خصمون [إشارةً إلى قوله تعالى: {وَقَالُوا أَآَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} (الزخرف: 58)] وقال: {وتنذر به قومًا لدا} [مريم: 97]، وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [سورة يس: 77] [ذكر الباقلاني رحمه الله بعض الآية بمعناه، وبعضها بلفظه، فذكرت لفظها كله كما في المصحف].
وعُلِمَ أيضًا ما كانوا يقولونه مِنْ وجوهِ اعتراضهم على القرآن، مما حكى الله عز وجل عنهم مِنْ قولهم: {لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين} [الأنفال: 31]، وقولهم: {ما هذا إلا سحر مفترى وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين} [القصص: 36]، وقالوا: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} [الْحِجْر: 6]، وقالوا: {أفتأتون السحر وأنتم تبصرون} [الأنبياء: 3]، وقالوا: {أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون} [الصافات: 36]، وقال: {وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا} [الفرقان: 4 - 5]، {وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا} [الفرقان: 8]، وقوله: {الذين جعلوا القرآن عضين} [الحِجْر: 91].. إلى آيات كثيرة في نحو هذا، تدل على أنهم كانوا مُتَحَيِّرِينَ في أمرهم، مُتَعَجِّبِيْنَ مِنْ عجزهم، يفزعون إلى نحو هذه الأمور من تعليل وتعذير ومدافعة بما وقع التحدِّي إليه ووجد الحث عليه.
وقد عُلِمَ منهم أَنَّهم ناصبوه الحرب، وجاهدوه ونابذوه، وقطعوا الأرحام، وأخطروا بأنفسهم، وطالبوه بالآيات والإتيان بالملائكة وغير ذلك من المعجزات، يريدون تعجيزه لِيَظْهَرُوا عليه بوجهٍ مِنَ الوجوه.
فكيف يجوز أَنْ يقدروا على معارضتهِ القريبة السهلة عليهم، وذلك يدحض حجته، ويُفسد دلالته، ويُبطل أمره، فيعدلون عن ذلك إلى سائر ما صاروا إليه من الأمور التي ليس عليها مزيد في المنابذة والمعاداة، ويتركون الأمر الخفيف؟!
هذا مما يمتنع وقوعه في العادات، ولا يجوز اتفاقه من العقلاء.
وإلى هذا الموضع قد استقضى أهل العلم الكلام، وأكثروا في هذا المعنى واحكموه، ويمكن أن يقال: إنهم لو كانوا قادرين على معارضته والإتيان بمثل ما أتى به لم يجز أن يتفق منهم ترك المعارضة، وهم على ما هم عليه من الذرابة والسلاقة والمعرفة بوجوه الفصاحة، وهو يستطيل عليهم بأنهم عاجزون عن مباراته، وأنهم يضعفون عن مجاراته، ويكرر فيما جاء به ذِكْر عجزهم عن مثل ما يأتي به، ويُقَرِّعهم ويُؤَنِّبهم عليه، ويدرك آماله فيهم، وينجح ما سعى له في تركهم المعارضة، وهو يذكر فيما يتلوه تعظيم شأنه وتفخيم أمره حتى يتلو قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء: 88]، وقوله: {ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون} [النحل: 2]، وقوله: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم} [الحِجْر: 87]، وقوله: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحِجْر: 9]، وقوله: {وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون} [الزخرف: 44]، وقوله: {هدى للمتقين} [البقرة: 2]، وقوله: {الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله} [الزمر: 23].. إلى غير ذلك من الآيات التي تتضمن تعظيم شأن القرآن، فمنها ما يتكرر في السورة في مواضع، ومنها ما ينفرد فيها، وذلك مما يدعوهم إلى المبادرة، ويحضهم على المعارضة، وإن لم يكن متحدِّيًا إليه.
أَلَا تَرَى أنهم قد ينافر شعراؤهم بعضُهم بعضًا؟ ولهم في ذلك مواقف معروفة وأخبار مشهورة وآثار منقولة مذكورة، وكانوا يتنافسون على الفصاحة والخطابة والذلاقة ويتبجحون بذلك ويتفاخرون بينهم؟
فلن يجوز والحال هذه أَنْ يتغافلوا عن معارضته لو كانوا قادرين عليها؟! تحداهم أو لم يتحدهم إليها؟!
ولو كان هذا لقبيل مما يقدر عليه البشر لوجب في ذلك أمر آخر، وهو أنه لو كان مقدورا للعباد لكان قد اتفق إلى وقت مبعثه من هذا القبيل ما كان يمكنهم أن يعارضوه به، وكانوا لا يفتقرون إلى تكَلُّف وضعه، وتعمُّل نظمه في الحال.
فلمَّا لم نرهم احتجوا عليه بكلام سابق، وخطبة متقدمة، ورسالة سالفة، ونظم بديع، ولا عارضوه به فقالوا: هذا أفصح مما جئتَ به وأغرب منه أو هو مثله؛ عُلِمَ أَنَّه لم يكن إلى ذلك سبيل، وأنه لم يوجد له نظير، ولو كان وُجِدَ له مِثْلٌ لكان يُنْقَلُ إلينا ولعرفناه، كما نُقِلَ إلينا أشعار أهل الجاهلية وكلام الفصحاء والحكماء من العرب، وأُدِّيَ إلينا كلام الكهان وأهل الرجز والسجع والقصيد وغير ذلك من أنواع بلاغاتهم وصنوف فصاحاتهم)) [((إعجاز القرآن)) للباقلاني (ص/20 – فما بعد)] انتهى.
فأصبح بدهيًا بعد ذلك:
أَنْ تُقَدَّسَ وتُنَزَّه كلماته وحروفه ومعانيه عن النَّقْدِ، وأَنْ لا يُتَسَلَّق إليه بخيالٍ ذهنيٍّ؛ لأنَّهُ يعلو ولا يُعْلَى عليه، ولا تحوزه كلماتُ بشرٍ، ولا يرتفع عليه كلام إنسانٍ، كما لا ترتفع ذات أحدٍ على ذات قائله المتكلِّم به، وهو المولى سبحانه وتعالى، وقد سبق مرارًا أنَّ الكلام في الصفة فرعٌ على الكلام في الذات.
فكما أنَّهُ لا يجوز لأحدٍ أَنْ يرفعَ ذاته فوق ذات الله ـ تعالى الله عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا ـ؛ كذلك لا يجوز لأحدٍ أَنْ يرفعَ كلامَه على كلام الله؛ فإِنَّ كلام الله لا يُشْبه كلام البشر، ولا يُحيط بإعجازه مخلوقٌ، فلا يصحّ شرعًا ولا عقلاً أَنْ يخضعَ المعصوم لحُكْمِ ونَقْدِ مَن اقْتَرَنَ به الخطأ؛ كما لا يصح أَنْ تُحَاكَمَ المعجزة قياسًا على أوهام العقول، وحصائد الأفكار، وثمار الأَلْسُن.
وبعبارةٍ أخرى: لا يصح أَنْ يخضع الأعلى للأدنى؛ إلا في عقلِ مجنونٍ لا يَعِي ما يخرج من رأسهِ، أو ملحدٍ؛ لا يُؤْمِن بأله الكون، ولا يَعْتَرِف بوجوده سبحانه وتعالى.
وكيف يُتَصَوَّرُ في عقلٍ أنْ يستدركَ مخلوقٌ على كلامِ الخالقِ ونَظْمِهِ ولَفْظِه؛ اللهم إلا أَنْ يكون عقلاً فاسدًا لا يعرف الفرق بين البِذْرة والعذرة، فمثله فاقدٌ للأهلية غير مُعْتَبرٍ به؛ إِذْ لا عبرة بما صدر عن المجنون والمعتوه ونحوهما.
وكيف يصح أَنْ يأتي أَعَاجِمُ العصر بما عَجَزَ عنه أصحابُ اللُّغةِ الفصيحةِ وأربابُها؛ في قريشٍ، حين تَحَدَّاهم المولى أَنْ يأْتوا بمثلِ هذا القرآن أو آثَارَةٍ مِن عِلْمٍ؛ فعجزوا؟!

وكيف يصحّ في الأذهانِ شيءٌ ....... إذا احتاجَ النهارُ إلى دليل
ومِن هنا تعلم فساد تلك الفتنة القديمة التي أثارها بعضُ الزَّنادِقَةِ زورًا وبهتانًا، حين زَعَمَ إخضاع القرآن للنَّقْد اللغوي، وبدأ هو مشوار السقوط، فأخْسَأَهُ الله، وأَخْزَاه، وأَخْمَدَ فتنتَهُ وذِكْرَه.
وأما القرآن فمعجزةٌ خالدة، أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وَجَعَلَ الإيمانَ بذلك أصلاً أصيلاً من أصول الإسلام التي لا يصح الإسلام بدونها، فمَنْ شكَّ في إعجاز القرآن وعدم قُدْرَةِ الخلق على الإتيان بمثله؛ فقد عاد على أصل إسلامه بالبطلان؛ والعياذ بالله.
ولذا قال أهل العلم قديمًا وحديثًا: مَنْ قال: إِنَّ القرآنَ ليسَ بِمُعْجِزٍ فقد كَفَرَ.
ومِنْ ذلك: ما نُقِلَ عنِ الإمامِ أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أَنَّهُ قال: ((مَنْ قال: إِنَّ القرآنَ مقدورٌ على مثلِهِ ولكنَّ الله مَنَعَ قُدْرَتَهُمْ: كَفَرَ؛ بل هو مُعْجِزٌ بنَفْسِه، والْعَجْزُ شَمَلَ الْخَلْق)) [((الفروع)) لابن مفلحٍ رحمه الله (6/161)].
قال ابنُ مُفْلِحٍ رحمه الله:
((وجزم ابنُ عقيل بأنَّ مَن وُجِدَ منه امتهانٌ للقرآنِ، أو غَمْصٌ منه [يعني احتقره أو عابه]، أو طَلَبُ تناقُضِهِ، أو دعوى أنه مختلفٌ أو مُخْتَلَقٌ، أو مقدورٌ على مثلِه، أو إسقاطٌ لحُرْمَتِهِ: كلُّ ذلك دليلٌ على كفرِهِ، فيُقْتَلُ بعد التوبةِ))[المصدر السابق].
وقال القاضي عياض رحمه الله:
((مَن أنكرَ القرآنَ، أو حرفًا منه، أو غَيَّرَ شيئًا منه, أو زَادَ فيه؛ كفِعْلِ الباطنيّة والإسماعيليّة, أو زَعَمَ أَنَّه ليس بحُجَّةٍ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم أو ليس فيه حُجَّةٌ ولا مُعْجِزَةٌ؛ كقولِ هشـامٍ الْفُوطِيِّ ومَعْمَرٍ الصَّيْمَرِيِّ: إِنَّه لا يدلُّ على الله ولا حجةَ فيه لرسولهِ ولا يدل على صوابٍ ولا عقابٍ ولا حُكمٍ؛ ولا مَحَالَةَ في كُفرِهما بذلك القول, وكذلك نُكَفِّرُهُمَا بِإِنْكَارِهِمَا أَنْ يكونَ في سائرِ معجزات النبيِّ صلى الله عليه وسلم حجةٌ له, أو في خلقِ السماوات والأرض دليلٌ على الله؛ لمخالفتِهم الإجماعَ والنقلَ المتواترَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم باحتجاجهِ بهذا كلِّه، وتصريحِ القرآن به))[((الشفا)) للقاضي عياض (2/250)].
وقال القاضي عياض رحمه الله:
«واعْلَمْ أَنَّ مَن استخفَّ بالقرآنِ, أو المصحفِ, أو بشيءٍ منه, أو سَبَّهُما, أو جَحَدَهُ, أو حَرْفًا منه، أو آيةً, أو كَذَّبَ به, أو بشيءٍ منه, أو كَذَّبَ بشيءٍ مما صُرِّحَ به فيهِ؛ مِنْ حُكْمٍ أو خَبَرٍ, أو أَثْبَتَ ما نفاهُ أو نَفَى ما أَثْبَتَهُ, على عِلْمٍ منه بذلك, أو شَكَّ في شيءٍ مِن ذلك: فهو كافرٌ عند أهل العلم بإجماعٍ.
قال الله تعالى:(وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل ما بين يديه ولا مِن خلفه تنزيل من حكيم حميد) [فصلت:41-42])).
قال القاضي عياض رحمه الله:
((وقد أَجْمَعَ المسلمون أَنَّ القرآنَ المتلوَّ في جميعِ أقطارِ الأرض، والمكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ (الحمد لله رب العالمين) إلى آخر (قل أعوذ برب الناس) أنه كلامُ الله، ووَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأَنَّ جميعَ ما فيه حقٌّ، وأَنَّ مَنْ نَقَصَ منه حرفًا قاصِدًا لذلك، أو بَدَّلَهُ بحرفٍ آخَرَ مكانَهُ، أو زادَ فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأُجْمِعَ على أَنَّهُ ليس مِن القرآنِ، عامِدًا لكلِّ هذا أَنّه كافرٌ.
ولهذا رَأَىَ مالكٌ قَتْلَ مَنْ سَبَّ عائشةَ رضي الله عنها بالفِرْيَةِ؛ لأنَّه خَالَفَ القرآنَ، ومَنْ خالَفَ القرآنَ قُتِلَ؛ أَيْ: لأَنَّهُ كَذَّبَ بما فيهِ.
وقال ابنُ القاسم: مَنْ قال: إِنَّ الله تعالى لم يُكَلِّم موسى تكليمًا يُقْتَلُ.
وقاله عبدُ الرَّحْمَن بنُ مهدي.
وقال محمد بن سُحْنُونٍ - فيمن قال: الْمُعَوِّذَتَانِ لَيْسَتَا مِنْ كتابِ الله -: يُضْرَبُ عُنُقُهُ؛ إلاَّ أَنْ يتوبَ، وكذلك كلُّ مَنْ كَذَّبَ بحرفٍ منه.
قال: وكذلك إِنْ شَهِدَ شاهِدٌ على مَنْ قال: إِنَّ الله لم يُكِّلم موسى تكليمًا وشَهِدَ آخر عليه أَنَّهُ قال: إِنَّ الله لم يَتَّخِذْ إبراهيمَ خليلًا؛ لأنهما [يعني: الشاهدين] اجتمعا على أَنَّهُ كَذَّبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو عثمان الحداد: جميع من ينتحِلُ التوحيد متفقونَ أَنَّ الْجَحْدَ لحرفٍ مِن التنزيلِ: كُفرٌ.
وكان أبو العالية إذا قَرَأَ عندهُ رجلٌ لم يقل له: لَيْسَ كما قَرَأْتَ، ويقولُ: أَمَّا أَنا فأَقْرَأُ كذا، فبَلَغَ ذلك إبراهيمَ، فقال: أُرَاهُ سَمِعَ أَنَّهُ مَنْ كَفَرَ بحرفٍ منه فقد كَفَرَ به كلِّه.
وقال عبد الله بن مسعود: مَنْ كَفَرَ بآيةٍ مِن القرآنِ فقد كَفَرَ به كلِّه [أَوْرَدَهُ البيهقي في ((السنن الكبرى)) (10/43)].
وقال أَصْبَغُ بنُ الفَرَج: مَنْ كَذَّبَ ببعضِ القرآنِ فقد كَذَّبَ به كلِّه، ومَنْ كَذَّبَ به: فقد كَفَرَ به، ومَن كَفَرَ به: فقد كَفَرَ بالله.
وقد سُئِلَ القَابِسيُّ عَمَّنْ خَاصَمَ يهوديًا فحلفَ له بالتوراةِ، فقال الآخرُ: لَعَنَ الله التوراةَ، فشَهِدَ عليه بذلكَ شاهدٌ ثم شَهِدَ آخرُ أَنَّه سأَلَهُ عن القضيةِ؛ فقال: إِنَّما لَعَنْتُ توراةَ اليهودِ، فقال أبو الحسن [وهو القابِسي]: الشاهدُ الواحد لا يُوجِبُ القتلُ، والثاني عَلَّقَ الأمرَ بصفةٍ تحتملُ التأويلَ؛ إِذْ لعلَّهُ لا يَرَى اليهودَ مُتَمَسِّكِينَ بشيءٍ مِنْ عند الله؛ لتبدِيلِهِمْ وتحرِيْفِهِمْ، ولو اتَّفَقَ الشاهدانِ على لعن التوراةِ مُجَرَدًّا لضاقَ التأويلُ.
وقد اتَّفَقَ فقهاءُ بغدادَ على استتابةِ ابن شَنْبُوذَ الْمُقْرِيءِ أحدِ أئمةِ الْمُقْرِئينَ الْمُتَصَدِّرينَ بها معَ ابنِ مجاهدٍ؛ لِقِرَاءتهِ وإِقْرَائِهِ بِشَوَاذٍّ مِن الحروفِ، مما ليسَ في المصحفِ، وعَقَدوا عليه بالرجوعِ عنه، والتوبةِ منه سِجِلًّا أَشْهَدَ فيه بذلك على نفسِه في مجلسِ الوزيرِ أبى عليِّ بنِ مُقْلَةَ سنةَ ثلاثٍ وعشرين وثلاثمائةٍ وكان فيمَنْ أَفْتَى عليهِ بذلك أبو بكرٍ الأَبْهَرِيُّ وغيره.
وأَفْتَي أبو محمدٍ بنُ أبى زَيْدٍ بالأدبِ فيمَنْ قال لصبيٍّ: لَعَنَ اللهَ مُعَلِّمَكَ وما عَلَّمَكَ، وقال [يعني مَنْ لَعَنَ الصبي]: أردتُ سوءَ الأدبِ ولم أُرِدِ القرآنَ، قال أبو محمدٍ: وأمَّا مَنْ لَعَنَ المصحفَ فإِنَّهُ يُقْتَلُ))[السابق (2/263-265)]ـ
وقال الإمام القرطبي رحمه الله تعالى:
((باب ما جاء مِن الحجةِ في الرَّدِّ على مَنْ طعنَ في القرآنِ وخالَفَ مصحف عثمان بالزيادة والنقصان: لا خلاف بين الأمة، ولا بين الأئمة أهل السنة؛ أن القرآن اسمٌ لكلام الله تعالى الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معجزةً له على نحو ما تقدم، وأنه محفوظٌ في الصدور، مقروءٌ بالألسنة، مكتوبٌ في المصاحف، معلومةٌ على الاضطرارِ سورُه وآياتُه، مبرأةٌ مِن الزيادةِ والنقصانِ حروفُه وكلماتُه، فلا يحتاج في تعريفه بحَدٍّ، ولا في حَصْرِهِ بِعَدٍّ، فمَنِ ادَّعَى زيادةً عليه أو نقصانًا منه فقد أبطلَ الإجماع، وبَهَتَ الناسَ، ورَدَّ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مِنَ القرآن المنزل عليه، ورَدَّ قوله تعالى: {قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} [الإسراء:88]، وأبطل آيةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه إِذْ ذاكَ يصير القرآن مقدورًا عليه حين شِيبَ بالباطل، ولما قُدِرَ عليه لم يكن حجة ولا آية، وخرج عن أَنْ يكون مُعْجِزًا، فالقائل: إِنَّ القرآنَ فيه زيادةٌ ونقصانٌ رَادٌّ لكتابِ الله، ولما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان كمن قال: الصلوات المفروضات خمسون صلاة، وتَزَوُّج تسع مِن النساء حلالٌ، وفرض الله أيامًا مع شهر رمضان، إلى غير ذلك مما لم يثبت في الدين، فإذا ردّ هذا الإجماع؛ كان الإجماع على القرآن أثبت وآكَد وأَلْزَم وأَوْجَب)).
ونقل القرطبي كلامًا مطولاً عن ابن الأنباري رحمه الله، ومنه ذلك قول أبي بكرٍ ابن الأنباري رحمه الله تعالى:
((إِنَّ الله عز وجل قد حَفِظَ القرآن مِن التغيير والتبديل والزيادة والنقصان، فإذا قَرَأَ قارئٌ: (تبت يدا أبي لهبٍ وقد تبّ ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارًا ذات لهبٍ ومريته حمالة الحطب في جيدها حبل من ليف)؛ فقد كذبَ على الله جل وعلا، وَقَوَّلَهُ ما لم يقل، وبَدَّلَ كتابَهُ وحَرَّفَهُ، وحاول ما قد حَفِظَهُ منه ومنع مِن اختلاطه به، وفي هذا الذي أَتَاهُ توطِئَةُ الطريق لأهل الإلحاد ليُدْخِلُوا في القرآن ما يُحِلُّون به عُرَى الإسلام، وينسبونه إلى قومٍ كهؤلاء القوم الذين أحالوا هذا بالأباطيل عليهم، وفيه إبطال الإجماع الذي به يُحْرَسُ الإسلام، وبثباته تُقَامُ الصلوات، وتُؤَدَّى الزكوات، وتُتَحَرَّى المتعبّدات، وفي قول الله تعالى: {الر كتاب أحكمت آياته} [هود:1]: دلالة على بدعةِ[يعني: إتيانه بقولٍ مُحْدَثٍ لم يُسْبَق إليه] هذا الإنسان وخروجه إلى الكفر؛ لأنَّ معنى )أُحْكِمَتْ آياتُه( [هود:1]: منع الخلق مِن القدرةِ على أَنْ يزيدوا فيها، أو ينقصوا منها، أو يعارضوها بمثلِها، وقد وجدنا هذا الإنسان زاد فيها: (وكفى الله المؤمنين القتال بعليٍّ وكان الله قويًّا عزيزًا) فقال في القرآن هُجْرًا وذَكَرَ عليًّا في مكانٍ لو سَمِعَهُ يذكرهُ فيه لأَمْضَى عليه الْحَدَّ وحَكَمَ عليه بالقتلِ، وأَسْقَطَ مِنْ كلامِ الله: {قل هو} وغَيَّرَ {أحد} فقرأَ: (الله الواحد الصمد)، وإِسْقَاطُ ما أسقطَ نفيٌ له وكفرٌ، ومَن كفر بحرفٍ مِنَ القرآن فقدَ كفر به كلَّه، وأَبْطَلَ معنى الآية؛ لأنَّ أهل التفسير قالوا: نزلت الآية جوابًا لأهل الشرك لما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: صِفْ لنا ربك أمِنْ ذهبٍ أم مِن نحاسٍ أم مِن صفر؟ فقال الله جل وعزَّ ردًّا عليهم: {قل هو الله أحد} [الإخلاص:1] ففي {هو} دلالة على موضعِ الرَّدِّ ومكان الجواب، فإذا سقط بطل معنى الآية، ووضح الافتراء على الله عز وجل والتكذيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويُقَالُ لهذا الإنسان ومَنْ ينتحل نُصْرَتَه: أَخْبِرونا عن القرآن الذي نقرؤه ولا نعرف نحن ولا مَن كان قبلنا مِن أسلافنا سواه: هل هو مشتملٌ على جميع القرآن مِن أوله إلى آخره؟ صحيح الألفاظ والمعاني؟ عارٍ عن الفساد والخلل؟ أم هو واقع على بعض القرآن والبعض الآخر غائب عنا كما غاب عن أسلافنا والمتقدمين مِن أهل ملتنا؟ فإِنْ أجابوا بأَنَّ القرآن الذي معنا مشتملٌ على جميع القرآن لا يسقط منه شيء صحيح اللفظ والمعاني سليمها مِنْ كل زللٍ وخللٍ؛ فقد قضوا على أنفسِهم بالكفر حين زادوا فيه: (فليس له اليوم هاهنا حميم وليس له شراب إلا مِن غسلين مِن عين تجري مِن تحت الجحيم)، فأي زيادةٍ في القرآن أوضح مِن هذه؟ وكيف تُخْلَطُ بالقرآن وقد حرسَهُ الله منها؟ ومنعَ كلَّ مفترٍ ومُبْطِلٍ مِنْ أَنْ يُلْحِق به مثلها؟»[((تفسير القرطبي)) (1/80- 85)].
ثم استطردَ ابن الأنباري رحمه الله في بيان فساد الزيادة المذكورة، وبيان معنى الآية ((فيما أَنْزَلَ الله تبارك وتعالى على الصحَّةِ في القرآنِ الذي مَن خالفَ حرفًا منه كَفَرَ)) على حَدِّ تعبيره.
فظهر مِنْ هذا كله:
- أَنَّ القرآنَ مُعْجِزٌ مِنْ كل جهاته، غيرُ مَقْدورٍ على الإِتْيانِ بِمِثْلِه، بوجهٍ من الوجوه.
- وأَنَّهُ مُنَزَّهُ عن النَّقْدِ والطَّعْنِ في حروفه ونظمه ومعانيه، وكافة وجوهه.
- وأَنَّ التعرُّضَ لبعضهِ بنقدٍ يعني التعرُّضَ له جميعًا.
- وأَنَّ مَنِ اعتقدَ القدرة على مثله وأنَّهُ غير مُعْجِزٍ: فقد كفرَ بلا خلافٍ.
ولا يزال الناس في انبهارٍ دائمٍ بالقرآن المقدَّس منذ نزوله وإلى أن يشاء الله سبحانه وتعالى.
وانظر إلى قول الأديب الأريب الأستاذ سيد قطب رحمه الله، حين يقول في مقدمة تفسيره لسورة ((الرعد)): ((كثيرًا ما أقف أمام النصوص القرآنية وقفة المتهيب أن أمسها بأسلوبي البشري القاصر المتحرِّج أن أشوبها بأسلوبي البشري الفاني ، ولكن ماذا أصنع ونحن في جيل لا بد أن يقدم له القرآن مع الكثير من الإيضاح، ومع هذا كله يصيبني رهبة ورعشة كلما تصدَّيْتُ للترجمة عن هذا القرآن))[((في ظلال القرآن)) (4/2038)].
وقد أشار الله عز وجل في مواضع من كتابه العزيز إلى كثيرٍ من صفات القرآن الأصيلة، ودلائل إعجازه، وبراهين عظمته، فوصفَه سبحانه وتعالى بالمبين والحكيم والمنير والنور والمبارك، وغيرها من الصفاتِ الْعَلِيَّةِ، ونفى عنه الريب والشكّ والاختلاف، وغيرها من الصفات المشينة، كما نَزَّهَهُ اللهُ عز وجل وبرَّأَهُ من مشابهة أقوال الشعراء والكُهَّان.
وطَالَبَ اللهُ سبحانه وتعالى الناسَ بالتَّدبُّر في آياتِ كتابه،.
وتحدَّى به سبحانه وتعالى الناس كلهم، ونفى قُدْرَتهم على المجيء بمثله، أو بعضه، ولو اجتهدوا في ذلك، وجمعوا أنصارهم وشهداءهم، وطالَبَهُمُ الله سبحانه وتعالى بالتَّدبُّرِ فيه، والنظر في آياته، متحدِّيًا لهم أن يجدوا فيه اختلافًا، أو شيئًا يشينه، وهذا مما يُظهر محاسنه، وينفي عنه كل عيبٍ، ويلفت الأنظار إلى متانته وإعجازه لفتًا، ويُجَلِّي صفاته أمام الأعين فتبصرها بلا عناء، صافيةً بلا كَدَرٍ.
كما ذَكَرَ عز وجل أَنَّهُ كتابُ تذكرة وهدىً وبشرى للمؤمنين، وحسرةً على الكافرين، يهدي به الله أهل الطاعة والاستجابة إلى صراطٍ مستقيمٍ، ويُثبِّتَ به قلوبهم.

المستشار سالم عبد الهادي
07-01-2005, 04:04 PM
ملاحظة مهمة

ولابد أن ألفت نظر القراء الكرام هنا إلى أن رفض د.موراني الدخول في حوار مباشرٍ معه قد أتاح لنا فرصة لاستجلاب بعض القضايا الفرعية، أو إضافة بعض القضايا اللصيقة الصلة بالموضوع، ونحو هذا مِمَّا يتناسب مع طبيعة الأبحاث وتسلسل البحث، بخلاف طبيعة الحوارات والمناظرات مثلاً..
فآمل من القراء الكرام الالتفات إلى هذا الأمر جيدًا؛ لأنه من العدل الذي أمر الله عز وجل به، وحتى لا يظن بنا الخروج عن مألوف البحث وعادته..


كما آمل من القراء الالتفات إلى أننا ربما تكلمنا عن الشيء بثمرته وما ينتج عنه، بغض النظر عن بقية القضايا المتعلقة بالأشخاص، وربما خالفنا ذلك في مرة أخرى فتكلمنا عن مراد شخصٍ بعينه أو غايته من أمرٍ ما..
فآمل الإحاطة بهذا أيضًا..
وإنما أردتُ هذا وذاك استكمالاً لفائدة البحث إن شاء الله عز وجل، لعل الله ينفع به أقوامًا، ويضر به آخرين..
والحمد لله رب العالمين.

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 12:00 AM
فاصلٌ قصير

نأتي إن شاء الله عز وجل إلى قضية أخرى لا يحق لغيرنا نحن أهل الإسلام أن يتكلم فيها، ولا أن يتعرض لها، وبالتالي: لا يُسمع فيها رأي غيرنا أبدًا، ولا يُسأل فيها سوانا نحن أهل الإسلام.
لا أقول ذلك خوفًا أو خشية من انكشاف عوار عندنا؛ كلا..
ولا أقوله حجرًا على باحثٍ جادٍّ يريد الحقيقة، ويبحث عن الهداية في ديننا؛ كلا..
فنحن نرحب بكل باحثٍ عن الحقيقة، طالبٍ للهداية أن يبحث في ديننا ويستفيد، بعد أن يعلم كيف يبحث، وأن يسألنا عما لا يفهمه..
وإنما أقول هذا لأننا أصحاب العلم الصحيح بما في ديننا، ولا أحد يعلم عن ديننا مثلما نعلمه نحن، كما أن غيرنا لا يملك لغة ولا علمًا يعينه على التصدي لدراسة ديننا الحنيف..
فأهلا وسهلا بكل من يتعلم ويطلب الهداية عندنا..
لكنا نرفض وبشدة أن يتعرض غيرنا إلى ما لا يُحسنه أو يتقنه أو يفهمه من أمر ديننا..

قرأتُ كثيرًا من كلام جولدزيهر ونولدكة وأخيرًا جون جلكورايست في كتابه (جمع القرآن) فتحسَّرْتُ جدًا على نسبتِهم للبشرية التي ننتسب إليها؛ لشدة ما رأيتُه في كلامهم من جهلٍ ضاربٍ إلى أعماقهم، وحماقة في الاستدلال تربو على حماقات هؤلاء الذين يتسكعون في الطرقات..
صدقًا لم أفهم حتى الساعة كيف سُمِح لأمثال هؤلاء أن يمسكوا قلمًا ويسطروا به سطرًا؟
لكنني فهمتُ الآن معنى قول نولدكة عن كتابه أنه اشتمل على ((حماقات صبيانية)) أو نحو هذه العبارة التي في مقدمة كتابه.. ولن أهتم بمراجعتها ولا الرجوع إليه بعد أن عافاني الله من النظر فيه!!

على كل حال لابد من ترك ما تجَشَّأَهُ هؤلاء على الناس من قاذورات علمية لا حصر لها، ولنتعرض لقضيتنا الآتية بعيدًا عن حكاية هذه القاذورات..

وقد صار من حق القراء الكرام علينا أن نحدثهم عن قضية ((جمع القرآن)) بعيدًا عن وساوس المستشرقين خلفًا بعد سلفٍ..
صار من حق القراء الكرام أن يعلموا كيف تمت مرحلة جمع القرآن؟ وما هي الضوابط الصارمة التي وُضِعَتْ لذلك؟ وما هي خطوات الجمع؟
وسأضع ذلك إن شاء الله تعالى على مداخلات متتالية..
والرجاء في الله عز وجل أن يلهم السداد والرشاد..
كما آمل من القراء الكرام التواصل بالنصح والملاحظة..


فهيا بنا نرطب أفواهنا وأسماعنا وأبصارنا بعبير القرآن الكريم

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 12:13 AM
سَـمَــاعِــيٌّ
مِن البدايةِ إلى النهايةِ

روى الإمام البخاري رحمه في ((صحيحه)) (4679) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ السَّبَّاقِ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ مِمَّنْ يَكْتُبُ الْوَحْيَ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ؛ وَإِنِّي لَأَرَى أَنْ تَجْمَعَ الْقُرْآنَ؛ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي فِيهِ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ لِذَلِكَ صَدْرِي وَرَأَيْتُ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ ـ وَعُمَرُ عِنْدَهُ جَالِسٌ لَا يَتَكَلَّمُ ـ : فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ وَلَا نَتَّهِمُكَ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفَنِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلَانِ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ أَزَلْ أُرَاجِعُهُ حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَقُمْتُ فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الرِّقَاعِ وَالْأَكْتَافِ وَالْعُسُبِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} إِلَى آخِرِهِمَا، وَكَانَتْ الصُّحُفُ الَّتِي جُمِعَ فِيهَا الْقُرْآنُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. انتهى.


يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذا الحديث: ((إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِالنَّاسِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ فِي الْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ؛ إِلَّا أَنْ تَجْمَعُوهُ)).
وفي هذا فوائد ثلاثة:
الأولى: إقرار أبي بكرٍ وزيد رضي الله عنهما لقول عمر المذكور، فهذا إجماعٌ من إجماعات الشيخين أبي بكرٍ وعمر، ثم موافقة باقي الصحابة لهما على فعلهما، وعدم إنكاره؛ تدل على إجماع الصحابة الكرام رضي الله عنهم على هذا الأمر.

الثانية: خشية عمر رضي الله عنه من كثرة قتل القُرَّاء والتي سينتج عنه لو حصل: (أن يذهب كثيرٌ من القرآن)؛ تعني بكل إيجاز أن لم يذهب حرفٌ من القرآن حتى هذه اللحظة التي كان الثلاثة (أبو بكر، وعمر، وزيد رضي الله عنهم يتباحثون في جمع القرآن)، فحتى هذه اللحظة لم يذهب حرف من القرآن، لكن عمر رضي الله عنه يخشى أن يضيع كثيرٌ من القرآن إذا استحرَّ القتل، أو كَثُر القتل في صفوف القُرَّاء في كل معركة من معارك المسلمين، فيرى عمر رضي الله عنه ضرورة جمع القرآن الآن والقرآء متوافرون متواجدون قبلهم أن يُقْتلوا في معارك المسلمين، وبهذا يضيع كثيرٌ من القرآن بمقتل من يحفظه، فلابد إِذن من البدء على الفور في جمع القرآن..
وإذا لم يكن قد ذهب حرفٌ من القرآن حتى اللحظة المذكورة بإجماعهم؛ ثم بَدَءَ الجمعُ مباشرة ولله الحمد، فهذا بإيجاز يعني أَنَّه لم يذهب حرفٌ واحدٌ من القرآن الكريم أبدًا ولله الحمد..

الثالثة: لكن رويدًا يا أمير المؤمنين أبا حفصٍ العظيم رضي الله عنك وعن أولادك وذريتك وأحبابك، وحشرنا الله معك في جنات النعيم في صحبة نبينا صلى الله عليه وسلم..
رويدًا أبا حفصٍ، ودعني أسألك لأتعلَّمَ منك يا مَنْ أنعم الله عليَّ بحبِّكَ: لماذا تخشى ضياع القرآن بموت القراء؟
هل لأن الجزيرة العربية أو المدينة قد خلتْ ممن يُحْسِن القراءة إلا هؤلاء القراء؟ فتخشى إن قُتِلوا أن لا تجد قارئًا أو كاتبًا يجيد القراءة والكتابة؟
أرجوك أبا حفصٍ سامحني على غبائي في سؤالي..
أرجوك أبا حفصٍ أن تسامحني، وليشفع لي عندك حُبّي للنبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وسائر الصحابة الكرام رضي الله عنهم.
أنا ما سألتُك أبا حفصٍ لأعترضَ؛ كلا..
وما سألتُك أبا حفصٍ لجهلي بالإجابة؛ كلا..
وكيف أجهلها وأنا ابنُ الإسلام؟! وتلميذكم؟
إنما سألتُكم ليعلم السامع جواب ما أريد..
يلزم من ضياع القرآن بمقتل القرآء: أن يكون القراء هم المصدر الأساسي في نقل القرآن لا غير، وقد وافق أبو بكرٍ وعمر وجميع الصحابة على هذا الذي قاله أبو حفص عمر رضي الله عنه.
فالقراء هم مصدر التلقّي الوحيد للقرآن، لا غير، ولو كان مصدر التلقِّي هو الصُّحُف أو الكتابة: لما هَمَّ ذلك عمر، ولا غيره من الصحابة.
أعلمتَ أبا حفصٍ رضي الله عنك أنني أفهم قصدك وما ترمي إليه..
نعم أبا حفصٍ: أَعْلَمُ أنك ترسل رسالة لمثلي؛ كأنك تقول فيها: المصدر الوحيد في نقل القرآن هو السماع لا الكتابة، ولذلك فأنتَ تخشى من موت الحفظة الذين يحفظونه كما أُنْزِل، فلابد من جمع القرآن من هؤلاء الحفظة بنفس الطريقة التي حفظوه بها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كان الاعتماد في نقل القرآن على الصحف لم يكن ثمة ما يدعو للانزعاج من مقتل القرآء والحفظة.
وما يضرهم أن يُقتل القرآء جميعًا إِنْ كان القرآن محفوظًا لديهم في صحفٍ خاصةٍ به؟!
فدل هذا على أن نقل القرآن وروايته على القراء (السماع) لا على الكتابة (الصُّحُف).

ـ وفي ((صحيح مسلم)) (2865) من حديثِ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ.. فذكر حديثًا طويلاً، وفيه يقول سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ))
يقول الإمام النووي في ((شرح صحيح مسلم)): ((أَمَّا قَوْله تَعَالَى [يعني في الحديث القدسي]: (لَا يَغْسِلهُ الْمَاء) فَمَعْنَاهُ : مَحْفُوظ فِي الصُّدُور, لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ الذَّهَاب, بَلْ يَبْقَى عَلَى مَرّ الْأَزْمَان. وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: (تَقْرَأهُ نَائِمًا وَيَقْظَان) فَقَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ يَكُون مَحْفُوظًا لَك فِي حَالَتَيْ النَّوْم وَالْيَقَظَة, وَقِيلَ : تَقْرَأهُ فِي يُسْر وَسُهُولَة)).

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 12:33 AM
يقول أبو بكر بنُ مجاهد في ((كتاب السبعة في القراءات)) (88): ((ذكر الأسانيد التي نقلت إلينا القراءة عن أئمة أهل كل مصر من هذه الأمصار
أسانيد قراءة نافع
فأما قراءة نافع بن أبي نعيم فإني قرأت بها على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القرآن إلى خاتمته نحوا من عشرين مرة))أهـ
ثم بدأ في سرد أسانيده إلى أئمة القراءات..
فانظر إلى قوله عن قراءة نافع فقط: ((فأما قراءة نافع بن أبي نعيم فإني قرأت بها على عبد الرحمن بن عبدوس من أول القرآن إلى خاتمته نحوًا من عشرين مرة)).
فهو قد قرأ قراءة واحدة فقط من قراءات القرآن على شيخٍ واحدٍ فقط نحوًا من عشرين مرة، فما بالك ببقية القراءات وبقية الشيوخ؟!!
وهذا يؤكد ما نكرره دائمًا أن الاعتماد في نقل القرآن وروايته على السماع لا على الكتابة.

وانظر إلى قول أبي بكر بن مجاهد في نفس الكتاب (48) أثناء كلامه على روايات القرآن: ((ومنها ما توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسى سماعه لطول عهده فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك بإصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه ولعل كثيرا ممن ترك حديثه واتهم في روايته كانت هذه علته.
وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحرام والحلال والأحكام
وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف)).
فانظر كيف يُتْرَك الراوي للقرآن إذا ((نسي سماعه))؟!

وانظر إلى قول أبي بكر بن مجاهد في ((كتاب السبعة في القراءات)) أيضًا (46): ((وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف فيقرأ بلحن لا يعرفه وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرىء نفسه وعسى أن يكون عند الناس مصدقا فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه.
أو يكون قد قرأ على من نسى وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله.
ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعًا.
وقد رويت في كراهة ذلك وحظره أحاديث)).
ثم يروي لنا ابنُ مجاهد بإسناده:
ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: ((اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم)).
ـ وعن حذيفة رضي الله تعالى عنه: ((اتقوا الله يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ولئن تركتموهم يمينا وشمالا لقد ضللتم ضلالاً بعيدًا)).
ـ وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((إن رسول الله يأمركم أن تقرءوا القرآن كما عُلِّمتم)).
ـ وعن عبد الله بن مسعود نحو أثر عليٍّ، ولكني رأيتُ إسناده ضعيفًا فلم أذكره.
ـ قال ابنُ مجاهد: ((وقد كان أبو عمرو بن العلاء وهو إمام أهل عصره في اللغة وقد رأس في القراءة والتابعون أحياء وقرأ على جلة التابعين مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة ويحيى بن يعمر وكان لا يقرأ بما لم يتقدمه فيه أحد.
حدثني عبيد الله بن علي الهاشمي وأبو إسحق بن إسماعيل بن إسحق بن إسماعيل بن حماد بن زيد القاضي قالا: حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال: أخبرنا الأصمعي قال: سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول: لولا أنه ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قُرِىءَ به لقرأت حرف كذا كذا وحرف كذا كذا.
وحدثني عبيد الله بن علي قال: حدثنا ابن أخي الأصمعي عن عمه قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء {وبركنا عليه} في موضع {وتركنا عليه} في موضع أيعرف هذا؟ فقال: ما يعرف إلا أن يُسْمع من المشايخ الأولين.
قال: وقال أبو عمرو: إنما نحن فيمن مضى كبقل في أصول نخل طوال
قال أبو بكر: وفي ذلك أحاديث اقتصرت على هذه منها)).

فحتى وإن كان وجهًا جائزًا في اللغة لا يُقْرَأُ به، وإنما يُقْرأُ بما سُمِعَ، وأُخِذَ روايةً وسماعًا، وعلى هذا كلام أبي عمرو بن العلاء السابق في قوله: ((لولا أن ليس لي أن أقرأ إلا بما قد قُرِئَ به لقرأتُ حرف كذا كذا وحرف كذا كذا)) يعني أن اللغة العربية ووجوهها يصح فيها ويجوز قراءة هذه الحروف على الشكل الذي قصده أبو عمرو، ولكن لا يصح في القرآن إلا أن يكون مسموعًا..

وانظر ما رواه لنا ابنُ مجاهد في ((كتاب السبعة في القراءات)) أيضًا (51) (وسأختصر الأسانيد هنا):
ـ عن محمد بن المنكدر قال: ((قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول)) قال: وسمعت أيضا بعض أشياخنا يقول عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز مثل ذلك.
ـ وعامر الشعبي قال: ((القراءة سنة فاقرءوا كما قرأ أولوكم)).
ـ وعن صفوان بن عمرو وغيره قالوا: سمعنا أشياخنا يقولون: ((إن قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول)).
ـ وعن عروة بن الزبير قال: ((إنما قراءة القرآن سنة من السنن فاقرءوه كما عُلِّمتموه)).
وفي لفظٍ عن عروة بن الزبير قال: ((إنما قراءة القرآن سنة من السنن فاقرءوه كما أُقْرئتموه)).
ـ وعن زيد بن ثابت قال: ((قراءة القرآن سنة)).

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 12:38 AM
وقال ابن الجزري: ((ثم إن الاعتماد في نقل القرآن على حفظ القلوب والصدور، لا على خط الْمصاحف والكتب، وهذه أشرف خصيصة من الله تعالى لِهَذِهِ الأمة)) [النشر في القراءات العشر لابن الجزري 1/6].

ويقول الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه: ((والاعتماد فى نقل القرآن على حفظ القلوب لا على المصاحف؛ كما فى الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (إِنَّ ربى قال لي أَن قم في قريش فأنذرهم فقلت: أي رب إذًا يثلغوا رأسي - أي يشدخوا- فقال: إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرؤه نائما ويقظانًا فابعث جندا أبعث مثليهم وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأَنْفق أُنْفِق عليك)؛ فأخبر أن كتابه لا يحتاج في حفظه إلى صحيفة تغسل بالماء بل يقرؤه فى كل حال، كما جاء في نَعْتِ أُمَّتِه: (أناجيلهم فى صدروهم)، بخلاف أهل الكتاب الذين لا يحفظونه إلا في الكتب ولا يقرأونه كله إلا نظرًا لا عن ظهر قلب)) [مجموع الفتاوى لابن تيمية 13/400].

وفي تفسير الآلوسي: ((المرعى فيه السماع من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم)) [روح المعاني للآلوسي 1/21].
وقال الآلوسي أيضًا أثناء ردّه على بعضهم: ((فلأن قوله: إن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مجموعًا مُؤَلَّفًا على ما هو عليه الآن إلخ؛ إنْ أراد به أنه مرتب الآي والسور كما هو اليوم وأنه يقرأه من حفظه في الصدر من الأصحاب كذلك لكنه كان مفرقًا في العسب واللخاف؛ فمُسَلَّمٌ)) [روح المعاني 1/25].
ويقول الزرقاني في ((مناهل العرفان)): ((وقد قلنا غير مرة: إن المعول عليه وقتئذٍ كان هو الحفظ والاستظهار، وإنما اعتمد على الكتابة كمصدر من المصادر زيادة في الاحتياط ومبالغة في الدقة والحذر)) [مناهل العرفان 1/177].

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 03:44 AM
[CENTER]شهادة من ألماني

يقول د. مراد هوفمان: ((إن المستشرقين حاولوا إثبات أن القرآن ليس من عند الله وفشلوا، كما فشلوا فى إثبات حدوث تغيير فى أى حرف أو كلمة فيه، وقد يرفض غير المسلم محتوى القرآن، ولكنه لا يستطيع أن يتجاهل تأثيره الخلاب على قارئه والمستمع إليه، ويجد الباحث أن فى القرآن إشارات علمية لم تكن معلومة فى هذا الزمان ثم ثبت صدقها مؤخرا...... والقرآن هو الكتاب الوحيد فى العالم الذى يحفظه ملايين البشر عن ظهر قلب، ولغة القرآن هى العربية التى تجمع العالم الإسلامى الذى يزيد على 1200 مليون مسلم، والقرآن هو الذى حافظ على اللغة العربية بقواعدها وكلماتها، ولذلك فهى اللغة الوحيدة فى العالم التى كتب بها القرآن منذ أكثر من 1400 عام، ولا يزال مئات الملايين من عامة أهلها يستطيعون قراءته دون تأهيل بدراسات خاصة ودون ترجمته إلى اللغة المتداولة الآن عند العرب، فلغة القرآن هى اللغة التى يتكلم ويكتب بها العرب حتى اليوم...))أهـ
http://64.233.161.104/search? (q=cache:QlulhhJ22MsJ:www.sis.gov.eg/islamic/html/is07.htm+%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D8%B4%D8%B 1%D9%82%D9%8A%D9%86+%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B1%D8%A2 %D9%86&hl=ar&safe=vss&ie=UTF-8&inlang=ar]رابط الموضوع على الشبكة
وقد سبق معنا هذا الكلام، ولكن رأيتُ إعادته هنا لفائدة الكلام عن حفظ القرآن في الصدور.

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 06:45 AM
ومن هنا يظهر للقراء الكرام أن الأصل في رواية القرآن وتلقّيه على السماع والحفظ، لا على الكتابة والمصاحف..

وقد صار هذا ديدنًا لعلماء القراءات يذكرونه في فواتح كتبهم، بعبارات شتى، ومعنًى واحدٍ.

ومن ذلك قول أبي عمرو الداني في مقدمة كتابه ((نقط المصاحف)): ((هذا كتاب علم نقط المصاحف وكيفيته على صيغ التلاوة ومذاهب القراءة)).

ويقول ابن خالويه في مقدمة كتابه ((الحجة في القراءات السبع)) (61) في بيان منهجه في كتابه: ((فإني تدبرت قراءة الأئمة السبعة، من أهل الأمصار الخمسة، المعروفين بصحة النقل وإتقان الحفظ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ)).

المستشار سالم عبد الهادي
07-02-2005, 07:40 AM
وإلى لقاءٍ قريبٍ قادمٍ إن شاء الله عز وجل...
فلا زال الحديث موصولاً والموضوع لم يكتمل بعدُ..

المستشار سالم عبد الهادي
07-03-2005, 05:31 AM
طبقات القراء

ولنرجع إلى كتب تراجم أهل الإسلام، لنرى من بينها كتبًا خاصةً في ((طبقات القراء))، لجماعةٍ من أهل العلم، ولنأخذ كتابًا من هذه الكتب لنرى ما فيه:
وهو كتاب ((غاية النهاية في طبقات القراء)) لابن الجزري رحمة الله عليه.
فماذا لديك أيها الإمام العظيم؟
يرى الناظر في كتاب ابن الجزري المذكور عنايته الفائقة ببيان من ((قرأ عليه)) المتَرْجَم له من الشيوخ والمقرئين، كما يذكر التلاميذ الذين قرأوا على هذا الشيخ صاحب الترجمة، وبأي قراءة قرأوا؟ وكيفية القراءة؟
ثم هو يتكلم على القراءات الصحيحة ويميزها من غيرها..
فإذا قرأ أحدهم بعض القرآن ولم يُتِمَّه بَيَّـنَ ذلك بيانًا شافيًا، وذكر الجزء الذي قرأ به، فيقول: قرأ من كذا إلى كذا..
ويستمر ابنُ الجزري رحمة الله عليه على هذا الخط حتى تنتهي تراجم كتابه التي بلغت الآلاف..
ولنأخذ بعض هذه التراجم، ليقف القراء الكرام بأنفسهم على عبارات ابن الجزري في تراجم كتابه (وسأختصر التراجم على اسم المترجَم له، وعبارة ابن الجزري الدالة على المراد، وما هو لصيق الصلة بما نحن فيه من الترجمة).
يقول ابن الجزري رحمة الله عليه بعد مقدمة كتابه:
باب الألف
1-أبان بن تغلب ..... أخذ القراءة عنه عرضًا محمد بن صالح .....

2- أبان بن يزيد ... قرأ على عاصم وروى الحروف عن قتادة بن دعامة، روى القراءة عنه بكار بن عبد الله العودي و......

3- إبراهيم بن أحمد ...... قرأ عليه عبد الباقي بن الحسن .....وقول الهذلي أن الشذائي قرأ عليه غلط فاحش......
4- إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم .... روى القراءات لنا إجازة من كتاب الكامل ..... وسماعا من الشاطبية عن الخطيب أحمد بن إبراهيم بن سباع الفزاري بسماعه من السخاوي، سمعها منه جماعة من الطلبة وابني محمد في الثانية.....

5- إبراهيم بن أحمد بن إسحاق ..... قرأ على أحمد بن عثمان بن بويان وأحمد بن عبد الرحمن الولي وأبي بكر النقاش وأبي بكر بن مقسم ومحمد ابن علي بن الهيثم وبكار ومحمد بن الحسن بن الفرج الأنصاري وعبد الواحد ابن عمر بن أبي هاشم ومحمد بن عبد الله بن محمد بن مرة بن أبي عمر الطوسي النقاش وعبد الوهاب بن العباس وقرأ الحروف على أحمد بن الحسن القرماسيني عن أبي بكر الأصبهاني وغيره وأبي سليمان محمد بن عبد الله بن ذكوان وعثمان بن أحمد ابن عبد الله الدقيقي عن صاحب خلف وأبي بكر أحمد بن جعفر بن أحمد الشعيري عن صاحب أبي حمدون وعلي بن محمد بن جعفر بن خليع الخياط ومحمد بن بشر بن أحمد الصايغ وأبي بكر أحمد بن جعفر بن محمد الختلي وقال الهذلي إنه قرأ على الزينبي ولا يصح ذلك لأنه ولد بعد وفاته بست سنين، قرأ عليه الحسن بن علي العطار والحسن بن أبي الفضل الشرمقاني والأهوازي وأبو علي البغدادي صاحب الروضة وأبو نصر أحمد بن مسرور وأحمد بن ضروان وأبو عبد الله محمد بن يوسف الأفشيني روى عنه الحروف....

6- إبراهيم بن أحمد بن اسماعيل ... وقرأ بكل ما قرأ به الكندي عليه ثم طال عمره فكان آخر من قرأ على الكندي وقصده الناس من الأقطار، قرأ عليه الأستاذ محمد بن إسرائيل القصاع ومحمد المزراب المصري وإبراهيم البدوي والشيخ الصالح أبو محمد الدلاصي وشيخ وقته محمد بن أحمد الصايغ وإبراهيم بن إسحاق الوزيري وأبو بكر بن ناصر المبلط....

7- إبراهيم بن أحمد بن .... روى القراءة عرضا وسماعاً عن علي بن سليم .. وعن ... قرأ عليه الحسين بن شاكر ومحمد بن عمر بن بكير وسمع منه قراءة الكسائي وقرأ عليه أيضاً أبو الحسين علي بن محمد الخبازي وعلي بن طلحة البصري والكارزيني والقاضي أبو العلاء وسمع منه الحروف علي بن محمد بن قشيش والحسن بن علي الجوهري وأبو الفضل الخزاعي...

10- إبراهيم بن أحمد بن عبد .. أمام متقن، قرأ على أبي المطرف ...

13- إبراهيم بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد المؤمن ... قرأ القراءات بدمشق على ... وقرأ من أول القرآن إلى المفلحون على ... وقرأ عليه الشاطبية وقرأ القراءات العشر على أبي حيان والسبع على ابن السراج و....

3300- محمد بن قيماز عتيق بشر الطحان الحاج أبو عبد الله الدمشقي مقرئ، تلا السبع على الإمام السخاوي إفراداً وسمع صحيح البخاري من ابن الزبيدي وروى عن ابن باسويه، مات سنة اثنتين وسبعمائة عن ثلاث وثمانين سنة ولم أعلمه أقرأ.

3656- نظيف بن عبد الله أبو الحسن الكسروي نزيل دمشق مولى بني كسرى الحلبي مقرئ كبير مشهور، أخذ القراءة عرضاً عن أحمد بن محمد .... وعبد الصمد بن محمد العينوني في سنة تسعين ومائتين ولم يكمل القرآن عليه ...

ويختم ابن الجزري كتابه بقوله: ((وهذا آخر ما يسر الله جمعه من غاية النهاية في أسماء رجال القراءات أُولَي الرواية والدراية))...إلخ.

المستشار سالم عبد الهادي
07-03-2005, 05:48 PM
لا تأخذوا القرآنَ مِنْ مُصْحَفِيٍّ


وبناء على ما سبق، فقد أَرَسَلَها أئمتُنا الكرام رضي الله عنهم قاعدةً أصيلةً حَمَلَتْها الركبان إلى جميع الأقطار؛ لتقول لهم:
((لا تأخذوا القرآن مِنْ مُصْحَفِيٍّ، ولا العلم (أو الحديث) عن صُحُفِيٍّ)).
فقطع أئمتُنا بذلك كل طُرق الاعتماد في نقل القرآن على الكتابة والمصاحف، وتركوا الباب مفتوحًا أمام السماع والأسانيد لا غير..

ـ فَعَن سليمان بن موسى أَنَّه قال: ((لا تأخذوا الحديثَ عن الصُّحُفيِّين، ولا تقرؤوا القرآنَ على الْمُصْحَفِيِّين)) [((الجرح والتعديل)) لابن أبي حاتم (2/31)، و((المحدث الفاصل)) للرامهُرْمزي (211)].

ـ وقال سعيد بن عبد العزيز: ((لا تأخذوا العلم عن صُحُفِيٍّ، ولا القرآن مِنْ مُصْحَفِيٍّ)) [الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/31].

ـ ويقول الوليد بن مسلم: ((لا تأخذوا العلم من الصُّحُفيِّين ولا تقرءوا القرآن على الْمُصَحَفِيِّين؛ إلا مِمَّن سمعه مِن الرجال وقرأَ على الرجال)) [((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (63/292)، و((تهذيب الكمال)) للمزي (31/98)].

ـ ويقول السخاوي في ((فتح المغيث)) (2/262): ((والأخذ للأسماء والألفاظ من أفواههم - أي العلماء بذلك، الضابطين له ممن أخذه أيضًا عمن تقدم من شيوخه وهلم جرَّا- لا من بطون الكتب والصُّحُف من غير تدريب المشايخ: أَدْفَع للتَّصحيف، وأَسْلَم من التبديل والتحريف....
وقد روينا عن سليمان بن موسى أنه قال: كان يقال: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي.
وقال ثور بن يزيد: لا يفتي الناس صحفي ولا يقرئهم مصحفي.
وقد استدل بعضهم بقول عمران -لما حَدَّث بحديثٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال له بشير بن كعب: إن في الحكمة كذا-: أُحَدِّثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثني عن الصحف؟
وروينا في مسند الدارمي عن الأوزاعي أنه قال: ما زال هذا العلم في الرجال حتى وقع في الصحف فوقع عند غير أهله))أهـ

ـ ويقول الصنعاني في ((توضيح الأفكار)) (2/394): ((ويقال: لا تأخذ القرآن من مُصْحَفِيٍّ ولا العلم من صُحُفِيٍّ)).
ومما حكاه الصنعانيُّ في ذلك: قول القائل:

((والعلم إِنْ فاتَه إسنادُ مُسْنِدِه ... كالبيتِ ليس له سقْفٌ ولا طُنُب))
والطُّنُب حبلٌ يُشَدّ به البيت، فكأنه بيتٌ لا عماد له ولا سقف.

المستشار سالم عبد الهادي
07-04-2005, 12:20 PM
تذكير بالعناوين الجديدة

ونتوقف قليلاً لنُذَكِّر القراء الكرام بالعناوين الجديدة في الموضوع.
وهي كالتالي:

ماذا وراء مقارنة د.موراني
بين القرآن وبين الإنـجـيـل (الحالي)؟

مقدَّسٌ حتى إشعار آخر!!
الإنجيل في نظر د.موراني
وماذا يريد من القرآن؟

مَنْ يملك حق تحقيق القرآن؟!

شهادة من ألماني

إضافة مهمة..

هكذا يُبْطِلُونَ المعجزةَ القرآنية ويهدمون الإسلام!!
فهل يقدرون على مثلِه؟!

فاصلٌ قصير

سَـمَــاعِــيٌّ
مِن البدايةِ إلى النهايةِ

طبقات القراء

لا تأخذوا القرآنَ مِنْ مُصْحَفِيٍّ

أقوال مأثورة

يقول د.مراد هوفمان: ((والقرآن هو الكتاب الوحيد فى العالم الذى يحفظه ملايين البشر عن ظهر قلب)).

المستشار سالم عبد الهادي
07-08-2005, 06:21 AM
ليست بأول خصالكم ولا آخرها!!


لا تسعد بالمتابعة , يا (المستشار) ,
حديثك لا يقلقني لأنه يخرج من الموضوع الأصلي أذ هو هراء وتكرار لما سبق منه الكلام
فمن هنا أرفض الاشارات الى (التجاملات) من جانبك .
قأقول : عليكم أن تستمروا في هذا الحوار (الذي ليس حوارا) تحت عنوان آخر وليس تحت اسمي .
كما طلبت ذلك من المشرفين في هذا المنتدى (العلمي)
حتى هذه الساعة لم يقدر د.موراني على إثبات دعواه في أن الموضوع لا صلة له به، أو أنه هراء كما يزعم!!
وليست هذه بالمرة الأولى التي يعجز فيها د.موراني عن إقامة دعواه، والدفاع عنها، وإيراد الأدلة عليها..
فهو كغيره من المستشرقين يقولون ما لا يعرفون، ويرددون ما يُمْلَى عليهم بكرةً وأصيلاً، دون فهم لمحتواه، أو دراية بما ينطقون!!
وإنما يحاولون التشويش والتشكيك لا أكثر!!
ولعل من المناسب هنا أن نعيد على القراء مؤهلات د.موراني التي يتكلم على أساسها، وقد ذكرها هو نفسه في لقاء شبكة أهل التفسير به، وهاكم النص من كلامه في لقائه المذكور في ثوبه الأخير بعد نشره في موقع http://www.qudsnet.com/mynews/modules.php?name=News&file=article&sid=%205900 (((قدس نت))
حيث يقول د.موراني:
((د.موراني : قضيتُ ثلاثةً وأربعين عاماً في هذه الدراسات ، منها عشرة أعوام طالباً في الجامعات، ولم أنقطع عن الدراسة إلا عامين فقط . وقد كانت بداية الدراسة صعبةً ؛ إذ كانت هذه الحضارةُ غريبةً عليَّ ، كما كانت المعايير الدينية غريبةً أيضاً ، إلى جانب صعوبة دراسة اللغة. وقد تغيرت الأحوال عند لقائي الأول والمباشر بهذه الحضارة ، وبهذا المجتمع الآخر أثناء إقامتي الأولى في مصر.

لم أبحث عن العلم والدرس في كلية الآداب في جامعة القاهرة ، بل أردت أن أقترب من هذا المجتمع اقتراباً مباشراً ؛ لكي أفهم طريقة تفكير الناس ولكي أفكر كما يفكرون.لم أحضر المحاضرات في الكلية إلا من حينٍ إلى آخر ، وقضيتُ أغلبَ أوقاتي في جوار الأزهر مع تجار خان الخليلي ، وقضيت معهم الأيام من الصباح حتى ما بعد العصر. وكانت لهذه اللقاءات المتواصلة ثمراتها من ناحيتين:

أولا: فهمتُ لهجة الناس ، وأصبحتُ ملازماً لهم في الحديث اليومي.

ثانياً: تعرفت على وفاء هؤلاء الذين صحبتهم في القاهرة ، حيث جئت زائراً لهم بعد اثني عشر عاماً ، وعندما دخلت السكة في الحارة التي كنت أتجول فيها يومياً قام التاجر الفلاني من كرسيه ، وقام الآخر ، والثالث ورحبوا بي ، وسلَّموا عليَّ باسمي وهو بلا شك غريب عليهم لأنه اسم (خَواجة) ، و سلُّموا عليَّ كأَنني فارقتُهم بالأمس. فهنا أخاطبكم جَميعاً : مَنْ يبحث عن هذا الكرمِ وهذا الوفاءِ في المجتمع الغربي فإنه يبحث عنه بلا جدوى !

هكذا كان اللقاء الجديد ليس مع التجار فحسب بل ببعض طلبة الأزهر أيضاً الذين التقيت بهم في مناسباتٍ عديدة ، حتى أصبحتُ ضيفاً دائماً أيام الجمعة لحضور الخطبة في رحاب الأزهر الشريف حيث سَمحَ لي الخطيبُ حينذاك أَنْ أستمع إلى الخطبةِ ، وأنا أنتظره في مكتبه أثناءَ الصلاة.

وهناك تعرفتُ على فئاتٍ أخرى من الناس لم أستطع أن أعرفهم في كلية الآداب في الجامعة. وهنا لم يجر الحديثُ حول التأريخ كما جرى في الكلية ، بل حول الحديث النبوي وفهمه أولاً ، وبعد ذلك عن التفسير وعلومه.

وأصبح من الضروري أن أدخل المكتبة الأزهرية لكي أطلب مخطوطاً في قاعة محمد عبده لقراءته أو للنظر فيه لأول مرة في حياتي عام 1968م ،كانت هذه الخطوات الأولى اقتراباً من هذهِ الحضارةِ ، وهذا المجتمع المُسْلِم , وهي تجاربُ لا تُدَرَّسُ في الكليات.

أَمَّا الشِّعْرُ فلم يكن لي اهتمامٌ به ، غير أنَّ أستاذي في جامعةِ بون كان متخصصاً في الشعر الأندلسي ، وقد عَذَّبنا به ، وبتراجم الشعراءِ ، وقرأنا عليه الشعر بغير رغبة فيه. وهكذا الأمرُ في الشعر بصورةٍ عامةٍ لا أجدُ ميلاً وتسليةً في قراءته حتى الشعر الكلاسيكي الأوروبي)). انتهى كلامه.

فهذه هي مؤهلات د.موراني كما يراها القراء في كلامه:
جاء ليدرس، فلم يحضر الدراسة، ولم يذهب للكلية إلا من آنٍ لآخر، ثم هو قد حوَّلَ إقامته بالقاهرة إلى نزهة يتعرف فيها على اللهجة العامية المصرية، ووفاء أولاد البلد كما يقال في مصر..
وبناءً على هذه المؤهلات الرائعة!! والعظيمة!! والتي لا تكاد توجد لدى أحدٍ من علماء العصر، بل ولا العصور السابقة!! قد صار د.موراني مؤهلاً للكلام على ديننا!!
فأين الدراسة؟ وأين العلم الأكاديمي؟ وأين؟ وأين؟ ومائة أين؟!!
من أراد الجواب فليذهب لتجار خان الخليلي الذين أحبهم د.موراني لعله يجد عندهم جوابًا ما!! لأن مثل هذه الصورة التي يذكرها د.موراني لا نعرفها عندنا إلا في فشلة الطلبة الذين يفرون من دراستهم لقلة فهمهم أو تعسرهم الدراسي!!
فمثلهم كسرابٍ بقيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا..

وما علمنا مستشرقًا يفقه شيئًا في ديننا ولا حتى في دينه!!
وما علمناهم إلا أبواقًا للسياسة أو الكنيسة أو التنصير أو الاحتلالات وهلم جرَّا؟!!

فمثل هؤلاء لا علم عندهم ببحثٍ أو أدلةٍ!!

وأمامنا المثال الحي الآن في د.موراني، وعجزه المستمر عن إقامة دعواه أو الدفاع عنها علانية، في الوقت الذي يجادل فيها على الخاص أو مع الجمهور كما عبر أحد الأفاضل في التعليق على هذا الموضوع.

ومع هذا يوجه د.موراني حديثه إلىَّ فيقول:

حديثك لا يقلقني..
وأنا أسأل القراء الكرام: هل سبق أَنْ قلتُ له: إن حديثي يقلقه؟!!
لم يسبق لي ذلك أبدًا، فلماذا بدأ هو بذلك؟!
ومن هنا يفهم القراء معنى هذه الكلمة التي تحتوي فعلاً على قلقٍ بالغٍ جدًا لديه، على قاعدة: يكاد المريب يقول خذوني!!

على كل حالٍ لابد من رصد الدروس المستفادة من كلام د.موراني السابق هنا، وهي كالتالي:
الأول: أن المعايير الدينية كان لها أثرها على الدراسة والبحث، كما هو واضح في كلام د.موراني المذكور..
الثاني: أنه لم يدرس ديننا دراسةً أكاديمية، ولم يتعرف عليه من خلال دراسته على أهله، وإنما كون معلوماته من خلال مصادره المتمثلة في الباعة المتجولين، أو الباعة الثابتين في خان الخليلي، وزعم أنه فهم ديننا وحضارتنا من خلال اللهجة العامية المصرية..
ثم هو لم يذهب للكلية إلا من آنٍ لآخر!!
ومع كل هذا؛ دخل الأزهر، واطلع على المخطوطات، وفعل وفعل..
لقد صار باحثًا وهو لم يدرس شيئًا بعدُ على أهله!!

وإنها لإحدى الكُبَر!!

ولنا عودةٌ ولقاءٌ إن شاء الله تعالى ذلك ويسره.

المستشار سالم عبد الهادي
07-08-2005, 06:39 PM
الانتكاسة المبكرة!!

ربما ظنَّ بعض القراء أن القصة ستقف عند طعن د.موراني أو غيره من المستشرقين في القرآن!
كلا؛ فالقصة ماضية، والمشوار طويل؛ لأنها لم تبدأ بالطعن في القرآن، وإنما جاء الطعن في القرآن بعد مشوار طويلٍ من الطعن في السنة النبوية، وطرق تدوينها، وإثارة الشبهات حولها..
لكن سرعان ما قام الأكفاء الكرام من المسلمين الأماجد بكشف المخطط، وإزالة الستار عن الوجه القبيح للحضارة الغربية (إن جازت تسميتها حضارة)!!
القصة تكمن في صراعٍ طويل بين الحق والباطل، ومدافعة وملاحة مستمرة بين أهل الحق وأهل الباطل..
وفي عصرنا هذا أراد الأقزام أن يقفزوا على أكتاف الكبار، فزعموا لأنفسهم حضارةً!! إي والله زعموا لأنفسهم حضارة!! ثم هاهم ينادون بحوار الحضارات بدلاً من صراع الحضارات!!
وصدق الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه حين كان يردد: ((ألا مَنْ للأقزام بمن يقنعهم أنهم ليسوا بعدُ إلا الأقزام))!! أو نحو هذه العبارة التي لهج بها في كتابه حول (معركة الإسلام والرأسمالية).
وفي حالٍ من انعدام الوزن والثقة وزلزلة عروش القيم الأصيلة والمبادئ القويمة في عقول الناس بدأ الجهلة والسذج ينخدعون بهذه الدعوى المتهالكة التي لم يقصد منها سوى إسباغ الشرعية على (الحضارة الغربية) وكسب الاعتراف بها كحضارة قائمة، بل ولها من القوة والنِّدِّية ما يوازيها بالحضارة العربية أو الإسلامية على حدِّ زعم أقزامها!!
لنرجع إلى تعريف الحضارة، وننقل فيه قول د.حسين مؤنس في أول كتابه (الحضارة دراسة في أصول وعوامل قيامها وتطورها) وهو الكتاب الأول من سلسلة (عالم المعرفة) الشهيرة، حيث يقول د.مؤنس في تعريف الحضارة: ((الحضارة ـ في مفهومنا العام ـ هي ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان)) إلخ.
فأين الجهد الذي قام به الأقزام؟
هل تسمى سرقة ديكارت لبعض أفكار الغزالي مثلاً حضارةً وعلمًا؟
أم يسمى تحريف الدين وتزوير التوراة والإنجيل حضارة وعلمًا؟
لاشك أن شيئًا من ذلك كله لا يسمى حضارة ولا علمًا، ولا قيمة به في سوق العلم أصلاً!
ومع هذا جاء الأقزام ليعيدوا (حوار الحضارات بدلا من صدام الحضارات) من باب (ما يتكرر يتقرر)، لا رغبة في الحوار، ولكن رغبة من الأقزام في الاعتراف بحضارتهم المزعومة، والتي تقوم على تحريف الدين واغتيال العلم في آنٍ واحدٍ!!
أنا لا أرفض الحوار أبدًا؛ كلا..
ولكني ضد تسمية التحريف والتزييف والسرقة حضارةً وعلمًا!

ورغم ذلك كله اتَّكَأَ المستشرقون على (حضارة الأقزام) فجادلوا عنها، ونعتوها بصفات الجلال والبهاء، وطعنوا في غيرها..
وامتدادًا لهذا النهج المقلوب يأتي د.موراني ليكمل مسيرة أسلافه في تزيين الحضارة الغربية العليلة، والطعن في ثوابت الإسلام الراسخة..
ومن ذلك ادِّعاء أن النص المنشور من القرآن بأيدي المسلمين ليس محققًا، وأنه بحاجة إلى تحقيق، ثم احتمال أن تأتي لنا المخطوطات في نظره بزيادة أو نقصان أو تغيير في الترتيب!!
مع علم د.موراني الأكيد أن الأصل في نقل القرآن السماع لا الكتابة والمصاحف!!
وأقول مع علمه الأكيد بذلك؛ لأنه يستحيل في عقل إنسان أن ينشر د.موراني كتابًا لابن وهب في التفسير، ثم هو يطلع على كتب أسلافه التي نشروها حول القرآن، ويطلع على كثير من كتب الإسلام، ويذكر القراءات في كلامه..إلخ.
فمستحيل أن يطلع على هذا كله ثم لا يطلع على أن الأصل في نقل القرآن السماع لا الكتابة في المصاحف، خاصة وأن أئمة القراءات والتفسير هم فرسان هذه المسألة، وقد ذكرها ابن الجزري وغيره في مقدمات كتبهم، فهي مما لا يخفى على من لامس هذه الكتب بيده.
فإما أن يعترف د.موراني بأنه اطلع عليها ولكنه أخفاها لمآرب خاصة وطعنًا في الدين الإسلامي، أو يعترف بأنه لم يكتب في حياته حرفًا واحدًا، ولم يحقق كتابًا، ولم يدرس شيئًا ولا سمع بشيءٍ، وإنما كتب له ذلك كله بعض المستأجرين من هنا أو هناك.
فإما أن يعترف بتعمُّدِ الطعن والخيانة، أو يعترف بالجهل والسرقة وتزييف الحقائق.
وسنترك له حرية الاختيار!!
نعم؛ قد سبق نقل كلام ابن الجزري وهو إمام القراءات، كما سبق نقل كلام غيره من أئمة القراءات والتفسير وغيرهما في هذا الشأن! وكتبهم مما لابد أن يطلع عليها د.موراني في تحقيقه لتفسير ابن وهبٍ، أو في كلامه عن القراءات!!
فلم يبق إلا أن يكون د.موراني قد أخفى الحقيقة التي وقف عليها هو وأسلافه طلبًا منهم جميعًا لغاية واحدة وهي التشكيك في القرآن الكريم، والطعن في ثوابت الإسلام العظيم.

ورغم هذا كله لا زال د.موراني يتكلم من فوق!! ويرفض الاعتراف بالحق، ويكتب وكأنه وحده العالم بكل شيء، وأما غيره فلابد أن يتعلم قبل أن يتكلم، كما نصح د.موراني للعضو (سيف الكلمة) كما هو مدوَّن في تعليقات الأعضاء والقراء الكرام على هذا الموضوع من هذا المنتدى الكريم.

بل يرفض أن يقال عنه: إنه انسحب من الموضوع، فضلا عن هروبه، أو عجزه عن إقامة دعواه التي ادعاها على القرآن الكريم، وفشله في إقامة البينة على ما قاله بهذا الخصوص!
فجاء يكتب لي في رسائله التي نشرها في التعليق على هذا الموضوع: ((Sun, 26 Jun 2005 20:42:35
> مساء الخير
>: أنت تكتب الآن:
> وذلك بعد التذكير إلى أنه ليس من حق د. موراني أدبيًا أن
ينسحب الآن،
>
> أين كنت انسحبت , من فضلك ؟
> لقد قلت لك رأيي في الحوار حول هذا الموضوع واقترحت أن تنشر ما أرسلت اليك من الرسائل موضحا فيها عدم الفائدة بسبب انطلاقنا من زاويتين مختلفتين)).

حتى إلصاق الانسحاب به يرفضه د.موراني!!

فليكن ما يقوله!!
فقد سئم القراء من دعاويه الفارغة التي لا تنطلي على أحدٍ، كما سئم القراء من التواء تصرفاته، وغريب أفاعيله.
وقد لفت هذا نظر القراء الكرام فكتب الأستاذ الجليل أحمد منصور يقول:
((أعرفُ هذا جيدًا، وهذا أيضًا يعرفه د. موراني(*)، وكذلك القاريء المتابع. النص الذي كتبته - بهذا الشكل المختصر وبشكل لا يخرج عن حدود الكياسة - فيه رسالة للقاريء الكريم وأظن أنها قد وصلت.

فمن يرفض النقاش في موضوع ثم يناقش في التعليقات عليه،
ويرفض أن يناقش علنًا ومع هذا يجادل على الخاص،
ولا يناقش المحاور الأصلي ويناقش الجمهور؛

أكيد أنه لديه أسبابا قوية، أسبابٌ يمكن أن يقال عنها أي شيء إلا أنها علمية)).
بل رفض د.موراني المحاورة دون أية شروط مسبقة مني، وبالطريقة التي يحددها هو!!
فعلى أي شيءٍ يتباكى؟!!



التحقيق في قضية التحقيق؟

في النص الأول في هذا الموضوع يقول د.موراني:

((كان هناك مشروع في النص القرآني قبل الحرب العالمية الثانية ، وجَمعَ تلاميذُ نولدكه المشهورون المتخصصون في القراءات نسخاً للقُرآنِ بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث.إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق. .... لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ (القرآن). رُبَّما يترتب على ذلك ترتيبٌ آخر , حتى ولو كان جزئي , للآيات، كما قد نحصل على كلمةِ نَقصٍ هنا ، وكلمةِ زيادةٍ هناكَ الخ ، وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص...)).
ويكرر د.موراني هذا الكلام في أكثر من مناسبة، كما سبق في المستندات، وكذلك في كلامه في رسائله الخاصة التي نشرها.

لكنه يأتي في رسائله الخاصة التي نشرها أيضًا ليقول لنا:

((>Date: Thu, 23 Jun 2005 06:14:25 +0000
> >> صباح الخير
> >> لا مجال هناك لحوار ما . المشاركة لا
معنى لها اذ لم أتطلب بـتحقيق)).
يعني أنه لم يطالب بتحقيق القرآن..
فماذا يعني قوله السابق هنا:

((كان هناك مشروع في النص القرآني ... بغرض تحقيقِ النصِّ القرآنيِّ تَحقيقاً علميَّاً كما تُحقَّقُ كتبُ التراث.إذ ما بين يدينا مطبوعاً هو النص المتفق عليه وليس نصاً مُحقَّقاً بِمعنى التحقيق..... لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العَمَلِ الضخم من أجل إخراج النصِّ القرآنيِّ على منهج الدراسة المقارنة الإجمالية للنصِّ synopsis لَما كانَ هناك مجالٌ للجدال حول تخطئةِ (القرآن)... وهذه الأمور كلها واردة عند الدراسة المقارنة للنص...))؟
ويمكن صياغة كلامه على الشكل الآتي: ما بين أيدينا مطبوعًا ليس محققًا .. لو قام مجموعة من العلماء بتنفيذ هذا العمل الضخم..إلخ.
فهنا يطالب بالتحقيق، ويتمنى لو قام به مجموعة من العلماء، لكنه في رسالته يقول: (لم أتطلب بتحقيق).
فأي القولين لـ د.موراني أصح في نظر القرآء الكرام: التحقيق؟ أم عدم التحقيق؟

وهذا يذكرني بجداله الطويل وسبه لي ولغيري في (ملتقى أهل الحديث) حين قلتُ له: إن مكتبات الغرب لا تحتوي على فهارس جيدة تشتمل على كل ما فيها حتى الساعة..
لكنه اعترف في مشاركاته في (ملتقى أهل التفسير) بما أنكره وجادل فيه، وذكر هو نفسه ما يفيد بأن بعض المخطوطات في مكتبات الغرب لم تفهرس حتى الآن!!
فأي القولين أصح له هنا أيضًا؟
أم أنه ممن يصدق عليهم قول أهل الحديث: اختلط، حتى فحُش منه الاختلاط فاستحق الترك؟!
فهل اختلط د.موراني؟ أم نتج التناقض عن اختلاف من يكتب له هذه المشاركات؟
وله أن يختار (وسنترك له الحرية) ما بين مختلطٍ أو سارق لجهود غيره!!

والحق أنه في (ملتقى أهل الحديث) يختلف تمامًا عنه في (ملتقى أهل التفسير)، ومن قارن بين بعض مشاركاته في الموقعين سيعلم هذا بجلاء، ويمكن لجميع القراء القيام بهذا الأمر، في بعض المشاركات، ولتكن مشاركاته حول كتاب ابن وهبٍ خاصة، والتي يذكر في موضع أن للكتاب قصة، ولن يذكرها على الملإ، ثم هو يذكرها في مكان آخر.. إلى آخر ما حصل له من تناقضات وتخاليط عجيبة، تدل حتمًا على أمور:
إما الجهل الضارب في أصوله.
أو اختلاف من يكتب له.
أو السرقة.
وله حرية الاختيار..

لكن اختلاف الشخصية بين الموقعين يُذَكِّر القراء الكرام بعقيدة بولس مؤسس النصرانية الحديثة، حيث يقول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس : (20فَصِرْتُ لِلْيَهُودِ كَيَهُودِيٍّ لأَرْبَحَ الْيَهُودَ وَلِلَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ كَأَنِّي تَحْتَ النَّامُوسِ لأَرْبَحَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ 21وَلِلَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ كَأَنِّي بِلاَ نَامُوسٍ - مَعَ أَنِّي لَسْتُ بِلاَ نَامُوسٍ لِلَّهِ بَلْ تَحْتَ نَامُوسٍ لِلْمَسِيحِ - لأَرْبَحَ الَّذِينَ بِلاَ نَامُوسٍ. 22صِرْتُ لِلضُّعَفَاءِ كَضَعِيفٍ لأَرْبَحَ الضُّعَفَاءَ. صِرْتُ لِلْكُلِّ كُلَّ شَيْءٍ لأُخَلِّصَ عَلَى كُلِّ حَالٍ قَوْماً.) [كورنثوس 9/20 ـ 22].

فهو بمائة لونٍ ووجهٍ، على حسب المعطيات التي أمامه، والأشخاص الذين يخاطبهم!!

وللقراء الكرام أن يقارنوا بين هذه العقيدة المتلونة القائمة على الخداع والأكاذيب، وبين كلام علاَّمة لغتنا أبي فهرٍ محمود محمد شاكر رحمة الله عليه عن شجاعة العربية، المستمدة من الشجاعة الإسلامية، وصراحة وصدق المسلمين في مواقفهم، وقد ذكره أبو فهرٍ في كتابه الفذ ((أباطيل وأسمار)) وغيره من كتبه.

المستشار سالم عبد الهادي
07-10-2005, 06:55 AM
قفوا لينصح لكم إبليس!!
ويُصَفِّق موراني!!

ذهب فرعون يقول لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
وكانوا يرون ما لدى فرعون من بهرج زائفٍ، وما يتحلَّى به من دعاوى فارغة، لكنهم لم يدركوا فراغ دعوته بعدُ، ولا استمعوا نصيحة الصادق نبي الله موسى عليه السلام حين أظهر لهم حقيقة فرعون الخاوية، ووهاء دعوته وخطته الفرعونية، فكانوا كما ذكر الله عز وجل عنهم وعن فرعونهم: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ [51] أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ [52] فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ المَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ [53] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} [الزخرف:51 - 54].

نعم؛ أطاعوه؛ لأنهم يرونه ملكهم وعظيمهم..
وقد اجتهد منذ الصباح في تزوير الحقيقة لهم، وإظهار الباطل بلباس الحق..
ثم هو قدَّمَ لدعوته الفارغة بمقدماتٍ ساعدته في إقامة حجته وإظهار دعوته ولو كانت فارغة!!
وهنا صَفَّقَ الجمهور الأكثر فراغًا من الخطيب!!

دائمًا ما يقول الناس عند وقوع المتشابهات من الأحداث: التاريخ يُعيد نفسَه بنفسِه..
لكن لا زال صديق العمر يقول لي دائمًا: علَّمنا التاريخ أن لا نستفيد من التاريخ!!
وصدَقَ صاحبي!!

نرجع للمستشرق جولدزيهر، ونمر على نولدكه وشفالي وجون جلكورايست ونختم بموراني..
ونسأل: ماذا قَدَّمَ لنا هؤلاء؟
لا شيء سوى الخلط و((عجين الفلاحة))!!

لكن كان لابد من وضع المقدِّمات الطويلة لهم، التي تساعد على ترويجهم في صفوف المسلمين، كأصحاب فكْر أو حمَلَة علمٍ..
ولذا كان لابد من كتبٍ تُكتب، وتُطبع وتُنْشر باسم الدراسات حول الإسلام أو حول القرآن، أو مشاريع مبدعة!! لم تظهر من قبلُ مثل الترتيب الزمني للقرآن الذي أبدعه (ويل) واعتمده (نولدكة) وافتخر به (موراني)!!
ولماذا؟
لتنفذ أقوالهم في صفوف المسلمين، ويُسمع لهم ويطاع!!
وفي هذا الصدد يقول موراني في لقاء شبكة التفسير معه (بعد تعديله ونشره في موقع قدس نت): ((أمَّا Weill فهو مِمَّن قام بوصف تأريخ فجر الإسلام وعصر النبوة وبعده لأول مرةٍ في تاريخ الاستشراق وفقاً لما كان لديه من النصوص العربية وأغلبها من المخطوطات.

كان هذا العمل من الخطوات الأولى في القرن التاسع عشر في الطريق الطويل والشاق للتعرف على الحضارة الإسلامية وعلى تاريخ الشعوب الإسلامية على المستوى الأكاديمي في الجامعات الألمانية. أما كتابا ويل:
Historical-Critical Introduction to the Koran Mohammed the Prophet, his Life and Teaching
فقد كانا وليدي عصره فلا يذكران اليوم في الدراسات الاستشراقية غير أَنَّ هذا المستشرق قد اعتمد في كتابه على مصادر مثل (السيرة الحلبية) و(تأريخ الخميس) وعلى (السيرة النبوية) لابن هشام التي لم تكن مطبوعة في ذلك الوقت اذ نشره المستشرق Wüstenfeld عام 1858 بترجمة Weill إلى الألمانية.
هذا وقد قام Weill بدراسات في السور المكية وبترتيبها ترتيباً تأريخياً حسب نزولها ووفقاً لمضمونها. وقد تبنى نولدكه N?ldeke هذا الترتيب وجعله أساساً لدراساته حول تأريخ القرآن .
واليوم لا يكاد الباحث يجد ذكراً لِما أَلَّفه Weill في هذه الميادين ، في حين ما يزال نولدكه يُعتبَر حتى اليوم من كبار المستشرقين المتخصصين في العلوم القرآنية. ولم يكن اقترابُ نولدكه من القرآن اقتراباً مضاداً للوحي , بل قام بدراسات تحليلية ومنطقية ولغوية للنص نفسه وأشار إلى ما جاء في النص القرآني من المزايا اللغوية والخصائص. كما أشار إلى بعض الظواهر اللغوية التي لا تتماشى –برأيه -مع قواعد اللغة المسلّم بها ؛ نظراً لمعرفتهِ باللغات الساميَّةِ الأُخرى (العِبرْانية , السيريانية , الحبشية ، واليمنية القديمِة). وقد كتب في موضوع الألفاظ المُعرَّبة التي دخلت لغة القرآن ، وما الذي تغيّر معناه من المصطلحات المعرّبة فيه .
إلى جانب كتابه في (تأريخ القرآن) الذي أكملَه تلاميذهُ بعد وفاته.وهناك دراسة له لم تُترجم بعدُ إلى العربيةِ حَسب علمي إلى يومِنا هذا , وهيَ (القرآن والعربية) التي يشرح فيها الأسلوب اللغويَّ للقرآنِ وبلاغتهِ شرحاً دقيقاً.
ونظراً للأَهميَّةِ الكُبرْى لدراسات نولدكه في هذا الميدان العظيم حَولِ لغةِ القرآن وتاريخ توثيقه فإنَّه لم يَزَلْ يحتلُّ محَلاً بارزاً في الدراسات القرآنية في الاستشراق المعاصر.
وأَمَّا بحث Buhl حول تحريف القرآنِ ، فلم أَجدِ المصدرَ المذكور إلى الآن ؛ لأَنَّ ما بأيدينا هو دائرة المعارف الإسلامية الجديدة ، وليس فيها هذا.
أَما المستشرق المجريُّ جولدزيهر Goldziher الذي دَرس في لابزيج وبرلين فإِنَّه اشتهر بعدة دراساتٍ حول العلومِ الإسلامية ،منها كتابه المذكور (اتجاهاتٌ في التفسير الإسلامي) الذي تُرجم إلى اللغةِ العربية فيما بعدُ ، أَمَّا الترجمةُ نفسها ففيها - كما سمعتُ في عدة مناسباتٍ - أخطاءٌ كثيرةٌ تعودُ إلى عدم فهم النص ، حتى العنوان لا يتمشى مع المقصود ؛ لأَنَّ جولدزيهير لم يتحدث عن مذاهب في التفسير , بل عن اتجاهات فكرية (=Tendencies) .
لأولِ مرةٍ في تأريخ الاستشراق أبرزَ هذا المستشرقُ الاتجاهاتِ المختلفةَ حسب التيارات الفكرية والسياسيةِ لدى المفسرين عبرَ العُصور التي عاشوا فيها ، وكان اقترابهُ من القرآنِ ، ومنهجُه في البحثِ غَير اقترابِ نولدكه منه ، إذ هذا الأخيرُ تناولَ النصَّ مِن وجهةِ نظرِ اللغويين ، أَمَّا جولدزيهير فرَكَّزَ في أبحاثهِ حول القرآن والحديثِ على الأفكارِ المرويةِ في كتب القدماءِ ، وأَبرزَ منها تفسيرَ الطبريِّ ، واعتبره أعظمَ كتبِ التفسيرِ ، وأَهمها في التراث الإسلامى مُشيراً إلى أهميةِ منهجيةِ مُؤلفهِ ، الذي أَلَّف هذا الكتابَ تفسيراً بالمأثورِ ، وجمَع فيه عِدة رواياتٍ لتفسير آيةٍ واحدةٍ. فلذلك كان كتابه حول اتجاهات التفسير مِنْ أَهَمِّ المصادرِ ، ونقطةَ الانطلاق لطلبة العلم في دراساتهم القرآنية)) انتهت القصة بحذافيرها كما يحكيها المستشرق الألماني د.موراني.

فانظر أيها القارئ الكريم إلى تلك المقدِّمات الطويلة لهؤلاء جميعًا، والتي تُرَسِّخ في أذهان الناس أنهم حملة علم، ورجال حضارة..
وبعد هذه المقدمات الطويلة لن يبحث أحدٌ خلفهم لينظر هل رتب (ويل) القرآن ترتيبًا زمنيًا من عندياته؟ أم أنه سرقه من ابن شهاب الزهري الإمام المسلم رحمة الله عليه؟ وابن شهاب هو فارس هذا الميدان، وقد طُبِع كتابه؟!
كما لن يقارن أحدٌ بعد هذه المقدمات الطويلة بين ما ذكره ابن شهاب، وما ذكره هذا الـ (ويل)، واعتمده الـ (نولدكه)، وافتخر به الـ (موراني)، لينظر ما سرقوه من ابن شهاب الزهري كعادة المستشرقين في سرقة كلام المسلمين ونِسْبَتِه لأنفسهم، كما ينظر فيما زادوه على ابن شهاب، وحقيقة ذلك وفائدته؟!
كما لن يبحث أحدٌ عن غايتهم من هذه الدراسة المبنية على الترتيب الزمني للقرآن؟ هل تقوم على الاستفادة من معرفة زمن النزول في الناسخ والمنسوخ مثلا كما هو عند علماء المسلمين؟ أم أن الغاية من الترتيب الزمني للقرآن عند المستشرقين تنطلق من زاوية اعتقاد أن الترتيب الحالي للمصحف ليس توقيفيًّا، أو ليس وحيًا، وأنه بالإمكان تغييره ولو جزئيًّا على حدِّ عباراتهم السقيمة؟!!
كما لن يبحث أحد في دراسات نولدكه صاحبة الأهمية الكبرى في نظر د.موراني المصَفِّق لها، في الوقت الذي يقول نولدكه نفسه عن كتابه عن القرآن بأنه اشتمل على (حماقات صبيانية)!! ويتكلم عن الضعف وعدم التحرير في المادة، وأشياء عديدة جعلتْ بعض الكُتَّاب يرى أن نولدكه يتبرَّأ من كتابه صاحب (الأهمية الكبرى) في نظر د.موراني؟!!
لكن لا بأس أن تكون الحماقات الصبيانية في نظر مؤلفها نولدكه لها (أهمية كبرى) في نظر د.موراني!! لأن د.موراني يظن أن أحدًا من الناس لن يقرأ، ولن يُتابع ولن يفتِّش، على حدِّ ما روَّجَ لهم إعلامهم أن العرب لا يقرأون، وكذب إعلامهم!
لقد ظن إبليس أن أحدًا من الناس لن يبحث خلف أعوانه بعد هذه المقدمات الطويلة التي روَّج بها لهم، أو أُتِيحت لهم..
هكذا ظن إبليس الأول، وهكذا افتخرتْ به سراياه وأتباعه!

ولابد هنا من رصد ملاحظة مهمة جدًا، وهي أنه يستحيل في عقلِ القارئ قط أن يصدق أن إبليس وأعوانه قد كتبوا وفعلوا كل هذا المنشور لهم ولم تقع أعينهم على كلمة حقٍّ هنا أو هناك تخالف ما كتبوه!!
فلماذا أخفوها؟
ولماذا لم يظهروا الحق؟
ولماذا تتابع هؤلاء على العناية بالقرآن خاصة؟
بل ومن زاوية الثبوت خاصة؟
ونحن نرى كلامهم حول مخطوطات المصحف، أو تاريخ القرآن، أو تدوين القرآن...إلخ.
فلماذا تتابعوا على الكلام في جهة الثبوت خاصة دون غيرها من الجهات؟
نعم؛ تكلموا عن بعض القضايا الأخرى التي لا تتصل بإسناد ومخطوطات المصحف من باب إخفاء الغرض الأساسي لهم لا أكثر!
هنا لا يقولنَّ قائلٌ: لم يروا هذه الأبحاث المخالفة لأقوالهم، أو أنهم جهلة لم يفهموها..
ومع هذا نقول: لا بأس أن يعترف موراني وأمثاله بجهلهم العريض فهو أخف الأمرين بالنسبة لهم!!
فإما الجهل، وإما التزوير والتزييف للحقائق وقصد التشكيك للمسلمين في دينهم..
وبعبارة أخرى وجيزة: إما أن تكون جاهلاً أو تكون مبشِّرًا نصرانيًا يغرق في سلك المشككين للمسلمين في دينهم!! بكل ما يحمله ذلك من خيانةٍ للبحث العلمي ولشرف ومصداقية الكلمة!!
وقد سبق إثبات الثاني بدلائله بحمد الله تعالى..
حتى لا يقولنَّ قائلٌ: فعل المستشرقون وفعلوا لأجل هذا الدين ولأجل التراث!!
كلا؛ بل فعلوا بحثًا عن الشُّبَه والمواطن التي يمكنهم من خلالها التشكيك في ثوابت الإسلام!!
كلا؛ بل فعلوا ليقدِّموا الإسلام لأقوامهم من يهود ونصارى وغيرهم مشوَّهًا محكومًا عليه بالرفض والإعدام، ليصرفوا شعوبهم عن الإيمان، وليقفوا دون دخول شعوبهم في الإسلام إذا رأوه على حقيقته الطاهرة الصافية النَّقِيَّة!!
وانظر إلى خياناتهم المتكررة للبحث العلمي والتراث في الوقت الذي يتشدقون فيه بحفظ التراث؟!!
فانظر مثلاً في كتاب (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي) وكيف حذفوا منه عمدًا أحاديث الجهاد مثلا؟!!
فهل هذه هي أمانة وشرف ومصداقية الكلمة التي يريدونها للقراء؟

ومن تلك الخطط الإبليسية التي استخدمها هؤلاء: صرف النقاش إلى غير ساحته اللائقة به!! وبعبارة أخرى: اختراع قضايا وهمية لا توجد ثم إثارة الزوابع حولها وصرف المسلمين للمحاورة فيها بعيدًا عن الهدف الأساسي لهؤلاء الجواسيس!!
ولا تستغرب أيها القارئ الكريم من وصفهم بالجاسوسية، فهذا ملفٌ آخر سيأتي فتحه بدلائله بإذن الله تعالى في مناسبة أخرى..
والمهم لنا هنا هو التنبيه على اختراعهم لقضايا وهمية ثم صرف النقاش إليها للتعمية على الغرض الأساسي..
وفي قضيتنا القائمة الآن مع د.موراني مثال حيٌّ لهذا..
حيث تكلم الرجل على مخطوطات المصحف، ووجه سهام الإهانة للقرآن الكريم من هذه الزاوية، علمًا بأن الأصل في نقل القرآن السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف..
وقد مضى بيانه، ويأتي ما يؤكده أيضًا في وقتٍ لاحقٍ إن شاء الله تعالى..
لكن أراد موراني أن ينقل حلبة النقاش إلى قضية مخطوطات المصحف؛ لأن المنتصر فيها مهزوم ولاشك.
نعم؛ المنتصر في حلبة المخطوطات مهزومٌ؛ ولذا يريد أن ينقلنا إلى هناك، ليصرفنا عن القضية الأصل في نقل القرآن: ((السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف))!!
ويستحيل في عقلٍ يعي شيئًا من نور الفهم أن يصدق جهل د.موراني بهذه القضية، في الوقت الذي حقق فيه بعض كتب التفسير، بما يستلزمه ذلك من الاطلاع على كتب التفسير والقراءات التي كَثُرَ فيها الكلام عن اعتماد السماع والحفظ في نقل القرآن بدلا من الكتابة والمصاحف!!
وانظروا أيها القراء الكرام كيف أفزعه الكلام عن هذه القضية فجاء محاولا التشكيك والتشويش، فردد لنا كلمته المشهورة: (هراء) وبذل لنا شيئًا من معهود لسانه، ثم انصرف؟!!
ألأنها ستهدم له تعب السنين وسفر الأيام والليالي بحثًا عن مُؤَكِّدٍ لشُبْهَة أسلافه القائمة على قضية المخطوطات؟!
أم لأنها ستهدم عشرات السنين منذ أن بدأت شُبهتهم وإلى الآن؟
نعم يمكنك أيها القارئ المسلم الكريم أن تقول لكافة المواقع التي على الشبكة، ولكافة المستشرقين قديمًا وحديثًا، ممن قاموا وناموا على رعاية شبهة الدراسة المقارنة بين الأصول الخطية للمصحف، بغرض ((تحقيق القرآن))!! يمكنك أيها المسلم الكريم أن تقول لهم جميعًا: ((الأصل في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف))، فتهدم لهم سنين التعب والكد والبحث عن الشُّبْهَة ورعايتها حتى استفحلتْ!!
نعم تهدمها وأنت تحتسي كوبًا من الشاي، غير مكترثٍ بما يقولونه، ولا ما يفصلونه في شُبْهتهم البالية!!
فإن أصروا على مضايقتك، فأنتَ تعرف ما يمكنك فعله بهم بعد ذلك!!

ولا حرج علينا حين نكرر قول الأستاذ سيد قطب رحمة الله عليه حين قال: ((ألا مَن للأقزام بِمَنْ يقنعهم أنهم ليسوا بعدُ إلا الأقزام))!!

المستشار سالم عبد الهادي
07-10-2005, 07:10 AM
إلى القرآن من جديد

بعد هذه الجولة السريعة، والفاصل القصير مع د.موراني؛ نرجع إلى ما كنَّا فيه قبل الفاصل من الكلام عن القرآن الكريم.
وقد سبق بيان أن الأصل في نقل القرآن الكريم على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف، وسبق نقل أقوال أئمة الإسلام في هذا الصدد..
فلنرجع إلى القرآن الآن من زاويةٍ أخرى تؤكد ما سبق إن شاء الله تعالى، وتزيده وضوحًا وبيانًا بإذنه سبحانه..

ولكن بعد استراحة قصيرة نستأذن فيها القرآء الكرام..
فإلى لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى..

المستشار سالم عبد الهادي
07-11-2005, 10:53 PM
التدوين الكتابي للقرآن

ذكرتُ فيما سبق أن الأصل في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف، وسيأتي ما يؤيد هذا إن شاء الله تعالى ويُؤَكده..
وقد آن للقراء الكرام أن نوقفهم على تاريخ تدوين المصحف في نسخٍ خطية ومصاحف مكتوبة باليد.
صار من حق البحث الآن أن نذهب به صوب مخطوطات المصحف، وما حقيقة ما جرى هنالك، وهل يا ترى كُتِبَت هذه النسخ الخطية بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أم في حياته؟

خلط المستشرقون هنا خلطًا عجيبًا فزعم بعضهم انقطاع أسانيد النُّسَخ الخطية، وزعم آخر أنها دُوَِّنَتْ بمعرفة الصحابة الكرام بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وهلم جرَّا من تُرَّهات المستشرقين وأباطيلهم التي لا حصر لها.

رغم أن القضية في نظر البعض ربما لم يعد لها أهميتها من حيث البحث، أو لم تعد الحاجة ماسة إلى بيانها في نظر البعض؛ بعد بيان أن الاعتماد في نقل القرآن على السماع لا الكتابة..
رغم ذلك: فإنها تكتسب أهمية من عدة جهاتٍ؛ أذكر منها:
أولاً: أن الكتابة مؤكدة للحفظ ومعينة على تثبيته والعناية به، ومذاكرته وتذكُّره على الدوام، ووجودهما معًا أعلى درجات الحفظ وأولاها وآكدها من وجود الحفظ دون الكتابة أو الكتابة دون الحفظ.
ولذا نعلم أن حفظ القرآن ونقله يأتي في أعلى درجات الحفظ والعناية والتثبُّت؛ لأنه يعتمد على السماع والحفظ في الأصل، ثم لم يُغْفِل أهمية الكتابة وفائدتها في تذكُّر المحفوظ واستذكاره.
ثانيًا: أن كثيرًا من المستشرقين قد عبثوا في هذه الجهة جدًا، وحاولوا تشكيك المسلمين في القرآن الكريم من خلالها، وخلطوا فيها خلطًا عجيبًا، مع تزوير الحقائق وتزييفها وإخفاء الوجه الصحيح للمسألة.
فكان من حقنا أن نعيد الأمر إلى نصابه، وندخل البيت من بابه، فننظر في المسألة نظرة المسلمين الأصحاء، لا نظرة المستشرقين الخبثاء، ونقيم الأدلة على كلامنا من خلال ثوابت الروايات وقواطع النصوص التي لا تقبل الجدل ولا التشكيك.. لعل الله عز وجل ينفع به أقوامًا ويضر به آخرين.

المستشار سالم عبد الهادي
07-11-2005, 11:51 PM
النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن فور نزوله

لنترك الروايات الثابتة والصحيحة تتكلم بنفسها عن نفسها، ولننقلها من أصح الكتب بعد كتاب الله عز وجل وهو ((صحيح البخاري))، وسنرى الآتي:

البخاري (2831) حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدًا فَجَاءَ بِكَتِفٍ فَكَتَبَهَا وَشَكَا ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرَارَتَهُ فَنَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].

البخاري (4594) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُوا فُلَانًا)) فَجَاءَهُ وَمَعَهُ الدَّوَاةُ وَاللَّوْحُ أَوْ الْكَتِفُ فَقَالَ: ((اكْتُبْ {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95])) وَخَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا ضَرِيرٌ؛ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95].

البخاري (4990) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95]))، وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].

وفي رواية الإمام أحمد لنفس الحديث (18174) حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَن أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 95] أَتَاهُ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَأْمُرُنِي إِنِّي ضَرِيرُ الْبَصَرِ؟ قَالَ: فَنَزَلَتْ: {غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] قَالَ: فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ أَوْ اللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ)).ونحوها في رواية الإمام أحمد أيضًا (18084).


دروسٌ مستفادة

والحقيقة أن أمر كُتَّابِ الوحي مشهور متواتر لا يحتاج لبيانٍ، ولكنا عمدنا هنا إلى بعض ما يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابة القرآن فور نزول الوحي عليه، وقد سبق هذا صريحًا واضحًا في النصوص المذكورة هنا، فما معنى هذا، وما هي الفائدة من إيراده؟
أولا: براءة النبي صلى الله عليه وسلم من نسيان بعض الوحي، أو عدم تبليغه لأُمَّتِه:
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة القرآن فور نزول الوحي عليه يقطع الطرق على هؤلاء المستشرقين الخبثاء أمثال نولدكه (الذي يشيد به موراني دائمًا) وجون جلكورايست وغيرهما ممن يقولون: (إن المصحف لم يشتمل على كافة الأجزاء القرآنية) أو (أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نسي شيئًا من القرآن لم يبلغه أمته)..
ومع وضوح فساد هذا القول جدًا ومصادمته للنصوص القرآنية المؤكد لحفظ الله عز وجل لهذا القرآن الكريم خاصة وللإسلام عامة، وتوصيله كاملا لكافة أجيال أمة الإسلام؛ ومع هذا كله فقد جاءت النصوص السابقة لتقول: هاؤم انظروا كيف كتب النبي صلى الله عليه وسلم القرآن فور نزول الوحي عليه، فها هو يقيد الوحي بالكتابة إلى جانب الحفظ، حتى لا ينسَ شيئًا أو يضيع منه شيء، أو يتسرب الشك إليه في يومٍ من الأيام..
وكأن الله عز وجل بسابق علمه قد أراد أن يقطع بهذه النصوص السابقة طريق التشكيك الاستشراقي الخبيث في القرآن الكريم من جهة نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الوحي الذي نزل..
كلا؛ هذا هو الوحي ينزل، فيستدعي النبي صلى الله عليه وسلم كتَبَة الوحي فورًا ويأمرهم بكتابة ما نزل، ثم يأتي زيد بن ثابت رضي الله عنه (كما سيأتي) فيجمع القرآن من هذه الصحف التي كتبها هو أو غيره بناءً على أمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره وفي حياته..
فلا مجال إذن لحاقدٍ أو عابثٍ!!

ثانيًا: القرآن ليس وجادةً.
والوجادة في الكتب كالضالة في الأشياء لا صاحب لها، ولا نسب ولا صلة تربطها بأحدٍ!!
ومِنْ هنا اختلف علماء الحديث في قبولها وردها، واستقرَّ الأمر عندهم على قبولها في مواضع ورفضها في أخرى..
فقبلوها حيث قامت القرائن على صحَّتِها، ورفضوها حين احتفَّتْ بها أمارات الرفض، أو كانت عارية عن أسباب القبول.
فأنتَ ترى أنها لم تُقْبَل لذاتها، وإنما قُبِلَتْ بناءً على ما حولها من ملابسات؛ فهي من (المقبول لغيره) لا (المقبول لذاته).
وهذا هو منهج العقل السليم، وهو الذي عليه علماء المسلمين، بخلاف النصارى الذين قبلوا الوجادة في كل وقتٍ بل وأثبتوا بها القداسة والنزاهة لما لا تهدأ فيه منافرة الحروف وتلاحي الكلمات لتضارب المعاني وسمج السياقات!!
فيا الله ما أحلمك عليهم!!

نبقى مع القرآن الكريم، فنقول: رغم الضوابط الصارمة التي ذكرها أهل الحديث الشريف في قبول الوجادة وردّها إلا أن الإجماع قد قام على أن الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف، وقد سبق بيان هذا الأصل، كما رأينا هنا أن نُسَخ القرآن الخطية التي اعتمد عليها زيدٌ في جمع القرآن لم تكن وليدة زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه، ولا كانت وجادةً؛ يعني لم تكن صحيفةً وُجِدَتْ بعد عصر كاتبها أو وفاته، وإنما كُتِبَتْ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وفي حضرته وتحت سمعه وبصره، فأغلق الله بهذا الطريق على خبيث يدعي انقطاع سند مخطوطات المصحف، أو جاهلٍ يزعم أنها كُتِبَتْ بعد النبي صلى الله عليه وسلم..
ثم هاهو زيدٌ يتتبع هذه النُّسَخ وينسخها كلها في مكانٍ واحدٍ.. فالحمد لك يا الله.

نعم؛ ثبت لنا الآن وبلا أدنى شكٍّ أن القرآن الكريم قد كُتِبَ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره، وبحضرته، وفور نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، ثم جاء زيدٌ رضي الله عنه فتتبَّع هذه النُّسَخ المعروف نسبتها وصلتها، والسابق كتابتها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذ زيدٌ هذه النُّسَخ المعروفة نسبًا وصلةً فجمعها في مصحفٍ واحدٍ، اعتمادًا على المحفوظ والمكتوب بناءً على الضوابط الصارمة التي وُضِعَتْ في نَسْخِ القرآن المكتوب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.


وإلى لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى..

المستشار سالم عبد الهادي
07-12-2005, 10:06 PM
الدَّرْسُ الأخير!!

لا تسعد بالمتابعة , يا (المستشار) ,
حديثك لا يقلقني لأنه يخرج من الموضوع الأصلي أذ هو هراء وتكرار لما سبق منه الكلام
إذا كان حديثي لا يقلقك، أو هو هراء كما تزعم فلماذا تهرَّبْتَ من المحاورة؟ وحاولت مرارًا أن توقف الموضوع بشتى الطرق؟
فلما فشل مسعاك في وقف الموضوع صرتَ تسعى هنا وهناك لمنع مجرد الإعلان عن الموضوع..
نعم؛ وصلني هذا كله موثَّقًا، ولن أنشر رسائلك الخاصة على عادتي في ترك شرف نشرها لك، فانشر إن قدرتَ رسائلك الخاصة التي أرسلتَها بهذا الصدد لـ.... (وسأدع شرف تسمية الأشخاص لك أيضًا).

لكن أجدني شفقةً بك من كثرة التعب والإرهاق حول أمرٍ لن يكون؛ أجدني مضطرًا لتذكيرك بأنك مهما حاولت فلن أكف عن إتمام الموضوع حتى آخره، وكشف الخيوط حتى النهاية فمهما حاولت فلن تقدر على وقف الموضوع.. فالسُّبُل بحمد الله كثيرة.. فأرح نفسك فلن يعود عليك من سعيك سوى إرهاق نفسك وضياع أحلام وقف الموضوع سُدًى..
قد نصحتُك يا هذا برفقٍ، ولا تنتظر هذا مني في المرة القادمة!!
نعم لا تنتظر مني ذلك مجددًا فقد أعطيتُك الفرصة المرة تلو الأخرى لإثبات دعواك المتهالكة.. والرجوع عن إهانتك المتكررة للقرآن.. ففشلتَ في ذلك ولذتَ بالفرار.. فلم البكاء الآن؟!!
وقد نصحتُك فارعوي..

المستشار سالم عبد الهادي
07-14-2005, 02:41 AM
ما بينَ موراني وجلكرايست!!
شُبْهَةٌ لا أساس لها!!

سبق وذكرتُ أن طعونات المستشرقين في ثوابت الإسلام لا تتوقف عند قضية مخطوطات القرآن، وأنها حلقة في منظومة كبيرة للطعن في الإسلام، وتشكيك المسلمين في دينهم من ناحية، وتشويه الإسلام وتقديمه للشعوب الغربية بصورة منفرة من ناحية أخرى، فهي حلقة ذات حدين، لإصابة المسلمين وتشكيكهم في دينهم، ولحجب غير المسلمين عن الدخول في الإسلام.

وقد تتابع المستشرقون على الطعن في القرآن الكريم خاصة وفي الإسلام عامة، ولم تتغير نظرتهم للقرآن عبر العصور وإن اختلفتْ مناهجهم في تناول الطعن وتقديمه، كما سبق وأفاد د.موراني في عبارته التي سبق لي أن نقلتُها عنه في بدايات موضوعنا هذا.

وكان الإطار الذي اختاره موراني لوضع الطعن فيه هو إطار البحث العلمي النزيه القائم على الدراسة المقارنة بين مخطوطات المصاحف، وتحقيق المصحف تحقيقًا علميًّا حسب زعمه، كما زعم أنه ربما أوصلتنا هذه النسخ إلى زيادة ونقصان في بعضها، أو إلى اختلاف ترتيب بعض الآيات ولو جزئيًّا.. كذا زعم موراني، وقد مضى نقل كلامه بنصه في أول هذه المقالات، وفي غير مرة.

وجاء جون جلكرايست فأخذ هذا الطعن وجعله في إطارٍ آخر، ثم أضاف إليه أشياء أخرى لم يذكرها لنا موراني هنا، وربما ذكرها في موضعٍ آخر؛ لأن غيره من المستشرقين قد ذكرها، ولا زال موراني يؤكد على أن نظرة المستشرقين للقرآن لم تتغير!!
تكلم جلكرايست كلامًا كثيرًا لا طائل من ورائه، وخلط في كلامه خلطًا عجيبًا، وحَرَّفَ وزَوَّرَ وَزَيَّفَ، بل لم يدع رزيلة علمية أو خطيئة منهجيَّة إلا وارتكبها في كتابه هذا..
ومع هذا نقتطف من كتابه النص الآتي فقط:
يقول جون جلكرايست في كتابه ((جمع القرآن)) تحت عنوان: ((3-نظرة عامة حول المرحلة الأولى لجمع القرآن)): ((امكانية فقدان بعض أجزاء النص واردة في عدة أحاديث نبوية تبين بعضها أن محمدا كان هو نفسه عرضة لنسيان بعض أجزاء القرآن :
"حدثنا موسى يعني ابن إسمعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي اللهم عنها أن رجلا قام من الليل فقرأ فرفع صوته بالقرآن فلما أصبح قال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم يرحم الله فلانا كائن من آية أذكرنيها الليلة كنت قد أسقطتها" (كتاب الحروف و القراءات سنن بن أبي داود رقم 3456)
وضع مترجم المرجع السابق إلى الأنجليزية ملاحظة هامشية بين فيها أن محمدا لم ينس بعض الآيات تلقائيا بل الله هو الذي أنساه إياها مقيما بذلك عبرة للمسلمين. مهما كانت الغاية و الأسباب فالمهم هو أن محمدا تعرض لنسيان بعض القرآن الذي أقر أنه أوحي إليه)).
وبناءً على هذا قال جون جلكرايست: ((نفس النصوص تنفي الفرضية الحديثة القائلة بأن المصحف الحالي هو نسخة طبق الأصل للقرآن الأول لم يحذف منها شيء و لم يمسسها أي تغيير. ليس هناك ما يدل على أن النص تعرض للتحريف و كل محاولة لتأكيد ذلك (كما فعل بعض الباحثين الغربيين) يمكن ضحضها بسهولة. بالمقابل هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحف واحد)).

فهو يشير إلى تأكيد بعض الباحثين الغربيين على تحريف القرآن ثم ينفي هذا الزعم، ويؤكد على أنه لم يُحَرَّف، وبهذا ينفذ إلى قلوب القراء، ويظن القارئ به الإنصاف أو النزاهة أو الحيادية فيسهل عليه بعد ذلك أن يزيف الحقيقة ويزعم أن القرآن لم يصل كاملاً، ويطلق عبارة لا قيمة لها بأن هناك أدلة عديدة على أن القرآن كان غير مكتمل وقت تدوينه في مصحفٍ واحدٍ!!
ويخبط خبط عشواء، ويحطب والدنيا ظلام ليؤكد كلامه وفكرته هذه..
بل وصل الأمر به أن يجعل الواقعة المذكورة في الحديث السابق في كلامه مؤكدة لنسيان النبي صلى الله عليه وسلم بعض الوحي!!
وقد نقله من سنن أبي داود، على عادة المستشرقين في عدم الفهم في ترتيب المصادر، والجهل بعلوم الإسلام ومصادره..
ولنرى رأي التاريخ في هذا الخبط الموراني أو الجلكرايستي..

فماذا لديك أيها التاريخ؟

إذا رجعنا إلى الحديث السابق في كلام جلكرايست فسنرى أنه عند البخاري ومسلم، وكان العزو إليهما أولى لو كان عارفًا بمصادر المسلمين أو بطرق استخراج النصوص وتخريجها عندهم..
على كل حالٍ، فالحديث رواه البخاري (5042) حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ آدَمَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ أَخْبَرَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: ((يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا)).
ورواه مسلم أيضًا (788).

والجواب على هذه الشُّبْهة من وجوهٍ عديدة نذكر منها:

أولاً: فرقٌ بين النسيان الجائز على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الوحي، وبين دعوى نقصان القرآن وأنه نسيه بعضه ولم يبلغه أُمَّتَه!!
فالنسيان جائزٌ على النبي صلى الله عليه وسلم في غير الوحي، وربما نسِيَ شيئًا من الوحي لكن لا يُقَرّ على هذا النسيان أبدًا، بل كان سبحانه وتعالى يتعهَّد نبيه بالتذكير دائمًا، إما عن طريق الوحي المباشر، أو عن طريق نصب الدلالة له على التذكًُّر كما في الحديث المذكور، حيثُ نصَبَ الله عز وجل له رجلا من الصحابة يقرأ الآية ليتذكرها النبي صلى الله عليه وسلم.

ثانيًا: أن هذه الشُّبْهة لا دليل فيها على أن بعض القرآن قد ضاع، أو أنه لم يصل كاملاً، بل الحديث المذكور واضح جدًا في كمال القرآن وتمامه، وأنه قد بلَّغَه النبي صلى الله عليه وسلم لأُمَّتِه، كاملاً غير منقوص.
ولو تدبَّر المستشرقون وفكروا بعقولهم قليلاً لرأوا أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((لقد أَذْكَرَنِي كذا وكذا آيةً أسقطتُها)) فمِنْ أين وصلتْ هذه الآيات للرجل الذي قرأَ بها؟ ومَنْ أبلغه إياها هو وغيره من الصحابة؟
أليس هو رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ الآية لأصحابه فحفظوها ووعوها ثم نساها لبعض الوقت حتى تذكرها بقراءة القارئ فالقضية هنا محصورة في نسيان النبي صلى الله عليه وسلم للآية لبعض الوقت ثم تذكُّره لها ثانية بعد سماعها من القارئ، ولا أثر لها على القرآن إطلاقًا..
لماذا؟
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلَّغَها أصحابه، فوصلتهم، ووعوها وحفظوها وقرأوا بها، ففي الوقت الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يذكرها كانت الآية محفوظة في صدور أصحابه معلومةً لديهم يقرأوا بها في صلاتهم..

فلم تتأثر الآية أصلا بنسيان النبي صلى الله عليه وسلم لها لبعض الوقت؛ لأن نسيانه لها جرى بعد أَنْ بلَّغَها أصحابه فحفظوها ووعوها، بدليل أنه تذكرها حين سمعها من القارئ..

فلو كان نسيان النبي صلى الله عليه وسلم للآية المذكورة مؤثِّرًا عليها لم يكن ليقرأ بها أحدٌ أصلاً، ولا ليتذكرها هو ثانيةً صلى الله عليه وسلم، ولكن وقع نسيانه لها بعد تبليغه لها، فكأَنْ شيئًا لم يكن كما ترى؛ إِذْ لا صلة لنسيانه لها لبعض الوقت من قريب أو بعيد بقضية وصولها لأصحابه رضوان الله عليهم ولا حفظهم لها؛ لأنه كما كررتُ مرارًا قد بلغها قبل نسيانه لها، والحديث ظاهرٌ واضحٌ في ذلك.

ويؤَكِّد هذا ويوضِّحه بلا أدنى لبسٍ أنه صلى الله عليه وسلم كان يبادر بإملاء الوحي فور نزوله على كُتَّابِ الوحي إِنْ كانوا حضورًا في مجلسِه، أو يبادر بالإرسال لهم وأمرهم بإحضار أدوات الكتابة وكتابة ما نزل من الوحي فور نزوله، وقد سبق هذا في المداخلة السابقة هنا، مع أدلة ذلك بوضوح..

فأنت ترى الآن أنه صلى الله عليه وسلم كان يكتب الوحي فور نزوله، ثم كان يُبَلِّغه أصحابه فور نزوله ويقرأه عليهم فيكتبوه، فلا إشكال بعد ذلك إن نسيَ شيئًا لبعض الوقت ثم تذكَّرَهُ ثانيةً؛ لأنه قد سبق تدوينه فور نزوله فحُفِظَ في أدوات الكتابة كما حُفِظَ في الصدور..

فاجتمع فور نزول الوحي أعلى درجات الحفظ له، وهما حفظ الصدر وحفظ الكتابة، وتكاتف السماع مع الكتابة على حفظ القرآن الكريم.. فلله الحمد.

ومن هنا لا مدخل ولا شُبْهَة لهؤلاء المستشرقين الذين يزعمون أن القرآن وصل ناقصًا، ويستدلون بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نسيَ بعض الآيات..
كلا؛ نساها بعد أن كتبها..
كلا؛ ونساها بعد أن حفظها أصحابه، ومِنْ ثَمَّ تذكَّرَها ثانيةً حين سمعهم يقرأوا بها، كما هو واضح من الحديث بحمد الله تعالى..

ثانيًا: قال ابن حجرٍ شارح البخاري في شرحه للحديث السابق: ((وَقَوْله فِيهِ: (لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَة) قَالَ الْجُمْهُور : يَجُوز عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسَى شَيْئًا مِنْ الْقُرْآن بَعْد التَّبْلِيغ لَكِنَّهُ لَا يُقَرّ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَجُوز أَنْ يَنْسَى مَا لا يَتَعَلَّق بِالإِبْلاغِ، وَيَدُلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7]))أهـ

والاستثناء في قوله تعالى: {إلا ما شاء الله} يعني: إلا ما شاء الله أن يُنسيكه، فسيُنْسِيكه الله عز وجل، لعلَّة النسخ مثلاً، كما يقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106].

وقد بَوَّب البخاري (5037) على الحديث المذكور هنا بقوله: ((بَاب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا؟ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7])).
قال شارحه ابنُ حجرٍ رحمه الله: ((كَأَنَّهُ يُرِيد أَنَّ النَّهْي عَنْ قَوْل: نَسِيت آيَة كَذَا وَكَذَا لَيْسَ لِلزَّجْرِ عَنْ هَذَا اللَّفْظ , بَلْ لِلزَّجْرِ عَنْ تَعَاطِي أَسْبَاب النِّسْيَان الْمُقْتَضِيَة لِقَوْلِ هَذَا اللَّفْظ , وَيَحْتَمِل أَنْ يَنْزِل الْمَنْع وَالْإِبَاحَة عَلَى حَالَتَيْنِ : فَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانه عَنْ اِشْتِغَاله بِأَمْرٍ دِينِيّ كَالْجِهَادِ لَمْ يَمْتَنِع عَلَيْهِ قَوْل ذَلِكَ لِأَنَّ النِّسْيَان لَمْ يَنْشَأ عَنْ إِهْمَال دِينِيّ , وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَل مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ نِسْبَة النِّسْيَان إِلَى نَفْسه . وَمَنْ نَشَأَ نِسْيَانه عَنْ اِشْتِغَاله بِأَمْرٍ دُنْيَوِيّ - وَلَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مَحْظُورًا - اِمْتَنَعَ عَلَيْهِ لِتَعَاطِيهِ أَسْبَاب النِّسْيَان.
قَوْله ـ [يعني البخاري]ـ: وَقَوْل اللَّه تَعَالَى: {سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلا مَا شَاءَ اللَّه} [الأعلى: 6 - 7]: هُوَ مَصِير مِنْهُ ـ [يعني البخاري]ـ إِلَى اِخْتِيَار مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَر أَنَّ (لا) فِي قَوْله: {فَلا تَنْسَى} نَافِيَة، وَأَنَّ اللَّه أَخْبَرَهُ أَنَّهُ لا يَنْسَى مَا أَقْرَأهُ إِيَّاهُ، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ (لا) نَاهِيَة، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْإِشْبَاع فِي السِّين لِتُنَاسِب رُءُوس الآي، وَالأَوَّل أَكْثَر . وَاخْتُلِفَ فِي الاسْتِثْنَاء فَقَالَ الْفَرَّاء : هُوَ لِلتَّبَرُّكِ وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْء اِسْتُثْنِيَ، وَعَنْ الْحَسَن وَقَتَادَة: {إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّه} أَيْ قَضَى أَنْ تُرْفَع تِلاوَته . وَعَنْ اِبْن عَبَّاس : إِلاَّ مَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يُنْسِيكَهُ لِتَسُنّ، وَقِيلَ: لِمَا جُبِلْت عَلَيْهِ مِنْ الطِّبَاع الْبَشَرِيَّة لَكِنْ سَنَذْكُرُهُ بَعْد, وَقِيلَ الْمَعْنَى: {فَلَا تَنْسَى} أَيْ: لا تَتْرُك الْعَمَل بِهِ إِلاَّ مَا أَرَادَ اللَّه أَنْ يَنْسَخهُ فَتَتْرُك الْعَمَل بِهِ))أهـ

ثالثًا: قال الإمام البخاري رحمه الله: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ قَالَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ أَبِي عَائِشَةَ قَالَ حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ وَتَقْرَأَهُ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ)).
ورواه مسلم أيضًا (448).

فأنتَ ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعجَّل حفظ القرآن، فأمره الله عز وجل أن ينصت إلى جبريل، أولاً، ووعدَه بأن يحفظه، وأن يقرأَه النبي صلى الله عليه وسلم كما سمِعَه من جبريل عليه السلام..

ففي حديث ابن عباسٍ المذكور: ((فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ)).

فها هو يقرأه كما قرأَه جبريل تمامًا، ثم تأتي روايات حديث البراء بن عازبٍ السابق في المداخلة السابقة، ومنها:
رواية البخاري (4990) حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء: 95] قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ادْعُ لِي زَيْدًا وَلْيَجِئْ بِاللَّوْحِ وَالدَّوَاةِ وَالْكَتِفِ أَوْ الْكَتِفِ وَالدَّوَاةِ ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ} [النساء: 95]))، وَخَلْفَ ظَهْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرُو بْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ الْأَعْمَى قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا تَأْمُرُنِي فَإِنِّي رَجُلٌ ضَرِيرُ الْبَصَرِ فَنَزَلَتْ مَكَانَهَا {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95].

فانظر في هذا الترتيب الرباني المُحْكَم: يقرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأَهُ جبريل تمامًا، ثم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة الوحي على الفور، في الوقت نفسه يقرأَهُ النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه فيحفظوه، حتى إذا ما نَسِيَ شيئًا منه ذكَّرَتْه قراءة أصحابه رضوان الله لما سمعوه منه من قبلُ، وما دوَّنوه بأمره وتحت سمعه وبصره في ألواحهم..
فلك اللهم الحمد على ما أنعمتَ به وأوليت..

رابعًا: قال الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله في ((تفسيره)) (1/55): ((حدثنا مَعْمر عن قتادة والكلبي في قوله: {ما ننسخ من آية أو ننسها} قالا: كان الله تعالي ذِكْره يُنْسِي نبيَّه ما شاءَ وينسخ ما شاء.
قال مَعْمر: وقال قتادة: وأما قوله: {نأت بخير منها أو مثلها} يقول: آيه فيها تخفيف فيها رخصة فيها أمر فيها نهي))أهـ
وهذا المعنى مشهور في تفاسير المسلمين.. ومنه يؤخذ أن نسيان النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليقع إلا بمشيئة الله عز وجل، وبطبيعة الحال فإن ما أراد الله عز وجل أن يُنْسِيه لنبيه صلى الله عليه وسلم فليس هو من الوحي المأمور بتبليغه، بخلاف ما لو أوحاه الله عز وجل إليه ثم نساه النبي صلى الله عليه وسلم بعد تبليغه لأُمَّتِه، فهذا وحي، لا يضره أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الوقت؛ لأنه قد بلَّغَه لأُمَّتِه فحفظوه ووعوه ودوَّنوه في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره، ثم ها هو يتذكره ثانيةً إذا سمعهم يتلونه..

وقال ابنُ أبي حاتمٍ في ((تفسيره)) (1057): ((حدثنا أبو زرعة حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة حدثنا أسباط عن السُّدِّي: {ما ننسخ من آيةٍ}: نسخها: قبضها.
قال أبو محمد ـ [وهو ابن أبي حاتمٍ] ـ: يعني بقبضها رفعها؛ مثل: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموها البتة، وقوله: لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى إليهما ثالث))أهـ

ولننظر في هذه النصوص في ((تفسير ابن أبي حاتمٍ)) أيضًا: ((19222 عن مجاهد في قوله: {سنقرئك فلا تنسى} قال: كان يتذكر القرآن في نفسِه مخافة أن ينسى.
19223 عن ابن عباس: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} يقول: إلا ما شئت أنا فأنسيك
19224 عن قتادة في قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئًا إلا ما شاء الله))أهـ

ويقول ابنُ كثير في ((تفسيره)) (4/501): ((وقوله تعالى: {سنقرئك} أي يا محمد {فلا تنسى}، وهذا إخبارٌ من الله تعالى ووعدٌ منه له بأنه سيقرئه قراءةً لا ينساها، {إلا ما شاء الله}، وهذا اختيار ابن جرير، وقال قتادة: كان رسول الله e لا ينسى شيئًا إلا ما شاء الله، وقيل: المراد بقوله: {فلا تنسى} طلب وجعل معنى الاستثناء على هذا ما يقع من النسخ أي لا تنسى ما نقرئك إلا ما يشاء الله رفعه فلا عليك أن تتركه))أهـ

وأكتفي في الجواب عن الشُّبْهة المثارة بهذه الرُّباعية المذكورة، ومنها يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم مُبَرَّأٌ تمامًا من نسيان بعض الوحي قبل أَنْ يُبْلِغَه أُمَّتَه، كما يتضح لنا مما سبق بجلاءٍ لا لبس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينسَ حرفًا من القرآن لم يُبْلِغه أُمَّتَه، وأنَّ القرآن قد وصلنا كاملاً غير منقوص تمامًا كما قرأهُ النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل عليه السلام..
فالحمد لله ربِّ العالمين..
وإلى هنا نقف هذا اليوم، وإلى لقاءٍ قادمٍ إِنْ شاء الله تعالى..

المستشار سالم عبد الهادي
07-14-2005, 02:54 AM
حصاد اليوم الإخباري!!

ونبقى قليلاً مع حصاد اليوم الإخباري، ونُذَكِّر القراء الكرام بالعناوين الجديدة في الموضوع، وهي:

ليست بأول خصالكم ولا آخرها!!


الانتكاسة المبكرة!!


التحقيق في قضية التحقيق؟


قفوا لينصح لكم إبليس!!
ويُصَفِّق موراني!!


إلى القرآن من جديد


التدوين الكتابي للقرآن



النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن فور نزوله



دروسٌ مستفادة



الدَّرْسُ الأخير!!


ما بينَ موراني وجلكرايست!!
شُبْهَةٌ لا أساس لها!!


فماذا لديك أيها التاريخ؟




وإلى لقاءٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى...

المستشار سالم عبد الهادي
08-06-2005, 12:19 AM
عودةٌ إلى تدوين القرآن وترتيبه
في العهد النبوي
نعود إلى ما كنَّا فيه من الكلام عن التدوين الكتابي للقرآن الكريم وترتيبه في العهد النبوي، وبحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.

حيثُ خلط أكثرُ المستشرقين في هذا الموضع خلطًا عجيبًا جدًا، وكان على رأس هؤلاء المستشرقين جولدزيهر ونولدكه وجون جلكرايست وموراني وغيرهم ممن لم يتمكن مِن دراسة الإسلام مِن منابعه الأصلية، أو بطرقِه الصحيحة.
حتى وصل الحال بنولدكه أن يزعم أن القرآن قد وصلنا ناقصًا، بينما ذهب جولدزيهر وجلكرايست إلى أن القرآن قد جُمِع من الصحف والأكتاف ومن صدور الرجال، فاحتملا هنا دخول الخلل، وضياع بعض القرآن، ومن هنا جاء نولدكه وموراني ليزعما ضرورة الدراسة المقارنة لنسخ المصحف بغرض تحقيق القرآن، للوقوف على الزيادة والنقص واختلاف الترتيب بين هذه النسخ.
وذهب بعض الباحثين الغربيين إلى أن القرآن قد وقع فيه التحريف؛ لأنه قد كُتِبَ من الصحف والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابة، ولم يُكْتب ـ كما زعم ـ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، حكى ذلك عنهم جون جلكرايست في كتابه ((جمع القرآن)) وردَّه وأَكَّد على أن القرآن لم يقع فيه أي تحريف، ولكنه في نظره لم يصل كاملاً، وعلل ذلك بعللٍ شتى، كان منها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك القرآن مجموعًا، وأن جمع القرآن قد خضع لضوابط صارمة ورغبة صادقة قام بها الصحابة رضي الله عنهم، ولكن فاتهم الكثير من القرآن حسب زعمه فلم يُدَوِّنُوه!!

ويلاحظ هنا وحدة الأفكار مع اختلاف الأشخاص والأزمنة.
واختلاف عباراتهم في التعبير عن نفس الأفكار لا يعني اختلاف الفكرة، أو تغيُّرها..
وهذا كله يؤكد ما سبق لموراني أن ردده حين قال في كلامه عن إدوارد سعيد: ((غير أنه قال كلمة حق ولم يرد بها الا الحق عندما زعم أنّ موقف المستشرقين لم يتغير في جوهره عن موقف أسلافهم , يعني بذلك في الدرجة الأولى موقف المستشرقين من النبي ومن القرآن . الاّ أنه أخطأ عندما زعم أن منهجية الأبحاث لم تتغير . انه كان عاجزا من أن يرى أن المنهجية والاقتراب من العلوم الاسلامية قد تغيّر كما تغيرت الأوضاع بظهور المصادر الجديدة التي لم يتناولها الأسلاف بسبب عدم وجودها في بداية القرن 20 م مثلا .
أما الموقف المبدئي من القرآن فهو لم يتغير)) [مستند رقم (5) السابق في المستندات].

وعلى كل حالٍ فقد سبق رد هذه التخليطات في المداخلات السابقة، كما سبق إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دوَّنَ القرآن فور نزوله، وأمر بكتابته غضًّا طريًّا بمجرد نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، فإن لم يكن الكاتب موجودًا بعث في طلبِه، وأمرَهُ بإحضار أدوات الكتابة، ثم أَمْلَى عليه الوحي فكتبه في الصحف والأكتاف، بجوار حفظه في الصدور.

ونتابع مسيرتنا في نفس الموضوع فنزيده أدلةً وأطروحات جديدةً، مؤَكِّدَةً لما سبق تقريره في ((كتابة النبي صلى الله عليه وسلم للوحي فور نزوله، وأنه لم يَمُتْ صلى الله عليه وسلم إلا والقرآن محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في الألواح والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابة)).
مع الإشارة للاقتصار في ذلك كله على الثابت من الأدلة، وكذا الإيجاز في ذلك جدًّا، بعدَ ضمان السلامة مِن بَتْر المعاني والموضوعات.
وذلك تأكيدًا على أمرين:
الأول: وصول القرآن الكريم كاملاً، عن طريق الكتابة، وبدء تدوينه وكتابته فور نزول الوحي، ثم تكرر عملية نسخ هذا المكتوب على مَرِّ الأجيال دون زيادة أو نقصان..
وفي كثرة النُّسَّاخ وتطاول الزمان مع ثبات المنسوخ أكبر الدلالة على تحقُّقِ وعْدِ الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم..
الثاني: التأكيد على ما سبق بيانه من أن الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف.
والضبط على قسمين:
ضبط صدرٍ، وهو الحفظ، وضبط كتابة، وهو التدوين الكتابي للعلوم.
وكلا الضبطين معتمدٌ ومعمولٌ به، بيدَ أن أعلى الحالات ما اجتمع فيه الضبطان معًا، وتوازيا على حفظِ المنقول.
وهذا عينه ما تحقق في القرآن الكريم.
فقد كان ولا زال الاعتماد فيه على الحفظ والسماع، لا على الكتابة والمصاحف، ومع هذا فقد كان ولا زال مكتوبًا محفوظًا مضبوطًا كتابةً ورسمًا في الصُّحُفِ.


والخلاصة عند البخاري

وخلاصةُ ذلك كله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد دَوَّنَ القرآن بأمرِه وحضرتِه، فأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بكتابةِ القرآن في حياته، وتحت سمعه وبصره، فور نزول الوحي مباشرةً، ولم يَمُتْ صلى الله عليه وسلم حتى كان القرآن محفوظًا في الصدور، مكتوبًا في الألواح والأكتاف ونحوهما من أدوات الكتابة.

وقد لَخَّصَ لنا البخاري العظيم هذه القضية بقوله رحمة الله عليه: ((بَاب مَنْ قَالَ لَمْ يَتْرُك النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ))..
ثم أوردَ البخاري رحمه الله (5019) حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُ شَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ: أَتَرَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ، قَالَ: وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ فَسَأَلْنَاهُ؟ فَقَالَ: مَا تَرَكَ إِلَّا مَا بَيْنَ الدَّفَّتَيْنِ.

وفي رواية الإمام أحمد رحمه الله في هذا الحديث (1912) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ: دَخَلْتُ أَنَا وَشَدَّادُ بْنُ مَعْقِلٍ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا مَا بَيْنَ هَذَيْنِ اللَّوْحَيْنِ، وَدَخَلْنَا عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.

والحديث رواه البيهقي في كتابه ((شُعَبِ الإيمان)) (172) من وجهٍ آخر عن سفيان بن عيينة عن عبد العزيز بن رفيع قال : دخلت مع شداد بن معقل على ابن عباس فسألناه: هل ترك رسول الله صلى الله عليه و سلم شيئًا سوى القرآن؟ قال: ما ترك سوى ما بين هذين اللوحين، ودخلنا على محمد بن الحنفية فسألناه؟ فقال مثل ذلك.

وهذا الحديث يُلَخِّص لنا المعاني السابقة في روايات الباب وأحاديثه..
ثم هو غنيٌّ بظهور لفظه، وجلاء معناه؛ عن كثيرٍ مِنْ تَجَشُّمِ شَرْحِه، وتَتَبُّعِ مفرداته..
وسواءٌ كان مراد السائل عن أمر الخلافة كما ذكَرَهُ بعضُ الشُّرَّاح، أو عن غيره من الأمور؛ فإنَّ مما لا خلاف عليه أنه صلى الله عليه وسلم ((لم يترك سوى ما بين اللوحين)) أو ((ما بين الدفّتين)).

المستشار سالم عبد الهادي
08-06-2005, 12:27 AM
دلالةُ التَّرْتِيب

يروي لنا الإمام أحمد رحمه الله في ((مسنده)) (21097) حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ شِمَاسَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ إِذْ قَالَ: ((طُوبَى لِلشَّامِ)) قِيلَ وَلِمَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ((إِنَّ مَلَائِكَةَ الرَّحْمَنِ بَاسِطَةٌ أَجْنِحَتَهَا عَلَيْهَا)).
وهو حديثٌ ثابتٌ رواه ابن أبي شيبة والترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم.
وهو عند الترمذي (3954) من وجهٍ آخر عَنْ يَحْيَى بْنَ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ شِمَاسَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُؤَلِّفُ الْقُرْآنَ مِنْ الرِّقَاعِ... الحديث؛ بنحوه.

يقول البيهقي في كتابه ((شُعَبِ الإيمان)) (171): ((وَإِنَّما أَرَادَ والله تعالى أعلم تَأْلِيف ما نزلَ مِن الآياتِ المتفرِّقَةِ في سُورَتِهَا وَجَمْعها فيها بإشارةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم)).

وإطلاق التأليف على الترتيب معروفٌ في لغة العرب، ومن ذلك:
ما في ((لسان العرب)) لابن منظور (3/496): ((قال أَبو عبيد تأْويل الأَوراد أَنهم كانوا أَحْدثوا أَنْ جعلوا القرآن أَجزاء كل جزء منها فيه سُوَر مختلفة من القرآن على غير التأْليف جعلوا السورة الطويلة مع أُخرى دونها في الطول)) إلى آخره.
فقوله: ((على غير التأليف)) يعني به: على غير الترتيب.

وقد استخدم العلماء التأليف بمعنى الترتيب في كلامهم وعباراتهم أيضًا، ومن ذلك:
قول الإمام مسلم رحمة الله عليه في مقدمة ((صحيحه)) أثناء كلامه عن منهجه في الصحيح وترتيب أحاديث كتابه: ((فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: فَإِنَّا نَتَوخَّى أَنْ نُقَدِّمَ الْأَخْبَارَ الَّتِي هِيَ أَسْلَمُ مِنْ الْعُيُوبِ مِنْ غَيْرِهَا ...... فَإِذَا نَحْنُ تَقَصَّيْنَا أَخْبَارَ هَذَا الصِّنْفِ مِنْ النَّاسِ أَتْبَعْنَاهَا أَخْبَارًا يَقَعُ فِي أَسَانِيدِهَا بَعْضُ مَنْ لَيْسَ بِالْمَوْصُوفِ بِالْحِفْظِ وَالْإِتْقَانِ كَالصِّنْفِ الْمُقَدَّمِ قَبْلَهُمْ ....... فَعَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْوُجُوهِ نُؤَلِّفُ مَا سَأَلْتَ مِنْ الْأَخْبَارِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).
يعني: يُرَتِّب الأخبار في كتابه.


إِلَهِيَّة الترتيبِ القرآني

ويُستفاد من الحديث السابق:
أن الترتيب القرآني الكريم ليس اجتهاديًّا، بل هو توقيفي، صنعه النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، بناءً على الوحي، ولم يتركه لاجتهاد المسلمين.

وقد حكى ابن تيمية وكذا الزركشي في ((البرهان)) والسيوطي في ((الإتقان)) وغيرهم؛ حكوا الإجماع على أن ترتيب الآيات توقيفي وليس اجتهاديًّا.
واختلفوا في ترتيب السور، والذي رجحه ابن الأنباري وغيره أنه توقيفي أيضًا، وهو الراجح المؤيَّد بالأدلة الكثيرة.

وقد عقَدَ ابنُ كثيرٍ في كتابه ((فضائل القرآن)) (81) فصلاً في تأليف القرآن؛ يعني ترتيبه، وقال فيه: ((فأما ترتيب الآيات في السور فليس في ذلك رخصة بل هو أمر توقيفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم)).

وقال ابن كثيرٍ أيضًا: ((وقد حكى القرطبي عن أبي بكر بن الأنباري في كتاب الرد أنه
قال : فمن أَخَّرَ سورةً مُقَدَّمَة أو قَدَّمَ أُخرى مُؤَخَّرَة كان كمَن أَفْسَدَ نظمَ الآيات وَغَيَّرَ الحروفَ والكلماتَ، وكان مستنده اتّباع مصحف عثمان رضى الله عنه، فإنه مُرَتَّبٌ على هذا النحو المشهور)).

وهذا هو الراجح المؤَيَّدِ بالأدلةِ، ومنها الحديث السابق.
ومن الأدلة على ذلك أيضًا:
ما رواه البخاري في ((صحيحه)) (4530) ((عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240]؟ قَالَ: قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى، فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا؟ قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي لا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ)).
وفي روايةٍ للبخاري (4536) ((عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ: هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} إِلَى قَوْلِهِ: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240] قَدْ نَسَخَتْهَا الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا؟ قَالَ: تَدَعُهَا، يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ)).
والحديث صريحٌ جدًّا في أَنَّ عثمان رضي الله عنه لم يُغَيِّر شيئًا مما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في المصحف، ولا غَيَّرَ شيئًا مِنْ مكانه..
وهذا عامٌّ في ترتيب السور والآيات، ولا فرق بين هذا وذاك.

((قال ابنُ وهبٍ: سمعت سليمان بن بلال يقول : سُئِلَ ربيعة لِمَ قُدِّمَت البقرة وآل عمران وقد نَزَلَ قبلهما بضع وثمانون سورة؟ فقال : قُدِّمَتَا وأُلِّفَ القرآن على عِلْمٍ مِمَّن أَلَّفَهُ، وقد أجمعوا على العلم بذلك، فهذا مما يُنْتَهَى إليه، ولا يُسْئل عنه.
قال ابن وهب : وسمعتُ مالكًا يقول : إِنَّما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه مِن النبيِّ صلى الله عليه وسلم)) [فضائل القرآن لابن كثيرٍ (81)].

وهذا الخبر الأخير عن مالكٍ: رواه أبو عمرو المقرئ في كتابه ((المقنع)) (مخطوطة الأزهرية) [ق/5/أ] بإسناده عن ابن وهبٍ قال: ((سمعتُ مالكًا يقول: إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعون من قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم)).

وما وَرَدَ عن عثمان رضي الله عنه يخالف هذا فلا يصح، بل هو حديثٌ منكرٌ جدًّا، وقد ضعَّفَه القاضي الشرعي الْمُحَدِّث أحمد بن محمد شاكر والعلامة الألباني والشيخ شعيب الأرنؤوط وغيرهم..
وهو حديث ٌ رواه الإمام أحمد (401) واللفظ له، والترمذي (3086)، والبزار في ((مسنده)) (344)، والحاكم في ((المستدرك)) (2/360)، والطبراني في ((الأوسط)) (7638) من روايةِ يَزِيدَ الفَارِسِيِّ قَالَ: ((قَالَ لَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: مَا حَمَلَكُمْ عَلَى أَنْ عَمَدْتُمْ إِلَى الْأَنْفَالِ وَهِيَ مِنْ الْمَثَانِي وَإِلَى بَرَاءَةٌ وَهِيَ مِن الْمِئِينَ فَقَرَنْتُمْ بَيْنَهُمَا وَلَمْ تَكْتُبُوا بَيْنَهُمَا سَطْرًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَضَعْتُمُوهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ؛ مَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ؟ قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِمَّا يَأْتِي عَلَيْهِ الزَّمَانُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ مِنْ السُّوَرِ ذَوَاتِ الْعَدَدِ، وَكَانَ إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الشَّيْءُ يَدْعُو بَعْضَ مَنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ يَقُولُ: ضَعُوا هَذَا فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَاتُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَاتِ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَيُنْزَلُ عَلَيْهِ الْآيَةُ فَيَقُولُ: ضَعُوا هَذِهِ الْآيَةَ فِي السُّورَةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتْ الْأَنْفَالُ مِنْ أَوَائِلِ مَا أُنْزِلَ بِالْمَدِينَةِ، وَبَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ، فَكَانَتْ قِصَّتُهَا شَبِيهًا بِقِصَّتِهَا، فَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَنَا أَنَّهَا مِنْهَا، وَظَنَنْتُ أَنَّهَا مِنْهَا، فَمِنْ ثَمَّ قَرَنْتُ بَيْنَهُمَا وَلَمْ أَكْتُبْ بَيْنَهُمَا سَطْرًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَوَضَعْتُهَا فِي السَّبْعِ الطِّوَالِ)).
ويزيد الفارسي المذكور في الإسناد: رجلٌ آخر غير يزيد بن هُرْمُز المشهور، وقد فَرَّقَ بينهما يحيى بن سعيدٍ القطان، وأنكر أن يكونا واحدًا، وكذا فرَّقَ بينهما أبو حاتمٍ الرازي والترمذي والمزي وغيرهم.
وقد ضعَّفَ أبو زرعة يزيدًا الفارسيّ هذا، وذكر يحيى بن سعيدٍ القطان أنه رجلٌ كان يكون مع الأمراء، يعني أنه لم يكن بصاحب حديثٍ، ولم يكن الحديث صَنْعَته وحِرْفَته، فمثل هذا لاشك في نكارة تفَرُّدِه، خاصةً إذا تفَرَّدَ بحكمٍ وتفصيلٍ مخالفٍ للمقطوع به، شهرةً وتواترًا.
ولذا قال الشيخ القاضي الشرعي أحمد بن محمد شاكر رحمة الله عليه وهو يتكلم عن يزيدٍ الفارسي هذا: ((فلا يقبل منه مثل هذا الحديث ينفرد به، وفيه تشكيك في معرفة سور القرآن الثابتة بالتواتر القطعي، قراءة وسماعًا وكتابة في المصاحف، وفيه تشكيك في إثبات البسملة في أوائل السور؛ كأن عثمان كان يثبتها برأيه وينفيها برأية، وحاشاه من ذلك، فلا علينا إذا قلنا: إِنَّه حديثٌ لا أصلَ له تطبيقًا للقواعدِ الصحيحةِ التي لا خلافَ فيها بينَ أئمةِ الحديثِ)).
وقال الشيخ الألباني في ((ضعيف الترمذي)): ((ضعيف)).
وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط في تحقيقه لمسند أحمد: ((إسناده ضعيف ومتنه منكر))، ونقل كلام الشيخ أحمد شاكر السابق أيضًا.
وهذا هو الذي يقطع به مَن يعمل بالحديث، أو يشم رائحته؛ لأنَّ مَن ضَعَّفَه مثلُ أبي زرعة الرازي إمام الجرح والتعديل، ولم تكن الرواية صنعته كما يفيد قول يحيى القطان إمام الحديث، حيثُ قال فيه: (كان يكون مع الأمراء).
أضف إلى هذا كلّه أنه لم يشتهر بالرواية، ولم يذكر له المزي في ترجمته من ((تهذيب الكمال)) (32/287) في الكتب الستة سوى هذا الحديث وهو عند أبي داود والترمذي والنسائي، وحديثًا آخر عند الترمذي في ((الشمائل)).
ورغم هذا كله تَفَرَّد برواية هذا الحديث المخالف للمتواتر عن ابن عباس، دون سائر أصحاب ابن عباس الثقات الأثبات أمثال سعيد بن جبير وغيره من أئمة القرآن والحديث..
فأين كان هؤلاء الأئمة عن هذا الحديث؟
ولماذا لم يأتِ به سوى هذا الضعيف الذي لا يُعْرَف بالحديث ولا بالرواية؟!
فهذا كله يؤكد ما ذكره المشايخ الكرام السابق ذِكْرهم هنا من نكارة وضعف هذا الحديث.
وهذا الكلام يجري على سنن المسلمين في البحث العلمي، ولا يجري بطبيعة الحال على سنن وطريقة موراني في البحث والتصحيح والتضعيف، القائمة على تصحيح كافة ما ورد مكتوبًا في صحيفة لمجرد أنه ورد مكتوبًا وفقط، تمامًا كما لدى أصحاب الحفريات، وستأتي الإشارة لمناهجهم في ذلك بإذن الله تعالى.
لكن لا علينا من مخالفتهم لما يجهلونه، ولا يعرفونه، وقديمًا قيل: مَنْ جهل شيئًا عداه..
نعم؛ ومَن استعصى عليه أكل الموز قال: وجدتُه مالحًا!!

المستشار سالم عبد الهادي
08-06-2005, 12:38 AM
مصحفٌ واحدٌ
وترتيبٌ واحدٌ
لا غير

نعم؛ لا يوجد لدى المسلمين أكثر من مصحفٍ، بل هو مصحفٌ واحدٌ له ملايين النُّسَخ والصور المأخوذة عن النسخة الأصلية..
وجميع الصور هي هي بعينها النسخة الأصل، فهي صور طبق الأصل لنسخةٍ واحدةٍ ومصحفٍ واحدٍ فقط لا أكثر..

دعنا نعود للوراء حيث موراني وأسلافه المستشرقين لنرسم صورتهم التي يريدونها:

يرى موراني تبعًا لنولدكه أنَّ النسخة المنشورة من المصحف بأيدي المسلمين الآن ليست نسخةً محققةً، وأنها بحاجةٍ إلى تحقيقٍ!!
كيف؟
عن طريق الدراسة المقارنة لنسخ المصحف الخطية المتداولة في العالم الإسلامي، ومنها هذه المجموعة النادرة التي عُثِر عليها في صنعاء مثلاً، أو تلك التي عُثِر عليها في الأزهرية أو في دار الكتب أو غير ذلك من نسخ المصحف الخطية حول العالم..
لكن انتبهوا يا قراء فالأمر لم ينته بعدُ!!
فالقصة القصيرة عند موراني ونظرائه تقول: لابد من الدراسة المقارنة للنسخ الخطية للمصحف..
هكذا تبدو قصتهم القصيرة بريئة وعفيفة المظهر!!
لكن ثمة عبارات تُظْهِر ما في البطون..
حينما نسمع بالدراسة المقارنة يقفز إلى أذهاننا احتمالية وجود خلاف، فيؤكد موراني هذا فيحتمل أنه ربما وجدنا كلمة نقصٍ هنا أو كلمة زيادة هناك أو اختلاف في الآيات على حدِّ زعمه السابق في عبارته المذكورة في صدْر موضوعنا.

في النُّسَخ الخطية للمصحف ما عُزِيَ إلى عثمان، وبعضه قيل: إنه بخطِّ عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه نفسه..
انظروا يا قراء: نُسَخ بخط عليٍّ أو غيره؟
إذن سنجد في أثناء الدراسة المقارنة خلافًا بين نسخة عليٍّ رضي الله عنه من حيثُ الترتيب وبين الترتيب المشهور المتداول للمصحف..
انتظروا..
هذا ليس كل شيءٍ..
فحتَّى إن لم نجد نسخةَ عليٍّ أو ابن مسعود مثلاً، بما تحمله هذه النُّسخ من خلافٍ في الترتيب عن الترتيب المتداول المشهور الذي صار معروفًا بالمصحف العثماني..
فحتى إن لم نجد هذه النسخ؛ فسنجد ما يقوم مقامها في كتب العلماء وكلامهم؛ أمثال حكاية ابن الأنباري رحمة الله عليه لخلاف مصحف عليٍّ وابن مسعود مثلاً مع المصحف العثماني!!
وهنا تنتهي القصة القصيرة يا قراء..
أراد مؤلفها أن يقول لكم: إنه مهما حاولتُم فسنجد نسخًا واختلافاتٍ وزيادة ونقص في نسخ المصحف عن الترتيب المعهود المتداول المشهور، وهنا عليكم الاختيار أيها الناس، ويلزمكم البحث والترجيح..
وهكذا سيخرج بنا موراني من دائرة الثابت المستقر إلى دائرة الشك والتجريب..
هكذا خططوا وأرادوا..
لكن هل يتم لهم هذا؟
هل صحَّ ما ذكروه؟

لم يعد القراء الكرام بحاجة إلى جوابٍ عن هذا السؤال بعد كل ما سبق؛ لكن لا علينا أن نعيد التذكرة ببعض الأمور باختصارٍ وتركيزٍ:
الأول: أن الأصل في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف، فالأصل السماع، وما خالف السماع الوارد الآن فلا عبرة به مهما كان..
وقد سبق بيان هذا الأصل بحمد الله تعالى..

الثاني: أنَّ عثمان رضي الله عنه قد أراحنا من هذا كله، فأحرقَ تلك النُّسخ التي كتبها ابن مسعود وغيره من الصحابة لأنفسهم رضي الله عنهم، حتى لا يختلف الناس في القرآن..
فمَنْ زعم الآن أن بإمكانه العثور على نسخة ابن مسعودٍ أو عليٍّ أو أُبَيٍّ نفسها فقد خالف التاريخ المتواتر المقطوع به..
نعم؛ لا نُنْكر أن نجد بعض نسخ مكتوبة أو منسوخةً من هذه النُّسخ السابقة قبل حرقها، لكن يبقى هذا الاحتمال مجرد احتمال ذهني ممكن الوقوع من حيثُ الذهن فقط، وليس ممكنًا من حيثُ الشَّرْع أبدًا؛ بل مستحيلٌ في نظري..

ومع هذا فلو حصل ـ وهذا بعيدٌ كما سبق ـ ووُجِدَتْ بعض نسخةٍ مكتوبةٍ ومنسوخةٍ من هذه النُّسَخ قبل حرقها، فكأنَّ شيئًا لم يكن!!
نعم؛ لأنها لا عبرة بها لا في الترتيب ولا في غيره من المباحث الخاصة بالقرآن؛ لخلوِّها من شروط نقل القرآن الكريم، المتمثلة في السماع والتواتُّر؛ إلخ..

فشمِّر عن ساعديك يا موراني للبحث عن مثل هذه القطع، واستعن بأهل الأرض جميعًا ممن يوافقك المذهب، لنقول لك في نهاية مطافك وتعبك: ما جئتُم به لا يوافق شروطنا الصارمة لنقل قرآننا الكريم فأعيدوا الكَرَّة في اتجاهٍ آخر.. ولا يلزمنا ما ليس بحجةٍ عندنا، كما وأنه مِن العبثِ والجهل أن يُحْتَجَّ علينا بما ننكره!!
وهنا نقرأ قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ .. فَسَيُنفِقُونَهَا .. ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً .. ثُمَّ يُغْلَبُونَ .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ [36] لِيَمِيزَ اللَّهُ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ [37] قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ} [الأنفال:36 - 38].

أما أنتم يا قراء فقد صار مِن حقِّكم علينا أن نكشف لكم عن سِرِّ اختلاف نسخة عليٍّ أو ابن مسعود أو غيرهما ممن كتبَ نسخةً لنفسه، تخالف المشهور المتداول المتواتر بأيدي المسلمين الآن..

دعنا نُذَكِّر القراء الكرام بما سبقت الإشارة إليه من كون الترتيب القرآني لا مجال فيه لاجتهادِ بشرٍ، وإنما هو توقيفيٌّ بحت، يعني أنه تم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، تبعًا للوحي..
وهذا سرٌّ آخر من أسرار المعجزة القرآنية ستأتي الإشارة إليه إن شاء الله تعالى..

لكن تتعيَّن الإشارة هنا إلى تلقِّي الصحابة الكرام رضي الله عنهم لهذا الترتيب التوقيفي، ثم رضاهم وعملهم به..

وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه قد نسخ المصاحف ووزعها في المسلمين، بمشورةٍ منهم، فكان ذلك إجماعًا منهم وممن بعدهم من المسلمين على الترتيب المتداول المتواتر بأيدي المسلمين الآن..

وقد رفض عثمان رضي الله عنه كما سبق النَّقْل عنه أن يتصرَّف في شيءٍ، وعلى حدِّ قوله: ((لا أُغَيِّر شيئًا من مكانه)) كما سبق قريبًا.

وقد دلَّ إقرار الصحابة رضي الله عنهم جميعًا بهذا الترتيب النبوي للقرآن الكريم على أن اختلاف النُّسَخِ التي كتبها بعضُ الصحابة لأنفسهم والتي عُرِفَتْ باسم المصاحف لم يكن مقصودًا، سواءٌ لأُبَيٍّ أو ابنِ مسعود، أو غيرهما.

نعم؛ لم يكن خلافهم مع ما عُرِفَ بعدُ باسمِ مصحفِ عثمان مقصودًا، وإنما جاء اختلاف نُسَخِهِم تبعًا لطبيعة الوحي في نزول القرآن مُفَرَّقًا، فكانت الآية تنزل حسب الواقعة أو الحادثة فيكتبها ابن مسعود أو أُبيٌّ وغيرهما في صحُفٍ خاصةٍ بهم، فإذا نزلتْ أخرى ألحقوها بما قبلها، وهكذا..

ولم تكن أدوات الكتابة في حالةٍ تسمح آنذاك بتغيير الترتيب مِنْ آنٍ لآخر، ولا هي بمثل ما هي عليه الآن من يُسْرٍ وسهولةٍ، ولذا اكتفى أمثال ابن مسعود وأُبي مثلاً بحفظ الترتيب الذي يأمر به النبي صلى الله عليه وسلم تبعًا للوحي، وتركوا ما كتبوه في ألواحهم الخاصة بهم كما هو، على ترتيب النزول، فلما رحل هذا الجيل المبارك، وجاءتْ أجيالٌ أخرى، ورأوا هذا الاختلاف ظنُّوه مقصودًا، ولذا تناقلوا عبارة ((مصحف عليٍّ)) أو ((مصحف ابن مسعود)) أو ((مصحف أُبَيٍّ)).
وعليٌّ وابنُ مسعود وأُبَيٌّ رضي الله عنهم من هذا القصد براء..
كيف وقد نُسِخَتِ الصُّحُف أكثر من مرة في حياة هؤلاء بالترتيب المشهور في المصحف المتداول بيد المسلمين، ولم يُنْكر عليٌّ ولا ابن مسعود ولا غيرهما هذا الترتيب، ولا اعترضوا عليه؟!

ولو كان ترتيبهم المخالف لما في أيدي المسلمين الآن مقصودًا لاعترضوا على الترتيب الحالي، ولأظهروا رأيهم المخالف، خاصة وهم مَن هم مِن الأمانة والثقة والشجاعة في قول الحق، ولا يمنعهم من البلاغ آنذاك رهبة حاكم ظالمٍ ولا زيف دنيا هزيلة؛ لأنه لم يكن ثمة ظلم ولا رغبة في دنيا، فما كانوا يعرفون سوى الآخرة، وما عملوا إلا لها، فرضي الله عنهم.

فدلَّ سكوتهم وإقرارهم بالترتيب الذي بأيدي المسلمين على أنه المعتمد لديهم أيضًا، وأنهم لا يخالفونه أبدًا، وإنما اختلفتْ طريقة الكتابة في ألواحهم فقط؛ لأنهم كتبوها بناءً على ترتيب النزول، آيةً وراء آية، واستغنوا بحفظ الترتيب التوقيفي الذي قَرَّرَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم واشتهر بين الناس؛ فاستغنى عليٌّ وابن مسعود وأُبَيٌّ ونحوهم بحفظ هذا الترتيب التوقيفي وشُهْرَتِه عن إعادة نَسْخِ وكتابة ما كتبوه..
فلا ذنب لهم إِنْ جاء بعدهم مَنْ لم يفهم مقصدهم، ولا عُنِيَ بدراسة حالتهم الاجتماعية وعُرْفهم السائد آنذاك ليقف على طبيعة الأمور كما هي في الحقيقة، لا كما يتصوَّرها هو!!

وربما رجع الاختلاف عندهم في أول الأمر إلى حدود عِلْمِهم وما بلغهم، ثم ثابوا بعد ذلك إلى الترتيب التوقيفي الذي اشتهر أمره في الناس، ولم يعترضوا عليه.

وقد بعث عثمان بمصحفه إلى الآفاق، وعَلِمَ به الكافة مِن الناس، ولم يعترض عليه أحدٌ منهم، ولا ممَّن بعدهم، فدلَّ ذلك كله على رضاهم جميعًا بالترتيب المشهور في الناس الآن، وهو الترتيب التوقيفي الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد رجع إليه أصحاب نُسَخ المصاحف الأخرى؛ كعليٍّ وغيره.

وقد وردَ عن عليِّ بن أبي طالبٍ وغيره من أصحاب المصاحف المذكورة ما يدل على رضاهم ومباركتهم لمصحف عثمان بترتيبه المشهور، بل وَرَدَ صريحًا أَنَّ عثمان رضي الله عنه لم ينسخ المصحف بترتيبه المتداول بين المسلمين إلا بمشورةٍ مِن عليٍّ وغيره مِن الصحابة الكرام، وأنه فَعَلَ ذلك برأيهم، ولم ينفرد بالرأي دونهم.

وقد ذكر ابن أبي داود في كتابه ((المصاحف))، وغيره مِن العلماء عدة نصوصٍ في هذا الصدد، أقتصر منها فقط على الخبر المشهور عن عليٍّ رضي الله عنه، والذي لا يكاد يتركه أحدٌ مِمَّن تعرَّض لهذه المسألة، ومنهم السيوطي في ((الإتقان)) (772) حيث يقول: ((وأخرجَ ابنُ أبي داود بسندٍ صحيحٍ عن سُوَيْدِ بن غَفَلَة قال: قال عليٌّ: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فَعَلَ الذي فَعَلَ في المصاحفِ إِلاَّ عن مَلإٍ مِنَّا؛ قال ـ [يعني: عثمان]ـ: ما تقولون في هذه القراءة فقد بلغني أَنَّ بعضَهم يقول: إنَّ قراءتي خيرٌ مِن قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا؟ قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أَنْ يُجْمَعَ الناس على مصحفٍ واحد فلا تكون فرقة ولا اختلاف، قلنا: نِعْمَ ما رأيتَ)).
ووردَ عن عليٍّ أيضًا أنه قال: ((لو وُليت لعملتُ بالمصاحف عمل عثمان بها)) [انظر: الإتقان أيضًا 775].

فهذا ظاهرٌ بلفظه ومعناه على الرضى بعمل عثمان رضي الله عنه، والذي اشتهر بعدُ باسم المصحف العثماني، وهو المتداول بأيدي المسلمين الآن..

ولذا قال الإمام الْمُفَسِّر الآلوسيُّ رحمه الله في ((تفسيره)) أثناء الكلام عن نسخ عثمان رضي الله عنه للمصاحف:
((وقد ارتضى ذلك أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أن المرتضى كرم الله تعالى وجهه قال على ما أخرج ابن أبي داود بسندٍ صحيح عن سويد بن غفلة عنه: لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا فوالله ما فعل في المصاحف إلا عن ملإٍ مِنَّا، وفي روايةٍ: لو وُليت لعملتُ بالمصحف الذي عمله عثمان.
وما نُقِلَ عن ابنِ مسعود أنه قال لما أُحرق مصحفه: لو ملكت كما ملكوا لصنعتُ بمصحفهم كما صنعوا بمصحفي؛ كذبٌ؛ كسوء معاملة عثمان معه التي يزعمها الشيعة حين أخذ المصحف منه.
وهذا الذي ذكرناه مِن فِعْلِ عثمان هو ما ذكرهُ غير واحدٍ مِن المحققين حتى صرحوا بأَنَّ عثمان لم يصنع شيئًا فيما جَمَعَهُ أبو بكرٍ مِنْ زيادةٍ أو نقصٍ أو تغييرِ ترتيبٍ سوى أنه جَمَعَ الناسَ على القراءةِ بلغةِ قريشٍ محتجًّا بأَنَّ القرآنَ نزلَ بلغتِهِم))أهـ

فدلَّ هذا على الرضى بترتيب المصحف المتداول بين المسلمين، على أنَّ اختلاف الترتيب في مصاحفهم أو نُسَخِهم التي نسخوها من المصحف إنما وردَ مِنْ جهة الكتابة عند نزول الوحي مباشرة، وإلحاق ما يُستجد من الوحي بما سبق كتابته، على حسب أزمنة النزول، مع حِفْظ الترتيب الخاص بالقرآن في الصدور..

وإنما مَنَعَهم مِن تغيير نُسَخِهم ونمط ترتيبها تعسُّر هذا الأمر ومشقّته عليهم، خاصةً مع عدم توفُّر مواد الكتابة، وصعوبة القيام بهذا العمل، وقد سبق أنهم كانوا يكتبون في الأكتاف واللخاف وغيرهما من الأدوات، وهي إما أوراق النخيل، أو قطع العظم أو الأحجار الرقيقة، أو غيرها.
ومثل هذه الأدوات المذكورة وغيرها يصعب جدًا تغييرها كل حينٍ بناءً على الترتيب الأخير للمصحف، الذي تلقَّاه النبي صلى الله عليه وسلم عن الوحي، فاستغنى هؤلاء بحفظ هذا الترتيب الأخير، وتركوا ما كتبوه كما هو دون تغيير..
خاصةً وأنَّ الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا على الكتابة والمصاحف..

نعم؛ لكنهم أعلنوا رضاهم بما صنَعَ عثمان رضي الله عنه، وبمصحفه الذي نُسِبَ إليه، وهو المصحف المتداول بأيدي المسلمين الآن، بترتيبه الحالي..
فكان هذا الإعلان والرضى منهم كافيًا في بيان الحال، وقاطعًا لكل الشُّبَه.

ومع هذا فقد أَبَى قومٌ إلا الأخذ بالشُّبُهات والتعلُّق بها في مقابلة الحق الواضح!!

كما دلَّ رضاهم بهذا الترتيب المتداول المشهور على أنهم علموا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وإشارته به، فلم يعارضوه..
ولو كان أمرًا اجتهاديًّا تجوز مخالفته لتمسكوا أو بعضهم بما في نُسَخِهم من ترتيبٍ على أوقات النزول أو غير ذلك، لكن لم يكن شيء من ذلك بحمد الله عز وجل.
فدلَّ هذا كله على ما سبق تقريره أن سبب اختلاف نسخهم المكتوبة يرجع إلى طريقة الكتابة أولاً بأولٍ عند نزول الآيات في الأحداث والوقائع المختلفة، وإلحاق الآية بعد الأخرى حسب العِلْم بما نزل، والاطلاع على آخر ما استجدَّ مِنْ الوحي الإلهي.
هذا في الوقت الذي كانوا يحفظون فيه الترتيب الأخير لآيات القرآن وسوره حسبما رتَّبَه النبي صلى الله عليه وسلم تبعًا لما قرأَهُ على جبريل عليه السلام قبل وفاته صلى الله عليه وسلم.
فلم يَرَ عليٌّ وابن مسعود وأُبَيُّ بن كعبٍ مثلاً إعادة نسخ ما كتبوه ليوافق الترتيب التوقيفي المشهور، لصعوبة ذلك بالنسبة لهم ولحالتهم الاجتماعية وأداوات الكتابة آنذاك، ثم اعتمادًا منهم على حفظِ الترتيب التوقيفي والعِلْم به، وشُهْرته في الناس.
وما وردَ عنهم بخلاف ذلك فلا يصح إسنادًا أو دلالةً، وقد مضى بعض قول عليٍّ الصريح في الرضى بما صنعَ عثمان، وفيه الترتيب المشهور المتداول، والحمد لله ربِّ العالمين.

المستشار سالم عبد الهادي
08-06-2005, 10:32 PM
ولعل من المناسب هنا أن نلفت نظر القراء الكرام إلى أن د.موراني قد حاول جاهدًا التشويش على الموضوع بصفات ونعوتٍ شتى، منها الفوضوية مثلا، ومنها استخدام السب والشتم للتشويش على الموضوع..
وأكتفي في الرد عليه بما ذكره هو نفسه حين قال في ملتقى التفسير
http://www.tafsir.org/vb/showthread.php?t=3628
الباجي المحترم , حفظه الله , قد كتب :
الرواية الشفوية يا دكتور موراني هي الأصل، ثم يأتي التوثيق الكتابي، بذلك حفظ المسلمون كتابهم من التحريف والتغيير.

أنا شخصيا , كما سبقت الاشارة الى ذلك , لا أجد دليلا قاطعا على هذا الرأي الذي أحترمه , بل أجد غيره ما لا يفوتك عند قراءتك في الروايات حول (جمع القرآن) , وهي كثيرة . فمن هنا لسنا في حاجة الى اعادتها .
كما لسنا في حاجة , كما أرى , أن ندخل في هذا الحوار العلمي حول المصاحف القديمة ( وهذا هو الموضوع ) أمورا من ميادين السياسة وما يتعلق بها من قريب أو بعيد .
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا انتهى


فقوله: ((الذي أحترمه)) يرد على وصفه لموضوعنا هنا بالفوضوية، وبه نكتفي في هذا الرد السريع الآن إن شاء الله تعالى..


أما إنكاره لكلامنا السابق في اعتماد السماع والحفظ لنقل القرآن لا الكتابة والمصاحف، فأكتفي في الرد عليه بنصٍ سبق ونقله له الأستاذ الباجي في الرابط السابق من ملتقى التفسير أيضًا عن نولدكه أو شفالي، حيث قال الأستاذ الباجي مخاطبًا موراني هناك:
وأبدأك بهذا النص عن نولدكه العظيم!! أو عن فريدرش شفالي - فلا أدري لمن أنسب الكلام بعد ما رأيته في واجهة الجزء الثاني من [ تاريخ القرآن ] < عدله تعديلا تاما فريدريش شفالي > -.
قال 2/241: ( ... هكذا يبقى أن نعرف بطبية الحال، ما إذا كان كل من <الجامعين> قد حفظ نصوص الوحي أو أجزاء كبيرة منه في ذهنه، كما سوف نرى لاحقا، فإن حفظ النصوص المقدسة غيبا كان في كل الأزمنة؛ الأمر الأساسي، في حين أن التناقل المكتوب لنصوص الوحي كان ينظر إليه دائما بكونه واسطة لبلوغ الغاية).انتهى النص

وقد اخترتُ هذا النص خاصة لوصف موراني لدراسات نولدكه بأنها معتمدة كما سبق في كلامه في موضوعنا هذا، وإشادته بصنائع نولدكه في أكثر من مناسبة.. وقد اعترف نولدكه المعظم لدى موراني أو حتى شفالي بما سبق وقررناه..
فهل سيعترف به موراني أيضًا؟ أم سيرمي نولدكه وشفالي بالهراء؟
ندع له حرية الاختيار على عادتنا في ترك الاختيار له..




وإلى لقاء جديدٍ قادمٍ بإذن الله تعالى..

المستشار سالم عبد الهادي
08-09-2005, 12:21 AM
كتابٌ إلهيٌّ واحدٌ
نزل مفرَّقًا
ثم جَمَعَهُ الله عز وجل
كما كان مجموعًا مِن قبلُ في اللوحِ المحفوظِ

نعود إلى الكلام عن قضية إلهية الترتيب القرآني الكريم، فنقول:
ترتيب القرآن جزءٌ من المعجزة القرآنية الكبرى بأسرارها وأبعادها العظيمة، ولذلك فهو يحتوي على أسرارٍ ومناسبات، عُنِيَ بها علماء المسلمين في كلامهم على ((أسرار ترتيب القرآن)) أو ((مناسباب السور والآيات)) والمصنفات في الباب كثيرة بحمد الله تعالى.
ولو كان مما يُقدر عليه، أو يستطيعه بشرٌ لجاء ترتيبه على الموضوعات، أو على الترتيب الزمني حسبما نزل، أو حتى على أوائل الحروف للسور أو للآيات، إلى آخر هذه الأنواع المقدور عليها من الترتيبات والفهرسات المختلفة.
لكنه نزل على أزمنةٍ، وفي مُدَدٍ مختلفة، ثم هو يأتي مرتَّبًا على صيغةٍ أخرى، لم تلتزم بالزمن، وكان المتوقع هنا أن يوجد ثمة تنافر بين آياته وسوره؛ لمخالفتها للوحدة الزمنية أو الموضوعية على الأقل..
لكن شيئًا من هذا لم يكن بحمد الله..
بل جاءت سوره وآياته متناسقة مترابطة، في سياقٍ بديعٍ جدًا، عُنِيَ به علماء الإسلام في كلامهم على أسرار الترتيب القرآني العظيم.
وهذه مِنْ أَلْطَف قضايا إعجاز القرآن الكريم، التي ترغم مخالفه على النزول على حُكْمِه، والوقوف عند أمره ونهيه، كما تدل العقول السليمة والفِطَر الصحيحة على إسلام النفس لله ربِّ العالمين.
إِذْ كان مِن الْمُتَوَقَّع في ترتيب القرآن الكريم أن يكون على أزمِنَةِ النزول، أو يكون على الموضوعات، أو ربما كان على أطراف الآيات حسب الحروف، أو غيره مِنْ أنواع وأجناس الترتيبات الذهنية التي اخترعها ووقف عليها البشر عبر أجيال الإنسانية المتتابعة..
هذا ما تفرضه حدود معارف البشر، وعقولهم الضعيفة..
لكن نلمح أن شيئًا مِنْ هذا لم يكن..
فلا هو مرتَّبٌ على الحروف الأبجدية لآياته..
ولا هو بالذي تم ترتيبه على موضوعاته، بحيث تكون آيات الطلاق في سورة، وآيات العقيدة في سورة.. وهكذا.
كما أنه لم يُرَتَّب وَفْق تاريخ نزول آياته، وترتيبها الزَّمَنِي..
ومع هذا نجد التحدِّي قائمًا لكل البشر في قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيرًا} [النساء: 82].
فليس مرتَّبًا على الترتيب المقدور عليه للبشر، ولو في بعض العصور، ثم هو يتحدَّى أن يوجد فيه اختلافٌ أو تنافرٌ بين أجزائه..
نرجع إلى كتاب الله عز وجل، فلا نجد اختلافًا واحدًا، ولا تنافرًا بين حرفين أبدًا، في الوقت الذي نقف على ما لا حصر له من المصنفات والأبحاث التي تتكلم عن ((تناسق الآيات والسور)) أو ((أسرار الترتيب))، سواء كانت مفردةً في هذا الجانب خاصة، أو اشتملت على علوم القرآن عامة، بما في ذلك الكلام عن هذا الجانب العظيم من المعجزة القرآنية..
نعود فنكرر القراءة فنزداد عجبًا فوق عجب، ولا يكاد ينقضي منا العجب دهشةً وذهولاً أمام هذا الإعجاز القرآني السامي..
ثم يلفت انتباهنا ثبات القرآن من عصر النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الساعة، بلا زيادة ولا نقصان، بل وبدون أي تغيير في حرفٍ واحدٍ..
ثم هو يلاءم عصرنا كما كان يلاءم عصر النبوة وصدر الإسلام، تمامًا كما كان ملائمًا لكافة العصور، وسيظل حتى يَرِثَ الله الأرض ومَنْ عليها..
الحرف هو الحرف، والآية هي الآية، والسورة هي السورة منذ أن تركها النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الساعة، يقرأها الأعرابي فيتأثر بها، ويُذْعِن لإعجازها، ثم يقرأها ابن عصر الاتصالات والحاسبات فيتأثر بها، ويرى فيها غاية الإعجاز، وضالته المنشودة للهداية والسَّكِينة، واطمئنان النفس، ثم يرى فيها الحائرون أجوبتهم الشافية لكل ما يدور في خلجات أنفسهم..
فهو صالحٌ لكافة الأزمنة والأمكنة والأشخاص، رغم اختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص فيما بينها، وثبات آياته وسوره وكلماته بل وحروفه عن التغيير أو الزيادة والنقصان..
ثابتٌ يلائم ملايين المتحركات عبر التاريخ.
إنه كلام الله الذي لا يوازيه كلام، وكتاب الله الذي لا يُدانيه كتاب..

وهذا يعني باختصار: أَنَّ الترتيب القرآني جزءٌ أصيلٌ من المعجزة القرآنية العظيمة.
فهو كلام الله عز وجل بحروفه وكلماته، كما أنه كلامه سبحانه وتعالى بنظمه، عبارةً وترتيبًا وسياقًا..
ولذا يقول الإمام ابن تيمية رحمة الله عليه: ((من الإيمان بالله وكتبه: الإيمان بأن القرآن كلام الله، منزلٌ غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وأن الله تعالى تكلَّم به حقيقةً، وأنَّ هذا القرآن الذي أنزله على محمد :salla1: هو كلام الله حقيقة، لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله، أو عبارة عنه، بل إذا قَرَأَهُ الناسُ أو كتبوه بذلك في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقةً، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مُبْتَدِئًا، لا إلى من قاله مُبَلِّغًا مُؤَدِّيًا.
وهو كلام الله؛ حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف)) "مجموع الفتاوى" (3/401ـ402)..
ويقول الإمام ابن تيمية رحمه الله في موضعٍ آخر أيضًا:
"والقرآن كلام الله بحروفه ونظمه ومعانيه، كل ذلك يدخل في القرآن وفي كلام الله، وإعراب الحروف هو من تمام الحروف)) "مجموع الفتاوى" (3/144).

فالنظم القرآني ترتيبًا وسياقًا وعبارةً مقصودٌ لله عز وجل، وهو جزءٌ من كلامه سبحانه وتعالى، وهو المعجزة الخالدة التي أيَّد الله عز وجل بها نبيَّ الإسلام صلى الله عليه وسلم.
ولو أراد الله عز وجل أن يُرَتِّبه وينظمه على نسقٍ آخر لما أعْجَزَهُ هذا..
نعم؛ لو أراد سبحانه وتعالى أن ينظمَه على الترتيب الزمني ما أعجزَهُ هذا..
لكنه سبحانه وتعالى قد نظمه ورتَّبَه على لونٍ آخر لم يقدر عليه أهل الفصاحة والبلاغة في قريش، ولن يقدر عليه غيرهم على مدار العصور..
لأنه وباختصار: لو كان الترتيب القرآني مقدورًا عليه ولو في بعض العصور دون بعضٍ لخرج عن كونه معجزةً خالدةً، ولانتقضت المعجزة..
ولذا كررنا غير مرةٍ: إن الترتيب القرآني الكريم جزء أصيلٌ من المعجزة القرآنية الخالدة..

ويلزم من هذا بعبارة مختصرة: ضرورة أن يكون الترتيب إلهيًا؛ لأنَّ الله عز وجل هو وحده العالم بكل العصور، وبما يُستجد من الأزمنة والأحوال، وما يطرأ على البشر من التطورات، فهو وحده العالم بما يخترعه البشر ويصلون إليه، وهو وحده القادر على وضع ترتيبٍ معجزٍ خالدٍ لا تصل إليه عقول البشر في يومٍ من الأيام، ولا في عصرٍ من العصور..
ويؤكد إلهية الترتيب القرآني الكريم، أنَّه كان مجموعًا في اللوح المحفوظ في كتابٍ واحدٍ، كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [77] فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78].
وقوله سبحانه وتعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ [21] فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22].
فهو قرآنٌ مجيدٌ، في كتابٍ مكنونٍ، محفوظٌ في لوحٍ محفوظٍ.
((والكتاب هنا كتاب في السماء؛ قاله ابن عباس)) [تفسير القرطبي 17/193]، وقيل: هو المصحف الذي بأيدي المسلمين، والأول أصح.
ولاشك أنَّ وصفَ القرآن بكونه في كتابٍ يستلزم أنه كان مجموعًا في السماء في كتابٍ.
وقد وردَ وصفه بالكتاب في أكثرِ من مناسبةٍ، ومن ذلك تسمية الفاتحة بـ ((أم الكتاب)).
يقول ابن عاشور في تفسيره ((التحرير والتنوير)) (3686): ((وَلَمَّا سَمَّي اللهُ القرآنَ كتابًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأْمُر كُتَّابَ الوحي مِن أصحابه أَنْ يكتبوا كلَّ آيةٍ تنزل مِن الوحي في الموضعِ الْمُعَيَّنِ لها بين أخواتها، استنادًا إلى أمرٍ مِن الله؛ لأنَّ الله أشارَ إلى الأمرِ بكتابتِه في مواضع كثيرةٍ مِن أَوَّلِهَا: قوله: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ [21] فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22]، وقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [77] فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78]))أهـ
يعني أنه سبحانه وتعالى يشير إلى نبيِّه صلى الله عليه وسلم بأن القرآن كان مكتوبًا في السماءِ في كتابٍ، فاكتبه أنتَ أيضًا في الأرضِ في كتابٍ.
فهو في كتابٍ مجموعٍ في السماء، ثم شاء الله عز وجل أن ينزله مفرَّقًا رأفةً ورحمةً بهذه الأمة حسب الوقائع والأحداث..
وفي هذا الصدد نذكر حديث الإمام البخاري رحمة الله عليه (4993) من رواية يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ: ((إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ: أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ؟ قَالَتْ: وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ، قَالَ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ، قَالَتْ: لِمَ؟ قَالَ: لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ، قَالَتْ: وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ، إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا: لا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ لا تَزْنُوا لَقَالُوا: لا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا، لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46]، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ)).

وكما تكفَّل سبحانه وتعالى بحفظه، فقد تكفَّل أيضًا بجمعه.

روى البخاري (5)، ومسلم (448)، وغيرهما عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَالِجُ مِنْ التَّنْزِيلِ شِدَّةً، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَنَا أُحَرِّكُهُمَا لَكُمْ كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَرِّكُهُمَا، وَقَالَ سَعِيدٌ ـ وهو ابن جبير، راوي الحديث عن ابن عباس ـ: أَنَا أُحَرِّكُهُمَا كَمَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يُحَرِّكُهُمَا، فَحَرَّكَ شَفَتَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 17] قَالَ: جَمْعُهُ لَكَ فِي صَدْرِكَ، وَتَقْرَأَهُ، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18]، قَالَ: فَاسْتَمِعْ لَهُ وَأَنْصِتْ، {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا أَنْ تَقْرَأَهُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ اسْتَمَعَ فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَرَأَهُ)).
وفي رواية البخاري (7524)، ورواية لمسلمٍ (448)، والنسائي (935): ((فَإِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا أَقْرَأَهُ)).
وفي رواية أخرى مسلمٍ (448) من نفس الحديث: ((فَكَانَ إِذَا أَتَاهُ جِبْرِيلُ أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وَعَدَهُ اللَّهُ)).
وفي رواية الإمام أحمد (3181): ((فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ إِذَا انْطَلَقَ جِبْرِيلُ قَرَأَهُ كَمَا أَقْرَأَهُ)).
ولفظ الإمام أحمد في روايته (1913): قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ((كَانَ إِذَا نَزَلَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنٌ يُرِيدُ أَنْ يَحْفَظَهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 18])).
ونحوه عند الترمذي (3329) في روايته لهذا الحديث.

يعني قرأهُ النبي صلى الله عليه وسلم كما أَقْرَأَهُ جبريل تمامًا، لم يذهب منه حرفٌ ولا حركة ولا همزة ولا يزيد فيه شيئًا أو ينقص منه شيئًا، قليلاً أو كثيرًا..

وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16] يشمل جمعه في الصدر كما ذكر ابنُ عم النبي صلى الله عليه وسلم: عبد الله بن عباس، كما يشمل أيضًا بعموم لفظه جمعه للنبي صلى الله عليه وسلم مرتَّبًا، مكتوبًا في الصحف ونحوها، ومحفوظًا في الصدور.
وقد ألمحَ الإمام البخاري رحمة الله عليه إلى ذلك في ((كتاب التفسير)) من ((صحيحه)) (8/301 - فتح الباري) في باب ((سُورَةُ النُّورِ)) فقال: ((وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 16] تَأْلِيفَ بَعْضِهِ إِلَى بَعْضٍ {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17] فَإِذَا جَمَعْنَاهُ وَأَلَّفْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ؛ أَيْ: مَا جُمِعَ فِيهِ فَاعْمَلْ بِمَا أَمَرَكَ وَانْتَهِ عَمَّا نَهَاكَ اللَّهُ، وَيُقَالُ: لَيْسَ لِشِعْرِهِ قُرْآنٌ؛ أَيْ: تَأْلِيفٌ))أهـ
وقد وردَ نحو هذا عن قتادة وغيره من المفسِّرين، ذكروا أنَّ جَمْعَهُ: تأليفه، يعني: تأليف بعضه إلى بعضٍ، أي جمعه وترتيبه.
وقد روى عبد الرزاق والطبري ذلك عن قتادة، كما ذكره ابن جرير الطبري والسيوطي وغيرهما عند تفسير الآية من تفسيراتهم، عن قتادة أيضًا.
ولذا قُرِيءَ ((القرآن)) مثلاً في قوله تعالى في سورة البقرة: ((شهرُ رمضانَ الذي أنزل فيه القرآن)) بالهمز في أكثر القراءات وقيل بغير همزٍ.
قال ابن زنجلة: ((قَرَأَ ابنُ كثيرٍ (القران) بغير هَمْزٍ، وحُجَّتُه ما رُوِيَ عن الشافعي عن إسماعيل، قال الشافعي: قرأتُ على إسماعيل فكان يقول: (القران) اسم وليس مهموزًا، وَلَمْ يُؤْخَذ مِن قرأتُ، ولو أُخِذَ مِن قرأتُ لكان كل ما قُرِيءَ قُرْآنًا، ولكنه اسمٌ مثل التوراة،
وقَرَأَ الباقونَ (القرآن) بالهمز؛ مصدر قرأتُ الشيء؛ أَيْ أَلَّفْتُه وَجَمَعْتُه؛ قرآنًا، قالوا: فسُمِّيَ بالمصدرِ، وحُجَّتُهم قوله: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ}؛ أي: جمعناه {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:16- 17]؛ أي: تأليفه)) ((حجة القراءات: 126))

المستشار سالم عبد الهادي
08-09-2005, 12:45 AM
القرآن كلام الله عز وجل

وإِذْ قد وصلنا إلى ما وصلنا إليه آنفًا فلنُذَكِّر القراء الكرام بأن القرآن كلام الله عز وجل بنظمه وكلماته وحروفه وترتيبه، ولا مدخل فيه لبشرٍ مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ، بل هو كلام الله عز وجل، كيف كان، مسموعًا، ومحفوظًا، ومكتوبًا.

وقد ثبتَ ذلك بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما القرآن الكريم:
فمنه: قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6].
وقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}[الأعراف:143].

وأما السنة النبوية:
فمنها: حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ أنَّ رسول الله :salla1: كانَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ بِالْمَوْقِفِ؛ ويقول: ((أَلَا رَجُلٌ يَحْمِلْنِي إِلَى قَوْمِهِ؛ فَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ مَنَعُونِي أَنْ أُبَلِّغَ كَلَامَ رَبِّي)).
رواه ابنُ أبي شيبة (14/310)، وأحمد (3/390)، وعثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص/74)، والبخاري في "خلق أفعال العباد" (ص/40)، وأبوداود (4734)، والنسائي في "الكبرى" (7727)، والترمذي (2925)، وابن ماجة (201)، والحاكم (2/612ـ613)، وغيرهم بإسنادٍ صحيحٍ.

وأما الإجماع:
فقد حكاه غيرُ واحدٍ من السلف الصالح رضي الله عنهم، ومن ذلك:
قال الإمام عمرو بن دينار رحمه الله: ((أَدْرَكْتُ الناسَ - وكان قد أدركَ أصحاب رسول الله :salla1: ، فمن دونهم - منذ سبعين سنة - كلَّهم يقولون: اللهُ جلَّ اسْمُهُ الخالقُ، وما سواهُ مخلوقٌ؛ إلا القرآن فإِنَّه كلام الله تعالى)).
رواه البخاري في "خَلْق أفعال العباد" (ص/29)، وابن بطة في "الإبانة" (2/6 - 8 رقم183 - 184)، وغيرهما.
وساق ابنُ الجوزي رحمه الله بإسناده عن أبي عبد الله بن مَنْدَةَ قال: ((إنَّ الصحابة والتابعين وأئمة الأمصار، قرنًا بعد قرنٍ، إلى عصرنا هذا: أجمعوا على أنَّ القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال غير ذلك كَفَرَ)) "فنون الأفنان في عجائب علوم القرآن" لابن الجوزي (ص/53).
وقال الإمام محمد بن الحسين الآجُرِّيُّ رحمه الله:
((اعلموا رحمنا الله وإياكم: أنَّ قول المسلمين الذين لم تَزِغْ قلوبهم عن الحقِّ، ووفِّقوا للرَّشادِ قديمًا وحديثًا: إِنًَّ القرآن كلام الله عز وجل ليس بمخلوقٍ؛ لأنَّ القرآن مِن عِلْم الله تعالى، وعِلْمُ الله عز وجل لا يكون مخلوقًا، تعالى الله عز وجل عن ذلك.
دلَّ على ذلك القرآن والسنة وقول الصحابة رضي الله عنهم وقول أئمة المسلمين رحمة الله تعالى عليهم، لا يُنكر هذا إلا جهميٌّ خبيثٌ، والجهميةُ عند العلماء كافرةٌ)) ((الشريعة)) للآجُرِّي (ص/75).
وقال الإمام ابن بطة العُكْبري رحمه الله:
((ثم بعد ذلك أَنْ يعلم بغير شكٍّ ولا مِرْيةٍ ولا وقوفٍ أَنَّ القرآن كلام الله، ووحيه، وتنزيله، فيه معاني توحيده، ومعرفة آياته، وصفاته، وأسمائه، وهو عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ، غير مخلوقٍ، وكيف قُرِئَ، وكيف كُتِبَ، وحيثُ تُلِيَ، وفي أَيِّ موضعٍ كان، في السماء وُجِدَ أو في الأرضِ، حُفِظَ في اللوح المحفوظ وفي المصاحف وفي ألواح الصبيان مرسومًا، أو في حَجَرٍ منقوشًا، وعلى كلِّ الحالات، وفي كلِّ الجهات؛ فهو كلام الله غير مخلوق.
ومَن قال: مخلوق، أو قال: كلام الله وَوَقَفَ، أو شكَّ، أو قال بلسانه وأضْمَرَهُ في نفسه: فهو بالله كافرٌ، حلال الدم، بريء مِن الله، والله منه بريءٌ، ومَن شكَّ في كفره، ووَقَفَ عن تكفيره: فهو كافرٌ؛ لقول الله عز وجل: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ [21] فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} [البروج:21 ـ 22].
وقال تعالى: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6].
وقوله تعالى: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} [الطلاق:5].
فمَنْ زَعَمَ أَنَّ حرفًا واحدًا منه مخلوق؛ فقد كَفَرَ لا محالة؛ فالآي في ذلك مِن القرآن، والحجة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم أكثر مِن أَنْ تُحْصى، وأَظْهَر مِن أَنْ تخْفى)) "كتاب: الشرح والإبانة على أصول السنة والديانة" لابن بطة (ص/184 ـ 185، ط: المكتبة الفيصلية بمكة).

وقد وردت الآثارُ بذلك عن الخلفاء الأربعة الراشدين وغيرهم من الصحابة والتابعين وأتباعهم رضي الله عنهم جميعًا.
أقتبس من ذلك ما رواه أحمد في "الزهد" (ص/35)، وابنه عبد الله في "السنة"" (1/144-145 رقم117-118)، وعثمان بن سعيد في "الرد على الجهمية" (ص/78)، وغيرهم: عن عمر بن الخطاب :radia: أَنَّهُ قال: ((القرآن كلام الله تعالى فَضَعُوهُ في مواضعه)).
وما قاله أبو مُصعبٍ الزُّهري: ((سمعتُ مالك بن أنس يقول: القرآن كلام الله)).
ذكرَهُ ابن بطة في "الإبانة" (2/47 - 48 رقم241 - الرد على الجهمية).
وأختمُ ذلك بما قاله فضيلة الشيخ حسن مأمون مفتي مصر سابقًا رحمه الله تعالى:
((القرآن كلام رب العالمين، نزل به الروح الأمين، على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ لهداية الناس، وبيان الأحكام التي تعبَّدَ الله الناس بها، وكلَّفَهم باتِّباعها، والقرآن وحيٌ متلوٌّ، سَمِعَهُ الرسول من الوحي، وحَفِظَهُ بألفاظه وعباراته، ووعاه، وأبلَغَهُ كما سمعه إلى أصحابه، ودعاهم إلى حِفْظِه، وتَفَهُّم معانيه، والعمل به، فحفظوه، وفهموا معانيه، وعملوا بأحكامه، ونُقِلَ إلينا بطريق التواتر، وثبت على وجه القطع، ورَوَوْهُ عن الله عز وجل ، وصَدَقَ ما وَعَدَ الله به رسولَهُ: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]))أهـ
((الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية)) نشر وزارة الأوقاف بمصر (5/1606 رقم707).

المستشار سالم عبد الهادي
08-09-2005, 05:53 PM
توضيح حول المنهج

نشير هنا في لمحةٍ خاطفةٍ إلى ما ذكره د.موراني في غير موضعٍ حيثُ زعم في أكثر من مناسبة أننا ننطلق في موضوعنا هذا مِن الوحي، ولذا فهو يتحاشى الحوار، وقد أشرتُ إلى خطئه في ذلك في موضعٍ آخر، لكن لا بأس من إعادة الأمر بأكثر مما مضى، في العناصر الآتية:
أولاً: أننا لا ننطلق هنا مِن جهةِ إيماننا بكون القرآن وحيًا، ولا مِنْ جهةِ الإسلام الذي ندين الله عز وجل به؛ لأننا لا نخاطب هنا المؤمنين بالقرآن فقط، ولا نوجِّه حديثنا للمسلمين وفقط..
بل كان الحديث ولا زال موجَّهًا للجميع، مسلمهم وغير مسلمهم، لعل الله ينفع به أقوامًا ويضر به آخرين..
ومع هذا رأينا العلمَ قد دلَّنا على صِدْقِ الوحي ففرحنا بهذا، ولاشك أنَّه مِنْ حقِّنا أن نفرحَ حين نرى العلم يُصَدِّقُ الوحي ولا ينافيه..

ثانيًا: وهذا يستلزم أن يتحلَّى الموضوع بالشموليَّةِ، سواءٌ في موضوعاته وأطروحاته، أو في منطلقاته ومُقدِّماتِه..
ولذا تراني أنطلق مِنْ أسسٍ علميَّةٍ بحتةٍ، وأبني على أسسٍ علميَّةٍ مجرَّدةٍ لا صلة لها بالوحي، وأنتظر النتائج، فأراها تأخذني إلى ما يقرره الوحي..
ومع هذا رأينا العلمَ قد دلَّنا على صِدْقِ الوحي ففرحنا بهذا، ولاشك أنَّه مِنْ حقِّنا أن نفرحَ حين نرى العلم يُصَدِّقُ الوحي ولا ينافيه..

لو أَنَّا انطلقنا مِنْ الوحي أو قَدَّمْناه ـ وهو جديرٌ بهذا ـ لقلنا: تعهَّد الله عز وجل بحفظ كتابه، فما يقال بعد ذلك فهو هراء، وسكتنا وكفينا أنفسنا عناء البحث!!

لكنَّا ذهبنا إلى التاريخ والعلم نستجدي مِنهما المعلومات التي عندهما، ونحلِّل ما يذكراه لنا من وقائع وأحداث.. ماذا لديك أيها العلم؟ وماذا رأيتَ أيها التاريخ؟
فدلاَّنا على نتائج حتميةٍ ولوازم ضرويةٍ، مبنيَّة على مُقَدِّماتٍ سليمةٍ وصحيحةٍ بحمد الله تعالى، فأَشْهَدْنا التاريخ والعِلْمَ على ذلك..
ثم قارنَّا بين هذه النتائج التي توصَّل إليها التاريخ والعِلْم فوجدناها مصداقًا لوعد الله عز وجل بحفظ كتابه، فاعترفنا آنذاك ـ ولابد ـ بأن الله عز وجل قد حَفِظَ كتابه وصانه عن كل تحريفٍ وتبديلٍ..

وهكذا سارتْ معنا الأمور، وهذه هي المنهجيَّة التي لم يفهمها د.موراني حتى الساعة فيما يظهر مِنْ كلامه ومشاركاته التي يعرض فيها لهذا الأمر؛ لأنه لا يفهم سوى تقديم النتائج ثم تطَلُّب الأدلة لها، ولو رغمًا عن الأدلة والعلم نفسه كما سيأتي!!

ثالثًا: شتان بين قولي: ((وبناءً عليه)) وبين قول موراني وجون جلكرايست ومن قبلهم جولدزيهر ونولدكه وشفالي وغيرهم: ((ومن هنا يتضح))..
فالبناء لا يكون على غير أساسٍ..
بخلاف الوعد بوضوح ما سبق تقريره..
وبيان ذلك: أن عقلاء البشر جميعًا قد اتفقوا على تقديم المقدمات قبل النتائج، ثم البناء عليها، والعمل بما تنتجه، ولذا قدَّمْتُ أسبابي وأدلَّتي ثم انتظرتُ نتائجي وخواتيمي..
بخلافِ المنهج المعكوس المتَّبع لدى موراني ونظرائه القائم على وضع الفِكْرة أولاً ثم تتبُّع ما هنا وهناك لإثباتها ثانيةً..
فالخطوة الأولى عندي: مقدمة، والثانية: نتيجة..
والعكس تمامًا هو الحاصل لدى موراني ونظرائه وأسلافه من المستشرقين..
وأقرب مثال لذلك ما نحن فيه الآن، بسبب كلمة موراني السابقة في صدر موضوعنا هذا، حيث قَرَّر أنه ربما أَدَّتِ الدراسة المقارنة لمخطوطات المصحف فيما زعم إلى وجود فوارق مِنْ زيادةٍ ونقصان واختلاف ترتيب فيما زعم، ولكنه في الوقت الذي قَرَّر فيه هذه النتيجة الكبيرة كان لا يزال يطالب بعمل هذه الدراسة المقارنة!!
فهل مِنْ العِلْم ومن المنهجيَّة العلميَّة أن نضع النتيجة ثم نطلب أدلتها بعدُ؟!!
فالدراسة المقارنة التي سيجريها موراني إذن ليست من أجل العلم ولا الدراسة، ولكنها مِنْ أجل هذه النتيجة المسبقة التي قَرَّرها هو سلفًا، وعلى الدراسة أن تثبتَها له، ولو رغم أنفها..

بخلاف منهجيّتنا القائمة على وضع الأسباب والمعطيات في موضعها اللائق بها أولاً، ثم الدخول عليها بالتحليل وتقليب وجوه النظر، لنرى ما تسفر لنا عنه من نتائج، وحينها نقول: وبناءً عليه ظهر لنا كذا وكذا..
وهذا قَدْرٌ مشتركٌ ومتفقٌ عليه بين عقلاء البشر جميعًا..

وآمل أن يُدرك موراني أبعاد هذه المنهجيَّة التي نسير عليها..

رابعًا: أننا لم نخرج عن الموضوع قَيْد أُنملة بحمد الله تعالى، حسب المنهج الذي رسمناه له في بدء كلامنا عنه، ولذا نورد مِنْ أقوال المستشرقين وأفكارهم شيئًا يسيرًا جدًا على سبيل الإشارة فقط، لا على سبيل بيان مذاهبهم ولكن على سبيل بيان موافقة موراني لهم وانطلاقه من قواعدهم بحذافيرها..
وفي الوقت نفسه بَرَّأْنَا موراني أَنْ نَنْسِبَ إليه شيئًا لم يقله هو، فنسبنا له ما قاله بنصه، ونسبنا لغيره ما صدر عنهم..
وهذا ما لم يفهمه موراني من كلامنا في هذا الصدد في أوائل هذا الموضوع، حتى كتب هناك ما يفيد أن الموضوع ليس خاصًّا به!! وطالبتُه آنذاك بأن يثبت هذا فلم يستطع!!

وآمل الآن أن يلتفت لهذه المنهجيَّة؛ لأنها مِمَّا لا ينبغي لمثله أن يجهلها أو يغفل عنها..

المستشار سالم عبد الهادي
08-09-2005, 06:13 PM
السماع والكتابة حسب الطريقة الأولى

نرجع إلى قضية نقل القرآن من زاويةٍ أخرى..

سبق وذكرتُ أن الأصل في نقل القرآن والاعتماد فيه على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف، وسبق بيان النصوص الدالة على هذا الأصل، وتأكيده بأخبار وأقوال أئمة العلم رحمهم الله جميعًا.

وهنا نؤكدُ على ((حَرْفِيَّة النَّقْلِ))، أو ((مطابقةِ السَّماع للرواية)).
فالسماع يعني التزام الرواية الواردة شكلاًَ ومضمونًا، بكل تفاصيلها وأركانها وأبعادها..
وليس لكائنٍ مهما كان أن يُغَيِّرَ في السماع والرواية، لا قصدًا ولا توهمًا..
وقد سبقت دلائل ذلك من أقوال وأخبار أئمة العلم رضي الله عنهم، أثناء المداخلة السابقة بعنوان: ((سماعي من البداية إلى النهاية)).

ولعل من المناسب أن نكرر بعضها هنا للتذكير، وندع مراجعة الباقي فيما مضى للقراء الكرام..

فانظر إلى قول أبي بكر بن مجاهد في ((كتاب السبعة في القراءات)) (48): ((ومنها ما توهم فيه من رواه فضيع روايته ونسى سماعه لطول عهده فإذا عرض على أهله عرفوا توهمه وردوه على من حمله، وربما سقطت روايته لذلك بإصراره على لزومه وتركه الانصراف عنه ولعل كثيرا ممن ترك حديثه واتهم في روايته كانت هذه علته.
وإنما ينتقد ذلك أهل العلم بالأخبار والحرام والحلال والأحكام
وليس انتقاد ذلك إلى من لا يعرف الحديث ولا يبصر الرواية والاختلاف)).
فانظر كيف يُتْرَك الراوي للقرآن إذا ((نسي سماعه))؟!

وانظر إلى قول أبي بكر بن مجاهد في ((كتاب السبعة في القراءات)) (46): ((وقد ينسى الحافظ فيضيع السماع وتشتبه عليه الحروف فيقرأ بلحن لا يعرفه وتدعوه الشبهة إلى أن يرويه عن غيره ويبرىء نفسه وعسى أن يكون عند الناس مصدقا فيحمل ذلك عنه وقد نسيه ووهم فيه وجسر على لزومه والإصرار عليه.
أو يكون قد قرأ على من نسى وضيع الإعراب ودخلته الشبهة فتوهم فذلك لا يقلد القراءة ولا يحتج بنقله.
ومنهم من يعرب قراءته ويبصر المعاني ويعرف اللغات ولا علم له بالقراءات واختلاف الناس والآثار فربما دعاه بصره بالإعراب إلى أن يقرأ بحرف جائز في العربية لم يقرأ به أحد من الماضين فيكون بذلك مبتدعًا.
وقد رويت في كراهة ذلك وحظره أحاديث)).
ثم يروي لنا ابنُ مجاهد بإسناده طائفةً من الآثار في ذلك، سبق ذِكْرُها..
لكنَّا نُذَكِّر القراء هنا بما سبق عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ((إن رسول الله يأمركم أن تقرءوا القرآن كما عُلِّمتم)).

وساق ابنُ مجاهد بإسناده إلى الأصمعي قال: قلت لأبي عمرو بن العلاء {وبركنا عليه} في موضع {وتركنا عليه} في موضع أيعرف هذا؟ فقال: ((ما يعرف إلا أن يُسْمع من المشايخ الأولين)).


وأوردَ ابنُ مجاهدٍ عن محمد بن المنكدر قوله: ((قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول)) قال: وسمعت أيضا بعض أشياخنا يقول عن عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز مثل ذلك.
وعن عامر الشعبي قال: ((القراءة سنة فاقرءوا كما قرأ أولوكم)).
وعن صفوان بن عمرو وغيره قالوا: سمعنا أشياخنا يقولون: ((إن قراءة القرآن سنة يأخذها الآخر عن الأول)).
وعن عروة بن الزبير قال: ((إنما قراءة القرآن سنة من السنن فاقرءوه كما عُلِّمتموه)).
وفي لفظٍ عن عروة بن الزبير قال: ((إنما قراءة القرآن سنة من السنن فاقرءوه كما أُقْرئتموه)).
وعن زيد بن ثابت قال: ((قراءة القرآن سنة)).

فليس لأحدٍ أن يُغَيِّرَ في الرواية أو السماع كما ترى؛ لأنها سُنَّة يأخذها الآخر عن الأول، إلى أن تصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، روايةً عن جبريل، عن ربِّ العزة سبحانه وتعالى.

وهذه خصيصةٌ من خصائص القرآن العظيم.

يروي الإمام أبو عمرو المقرئ في كتاب ((المقنع)) [ق/5/أ ـ مخطوطة الأزهرية] من طريق الإمام إسماعيل بن إسحاق بإسناده عن الإمام حماد بن زيدٍ رحمه الله، قال: نا أيوب، عن أبي قِلاَبة، قال: نا مَنْ كان يكتُب معهم، قال حماد: أظنه أنس بن مالكٍ القشيري رضي الله عنه قال: ((كانوا يختلفون في الآية فيقولون: أَقْرَأَهَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلان بن فلانٍ فعسى أن يكون على رأسِ ثلاثة أميال من المدينة، فيُرْسَلُ إليه، فيُجَاء به، فيقال له: كيف أَقْرَأَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقال: أقرأنيها كذا وكذا، فيُكْتَب كما يقول)).
وهذا خبرٌ ثابتٌ، وأبو قِلابة هو عبد الله بن زيد، التابعي الجليل المشهور رحمة الله عليه.
وله طريقٌ آخر قبل هذا عند أبي عمرو، كما نقله القرطبي في ((تفسيره)) (1/85) بنحوه، معزوًّا لإسماعيل بن إسحاق وغيره، ولا نطيل في ذلك كي لا نخرج عن المقصود هنا الآن.

ويمكن لنا أن نعتبر الخبر المذكور لأنس بن مالكٍ القشيري الصحابي المعروف، وليس بأنس بن مالكٍ الأنصاري رضي الله عنهم وعن الأنصار جميعًا.. يمكن لنا أن نعتبر هذا الخبر المذكور تلخيصًا لما سبق ويأتي من الكلام عن طرق تدوين القرآن، والدِّقة والصرامة التي اتبعها الصحابة الكرام رضي الله عنهم في ذلك، بحيث لم يكتبوا شيئًا إلا بعد التأَكُّد مِن كونه منقولاً ومسموعًا مِن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهةً..

في النَّقْل العادي ربما قامت الإجازات أو الوجادات أو المراسلات ونحو ذلك من الوسائل؛ ربما قامت في ظروفٍ معينة، وبضوابط معيَّنة مقام المشافهة الصريحة من حيثُ الثبوت والحجّية، لكنها لا تَرْقَ إلى مرتبة المشافهة الصريحة بلاشكٍ..

لكنَّا نلمح أن الصحابة الكرام رضي الله عنهم قد اشترطوا ضرورة المشافهة المباشرة، والتلقِّي المباشر من النبي صلى الله عليه وسلم، أضف إلى ذلك أن يكون المنسوخ مكتوبًا أيضًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
فليس مسموعًا مشافهة مباشرة فقط..
وليس مكتوبًا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وأمره فقط..
بل لابد من الجمع بين الاثنين، وهذه أعلى ما يمكن أن تسمع عنه الدنيا من درجات الثقة والمصداقية، كما وأنه أعلى ما يمكن الوصول إليه في تثبيت المنقول..

وامتدادًا لهذا المنهج الإسلامي الرصين اشترط العلماء في الراوي والناقل للقرآن الكريم أن يكون يقظًا فطِنًا، يحافظ على الرواية والسماع حرفًا بحرفٍ، فينقلها إلى مَنْ بعده بحركاتها وهيئاتها، لا يزيد فيها ولا ينقص..

وقد مضت الآثارُ الدالةُ على هذا..

بل حتى كتابة المصاحف الآن لابد أن تكون موافقةً لكتابته في العصر الأول، أو ما عُرِفَ واشتهر باسم الرسم العثماني للمصحف، ولكن يُتَجَوَّز عن ذلك للضرورة وتَعَسُّر الإتيان بهذا الرسم، مع الحاجة إلى الاحتجاج بالقرآن في الفتاوى والأحكام، لكن لابد مِن الالتزام بالرسم العثماني متى قدر الكاتب والمفتي ونحوهما على الإتيان بالرسم العثماني.

قال أبو عمرو المقرئ في كتابه ((المقنع)) (مخطوطة المكتبة الأزهرية) [ق/5/ب]: ((وسُئِلَ مالك رحمه الله: هل يكتب المصحف على ما أحدثَه الناسُ مِن الهجاء؟ فقال: لا إلاَّ على الكتبة الأولى)).
ثم ساق أبو عمرو المقرئ بإسناده إلى ابن عبد الحكم قال: ((قال أشهبُ: سُئِلَ مالك فقيل له: أرأيتَ مَنِ استكتب مصحفًا اليوم أترى أن يُكْتَبَ على ما أحدثَ الناس مِن الهجاء اليوم؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتابة الأولى.
قال أبو عمرو: ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة)) انتهى.

وقال البيهقي في كتابه ((شُعَبِ الإيمان)) (2678): ((مَن كَتَبَ مصحفًا فينبغي له أَنْ يحافظَ على الهجاء التي كتبوا بها تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيها، ولا يُغَيِّر مِمَّا كتبوه شيئًا؛ فإِنَّهم كانوا أكثر عِلْمًا، وأَصْدَق قَلْبًا ولسانًا، وأعظم أمانة مِنَّا، فلا ينبغي لنا أَنْ نظنَّ بأنفسِنا استدراكًا عليهم ولا تَسَقُّطًا لهم)).
ثم ساق البيهقيُّ في كتابه هذا (2679) بإسناده إلى زيد بن ثابت قال: ((القراءة سُنَّةٌ)).
قال الإمام الجليل سليمان بن داودٍ الهاشمي (وهو سليمان بن داود بن داود بن علي بن عبد الله، ابن العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم، وأحد رواة إسناد الخبر المذكور عن زيدٍ هنا): ((يعني ألا تخالف الناس برأيك في الاتباع)).
قال البيهقيُّ: ((وبمعناه بلغني عن أبي عبيد في تفسير ذلك قال: ونرى القُرَّاء لم يلتفتوا إلى مذاهب العربية في القراءةِ إذا خالف ذلك خطّ المصحف، وزاد: واتِّباع حروف المصاحف عندهم كالسنن القائمة التي لا يجوز لأحدٍ أَنْ يَتَعَدَّاها)).
وذكر البيهقي في ((السنن الكبرى)) (2/385) خبر زيدٍ المذكور: ((القراءة سُنَّة)) ثم قال البيهقي: ((وإِنَّما أرادَ والله أعلم أَنَّ اتِّباع مَن قَبْلَنا في الحروفِ وفي القراءاتِ سُنَّة مُتَّبَعَةٌ، لا يجوز مخالفة المصحف الذي هو إمام، ولا مخالفة القراءات التي هي مشهورة، وإِنْ كانَ غير ذلك سائغًا في اللغةِ))أهـ

لأنه لا مدخل هنا للرؤية الشخصية، ولا للاجتهاد الشخصي، مهما بلغ الإنسان مِنْ العِلم والاجتهاد، ومهما كانت فصاحته أو بلاغته!!

فالاعتماد هنا على الرواية المباشرة، والسماع من المشايخ، سنة مُتَّبعة، يأخذها الآخر عن الأول، قراءةً، وتجويدًا، وكتابةً، ورسمًا، وترتيبًا..

وبعبارةٍ أخرى: لابد من السماع المباشر، والمشافهة، إلى جانب التَّوَاتُر في نقل القرآن الكريم، ولا فرق في ذلك بين القراءة أو الترتيب أو التجويد أو الرسم.. فالكل توقيفٌ لا يجوزُ خلافه، ولا مخالفته..

وقد أجمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم على الرسم العثماني المتداول بأيدي المسلمين، وهو إجماعٌ سابقٌ ومُتَقَدِّمٌ لا يمكن نسخه، ولا تعديله بهذا الخصوص.

خاصةً وأن للرسم العثماني اختصاصٌ بكثيرٍ من حروف القراءات..

ولذا أثبتَ الصحابة بعض الحروف في موضعٍ وحذفوها في موطنٍ آخر، وذلك لا يخفى على الصحابة جميعًا، ربما لو كان الكاتب واحد لقلنا خفي عليه هذا، لكن كيف وقد شارك في كتابته أكثر من واحدٍ، وتحت سمع وبصر أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وغيره من حُفَّاظ القرآن الكريم، والعالِمين به، ثم أرسلَ عثمان رضي الله عنهم بالمصاحف بعد ذلك إلى الأمصار فلم يعترض أحدٌ على ذلك كله..
فدلَّ هذا على أمرين:
الأول: إجماع الصحابة في سائر الأمصار، ومَنْ وُجِدَ معهم من التابعين الكرام على الرسم الذي بات معروفًا باسم الرسم العثماني..
وهذا كما سبق إجماعٌ سابقٌ مُتَقَدِّمٌ، لا ينقضه ناقضٌ مهما كان.
الثاني: يدل إجماعهم على رسم بعض الحروف في مكان وحذف نفس الحرف في مكانٍ آخر على أنهم فعلوا هذا عن قصدٍ، ولم يفعلوه جهلاً ولا سهوًا..
وقد نقل الزرقاني في ((مناهل العرفان)) وغيره إجماع المذاهب الأربعة أيضًا على وجوب اتِّباع الرسم العثماني وعدم جواز تغييره.

ولذا كان من شروط قبول القراءات أن توافق رسم المصحف العثماني.

أما وقد بان لك هذا، فاعلم أنهم لم يفعلوا هذا عن اجتهادٍ من عندهم؛ لأنه لا يجوز الزيادة ولا النقصان من المصحف في حرفٍ واحدٍ.
قال القاضي عياض رحمه الله:
((وقد أَجْمَعَ المسلمون أَنَّ القرآنَ المتلوَّ في جميعِ أقطارِ الأرض، والمكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، مما جَمَعَهُ الدَّفَّتَانِ مِنْ أَوَّلِ )الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِين( إلى آخر )قل أعوذُ بِرَبِّ النَّاسِ( أنه كلامُ الله، ووَحْيُهُ الْمُنَزَّلُ على نبيه محمد :salla1: ، وأَنَّ جميعَ ما فيه حقٌّ، وأَنَّ مَنْ نَقَصَ منه حرفًا قاصِدًا لذلك، أو بَدَّلَهُ بحرفٍ آخَرَ مكانَهُ، أو زادَ فيه حرفًا مما لم يشتمل عليه المصحف الذي وقع الإجماع عليه، وأُجْمِعَ على أَنَّهُ ليس مِن القرآنِ، عامِدًا لكلِّ هذا أَنّه كافرٌ)) [كتاب ((الشفا)) للقاضي عياض 2/263].

المستشار سالم عبد الهادي
08-09-2005, 06:25 PM
وبناءً عليه
ليست للمصحف نُسَخًا جديدة


نعم أيها القُرَّاء الكرام: ليست لدينا في إسلامنا أية مخطوطات جديدة للمصحف، ولا نعترف بما هو جديدٌ أبدًا، بل هو باطلٌ في باطلٍ، ومردودٌ على مَنْ جاء به.

قف أيها الكاتب؟
أتُنْكِر مخطوطات المصحف؟
أم تُنْكر الجديد منها؟
وماذا تعني بالجديد؟

هذه الأسئلة وغيرها مما قد يدور في أذهان القرآء الكرام بعد صَدْمة العنوان أعلاه: ((ليست للمصحف نسخًا جديدة))، أبادر وأجيب على هذه الأسئلة وغيرها بجوابٍ واضحٍ ومختصرٍ في آنٍ واحدٍ بإذن الله تعالى..

أنا لم أخترع عنوانًا مِنْ عندي، ولا جئتُ بقولٍ مُحْدَثٍ غير مسبوقٍ بأدلَّتِه، وإنما كررتُ نتيجة حتمية لمقدِّمَاتٍ سليمةٍ وصحيحةٍ بحمد الله تعالى.

دعنا نعيد الصورة مختصرةً:
كان الوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيتَعَجَّل صلى الله عليه وسلم تحريك شفتيه بحفظه وترديده، ليحفظه في صَدْرِه، ثم هو يأمر صلى الله عليه وسلم بكتابة الوحي على الفور، فإِنْ لم يكن الكاتب موجودًا أمَرَ باستدعاء كاتب الوحي، وأمره بإحضار أدوات الكتابة معه، ثم أَمْلَى عليه وعلى غيره من الناس ما نزل به الوحي، ليحفظه الناسُ بعد ذلك بطريقتين:
الأولى: السماع والحفظ، والثانية: الكتابة في الألواح وغيرها من أدوات الكتابة المعهودة آنذاك.

وكان صلى الله عليه وسلم يُعَالج شدةً في ذلك، ويجد المشَقَّة في ترديد الوحي وتحريك شفتيه به يكرره ليحفظه، وهذا يشي لنا بأنه صلى الله عليه وسلم كان حريصًا أشدّ الحرص على حِفْظ الوحي، وتبليغه كلّه.

فخَفَّفَ الله عز وجل على نَبِيِّه صلى الله عليه وسلم ذلك، فأمره بأن لا يُحَرِّك به لسانه ليعجل به؛ يعني لا يُحَرِّك لسانه بتكراره ليحفظه في صدْرِه، ولكن عليه أن يستمع إلى الوحي إذا جاءه الوحي، ولا يخش من حِفْظِه وجمعه..
وهنا تَعَهَّدَ له الله سبحانه وتعالى، بأَنْ يجمع له القرآن، وهذا شاملٌ للجمع في الصدْر بالحفظِ، وللجمع في الصُّحُفِ بالكتابةِ..
وذلك تنفيذًا لوعد الله عز وجل السابق بحفظِ القرآن الكريم..

وبناءً على هذا فقد كان جبريل عليه السلام يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كل عامٍ مرةً حتى لا ينساه، ثم عرضَه عرضتين في العام الذي مات فيه النبي صلى الله عليه وسلم..

كما هَيَّأَ الله عز وجل لكتابه كُتَّابًا وحُفَّاظًا، كتبوه في ألواحهم وقلوبهم معًا.

وجعل الله عز وجل السماع والحفظ حاكمًا على الكتابة والمصاحف، لا العكس.
ولو أراد سبحانه وتعالى عكس ذلك لفعل..
فقد كانت الكتابة والألواح هي الْحَكَم لدى بني إسرائيل مثلاً؛ ولذا ألْقَى الله عز وجل الألواح لموسى عليه السلام؛ كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 150].
وقال سبحانه: {وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ} [الأعراف: 154].

فالْحَكَم عند بني إسرائيل إذن هو الكتابة والألواح والصُّحُف، وليس السماع والْحِفْظ..

غير أَنَّ الله عز وجل قد مَيَّزَ المسلمون على غيرهم، واختصَّهم دون سواهم بخصيصة الإسناد والسماع المعتمدة على الحفظ والأخذ المباشر من أفواه المشايخ..

وبناءً على هذا: جاء جبريل عليه السلام بالوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم في مواضع لا حصر لها فألقاهُ إليه سماعًا ومشافهةً لا كتابةً أو صُحُفًا..
ومِنْ هنا وبناءً على ما تقدَّمَ: صار السماعُ عندنا هو الْحَكَم بأمر الله عز وجل وإشارَتِه، لا بُحُكْمِنا وهوانا..

والكلمةُ المسموعة أسرع انتشارًا، وأقوى نفاذًا من المكتوبة.. وانتشارها أَبْقَى لها، وأعظم لحفظها من خفائها..
ولذا كانت مَظِنَّةُ الانتشار جزءٌ من أجزاء الفتوى والنَّظَر لدى المسلمين..
نعم؛ فلا تستوي لدينا في الأحكام تلك الأمور التي تعم بها البلوى، أو توجد الضرورة لانتشارها وعمومها، مع غيرها من الأمور التي من شأنها الخفاء أو اقتصار العِلْم بها على فئةِ الباحثين والدارسين مثلاً..
فلكلٍّ من هذا وذاك حُكْمُه حسب الوقائع والأحداث والملابسات المحيطة..

نعود إلى قضيتنا الأم هنا:
حيثُ صار السماع والحفظ حكَمًا على الكتابة والمصاحف؛ لأن الكتابة والمصاحف فرعٌ على السماع والحفظ، وليست أصلاً، بل هو سابقٌ عليها، فصارتْ له الصَّدَارة والأولويَّة..
ومع هذا فلم تُهْدَر الكتابة، بل كانت ضرورةً وفرعًا موازيًا يعمل تحت إِمْرَةِ السَّماع، في حِفْظِ القرآن الكريم..

لكن ثمة ملاحظةٌ مهمةٌ وشرطٌ أصيلٌ في السماع والكتابة:
وهو أنَّه لابد بالإسناد السماعي أن ينتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولابد..
كما أنه لابد للكتابة أن تنتهي إلى الكتابة بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم..
وعلامةُ هذا وذاك:
تواتُر الروايات بذلك، وموافقة رسم المصحف العثماني..

فشرطُ قبولُ الروايات: أن تكون متواترةً مشهورةً..
وشرطُ قبولُ المكتوبات: أن تكون موافقةً للرسم العثماني، والكتابة الأولى..

ثم شرطٌ في كليهما (الروايات والمكتوبات) أن ينتهيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم..

فلا يصح السماع والإسناد والرواية مهما تواترت وانتشرث ما لم يتحقق فيها شرط الانتهاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، نقلاً عن جبريل عن رب العزة تبارك وتعالى..
كما لا تصح النُّسْخ المكتوبة حتى تنتهي إلى تلك الألواح والأدوات التي كُتِبَتْ في حضرةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وبأمرِه وتحت سمعه وبصره..

فهذه شروطٌ مُرَكَّبةٌ ومتداخلةٌ لا تصح الروايات أو النُّسَخ إلا بها..

ونعيدها محددةً في نقاطٍ كالتالي:
1- أن تكون الرواية متواترةً، ليس فيها انقطاع، ولا وهم، ولا خطأ.
2- أن تكون الرواية متصلة الإسناد إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
3- أن تكون مشافهةً مطابقةً للسماع الأول الذي عَلَّمَهُ النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، حرفًا بحرفٍ، حركةً بحركةٍ، مطابقةً تامَّةً، غير منقوصةٍ ولا قاصرةٍ.
فأما النُّسَخُ فشرطُ قبولها أن تكون مكتوبةً بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره..
4- أو تكون منسوخةً مِمَّا كُتِبَ بحضرةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره، وأن يشهد على كِتَابَتِها ونسخها مِمَّا كُتِبَ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم معروفون أُمَنَاءٌ.
أو تكون مِمَّا نُسِخ مِمَّا كُتِبَ بحضرةِ النبي صلى الله عليه وسلم وأمرِه، وهلم جرّا، بشهادةِ العدول الأمناء الثقات أيضًا..
5- أن لا يكون كاتبها مجهولاً، وراويها مجهولاً.
6- أن توافق الرسم العثماني.
7- أن لا تكون مختفيةً، أو غير مشهورةً ومعروفةً، ثم تظهر في زمنٍ ما لا يُعْلم لها أصلاً، ولا نعرف لها نسبًا؛ لأنَّهُ لا عبرةَ في نقل القرآن بالوجادات وهي النُّسَخ التي قد نعثُرُ عليها في بعض دور المخطوطات لا نعلم عن نسَبِها وأصلها شيئًا، ولم تشتهر.
فلا مانع من الاستفادة بهذه النُّسَخ لأغراضٍ أخرى غير نقل القرآن أو روايته.
وأما نقل القرآن وروايته فلا تقوم الحجة فيه بمثلِ هذه الوجادات أو النُّسَخ التي قد يُعْثَرُ عليها هنا أو هناك، مبتوتة الصِّلَة والنَّسَب..
8- ومع هذا كله فلابد من موافقتها للسماع حرفًا بحرفٍ..
9- أن تجتمع شروط الرواية في الرواية، وشروط النُّسْخة والكتابة في الكتابة، اجتماعًا تامًّا، فإذا فَقَدَتْ شرطًا فلا عبرة بها، وخرجتْ بذلك عن حَدِّ الاحتجاج أو المصداقية..
فلابد من اجتماع الشروط المذكورة للرواية معًا، كما لابد من اجتماع الشروط المذكورة في الكتابة معًا..

ونعيد صياغة ذلك مرةً أخرى فنقول: إنه يستحيل أن تجتمع مثل هذه الشُّروط في روايةٍ إلا في روايات أئمة القراءات وعلوم القرآن من المسلمين..
كما أنه يستحيل اجتماع الشروط السابقة في النُّسَخ المكتوبة إلا فيما ينقله علماء المسلمين فقط بإسنادهم المتواتر المشهور، النَّقِي من الوهم والخطإِ، نقلاً ونسخًا عن النُّسْخةِ الأم التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم بأَمْرِه وحضرتِه، وتحت سمعه وبصره.. وما عندهم من هذا الزَّمان وحتى الساعة فهو منسوخاتٍ أو مُصوَّرَاتٍ طبق الأصل للنُّسْخَة الأم التي كُتِبَتْ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وحضرَتِه..

ومِنْ ثَمَّ قلتُ في عنواني آنفًا: ((وبناءً عليه: ليست للمصحفِ نسخًا جديدةً))..

نعم؛ لأنَّ ما ينقله أئمة القراءات وعلوم القرآن وعلماء المسلمين ما هو إلا صورة طبق الأصل لِمَا كُتِبَ بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره، وليست نسخًا جديدةً..
وما خرجَ عن نقْلِ علماء القراءات وعلماء المسلمين بأسانيدهم الثابتة المتواترة المشهورة فلا عبرة به في نقل القرآن، ولا حجة فيه في دراسة القرآن أو التعرُّف عليه من خلاله، من قريبٍ أو بعيدٍ..
ولا يتجاوز ما خرج عن أسانيد علماء المسلمين وأئمة القراءات أن يكون صحيحًا موافقًا لما ينقله الأئمة بأسانيدهم المشهورة المتواترة فالعبرة على ما عندهم، أو يكون مخالفًا لهم في ذلك فالعبرة على ما عندهم أيضًا ولا عبرة ما خالفهم...

لكنَّا نطلع على هذه النُّسَخ الموجودة في دار الكتب المصرية أو جامع صنعاء أو غيرهما لغرضٍ آخر غير نقل القرآن، إما أن يكون رصد العناية بكتابة القرآن على مدار الأزمنة، أو رصد تطورات الخط العربي، أو غير ذلك من الأغراض..
لكنني أعود وأؤكِّد على أنه لا صلة لهذه النُّسَخِ بنقل القرآن ودراسته مِنْ قريبٍ أو بعيدٍ..

وبهذا نضع القلم الآن..

وإلى لقاءٍ آخر جديدٍ إن شاء الله تعالى......

المستشار سالم عبد الهادي
08-12-2005, 07:32 PM
ظهر لي الآن أن أنتظر قليلاً قبل الدخول في مداخلةٍ جديدةٍ من موضوعنا هذا، وذلك لأمرين:
الأول: ليتسنى للقراء الكرام المتابعة..
والثاني: ليتسنى لي الوقوف على ملاحظات القراء الكرام، وتذكيرهم لي بما قد يكون فاتنا في المرحلة السابقة من الموضوع..
والله من وراء القصد..

وإلى لقاءٍ جديدٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى...

المستشار سالم عبد الهادي
08-22-2005, 02:25 PM
مثالٌ تطبيقيٌّ

وقد رأيتُ أن أضع هنا مثالاً تطبيقيًّا على ما مضى بيانه، تتضح الصورة من خلاله..
واخترتُ المثال من كلام المستشرق موراني نفسه، حيثُ يقول في (ملتقى أهل التفسير)
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=3628&page=1&pp=15

تحت عنوان: ((قراءة : لا اله الا هو اليه المصير)) ما نصه:

((عثرت بين أوراقي المتعددة على جريدة بالعنوان : (مجلة الأبحاث) لجامعة ولاية سارلند الألمانية من عام 1999 فيها تقارير ودراسة قصيرة حول المصاحف التي قام بترتيبها والبحث فيها فرقة من المستشرقين والباحثين المحلّيين بصنعاء بين عامي 1987 و1992 وعام 1996 و1997 . كذلك تمّ ترميم عدد كبير من القطع القرآنية وتصويرها على أفلام . وجدير بالذكر أنّ جميع المصاحف قد كتب على الرق وبمختلف الخطوط , منه بالخط الحجازي المائل ومنه بالخطوط الكوفية على يد نساخ وخطاطين عدة . كثير من هذه المصاحف قد نسخ في النصف الثاني من القرن الأول الهجري .
لقد عثر أحد الباحثين المقيمين في صنعاء في تلك الفترة على قطعة من مصحف فيها , على اللوحة (الرق) التي تهمنا هنا , آخر سورة الزمر وتليه مباشرة بداية سورة غافر بعدم ذكر اسم السورة وبدون غير فاصل ما بين الآيات. وأشار الباحث في تعليقاته على هذه القطعة الى العبارات التالية في آخر الآية 3 :
لا اله الاّ هو اليه المصير

وجاءت هذه العبارات بالخط الحجازي بالرسم التالي :

لا اليه الاّ هو اليه المصير

مشيرا في ذلك الى أن في ( لا اله) زيادة الياء وشكله كما جاء في (اليه المصير) , بالمعني أن كلتا العبارتين ( اله ) و(اليه) قد كتبتا على نفس الشكل , بنفس الرسم, كما يتبين ذلك واضحا على الصورة الضوئية التي أضافه الباحث في هذا الموضع .
هذا , ولا يستبعد هذا الباحث , الذي قضى أربع سنوات في صنعاء , أنّ الرسم في كلتا الحالتين (اليه ــ بالياء) قد يجعل القراءة التالية من باب الاحتمال :

لا اله الا هو اله المصير,

بدلا من:
(اليه المصير)
غير أنه يشير الى آيات أخرى التي تثبت صحة القراءة : (اليه المصير) . فمن هنا يقترح أنّ البحث يجب أن يرجع الى هذه الرسوم القديمة , أي الى المصاحف في صنعاء والى دراسة طبيعتها والقراءات فيها .
هذا ما ذكر الباحث حول القراءة المحتملة للآية 3 في سورة غافر .

فأقول : لا شكّ في أنّ الرسم قد جاء كما ذكرنا ( لا اليه الا هو اليه المصير) , غير أنّ العبارة ( لا اليه الا هو) لا معنى له من قريب أو بعيد , فمن هنا تم التسوية عند هذا الباحث بين (اله ) و(اليه) وقرأهما (اله) في كلتا الحالتين , أي قرأ ( اله المصير) .

غير أنه قد غفل أمرا بالغ الأهمية ولم يطرحه للمناقشة كما لم يضعه في عين الاعتبار.
اذ انه من الملاحظ أنّ بين العبارتين (لا اليه) و(اليه المصير) ليس هناك الا كلمتان قصيرتان فحسب وهما : (الاّّ هو) . أما الناسخ فانه , كما يبدو لي , لم يكتب الآية من حفظه, بل نسخها من نسخة أخرى ....فما حدث في هذا الموضع فهو يحدث عند غيره :
وهو ظاهرة انتقال النظر في القراءة من كلمة الى كلمة أخرى ( أو حتى الى سطر آخر) بقزف عين الناسخ من كلمة , وفي هذه الآية : القزف عند الكتابة من ( اله) الى الكلمة (اليه) المصير فكتب في كلا الموضعين سهوا : (اليه) .

وهذه الظاهرة التي عرفها العلماء القدماء , منهم ابن خلكان , وكانوا يسمونها بـالعبور من سطر الى سطر ـ ( أنظر وفيات الأعيان , ج 4 , ص 183 بتحقيق احسان عباس) , هذه هي الظاهرة التي نواجهها في هذا الموضع أيضا في بداية سورة غافر , فلا داع اذا لاحتمالات أخرى لقراءة (اله المصير) .

للأسف , لم يقدم هذا الباحث رسما للآيات الأخرى فيها (اليه المصير) الواردة ربما في مصاحف أخرى في صنعاء بنفس الخط المائل ومن نفس العصر : مثل المائدة , 18 و الشورى , 15 , التغابن , 3 . ومن هنا بقي احتمال قراءته بغير دليل قاطع . وذلك حتى ولو نبّهنا الى أنّ كتابة الفتحة الطويلة في هذه المصاحف القديمة تتم بالياء , مثل : التورية ( نعم , هكذا) بدلا من التوراة . أما كتابة (اليه ) مرة بالمعنى (اله) ومرة بالمعنى ( اليه) , أي بغير تمييز بينهما في الرسم , فذلك موضوع الشك فيه , فمن هنا لا أراه الا سهوا من الناسخ كما بيّنته .

لقد تم جمع القراءات القرآنية في 8 مجلدات ( الكويت , ذات السلاسل . 1402 الى 1405 هـ) غير أنّ المصاحف في صنعاء تسجل قراءات أخرى غير واردة في هذا المعجم القيم , مثل :
قيل جا الحق ( بدلا من : قل جاء الحق) , وهنا أيضا يتساءل القاريء بغير الطعن في القرآن , بل باحثا في تطور كتابة النص , : ما هو (الدور) للياء في هذا المقام : وهو : قيل , هل هو (قال) , الفتحة الطويلة , أم قيل كما هو ( ما لا يسمى اسمه) , وذلك الى جانب أمثلة أخرى في مصاحف صنعاء .
هذا , وانقطعت الأعمال قي صنعاء منذ مدة حسب علمي ولا أعلم شخصيا ما هو السبب لذلك . ربما يفيدنا الأعضاء المشاركون في هذا الملتقى بما لديهم من الأخبار حول الأنشطة العلمية المتركزة على هذه المصاحف القديمة في دار المخطوطات بصنعاء .
الـدكتور م . مــورانـي
مستشرق . كلية الآداب . جامعة بون . ألمانيا
almustashriq@maktoob.com )).

وذكر موراني نحو هذا أيضًا في موضعٍ آخر من لفظه: http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=405


وسأكتفي بهذا المثال المرير من جهةِ النَّاقل موراني والمنقول عنه؛ لأنه يَشِي لنا بحجم الجهل لدى الغرب حول القرآن الكريم، وتأريخ القرآن، وكيف تم تدوينه، وكيف وصل إلينا.
لابد لنا أن نرصد بعض الجوانب المريرة في المثال المذكور:
- فهو يبحث في اختلافات القراءات في آية، بعيدًا عن مصادر القراءات المعتمدة لدى المسلمين، وهذا وإنْ كان كأن لم يكن من جهة البحث العلمي؛ لأنَّه بحثٌ في غير محلِّه؛ إلا أنَّه يحتمل أمرين لا ثالث لهما: إما جهل هؤلاء الباحثين بالقرآن، والجاهل لا عبرة به ولا بكلامه، وإما حقدهم الدفين وافتراءاهم، ولا عبرة بأثر الحقد في البحث العلمي أيضًا؛ لأنه تعوزه المصداقية والإنصاف وقصد الصدق والتحري في البحث.
وبناءً على ما سبق تأصيله في المداخلات السابقة فإنَّه لا مجال هنا لقبول مثل هذا المثال المذكور هنا؛ لأنه لم تتوفر فيه شروط القبول السابق بيانها في المداخلات السابقة.

ـ ثم هو يبحث في رسومٍ مختلفة، ولا يبحث في الرسم العثماني، وهذا مشكلةٌ أخرى، وقد سبقت الإشارة إلى ضرورة الرسم العثماني؛ لتعلُّقِه بالقراءات القرآنية، ويظهر ذلك من خلال النظر في مثل ((الصراط)) ((المصيطرون))، ونحوهما مما رُسِمَ على أصله ليدل على وجهٍ واحدٍ فيه، وما رُسِمَ على غير أصله ليدل على وجهين في قراءته، نحو إبدال السين صادًا فيما أصله السين، ليدل على قراءةٍ له بالصاد بجوار القراءة بالسين التي هي الأصل، وهذا ملمح لم يفطن له هؤلاء الذين زعموا لأنفسهم حق البحث، ثم جاؤوا ليقولوا لنا ((رسوم))!!
ألا فليعلموا أنه ليس لدينا رسمًا سوى الرسم الذي عُرِفَ بالعثماني، واشتهر به، فهذا هو الرسم المعتمد، وقد بدا لك من الإشارة السابقة تعلُّقه بالقراءات القرآنية الواردة.
ومضى قول مالكٍ فيمن أراد أن يكتب مصحفًا الآن بأن يكتبه ((على الكتبة الأولى))، كما سبقت حكاية أبي عمرو المقرئ الإجماع على هذا الأمر؛ فراجع ما مضى في ذلك مشكورًا.

ـ ثم إِنَّهُ لا مجال هنا للكلام عن قضية تحول النظر التي أثارها موراني، بناءً على تسويته بين القرآن وغيره في طريقة التلقِّي، وقد يخالفه غيره فيرى ذلك ليس تحولا للنظر، وإنما هو خطأ في القراءات القرآنية.. وهكذا ينفتح لهم الطريق على مصراعيه نحو طعنٍ وتشكيكٍ في القرآن والإسلام.. هكذا ظنوا!!
وهذا كله خطأٌ محضٌ، لا قيمة به، ولا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأنَّ النسخة المشار إليها لا نعرف لها إسنادًا منها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، نقلاً عن الوحي، ولم تشتهر بين المسلمين، ولم تنقل بالإسناد الصحيح من عصرها وحتى الساعة، كما وقد عُثِرَ فيها كما ترى على ما يخالف الرسم العثماني..
وبعض هذا كفيلٌ بإسقاطها، فكيف به مجموعًا؟!
فالبحث الآن يُعَدُّ بحثًا في فراغٍ، أو فيما لا طائل تحته؛ لأنَّه بعد أن يقول موراني ما يقول، سيأتي لنا لنقول له: لا قيمة بهذه النسخ عندنا.
والواجب عليه إن كان يكتب لنا أن يكتب بما هو حجة عندنا لا بما ننكره.
وكذا إن كان يكتب عن الإسلام فالواجب عليه حينئذٍ أن يكتب عن الإسلام كما هو الإسلام، لا كما يراه هو أو غيره.
فالرؤية الشخصية شيءٌ، والحقيقة التي ينبغي إيضاحها في البحث العلمي شيءٌ آخر.
ولذا فعليه هو وغيره أن يكتبوا عن الإسلام كما هو الإسلام، بغض النظر عن رؤيتهم الشخصية بعد هذا..

- ثم هو يبحث في نسخةٍ خطيةٍ لم يذكر لنا مدى موافقتها للسماع الذي هو الأصل والحكم لدى المسلمين في نقل القرآن (كما سبق بيانه)؟

وأكتفي بهذه الملاحظات التي لم يفطن لها الناقل والمنقول عنه، وقد سبق التفصيل فيها فلا أكرره ثانية..

ومن هنا أراني أنطلق إلى القراءات القرآنية في نظرةٍ إجماليَّةٍ تمهيديَّة لها الآن فأقول:

القراءات القرآنية ليست شيئًا مباينًا للقرآن، أو منقصلاً عنه، ولكنها جزءٌ من القرآن العظيم، فهي جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة، وبأيها قرأ المسلم أجزأه ذلك.
ثم هي تعود في حقيقتها إلى الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن الكريم، وهذا مجمعٌ عليه على مدار أربعة عشر قرنًا من الزمان، رغم الاختلاف في تحديد ماهية الحروف السبعة الواردة في الحديث، من حيث ظاهر العبارات، لكن الباحث الجيد يستطيع أن يعود بأكثر هذه الأقوال إلى قولٍ واحدٍ متفقٍ في تحديد المراد بالأحرف السبعة.
وقد نطقت الروايات بالحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرفٍ، وهي التيسير على هذه الأمة الضعيفة، ثم بلغها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، وقرأَ بها أصحابُه، وبلَّغوها مَنْ بعدهم.
وقد اتفق أهل العلم على أن الأحرف السبعة والقراءات من بعدها تتعلق باللفظ، زيادةً ورسمًا، ولا تؤدِّي إلى تناقض المعنى أو اختلال النظم القرآني، بل هي جزءٌ من المعجزة القرآنية، فكأنَّه معجزاتٌ في معجزةٍ واحدةٍ، وهذا أبلغ في الإعجازِ لِمَنْ تَدَبَّر!

خلاصة ذلك الآن: أَنَّ القراءات القرآنية جزءٌ من الوحي، وجزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة بأبعادها وإعجازها، فتجري عليها أحكام القرآن، نظمًا وإعجازًا، كما تجري عليها شروط نقل القرآن..

وقد اشترط العلماء في نقل القراءات موافقة الرسم العثماني، وموافقة بعض أوجه اللغة، مع صِحَّةِ السَّنَدِ، وهذا كله يقطع ببطلان المثال التطبيقي المذكور آنفًا في كلام موراني؛ لأنه لم يلتزم أحد هذه الشروط المشار إليها مثلاً، فلا هو موافق للرسم العثماني، ولا هو صحيح السَّنَدِ مثلاً، بل لا يُعْرَف هذا أصلا، ولم يشتهر لدى أحدٍ من الناس، ولم يعرفه أحدٌ منهم، وإنما هو وجادة ونسخة وجِدَتْ في مكتبةٍ أثبت الاختبار الكربوني أو أثبت رسم الخط أنها كُتِبَتْ في زمنٍ ما؟!
كلا؛ فالقرآن لا يثبت بمثل هذا، وليس حفريةً نتطلَّب لها اختبارًا كربونيًا قد يصدق اليوم ويكذب غدًا تبعًا لتطور نظريات العلوم..
وإنما هو كتابٌ ثابتٌ لا يتغير ولا يتبدَّل، رسمًا ونظمًا وقراءات وترتيبًا، فكان المناسب له ثبات النقل الذي لا يتغير عبر الأزمنة، وهو المشافهة والتلقِّي سماعًا، كابرًا عن كابرٍ، ثم الرسم العثماني يقف بجوار السماع جنبًا إلى جنبٍ ليحكم بصحَّةِ المكتوب!
على أنه مما تجدر الإشارة إليه: أنه لا قيمة بما هو خارجٌ معروف متواتر لدى المسلمين الآن، فما يُكْتَشَف اليوم أو غدًا في قِطَعٍ مبتوتة السند والصلة هنا أو هناك فلا عبرة به، كما سبق وأشرتُ إليه مرارًا.

وبهذا التمهيد القصير أكتفي الآن، ولنا عودةٌ إلى الموضوع بأكثر من هذا إن شاء الله في وقتٍ لاحقٍ، بإذن الله تعالى.

فإلى لقاءٍ إن شاء الله تعالى.............

المستشار سالم عبد الهادي
09-01-2005, 10:52 PM
نعود إلى قضيةِ القراءات التي أقحمها د.موراني وغيره في الكلام على التحريف، وخلطوا بين وجوه القراءات الواردة للقرآن الكريم، وبين نفي التحريف عنه.
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2553

أمامي الآن عشرات المراجع والأقوال، وقد كنتُ آمل أن يُتَاح لي الوقت لإفراغ ما في جُعْبَتِي بأكمله حول هذا الأمر الذي شَرَّفَنِي الله عز وجل به سماعًا ومشافهة على جَبَلٍ من جبال الرواية والقراءات في عصرنا، وهو علامة مصر ووادي النيل شيخنا المقرئ المجوِّد الراوية إبراهيم بن علي بن علي بن شحاتة السمنودي، أَعْلَى الله درجَتَه، عن الإمام الضباع، شيخ عموم المقارئ المصرية في زمانه، بإسناده المعروف في إجازاته..
وشيخنا السمنودي أَعْلَى الله درجَتَهُ مِن شيوخِ عصريِّنا الشيخ رزق خليل حبة شيخ عموم المقارئ المصرية سابقًا، رحمة الله عليه..
ولذا كنتُ آمل أن يسمح لي الوقت والحال بالاستفاضة في هذا الأمر، فهو مما يروق للنفس الكلام حوله، حُبًّا في القرآن العظيم، وطربًا وسعادةً به، ولكنِّي سأختزل الحديث عنه الآن جدًا في نقاطٍ آمل أن تفي بالغرض، وتبقى في النَّفس غُصَّةٌ على عدم القدرة على الاستفاضة فيه الآن، ولعلي لو أطال الله العمر، وأَذِنَ سبحانه وتعالى بالعودة إليه أن أزيده شرحًا وبيانًا، ولله الأمر من قَبْلُ ومِنْ بَعْدُ..

وبناءً عليه سأقتصر على العناصر الآتية:


أولاً: جوهر المسألة، وفرقٌ مهمٌّ.

بدايةً لابد من التفريق بين أمرين: الأول: التحريف، والثاني: القراءات.فالتحريف بإيجازٍ نقلٌ عن الأصلِ الواردِ، سواءٌ أكان هذا النَّقْل للمعنى، ويُسمَّى إلحادًا في المعاني، أو تحريفًا للمعاني..إلخ، أو كان نقلاً للألفاظ عن أصلِها، ويدخل في هذا إدراج لفظةٍ، أو قَلْبها، أو بعضها..
وبعبارةٍ أخرى: يمكننا أن نقول: إن التحريف يُطْلَقُ على جميع الصفات والأشكال المخالفة للوارد، لفظًا أو مَعْنًى..
وبهذا يتضح الفرق الجوهري بين التحريف وبين القراءات القرآنية؛ لأنَّ التحريف مُحْدَثٌ، بخلاف القراءات القرآنية، فهي من القرآن، وليست مُحْدَثَةً مباينةً له، ولا منفصلةً عنه، بل هي من القرآن، وتجري عليها أحكامه، وبها وردتِ الأسانيد والروايات..
ويمكننا رصد أمرين من أوجُه الخلاف والتفريق بين القراءات والتحريف، الأول: أَنَّ القراءات ليست مُحْدَثَةً، والتحريف مُحْدَثٌ، والثاني: أَنَّ القراءات من القرآن، وليست مباينةً له، والتحريف ليس قرآنًا، بل هو مباينٌ للقرآن منفصلٌ عنه، شكلاً ومضمونًا؛ لأنه ليس منه، ولا يمت إليه بصلةٍ، ولا وردَتْ به روايةٌ، ولا اتَّصلَ به سندٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم..
فهذا فرقٌ جوهريٌّ بين التحريف الْمُحْدَثِ المبتوتِ الصِّلَةِ بالقرآن، وبين القراءات القرآنية التي تلقَّاها آخِرُ الناسِ عن أَوَّلِهِم، سماعًا ومشافهةً، شأن القرآن الكريم، حتى يتصل إسنادها إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم..
فالفرق هنا قائمٌ، والخلط بين الأمرين خطأٌ جسيمٌ، لا مبرر له علميًّا ولا أخلاقيًّا.



ثانيًا: مُعْجِزَةُ القراءات.

وهذا يجرنا للكلام عن أصل القراءات القرآنية؛ لنرى أنَّها جزءٌ من الوحي الذي تلقَّاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وليستْ منفصلةً عنه، ولا هي بكلامِ بشرٍ، فهي وحي، وليست عملاً أو طريقةً بشريَّةً للقراءة..
والاستدلال على ذلك من جهاتٍ شتى؛ أقتصر منها هنا على طريقتين، الأولى: من جهةِ الأثر الوارد، والثانيةِ: من جهةِ العقل.


فأَمَّا التي من جهةِ العقلِ

وأبدأ بالتي من جهةِ العقل؛ لأَنَّا بُلِينا بأصحابِ عقولٍ لا يقيمون للوحي منزلاً، ولا يعرفون للأثر الوارد قيمةً، وعلينا مخاطبتهم بمفهومهم ومن زاويتهم لنثبت لهم ما يدل عليه الوحي، وأَتَى به الأثر..


(1)
ولابد لنا أن نقرِّرَ أولاً أن القرآن الكريم معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، التي أَيَّدَهُ الله عز وجل بها، باعتراف وإجماع كافة أمم وأجناس الأرض قاطبةً، لم يخالف في هذا أحدٌ من حيثُ العمل، وإن خالف في ذلك بعضهم نظريًّا.
ووجهُ ذلك: أنَّ كفار قريشٍ قد زعموا أنه يُعَلِّم النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشرٌ، فتحدَّاهم الله عز وجل فذكر لهم أن لسان هذا الذي يقصدونه أعجميٌّ، بخلاف القرآن العربي المبين، وتحدَّاهم سبحانه أن يثبتوا دعواهم هذه بالإتيان بمثله، أو ببعضِه، أو بسورةٍ أو بآيةٍ، فعجزوا عن ذلك في كل مرةٍ..
فدلَّ عجزهم على أنَّ القرآن الكريم ليس كتابًا بشريًّا؛ لأنه لو كان القرآن كتاب بشرٍ، أو يقدر عليه البشر؛ لقدَر عليه أرباب الفصاحة والبلاغة، وأصحاب اللغة وأهلها في قريشٍ ومَن حولها من الأعراب، وهؤلاء هم أصحاب التراث الأدبي العريق الذي تفتخر به البشرية الآن، وتتكالب على دراسته، مع اختلاف أغراض الدراسة!
بل هذا التراث الأدبي هو هو الذي رجَّحَهُ شيخ المستشرقين تيودور نولدكه على القرآن الكريم كما سبقت حكايته في موضوعي الآخر: ((جذور البلاء في فِكْر المستشرقين)).
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=2496
وكذا كان طه حسين وغيره مِمَّن لفَّ لفّ المستشرقين يفعل مع القرآن.
فإذا كان أصحاب هذا التراث الْمُعَظَّم لدى المستشرقين ومن دار في فَلَكِهِم قد عَجَزوا عن الإتيان بمثل القرآن أو بعضِه، كما عجزوا عن محاكاته في أيِّ وجهٍ من وجوه ترتيبه أو نظمه وغير ذلك، فإِذا عَجَزَ هؤلاء الأفذاذ في الفصاحة والبلاغة عن هذا كله، فعجْزُ غيرِهم مِمَّن لا يُحْسن لغتهم أَوْلَى وآكَد.
ولا يُتَصَوَّر في عقلٍ أن يُحْسِن ويل أو نولدكه أو موراني أو غيرهم من المستشرقين -أو أذيالهم- شيئًا لم يُحْسِنه أرباب اللغة نفسها!!
وهذا العجز البشري المتتابع يعني أنَّ القرآن الكريم مِمَّا يفوق قدرة البشر على الإتيان بمثله، ولو كان كتابًا بشريًّا، أو مَقْدورًا للبشر على مُحاكَاتِه لاستطاع بعضُهم ولو في زمنٍ دون زمنٍ أن يأتي ولو ببعضِه!!
فلمَّا أطبقوا على العجز عن هذا كلِّه عَلِمْنا أنَّه ليس كتابًا بشريًّا، وتحقَّقْنا مِن صِدْق كونه معجزة إلهية عظيمة وخالدة، أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.

ويتأكَّد كونه ليس كتابًا بشريًّا مِنْ جهةٍ أخرى، وهي أنَّ جميع البشر قد اعترفوا بِعُلُوِّ منزلته، وسُمُوِّ مكانتِه، إِمَّا تصريحًا، وإِمَّا عادةً وسلوكًا وعملاً.
فأَمَّا التصريح فهو خاصٌّ بالمؤمنين به، وهم أهل الإسلام، أو بهؤلاء الذين درسوه وعرفوا منزلتَه ثم أظهروا الحقيقة وأَعْلَنُوها.
وأما العادة والسلوك والعمل: فإِنَّا نرى الكفار قديمًا وحديثًا، وكذا أكثر المستشرقين، نراهم جميعًا وقد أطبقوا على العداء للقرآن الكريم، والطعن فيه بالشُّبَهِ والخيالات، ولا يفعلون هذا إلا لشعورهم الدفين بقيمتِه ومنزلتِه؛ لأنَّهم لو تيقَّنُوا من بشَرِيَّتِه أَوْ مقدرة البشر عليه، أو قامت الدلائل عندهم على خُلُوِّهِ من الإعجاز، أو سقوطه، لو تيقَّنوا من هذا كله حقيقةً ما بارزوه العداء أصلاً؛ لأنَّهُم لا يُبَارَزُونه بالعداء وهم يعتقدون عدم جدواه، أو يَرَوْنَه شيئًا هامشيًّا لا قيمة له ولا أَثَرَ خَلْفَهُ!!
وغالبًا ما يُظْهِرُ اللسان خبايا البواطنِ ودفينها، حتى وإِنِ ادَّعَى الشخص خلافها!!


(2)
ويمكن تقرير ذلك بطريقةٍ أخرى، وهي أنَّ النفس الإنسانية بحاجةٍ إلى معجزةٍ مؤكِّدةٍ لما تتلقَّاهُ عن الأنبياء، حتى يسهل عليها الإيمان والتسليم.
ولابد في المعجزة أن لا ينقضها ناقضٌ بشريٌّ؛ لأنَّها لو انتقضت لانتفى التسليم والإذعان لها.
ومن شواهد ذلك أن يعمد البشر أو بعضهم إلى الإتيان بمثلها فيعجزوا عن ذلك.
وهذا عينه ما جرى بالنسبة للقرآن الكريم، كما سبقت الإشارة إليه من عجزِ البشر عن الإتيان بمثله رغم طول القرون وتوالي الليالي والأيام.

وقد تميَّزَتْ معجزةُ القرآن الكريم بصفاتٍ لا حصر لها، منها كونها معجزات في صورة معجزة واحدة..
ووجهُ ذلك: أَنَّ الله عز وجل قد أنزل القرآن على سبعة أحرفٍ، ثم شاء الله عز وجل أن تتلقَّى الأمة هذه الأحرف عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الأحرف السبعة لم يطرأ على المعجزة القرآنية تنافرٌ أو تضاد، ولا حدَثَ فيها ضعفٌ في بعض الجوانب..
وقد أَكَّدَ سبحانه وتعالى ذلك بالحجة الباهرة حين قال: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82].
وها هي أربعة عشر قرنًا مضت حاملةً التحدِّي لجميع البشر، متناقلة للحج والبراهين على عُلوٍّ في القرآن، وسُمُوٍّ في كتاب الله عز وجل، فلا تضاد ولا اختلاف، وما يظهر فيه التضاد والاختلاف لغير العلماء قد بَيَّـنَه العلماء وشرحوه، وأظهروه وجوه التوافق والمعجزة فيه، مفصَّلاً مطوَّلاً، سواءٌ في كتب ((المتشابه)) أو ((التفسير)) أو غيرها من كتب علوم القرآن ومباحثه..

ويطيب لي هنا أن أذكر كلمة الزرقاني في كتابه ((مناهل العرفان)) (1/105 – 106) حيثُ قال: ((والخلاصة أن تنوع القراءات يقوم مقام تعدد الآيات..
وذلك ضرب من ضروب البلاغة، يبتدىء مِن جمال هذا الإيجاز، وينتهي إلى كمال الإعجاز.
أضف إلى ذلك: ما في تَنَوُّع القراءات مِن البراهين الساطعة والأدلة القاطعة على أنَّ القرآن كلام الله، وعلى صدق مَنْ جاء به، وهو رسول الله، فإِنَّ هذه الاختلافات في القراءة على كثرتها لا تُؤَدِّي إلى تناقضٍ في المقروءِ وتضادٍّ، ولا إلى تهافتٍ وتخاذلٍ؛ بل القرآن كله على تنوُّع قراءاته يُصَدِّقُ بعضُه بعضًا، ويُبَيِّـنُ بعضُه بعضًا، ويشهدُ بعضُه لبعضٍ على نمطٍ واحدٍ في عُلُوِّ الأسلوبِ والتعبير وهَدَفٍ واحدٍ مِنْ سُمُوِّ الهدايةِ والتعليم.
وذلك من غير شكٍّ يفيد تَعَدُّد الإعجازِ بتعدُّدِ القراءات والحروف.
ومعنى هذا أَنَّ القرآنَ يُعْجِز إذا قرىء بهذه القراءة، ويعجز أيضًا إذا قرىء بهذه القراءة الثانية، ويعجز أيضًا إذا قرىء بهذه القراءة الثالثة، وهلم جَرّا.
ومن هنا تتعدَّد المعجزات بتعدُّدِ تلك الوجوه والحروف.
ولا ريب أَنَّ ذلكَ أَدَلّ على صدقِ محمدٍ؛ لأنه أعظم في اشتمالِ القرآن على مناحٍ جَمَّةٍ في الإعجازِ وفي البيانِ على كلِّ حرفٍ ووجهٍ وبكلِّ لهجةٍ ولسانٍ.
{لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الأنفال: 42]))انتهى.


(3)
وهذا وغيره يستلزم أمرين:
الأول: وصول هذه الأحرف السبعة إلى الأمة وعملها بها، وسيأتي ذلك.
الثاني: أَنَّ هذه الأحرف السبعة وحيٌ أنزله الله عز وجل، كما سيأتي مفصلاً في الروايات الشاهدة بذلك.
ثم القراءات المشهورة المتداولة ترجع في أصلها إلى هذه الأحرف السبعة المذكورة، هذا ما لا خلاف فيه بين أحدٍ من علماء المسلمين؛ لكنهم اختلفوا هل المصحف العثماني والقراءات الموجودة مشتملة على الأحرف السبعة؟ أم لا؟ فرأى البعض أن عثمان رضي الله عنه قد ألزم الناس بحرفٍ واحدٍ، فكتبه في المصاحف، وترك بقية الحروف، بينما ذهب أكثر العلماء وجماهير المحققين من أهل العلم إلى أَنَّ الأحرف السبعة كلها قد نُقِلَتْ إلى الأمة عبر المصحف العثماني ووجوه القراءات المشهورة المتداولة بين المسلمين الآن.
وهذا الذي رآه جمهور العلماء والمحققين هو الصواب في المسألة، والقول الآخر المشار إليه في الاقتصار على حرفٍ من السبعة دون ما سواه لا سَنَدَ له من الناحية العلميَّة؛ إِذ لا تزال الدواعي التي كانت في صدر الأمة موجودة في بقيتها عبر العصور المتوالية، سواءٌ من حيثُ الحاجة إلى التيسير والتسهيل على الأمة، أو من حيثُ الحاجة لوجوه القراءات في إقامة المعجزة من جوانبها المختلفة، أو الحاجة إليها في مباحث الاستدلالات والاستشهادات العلمية والاستنتاجيَّة.

ويلزم من ذلك كله ضرورة وصول كافة وجوه الأحرف السبعة إلى الأمة؛ لأنه لو كانت وحيًا ـ وهي كذلك ـ لم يجز للأمة ترك بعض الوحي، ولو كانت تيسيرًا على الأمة ـ وهي كذلك ـ لم يكن لنا اعتقاد التيسير على صدر الأمة الأكثر إيمانًا ثم التعسير على آخر الأمة الأقل إيمانًا وعقيدة!! لمصادمة ذلك لتأليف النبي صلى الله عليه وسلم لأقوامٍ ضعاف الإيمان، وتركه غيرهم من أقوياء الإيمان، وَكَلَهم صلى الله عليه وسلم لإيمانهم..

فلزمَ مِن ذلك: وصول كافة الأحرف السَّبْعَة التي نزل بها الوحي إلينا عبر المصحف العثماني المتداول الآن.

ولا يصح اعتقاد أَنَّ الله عز وجل قد أنزل الأحرف السبعة تيسيرًا على الأمة ثم ترك الصحابة الكرام رضي الله عنهم بعضها ولم يبلغوه مَن بعدهم؛ من جهتين: الأولى: علمية؛ حيثُ لم يثبت بهذا أثرٌ ولا خبرٌ عن الصحابة الكرام؛ بل الأدلة على خلافه، عقلاً ونقلاً كما رأيتَ وسترى، والجهة الأخرى: أن اعتقاد ترك الصحابة رضي الله عنهم لبعض هذه الأحرف لا يليق بمكانتهم في الإيمان والإسلام، ولا بحرصهم الشديد على إبلاغ القرآن ونقله كما أُنْزِل، دون زيادةٍ ولا نقصان، وقد سبق وسيأتي ما يدل على ذلك بوضوحٍ، ومن ذلك فيما سبق مثلاً قول عثمان رضي الله عنه في كلامه عن القرآن: ((لا أُغَيِّر شيئًا مِن مكانه))، وقد دلَّ واقعهم كما سبق ويأتي على غاية الحرص والعناية بنقل القرآن، سماعًا وكتابةً، بنظمه وترتيبه وكافة جوانبه..
وقد مضى ويأتي إن شاء الله ما ينبئك بغاية الحرص والعناية عند الصحابة الكرام في سبيل نقل القرآن الكريم كما هو دون تصرُّفٍ فيه..

والعقلُ يستدعي هذا ويستلزمه؛ لأنهم لو تصرَّفوا في القرآن، هم أو غيرهم، بأيِّ نوع تصرُّفٍ؛ لاستلزم ذلك دخول النقض والطعن عليه، والعقل ينفي هذا كله ويرفضه؛ لأنَّه قد اتفقَ عقلاء البشر جميعًا من أربعة عشر قرنًا وحتى الساعة على أن الإسلام هو خاتم الرسالات السماوية، وأن النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، وها هي أربعة عشر قرنًا مضت تؤَكِّدُ هذا..
ويلزم على ذلك أن يكون هذا الدين الخاتم محفوظًا من كل وجهٍ، قرآنًا وسنةً، إلى أن تنتهي الدنيا بأسرها؛ لأنَّه لو لم يكن كذلك لاحتاج الناس إلى نبيٍّ آخر، أو دينٍ سماويٍّ جديدٍ؛ بناءً على حاجاتهم الدائمة والْمُلِحَّةِ إلى قائدٍ يقودهم، وسائسٍ يسوس أمورهم، وهذا ما لم يكن، على مدار القرون المتعاقبة على موت النبي صلى الله عليه وسلم وحتى الساعة؛ مما يدلّ على صِدْقِ ما أخبر به الوحي أن الإسلام هو خاتم الرسالات، وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء..
وهذا يستلزم حِفْظ معجزته لتصل لمن شاء الله عز وجل من عباده اللاحقين على النبي صلى الله عليه وسلم، والقادمين إلى الدنيا بعده، على مدار الأزمنة..
وهذا كله لا خلاف فيه بين العقلاء، ولا عبرة بغيرهم مِن سفهاء الأحلام في هذا الموطن، وسيظل هذا الحكم جاريًا حتى نهاية الدنيا، وحتى عيسى عليه السلام حين يعود إلى الدنيا فلن يحكم بغير الإسلام؛ وهذا أيضًا مما يُؤَكِّد صِدْق الوحي في إخباره بختم النبي صلى الله عليه وسلم للأنبياء، وختم الإسلام للرسالات السماوية.


(4)

وقراءات القرآن جزءٌُ مِن القرآن
أشرتُ مراراً إلى أَنَّ القراءات القرآنية جزءٌ من القرآن الكريم، وليست منفصلةً عنه، ولا مباينةً له، وهذا ما تدل عليه العقول السليمة؛ لأنها لو كانت منفصلةً عنه، أو مباينةً له، لكانت خارجة عن كونها معجزة، ولو كان بعض القرآن معجزٌ وبعضه غير معجزٍ لانتقضت المعجزة، وانتفى الإعجاز أصلاً، وهذا ما لم يكن بحمد الله عز وجل؛ لأنَّ ما لا خلاف فيه كتابًا وسنةً وإجماعًا متوارثًا عبر الأجيال المتعاقبة أَنَّ الصلاة لا تصح إلا بقرآنٍ، وقد ثبت أيضًا جواز القراءة في الصلاة بأيٍّ من القراءات القرآنية؛ فدل هذا بوضوحٍ على إثبات قرآنية وإلهية القراءات القرآنية، وأنها جزءٌ من القرآن الكريم، وجزءٌ من المعجزة الخالدة، وليست منفصلةً عنه، ولا مباينة له.
كذلك قام الدليل كتابًا وسنة وإجماعًا متوارثًا على ثواب قارئ القرآن، كما ثبت له الثواب بتلاوته بأيَّة قراءة يختارها هو من بين القراءات المشهورة المتداولة..
فثبت بما ذكرتُ وغيره إلهية وقرآنية القراءات القرآنية الواردة، وأنها جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة التي أَيَّدَ الله عز وجل بها نبيَّه صلى الله عليه وسلم.
وهذا الذي نطق به الوحي هو ما يؤكده العقل؛ لأنَّ ما لا خلاف فيه بين العقلاء أنَّ القرآن الكريم هو المعجزة التي أَيَّدَ الله عز وجل بها رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، واختياره سبحانه القرآن لتأييد نبيَّه صلى الله عليه وسلم به يستلزم أن يكون معجزًا ساميًا يفوق كلام البشر؛ لأنَّه لو لم يكن معجزًا، أو كان مقدورًا عليه؛ لما كانت له فائدة في هداية البشر، أو في تأييد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه لا وجه عقلاً لتأييده بما هو مقدورٌ عليه لجميع البشر، أو بعضهم، إِذْ ما هو الدافع عند فلان من الناس أن يترك ما لديه لقولِ الآخر، إن كان عنده ما عند الآخر؟!
فاستلزم العقل هنا أن يكون القرآن معجزًا؛ وهذا ما دلَّ عليه الوحي وأَوْضَحَهُ بحمد الله تعالى..
كما استلزم ذلك أيضًا أن تكون القراءات القرآنية معجزة هي الأخرى، وجزءًا لا يتجزَّأ من المعجزة القرآنية؛ لأنها منه، وما دامت منه فلابد من سريان أحكامه إليها، وهذا ما يستلزمه العقل السليم، والنَّظَر الصحيح، وهو عينه ما ذَكَرَهُ الوحيُ بحمد الله عز وجل مِنْ قبلُ.

المستشار سالم عبد الهادي
09-01-2005, 11:15 PM
فأما التي من جهةِ الأثر الوارد
وأما إثبات معجزة القراءات القرآنية الكريمة من جهةِ الأثر والشواهد الواردة:
فقد جاءت الروايات من غير وجهٍ، تؤكِّدُ على تَلَقِّي الصحابة الكرام رضي الله عنهم لوجوهِ القراءات عن النبي صلى الله عليه وسلم، عن جبريل عليه السلام، عن ربِّ العزةِ عز وجلّ.
وأقتصر هنا على ما رواه البخاري (4991)، ومسلم (819) من حديثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أَقْرَأَنِي جِبْرِيلُ عَلَى حَرْفٍ فَرَاجَعْتُهُ فَلَمْ أَزَلْ أَسْتَزِيدُهُ وَيَزِيدُنِي حَتَّى انْتَهَى إِلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ)).

وما رواه مسلم (821) من حديثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عِنْدَ أَضَاةِ بَنِي غِفَارٍ قَالَ: فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى حَرْفَيْنِ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى ثَلاثَةِ أَحْرُفٍ، فَقَالَ: أَسْأَلُ اللَّهَ مُعَافَاتَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَإِنَّ أُمَّتِي لا تُطِيقُ ذَلِكَ، ثُمَّ جَاءَهُ الرَّابِعَةَ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَقْرَأَ أُمَّتُكَ الْقُرْآنَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَأَيُّمَا حَرْفٍ قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا))أهـ
يقول النوويُّ في ((شرح مسلمٍ)): ((قَوْله: (عِنْد أَضَاة بَنِي غِفَار) هِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَة وَبِضَادٍ مُعْجَمَة مَقْصُورَة, وَهِيَ الْمَاء الْمُسْتَنْقَع كَالْغَدِيرِ وَجَمْعهَا أَضًا كَحَصَاةٍ وَحَصًا وَإِضَاء بِكَسْرِ الْهَمْزَة وَالْمَدّ كَأَكَمَةٍ وَإِكَام. قَوْله: (إِنَّ اللَّه يَأْمُرك أَنْ تَقْرَأ أُمَّتك عَلَى سَبْعَة أَحْرُف فَأَيُّمَا حَرْف قَرَءُوا عَلَيْهِ فَقَدْ أَصَابُوا) مَعْنَاهُ: لا يَتَجَاوَز أُمَّتك سَبْعَة أَحْرُف وَلَهُمْ الْخِيَار فِي السَّبْعَة وَيَجِب عَلَيْهِمْ نَقْل السَّبْعَة إِلَى مَنْ بَعْدهمْ بِالتَّخَيُّرِ فِيهَا وَإِنَّهَا لا تُتَجَاوَز. وَاللَّهُ أَعْلَمُ))أهـ

وأقتصر هنا على الحديثين المذكورين، للدلالةِ على كثيرٍ من روايات الباب التي في معناهما، ونقتصر مِمَّا أفاداهُ على الآتي:





........ وإلى لقاءٍ قريبٍ قادمٍ إن شاء الله تعالى.......

المستشار سالم عبد الهادي
09-04-2005, 12:03 AM
(5)

ضرورة اختلاف القراءات في قيام الْمُعْجِزَةِ

ووجهُ ذلك أَنَّ العرب وإِنِ اجتمعوا في لغةِ العرب إلا أنهم اختلفوا في النطق بها من حيثُ الإمالة والْمَدِّ، وغيرهما، كما تفرَّدَتْ كل قبيلةٍ بما لا تعرفه الأخرى أو لا تنطق به.

ولنضرب مثلاً لذلك في قلبِ بعض العرب العين همزةً، والهمزةَ عينًا، عند النطق بهما..

فمن ذلك مثلاً قول بعضهم: ((أبد الله)) مكان ((عبد الله)) [وانظر كتاب: ((الكفاية)) للخطيب البغدادي (ص 184) باب: في اتباع الْمُحَدِّث على لفظه وإِنْ خالفَ اللغةَ الفصيحة].

فهذا مثالٌ لقَلْبِ العين همزةً..

وعكس ذلك أيضًا: ما ورد في حديث ((قَيْلَة بنت مخرمة العنبريَّة)) الطويل، وقد ذكره لها المزي في ترجمتها من ((تهذيب الكمال)) وفيه قالت قَيْلَةُ: ((تَحْسَبُ عَنِّي نائمةٌ)) قال المزي (35/293): ((وقولها: تَحْسَبُ عَنِّي نائمةٌ: العين في عَنِّي مُبدلة مِن الهمزة ، و هي لغة بني تميم، تُسَمَّى العنعنة، يَقْلِبونَ الهمزة عينًا، فَعَلَى هذا نائمةٌ تُرْفَعُ الهاء خَبَرٌ لِـ (أَن).

ورواه بعضُهم جاهلاً بهذه اللغةِ: تَحْسَبُ عيني –[كذا في المطبوع من تهذيب الكمال، ولعلها مِن الطبع وصوابها هنا أيضًا: عَنِّي؛ كما يدل عليه السياق والله أعلم]- نائمةً بنصبِ الهاء مفعولاً ثانيًا لـ تحسب، والأول أحفظ وأشهر))أهـ

وانظر أمثلةٌ أخرى في ((التمهيد)) لابن عبد البر (8/277 – 278).

لكنَّا نلاحظ أن هذا القلب لم يُؤثِّر على المعنى شيئًا مِن حيثُ تغييره أو تبديله لعكسه، فهو اختلافٌ في اللفظِ، بناءً على مسموعِ اللفظِ، أو صوتِه عند سماعِه.

وإنما جاء القرآن الكريم ليخاطب هؤلاء جميعًا، على اختلافِ ألسنتهم ولهجاتِهم النابعة من اللغة الأمِّ، وكان لزامًا في هذا الخطاب أن يكون من جنس ما يفهمون، إِذِ المخاطبة بما لا يفهمه الْمُخَاطَب تُعَدُّ تكليفًا بما لا يُطاق، وضربًا من العبث، وهذا كله منتفٍ في حقِّ الله عز وجل.

ولذا جاء الخطاب القرآني الكريم ليناسب هؤلاء المختلفين في لهجاتهم جميعًا، لتتم المعجزة بذلك وتستقرَّ في نفوسِهم.

ولنرجع إلى قوم ((عيسى عليه السلام)) أبرع الناس في طِبِّ زمانهم، ومن قبله قوم ((موسى عليه السلام)) أهل سِحْرٍ، فكان لابد لإثبات وتقرير المعجزة لموسى أن تفوقَ سحر هؤلاء جميعًا، فجاءت عصاه تلْقَفُ ما يصنعون من إِفْكٍ وتخييلٍ في أعين الناظرين، فقلبَ الله له العصا حيةً كبيرةً التهمت كافة ما صنعوه وسحروه من حيَّات وهميَّة لا أساس لها.

كما جاء عيسى عليه السلام فائقًا كافة قومه في شفاء المرضى وإحياء الموتى بإذن الله عز وجل، معجزةً أَيَّدَهُ الله عز وجل بها.

وهكذا تكون المعجزات من جنس ما يفقهه ويتقنه ويبرع فيه أقوام الأنبياء.. لأنها لو لم تكن كذلك لانتقض إعجازها‍‍!!

ولذا كان لابد من مخاطبة القرآن لهؤلاء المختلفين لهجةً المتَّفِقين لغةً بما يوافقهم جميعًا، وحسبما يعرفونه ويفقهونه، من أشكال الألفاظ وأصواتها؛ لتتقرَّر في نفوسهم المعجزة، فيؤمنوا به..

ولأَنَّ الإسلام لا يعرف الضرب بالعصا لتقرير العقائد وإسلام الناس؛ فإنما يعرف تقرير العقائد ونشر الإيمان بالحجة والبرهان وتقرير المعجزات في نفوس الخلق بالدليل الراسخ الرصين؛ ولأنَّهُ كذلك.. كان لابد من تقرير معجزة القرآن لدى هؤلاء المختلفين بشموليَّةٍ تسع للجميع وتحتويهم جميعًا، لهجةً وصوتًا، إمالةً ومَدًّا، سماعًا وكتابةً، وغير ذلك مِنْ مباحث لغة العرب..

وهذا يستلزم عقلاً ووحيًا أن ينزل القرآن الكريم على أكثرِ مِن حرفٍ.. وهذا ما قرَّرَهُ الوحي، حيثُ جاء الوحي ليقول لنا: ((أُنْزل القرآن على سبعة أَحْرُفٍ)) كما في أحاديث الباب هنا.

ومِنْ جهةٍ أخرى فإِنَّ المعجزات لا تتقرَّر بما لا يُطاق كما أشرتُ سابقًا؛ ولا يسوغ أن ينزل القرآن العربي المبين بما لا يناسب كافة العرب..

فكان لابد من القراءات القرآنية المناسبة للعرب جميعًا..

وقد سبقنا الزرقاني في ((مناهل العرفان)) إلى تقرير هذه الحقيقة، حيثُ قال: ((الشاهد الأول: أن الحكمة في نزول القرآن على الأحرف السبعة: هي التيسير على الأمة الإسلامية كلها، خصوصًا الأمة العربية التي شُوفِهَتْ بالقرآن، فإنها كانت قبائل كثيرة، وكان بينها اختلاف في اللهجات ونبرات الأصوات وطريقة الأداء وشهرة بعض الألفاظ في بعض المدلولات، على رغم أنها كانت تجمعها العروبة، ويُوَحِّد بينها اللسانُ العربي العام.

فلو أخذت كلها بقراءة القرآن على حرفٍ واحد لشق ذلك عليها كما يشق على القاهري مِنَّا أَنْ يتكلم بلهجة الأسيوطي مثلاً، وإن جمع بيننا اللسان المصري العام وأَلَّفَتْ بيننا الوطنية المصرية في القطر الواحد.

وهذا الشاهد تجده ماثلاً بوضوح بين الأحاديث السالفة في قوله في كل مرة من مرات الاستزادة: (فرددت إليه أَنْ هَوِّن عَلى أُمَّتِي) وقوله: (أسأل الله معافاته ومغفرته وإِنَّ أُمَّتِي لا تطيق ذلك) ومن أنه لَقِيَ جبريل فقال: (يا جبريل إِنِّي أُرْسِلْتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فيهم الرجل والمرأة والغلام والجارية والشيخ الفاني الذي لم يقرأ كتابًا قط) الخ.

قال المحقق ابن الجزري: وأما سبب وروده على سبعة أحرف فللتخفيف على هذه الأمة وإرادة اليسر بها والتهوين عليها شرفًا لها وتوسعة ورحمة وخصوصية لفضلها وإجابة لقصد نبيها أفضل الخلق وحبيب الحق حيث أتاه جبريل فقال: (إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف) فقال: (أسأل الله معافاته ومعونته فإن أمتي لا تطيق ذلك)، ولم يزل يُرَدِّد المسألة حتى بلغَ سبعةَ أَحْرُفٍ)).

ثم قال: ((وكما ثبت أن القرآن نزل مِن سبعة أبواب على سبعة أحرف وأن الكتاب قبله كان ينزل مِن بابٍ واحد على حرفٍ واحد، وذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانوا يُبْعَثُون إلى قومهم الخاصين والنبي بُعِثَ إلى جميع الخلقِ أحمرهم وأسودهم عربيهم وعجميهم وكان العرب الذي نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة وألسنتهم شتى ويعسر على أحدهم الانتقال من لغة إلى غيرها أو من حرف إلى آخر.

بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج لا سيما الشيخ والمرأة ومَن لم يقرأ كتابًا كما أشار إليه فلو كُلِّفوا العدول عن لُغَتِهِم والانتقال عن ألسنتِهم لكانَ مِن التكليف بما لا يُستطاع، وما عسى أَنْ يَتَكَلَّفَ الْمُتَكَلِّف وتَأْبَى الطِّباع))أهـ [مناهل العرفان1/103].

وسبق ابن قتيبة إلى تقرير هذه الحقيقة، وسيأتي نقل كلامه أيضًا في الكلام على (معنى الأحرف السبعةِ).

ولا يعني هذا نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ بمثابةِ سبعة ترجمات للقرآن كله؛ وإنما هي سبعة أَحْرُفٍ موجودة في القرآن كله، كما سيأتي، وليست سبعةً في كل كلمة بمفردها، وسبعةً في التي تليها.. فلم يقل بهذا أحدٌ أبدًا، وأكثر مواضع القراءات لا تكاد تقف فيها على أكثر من وجهين، وقليلٌ مَنْ يتجاوز هذا.. ولكنها سبعٌ مُفَرَّقةٌ في القرآن الكريم.

قال أبو عبيد في ((الغريب)) (3/159): ((وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه؛ هذا لم يُسْمَعُ به قط، ولكن يقول : هذه اللغات-[كذا وصوابه: الوجوه، كما سيأتي]- السبع متفرقة في القرآن))أهـ

وسيأتي نحوه أيضًا عن ((القاموس)) وغيره.

وقد نَبَّه على هذا المعنى: ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (8/274) وقال: ((بل لا يوجد في القرآن كلمة تحتمل أن تقرأ على سبعة أحرفٍ إلا قليلاً)) ومَثَّلَ لذلك وقال: ((وهذا يسيرٌ جدًّا))أهـ

ولعلَّهُ لندرته أنكر وقوعه ابن قتيبة أصلاً، وردَّ عليه أبو بكرٍ ابن الأنباري، وتعقَّبَه بنحو {أُفٍّ} وغيرها، وأجود ما في ذلك عبارة ابن عبد البر السابقة: ((وهذا يسيرٌ جدًّا)).

المستشار سالم عبد الهادي
09-04-2005, 12:17 AM
(6)
تَرْكُ كفار العرب الاعتراضَ على القرآن
باختلافِ القراءات
ودلالة ذلك

وهذا يجرُّنا إلى الإشارة لموقف كفار العرب قديمًا من اختلاف القراءات ودلالة موقفهم هذا..

وقد فَهِمَ كفارُ العرب قديمًا هذا الأمر فتركوا معارضة القرآن الكريم بحجةِ اختلاف وجوه القراءات في ألفاظه؛ لِعِلْمِهم بتفاهةِ هذا الاعتراض؛ لأنهم كانوا خبراء بلغتهم، فصاحةً وبلاغةً ونطقًا وعروبة، وغير ذلك، ولذا لم يعارضوا القرآن باختلاف قراءات القرآن، رغم ما لديهم من دوافع العداء والحراب المشتعلةِ بين الطرفين، لسانيًّا وميدانيًّا!!

بل لم يفعلوا هذا ولو على سبيل التشويش أو الانتقام، ولو بمجرَّدِ إثارةِ الشُّبْهَةِ؛ لأَنَّهم لم يَرَوْا في هذا ما يُرَقِّيهِ إلى الشُّبْهَةِ أصلاً..

ولو فعلوا هذا لافتضحوا لدى بقية العرب العارفين بلغة العرب، وتصاريف وجوهها.. ولم يكن هؤلاء الكفار القدماء بالغباء لدرجة أن يفضحوا أنفسهم بمثل هذا التهافت الذي لا يسمن ولا يغني من جوعٍ..

ولو رأوْه شُبْهَةً فضلا أن يجدوا فيه سبيلاً للطعن في الإسلام؛ لو رأوه مستحقًّا لهذا لصاحوا به، ولطاروا به كلَّ مطارٍ، خاصة مع دوافع العداء والحرب، ولوازم الحقد والثأر والتغَيُّظِ على المؤمنين..

ولاشكَّ أن هؤلاء الكفار كانوا أعلم بلغة العرب الفصيحة التي نزل القرآن متحديًّا لهم في مجالها، وكانوا أرقى حسًّا في تذَوِّقِها من هؤلاء المستشرقين ومَنْ سار في ركابهم.. فدلَّ تَرْك كفار العرب قديمًا لمِثْل هذه الاعتراض على تفاهة هذا الاعتراض وسخافتِه، وعدم جدواه لديهم..

ولو أرادوا الاعتراض به لما منعهم من هذا مانعٌ، وهم يَرَوْنَ الهزائم تحلّ بكفرِهم في كلِّ مرةٍ..

فلما تركوا الاعتراض بذلك ... ولو على سبيل الثأر أو مجرَّد التشويش ... عَلِمْنا أنَّهم لا يَرَوْنَ في ذلك عيبًا ولا شينًا ولا بأسًا، وأَنَّ الحجة بذلك قائمةٌ عندهم، من حيثُ طُرُق الحجة أو الاحتجاج على الخصم بِمِثْلِ هذا..

أو بعبارةٍ أخرى: فإِنَّ اختلاف القراءات كان أمرًا مألوفًا ومقبولاً لدى كفار العرب العارفين بلغة العرب الفصيحة، ولم يكن أمرًا مستهجنًا ترفضُه لُغَتُهم أو يصلح للتشويش على المؤمنين به.

بل كان ولا زال اختلاف القراءات القرآنية ما سائر ما في القرآن من لغويات مِن أكبر الشواهد على إلهية القرآن الكريم، ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لإحاطتِه التامة بلغة العرب وقوانينها وتصاريف وجوهها، حتى إِنَّه لم يكتف بوجهٍ واحدٍ فقط يذكره أو ينزل عليه القرآن، وإنما أَنْزَلَه الله عز وجل على سبعةِ أوجهٍ فصيحةٍ مليحةٍ لدى العرب، ولا يحيط بهذه الأوجه العربية إلا محيطٌ باللغة العربية تامّ الإحاطةِ بها، ولا يُحيط بلغةِ العرب إلا نبيٌّ..

وهذا مُقَرَّرٌ في غير موضعٍ، وذكره صاحب ((تاج العروس)) في المُقَدِّماتِ التي في صدر الكتاب، ونقل فيه عن الشافعي وابن فارس أيضًا التنبيه على أَنَّه لا يُحِيط باللغة إلا نبي..

فدلَّتْ إحاطة القرآن الكريم بلغةِ العرب ووجوهها على إثبات المعجزة وتقريرها، ثم على نبوة نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه كان أُمِّيًّا لا يقرأُ ولا يكتب، ثم هو يحيط بلغة العرب كما ترى..

وهذا وجهٌ آخر مِنْ وجوهِ المعجزةِ القرآنية الخالدة..

المستشار سالم عبد الهادي
09-04-2005, 12:23 AM
(7)
نزول القرآن على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ

وهذا يجرُّنا للكلام عن الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ..
وقد صَرَّحَ البيان السابق، في الأحاديث المذكورة آنفًا بأَنَّ القرآن الكريم قد نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ، ولم ينزل على حرفٍ واحدٍ، وبأيِّ هذه الحروف قرأتِ الأمةُ أصابت.

وأفادتِ الروايات أَنَّ هذه الأحرف مُتَلَقًّاة عن الوحي الإلهيِّ، وليس اختيارًا ولا مذهبًا بشريًّا في القرآن، وإنما هي امتنانٌ من الله عز وجل على هذه الأمة الضعيفة بالتيسير والتخفيف، كما مضى صريحًا في لفظِ الحديث المذكور آنفًا في هذه المسألة..

وقد سبقت الإشارة إلى أَنَّ هذه الأحرف السبعة هي بمثابة المترادفات السبعة للمعنى الواحد، وليست سبعة اختلافات متباينة أو متضادة..

فالخلاف هنا من جنس ((الخلاف اللفظي)) أو سَمِّهِ إِنْ شئتَ ((اختلاف التنوِّعِ)).. فليس اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادٍّ.. وإنما اختلافًا لفظيًّا أو سمِّه اختلافَ تَنَوُّعٍ.

فهي سبعة أوجهٍ متوافقة متوائمة من حيثُ المعنى، مختلفةً من حيثُ اللفظِ، يُستفاد منها تقرير المعجزة بأكثرِ من لفظٍ عربيٍّ صحيحٍ، كما يستفاد منها التخفيف على هذه قبائل العرب جميعًا بمخاطبتِها بلسانها الذي تقدر على النطق به، مع زيادة الإعجاز في المعجزة الواحدة..

فهي معجزاتٌ متعدِّدةٌ في صورةِ معجزةٍ واحدةٍ اسمها ((القرآن الكريم))..

المستشار سالم عبد الهادي
09-04-2005, 01:34 AM
(8)
معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

وهذا يجرُّنا للكلام عن مَعْنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

ولنبدأ بنصٍّ واضحٍ في المسألة، ثم نذهب إلى أقوال العلماء لنرى الراجح منها في ذلك.

رَوَى البخاريُّ (4992)، ومسلمٌ (818) من روايةِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ يَقْرَأُ سُورَةَ (الْفُرْقَانِ) فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَمَعْتُ لِقِرَاءَتِهِ، فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكِدْتُ أُسَاوِرُهُ فِي الصَّلاةِ، فَتَصَبَّرْتُ حَتَّى سَلَّمَ، فَلَبَّبْتُهُ بِرِدَائِهِ، فَقُلْتُ: مَنْ أَقْرَأَكَ هَذِهِ السُّورَةَ الَّتِي سَمِعْتُكَ تَقْرَأُ؟ قَالَ: أَقْرَأَنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: كَذَبْتَ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَقْرَأَنِيهَا عَلَى غَيْرِ مَا قَرَأْتَ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ أَقُودُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ هَذَا يَقْرَأُ بِسُورَةِ (الْفُرْقَانِ) عَلَى حُرُوفٍ لَمْ تُقْرِئْنِيهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَرْسِلْهُ، اقْرَأْ يَا هِشَامُ))، فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةَ الَّتِي سَمِعْتُهُ يَقْرَأُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ))، ثُمَّ قَالَ: ((اقْرَأْ يَا عُمَرُ)) فَقَرَأْتُ الْقِرَاءَةَ الَّتِي أَقْرَأَنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَذَلِكَ أُنْزِلَتْ، إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ))أهـ

ولنُلْقِ نظرةً الآن على اختلاف الناس في ذلك، مع المعنى الراجح بأدلَّتِه إن شاء الله عز وجل..

وقد اختلف الناسُ في بيان الأحرف السبعة اختلافًا عظيمًا: فأوصلها بعضهم إلى خمسةٍ وثلاثين قولاً، كما نُقِلَ هذا عن ابن حبان، نقله ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (67)، والقرطبي في ((تفسيره)) (1/42)، والسيوطي في ((الإتقان)) (1/138)، وغيرهم.

ولَمَّا أشارَ ابنُ حجرٍ في ((فتح الباري)) (4992) إلى كلام ابن حبان؛ قال ابن حجرٍ: ((وقال الْمُنْذِرِيُّ: أكثرُها غيرُ مختارٍ))أهـ

ونقَّح ابنُ الجوزي الأقوال فاختار منها أربعة عشر قولاً، بينما اختار غيره عشرة أو سبعة أو ستةً..إلخ.

وأحجمَ بعضهم عن الكلام في المسألة، وزعم أنها من المتشابه أو المشكل.

وسنقتصر هنا على أشهرِ الأقوال في المسألةِ، وبعد البحث والتمحيص وردِّ النَّظير إلى نظيره: رأيتُ أن أشهر الأقوال في المسألة: قول أبي عبيد ومَنْ معه القائلين بأن المراد بالأحرفِ هنا اللغات، والقول الثاني: قول مَنْ قال: إِنَّ المراد بالأحرفِ السبعة في الحديث تأدية المعنى باللفظِ المرادف ولو كان مِنْ لغةٍ واحدةٍ.

وهذا المشهور في المسألةِ، عند تحرير الأقوال وتمحيصها، وما سواه فعلى نوعين:

النوع الأول: فإما لا عبرة به كقولِ مَنْ قال: إن المقصود بها الخلاف في الحلال والحرام؛ وهذا من أبطلِ الباطلِ، وسيأتي تزييف أبي عبيدٍ له، وقد زَيَّفَه أيضًا أحمد بن أبي عمران فيما رواه الطحاوي عنه، وقال: وهو كما قال، نقل ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/276) ذلك عن ابن أبي عمران والطحاوي وأَيَّدَهما.

والنوع الثاني: يرجع إلى ما سبق عند التمحيص والتحريرِ، كقول مَنْ يقول: المراد بالأحرفِ: التصريف، أو الجمع والتوحيد، أو التذكير والتأنيث، ونحو هذا مما حكاه ابن حبان وابن الجوزي والقرطبي والسيوطي وغيرهم.

ووقع ذلك أيضًا في كلام ابن قتيبة، الذي لَخَّصَ الرازي معناه، وزاد عليه، ثم انتصر له الزرقاني في آخر أمره في كتاب ((مناهل العرفان)).

وعبارة الرازي في ((اللوائح)) في الوجه الأول مثلاً: ((اختلاف الأسماء من إفراد وتثنية وجمع وتذكير وتأنيث))، وهذا الذي ذَكَرَهُ الرَّازِيُّ وجهًا واحدًا ذَكَرَهُ ابن الجوزي تبعًا لابن حبان مثلاً وجهين..

وهكذا أكثر الوجوه التي ذكرها البعض وجهين وثلاثة، جمعها غيرهم في وجهٍ، وهذه إحدى أسباب الاختلاف في وجوه الأحرف السَّبْعَةِ بين ظاهر كلام العلماء، والتي يمكن عند التمحيص والتحرير أن نجمع بين كثيرٍ منها، ونزيل عنها إشكال وجود الخلاف فيما بينها.

ومِنْ جهةٍ أخرى، فقد ذكر الرازي وغيره أشياءً بألفاظٍ ذكرها غيرهم بألفاظٍ أخرى، وبإمكاننا إرجاع كلامه المذكور، والذي هو تنقيحٌ لكلام ابن قتيبة كما ذكر ابن حجر، (بل وزاد عليه النصّ على اللهجات)، يمكننا إرجاع الكلام المذكور إلى القول الثاني السابق في أَنَّ المراد بالأحرف السبعة تأدية المعنى باللفظ المرادف حتى وإن كان مِن لغةٍ واحدةٍ، (وسيأتي).

وبهذا يمكن الجمع بين الأقوال التي ظاهرها الاختلاف، وطرح ما يخالف الصواب، لتعود الأقوال بعد ذلك إلى ما قرَّرَهُ أهل اللغة العارفين بها، والتي بها نزل القرآن، وهي التي بها يُفْهَمُ نصوص الإسلام الواردة.

ولذا سأقتصر على القولين السابقين، وأنظر فيهما لاستخلاص الراجح منهما بأدلَّتِه إن شاء الله تعالى كالتالي:

القول الأول: قول أبي عبيدة ومَنْ معه في أَنَّ المقصود بالأحرفِ في الحديث: اللغات.

ولو رجعنا إلى مادة ((حرف)) من كتب اللغة، فسنجد المراد بالأحرف السبعة: سبع لغاتٍ من لغات العرب، وإلى هذا ذهب أبو عبيد في كتاب ((الغريب)) له (2/11، 3/159).

فقال أبو عبيدٍ بعد أَنْ ذَكَرَ اختلافَ الْقَرَأَة من الصحابة في بعض الحروف، وعرضهم ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نزول القرآن على سبعة أحرُفٍ، (وقد مضى حديث اختلاف عُمَر وهشام في هذا)؛ قال أبو عبيد عقب ذلك: ((فهذا يُبَيِّنُ لك أَنَّ الاختلافَ إِنَّما هو في اللَّفْظِ، والمعنى واحدٌ، ولو كان الاختلاف في الحلالِ والحرام لما جازَ أَنْ يُقال في شيءٍ هو حرامٌ: هكذا نزلَ، ثم يقول آخر في ذلك بعينه: إِنَّه حلالٌ فيقول: هكذا نزلَ، وكذلك الأمر والنهي; وكذلك الأخبار لا يجوز أَنْ يُقال في خَبَرٍ قد مضى: إِنَّه كان كذا وكذا فيقول: هكذا نزل، ثم يقول الآخر بخلاف ذلك الخبر فيقول: هكذا نزل; وكذلك الخبر المستأنف؛ كخبر القيامة والجنة والنار، ومَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ في هذا شيئًا مِن الاختلافِ فَقَدَ زَعَمَ أَنَّ القرآنَ يُكَذِّبُ بعضُه بعضًا ويتناقض، وليس يكون المعنى في السبعة الأحرف إلا على اللغات لا غير، بِمَعْنًى واحدٍ لا يُخْتَلَفُ فيه في حلالٍ ولا حرامٍ ولا خَبَرٍ ولا غير ذلك))أهـ

وقد ذكر أبو عبيد وعنه ابن الأثير وغيرهما نحو هذا المعنى في مادة ((مرر)) أيضًا، وتُراجع من ((الغريب)) لأبي عبيد، و((النهاية)) لابن الأثير، و((اللسان)) لابن منظور.

وإلى هذا ذهبَ أبو العباس النحوي، وقال الأزهري: ((فأَبو العباس النحْويّ -وهو واحد عصْره- قد ارتضى ما ذهبَ إليه أَبو عبيد واستصوَبه، قال: وهذه السبعة أَحْرُفٍ -التي معناها اللغات- غير خارجةٍ مِن الذي كُتِبَ في مصاحفِ المسلمين التي اجتمع عليها السلَف المرضيُّون والخَلَف المتبعون، فمن قرأَ بحرف ولا يُخالِفُ المصحف بزيادةٍ أَو نقصان أَو تقديم مؤخّرٍ أَو تأْخير مُقَدَّم وقد قرأَ به إمامٌ من أَئمةِ القُرّاء المشتهرين في الأَمصار فقد قرأَ بحرفٍ مِن الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، ومِن قرأَ بحرفٍ شاذٍّ يخالف المصحف وخالف في ذلك جمهور القرّاء المعروفين فهو غير مصيبٍ، وهذا مذهب أَهل العلم الذين هم القُدوة ومذهب الراسخين في علم القرآن قديماً وحديثاً، وإلى هذا أَوْمأَ أَبو العباس النحوي وأَبو بكر بن الأَنباري في كتابٍ له أَلَّفَهُ في اتِّباع ما في المصحف الإمام، ووافقه على ذلك أَبو بكر بن مجاهد مُقْرِئ أَهل العراق وغيره من الأَثبات المتْقِنِين، قال: ولا يجوز عندي غير ما قالوا، واللّه تعالى يوفقنا للاتباع ويجنبنا الابتداع))أهـ

وإلى هذا ذهبَ ابنُ الأَثير في مادة ((حرفٍ)) أيضًا من كتابه ((النهاية))، وقال: ((وفيه أَقوال غير ذلك هذا أَحسنها)).

وعبارة ((القاموس المحيط)): ((ونَزَلَ القُرْآنُ على سَبْعَةِ أحْرُفٍ: سَبْعِ لُغاتٍ من لُغَاتِ العَرَبِ، ولَيْسَ مَعْنَاهُ أن يكونَ في الحَرْفِ الواحِدِ سَبْعَةُ أوْجُهٍ وإنْ جاءَ على سَبْعَةٍ أو عَشَرَةٍ أو أكْثَرَ؛ ولكنِ المَعْنَى: هذِهِ اللُّغَاتُ السَّبْعُ مُتَفَرِّقَةٌ في القُرْآنِ))أهـ

وإلى هذا القولِ ذهب أيضًا: ابن عطِيَّة، والطبري في ((تفسيره)) (1/51)، وابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) (85)، وغيرهم.

فالمراد بالحديث على هذا القول: ((أُنْزِلَ القرآنُ على سبعِ لغاتٍ))، وهو الوجه الرابع عشر والأخير عند ابن الجوزي في ((فنون الأفنان)) ذَكَرَهُ ابن الجوزي ثم قال: ((وهذا هو القول الصحيح، وما قبلهُ لا يثبُت عند السَّبْكِ، وهذا اختيارُ ثَعْلَب وابن جرير))أهـ

لكن اختلف أصحاب هذا القول في اللغات المقصودة هنا على التعيين، فقيل: لغة لقريشٍ ولغة لليمن ولغة لتميم ولغة لجُرْهُم ولغة لهوازن ولغة لقُضاعة ولغة لطَيٍّ.. وقيل غير ذلك.

قال ابن الجوزي: ((والذي نراه أَنَّ التعيين من اللغات على شيءٍ بعينه لا يصح لنا سنده، ولا يثبت عند جهابذةِ النَّقْلِ طريقه؛ بل نقولُ: نزلَ القرآن على سبعِ لغاتٍ فصيحةٍ مِنْ لغات العرب، وكان بعض مشايخنا يقول: كله بلغة قريشٍ، وهي تشتمل على أصولٍ من القبائل هم أرباب الفصاحة، وما يخرج عن لغة قريشٍ في الأصل لم يخرج عن لغتِها في الاختيار))أهـ

وعلى هذا القول عِدَّة إشكالات، منها: أَنَّه لم يحصر لغات العرب التي فوق السبعة؛ لأنَّ لغات العرب أكثر مِن سبعةٍ؛ ولكنهم أجابوا بأَنَّ المراد هنا مِن لغات العرب أفصحها.

لكنَّ أقوى الإشكالات على هذا القول أَنه مخالفٌ لظاهر الحديث السابق؛ لأن كلا المختلفين هنا (وهما عُمَر وهشام رضي الله عنهما) كان يقْرَأُ بلغةِ قريشٍ، فلا وجه هنا لِمَنْ يقول: إِن المراد بالأحرف السبعة: سبع لغات.

ومِمَّا يرد هذا القول أيضًا: ما ثبتَ قطعيًّا مِنْ حرْقِ عثمان رضي الله عنه للمصاحف بعد نسخ المصحف الإمام، المعروف والمتداول باسم المصحف العثماني، وقد نَسَخَ منه عثمان رضي الله عنه نسخًا وأرسلها إلى الأقطار الإسلامية، دون خلافٍ بينها، وقد ثبتَ قطعيًّا أَمْر عثمان رضي الله عنه لزيد بن ثابتٍ ومَنْ معه مِنْ كَتَبَةِ المصحف العثماني أن يكتبوه بلغة قريشٍ فإنما نزل بها القرآن، (وقد مضى ذلك في مداخلة سابقة في الموضوع عن عثمان رضي الله عنه، ولعلي أعيده ثانية في مداخلةٍ لاحقةٍ).

وعُلِمَ قطعيًّا (كما سبق) مِنْ قولِ عثمان رضي الله عنه أَنَّه لم يُغَيِّر شيئًا في القرآن من مكانه؛ إِذْ قدِ التزم الواردَ المسموع مِن لفظِ النبي صلى الله عليه وسلم، ونسخَ منه المصحفَ العثماني المعروف بالمصحف الإمام، فَعُلِمَ مِنْ ذلك أَن الأحرف السَّبَعْةِ المذكورة في الحديث لابد وأَنْ تكون موجودةً في لغة قريشٍ نفسها..

قال ابن حجرٍ في ((فتح الباري)): ((وقال أبو حاتم السِّجِسْتَانِيُّ: نَزَلَ بلغةِ قُرَيْش وَهُذَيْل وَتَيْم الرَّبَاب وَالأَزْد وَرَبِيعَة وَهَوَازِن وَسَعْد بْن بَكْر وَاسْتَنْكَرَهُ اِبْنُ قُتَيْبَة وَاحْتَجَّ بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ} فعلى هذا فتكون اللُّغَات السَّبْع في بُطُون قُرَيْش, وبذلكَ جَزَمَ أبو عليٍّ الأَهْوَازِيّ)).

وقال ابن حجر: ((ومِنْ ثَمَّ أَنْكَرَ عُمَر على ابن مسعود قراءَته (عَتَّى حِين) أَيْ: (حَتَّى حِين) وكتبَ إليه: إِنَّ القرآن لم ينزل بلغةِ هُذَيْل فَأَقْرِئِ النَّاس بلغةِ قُرَيْش ولا تُقْرِئهُمْ بلغة هُذَيْل))أهـ [وانظر: التمهيد لابن عبد البر 8/278].

ولكن خالف ابنُ قتيبة –كما نقل ابن حجرٍ عنه- في أول ((تفسير الْمُشْكِل)) له فقال: ((كان مِن تيسير الله أَنْ أمر نَبِيَّه أَنْ يَقْرَأ كُلُّ قَوْمٍ بلغتهم, فَالْهُذَلِيّ يَقْرَأ (عَتَّى حِين) يُرِيد {حَتَّى حِين}، وَالأَسَدِيّ يَقْرَأ (تِعْلِمُونَ) بِكَسْرِ أَوَّله, وَالتَّمِيمِيُّ يَهْمِز، وَالْقُرَشِيّ لا يَهْمِز)). قال ابن قتيبة: ((ولو أراد كلُّ فريقٍ منهم أن يزول عن لُغتِه وما جرى عليه لسانُه طفلاً وناشئًا وكهلاً لَشَقَّ عليه غاية المشقَّةِ، فَيَسَّرَ عليهم ذلك بِمَنِّهِ, ولو كان المراد أَنَّ كلَّ كلمةٍ منه تُقْرَأ على سبعةِ أوجُهٍ لقال مثلاً: (أُنْزِلَ سَبْعَة أَحْرُف), وَإِنَّمَا المراد أَنْ يَأْتِي في الكلمة وجهٌ أو وجهانِ أو ثلاثة أو أكثر إلى سبعةٍ))أهـ

وقال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((قول من قال أن القرآن نزل بلغة قريش معناه عندي: في الأغلب والله أعلم؛ لأن غير لغة قريش موجودة في صحيح القراآت من تحقيق الهمزات ونحوها وقريش لا تهمز)).

ولكن إذا كان هو الأغلب كما يقرر ابن عبد البر فالحكم للأغلب، والنادر لا حُكم له، فلا إشكال في وجود بعض الكلمات بغير لغة قريشٍ؛ لأنها ليست الأصل فيه، ولا غالبة عليه..

وما ذهب إليه عُمر بن الخطاب رضي الله عنه، هو الموافق لعمل عثمان رضي الله عنه الذي أجمع عليه الصحابةُ فيما بَعْدُ، بل أجمعتْ عليه الأمة قاطبةً.

ولذا قال ابن عبد البر في ((التمهيد)) (8/280): ((وأنكر أكثر أهل العلم أن يكون معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أُنْزِلَ القرآن على سبعة أحرفٍ): سبع لغاتٍ، وقالوا: هذا لا معنى له؛ لأنه لو كان ذلك لم يُنْكر القوم في أولِ الأمر بعضهم على بعضٍ؛ لأنه من كانت لغته شيئًا قد جبل وطبع عليه وفطر به لم يُنْكَر عليه، وفي حديث مالكٍ عن ابن شهابٍ المذكور في هذا الباب [وهو الحديث السابق في اختلاف عُمَر وهشام] رَدُّ قولِ مَن قالَ: سبع لغاتٍ؛ لأن عمر بن الخطاب قرشي عدوي وهشام بن حكيم بن حزام قرشي أسدي، ومُحَال أَنْ يُنكر عليه عُمر لغتَه؛ كما محال أن يُقْرِئَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم واحدًا منهما بغيرِ ما يعرفه مِن لُغَتِه، والأحاديث الصحاح المرفوعة كلها تدلّ على نحوِ ما يدل عليه حديثُ عُمَرَ هذا، وقالوا: إنما معنى السبعة الأحرف: سبعة أوجهٍ من المعاني المتفقة المتقاربة بألفاظٍ مختلفةٍ؛ نحو: أَقْبِلْ وتَعَالَ وهَلُمَّ، وعلى هذا الكثير مِنْ أهلِ العلمِ)).

وذكر ابن عبد البر بعض الروايات ثم قال: ((وهذا كله يعضد قول مَن قال: إِنَّ معنى السبعة الأحرف المذكورة في الحديث: سبعة أوجهٍ من الكلام المتفق معناه، المختلف لفظه؛ نحو: هَلُمَّ وَتَعَالَ وَعَجِّلْ وَأَسْرِعْ وأَنْظِرْ وَأَخِّر، ونحو ذلك، وسنورد من الآثار وأقوال علماء الأمصار في هذا الباب ما يتبين لك به أَنَّ ما اخترناه هو الصواب فيه إن شاء الله، فإنه أصح من قول من قال: سبع لغات مفترقات؛ لما قدمنا ذكره، ولما هو موجود في القرآن بإجماعٍ من كثرةِ اللغات المفترقات فيه، حتى لو تقصيت لَكَثُرَ عددها، وللعلماء في لغات القرآن مؤلفاتٌ تشهد لما قلنا)).

وأوردَ ابنُ عبد البر الروايات الشاهدة لذلك، ونقل موافقة الطحاوي له فيما ذهب إليه.



القول الثاني: قولُ مَنْ قال: المراد بالأحرفِ السبعةِ تأدية المعنى باللفظ المرادف ولو كان مِن لغةٍ واحدةٍ:

فلننظر قول عمر: ((فَإِذَا هُوَ يَقْرَأُ عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يُقْرِئْنِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))، فهو قد عَرِف الحروف بمجرد سماعه لها، وعَبَّرَ عنها بالحروفِ، كما عَبَّر الحديث بالأحرف السبعةِ، فلزم علينا أَنْ نفهمَ المراد بالحروف مِن خلال لغة العرب الفصيحة الواضحة الظاهرة التي تكلمت بها نصوص الإسلام، مع الالتزام بظاهر لغة العرب دون تأويلٍ؛ إلا لقرينةٍ تُخْرِجنا من الظاهر الصريح الواضح إلى غيره.. لأَنَّه لابد وأَنْ نرجع إلى اللغة التي نزل بها النص عندما لا نجد تفسيرًا للنصِّ من خلال النصِّ، ففي عدم التفسير إحالةٌ على المعهود المعروف مِن لغةِ العرب، وهي التي فَهِم منها عُمَرُ رضي الله عنه معنى الأحرف السبعة الموجودة في الحديث؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد خاطبَ بها عُمر وغيره، ولم يُفَسِّر المراد من الأحرف السبعة؛ فدلَّ ذلك على أنَها كانت معروفة ومفهومة لديهم من لُغَة العرب الظاهرة الواضحة..

وهذا يؤكد أنها ليست هي ((سبع لغات)) كما سبق في القول الأول؛ لأن تأويلها بـ (سبع لغات) خروجٌ عن ظاهر اللفظ لغةً إلى معنًى آخر يحتاج في إثباته إلى قرينة، ولا قرينة هنا تؤيِّد الخروج عن الظاهر إلى التأويل، كما ترى؛ لأنَّ كلا الْمُخْتَلِفَيْن هنا (عُمر وهشام) كانا يتبعان لغةً واحدةً، وقد نَبَّه على ذلك ابنُ عبد البر وغيره..

إِذن ما المراد بالحرف هنا؟
المراد بالحرفِ هنا: القِراءة التي تُقرأُ على أَوجُه، هذا ما نجده في لغةِ العرب، مختصًّا بموضوعنا، ويُطلق الحرف أيضًا على الجهةِ والطَّرَف، كما يطلق على حَرْفِ الهجاء المعروف، وله إطلاقات أخرى، لكن الذي يهمنا هنا معناه الخاص بموضوعنا في الأحرف السَّبْعة.

((قال الخليل بن أحمد: معنى قوله سبعة أحرفٍ: سبع قراءات. والحرف هاهنا القراءة))؛ نقَلَهُ ابنُ عبد البر في ((التمهيد)) (8/274).

وحكى ابنُ منظور في مادة ((حرف)) هذا المعنى عن ابن سيدة أيضًا.

وقال الأزهري: ((وكلُّ كلمة تُقْرَأُ على الوجوه مِن القرآن تُسَمَّى حَرْفاً، تقول: هذا في حَرْف ابن مسعود؛ أَي: في قراءةِ ابن مسعود))أهـ

وفي ((الْمُغْرِب في ترتيب الْمُعْرِب)) للمطرز (1/196): ((وأما قوله: (نزَل القرآن على سبعة أحرفٍ) فأحسنُ الأقوال أنها وجوه القراءة التي اختارها القُراء، ومنه فلان يقرأُ بحرفِ ابنِ مسعود))أهـ

قال ابن حجر: ((قَوْله : (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ)؛ أَيْ: مِنْ الْمُنْزَل. وَفِيهِ إِشَارَة إِلَى الْحِكْمَة فِي التَّعَدُّد الْمَذْكُور, وَأَنَّهُ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى الْقَارِئ, وَهَذَا يُقَوِّي قَوْل مَنْ قَالَ: الْمُرَاد بِالأَحْرُفِ تَأْدِيَة الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ الْمُرَادِف وَلَوْ كَانَ مِنْ لُغَة وَاحِدَة؛ لأَنَّ لُغَة هِشَام بِلِسَانِ قُرَيْش وَكَذَلِكَ عُمَر, وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدْ اِخْتَلَفَتْ قِرَاءَتهمَا. نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ اِبْن عَبْد الْبَرّ, وَنَقَلَ عَنْ أَكْثَر أَهْل الْعِلْم أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَاد بِالْأَحْرُفِ السَّبْعَة)).

وقد مضى كلام ابن عبد البر بنصِّه قبل قليل في التعقيب على القول السابق، فلا داعي لإعادته هنا.

وإلى هذا ذهب الطحاوي وغيره أيضًا كما مضى.

ومما يُبَيِّن ذلك: قول ابن مسعود: ((إِنِّي قد سمعتُ الْقَرَأَةَ فوجدتُهم متقاربين فاقرأُوا كما عُلِّمْتِمْ، إنما هو كقولِ أَحدِكم: هَلُمَّ وتَعَالَ وأَقْبِلْ)).

وقولُ ابن مسعودٍ هذا ذكره ابن حجر وغيره مُعَلَّقًا بدون إسناد، وقد أسندهُ الطبري في ((التفسير))، وغيره، بإسنادٍ صحيحٍ عنه.

وهذا القول يوافق ظاهر الحديث السابق في قصة عُمَر مع هشام رضي الله عنهما، واختلافهما في القراءة، رغم أنهما يتبعان لغةً واحدةً، وكذا ينتظم أكثر الأقوال الأخرى، ولا يعارضها.

لأَنَّ اللفظ المرادف الدالَّ على المعنى مع اختلاف اللفظ: ينتظم الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث والتصريف والإعراب وغير ذلك من الوجوه التي ذكرها جماعةٌ من العلماء، فترجع إليه عدة أقوالٍ مِن أقوال العلماء في هذا الباب.

ومِمَّا يمكن إرجاعه له مثلاً: قول ابن قتيبة، ثم تنقيح الرازي له وزيادته عليه، وهو الرأي الذي انتصر له الزرقاني في ((المناهل))، وقد ذكره ابن حجر بشيءٍ من التعقيب، فأردتُ أن أنقله مِن عنده.

قال ابن حجر: ((وَقَدْ حَمَلَ اِبْن قُتَيْبَة وَغَيْره الْعَدَد الْمَذْكُور عَلَى الْوُجُوه الَّتِي يَقَع بِهَا التَّغَايُر فِي سَبْعَة أَشْيَاء: الأَوَّل: مَا تَتَغَيَّر حَرَكَته وَلا يَزُول مَعْنَاهُ وَلا صُورَته, مِثْل: {وَلا يُضَارّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيد} بِنَصْبِ الرَّاء وَرَفْعهَا. الثَّانِي: مَا يَتَغَيَّر بِتَغَيُّرِ الْفِعْل مِثْل: (بَعُدَ بَيْن أَسْفَارنَا) وَ {بَاعِدْ بَيْن أَسْفَارنَا} بِصِيغَةِ الطَّلَب وَالْفِعْل الْمَاضِي. الثَّالِث: مَا يَتَغَيَّر بِنَقْطِ بَعْض الْحُرُوف الْمُهْمَلَة مِثْل: (ثُمَّ نُنْشِرُهَا) بِالرَّاءِ وَالزَّاي. الرَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ حَرْف قَرِيب مِنْ مَخْرَج الْآخَر مِثْل: {طَلْح مَنْضُود}، فِي قِرَاءَة عَلِيٍّ: (وَطَلْع مَنْضُود). الْخَامِس: مَا يَتَغَيَّر بِالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِير مِثْل: {وَجَاءَتْ سَكْرَة الْمَوْت بِالْحَقِّ}، فِي قِرَاءَة أَبِي بَكْر الصَّدِيق وَطَلْحَة بْن مُصَرِّف وَزَيْن الْعَابِدِينَ: (وَجَاءَتْ سَكْرَة الْحَقّ بِالْمَوْتِ). السَّادِس: مَا يَتَغَيَّر بِزِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَان كَمَا تَقَدَّمَ فِي التَّفْسِير عَنْ اِبْنِ مَسْعُود وَأَبِي الدَّرْدَاء: (وَاللَّيْل إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَار إِذَا تَجَلَّى وَالذَّكَر وَالْأُنْثَى)، هَذَا فِي النُّقْصَان, وَأَمَّا فِي الزِّيَادَة: فَكَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِير {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَب}، فِي حَدِيث اِبْنِ عَبَّاس: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ, وَرَهْطك مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ). السَّابِع: مَا يَتَغَيَّر بِإِبْدَالِ كَلِمَة بِكَلِمَةٍ تُرَادفهَا مِثْل: {الْعِهْن الْمَنْفُوش}، فِي قِرَاءَة اِبْنِ مَسْعُود وَسَعِيد بْن جُبَيْر: (كَالصُّوفِ الْمَنْفُوش).

وَهَذَا وَجْهٌ حَسَن؛ لَكِنْ اِسْتَبْعَدَهُ قَاسِمِ بْن ثَابِت فِي (الدَّلَائِل)؛ لِكَوْنِ الرُّخْصَة فِي الْقِرَاءَات إِنَّمَا وَقَعَتْ وَأَكْثَرهمْ يَوْمَئِذٍ لا يَكْتُب وَلا يَعْرِف الرَّسْم, وَإِنَّمَا كَانُوا يَعْرِفُونَ الْحُرُوف بِمَخَارِجِهَا. قَالَ: وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ الْحُرُوف الْمُتَبَايِنَة الْمَخْرَج الْمُتَّفِقَة الصُّورَة مِثْل: (نُنْشِرُهَا) وَ (نُنْشِرُهَا) فَإِنَّ السَّبَب فِي ذَلِكَ تَقَارُب مَعَانِيهَا, وَاتَّفَقَ تَشَابُه صُورَتهَا فِي الْخَطّ.

قُلْت [القائل ابن حجر]: وَلا يَلْزَم مِنْ ذَلِكَ تَوْهِين مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ اِبْنُ قُتَيْبَة, لاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الانْحِصَار الْمَذْكُور فِي ذَلِكَ وَقَعَ اِتِّفَاقًا, وَإِنَّمَا اِطَّلَعَ عَلَيْهِ بِالاسْتِقْرَاءِ, وَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة مَا لا يَخْفَى. وَقَالَ أَبُو الْفَضْل الرَّازِيَُّ: الْكَلام لا يَخْرُج عَنْ سَبْعَة أَوْجُهٍ فِي الاخْتِلاف: الأَوَّل: اِخْتِلاف الأَسْمَاء مِنْ إِفْرَاد وَتَثْنِيَة وَجَمْع أَوْ تَذْكِير وَتَأْنِيث. الثَّانِي: اِخْتِلاف تَصْرِيف الأَفْعَال مِنْ مَاضٍ وَمُضَارِع وَأَمْر, الثَّالِث: وُجُوه الإِعْرَاب, الرَّابِع: النَّقْص وَالزِّيَادَة, الْخَامِس: التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير, السَّادِس: الإِبْدَال, السَّابِع: اخْتِلاف اللُّغَات كَالْفَتْحِ وَالإِمَالَة وَالتَّرْقِيق وَالتَّفْخِيم وَالإِدْغَام وَالإِظْهَار وَنَحْوِ ذَلِكَ. قُلْت [القائل ابن حجر]: وَقَدْ أَخَذَ [يعني الرازي] كَلامَ ابْنِ قُتَيْبَة وَنَقَّحَهُ))أهـ

والرازي لم يُنَقِّح كلام ابن قتيبة فقط، وإنما زاد عليه اختلاف اللهجات أيضًا.

لكن لا يَغِيِّبَنَّ عن بالك أَنَّ توهين قاسم بن ثابت لكلام ابن قتيبة وجيهٌ جدًَّا من حيثُ حصر الأحرف السَّبْعَة في الوجوه التي ذكرها ابن قتيبة؛ لأنَّه بإمكان غيره أن يزيد عليها أو ينقص منها، كما زاد الرازي عليه مثلاً اختلاف اللهجات في النطق باللفظِ الواحدِ، وقد اعترف ابن قتيبة بهذا الاختلاف وكذا ابن الجزري، لكنهما لم يعتبراه من وجوه الأحرف السَّبْعَةِ، في الوقت الذي اعترفا بتأثيرِه على النطق باللفظ الواحد.

بل لم يذكر ابن قتيبة غير هذا الفارق في أول ((المشكل)) كما سبق النَّقْل عنه قبل قليل، وحصر غيره الأحرف السَّبْعة في اختلاف اللهجات فقط..

ولا يَغِيْبَنَّ عنك أنَّ القرآن قد نزل على أُمَّةٍ أُمِّيَّة لا تقرأ ولا تكتب، وإنما كانت تعرف الفصاحة والبلاغة نطقًا وسماعًا، فهي إنما تعرف مخارج الحروف لا رسمها وطريقة كتابتها، هذا هو الأصل في الأمة آنذاك، ولذا فقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم التخفيف مرارًا عن هذه الأمة الأُمِّيَّة، حتى أوصلها إلى سبعةِ أحرُفٍ يمكن للقارئ أن يقرأ بها، يعني سبع وجوهٍ يمكن للقارئ أن يَقْرَأَ بها..

هذا هو المتبادر الظاهر في معنى الأحرُف من لغة العرب، ثم هو الموافق لظاهر الحديث كما سبق، وإليه ذهب الخليل بن أحمد والطحاوي وابن عبد البر وغيرهم كما سبق.

وهذه الوجوه: يمكن أَنْ تكون اختلافًا في اللهجة، أو في التصريف، أو الإعراب، أو التذكير والتأنيث، وغير ذلك من الوجوه المقبولة مِمَّا ذَكَرَهُ العلماء من حيثُ تحليل اللفظ والنَّظَر إلى كيفية الاختلاف بين اللفظين المقروء بهما..


ولكن ينبغي التفريق هنا بين أمرين:

الأول: بين الأحرف السبعة الواردة في الحديث.

الثاني: وجوه اختلاف الأوجه السبعة، وكيفية الخلاف فيما بينها.

فالثاني هنا مترتِّبٌ على الأول، وأثرٌ له، وليس سابقًا عليه، ولاشكَّ أنَّ حصر الأحرف السبعة في وجوه اختلافها خطأٌ عظيم؛ لأنَّه يعني الخلط بين الأحرف السبعة نفسها، وبين الأثر المترتِّب عليها، من البحث في وجوه اختلافها وفائدتها وكيفيتها وغير ذلك، فهذه الأبواب كلّها آثارٌ مترتِّبةٌ على وجود الأحرف السبعةِ، وليست فصولاً ولا مُقَدِّماتٍ سابقةٍ على وجودها..

نعم وليس تفسيرًا للأحرف السبعة؛ لأنَّه لابد في التفاسير والحدود في مثل هذا أن تكون شاملةً لكافة وجوه الْمُفَسَّرِ وبيان جوانبه؛ وهذا ما تفتقده التفسيرات آنفة الذِّكْر وكثير مما يشبهها؛ لخلوِّها عن تعريف الأحرف السبعة على الحقيقةِ..

ومِن هنا نستطيع أن نقول: إِنَّ تعريف الأحرُف السبعة والمراد منها لم يُخْتَلَف فيه على الحقيقةِ، وإِنَّما وردَ الاختلاف في كيفية التفريق بين الأحرُف السبعة، وما يميِّز كلَّ حرفٍ منها عن مثيلِه في موضعٍ بعينه، فالأول مُذكَّر والثاني مؤَنَّث، أو الأول جمع والثاني مُفْرد، أو الأول مرفوع والثاني منصوب، وهكذا سائر وجوه التفريق والتمايز بين الأحرف السبعة..

ومِمَّا يُؤْسَفُ له حقيقةً أن تنتقلَ المعركة في التفريق بين الأحرُف أو التمييز بينها في موضعٍ بعينه إلى مجال بيان الأحرف السبعة تعريفًا من حيثُ المراد منها، بحيثُ صار الخلاف محصورًا وعبر سنواتٍ في أثرٍ من آثار الأحرف السبعة، في الوقت الذي اختفى فيه البحث في تعريف الأحرف السبعة إلا نادرًا!!

وهذا الذي ذكرتُه لك هو خلاصة ما مَنَّ الله عز وجل به على العبد الضعيف كاتب هذه السطور، وآمل أَنْ يفتح الله عز وجل القلوب والأبصار له فتعي ما أردتُه وتنصح فيه..

ويمكنني أَنْ أُلَخِّصَ لك نتائجُ ما سبق هنا في الآتي:

أولاً: أن الراجح في تعريف الأحرف السبعة هو: سبعة وجوه أو سبعة قراءات بألفاظٍ مختلفةٍ للمعنى الواحد، أو هو تأدية المعنى الواحد بأكثر من لفظٍ، نحو أَقْبِلْ، هَلُمَّ، تَعَالَ.

ثانيًا: اختُلِفَ في صورة المخالفة والتمييز بين وجوه الأحرف السَّبْعَةِ على وجوهٍ يمكن الجمع بينها، لكنها جميعًا ليست تعريفاتٍ للأحرفِ السبعة، وإنما هي أثرٌ من آثارِ البحث في الأحرف السبعة، وتمييز بعضها مِن بعضٍ..


لكن لابد من التنبيه هنا على أمور:

الأول: أَنَّ هذه الوجوه هي بمثابة المترادفات لمعنًى واحدٍ، وليست اختلافًا حقيقيًّا أو اختلاف تضادّ، وإنما هي اختلاف تنوُّع في اللفظِ للتعبيرِ عن مَعْنًى واحدٍ، زيادةً في البلاغة والفصاحة وتقرير المعجزة القرآنية..

الثاني: أنها وحي، وليست من اختيار البشر، بل هي جزءٌ مِن الوحي، تلقَّاها النبي صلى الله عليه وسلم وحيًا، وعَلَّمَها أصحابُه صلى الله عليه وسلم، فبلَّغوها مَنْ بعدَهم..

الثالث: أنها متفرِّقة في القرآن الكريم كله، ولا يعني نزوله على سبعة أحرفٍ أن كل كلمة منه تُقْرأ على سبعةِ أوجهٍ، فهذا مما لم يقل به أحدٌ قط، وقد أنكره العلماء ونبهوا عليه، وقد مضى تنبيه أبي عبيد وابن عبد البر وغيرهما على هذا.

الرابع: لا يصح اعتقاد الزيادة في القراءة على سبعةِ أوجهٍ؛ لأنَّه لم يزد في الحديث على سبعةٍ، وما ذكروه في نحو {أُفٍّ} زيادةً على ثلاثين وجهًا كما حُكِي عن الرماني فلا يصح، فإما أنْ يعود إلى سبعةِ أوجهٍ، أو يُؤْخَذ منه الأوجه السبعة الموافقة للمصحف، ويُتْرَك ما سواها.

الخامس: أَنَّ الأحرف السبعة شيءٌ والقراءات السبعة التي صنَّفها بعض القُرَّاء شيءٌ آخر، وليسا واحدًا، وقد نَبَّه على ذلك الجماعات من أهل العلم قديمًا وحديثًا، كابن عبد البر وابن حجر وغيرهما..

وقد صنَّفَ ابن مجاهد والشاطبي وغيرهما قراءة سبعةً من الأئمة، ففهم بعضهم من ذلك أنها الأحرف السبعة، أو أنه لا يصح غيرها، وليس كذلك، بل ربما كان في القراءات العشر ما هو أكثر شهرةً مما ذكره ابنُ مجاهد وغيره في تصنيفهم قراءات سبعة من الأئمة، ومَرَدّ ذلك كله على الِعلْم والاطلاع وطريقة التصنيف، وليس المراد لابن مجاهد ولا الشاطبي ولا غيرهما من أئمة القراءات توهين قراءة غير هؤلاء الأئمة السبعة الذين صنَّفوهم، وإنما المراد جمع قراءات سبعة أئمة، كما جمع غيرهم قراءات عشرة أئمة، لكنها جميعًا سواءٌ كانت لسبعةٍ أو لسبعين أو لسبعمائة لا تخرج عن الأحرُفِ السَّبْعَة التي نزل بها القرآن الكريم..

فالحديث يتكلَّم عن وجوهٍ سبعةٍ في القراءة، وأما ابنُ مجاهد ونحوه فمرجع الكلام عندهم عن سبعة أئمة..

وبعبارةٍ أخرى: الحديث يتكلم عن وجوهٍ قرآنيةٍ، وابن مجاهد وأمثاله اختاروا سبعةَ أئمةٍ مِمَّن نقلوا هذه الوجوه القرآنية، فقيَّدوا ما نقلوه..

فالأئمة السبعة المذكورون عند ابن مجاهدٍ مثلاً هم من نَقَلَةِ الوجوه القرآن الذي نزل على سبعة أحرُفٍ، كما أن غيرهم من العشرة أو غيرهم قد شاركهم في نقل القرآن الكريم، وإِنَّما عُنِيَ العلماء بهؤلاء الأئمة نظرًا لدقَّتِهم وعنايتهم وتفرُّغهم لإتقان النَّقْل والرواية والسماع للقرآن الكريم.

فهذا كما ترى ليس اختلافًا ولا ترادفًا، وإنما هو قرآنٌ نزل على سبعةِ أحرُفٍ، ونقلَهُ الكافَّةُ من الناس إلى مَنْ بعدَهم، فبرزَ من بين النَّقَلَةِ أئمة كبار، اختار ابنُ مجاهدٍ مثلاً سبعةً منهم، فصنَّفَ رواياتهم وسماعهم في كتابه، بينما اختار آخرون غير زيادة على ما اختاره ابنُ مجاهدٍ من أئمةٍ، لكنَّهم جميعًا يدورون في فلك نقل القرآن الكريم الذي نزل على سبعةِ أَحْرُفٍ..

المستشار سالم عبد الهادي
09-04-2005, 01:36 AM
(9)

وبهذا القَدْر نكتفي في الكلام عن الأحرف السَّبعةِ، والقراءات القرآنية.. إِذْ لم يكن قصدنا الاستفاضة في هذا الموضوع، وإنما أردنا الردَّ على مَنْ لم يفهم أبعاد المعجزة القرآنية، فزعم أن اختلافات القراءات من جِنس التحريف والتَّخْطِئَةِ للقرآن الكريم، (وقد سبق كلامه).. فبان مِمَّا سبق أنه قد تكلَّمَ بغير علمٍ ولا هدًى، وإنما حطبَ بليلٍ..
كما سبق بحمد الله عز وجل أَنَّ اختلاف القراءات ناتجٌ عن وحي أَنْزَلَهُ الله عز وجل على نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، وَبَلَّغَهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم لأصحابهِ، فنقَلُوه إلى مَنْ بعدهم، وهلم جرّا..
ثم هو جزءٌ من المعجزة القرآنية الخالدة..
وقد مضى بيان هذا وغيره بحمد الله عز وجل، فلا نُعيده.




....... وإلى لقاءٍ جديدٍ قادمٍ في موضوعنا هذا إن شاء الله تعالى....

المستشار سالم عبد الهادي
09-08-2005, 11:23 PM
تذكير بالعناوين السابقة في الموضوع

ماذا وراء مقارنة د.موراني
بين القرآن وبين الإنـجـيـل (الحالي)؟


إهانات د.موراني المتكررة للقرآن، وانطلاقه في كلامه عنه من أسسٍ دينيةٍ

هل يُعَدّ د.موراني مبشِّرًا نصرانيًّا؟!

وما هي أوصاف هؤلاء المبشِّرين لدى د.موراني؟ وهل تعرفها وتبينها لنا أيها الكاتب؟

المستندات

مقدَّسٌ حتى إشعار آخر!!
الإنجيل في نظر د.موراني
وماذا يريد من القرآن؟

مَنْ يملك حق تحقيق القرآن؟!

شهادة من ألماني

إضافة مهمة..

هكذا يُبْطِلُونَ المعجزةَ القرآنية ويهدمون الإسلام!!
فهل يقدرون على مثلِه؟!

فاصلٌ قصير

سَـمَــاعِــيٌّ
مِن البدايةِ إلى النهايةِ

طبقات القراء

لا تأخذوا القرآنَ مِنْ مُصْحَفِيٍّ

أقوال مأثورة

ليست بأول خصالكم ولا آخرها!!


الانتكاسة المبكرة!!


التحقيق في قضية التحقيق؟


قفوا لينصح لكم إبليس!!
ويُصَفِّق موراني!!


إلى القرآن من جديد


التدوين الكتابي للقرآن



النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بكتابة القرآن فور نزوله



دروسٌ مستفادة



الدَّرْسُ الأخير!!


ما بينَ موراني وجلكرايست!!
شُبْهَةٌ لا أساس لها!!


فماذا لديك أيها التاريخ؟

مصحفٌ واحدٌ
وترتيبٌ واحدٌ
لا غير

كتابٌ إلهيٌّ واحدٌ
نزل مفرَّقًا
ثم جَمَعَهُ الله عز وجل
كما كان مجموعًا مِن قبلُ في اللوحِ المحفوظِ


القرآن كلام الله عز وجل

توضيح حول المنهج

السماع والكتابة حسب الطريقة الأولى

وبناءً عليه
ليست للمصحف نُسَخًا جديدة

مثالٌ تطبيقيٌّ

قضية القراءات

أولاً: جوهر المسألة، وفرقٌ مهمٌّ.

ثانيًا: مُعْجِزَةُ القراءات.

فأَمَّا التي من جهةِ العقلِ

وقراءات القرآن جزءٌُ مِن القرآن

فأما التي من جهةِ الأثر الوارد

ضرورة اختلاف القراءات في قيام الْمُعْجِزَةِ

تَرْكُ كفار العرب الاعتراضَ على القرآن
باختلافِ القراءات
ودلالة ذلك

نزول القرآن على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ

معنى الأَحْرُفِ السَّبْعَةِ

المستشار سالم عبد الهادي
09-22-2005, 10:21 PM
إلى المدينة من جديد

وقد كُنَّا في غِنًى عن الرحيل للمدينة مرةً أخرى، واستنطاق التاريخ بمزيدٍ مِمَّا لديه، فقد كفى وشفى، ولم يكن علينا من بأسٍ لو تركناه يستريح ولو لبعض الوقت، لأَنَّا مِن الآن فصاعدًا لن نترك التاريخ، فربما أجهدناه في كثيرٍ من الأمور المتعلِّقَةِ بصدر الإسلام...
لكن لا مانع من المرور في الختام على أهل المدينة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، لننظر:

ماذا لديك أبا بكرٍ الصديق
رضي الله عنك؟
وماذا لديك عثمان رضي الله عنك؟

يُحَدِّثُنا التاريخُ عن ذلك فيقول: تُوفِّي النبي صلى الله عليه وسلم، تاركًا القرآن الكريم مكتوبًا في الأدوات المتاحة للكتابة آنذاك؛ كالعظام واللخاف والجلود، ونحوها.. وسرعان ما تولَّى أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه، صاحب النبي صلى الله عليه وسلم، ورفيقه في هجرته المباركة من مكة للمدينة = سرعان ما تولَّى رضي الله عنه خلافة المسلمين، خلفًا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان عليه أن يقود المسلمين إلى بَرِّ الأمان دائمًا، وأن يحفظهم في كل أمورهم، خاصةً أمر دينهم الذي به حياتهم، وعليه تقوم دنياهم وأخراهم..
لكن لم يُمْهَل خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إِذْ سرعان ما دخل في حروبٍ مع المرتدين وغيرهم، حصدتْ هذه الحروب جماعةً من حُفَّاظ القرآن الكريم، فهرعَ عُمَر رضي الله عنه إلى أبي بكرٍ يطلب جمع القرآن الكريم المسموع من النبي صلى الله عليه وسلم والمكتوب بحضرتِه وتحت رعايته وسمعه وبصره، فالمادة متوفِّرة، والأمان هنا حاصل بوجود كافة القرآن الكريم، والقَرَأَة متوافرةٌ لم تَمُتْ جميعها بَعْدُ، فالحال يسمح بالجمع الآن، قبل أن يأتي يومٌ يُصْبِح الناسُ فلا يجدون قارئًا حضر وقرأ على النبي صلى الله عليه وسلم، أو كاتبًا كتب بأمر النبي صلى الله عليه وسلم وتحت سمعه وبصره..
هنا بدأتْ المشاورات لاستجلاء حُكْم المسألة شرعًا وعقلاً، ثم بدا للجميع التوافق بين النقل والعقل، بين الوحي المنزّل وبين العقل، فتوكَّلوا على الله عز وجل وبدأَ العمل الجاد..
نعم؛ العقل يقول: القرآء يُحْصَدون في المعارك الواحد تلو الآخر؛ لكن البقية الباقية منهم متوافرةٌ بحمد الله عز وجل، والحضور كثرة لا حصر لهم، فالعوامل المساعدة على تنفيذ المهمة متاحةٌ الآن لا غضاضة فيها، والأمان هنا قائمٌ ينادي: أَن اجمعوا القرآن الآن في مصحفٍ واحدٍ، خشية أن يموت الجيل الشاهد لنزوله، ويرحل كُتَّاب الوحي، أو يهلك الحَفَظَة الذين أخذوه غضًّا طريًّا عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، ويخلف بعد ذلك جيل لا علم له بما جرى، لم يحضر شيئًا، ولا شاهد أمرًا ولا نهيًا، فيقول القائل، ويشكِّك المشكك، وربما صَدَّقَهُ بعضُ الضِّعاف، فتنفتح على المسلمين فتنٌ لا حصر لها..

كلا أيها العقل؛ لن نفعل شيئًا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم..

تردَّدَ أبو بكرٍ رضي الله عنه في أول الأمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!
ثم بدا لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يوافق على جمع القرآن المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، والمسموع منه مباشرةً، لما في ذلك من المصلحة العظمى في حِفْظِ وصيانةِ القرآن الكريم..
فشرح الله عز وجل صَدْرَ أبي بكرٍ لهذا العمل، فبدأهُ..

لكنَّه لم يبدأ ارتجالاً، ولا صار الموضوع بلا ضابطٍ؛ وإِنِّما اشترطوا أن يقوم بذلك رجلٌ من كُتَّاب الوحي اللذين سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عنه مباشرةً، بلا وسائط، ثم عليه أن ينسخَ ما يكتبه من تلك النُّسَخ التي كُتِبَتْ بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وتحت سمعه وبصره، كما سبق بيان ذلك من قبلُ..
فتم اختيار زيد بن ثابت الشاب اليقظ الفطن، وهو أَحَد كُتَّاب الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخذَ زيدٌ في عملية النَّسْخ، فنسَخ ما في اللخاف والأكتاف وغيرها من أدوات الكتابةِ في صُحُفٍ، ثم جمع هذه الصُّحُف عند أبي بكرٍ رضي الله عنه، ثم انتقلت بعد وفاته إلى عمر، ثم آلتْ بعد وفاتِه إلى أمِّ المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنهما، حتى بَعَثَ إليها عثمان بن عفان رضي الله عنه، فأخذ هذه النُّسَخ منها، فنسخها في مصاحف، ثم أعادها إليها ثانيةً..

ويلاحظ القارئ الكريم هنا أن عمل أبي بكرٍ ثم عمل عثمان رضي الله عنهما لم يتجاوز في الحقيقة نسخ ما كان مكتوبًا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم، بأمرِه وتحت سمعه وبصره.

ولذا رأينا ابن الجوزي رحمة الله عليه يقول في كتابه ((تلبيس إبليس)) (ص: 396): ((إِنَّ أصل العلوم القرآن والسنة، فلما عَلِمَ الشرع أَنَّ حفظهما يصعُب أَمَرَ بكتابةِ المصحفِ وكتابةِ الحديث، فأَمَّا القرآن: فإِنَّ رسولَ الله كان إذا نزلتْ عليه آيةٌ دَعَىَ بالكاتبِ فَأَثْبَتَهَا، وكانوا يكتبونها في العُسُبِ والحجارة وعِظام الكَتف، ثم جَمَعَ القرآنَ بعدَهُ في المصحفِ أبو بكرٍ صونًا عليه، ثم نَسَخَ مِن ذلك عثمانُ بن عفان رضي الله عنه وبقيةُ الصحابة، وكل ذلك لحفظِ القرآن لِئَلاَّ يَشِذّ منه شيءٌ))أهـ

وإلى نحو هذا أشار جماعةٌ من المصنفين والمفسرين والمقرئين؛ منهم الحاكم والخطابي وأبي شامة والآلوسي وغيرهم.

ويقول البيهقي في ((شعب الإيمان)) (171): ((وتأليف القرآن على عهدِ النبي صلى الله عليه وسلم. رُوِّينا عن زيد بن ثابتٍ أَنَّهُ قال: (كُنَّا عندَ رسولِ الله صلى الله عليه و سلم نُؤَلِّفُ القرآنَ مِن الرِّقَاعِ).
وإِنِّما أراد ـ والله تعالى أعلم ـ تأليف ما نَزَلَ مِن الآيات المتفرقة في سورَتِها وجمعها فيها بإشارةِ النبيِّ صلى الله عليه و سلم، ثم كانت مُثْبَتَة في الصدور مكتوبة في الرقاع واللّخُف والعُسُب، فَجُمِعَتْ منها في صُحُفٍ بإشارةِ أبي بكر وعُمر وغيرهما من المهاجرين والأنصار، ثم نُسِخَ ما جُمِعَ في الصُّحُفِ في مصاحف بإشارةِ عثمان بن عفان على ما رسم المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وروينا عن سُوَيْد بن غَفَلَة أَنَّهُ قال: قال علي بن أبي طالب: يرحم الله عثمان! لو كنتُ أَنا لصَنَعْتُ في المصاحف ما صَنَعَ عثمان.
و قد ذكرنا في كتاب المدخل وفي آخر كتاب دلائل النبوة ما يُقَوِّي هذا الإجماع ويدل على صحته))أهـ

ويلاحظ في هذه المرحلة أن زيدًا وغيره من الصحابة الكرام الذين قاموا على جمع القرآن الكريم رضي الله عنهم قد اعتمدوا على السماع والكتابة معًا، وجمعوا بينهما، فاشترطوا اقتران السماع والكتابة وتلازمهما في المجموع، وهذا من أعلى درجات التوثيق التي يمكن الوصول إليها، وقد أتاحها الله عز وجل لكتابِه صيانةً له، وحمايةً لجنابه الشَّريف..

ولذا رأينا زيد بن ثابتٍ رضي الله عنه يفقد آيةً أثناء جمعه للقرآن زمن أبي بكرٍ رضي الله عنه، وأخرى زمن عثمان، لا يجدهما أمامه في المكتوب بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم، لكنهما معروفتان عنده، لا شك فيهما؛ لأنه سمعهما هو وغيره من النبي صلى الله عليه وسلم.....
ومع أنهما سُمِعَا من النبي صلى الله عليه وسلم، وأُخِذا عنه بلا واسطةٍ إلا أَنَّهُ لم يثبتهما حتى بحث عنهما ووجدهما كتابةً أيضًا..
فلم يعتمد الكتابة وحدها، ولا السماع وحده، وإن كان كل واحدٍ من الكتابة أو السماع يصح الاعتماد عليه بلا غضاضة؛ لكنَّ الصحابة الكرام رضي الله عنهم أرادوا بلوغ النهاية في توثيق القرآن الكريم وصيانته والحفاظ عليه، فالحمد لله تعالى..

وقد أَشَرْتُ إلى كثيرٍ مِن هذه المباحث فيما سبق من مداخلات هذا الموضوع، وبقي عليَّ الآن أن أذكر بعض الروايات الواردة في موضوع مداخلتنا هذه..
وهي باختصار كالتالي:

روى البخاري رحمه الله تعالى (4986) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ مَقْتَلَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عِنْدَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِي فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدْ اسْتَحَرَّ يَوْمَ الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِالْقُرَّاءِ بِالْمَوَاطِنِ فَيَذْهَبَ كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ لِعُمَرَ: كَيْفَ تَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ عُمَرُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِذَلِكَ وَرَأَيْتُ فِي ذَلِكَ الَّذِي رَأَى عُمَرُ، قَالَ زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ وَقَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَتَبَّعْ الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، فَوَاللَّهِ لَوْ كَلَّفُونِي نَقْلَ جَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ مَا كَانَ أَثْقَلَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَنِي بِهِ مِنْ جَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلُونَ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ أَبُو بَكْرٍ يُرَاجِعُنِي حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِي لِلَّذِي شَرَحَ لَهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ أَجْمَعُهُ مِنْ الْعُسُبِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ، حَتَّى وَجَدْتُ آخِرَ سُورَةِ التَّوْبَةِ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} حَتَّى خَاتِمَةِ بَرَاءَةَ، فَكَانَتْ الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ عِنْدَ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ))أهـ

وروى البخاري أيضًا (4987 - 4988) أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: ((إِنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ قَدِمَ عَلَى عُثْمَانَ وَكَانَ يُغَازِي أَهْلَ الشَّأْمِ فِي فَتْحِ إِرْمِينِيَةَ وَأَذْرَبِيجَانَ مَعَ أَهْلِ الْعِرَاقِ، فَأَفْزَعَ حُذَيْفَةَ اخْتِلافُهُمْ فِي الْقِرَاءَةِ، فَقَالَ حُذَيْفَةُ لِعُثْمَانَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَدْرِكْ هَذِهِ الأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ يَخْتَلِفُوا فِي الْكِتَابِ اخْتِلافَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَأَرْسَلَ عُثْمَانُ إِلَى حَفْصَةَ أَنْ أَرْسِلِي إِلَيْنَا بِالصُّحُفِ نَنْسَخُهَا فِي الْمَصَاحِفِ ثُمَّ نَرُدُّهَا إِلَيْكِ، فَأَرْسَلَتْ بِهَا حَفْصَةُ إِلَى عُثْمَانَ، فَأَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ، وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ، فَفَعَلُوا حَتَّى إِذَا نَسَخُوا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ رَدَّ عُثْمَانُ الصُّحُفَ إِلَى حَفْصَةَ، وَأَرْسَلَ إِلَى كُلِّ أُفُقٍ بِمُصْحَفٍ مِمَّا نَسَخُوا وَأَمَرَ بِمَا سِوَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ أَوْ مُصْحَفٍ أَنْ يُحْرَقَ)).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ الزهري رحمه الله (أحد أئمة الحديث، وراوي الحديث الذي معنا): وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ سَمِعَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: ((فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا، فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}، فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ))أهـ

وعند البخاري أيضًا (4984) عنْ أَنَسِ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: ((فَأَمَرَ عُثْمَانُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنْ يَنْسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ لَهُمْ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي عَرَبِيَّةٍ مِنْ عَرَبِيَّةِ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهَا بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا))أهـ

وعند البخاري أيضًا (3506) عَنْ أَنَسٍ ((أَنَّ عُثْمَانَ دَعَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ وَسَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ فَنَسَخُوهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَقَالَ عُثْمَانُ لِلرَّهْطِ الْقُرَشِيِّينَ الثَّلاثَةِ: إِذَا اخْتَلَفْتُمْ أَنْتُمْ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فِي شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فَاكْتُبُوهُ بِلِسَانِ قُرَيْشٍ فَإِنَّمَا نَزَلَ بِلِسَانِهِمْ فَفَعَلُوا ذَلِكَ))أهـ

وعند البخاري أيضًا (4784) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ قَالَ: ((لَمَّا نَسَخْنَا الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ كُنْتُ كَثِيرًا أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا لَمْ أَجِدْهَا مَعَ أَحَدٍ إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}))أهـ

وعند البخاري أيضًا (4049) عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: ((فَقَدْتُ آيَةً مِنْ الأَحْزَابِ حِينَ نَسَخْنَا الْمُصْحَفَ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَالْتَمَسْنَاهَا فَوَجَدْنَاهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيِّ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} فَأَلْحَقْنَاهَا فِي سُورَتِهَا فِي الْمُصْحَفِ))أهـ

وعند البخاري أيضًا (2807) أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ((نَسَخْتُ الصُّحُفَ فِي الْمَصَاحِفِ فَفَقَدْتُ آيَةً مِنْ سُورَةِ الأَحْزَابِ كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهَا فَلَمْ أَجِدْهَا إِلاَّ مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيِّ الَّذِي جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}))أهـ

وقولُ زيدٍ السابق: ((فأَلْحَقْنَاها في سورَتِها من المصحف)) يؤيد ما سبق تقريره من إلهية الترتيب القرآني، سورًا وآياتٍ، لا فرق.

وتدل السياقات السابقة أَنَّه استقرَّ في المصحف العثماني جميع ما ورد في السماع كما سبق، وقد حَضَرَ ذلك وعَايَنَهُ وسَمِعَ به حُفَّاظ القرآن وكَتَبَةُ الوحي مِمَّن كانوا أحياء حينئذٍ، وطار نبأُ المصحف في الأمصار، ولم يعترض أحدٌ عليه، ولا زاد فيه أحدٌ شيئًا، فدل ذلك كله على إجماع الصحابة الكرام، وغيرهم من المسلمين آنذاك على صحة المصحف العثماني، وشموله لجميع ما أُنْزِل على النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يفت المصحف المكتوب شيءٌ من المسموع أبدًا..
ثم أجمعت الأجيال المتلاحقة على هذا أيضًا، منذ أربعة عشر قرنًا، وإلى وقتنا هذا..
فصار المصحف المكتوب بيد المسلمين الآن قرينًا للسماع، يُعَضِّد كلٌّ منهما الآخر، ولا ينافيه أو يعارضه، يتعاونان في حِفْظِ القرآن على مرِّ الأزمان، مع احتفاظ السماع برئاسته وصدارته، واحتفاظ الكتابة بأهميتها ومنزلتها.

وقد مضت أدلة الاعتماد في نقل القرآن على السماع والحفظ لا الكتابة والمصاحف..

ويؤكد ذلك رجوع زيد بن ثابت إلى البحث عن الآيتين اللتان لم يجدهما أمامه في المكتوب حتى وجدهما كتابةً، وما دَلَّهُ على عدم وجودهما غير السماع، وقد صَرَّح هو نفسُه بذلك في قوله في كلٍّ منهما: ((كنتُ قد سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها))....
فهو يجمع وينسخ ما كان مسموعًا لديه سلفًا، فلم يكن يجمع أو ينسخ شيئًا جديدًا عليه يمكن أن يفوته في ذلك فائتٌ أو يشذ عليه شاذٌّ؛ وإنما كان ينسخ مسموعًا محفوظًا مستقرًّا في صدْرِه وصدور غيره من الصحابة الكرام رضي الله عنه..
فهو نسخٌ لمعلومٍ معروفٍ، وليس نسخًا لمجهولٍ، وشتَّان بين هذا وذاك عند العقلاء من الناس!!

وهذا كله يقطع بأمورٍ يقينيَّة على رأسها: القطع بأن القرآن قد وصلنا تامًّا غير منقوص بحمد الله تعالى؛ لإجماع المسلمين خلفًا بعد سلفٍ، وعلى توالي أربعة عشر قرنًا، على تمام القرآن الذي بأيدي المسلمين، وأنه نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، لم يُحَرَّف، ولم يدخله النقص، أو تُعَكِّره الزيادة.
وهذا كله مصداق تعَهُّد الله بحفظه، وإخباره بذلك في قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].

وكان بإمكاننا قبل ذلك وبعده أَنْ نُقَرِّرَ هذه الحقيقة اليقينية بناءً على الآية المذكورة، فهي كافية بحمد الله تعالى في تقرير تمام القرآن وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير.
ولكنا ذكرنا الأدلة المادية على حفظ القرآن وتمامه وكماله، وحفظ الله له من الزيادة والنقصان والتحريف والتغيير، وذلك من خلال النصوص الثابتة، التي شهد بصدقها التاريخ، وأَكَّدَها واقع النَّقَلَةِ، وتحدَّثَتْ عنها الأسانيد.
نعم؛ ذكرنا الأدلة المادية على ذلك من خلال الروايات والوقائع؛ لأنَّا نكتب للمؤمنين وغيرهم..
نعم؛ نكتب للمؤمنين الصادقين الموقنين بإخبار الله عز وجل في كتابه بحفظه..
كما نكتب في عالمٍ يموج بتيارات الكفر والإلحاد والملل المخالفة والمعادية للإسلام، ليرى هؤلاء وأولئك ما نكتبه، فيكون كالتذكرة للمؤمنين، والحجة على الكافرين..
نعم؛ نكتب لتقوم الحجة على الكافرين والمستشرقين وغيرهم من الطاعنين في القرآن الكريم بهذه التُّرَّهات التي ردد هذا المستشرق المدعو بـ ((موراني)) بعضًا منها، طعنًا في الدين، وحسدًا من عند أنفسهم، مع تغليفهم ذلك كله بغلاف العلم والبحث، بغرض تمرير ما يكتبونه، وتغريرًا وتدليسًا على القرَّاء!!

فهذه هي الأدلة المادية لما جرى وكان في واقعة تدوين القرآن الكريم سماعًا وحفظًا، وخطًّا وكتابةً..
وقد تضافرت جميعها والحمد لله على كمال القرآن ووصوله لنا كاملاً غير منقوص، وعلى أنه محفوظ عن الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف..
وبعبارة أخرى: فقد تضافرتِ الأدلةُ على أن القرآن الذي بأيدي المسلمين الآن هو نسخة طبق الأصل لما نزل به الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم.

المستشار سالم عبد الهادي
09-22-2005, 10:26 PM
وإلى هنا نضع القلم ((مع المستشرق موراني حول دعوى تحقيق القرآن واحتمال الزيادة والنقصان واختلاف الترتيب )).

وفي الختام أتقدم بخالص الشكر والعرفان لإدارة ((منتدى التوحيد)) التي أخذت على عاتقها نشر الموضوع وإتمام نشره، في الوقت الذي رفض غيرها مجرَّد الإعلان عنه عندهم!!
كما أتقدم بالشكر للقرَّاء الكرام الذين لاحقوني بالنصائح والملاحظات من خلال الرابط الآخر الملحق بهذا الموضوع في ((التعقيب على موضوع تحقيق القرآن)).
كما وننتهز الفرصة لتهنئة كافة المسلمين الكرام باقتراب حلول شهر رمضان المبارك.
وفقنا الله جميعًا لما يحبه سبحانه ويرضاه..
والحمد لله ربِّ العالمين.