المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان



elmorsy
06-04-2011, 09:13 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد فشل المفاوضات السلميه ..نلجاء إلى اللف والدوران وإستغلال صغرات القانون :)):..
أنا فقط أمزح ..
ولكن هذا فقط لتلبية طلب أحد الأخوة الكرام..

سيتم وضع الكتاب هنا كتابياً بواسطتى بنفس النمط ونفس كل ما هو موجود فى الكتاب بالظبط ..وهذا سيكون سبق لمنتدى التوحيد ..وحصرياً له بإذن الله

..وإيضاً حتى لا نسبب ضرراً لأحد..فالكتاب ايضاً موجود لشراءه ولم يتم تصويره حتى لايكون فى ذلك أى خرق لقوانين النشر كما ابلغتنى دور النشر..وهذه "ليست عادتى سابقاً فى احترام حقوق النشر:)):..ولكن دينى يحتم على ذلك وإستئذان اصحاب الشىء قبل عرضه او إستخدامه "

وارجوا من الله أن يكون هذا العمل خالصاً لوجهه ومفيداً للجميع ..

وإن أراد أحد الأخوة مساعدتى ويملك الكتاب فمرحباً ....بالكوأوبراتشن:)):... فى سبيل الله ..فليراسلنى فى ذلك لأعرف ما على أن أكتبه ..ونقسم المهام ...والله المستعان

معلومات سريعه عن الكتاب
___________
الطبعة الأولى :2002
الطبعة الثانيه :2007
إصدار دار الفكر دمشق-سوريا
________________
المؤلف:
الدكتور عبد الوهاب المسيرى
__________
معلومات عنه :

متخصص بالدراسات الصهيونيه

من مواليد دمنهور بمصر العربيه "1938"
____________
الأعمال السابقة والحاليه
___________
-رئيس وحدة الفكر الصهيونى وعضو مجلس الخبراء بمركز الدراسات السياسيه والإستراتيجيه بالأهرام .

-مستشار ثقافى للوفد الدائم بجامعة الدول العربيه فى هيئة الأمم المتحده.

-أستاذ الأدب الأنكليزى والمقارن بجامعات عين شمس والملك سعود والكويت .

-مستشار أكاديمى للمعهد العالمى للفكر الإسلامى بواشنطن .

-عضو مجلس الأمناء لجامعة العلوم الإسلاميه والإجتماعيه ,ليسبرج فيرجينيا .

له مؤلفات متميزه كثيره بالعربيه والأنجليزيه تتناول بحوثاً عن اليهوديه والصهيونيه وتاريخهما وفكرهما وأزماتهما
وإشكاليات العنف والتحيز القائمة فيهما .

يتبع ...

elmorsy
06-04-2011, 09:49 PM
المحتوى

الموضوع
*المحتوى

*مقدمةً

*الفصل الأول :الإنسان والمادة
-الطبيعة البشرية
-الفلسفة المادية
-المادية القديمة المادية الجديدة
-العقلانية المادية واللاعقلانية المادية
-المرجعية النهائية :المتجاوزة والكامنة
-الواحدية المادية

*الفصل الثانى :إشكالية الطبيعى والإنسانى
-الفرق بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية
-إشكالية الإنسانى والطبيعى فى العالم العربى
-الشرح والتفسير
-فشل النموذج المادى فى تفسير ظاهرة الإنسان
-المساواة والتسوية
الهجوم على الكبيعة البشرية

*الفصل الثالث:العقل والمادة
-العقل المادى
-العقل الأداتى والعقل النقدى

*الفصل الرابع المادية فى التاريخ
-الداروينية الإجتماعية
- الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية الشاملة
-المطلق العلمانى الشامل
-اللحظة العلمانية الشاملة النماذجية

*الفصل الخامس :الترشيد والقفص الحديدى
-الترشيد فى الأطار المادى
-الترشيد وعلمنة البنية المادية والإجتماعية
-الترشيد وعلمنة الإنسان
-الترشيد والقفص الحديدى

*الفصل السادس :نهاية التاريخ
-نهاية التاريخ الإنسانى
-التاريخ يصل إلى نهايته عند تحقيق :فوكوياما وهنتينجتون
-التاريخ لاهدف له ولاغاية: ما بعد الحداثة

*الفصل السابع : العنصرية الغربية فى عصر ما بعد الحداثة
-العنصرية الغربية فى عصر التحديث (عنصرية التفاوت)
-العنصرية الغربية فى عصر ما بعد الحداثة (عنصرية التسوية)

*الفصل الثامن: المادية والأبادة
-الإبادة وتفكيك الإنسان كإمكانية كامنةً فى الحضارة الغربية الحديثة
-تحول الإمكانية الإبادية إلى حقيقةً تاريخية
-إشكالية إنفصال القيمة والغائية الإنسانية عن العلم والتكنولوجيا
__________________
إنتهى الفهرس ..والكتاب (222) صفحه :13::confused:..ربنا ييسر الأحوال

يتبع .......

elmorsy
06-05-2011, 02:10 AM
مُــــقَــــــــــدَّمةً

تشكَّل الفلسفة الماديه البنْية الفكرية التحتية او النموذج المعرفى الكامن للعديد من الفلسفات الحديثة:الماركسية والبرجماتيه والداروينية،كما انها تشكَّل الاطار المرجعى الكامن لرؤيتنا للتاريخ والتقدُّم وللعلاقات الدولية،بل وأحياناً لأنفسنا .وقد ارتبطت الفلسفة المادية فى عقول الكثيرين بالعقلانية والتقدُّم والتسامح...إلخ.وأعتقد انه حان الوقت لفتح باب الإجتهاد بخصوص هذه الفلسفة ، نظراً لأهميتها وهيمنتها على بعض أعضاء النخب الثقافية والفكرية.

ويمكن تصنيف هذا الكتاب بإعتباره محاولةً فى هذا الإتجاه .

وقد خُصَّص الفصل الأول ((الإنسان والمادة )) لتعريف الفلسفة المادية وسر جاذبيتها ومواطن قصورها ، كما يعرض الفصل نفسه ،فى بدايته ، للظاهرة الإنسانية وسماتها الأساسية.

ويقوم الفصل الثانى ((إشكالية الطبيعى والإنسانى)) بتوضيح الفروق الأساسية بين الظاهرة الطبيعية والظاهرة الإنسانية ، وفشل الفلسفة المادية فى تفسير ظاهرة الإنسان ، بل ويذهب هذا الفصل إلى أن هذه الفلسفة تشكل هجوماً على الطبيعة البشرية .

ويتناول الفصل الثالث ((العقل والمادة)) مفهوم العقل ،فيبَّين ان العقل فى حد ذاته مفهوم عائم غائم وأن المهم هو النموذج الكامن وراء العقل .وإنطلاقاً من هذا التصوُّر تحاول الدراسة حصر اهم سمات العقل المادى ، كما تحاول توضيح الفروق بين العقل الأداتى والعقل النقدى .

ويتناول الفصل الرابع ((المادية والتاريخ )) بعض التجليات التاريخية للفلسفة المادية ، فيبَّين ان العلمانية الشاملة والإمبريالية والداروينية هى كلها تجليات متنوعة للفلسفة المادية.

أما الفصل الخامس ((الترشيد والقفص الحديدى)) فيتناول الترشيد او العلمنة بمعنى إعادة صياغة المجتمع والإنسان فى الإطار المادى ، وكيف أن هذا يؤدى فى نهاية الامر إلى تنميط الحياة ووهم التحكُّم الكامل فيها .

والفصل السادس هو أمتداد لهذا الفصل، فنهاية التاريخ هى ، فى واقع الامر النقطة التى يتخيل البعض أنها النقطة التى يتم التحكُّم فيها فى معظم جوانب الحياة ، بحيث يصبح المجتمع كالآلة الرشيدة.وقد ميَّزت الدراسة فى الفصل الثانى بين المساواة والتسوية على المستوى النظرى.

والفصل السابع ((العنصرية الغربية فى عصر ما بعد الحداثة)) هو محاولةً لتطبيق هذا المفهوم على ظاهرة العنصرية الغربية .

والفصل الثامن والأخير ((المادية والإبادة)) بيبيَّن كيف ان الرؤية المادية هى رؤيةً إبادية فى جوهرها، ويطبق الفصل هذا التصوُّر على ظاهرة الإبادة النازية لليهود وغيرهم من الأقليات .

وهذه الدراسة، شأنها شأن معظم دراساتى فى الآونة الأخيرة ،تستخدم النموذج المعرفى أداةً تحليلة ، فتقدَّم دراسةً فى النموذج المعرفى المادى فى حد ذاته ،ثم تجلياته النظرية والتاريخية المختلفة.وبالتالى فالدراسة لا تأخذ خطاً مستقيماً تراكمياً وإنما تأذخذ شكل بؤرة(النموذج التحليلى) تتفرع منها وتعود إليها كل الموضوعات .وهذه الطريقة تبيَّن الوحدة الكامنة (المادية وتفكيك الإنسان) خلف التنوع (الدراسات المختلفة )،ولكنها قد تؤدى إلى بعض التكرار . وقد بذلت جهداً كبيراً لتحاشى ذلك أو التقليل منه.

ومعظم مادة هذا الكتاب تُنشر لأول مرة،ولكن بعضها نُشر قبل ذلك ،إما على هيئة مقالات أو فى كتب .ولكنى وجدت أن جمعها كلها فى كتاب واحد يدور خول موضوع واحد ، مع توضيح النموذج المعرفى الكامن وراء كل الدراسات ، سيساعد كثيراً على توضيح الأطروحة الأساسية فى الكتاب ،ويبرَّر إعادة نشر هذه المادة.

ويبقى هذا العمل إجتهاداً اولياً نرجو أن نكون قد أصبنا فى بعض نقاطه إن لم نصب فى جميعها ، وأن يكتب الله لنا أجرى الصواب ،وإلا ، فلعلنا لانحرم الأجر الواحد.


والله من وراء القصد



عبد الوهاب المسيرى



دمنهور – القاهرة
كانون الثانى (يناير) 2002م

elmorsy
06-05-2011, 12:01 PM
الفصل الأول

الإنسان والمادة

هل الإنسان كائن مادي وحسب؟ هل هو جزء لا يتجزأ من هذا العالم المادي الطبيعي خاضع لقوانينه لا يملك منها فكاكاً، لا يختلف في سماته الأساسية عن الكائنات الأخرى؟ هذه أسئلة جوهرية تحدِّد رؤيتنا للكون، ولذا لابد من الإجابة عنها إن أردنا توضيح موقفنا وتحيُّزاتنا الفكرية.

الطبيعة البشرية

تتسم الطبيعة البشرية في تصورنا بثنائية أساسية لا يمكن تصفيتها (هي صدى للثنائية الحاكمة الكبرى، ثنائية الخالق والمخلوق، والمتجاوز والحالّ الكامن) وهي ثنائية الجانب الطبيعي/ المادي في مقابل الجانب غير المادي، أي الروحي أو الثقافي أو المعنوي. فثمة احتياجات طبيعية/ مادية، مثل حاجة البشر إلى الطعام والهواء والنوم والتناسل وتلبية كل ما يتعلق بتركيبهم العضوي (بغض النظر عن أماكن إقامتهم أو نمط الحضارة الذي ينتمون إليه). فالإنسان هنا هو موجود مادي متجسد يشارك بقية الكائنات في بعض الصفات، فمن حيث هو جسم، يخضع الإنسان للقوانين الطبيعية وضرورات الحياة العضوية إذ تسري عليه، وعلى بقية الكائنات، مجموعة من الآليات والحتميات. ولذا يمكن رصد هذا الجانب من وجوده من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية (ويعبِّر عن نفسه فيما نسميه النزعة الجنينية). والفلسفات المادية، منطلقة من مرجعيتها المادية ومن إيمانها بأسبقية الطبيعة/ المادة على الإنسان، تركز على هذا الجانب من الوجود الإنساني وترد كل جوانبه الأخرى إليه.

ولكن هناك جانباً آخر للطبيعة البشرية متجاوزاً للطبيعة/ المادة وغير خاضع لقوانينها ومقصوراً على عالم الإنسان ومرتبطاً بإنسانيته، وهو يعبِّر عن نفسه من خلال مظاهر عديدة من بينها نشاط الإنسان الحضاري (الاجتماع الإنساني - الحس الخلقي - الحس الجمالي - الحس الديني). ومن المظاهر الأخرى لهذا الجانب أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يطرح تساؤلات عما يسمَّى العلل الأولى، وهو لا يكتفي أبداً بما هو كائن وبما هو معطى ولا يرضى بسطح الأشياء، فهو دائب النظر والتدبر والبحث، يغوص وراء الظواهر ليصل للمعاني الكلية الكامنة وراءها والتي ينسبها إليها، وهو الكائن الوحيد الذي يبحث عن الغرض من وجوده في الكون. وكلها تساؤلات تجد أصلها في البنية النفسية والعقلية للكائن البشري، ولذا سمى الإنسان الحيوان الميتافيزيقي. والإنسان كائن واعٍ بذاته والكون، قادر على تجاوز ذاته الطبيعية/ المادية وعالم الطبيعة/ المادة، وهو عاقل قادر على استخدام عقله، ولذا فهو قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب رؤيته.

وهو كائن صاحب إرادة حرة على الرغم من الحدود الطبيعية والتاريخية التي تحده. والحرية قائمة في نسيج الوجود البشري ذاته، فإن الإنسان له تاريخ يروي تجاوزه لذاته (وتعثره وفشله في محاولاته). فالتاريخ تعبير عن إثبات الإنسان لحريته وفعله في الزمان والمكان.

وهو كائن قادر على تطوير منظومات أخلاقية غير نابعة من البرنامج الطبيعي/ المادي الذي يحكم جسده واحتياجاته المادية وغرائزه، وهو قادر على الالتزام بها وخرقها، وهو الكائن الوحيد الذي طوَّر نسقاً من المعاني الداخلية والرموز التي يدرك من خلالها الواقع.

وهو، أخيراً، النوع الوحيد الذي يتميَّز كل فرد فيه بخصوصيات لا يمكن محوها أو تجاهلها، فالأفراد ليسوا نسخاً متطابقة يمكن صبها في قوالب جاهزة وإخضاعها جميعاً للقوالب التفسيرية نفسها، فكل فرد وجود غير مكتمل، مشروع يتحقق في المستقبل، واستمرار للماضي، ولذا فزمن الإنسان هو زمن العقل والإبداع والتغيير والمأساة والملهاة والسقوط، وهو المجال الذي يرتكب فيه الإنسان الخطيئة والذنوب، وهو أيضاً المجال الذي يمكنه فيه التوبة والعودة، وهو المجال الذي يعبِّر فيه عن نبله وخساسته وبهيميته، فالزمان الإنساني ليس مثل الزمان الحيواني الخاضع لدورات الطبيعة الرتيبة، فهو زمان التكرار والدوائر التي لا تنتهي و((العود الأبدي)). ولكل هذا، فإن ممارسات الإنسان ليست انعكاساً بسيطاً أو مركباً لقوانين الطبيعة/ المادة، فهو مختلف كيفيًّا وجوهريًّا عنها.

فهو ظاهرة متعددة الأبعاد ومركبة غاية التركيب ولا يمكن اختزاله في بُعد من أبعاده أو في وظيفة من وظائفه البيولوجية أو حتى في كل هذه الوظائف. ولا توجد أعضاء تشريحية أو غدد أو أحماض أمينية تشكل الأساس المادي لهذا الجانب الروحي في وجود الإنسان وسلوكه، لهذا فهو يشكل ثغرة معرفية كبرى في النسق الطبيعي/ المادي، فهو ليس جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة وإنما هو جزء يتجزأ منها، يوجد فيها، ويعيش عليها، ويتصل بها، وينفصل عنها. قد يقترب منها ويشاركها بعض السمات، ولكنه لايُرد في كليته إليها بأية حال، فهو دائماً قادر على تجاوزها، وهو لهذا مركز الكون وسيد المخلوقات. وهو لهذا كله لا يمكن رصده من خلال النماذج المستمدة من العلوم الطبيعية.

وبرغم أن كل إنسان فرد فريد إلا أننا نطرح ما نسميه مفهوم الإنسانية المشتركة (في مقابل الإنسانية الواحدة)، فنحن نذهب إلى أنه لا يمكن إدراك الإنسان في كل تركيبيته إلا من خلال نموذج توليدي، فنرى أن عقله مبدع خلاق، ولذا فهو يتمتع بقدر من الاستقلال عن الطبيعة، ولا يخضع لحتمياتها في بعض جوانب وجوده. وفي هذا الإطار، نذهب إلى أن ادعاء أصحاب النماذج التراكمية الآلية المادية بأن هناك إنسانية واحدة، تُرصد كما تُرصد الظواهر الأخرى، وبأن الناس كيان واحد وإنسانية واحدة خاضعة لبرنامج بيولوجي ووراثي واحد عام، هو أمر يتنافى مع العقل ومع التجربة الإنسانية ومع إحساسنا بتركيبيتنا وتنوعنا الإنساني.

أما النموذج التوليدي، فهو ينطلق من الإيمان بإنسانية مشتركة (طبيعة بشرية) تأخذ شكل إمكانية وطاقة إنسانية كامنة لا يمكن رصدها أو ردها إلى قوانين مادية. هذه الطاقة لا يمكنها أن تتحقق في فرد بعينه أو شعب بعينه أو في جنس بعينه وإنما يتحقق بعض منها تحت ظروف وملابسات معينة ومن خلال جهد إنساني معين، ولذا فإن ما يتحقق لن يكون أشكالاً حضارية عامة وإنما أشكالاً حضارية متنوعة بتنوع الظروف والجهد الإنساني، لأن تحقق جزء يعني عدم تحقق الأجزاء الأخرى التي تحققت من خلال شعوب أخرى، وتحت ظروف وملابسات مختلفة ومن خلال درجات من الجهد الإنساني الذي يزيد وينقص من شعب لآخر ومن جماعة لأخرى.

ومما يزيد التنوع، أن الإنسان - كما أسلفنا - قادر على إعادة صياغة ذاته وبيئته حسب وعيه الحر، وحسب ما يتوصل إليه من معرفة من خلال تجاربه. هذه الأشكال الحضارية تفصل الإنسان عن الطبيعة/ المادة، وتؤكد إنسانيتنا المشتركة، فهي تعبير عن الإمكانية الإنسانية، دون أن تلغى الخصوصيات الحضارية المختلفة. لكن الفرادة لا تعني أنه لا يوجد أنماط تجعل المعرفة ممكنة، والحرية لا تعني أن كل الأمور متساوية نسبية. فالإنسانية المشتركة، تلك الإمكانية الكامنة فينا، هذا العنصر الرباني الذي فطره الله فينا (ودعمه بما أرسله لنا من رسل ورسائل) تشكل معياراً وبُعداً نهائيّاً وكليّاً.

elmorsy
06-05-2011, 03:55 PM
الفلسفة المادية

فى مقابل الإنسان والإنسانية المشتركة نضع الطبيعة /المادة .ومفهوم الطبيعة مفهوم أساسى فى الفلسفات المادية التى تدور فى أطار المرجعية الكامنة ، خصوصاً فى الغرب ، وهو تعبير مهذب يحل محل المادة.ولعل كثيراً من اللغط الفلسفى ينكشف إن أستخدمنا كلمة مادى بدلاً من كلمة طبيعى، فبدلاً من المذهب الطبيعى نقول:المذهب المادى وبدلاً من القانون الطبيعى نقول :القانون المادى وبدلاً من الإنسان الطبيعى يمكننا أن نقول : الإنسان المادى.فعبارة الإنسان الطبيعى عبارة مبهمة رومانسية تستدعى للأذهان طرزان، والنبيل الوحش،وأبطال الأدب الرومانسى،مع أن الإنسان الطبيعى فى واقع الامر شخص يعرَّف فى أطار وظائفه الطبيعية البيولوجية ويعيش حسب قوانين الحركة المادية ويُردّ إليها ولذل فهو فى براءى الذئاب،وفى تلقائية الأفعى،وفى حيادية العاصفة،وفى تسطح الأشياء وبساطتها.والطبيعة ليستهى الأحجار والأشجار والسحب والقمر.وإنما هى كيان يتسم ببعض الصفات الأساسية تشكل فى مجموعها أساس الفلسفة المادية التآ يمكن تلخيصها فيما يلى :

1- الإيمان بوحدة الطبيعة،فالطبيعة شاملة لاإنقطاع فيها ولا فراغات،فهى الكل المتصل وما عداها مجرد جزء ناقص،فهى لا تتحمل وجود أى مسافات أو ثغرات أو ثنائيات.

2-الإيمان بقانونية الطبيعة (لكل علة سبب).والطبيعة شىء منتظم متسق مع نفسه، فكل سبب يؤدى إلى االنتيجة نفسها فى كل زمان وفى كل مكان .

3-الإيمان بأن الطبيعة بأسرها خاضعة لقوانين واحدة ثابتة منتظمة صارمة حتمية مطردة وآلية، وبأنها كذلك رياضية واضحة،ولذا فهى لا تقبل أى خصوصيات.

4-الإيمان بأن الطبيعة تتحرك بشكل تلقائى وبأن الحركة أمر مادى.

5-الإيمان بأن لا يوجد غائية فى العالم المادى (حتى ولو كانت غائية إنسانية تسحب خصوصيات النشاط البشرى على الطبيعة المادية). فالطبيعة قوة متعينة لاتكترث بالخصوصية ولا بالتفرد او بالظاهرة الإنسانية ولا بالإنسان الفرد أو إتجاهاته أو رغباته.ذلك لأن الإنسان لا مكانة خاصة له فى الكون فهو لايختلف فى تركيبه عن بقية الكائنات.والإنسان الفرد او الجزء يذوب فى الكل ذوبان الذرات فيها .

6-الإيمان بأنه لايوجد غيبيات او تجاوز للنظام الطبيعى من أى نوع، فالطبيعة تحوى داخلها كل القوانين التى تتحكم فيها وكل ما تحتاج إليه لتفسيرها ، فهى علة ذاتها، توجد فى ذاتها ،مكتفية بذاتها وتدرك بذاتها ، وهى واجبة الوجود.

والإيمان بالطبيعة/ المادة كسقف للوجود الإنسانى هو المادية.والفلسفة المادية هى المذهب الفلسفى الذى لايقبل سوى المادة بإعتبارها الشرط الوحيد للحياة (الطبيعية والبشرية)، ومن ثم فهى ترفض الإله كشرط من شروط الحياة،كما أنها ترفض الإنسان نفسه إن كان متجاوزاً للنظام الطبيعى/المادى،ولذا فالفلسفة المادية تَرُدّ كل شىء فى العالم (الإنسان والطبيعة) إلى مبدأ مادى واحد وهو القوة الدافعة والسارية فى الأجسام الكامنة فيها والتى تتخلل فى أثنائها وتضبط وجودها.قوة لاتتجزاء ولا يتجاوزها شىء ولا يعلو عليها أحد، وهى النظام الضرورى والكلى للأشياء، نظام ليس فوق الطبيعة وحسب،ولكنه فوق الإنسان أيضاً.وإن دخل عنصر آخر مادى على هذا المبدأ الواحد ، فإن الفلسفة تصبح غير مادية.
وكلمة مادة قد تبدو لأمول وهلة وكأنها كلمة واضحة, ولكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك.فالشىء المادى هو الشىء الذى كل صفاته ماديه:حجمه،كثافته،كتلته،لونه،سرعته ،صلابته،كمية الشحنة الكهربائية التى يحملها، سرعة دورانه ،درجة حرارته ،مكان الجسم فى الزمان والمكان... إلخ.
فالصفات المادية هى التى يتعامل معها علم الطبيعة (الفيزياء)، فالمادة ليس لها اى سمة من سمات العقل:الغاية ، الوعى، القصد، الرغبة، الأغراض والأهداف، الأتجاه، الذكار، الإرادة، المحاولة،الإدراك... إلخ.

والمادية ترى أسبقية المادة على الإنسان وكل نشاطاته ، وتمنح العقل مكانة تالية على المادة ، ولذا فإن العقل ليس له فعالية سببية ، ووجوده ليس ضروريًّا لإستمرار حركة المادة فى العالم. فنظرية المعرفة المادية (فى مراحلها الأولى) تقر بإمكانية المعرفة، فالعالم قابل لأن يُعرَّف، لانه معطى لإحساسنا ووعينا ، بل إن مادية العالم هى شرط لمعرفته . ولمعرفة هذا العالم لا يحتاج الإنسان إلى إستعارة وسائل من خارج عالم الطبيعة/ المادة. فهناك أولاً حواسه الخمس التى ترصد المحسوسات، وهناك عقله الذى يرتب ويركب المحسوسات ، ولكنه ليس منفصلاً عن الوجود المادى الحسى، فالمعرفة هى أنعكاس الواقع الخارجى فى دماغنا عبر أحساساتنا، وتراكم المعطيات الحسية على صفحة العقل البيضاء.ويمكن للإنسان أن يكتسب المزيد من المعرفة من خلال التجريب ومراكمة المعلومات فى ذاكرته . وفى بعض أشكال المادية لا توجد حدود للمعرفة، فكل ما هو موجود قابل لأن يُعرف. أما التساؤلات الميتافيزيقية فهى ليست موجودة او ليست موضوعاً للمعرفة.

والمادة لا تسبق العقل وحسب وإنما تسبق الأخلاق كذلك ، فإن الأخلاق تُفسَّر تفسيراً ماديًّا ووفقاً لقانون طبيعى. فمنطق الحاجة الطبيعية المباشرة هو الذى يتحكم فى الأخلاق الإنسانية تماماً مثلما تتحكم الجاذبية فى سقوط التفاحة.
ولذا تنادى المذاهب الأخلاقية المادية بأن الشىء الوحيد الذى يجد بالإنسان ان يسعى إليه هو الخيرات المادية التى تجود بها الحياة.والشىء نفسه ينطبق على المعايير الجمالية ، فالشعور والأحساس بالجمال وكل الأحاسيس الإنسانية يمكن فهمها بردها إلى المبدأ المادى الواحد، فهى مجرد تعبير عن شىء مادى يوجد فى الواقع المادى. والمادة تسبق التاريخ ، وكذلك فإن كل تطور يتوقف على الظروف المادية والإقتصادية (على سبيل المثال :تطور أدوات الإنتاج وعلاقات الإنتاج والمصحلة الإقتصادية) ونوع الإنتاج فى الحياة المادية شرط تطور الحياة الإجتماعية والسياسية والعقلية على العموم. فالبناء الفوقى (الفكرى والعقلى والنفسى) يُردُّ فى نهاية الأمر وفى التحليل الأخير ، إلى المادة.

ويفرق البعض بين المادية المتطرفة والمادية المعتدلة، وبين المادية السوقية والمادية الجدلية. فالمادية المتطرفة أو السوقية تذهب إلى أن العالم الحقيقى هو مجرد مادة تتغيَّر فى أحوالها وعلاقاتها المادية،وأن كل ما هو إنسانى مجرد حركة للمادة ،أما المادية المعتدلة فتحاول الوصول إلى رؤية أكثر تركيباً، ومع هذا فهى فى نهاية الأمر وفى التحليل الأخير تفترض أسبقية المادة على كل الظواهر التى تُردُّ بعد كل التركيب والتوهيم إلى المبدأً المادى الواحد. والمادية الديالكتكية والتاريخية لا تختلف فى جوهرها عن ذلك . فالمادية الديالكتيكية تصدر عن الإيمان بمفهوم المادة التى تعنى الواقع الموضوعى((المعطى للإنسان فى أحاسيسه، والذى تصوره أحاسيسنا وتعكسه، ولكن وجوده غير مرهون بها)). أما الوعى، فهو صفة المادة الرفعية التنظيم، ويظهر بظهور المجتمع. والوعى يعكس الواقع الموضوعى ويكون صورة ذاتيه منه ، وهو ما يعنى أسبقية المادة على كل شىء. ويكمن لب النظرية الديالكتيكية فى بعض القوانين العامة بحركة الطبيعة والمجتمع والفكر وأهمها: تحول التغيرات الكيفية إلى كمية وبالعكس، ونفى النفى ، ووحدة وصراع الأضداد.

وهناك جملة من القوانين التى تكمل القوانين السابقة وتجعلها أكثر عيانية، وتعبَّر عن ترابط الماهية والظاهرة ، والمضمون والشكل ، والإمكان والفعل... إلخ. وترى المادية الديالكتيكيه أن مضمون معارفنا إنعكاس للصفات الموضوعية للأشياء. ولكن بلوغ الحقيقة الموضوعية لا يتم دفعة واحدة وبصورة مطلقة. والقوانين العامة لتطور العالم تدرسها المادية الديالكتيكيه تسرى على كل الميادين المنفردة للنشاط الإنسانى. والمادية التاريخية تسحب الموضوعات الأساسية للمادية الديالكتيكية على الظواهر الإجتماعية والتاريخية، ولذا فإن المادية التاريخية تذهب إلى أن الإنسان يظهر نتيجةً لعملية ماديه حركيه تفترض أسبقية المادة على الفكر، فحياة الإنسان تتطلب المأكل والمشرب والمسكن والملبس، وهى أشياء لا يجدها جاهزة فى الطبيعة فيضطر إلى أنتاجها. وحين ينتج البشر الأشياء الضرورية فإنهم يمارسون لوناً خاصّاً من نمو الحياة ،ويدخلون فى علاقات فيما بينهم . وفى مجرى إنتاج الخيرات المادية، يتكون الإنسان ذاته بوعيه ونظراته وتطلعاته. وبذلك يشكل الإنتاج المادى الأساس (اللوجوس أو المطلق)
الذى يحدد ،فى نهاية المطاف وفى التحليل الأخير، نمط حياة الناس ووعيهم وفكرهم وحياتهم الروحية، بل والحياة الإجتماعية بأسرها. وفى تصورنا أن كل الماديات مهما بلغت من صقل وجدلية واعتدال ، ماديات متطرفة إن كانت متسقة مع نفسها ومع مقدماتها المعرفية، إذ يظل جوهر الأشياء ماديًّا ، وما عدا ذلك فتحولات عرضية ويظل مركز الكون كامناً فيه (المرجعية الكامنة) ومن ثم العالم المادى.

وأى نموذج فكرى، مهما بلغ من مثالية أو غيبية، لابد أن يتبنى نموذجاً تفسيريًّا ماديًّا حين يتعامل مع بعض الظواهر ، فالواقع مركب والعناصر المادية مكون أساسى فيه. وقد حققت المادية نجااحاتها فى العصر الحديث لأن النموذج المادى عنده مقدرة تفسيرية هائلة إن نظرنا إلى الجانب المادى فى حياة الإنسان.ولكننا لو نظرنا فى الجوانب غير المادية (الأخلاقية والجمالية والروحية)، فإن مقدرته التفسيرية تضعف وتكاد تنعدم ، وتكمن الهرطقة المادية فى أن الفلسفة المادية لا تكتفى بتفسير بعض جوانب الواقع وإنما تصر على تفسير كل الواقع بما فى ذلك الإنسان فى كل جوانب وجوده، من خلال مجموعة موحده من المقولات التفسيرية مستمدة من وجودنا المادى اليومى، ثم تَـــرُد الواقع الطبيعى والإنسانى إلى مبــــدأ نهائى واحد دون الحاجة إلى إدخال مجموعة أخرى من المقولات غير المادية المختلفة عن الأولى وهو مايبسط الواقع ويختزله.
_____________________________
(وتعودجاذبية الفلسفات الماديه للسببين التاليين:) ....يتبع

الإشراف العام
06-05-2011, 04:52 PM
للتعليق على هذا الكتاب:
http://www.eltwhed.com/vb/showthread.php?t=31105

elmorsy
07-03-2011, 05:09 PM
وتعود جاذبية الفلسفات المادية للسببين التاليين :

1-المستوى المعرفي( الإبستمولوجي)

يمكننا أن نقول : أن التفسير المادي للظواهر سهل ، فيمكن الحصول بشكل سريع على المعلومات عن العالم المادي وقياسها ، والترابط المادي بين الظواهر أمر يمكن رصده بشكل موضوعي محسوس ، وحركة المادة نتيجتها مباشرة.
وتجربة الطفل مع جسده ، وهو أول شيء يدركه ، يشجع على التفسيرات المادية .بل أن عاطفته تجاه أمه تأخذ في بدايتها شكلاً ماديًّا في علاقته مع بثديها ،فحبها له يأخذ شكل إطعامه . وهكذا ، فإن التفسيرات المادية راسخة في التجارب الأولى للإنسان بعد خروجه من الرحم ، ولذا فهو يجد راحة غير عادية فيها إذ لا يضطر إلى التجريد والتجاوز إذ لا مساحات ولا ثنائيات . أما العناصر غير المادية في الواقع (مثل : العقل , الخيال ، السببية غير المباشرة ، الظواهر التي لا يمكن رصدها بشكٍل متواتر ، العواطف التي لا ترتبط بالجسد بشكل مباشر) ، فإن اكتشافها بتطلب إعمال العقل والتجريد ، وهو أمر صعب على الكثير من البشر .


2-المستوى النفسي (السيكولوجي)

تحول الفلسفات المادية الإنسان إلى جزء من كلًّ اكبر ، فلا يوجد له هوية أو حدود أو إرادة عم هذا الكل المادي الذي تُرد إليه . وهذا يعنى إنكار الهوية الفردية المستقلة والمسؤولية الخلقية و الاختيار الحر . والواقع أن الامتزاج الكامل بالطبيعة/ المادة هو شكل من أشكال فقدان الوعي والهوية والحدود وهو ما نسميه النزعة الرحمية (و انتصار الموضوع على الذات) ، وهذا هو الإغراء الأساسي الذي يجابه كل البشر ويتهدد إنسانيتهم ، وهو جوهر كل الهرطقات المعادية للإله والإنسان ، ابتداءً بالهرطقة الغنوصية وانتهاءً إلى الهرطقات الحديثة (مثل النزعة الطبيعية).


*ولكن الفلسفة المادية برغم إغرائها ، تواجه عدة مشاكل :


1-تدعى الفلسفة المادية أنها ليست أيديولوجية وإنما علم طبيعي ، وهذا يفترض أن الفلسفة المادية قد قامت بحصر كل المتغَّيرات المادية والموضوعية ورصدها في علاقاتها المتشعبة وأثبتت صحة مقولاتها. وهو أمر مستحيل علميًّا.
كما أن الواجب العلمي يتطلب ، بعد حصر كل المتغيرات والعناصر والأسباب وعلاقتها بعضها ببعض، إقرار غلبة عنصر ما على العناصر الأخرى وإعطاءه أسبقية سببية ،على أن تتم هذه العملية كل مرة ، وهذا أمر مستحيل من الناحية العلمية .ولذا فإن ما يحدث في واقع الأمر ، هو أن الفلسفة المادية تواجه الواقع مسلحة بميتافيزيقا مادية غير واعية ، فهي واعية أو تؤمن بوجود كليات وتعميمات تستند إلى الإيمان بوجود كل مادي ثابت متجاوز للأجزاء له هدف وغاية ، وبوجود عقل إنساني قادر على رصد كل هذا. وهى أطروحات نبيلة،ولكنها ميتافيزيقية. فالثبات والتجاوز والهدف ليس من صفات المادة ، ومقدرات العقل على التعميم والتجاوز من الصعب تفسيرها ماديًا. وهذا ما أدركه نيتشه من البداية، حين بَّين ان الأنطولوجيا الغربية، حتى بعد موت الإله ، أي بعد ظهور العقلانية المادية، احتفظت بظلال الإله على هيئة هذا الإيمان بالكل المادي الثابت المتجاوز ذي الهدف، وحين نادى بإزالة ظلال الإله تماماً والتخلي عن الميتافيزيقا ، التي تعني التخلي عن البحث عن الحقيقة ذاتها ، فالحقيقة تستدعى الثبات والكلية ، وعالماً متجاوزاً لعالمنا المادي، عالم الصيرورة المادية الدائمة والحلول والكمون الكامل. وبعد أن انطلقت الفلسفات المادية من إيمانها الراسخ هذا ، فإنها تعطي أولوية سببية للعناصر المادية (قوانين الحركة ). وفى حالة الإنسان ، تترجم السببية المادية الصلبة المطلقة نفسها إلي تفسير ظاهرة الإنسان في أطار عنصر مادي واحد (ماركس والعنصر الاقتصادي، فوريد والعنصر الجنسي ... إلخ). وغنى عن القول أن من يقوم بالتجريب والرصد ، في الإطار المادي، لا يعيد اختبار مقولاته كل مرة . ولذا فهو يفترض صدقها بشكل دائم ومما يجدر ذكره أن الحقيقة العملية تقريبية.

إلى حب الله
07-03-2011, 05:49 PM
أهلا ًبالحبيب الغالي ..
اشتقنالك ................... :emrose: :emrose: :emrose: :emrose: :emrose: :emrose:

elmorsy
07-03-2011, 05:58 PM
2- العلم التجريبي محدود ولا يستطيع أن يتعامل مع كل أنواع الخبرات وجوانبها، والطريقة التجريبية ذاتها تقريبية، وهى نتائج تنطبق في المتوسط أي على المجموعات الكبيرة ، وليس على كل مفردة بذاتها .

3- ظهر الفكر المادي في أحضان الرؤية النيوتنية للكون، وعالم نيوتن عالم محكم مغلق يتسم بالحتمية الميكانيكية. وتفسير العالم ، حسب نيوتن ، يستند إلى ما يلي: آليات الوجود الفيزيائي للذرة (الجزئي) وقوانين الحركة. وانطلاقاً من هذا ، ظهرت الرؤية العلمية المادية التي نادت بأنه لا يمكن الحديث عن تأملات خارج معامل البحث ونتائج التجريب . وقد ظلت هذه الرؤية مسيطرة تماماً حتى نهاية القرن التاسع عشر . ومنذ ذلك ، بدأت الضربات توجه إلى هذا النظام المغلق والسببية الصلبة. وأدَّت نظرية الكم (الكوانتام) و لا تحدد هايزنبرج ونظرية النسبية إلى إضعاف قيمة الافتراضات المادية مثل: الجبرية والسببية ، و مطلقية كون الفضاء والزمان ...إلخ، وقد ظهر أن ثمة وجوداً لا مادياً للطاقة الذرية هو الوجود الموجي. والتعامل مع ظاهرة الضوء أثبت أن الضوء يتصرف في مواضع تجريبية باعتباره مكوناً من جزيئات وحزم ضوئية (فوتونات) ، وأنه في مواضع تجريبية أخرى يتصرف باعتباره مكوناً من موجات (و قد قال أحد علماء الطبيعة متهكماً: فى يوم السبت و الاثنين والأربعاء نُعرَّف الضوء بأنه جزئيات ، ثم يصبح موجات بقية الأسبوع). وقد أوصلتنا النتائج التجريبية إلى صيغة رياضية لما هو مادي بحت في المادة ، وما هو في الوقت ذاته فوق مادي في المادة نفسها (وهو ما يُطلق عليه معادلة دي بروجلى). وهذا ما يعني ببساطة أن لكل كيان مادي موجة مصاحبة له ، وأن تلك الموجة تزيد كلما صغرت كتلة ذلك الكيان ، وهى تظهر بوضوح في الأبعاد المجهرية من ذلك العالم ، أي أن اللامادي موجود فى قلب المادي.


وقد أسقط العلم الحديث تدريجيًّا فكرة السببية الصلبة القديمة ، ولم يعد يطمح إلى معرفة الكون معرفة كاملة كما كان يطمح علماء القرن التاسع عشر.فبعد مئة عام من التجارب العلمية ، أكتشف الإنسان أنه كلما اكتشف وسيطر على شىء ما ظهرت له آلاف الأشياء الجديدة التى لايعرفها ، ولايمكنه السيرطة عليها ، من ذلك تجربتنا مع الذرة ، هذا الشىء الذى يتحرك دون قانون والذى يصعب رصده ، وكلما رصدناه اكتشفنا عناصر جديده فيه تحيرنا، ثم حطمناه لنؤسس الفردوس الأرضى ، وانتهى بنا الأمر إلى أنه قد يدمرنا وكرتنا الأرضية تماماً وها نحن نمسك بكرة اللهب ، أى العادم النووى والأسلحة النووية التى يمكنها تدمير العالم عشرات المرات، وكأننا بروميثيوس أبله سرق النار من الآلهة ولا يعرف ماذا يفعل بها بعد ذلك ، وبدلاً من الاستفادة من النار فإنها تحرق أصابعه. وقد اكتشفنا مؤخراً أيضاً حدود الحاسوب (الكومبيوتر) وأنه لن يأتى لأحد بالخلاص ، بل أننا بدأنا نكتشف مخاطره على عقل الأطفال الذين يستخدمونه وعلى عيون من يقضون سحابة (أو سواد ) يومهم يتطلعون إلى شاشته . ويقال الشيء نفسه بالنسبة إلى الهندسة الوراثية، فكثير من العلماء (من الذين حققوا أكتشافات فى هذا المجال ) يقفون ضد إجراء التجارب العلمية خوفاً من عواقبها الوخيمة. قد قال أحدهم : أن الأخطاء فى التجارب العلمية فى الماضى، كأن يحدث أنفجار أو ما شابخ ، كانت تتم داخل دورة الطبيعه لا تتحدى قوانينها ، ولهاذ يمكن أن تترك بضع سنوات لتقوم العوامل الطبيعيه بإصلاح ما أفسدت يد الإنسان . بل إن التلوث الإشعاعى قد يستمر لمدة 520 ألف سنة، ولكنه مع هذا يظل داخل الزمان ودورة الطبيعة. أما التجارب فى الهندسة الوراثية فهى قد تأتى بمخلوقات لا يمكن لدورة الطبيعة أن تتعامل معها، فهى مخلوقات تقع خارج نطاق حلقة التطور الطبيعية.

elmorsy
07-05-2011, 07:37 PM
ولعل اكتشاف الثقوب (الثغرات) السوداء في الكون له دلالة علمية ورمزية في الوقت ذاته. فداخل هذه الثقوب تتحطم قوانين علم الطبيعة والأحياء ويتحطم الزمان والمكان ويتم التهام الضوء ( العنصر الثابت في الطبيعة). والثقوب السوداء يمكننا أن نرى أثرها على ما حولها ، ولكننا لا نعرف كنهها تماماً فهي موجودة و أساسية لا يمكن تفسير الظواهر دونها ، ولكنها مع هذا غير خاضعة للتحكم الإنساني ولا نفهم كنهها تماماً . وقد ظهرت مؤخراً نظرية الفوضى (كيوس chaos) وهى ضربة أخرى للعالم المادي المغلق المصمت.

إن السببية الصلبة المطلقة التي لا يزال يتمسك بها بعض علماء الإنسانيات في القرن العشرين ، خصوصاً في عالمنا العربي ، لم يعد لها سند علمي، فهي نتاج علم القرن التاسع عشر ، الذي أكتشف الجميع كبرياءه الساذج وإدعاءه الأجوف بأن ما هو غير معروف سيتم معرفته ، وأنه في خلال ثلاثين عاماً- كما قال أحد العلماء آنذاك –سيعرف الإنسان كل شيء .ولكن الإله ستر وحمى الإنسان من الاختفاء (كما يبشر الفلاسفة الماديون من البنيويين وفلاسفة ما بعد الحداثة).

4-أدعت الفلسفة المادية ، في البداية، أن المادي هو ما تدركه الحواس، وأن ما لا تدركه غير مادي وبالتالي غير موجود ولكن الذرات وجزيئاتها لا تُدرَك بالحواس ، وبعضها لا كتلة له ، وحركة الذرة لا تتبع نمطاً محدداً ، والثقوب السوداء تحطم قوانين الزمان والمكان . ومن ثم، أعيد تعريف المادي بأنه كل شيء يوجد وجوداً موضوعياً ، أي إنه الشيء الذي لا يعتمد في وجوده على عقلنا أو وعينا به ( وبهذا المعنى ، فإن الفلسفة المادية لا يمكنها أن تستبعد العناصر الغير مادية إن تجلت موضوعياً في واقعنا )، وهو ما يعود بنا إلى نقطة البداية .

5- مسألة أزلية المادة أصبحت مسألة مشكوكاً فيها علميًّا . فالمادة تتحول إلى طاقة والطاقة تتحول إلى مادة . وقابليتها للتحول تعنى أن بقاءها في هيئتها المعَّينة كان معتمداً على ظروف خارجة عن ذاتها ، فلما زالت تلك الظروف زالت تلك الهيئة.إذن ، فهي ليست معتمدة في وجودها على نفسها ومن ثم تستحيل أن تكون آلية. وكل ما يتحلل ويتحول فليس بأزلي غير حادث بل هو بالضرورة حادث .فما المادة الأزلية إذن؟ أنها المادة التي لا خصائص لها ولا صفات. وهى مادة لا توجد إلا في الأذهان ، فهي مقولة فلسفية يرى أصحابها أن لها مقدرة تفسيرية عالية.

6- خلق العالم بالصدفة هو مجرد افتراض وتخمين وليس حقيقة علمية. ومن الاعتراضات المعروفة على هذا الرأي أن تكوين كائن كالإنسان من تلك الذرات بالمصادفة أكثر بُعداً من احتمال قرد يخبط على آلة كاتبة فيخرج لنا بالمصادفة قصيدة رائعة. ولكي نصدق نظرية الخلق بالمصادفة ، لابد أن نؤمن باحتمال أن يلقى إنسان (أو قرد) بالنرد ويحالفه الحظ ويأتي 6/6 ليس مرة واحدة ولا ألف وإنما 44 ألف مرة متتالية. كما أن المصادفة وحدها لا تجدي في تفسير الخلق ، فإن تكوين الكائنات من تلك الذرات الهائمة يعنى أنها كانت مصممة بحيث أنها إذا اجتمعت بهذه الطريقة تكون منها ذهب ، وإذا اجتمعت بتلك الطريقة يتكون منها ماء ، وهكذا. أي أن التصميم يسبق الصدفة.

elmorsy
07-05-2011, 08:28 PM
ويقول على عزت بيجوفيتش : أن تشارلز يوجين جاى ، عالم الطبيعة السويسري ، قد حاول أن يقوم بحساب احتمالية الحلق بالصدفة لُجزيء واحد من البروتين ، فوجد أن خلق مثل هذا الجزء قد يستغرق 34201 بليون سنة تحت ظروف 41015 اهتزازة في الثانية . وتبعاً لذلك ، لا يوجد إمكانية لأن تكون الحياة قد نشأت بالصدفة خلال 4.5 بليون سنة التي يُفترض أنها عمر الأرض.

وقد أعاد هذا الحساب مانفريد إيجن من معهد ماكس بلانك لكيمياء الطبيعة الحيوية في جوتنجن بألمانيا ، فأثبت أن جميع المياه على كوكبنا ليست كافية لكي تنتج بطريق الصدفة جُزيئاً بروتينًّا واحداً، حتى ولو كان الكون كله مليئاً بمواد كيميائية تتحد بعضها مع بعض بصفة دائمة. فإن البلايين العشرة من السنين منذ نشأة الكون لم تكن كافية لإنتاج أي نوع من البروتين .

وقال العالم الروسي بلاندين : (( لو أن مليون معمل على الأرض عملت لبضعة ملايين من السنين في تركيب العناصر الكيميائية ، فإن احتمال خلق حياة في أنبوبة اختبار ستكون شيئاً نادراً . وطبقاً لحساب هولدن ، فإن الفرصة هي 1310. هذا هو الأمر بالنسبة إلى التنظيم الذاتي لجُزيء واحد من البروتين الذي إذا قورن بكائن حي فإنه يشبه طوبة في مواجهة مبنى كامل . إن العلم – وخصوصاً بيولوجيا الجُزيئات – قد أستطاع أن يضيق الثغرة الهائلة بين الحياة والمادة الميتة ، ولكن الثغرة الصغيرة بقيت مستحلية العبور . ولا شك في أن الأستحفاف بهذه الثغرة يعدُّ خطأً علميًّا . ومع ذلك ، فهذا هو الموقف الرسمي للمادية)).

وكيف يمكن تفسير التباين الظاهري التالي: إذا وجدنا في اكتشاف أثري حجرين موضوعين في نظام معين ( أو قُطِعا لغرض معين ) ، فإننا جميعاً نستنتج بالتأكيد أن هذا من عمل إنسان في الزمان القديم ،فإذا وجدنا بالقرب من الحجر جمجمة بشرية أكثر كمالاً وأكثر تعقيداً من الحجر بدرجة لا تُقارن فإن بعضاً منا لن يفكر في أنها من صنع كائن واٍعٍ، بل ينظرون إلى هذه الجمجمة الكاملة أو الهيكل الكامل كأنهما قد نشأ بذاتهما او بالصدفة- هكذا من دون تدخل عقل أو وعى .أليس في إنكار الإنسان لله هوى بيَّن ؟

أما هؤلاء الذين يرون أن المادة (من خلال الصدفة وحدها ) قد أدَّت إلى ظهور عناصر متجاوزه للمادة مثل الإنسان والوعي والعقل والغائية، فهم في نهاية الأمر ، ينسبون للمادة مقدرات غير مادية ، ومن ثم فإنهم يكونون قد خرجوا من مقاصد الفلسفة المادية، خصوصاً وأن فرضياتهم لا تخرج عن كونها تكهنات عنيدة طفولية تضمن لهم الاستمرار في ماديتهم وتضمن لهم في الوقت ذاته تفسير ما حولهم من تركيب ووعى وغائية (ولعل هذا هو احد أشكال محاولة الإنسان العلماني الوصول إلى ميتافيزيقا دون أعباء أخلاقية، فالإصرار على أسطورة الأصل المادي هو الذي يحميهم من المسؤولية الأخلاقية)!

إلى حب الله
07-05-2011, 08:48 PM
جزاك الله خيرا ًأخي الحبيب المرسي .......

يبدو أنك كنت جيدا ًفي مادة (الإملاء) في الدراسة ما شاء الله ........... :p:
وفقك الله دوما ًإلى ما يُحب ويرضى ..
ونفعنا وإياك بالعلم النافع ..
ورزقنا الإخلاص في القول والعمل ..

آميـــــــن ..

elmorsy
07-05-2011, 10:08 PM
7-لكن التحدي الأكبر للفلسفة المادية هو ظاهرة الإنسان بكل ما فيها من أسرار وتركيبية، والتي أخفق العلم الطبيعي تماماً في إدخالها في قفص السببية الصلبة المطلقة الحديدي.

وفى إطار الطبيعة /المادة ظهر ما يمكن تسميته بالإنسان الطبيعي أو الإنسان الطبيعي/ المادي . وهو إنسان لا توجد مسافة تفصله عن الطبيعة ، فهو جزء عضوي لا يتجزأ منها ، لا يمكنه تجاوزها ، فضاؤه فضاؤها ، وسقفها هو سقفه، وهذا يعنى أنه يخضع تماماً لقوانينها ، تحرَّكه أينما شاءت ، لا يمكنه الفكاك من حتمياتها. ويمكن تفسيره في أطار مقولات طبيعية /مادية مستمدة من عالم الطبيعة /المادة: وظائفه البيولوجية (الهضم، التناسل، اللذة الحسية) ودوافعه الغريزية المادية( الرغبة في اللقاء المادي، القوة والضعف، الرغبة في الثروة) والمثيرات العصبية المباشرة(بيئته المادية ، غدده ، جهازه الهضمي) فهو تعبير حقيقي عن الطبيعة / المادة، ، جوهره ليس جوهراً إنسانياً وإنما جوهر طبيعي/مادي، فهو لا يختلف بشكل جوهري عن الكائنات الطبيعة الأخرى.

ونحن نضع في المقابل الإنسان الطبيعي الإنسان الإنسان ، وهو إنسان غير طبيعي/ مادي يحوى داخله عناصر (ربانية) متجاوزة لقوانين الحركة (التي تسرى علي الإنسان والحيوان) ومتجاوزة للنظام الطبيعي/ المادي . هذه العناصر هي التي تشكل جوهر الإنسان والسمة الأساسية لإنسانيته وتفصله عن بقية الكائنات وتميَّزه بوصفه إنساناً .

elmorsy
07-06-2011, 11:01 AM
*-المادية القديمة والمادية الجديدة

يمكننا التمييز بين نوعين من المادية يرتبطان بمرحلتين تاريخيتين مختلفتين :

المادية القديمة والمادية الجديدة. والمادية القديمة هي المادية التي تستند إلى العقلانية المادية ، أي الإيمان بأن العالم ((يحوى داخله ما يكفى لتفسيره دون الحاجة إلى وحى أو غيب))، وهذه العبارة تعنى ما يلي:

1- أن العقل مستقل بذاته ، قادر على التفاعل مع الطبيعة (والواقع الموضوعي) بشكل فعال ، وعلى الوصول إلى القوانين الكامنة في المادة وتجريدها على هيئة قوانين عامة، وأنه يمكنه ، انطلاقا من ذلك ، أن يطور منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية وجمالية تهديه في حياته، ويمكنه على أساسها أن يفهم الماضي والحاضر والمستقبل وأن يُرشَّد حاضره وواقعه.

2- أن الواقع الموضوعي يحوى داخله قوانينه التي يمكن للعقل استيعابها، وهذا الواقع بالتالي ليس مجرد أجزاء غير مترابطة ، وليس مجرد حركة عشوائية, وإنما هو كل متماسك مترابطة أجزاؤه برباط السببية الصلبة، بل والمطلقة، والعقل حينما يدرك الواقع فإنه يدرك هذا الكل المتماسك الثابت المتجاوز للأجزاء المتغيرة، ويدرك أن حركة الأجزاء ليست حركة عشوائية، وإنما هي تعبير عن الكل الثابت المتجاوز، ولذا فعي حركة لها معنى وهدف ، ولها معياريتها ومعقوليتها ، فما يحدث يحدث حسب قانون وليس بالصدفة .

-والعقلانية المادية تستند إلى افتراضين فلسفيين أساسيين:


1- العقل القادر على إدراك الكليات .

2- الكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذو الغرض.

فالرؤية العقلانية المادية تستند إلى افتراض وجود عقل مستقل قادر على إدراك ما نسميه الكل المادي الثابت المتجاوز ذا الهدف. فلو أن العقل قادر على الإدراك بمفرده ، دون أن يكون هناك كليات في الواقع ، لأدرك جزئيات ولما أمكنه أن يؤسس منظومات معرفية وأخلاقية عقلانية. والعكس صحيح أيضاً، فلو أن الواقع هو هذا الكل المادي الثابت المتجاوز ذي الغرض ولا يوجد عقل يدركه ، فإنه لا يمكن أن تنشأ منظومات معرفية وأخلاقية عقلانية بمفردها.

ولكن ظهر داخل المنظومة المادية ذاتها من وجَّه سهام نقده لهذه المادية باعتبارها ميتافيزيقا مادية أو إنسانية ميتافيزيقية أو حتى مثالية مادية. فهم يقولون : ما معنى هذا العقل الكلي القادر على إدراك الكليات؟ ما الفرق بين العقل والدماغ؟ أليس العقل هو مجموعة من الخلايا المادية شأنه شأن كل ما هو مادي؟ لماذا يُنسب للعقل المقدرة على تجاوز الأجزاء والإفلات من قبضة الصيرورة؟ أليس هو ذاته جزءاً من المادة المتغيرة وما ينطبع عليه هو أحاسيس مادية متغيرة وليست ظواهر مترابطة متماسكة لها معنى؟ ولذا فهم يجدون أن المادة المتحركة المتغيرة محايدة لا تتسم بالخير أو بالشر ولا بالقبح أو الجمال. والمنظومات المعرفية والأخلاقية والجمالية التي تدعي المادية، ليس لها أي أساس مادي ، فهي من إفراز عقل إنساني يبحث عن الطمأنينة ويود أن يطبع الثبات على الواقع.

إن ثنائية الإنسان والطبيعة (وكل الثنائيات الأخرى) داخل الإطار المادي هي تعبير عن ميتافيزيقا التجاوز من خلال المادة ،أو ميتافيزيقا التجاوز التي تدعي المادية ، وهى ليست من المادية في شيء . والكل المادي الثابت المتماسك المتجاوز ذو الغرض هو أيضاً وهم مادي ، فكيف يمكن للكل أن يكون مادياً والمادة أجزاء، وكيف يمكن أن يكون ثابتاً والمادة في حالة حركة وصيرورة، وكيف يمكن أن يكون متجاوزاً والمادة لا تعرف التجاوز ،وكيف يمكن أن يكون ذا غرض خاضع لسببية صلبة ، والمادة حركة بلا هدف ولا غاية؟ إن العقلانية المادية في تصورهم هي شكل من أشكال المرجعية المتجاوزة المادية، وهذا تناقض كامل .بل إن أي حديث عن تجاوز وثبات هو سقوط في ميتافيزيقا التجاوز برغم المادية المعلنة. بل هي إشارة للأصل الإلهي للكون، إذ لا يمكن أن يكون هناك تجاوز للصيرورة إلا بالاستناد إلى نقطة خارج الصيرورة، خارج النظام الطبيعي، أي إن الميتافيزيقا المادية تسقط لتصبح ميتافيزيقا إيمانية شاءت أم أبت.

عمار سليمان
06-01-2013, 05:53 PM
ولذا , يصر هؤلاء الماديون الجدد ( أصحاب ما نسميه مذهب المادية الجديدة ) على ضرورة الإبتعاد عن أي تجاوز أو أثبات و الخضوع التام للمادية الحقيقية , أي للصيرورة.هذا الخضوع يعني إلغاء الثنائيات و كل الحدود و الكليات و الثوابت والسببية و أي شكل من أشكال الصلابة , و هو يعني أيضاً إنكار الأصل الإلهي , على أن يقبى الإنسان في قبضة الصيرورة و يصبح مركز العالم (كامناً فيه تماماً) لا يتمتع بأي تجاوز ومن ثم هو ليس بمركز , و إلغاء المركز يعني إلغاء الثنائيات :
ثنائية الذات و الموضوع , و الدال و المدلول , والشكل و المضمون و الخير و الشر , و الوسائل و الغايات , و الإنسان و الطبيعة , و المقدَّس والمدَّنس , و الأزلي والزمني , ولا يبقى سوى المادة المتغيرة المتحركة التي لا هي كلية و لا ثابتة و لا متجاوزة و لا اتجاه لها ولا معنى.

و في إطار المادية القديمة, كان ثمة بحث دائب عن نظم معرفية وأخلاقية تستند الى أساس مادي راسخ ( تماماَ مثل الميتافيزيقيا الإيمانية التي تستند الى أساس غير مادي راسخ ) , وأما المادية الجديدة فهي ترفض تماماً فكرة الأساس , ففكرة الأساس ذاتها هي جوهر الميتافيزيقيا , و المطلوب الآن هو الارتياط بالصيرورة ورفض الأساس , و التطهر تماماً من أي أثر للميتافيزيقا ,و لكن رفض الأساس لابد أن يكون جذرياً ,لذا لا يضع الماديون الجدد الوجود في مقابل العدم و المطلق في مقابل النسبي ثم يثبتون النسبية العدمية , بل إنهم يحاولون تجاوز هذه الثنائية ذاتها ويبحثون عن الثابت / المتغيَّر و المطلق النسبي ! (الذي يُذكر الإنسان بيهوه إله اليهود باعتباره إله الشعب اليهودي وحده , مطلق ذاتي !) , فهو هنا , دون شك مطلق /نسبي,ثابت/متغير, موضوعي/ذاتي .

والمادية الجديدة ليست جديدة تماما، فقد أدركها السفطائيون منذ البداية،فقد أكدوا أن العالم في حركة دائمة وأن العقل غير قادر على الوصول إلى الواقع، وأنه لو وصل إليه فلن يمكنه التعامل معه، ولو تعامل معه فلن يمكنه التواصل مع العقول الأخرى، ولو تواصل مع العقول الأخرى فلن يجدي هذا فتيلا، فالواقع الموضوعي ذاته في حركة دائمة ولايخضع لأي قانون، أي إن العلاقة التفاعلية التبادلية بين العقل والطبيعة، التي تشكل أساس المادية القديمة، أساس غير راسخ ومنذ عصر النهضة في الغرب والاستنارة، كان هناك دائما دعاة الاستنارة المظلمة : فكان هناك هوبز ينبه الى الذئب الرابض في الإنسان والماركيز دي صاد الذي ادرك عدم اكتراث الطبيعة بالغائية الانسانية وادرك الصيرورة الكاملة ، فقرر من البداية أن يسقط في قبضتها ويدخل حديقة الحيوان الي رآها هوبز فيعذب الضحايا ويقتلها حتى يدخل على نفسه المتعة الجنسية الحقة!ومع هذا دخلت الفلسفة الغربية مرحلة عقلانية مادية تدور في إطار الكل الثابت المادي المتجاوز حى منتصف القرن التاسع عشر. وحين بدأ شوبنهاور مرحلة السيولة الشاملة ، جعل من الإرادة مطلقة النسبي، ثابة المتغير ثم جاء نيتشه بإرادة القوة وتوالت الثوابت المتغيرة، فهناك برجسون ووثبه الحياة (إيلان فيتال) والفينومنونوجيا وعالم الحياة (ليبنزفيلت)والبنيوية ومفهوم البنية، وكل هذه الفلسفات تقف بشراسة ضد الفلسفة الهيجيلية ومع هذا فإن مطلقها المتغير يشبه في كثير من الوجوه العقل الهيجلي المطلق غير المكتمل الذي يصل إلي كماله في التاريخ داخل الزمان فهو مشروع مستمر يدور حول ثابت متغيرمطلق نسبي لايصل إلى ثباته وإطلاقه الكاملين إلا في نهاية التاريخ.وهنا ظهر دريدا ليكمل مشروع المادية الجديدة فيعلن أن المطلق النسبي الثابت المتغير يسقط هو الاخر في المتافيزيقا إذ إنه ينسب لنفسه التجاوز والثبات ولذا لابد من الإصرار على الصيرورة النسبية والاحتمالية الكاملة وإنكار أي سببية، والإصرار على أسبقية اللغة على الواقع وهو مايعني أن لعب الدوال وراقصها هو الحقيقة الواحدة فيحدث تناثر للمعنى في النص والنصوص ولايبقى شئ سوى الصيرورة الحقة ورقص القلم والقصص الصغرى التي ليس لها معنى عام ويختفي الحق والحقيقة ويصبح من لغو الحديث الإشارة إلى إقامة العدل في الأرض .

إن المادية الجديدة كامنة في المادية القديمة , و مع هذا فهي تختلف عنها جوهرياً , فالمادية الجديدة ليست ثورة ضد الميتافيزيقيا الإيمانية و حسب , و إنما هي أيضاً ضد الميتافيزيقيا المادية , بكل إيمانها بالثبات و التجاوز و الإنسانية مقدرة العقل على إدراك الواقع و تجريد قوانينه منه , بمعنى أنها ثورة على العقلانية المادية ذاتها.

عمار سليمان
06-10-2013, 08:15 PM
-العقلانية المادية و اللاعقلانية المادية

ويرتبط مفهوم المادية القديمة و الجديدة بمفهوم العقلانية المادية و اللاعقلانية المادية , و العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة من خلال قنوات إدراكية مختلفة من بينها الحسابات المادية الصارمة دون استبعاد العاطفة و الإلهام و الحدس و الوحي, و الحقيقة حسب هذه الرؤية يمكن أن تكون حقيقة مادية بسيطة , أو حقيقة إنسانية مركبة ,أو حقائق تشكل إنقطاعاً في النظام الطبيعي .

و من ثم يمكن لهذا العقل أن يدرك المعلوم ولا يرفض وجود مجهول , و هذا العقل يدرك تماماً أنه لا (( يؤسس )) نظماً أخلاقية أو معرفية , فهو يتلقى بعض الأفكار الأولية و يصوغها استنادا إلى المنظومة الأخلاقية الأولية و يصوغها استناداً إلى المنظومة أخلاقية و معرفية مسبقة ,

ولكن هناك من يذهب الى أن العقلانية هي الإيمان بأن العقل قادر على إدراك الحقيقة , بمفرده دون مساعدة من عاطفة أو إلهام أو وحي , و بأن الحقيقة هي الحقيقة المادية المحضة لتي يتلقاها العق لوحدها من خلال الحواس , و بأن العقل إن هو إلا جزء من هذه الحقيقة المادية فهو يُوجد داخل حيز التجربة المادية محدوداً بحدودها (لا يمكنه تجاوزها) , و أنه بسبب ماديته هذه قادر على التفاعل مع الطبيعة/ المادة , و يمكنه إنطلاقاً منها ( و منها وحدها ) أن ((يؤسس)) منظومات معرفية وأخلاقية ودلالية و جمالية تهديه في حياته , و يمكنه على أساسها أن يفهم الماضي و الحاضر ويفسرهما , و يرشد حاضره وواقعه و يخطط لمستقبله.

و نحن نذهب الى نه لا توجد علاقة ضرورة بين العقلانية و المادية , فهناك نظم سياسية مادية عقلانية و نظم عقلانية ليست مادية ,فالنظام السياسي الأمريكي مبني على فصل الدين عن الدولة , و قد نجح الأمريكيون في بعض مراحل تاريخهم على الأقل في تطوير نظام عقلاني يعبر عن مطامع الشعب الأمريكي بشكل معقول , و النظام النازي هو الآخر كان نظاماً مادياً شرساً في ماديته و لكنه كان عقلانياُ بصورة تامة و كان يتحرك في إطار نظريه العرقية الشمولية التي شكلت مرجعيته المادية الكامنة , و النظام الستاليني , كان هو الآخر نظاما ًمادياً نموذجياً ,و لكن لا يمكن لأحد أن يزعم أنه كان نظاماَ عقلانياً, و هناك نظم تستند الى عقائد دينية يذخر بها تاريخ الإنسان.

بل إننا نذهب الى أن العقلانية المادية تؤدي في مراحلها المتقدمة الى اللاعقلانية المادية , فالعقل المادي - كما أسلفنا - عقل تفكيكي عدمي غير قادر على التركيب أو التجاوز ,و يتضح هذا من أنه عقل قادر على إفراز قصص (نظريات) صغرى مرتبطة بفضائها الزمني و المكاني المباشر على أحسن تقدير ( كما يقول دعاة ما بعد الحداثة ) , أي إنه قادر على إفراز مجموعة من الأقوال التي ليست لها أية شرعية خارج نطاقها المادي المباشر و الضيق و المحسوس ( فالعقل المادي يٌدرك الواقع بطريقة حسية مباشرة ) ومن ثم فهو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة ,و عاجز عن التوصل للحقيقة الكلية و المجردة التي تقع خرج نطاق التجريب , و لذا فالعقل المادي لا يُنكر الميتافيزيقيا و حسب ,و إنما سنكر الكليات تماماً و ينتهي به الأمر بالهجوم على العقل الإنساني والعقل النقدي , لأنهما يتوهمان أنهما يتمتعان بقدر من الإستقلال عن حركة الطبيعة / المادة ,,و بذلك يختفي الإنسان بوصفه مرجعية نهائية ثم تختفي سائر المرجعيات , و تصبح الإجراءات هي الشيء الوحيد المتفق عليه و هكذا لا يتحرر العقل المادي من الأخلاق و حسب و إنما يتحرر من الكليات و الهدف و الغاية و العقل , ومن ثم تتحول العقلانية المادية إلى الاعقلانية المادية.

و إن كانت العقلانية المادية أفرزت فكر حركة الاستنارة و الوضعية المنطقية و الكل المادي المتجاوز للإنسان , فقد أفرزت اللاعقلانية المادية النيتشوية و الوجودية و الفينومونولوجية و هايدجر و ما بعد الحداثة , و الإنتقال من التحديث الى الحداثة و إلى ما بعد الحداثة هو الإنتقال من العقلانية المادية التي تربط بين التجريب و العقلانية ( في مرحلة المادية القديمة و مرحلة المادية الصلبة ) الى اللاعقلانية المادية التي تفصل بينهما , فيتم التجريب دون ضابط ودون إطار ( في مرحلة المادية الجديدة والسيولة الشاملة) ,و تسود الآن في مجال العلوم نزعة تجريبية محضة ترفض الكليات العقلية ( إنسانية كانت أم مادية ) و تلتصق تماماً بالمادة و حركتها و عالم الحواس .

و مع هذا يمكن القول بإن العقلانية المادية كثيراً ما تعايش مع اللاعقلانية المادية و ترتبط بها , فالوضعية العلمية المنطقية هي تعبير عن العقلانية المادية حيث لا يؤمن الإنسان إلا بالتجريب والأرقام , و لكنها في الوقت ذاته تعبر عن العقلانية المادية , فهي لا تشتغل بالكليات و المنطلقات الفلسفية , و قد أشرنا الى أن النازية ,كما يراها بعض المؤرخين = هي قمة العقلانية المادية , و نحن نتفق معهم في هذا , ونضيف أن هذا لا يمنع من أن تكون قمة الاعقلانية المادية أيضا , فهي تعبير عن تبلوُر نزعة تجريبية محضة,و ترفض الكليات الإنسانية والعقلية و أي شكل ن أشكال الميتافيزيقا , وتلتصق تماماً بحركة المادة و عالم الحواس و لعل الفلسفة العلمانية الشاملة الأساسية ,أي الدارونية الإجتماعية , هي تعبير عن هذا التعايش و الترابط بين العقلانية و اللاعقلانية.

عمار سليمان
06-11-2013, 06:38 PM
_ المرجعية النهائية : المتجاوزة و الكامنة

قبل أن ننهي هذا الفصل قد يكون من المفيد أن نعرف مصطلحين ستكرران في هذه الدراسة:

الأول مصطلح المرجعية المتجاوزة في مقابل المرجعية الكامنة.

و المرجعية هي الفكرة الجوهرية التي تشكل أساس كل الأفكار في نموذج و الركيزة النهائية الثابتة له التي لا يمكن أن تقوم رؤية العالم دونها ( فهي ميتافيزيقا النموذج ) , و المبدأ الواحد الذي تُرد إليه تلك الأشياء و تُنسب إليه ولا يُرد هو أو ينسب إليها , و من هنا يمكن القول بأن المرجعية هي المطلق المكتفي بذاته و الذي يتجاوز كل الأفراد و الأشياء و الظواهر , وهو الذي يمنح العالم تماسكه و نظامه و معناه و يحدد حلاله و حرامه , و عادة ما نتحدث عن المرجعية النهائية باعتبار أنها أعلى مستويات التجريد , تتجاوز كل شيء و لا يتجاوزها شيء , و يمكننا الحديث عن مرجعيتين: مرجعية نهائية متجاوزة ومرجعية نهائية كامنة,

1_المرجعية النهائية المتجاوزة

المرجعية النهائية يمكن أن كون نقطة خارج عالم الطبيعة مجاوزة لها و هي ما نسيمها المرجعية المتجاوزة ( للطبيعة و التاريخ و الإنسان) و هذه النقطة المرجعية المتجاوزة , في النظم التوحيدية هي الإله الواحد المنزّه ع الطبيعة و التاريخ , الذي يحركهما و لا يحل فيهما , ووجوده هو ضمان أن المسافة التي تفصل الإنسان عن الطبيعة فلن تُختزل و لن تُلغى , فالإنسان قد خلقه الله و نفخ فيه من روحه ,و كرمه,و استأمنه على العالم , و استخلفه فيه , أي أن الإنسان أصبح مركز الكون بعد أن خُمل عبء الأمانة و الاستخلاف ,

كل هذا يعني أن الإنسان يحوي داخله بشكل مطلق الرغبة في التجاوز و رفض الذوبان في الطبيعة , و لذا فهو بظل مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي .كما أنه يعني أن إنسانية الإنسان وجوهره الإنساني مرتبط تمام الارتباط بالعنصر الرباني فيه ,ومع هذا فبإمكان النظم الإنسانية الهيومانية ( التي لا تعترف بالضرورة بوجود الإله ) أن تجعل الإنسان مركز الكون المستقل القادر على تجاوزه , و من ثم تصبح له أسبقية على الطبيعة/ المادة.

عمار سليمان
06-12-2013, 07:06 PM
2-المرجعية النهائية الكامنة

يمكن أن تكون المرجعية النهائية الكامنة في العالم ( الطبيعة أو الإنسان) , ومن هنا تسميتنا لها بالمرجعية الكامنة , و في إطار المرجعية الكامنة يُنظر للعالم باعتبار أنه يحوي جاخله ما يكفي لتفسيره دون حاجة إلى اللجوء إلى أي شيء خارج النظام الطبيعي , و لذا , لابد ان تسيطر الواحدية , وإن ظهرت ثنائيات فهي مؤقتة يتم تصفيتها في نهاية الأمر وفي التحليل الأخير , ففي إطار المرجعية الكامنة لا يوجد سوى جوهر واحد في الكون , مادة واحدة يتكون منها كل شيء بما في ذلك المركز الكامن ذاته ( ومن هنا إشارتنا أحياناً إلى المرجعية الكامنة المادية بأنها المرجعية النهائية الكامنة أو المرجعية الواحدية المادية) و نحن نذهب إلى أن كل النظم المادية تدور في إطار المرجعية الكامنة , ومن هنا إشارتنا إلى المادية باعتبارها وحدة الوجود المادية ,

و في إطار المرجعية المادية الكامنة , فإن الإنسان كائن طبيعي ,و ليس مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي , و إنما هو مستوعب تماماً فيه ,و يسقط تماماً في قضية الصيرورة , فتسقط المرجعية الإنسانية و تصبح الطبيعة/ المادية هي المرجعية الوحيدة النهائية ,

و يرتبط بهذا التعريف تعريفنا لوحدة الوجود (الروحية و المادية) , و وحدة الوجود في تصورنا تعني القول بأن مركز العالم (المبدأ الواحد) حالّ و كامن فيه ,و هو يبتدي في صيغتين مختلفتين ظاهراً , هما في واقع الأمر صيغة واحدة برغم اختلاف التسميات التي تطلق عليه:

أ- في المنظومات الحلولية الكمونية الروحية ( وحدة الوجود الروحية ) يُسمى المبدأ الواحد الإله , ولكنه إله يحلّ في مخلوقاته و يمتزج ثمّ يتوحد معها و يذوب فيها تماماً بحيث لا يصير له وحود دونها و لا يصير لها وجود دونه حلولية شحوب الإله , فهو إله اسماً و لكنه هو الطبيعة / المادة فعلاً , و قد طور هيجل هذه الصياغة فتحدث عن الروح المطلق أو روح التاريخ فيبد وكأنه يتحدث عن أمور روحية مثالية , و لكنه في واقع الأمر يتحدث عن عناصر مادية محسوسة,

ب- المنظومات الحلولية الكمونية المادية ( وحدة الوجود المادية ) , يتم الاستغناء تماماً عن أية لغة روحية أو مثالية و يُسمى المبدأ الواحد قوانين الطبيعة أو القوانين العلمية أو القوانين المادية أو قانون الحركة ( ولذا فنحن نسميها حلولية من دون إله ) , هذا القانون هو قانون شامل يمكن تفسير كل الظواهر - ومن بينها الظاهرة الإنسانية - من خلاله.

و برغم الاختلاف الظاهر بين وحدة الوجود الروحية و وحدة الوجود المادية فإن بنيتهما واحدة , يتسمان بالواحدية و بمحو الثنائيات و المقدرة على التجاوز..

-الوحدوية المادية

أما المصطلح الثاني الذي يشكل سيتكرر في هذه الدراسة فهو الوحدوية المادية وهي توحد الانسان بالطبيعة بحيث يرد كله الى مبدأ واحد كامن في الكون ومن ثم فإن عالمنا المادي لا يشير إلي أي شيئ خارجه فهو عالم لا ثغرات فيه ولا مساحات ولا انقطاع ولا غائيات تم إلغاء كل الثنائيات داخله وضمنها ثنائية الخالق والمخلوق والانسان والطبيعة والخير والشر والأعلى والأدنى وتم تطهيره تماما من المطلقات والقيم وتم اختزاله كله الى مستوى القانون الطبيعي/المادي/أو الطبيعة / المادة ( المطلق العلماني النهائي ) وفي مثل هذا العالم الواحدي الأملس يوجد مجال للوهم القائل بأن الانسان يحوي من الأسرار ما لا يمكن الوصول إليه وأن ثمة جوانب فيه غير خاضعة لقوانين الحركة المادية بل ويمكن تطبيق الصيغ الكمية والاجراءات العقلانية الأداتية على الانسان كما يمكن إدارة العالم بأسره حسب هذه الصيغ ويتحول العالم إلى واقع حسي مادي نسبي خاضع للقوانين العامة للحركة (ومن ثم قابل للقياس والتحكم الهندسي والتنميط ) وإلى مادة استعمالية يمكن توظيفها وحوسلتها )

في هذا الإطار تصبح المعرفة مسألة تستند إلى الحواس وحسب، ويصبح العالم الطبيعي هو المصدر الوحيد أو الأساسي للمنظومات المعرفية والأخلاقية وترد الأخلاق إلى الاعتبارات المادية (الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ) وتنفصل الحقائق المادية تماما عن القيمة ويظهر العلم المنفصل عن الأخلاق وعن الغائيات الإنسانية والدينية والعاطفية والأخلاقية وتصبح الحقائق المادية (الصلبة أو السائلة ) المتغيرة هي وحدها المرجعية المعرفية والأخلاقية المقبولة وتصبح سائر الأمور (المعرفية والأخلاقية ) نسبية صالحة للتوظيف والاستخدام بل إن هذه الرؤية الواحدوية المادية في مراحلها المتقدمة بإنكارها أي ثبات ينتهي بها الأمر إلى إنكار وجود الماهيات والجوهر، بل والطبيعة البشرية نفسها ، باعتبارها جميعا اشكال من الثبات والميتافيزيقا عالم العلمانية الشاملة والترشيد في الإطار المادي .

متعلم أمازيغي
06-13-2013, 02:16 PM
بارك الله فيكما
إن شاء الله ابتداء من هذا المساء سأعينكما على تفريغ هذا الكتاب المتميز للدكتور المسيري رحمه الله تعالى.

Eslam Ramadan
06-14-2013, 12:36 PM
السلام عليكم
هل تسمحوا لى بالمساهمة معكم اساتذتنا الكرام ؟
أقتنيت الكتاب مؤخراً ، واستطيع المساهمة
سأكتب الفصل الثانى من حيث توقف الأستاذ عمار ، والأستاذ متعلم تستطيع أن تبدأ من الفصل الثالث إن كنت لم تبدأ فى الثانى بالفعل

من الممكن أن ننهى الكتاب فى ثلاثة أيام أن قمنا بتقسيم العمل جيداً ، بارك الله فيكم وفى أعمالكم وفى افكاركم الطيبة

متعلم أمازيغي
06-14-2013, 07:47 PM
أرى أخي الحبيب أن يقوم كل منا بكتابة نقطة في فصل..
من الصعب جدا أن نكتب فصلا كاملا دفعة واحدة..
مثلا في الفصل الثاني المعنون بـ (إشكالية الطبيعي و الإنساني) تناول ما يلي :
الفرق بين الظاهرة الطبيعية و الظاهرة الإنسانية ص41.
إشكالية الإنساني و الطبيعي في العالم العربي. ص46.
الشرح و التفسير. ص 51.
فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان. ص 54.
المساواة و التسوية ص 57.
الهجوم على الطبيعة البشرية ص 62.

فالفصل بأكمله يستغرق 21 صفحة..

Eslam Ramadan
06-14-2013, 08:07 PM
جميل أخى ، إذن دورك أخى أن تقسم العمل علينا نحن
أعطنى ما أكتبه وأنا سأنتهى منه إن شاء الله- حتى لا تتداخل الأمور ونضيع مجهودنا
تقبل تحياتى

متعلم أمازيغي
06-14-2013, 08:31 PM
لا أدري إن كان الأخ عمار سيشاركنا..
مهما يكن، سأكتب النقطة الأولى من الفصل و أنت تكتب الثانية و هكذا..

Eslam Ramadan
06-14-2013, 09:31 PM
تمام أنا بدأت بالفعل فى كتابة النقطة الثانية بالتوفيق أخى
وسأراسلك عند النهاية إن شاء الله

عمار سليمان
06-14-2013, 10:47 PM
ما شاء الله تبارك الله , اللهم زد و بارك .

رأي أخي أمازيغي أراه أقرب للصحة بسبب طول الفصول كما قال و قليل دائم خيرمن كثير منقطع , و على بركة الله علنا ننهي الكتاب بإسرع وقت ممكن لنحدد بعده كتاب أخر كي نفيد الأخوة في الرد على الإلحاد و أهله

و أنا سأكتب الثالثة و نرفعها كلنا غداً إن أردتما.؟

Eslam Ramadan
06-14-2013, 11:08 PM
ما شاء الله تبارك الله , اللهم زد و بارك .

رأي أخي أمازيغي أراه أقرب للصحة بسبب طول الفصول كما قال و قليل دائم خيرمن كثير منقطع , و على بركة الله علنا ننهي الكتاب بإسرع وقت ممكن لنحدد بعده كتاب أخر كي نفيد الأخوة في الرد على الإلحاد و أهله

و أنا سأكتب الثالثة و نرفعها كلنا غداً إن أردتما.؟

تمام استاذنا الكريم الأخ متعلم بالفعل أنهى النقطة الأولى ، وأنا أنهيت الثانية ، فقط ننتظر التنسيق ، والنقطة الثالثة التى ستكتبها حضرتك بإذن الله
بالتوفيق إن شاء الله

متعلم أمازيغي
06-14-2013, 11:30 PM
الفصل الثاني : إشكالية الطبيعي و الإنساني

النموذج التفسيري المادي قد أحرز شيوعا غير مسبوق لأسباب بيناها في الفصل السابق، لكن هذا النموذج غير قادر على التعامل مع الإنسان بنفس الكفاءة التي يتسم بها حين يتعامل مع الأشياء.

الفرق بين الظاهرة الطبيعية و الظاهرة الإنسانية

ثمة ثنائية فضفاضة تسم الوجود الإنساني (الخالق-المخلوق، الإنسان-الطبيعة). و ثنائية الإنسان-الطبيعة هي أهم هذه الثنائيات. و قد عبرت عن نفسها في الجدل المثار في العلوم الإنسانية منذ ظهورها في القرن التاسع عشر. و هل هناك علم طبيعي مختلف عن العلوم الإنسانية أم أن هناك وحدة (أي واحدية) للعلوم؟
يطلق مصطلح العلم الطبيعي على كل دراسة تتناول معطيات الواقع المادي بكلياته و جزئياته. و وسيلة هذه الدراسة هي منهج الملاحظة المباشرة و التجربة المتكررة و المتنوعة. و الدراسة و عمليات التجريب كذلك تتم بهدف التفسير من خلال التوصل إلى تعميمات و قوانين تحقق الانتقال من الخاص إلى العلم، و تكشف عن العلاقات المطردة الثابتة بين الظواهر. و هذه القوانين يتم التعبير عنها عن طريق تحويل صفات الكيف (التي لا تقاس) إلى صفات كم بحيث يتم التعبير عنها برموز رياضية. و تتميز قوانين العلوم الطبيعية بأنها دقيقة و عامة تتخطى الزمان و المكان، و هي حتمية ( و لكنها، بعد اهتزاز الحتمية، أصبحت احتمالية ترجيحية : ترجيحية تقارب اليقين، و تظل صالحة للاستعمال حتى يثبت بطلانها)
و يذهب البعض إلى أن نموذج العلوم الطبيعية لا بد أن يطبق في كل العلوم الأخرى، بما في ذلك العلوم الاجتماعية و الإنسانية. و قد لاحظ كثير من العلماء في الشرق و الغرب خلل مثل هذه المحاولة، نذكر منهم د. حامد عمار، د. توفيق الطويل، د. حسن الساعاتي، د. الجوهري الذين بينوا الاختلافات بين الظاهرة الإنسانية و الظاهرة الطبيعية، و نوجزها فيما يلي :

1.أ) الظاهرة الطبيعية مكونة من عدد محدود نسبيا من العناصر التي تتميز ببعض الخصائص البسيطة، و هذا يعني أنه يمكن تفتيتها إلى الأجزاء المكونة لها. كما أن الظاهرة الطبيعية توجد داخل شبكة من العلاقات الواضحة و البسيطة نوعا، و التي يمكن رصدها.
1.ب) الظاهرة الإنسانية مكونة من عدد غير محدود تقريبا من العناصر التي تتميز بقدر عال من التركيب، و يستحيل تفتيتها، لأن العناصر مترابطة بشكل غير مفهوم لنا. و حينما يفصل الجزء عن الكل، فإن الكل يتغير تماما و يفقد الجزء معناه. و الظاهرة الإنسانية توجد داخل شبكة من علاقات متشابكة متداخلة بعضها غير ظاهر و لا يمكن ملاحظته.
2.أ) تنشأ الظواهر الطبيعية عن علة أو علل يسهل تحديدها و حصرها، و يسهل بالتالي تحديد أثر كل علة في حدوثها و تحديد هذا الأثر تحديدا رياضيا.
2.ب) الظاهرة الإنسانية يصعب تحديد و حصر كل أسبابها، و قد تعرف بعض الأسباب لا كلها، و لكن الأسباب تكون في العادة متداخلة متشابكة، و لذا يتعذر في كثير من الحالات حصرها و تحديد نصيب كل منها في توجيه الظاهرة التي ندرسها.
3.أ) الظاهرة الطبيعية وحدة متكررة تطرد على غرار واحد و بغير استثناء : إن وجدت الأسباب ظهرت النتيجة. و من ثم، نجد أن التجربة تجرى في حالة الظاهرة الطبيعية على عينة منها ثم يعمم الحكم على أفرادها في الحاضر و الماضي و المستقبل.
3.ب) الظاهرة الإنسانية لا يمكن أن تطرد بدرجة الظاهرة الطبيعية نفسها، لأن كل إنسان حالة متفردة، و لذا نجد أن التعميمات، حتى بعد الوصول إليها، تظل تعميمات قاصرة و محدودة و منفتحة و تتطلب التعديل في أثناء عملية التطبيق من حالة إلى أخرى.
4.أ) الظاهرة الطبيعية ليست لها إرادة حرة و لا وعي و لا ذاكرة و لا ضمير و لا شعور و لا أنساق رمزية تسقطها على الواقع و تدركه من خلالها، فهي خاضعة لقوانين موضوعية (برانية) تحركها.
4.ب) الظاهرة الإنسانية على خلاف هذا، ذلك لأن الإنسان يتسم بحرية الإرادة التي تتدخل في سير الظواهر الإنسانية، كما أن الإنسان له وعي يسقطه على ما حوله و على ذاته فيؤثر هذا في سلوكه. و الإنسان له ذاكرة تجعله يسقط تجارب الماضي على الحاضر و المستقبل، كما أن نمو هذه الذاكرة يغير من وعيه بواقعه. و ضمير الإنسان يجعله يتصرف أحيانا بشكل غير منطقي (من منظور البقاء و المنفعة المادية) كما أن الأنساق المادية الرمزية للإنسان تجعله يلون الواقع البراني بألوان جوانية.
5.أ) الظواهر الطبيعية ينم مظهرها عن مخبرها، و يدل عليه دلالة تامة بسبب ما بين الظاهر و الباطن من ارتباط عضوي شامل يوحد ما بينهما فيجعل الظاهرة الطبيعية كلا مصمتا تحكمه من الداخل و الخارج قوانين بالغة في الدقة لا يمكنها الفكاك منها، و لهذا تنجح الملاحظة الحسية و الملاحظة العقلية في استيعابها كلها.
5.ب) الظواهر الإنسانية ظاهرها غير باطنها (بسبب فعاليات الضمير و الأحلام و الرموز) و لذا فإن ما يصدق على الظاهر لا يصدق على الباطن، و حتى الآن، لم يتمكن العلم من أن يلاحظ بشكل مباشر التجربة الداخلية للإنسان بعواطفه المكبوتة و أحلامه الممكنة أو المستحيلة.
6.أ) لا يوجد مكون شخصي أو ثقافي أو تراثي في الظاهرة الطبيعية، فهي لا شخصية لها، مجردة من الزمان و المكان تجردها من الوعي و الذاكرة و الإرادة.
6.ب) المكون الشخصي و الثقافي و الذاتي مكون أساسي في بنية الظاهرة الإنسانية. و الثقافة ليست شيئا واحدا و إنما هي ثقافات مختلفة، و كذا الشخصيات الإنسانية.
7.أ) معدل تحول الظاهرة الطبيعية يكاد يكون منعدما (من وجهة نظر إنسانية)، فهو يتم على مقياس كوني، كما أن ما يلحق بها من تغير يتبع نمط برنامج محدد، و لذا فإن الظواهر الطبيعية في الماضي لا تختلف في أساسياتها عنها في الحاضر، و يمكن دراسة الماضي من خلال دراسة الحاضر.
7.ب) معدل التغير في الظواهر الإنسانية أسرع بكثير و يتم على مقياس تاريخي، و ما يطرأ عليها من تغير قد يتبع أنماطا مسبقة، و لكنه قد ينسلخ عنها. و عالم الدراسات الاجتماعية لا يستطيع أن يرى أو يسمع أو يلمس الظواهر الإنسانية التي وقعت في الماضي، و لذا فهو يدرسها عن طريق تقارير الآخرين الذين يلونون تقاريرهم برؤيتهم، فكأن الواقعة الإنسانية في ذاتها تفقد إلى الأبد فور وقوعها.
8.أ) بعد دراسة الظواهر الطبيعية و الوصول إلى قوانين عامة، يمكن التثبت من وجودها بالرجوع إلى الواقع. و لأن الواقع الطبيعي لا يتغير كثيرا، فإن القانون العام له شرعية كاملة عبر الزمان و المكان.
8.ب) بعد دراسة الظواهر الإنسانية، يصل الإنسان إلى تعميمات. فإن هو حاول تطبيقها على مواقف إنسانية جديدة فإنه سيكتشف أن المواقف الجديدة تحتوي على عناصر جديدة و مكونات خاصة، إذ من غير الممكن أن يحدث في الميادين الاجتماعية ظرفان متعادلان تماما، و متكافئان من جميع النواحي.
9.أ) لا تتأثر الظواهر الطبيعية بالتجارب التي تجرى علينا سلبا أو إيجابا، كما أن القوانين العامة التي يجردها الباحث و النبوءات التي يطلقها لن تؤثر في اتجاهات مثل هذه الظواهر، فهي خاضعة تماما للبرنامج الطبيعي.
9.ب) تتأثر العناصر الإنسانية بالتجربة التي قد تجرى عليها، فالأفراد موضوع البحث يحولون من سلوكهم (عن وعي أو عن غير وعي) لوجودهم تحت الملاحظة، ففي إمكانهم أن يحاولوا إرضاء صاحب التجربة أو يقوضوا من نتائجه. كما أن البنوءات التي يطلقها الباحث قد تزيد من وعي الفاعل الإنساني و تغير من سلوكه.
10.أ) يمكن للباحث الذي يدرس الظاهرة الطبيعية أن يتجرد إلى حد كبير من أهوائه و مصالحه، لأن استجابته للظاهرة الطبيعية و للقوانين الطبيعية يصعب أن تكون استجابة شخصية أو أيديولوجية أو إنسانية، و لذا يمكن للباحث أن يصل إلى حد كبير الموضوعية.
10.ب) أما الباحث الذي يدرس الظاهرة الإنسانية فلا يمكنه إلا أن يستجيب بعواطفه و كيانه و تحيزاته، و من خلال قيمه الأخلاقية و منظوماته الجمالية و الرمزية، و لذا يصعب عليه التجرد من أهوائه و مصالحه و قيمه التي تعوقه في كثير من الأحيان عن الوصول إلى الموضوعية الصارمة.

و لكل ما تقدم فإن من الممكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة المتكررة على العناصر الطبيعية، و يمكن قياسها بمقاييس كمية رياضية، فهي تخلو من الاستثناءات و التركيب و الخصوصيات، و يمكن التوصل إلى قوانين عامة تتسم بالدقة تنطبق على الظاهرة في كليتها و في جوانيتها و برانيتها. أما الظاهرة الإنسانية، فلا يمكن إجراء التجارب المباشرة المنضبطة عليها و يستحيل تصويرها بالمعادلات الرياضية الدقيقة إذ لا تخلو من الاستثناءات و التركيب و الخصوصيات، و لذا لا يمكن التوصل إلى قوانين عامة (و إن تم التوصل إلى قوانين فلابد أن تعوزها الدقة و الضبط). و هناك عدد كبير من الكتاب الغربيين من أوائلهم فيكو، و من أهمهم كانط و ديلتاي و ريكرت، ينطلقون من محاولة التمييز بين الإنسان و الطبيعة. و لكن غالبية المفكرين الغربيين يدورون في إطار الواحدية المادية ( أو الواحدية المثالية) و يحاولون القضاء على هذه الثنائية تماما و إلغاء الحيز الإنساني و بالتالي يدافعون عن وحدة العلوم

متعلم أمازيغي
06-14-2013, 11:44 PM
بارك الله فيكما يا إخواني عمار و إسلام رمضان.. و أسأل الله تعالى أن يأجرنا على كل حرف سطرته أناملنا في سبيله.
لقد نشرت نقطتي..
بعد أن اتفقنا على طريقة النشر أرجو أن تقوم الإدارة بحذف النقاش الذي دار بيننا، حتى يبقى نص الكتاب فقط..
و أرى بعد إنهاء هذا الكتاب أن نفرغ الكتاب الذي اعتمد عليه المسيري كثيرا هنا، و هو كتاب علي عزت بيجوفيتش " الإسلام بين الشرق و الغرب"، فما رأيكما؟..

Eslam Ramadan
06-14-2013, 11:59 PM
-إشكالية الإنساني والطبيعي فى العالم العربي

ثمة وعي عميق بإشكالية التمييز بين الإنساني والطبيعي فى الأدبيات العربية ، فالمفكر الماركسي د. فؤاد مرسي يدعو بوضوح فى كتاب (إشكالية العلوم الاجتماعية ) فى دراسة له بعنوان (( المنهج بين الوحدة والتعدد )) إلى عدم التمييز بين الإنسان والطبيعة ، فيعرف الإنسان بأنه ((قوة من قوى الطبيعة ؛ إنسان طبيعى / مادى يتكيف معها ، ولكنه فى الوقت نفسه يعيد صيغتها . وهذه هى الإشكالية الكبرى التى تواجه الماديين ودعاة العلمانية الشاملة : هل الإنسان الطبيعى / المادى يذعن للطبيعة أم أنه يهيمن عليها ؟ وتتضح الإشكالية فى كتابات د . فؤاد مرسى نفسه ، فهو يؤكد أن الإنسان سيزداد بعداً عن الحيوان ، ولكنه يعود ويعرف الإنسان فى اطار طبيعى مادى ويجد أن (( الاقتصاد هو مجال رئيسى للعلاقة المتبادلة بين الطبيعة والمجتمع (( فبعد أن ابتعد)) الإنسان عن الحيوان، وهو ما يعنى ابتعادة عن الطبيعة وتفوقه عليها فإنه يعود فيدخل فى علاقة ((تبادلية )) تفترض المساواة الكاملة . وتظهر هذه التبادلية بشكل اوضح حين يوحد د. فؤاد مرسي بين الطبيعة والمادة ، فيقول : (( لهذا اصبح العالم كله ، طبيعياً وأجتماعياً ، علماً ذا طابع أجتماعى )). واصبح تقدم البشرية حالياً رهناً إلى حد مبير بالتداخل الأكبر والتفاعل بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية )) . والتداخل والتفاعل قد يعنى ثنائية ( وهو ما يرفضه الفكر المادى ) ، وقد يعنى مساواةً وتوحداً ، وهو على الأرجح ، ولذا نحده فى السطر التالى يقول : (( إن كل محاولة للفصل بين المجتمع والطبيعة تصبح محاولة وهمية . فوجود المجتمع هو جانب من وجود الطبيعة )). ولكنه يعود للثنائية فيقول :(( إن وحدة الثورتين التكنولوجية والاجتماعية كفيلة فى المستقبل أن تجعل من البشر لأول مرة فى التاريخ ، السادة الحقيقيين للطبيعة )). ثم يتحدث عن احتدام الصراع بين الطبيعة والإنسان وعن ( الإنسان الشامل الذى يختزن فى نفسه قدراً لا مثيل له من المعرفة بالكون كله )). ولكن ما النتيجة النهائية لهذا التأرجح الكوميدى بين الأندماج العضوى فى الطبيعة والإذعان لها من جهة، والانفصال عنها وتملكها والهيمنة عليها من جهة أخرى ؟
يختتم الدكتور مرسى مقالة بقوله (( هناك يتوحد الإنسان تماماً مع المجتمع والطبيعة )) أى إن الحالة الجنينية تنتصر تماماً . وعلى كل فإن عنوان هذا الجزء من المقال هو (( نحو وحدة الكون )) وليس : نحو مركزية الإنسان فى الكون أي هيمنته عليه .

ولكن العدد الأكبر من علمائنا الأجلاء كانوا من المدافعين عن الإنسان ضد المادية والطبيعية . فعلى سبيل المثال ، يقول الدكتور حامد عمار فى كتابه من (همومنا التربوية والثقافية ) :

(( إن منهج التفكير العلمى الذى ارسته العلوم الطبيعية قد شاع باعتباره المنهج الوحيد فى الوصول إلى المعرفة الصحيحة . واصطنعت العلوم الأجتماعية الإنسانية هذا المنهج فى دراستها وبحوثها . بيد أن معظمها قد توقف عند المرحلة النيوتونيه من مناهج البحث العلمى الطبيعى، واختزال المنهج إلى تجزئة الظواهر وتفكيك أجزائها ، ومحاولة فرض الفروض المرتبطة بذلك الجزء أو ذاك ، وإخضاع الفروض حوله للقياس والأختبار . وجرى العرف عند الكثيرين على اعتبار النتائج علمية ثابتة غير قابلة للتعديل .

وأطلق على هذه التجزئة للظواهر وإخضاعها للدراسة الميدانية العينية ما عرف بأسم المنهج الأمبيريقى أو الوصفى ، محللاً للظاهرة كما توجد فى موقعها الزمانى والمكانى ...ودون تصور لأنواع العلاقات ودينامياتها فى الظاهرة المدروسة مع سياقها الثقافى الاجتماعى. ومن ثم فقدت الدراسة منظوماتها العضوية الدينامية فى إطار الزمان والمكان والبعد التاريخى لنشأتها وتطورها وتوظيفها الاجتماعي.
واستقر فى اذهان كثير من الباحثين الاجتماعيين أن نتائجهم علمية لا يرقى إليها التصحيح ... واصبح من المسلمات فى الرسائل الجامعية فى العلوم الإنسانية ألا تعاد دراسة الموضوع ؛ لأن ما سبق من بحوث قد استقر ، باعتباره حقائق علمية . ثم أن البحوث تدعى الموضوعية العلمية المطلقة ، وأن لا شأن لذات الباحث أو أيدولوجيته أو تحيزاته أى تدخل فى مختلف مراحل البحث وتفسيراته ، وأنما جاءت النتائج علمية من خلال معطيات الواقع العينى .
ومع هذا الأختزال الأمبريقى الوضعى الوظيفى للمنهج العلمى الطبيعى فى آفاقه الرحبة والمتجددة ، فإن ثمة مناهج أخرى للمعرفة العلمية تبدأ من الملاحظة والمشاركة الملاحظة (بكسر الحاء ) أمتداداً إلى الحس التاريخى والوعى الذاتي.
والبصيرة والحدس ، والفهم الكيفى فى السياق الثقافي الاجتماعى التاريخى والخبرة الإنسانية . وليس بالضرورة أن تلجأ تلك المناهج إلى البيانات الرقمية والقياس ؛ إذ إن تلك الأدوات كثيراً ما تشوه المعرفة بعالم الوعى والخبرة والفهم النوعى للواقع وإمكانات المستقبل ، فضلاً عن قصورها عن فهم القيم وديناميات الدوافع والأخلاق.
إن هذه الأساليب والأدوات المعرفية تصبح علمية ما دامت تقوم على ملاحظة منتظمة أو خبرة مطردة ، ومادامت بياناتها وشواهدها منطقية ومتسقة فى نموذج مفاهيمى . وتتدعم علميتها مع اختبارها وتقييمها على ارض الواقع ومن خلال الممارسة ، وقد تتدعم فيما بعد بجوانب كمية للتوضيح والتعزيز . ومن هنا فإن على العلوم الاجتماعية الإنسانية ومجالاتها فيما يستقر بها من الشعور والوعى ومن اللاشعور والحدس دون ان تُنقص عوامل الذاتية من جدوى المعارف المتولدة من مثل هذه المناهج . وفى قضايا التربية والاجتماع وعلم النفس مساحات عريضة لجدوى توظيف تلك المناهج بما فيها من ظبط وتنظيم وقابلية للمراجعة والتفنيد والتطوير )).
وفى كتاب (إشكالية العلوم الاجتماعية) يبين الدكتور حسن الساعاتى فى مقال بعنوان (( إشكالية المنهج فى العلوم الاجتماعية )) :أن علماء الاجتماع الذين تأثروا بمناهج اللدراسة والعلوم الطبيعية يذهبون إلى (( أن العلوم الأجتماعية ، وعلى رأسها علم الاجتماع ، لا تكون علوماً بمعنى الكلمة ، أى دقيقة ومظبوطه النتائج ، إلاإذا ترسم علماءها خطا الباحثين فى العلوم الطبيعية التى يرتكز محور التفكير فى ظواهرها على التجريب ، أي ما يجرونه عليها من تغيير مقصود وبطريقة مرسومة من قبل ، مستهدفين أهدافاً معينة يستنتجون منها الحقائق ، إذا تكرر استقراؤها من تجارب مماثلة صارت نظريات علمية أو قوانين ثابتة .
وقد فات هؤلاء العلماء الغربيون ، وغيرهم ممن قلدوهم في مسارهم الفكري من دون روية واستبصار ، أن الظواهر الاجتماعية تختلف تماماً عن الظواهر الطبيعية التى لا عقل و لا إرادة لعناصرها، والتى ينم مظهرها عن مخبرها ، لأنها فى رأينا أحادية النسق ، تحكمها كلاً أو جزءاً قوانين ونظريات واحدة لا تتبدل . ولذلك نجد أن كلاً من الملاحظة الحسية ، أى المشاهدة ، والملاحظة العقلية ـ أى التأمل والأستبصار ، وجميع خطوات التجريب التى تُجرى عليها ، بوصفها ظواهر طبيعية أحادية النسق ، تستوعبها كلها فى جميع مظاهرها ، لأن ظاهرها لا يختلف عن باطنها في شىء ، حتى أنه ليدل عليه دلالة تامة ، لما بين الظاهر والباطن من ارتباط عضوى شامل متكامل.

أما الظواهر الاجتماعية فتختلف عن الظواهر الطبيعية في أنها ، بوصفها ظواهر عنصرها الأساسى الإنسان الأجتماعى العاقل ذو الإرادة ، الذى يعيش مُعاشراً لغيره من البشر ومرتبطاً بهم بشتى العلاقات الأجتماعية ، نقول تختلف فى أنها ثنائية النسق . فكما أن للإنسان جوانية وربانية ، فهى بالمثل ذات نسقين، أحدهما جوانى أي باطن، والآخر براني أى ظاهر . وما دامت كذلك ، فإن البحث فيها ينقسم إلى قسمين : أحدهما يُعنى بالنسق البراني ، أى بما يتبدى من الظاهرة الاجتماعية للحواس فتدركة وتتعقله ، والآخر يُركًَــز على النسق الجواني الخفى منها ، الذى يُعد غرفة عمليات للنسق البراني ، ليستجلبه ويدركه ويتعقله )).

Eslam Ramadan
06-15-2013, 12:05 AM
بارك الله فيكما يا إخواني عمار و إسلام رمضان.. و أسأل الله تعالى أن يأجرنا على كل حرف سطرته أناملنا في سبيله.
لقد نشرت نقطتي..
بعد أن اتفقنا على طريقة النشر أرجو أن تقوم الإدارة بحذف النقاش الذي دار بيننا، حتى يبقى نص الكتاب فقط..
و أرى بعد إنهاء هذا الكتاب أن نفرغ الكتاب الذي اعتمد عليه المسيري كثيرا هنا، و هو كتاب علي عزت بيجوفيتش " الإسلام بين الشرق و الغرب"، فما رأيكما؟..

آمين أخى الكريم ،
بالنسبة لكتاب الأستاذ بجيوفيتش رحمة الله عليه ، فأعتقد أن تم تفريغة بالفعل ، والتفريغ موجود على موقع الأستاذ محمد يوسف عدس (المترجم للكتاب )
أعتقد أن محاولة تفريغ كتاب غير موجود وغير متاح اكثر فائدة إن شاء الله -هذا ما اعتقد
واوافقك اخى الرأى على ضرورة حذف النقاش او نقله إلى رابط منفصل

تقبل تحياتى

عمار سليمان
06-15-2013, 07:06 PM
-الشرح والتفسير

انطلاقا من ثنائية الإنسان والطبيعة يتم التمييز بين الشرح والتفسير (بالألمانية :فرشتيهنverstehen) وكلمة يشرح أصبحت تعني بشكل كامل أو يزيل اللبس تماما . بل وأصبحت لها أبعاد تفكيكية، فهي تعني تعريف أسباب الظاهرة وردها إلى مبدأ عام واحد أو عدة مبادئ .كما أنها قد تعني يفضح أو ينزع السر عن. وهذه الأبعاد ليست واضحة في اللغة العربية بالقدر الكافي ، إلا أنها أكثر وضوحا في اللغة الانجليزية فكلمة يشرح باللغة الانجليزية هي اكسبلين explain من الفعل اللاتيني اكسبلاناري explanare بمعني يُسطح الشئ أو يسويه أو يجعله مستويا (كلمة بلينplane الانجليزية تعني السطح المستوي) هذا على عكس فعل انتربريت (من الفعل اللاتيني انتربريتاريinterpretari وهو يعني يفاوض) ففعل انتربريت يعني يبرر أو يقوم بدور المترجم ومن الواضح أن كلمة يشرح تدور في إطار المرجعية الموضوعية:يسطح ويسوي حتى يستوي مع معيارية برانية أما كلمة يُفسّر فهي لا تنفي الأبعاد الذاتية الاجتهادية لعملية الإدراك. وهذا التدخل بين التفسير (بمعنى الاجتهاد في فهم الظاهرة وجعلها مفهومة إلى حد ما من خلال التعاطف معها وفهمها أو تفهمها من الداخل ) والشرح بمعنى إدخال الظاهرة في شبكة السببية الصلبة المطلقة والقوانين الطبيعية وكشف العلاقة الموضوعية بين السبب والنتيجة ) يعود إلى أن العلوم الطبيعية والرياضة بنماذجها العقلانية الموضوعية المادية تلقي بظلالها الكثيفة على العلوم الانسانية .فالاستنباط (العقلاني) هو منهج العلوم الرياضية والاستقراء (التجريبي) هو منهج العلوم الطبيعية وكلاهما يحاول أن يصل إلى درجة عالية من الدقة والعمومية في نتائجه ومن ثم يحاول بعض علماء الدراسات الانسانية تبني المناهج السائدة في العلوم الطبيعية والرياضية (العلوم الدقيقة) ويحاولون تفسير الظواهر الاجتماعية والانسانية تمام مثلما تفسر الظواهر الطبيعية بطريقة كمي فيتبنون نماذج رصد موضوعية عقلانية مادية ،تُسقط الأبعاد الجوانية والخاصة والكيفية للظاهرة الإنسانية ،وتهمل الدوافع والوعي وتُزال كل المسافات والثغرات والثنائيات والخصوصيات ،حتى نصل إلى مايُتصور أنه التفسير الموضوعي الكامل أو شبه الكامل للظاهرة ،أي إن دراسة سلوك الإنسان لايختلف عن دراسة سلوك اليرقات فكلاهما يُدرس من خلال سلوكه البراني وحركته الخاصة (ومع هذا ينبغي الاشارة إلى ان العلوم الطبيعية نفسها قد انسلخت عن هذه الرؤية وأصبحت أكثر احتمالية في رؤيتها أنها أخذت بالتدريج تكون لنفسها عالما خاصا بها مؤلفا من كيانات عقلية ورياضية لاتستطيع أن تجد بها وجودا في عالم الظواهر،ويبدو أن الفرض العلمي ، الذي كان يمثل الخطوة الثانية التي تلي خطوة الملاحظة والتجربة والذي كان يشير إلى إلى مدركات حسية أصبح في المنهج العلمي المعاصر فرضا صوريا لايشير إلى مدركات حسية ويأتي سابقا على الملاحظة والتجربة لكن الفرض العلمي لم يعد تعميقا لوقائع تجريبية –كما كان شائعا في الماضي_ وإنما هو نتاج العبقرية العلمية الخلاقة التي تأتي به بأي طريقة أو بأي منهج , وما يهم في الفرض العلمي مدى مقدرته على أن تجعل هذا العالم مفهوما ومعقولا أي أن الحاجة إلى حقائق صلبة أو سببي صلبة لم تعد موجودة) .

وفي العالم الغربي ،اكتشف كثير من العلماء سذاجة ،بل وتفاهة ،الرؤية التجريبية والوضعية (الموضوعية /المادية) التي تصر على الحقائق الصلبة وعلى السببية الصلبة والمطلقة، والتي ذهبت إلى أن قوانين التاريخ والمجتمع الإنسانيين تشبه قوانين الطبيعة (بالمعنى الساذج لفكرة القانون العلمي ) وحاولت اكتشاف هذه القوانين وصياغتها بطريقة "علمية" دقيقة كمية،واصر هؤلاء العلماء الذين رفضوا مثل هذه الرؤية الساذجة على ضرورة التمييز بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية وعلى ضرورة رفض فكرةوحدة العلوم وواحديتها , ومن مظاهر هذه الثورة محاولة التمييز بين الشرح من جهة والفهم (بمعنى التفهم والتفسير الاجتهادي ) من جهة أخرى .

و قد بدأ إستخدام الفعل الإلماني فرشتين (Verstehen) بمعنى يفهم أو يتفهم في مقابل إركليرين (Erklaren) بمعنى يشرح من خلال ملاحظة الحوادث وربطها بالحوادث الأخرى حسب قوانين الطبيعية, و ذلك لوصف عملية فهم السلوك الإنساني المركب من خلال التعاطف و إدراك الدوافع الإنسانية ( في مقابل شرح الأسباب ). و قد استخدام هذا المصطلح كلٌّ من فلهلم ديلتاي, وجورج زيميل , و كارل ياسبرز , و ماكس فايبر و آخرون, و قال ياسبرز : (( إن الحياة النفسية الإنسانية لا يمكن دراستها من الخارج , كما أن الحقائق الطبيعية لا يمكن دراستها من الداخل , الأولى يمكن فهمها من خلال النفاذ النفسي , أما الثانية فيمكن شرحها من خلال دراسة العلاقة الموضوعية المادية)).

و قارن ياسبرز بين دراسة حجر يسقط من عل (من جهة) و دراسة علاقة تحارب الإنسان في طفولته ببعض الأمراض النفسية في شبابه و شيخوخته (من جهة أخرى ) , فالأول لا يمكن أن نراه إلا بشكل براني ( في إطار قانون الجاذبية ) , أما الثاني فيتطلب عمليات فكرية و عقلية أكثر تركيباً .
و لكن المصطلح أساساً ارتبط باسم ماكس فيبر , فقد بين فيبر الفرق بين الرصد الموضوعي المتلقي المادي و علميات التفسير الإجتهادية حين قال :إن دراسة حظيرة دجاج أمر جدُّ مختلف عن دراسة المجتمع الإنساني فعلم اجتماع الدجاج لن يدرس سوى أنماط سلوكية متكررة من الخارج يمكن فهمها في إطار المثير المادي و الاستجابة السلوكية, و نحن لا نعرف شيئاً عن العالم الجواني للدجاج و عواطفه و افكاره و تأملاته إن كان هناك مثل هذا العالم , أما في حالة المجتمع الإنساني , فنحن مزودون بدقر كبير من المعرفة عن العالم الجواني للإنسان ( نتوصل اليه من خلال مغرقتنا لذواتنا و من خلال ألفتنا للطبيعة البشرية )وعن الدوافع الداخلية المركبة و علام المعنى الذي ينبع منه السلوك الإنساني.

و لذا إذا كان من الممكن شرح سلوك الدجاج في إطار شبكة السببية الصلبة المطلقة , ومن خلال الملاحظة البرانية المباشرة , فلن يكون هذا كافياً بالنسبة للبشر , و المحاولة الوضعية السلوكية لوصف عالم الإنسان من خلال سلوكه البراني محكوم عليها بالفشل و محكوم عليها بإن تظل سطحية تافهة , فهي بإصرارها على ضرورة الشرح البراني الموضوعي ستستبعد قضايا إنسانية أساسية مثل انشغال الإنسان بمصيره و تجربته في الكون و إحساسه بالاغتراب ,و لكن هذا لا يعني أن السلوك الإنساني لا يخضع لأية سببية , وإنما يعني أن الرصد البراني لا يكفي , و المطلوب هو عملية تفسير من خلال الفهم العميق و التعاطف المستمر و الإدراك المبدع لتركيبية الدوافع الإنسانية و غموضها .

مشرف 10
06-15-2013, 07:16 PM
حفظك الله يا شيخ عمار حبيب القلوب بإذن الله ...

متعلم أمازيغي
06-15-2013, 08:15 PM
فشل النموذج المادي في تفسير ظاهرة الإنسان

تؤكد العقلانية المادية عناصر التجانس و التكرار و الكم و السببية و الآلية، و لذا فهي تتسم بمقدرة عالية نوعا على رصد حركة الأشياء و دراستها، فالعقلانية المادية تتحرك في إطار الواحدية المادية التي تخضع لها الأشياء، أما الإنسان فهو ظاهرة تتجاوز حدود الواحدية المادية. و لذا فإن سلوكه، سواء في نبله أو وضعته، في بطولته أو خساسته، ليس ظاهرة مادية محضة، و إنما ظاهرة مركبة لأقصى حد :
1- فعقل الإنسان له مقدرات تتحدى النموذج التفسيري المادي، حتى إننا نجد عالما مثل تشومسكي ينكر تماما أن عقل الإنسان مجرد صفحة بيضاء سلبية (و هو الافتراض الوحيد المتاح أمام الماديين) و إنما هو عقل نشط يحوي أفكارا كامنة فطرية.
و لذا نجد أن تشومسكي يتحدث عن معجزة اللغة باعتبارها ظاهرة لا يمكن تفسيرها في إطار مادي، و إنما في إطار نموذج توليدي يفترض كمون المقدرة اللغوية في عقل الطفل و هذا الكمون يعني أن العقل ليس مجرد المخ –مجموعة من الخلايا و الأنزيمات.
و جان بياجيه يقدم رؤية توليدية لتطور الإنسان و تطور إحساسه بالزمان و المكان. و تزايد الاعتماد على النماذج التوليدية، في مقابل النماذج التراكمية، و هو دليل على تراجع النموذج المادي.
2- نأتي إلى مشكلة الفكر. يدعي الماديون أن الفكر صورة من صور المادة أو آثار من آثارها (فالعقل صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية و تتحول إلى أفكار كلية بطريقة آلية). و هي مقولة قد تبدو معقولة. و لكن تخلق من المشاكل أكثر مما تحل. و السؤال هو : لماذا يأخذ الفكر هذه الصورة بالذات؟ و لماذا تختلف أفكار شخص عن أفكار شخص آخر يعيش في الظروف نفسها؟ و هل الأفكار عصارات و أنزيمات تتحرك أم أنها شيء آخر؟ و ما علاقة المؤثر المادي بالاستجابة الفكرية أو العاطفية؟ و لنأخذ فكرة مثال السببية. المعطيات الحسية المادية غير مترابطة و لا علاقة لها بأي كليات. و مع هذا، يدرك العقل الواقع لا كواقع متناثرة و إنما كجزيئات تنضوي تحت كل متكامل، و لا يمكن أن يتم الإدراك إلا بهذه الطريقة. و لذا نجد الماديين (في عصر ما بعد الحداثة) ينكرون تماما فكرة الكل، و يعلن نيتشه موت الإله الذي يعني في الواقع نهاية الكل. و هجوم الماديين و الطبيعيين على الكل أمر طبيعي، ففكرة الكل تذكرنا بمعجزة الإنسان الذي يتجاوز النظام الطبيعي و حركة الأنزيمات و الذرات و الأرقام. ومن ثم، فإنها تخلق ثنائية راديكالية تستدعي مرجعية متجاوزة للنظام الطبيعي و هي الإله. فالكل يؤكد تجاوز الإنسان، و تجاوز الإنسان يؤكد وجود الإله كمقولة تفسيرية معقولة. و لذا لابد و أن تهاجم هذه الفلسفة فكرة الحل حتى يعود الإنسان إلى الطبيعة و يُستوعب فيها. و هكذا بدأت المادية بمحاولة تحطيم خرافة الميتافيزيقا، و انتهت بالهجوم على فكرة الحقيقة ذاتها.
3- و هناك أخيرا حس الإنسان الخلقي و الديني، و حسه الجمالي، و قلقه، و تساؤله عن الأسئلة النهائية الكبرى، و هي أحاسيس لا يمكن تفسيرها على أساس مادي، فهو أمر أكثر صعوبة من تفسير وجود الأفكار. و كما ينتهي الفكر المادي بإنكار الفكر و الكل، فهو ينكر الحس الخلقي و الجمالي و يسقط الأسئلة النهائية. فعبارات مثل القتل شر و هذه اللوحة جميلة و قلق الإنسان بخصوص مصيره في الكون لا معنى لها من منظور مادي، تماما مثل عبارة الله رحيم أو الله موجود، فكلها عبارات لا يمكن إثباتها أو دحضها من خلال المنهج العلمي المادي.

4- و الفلسفات المادية تدور في إطار المرجعية المادية، و لذا فإنها ترسم صورة واحدية للإنسان، إما باعتباره شخصية صراعية دموية قادر على خرق كل الحدود و على إعلاء إرادته و توظيف قوانين الحركة لحسابه، أو باعتباره شخصية قادرة على التكيف مع الواقع و الخضوع لقوانين الحركة. و هذه صورة مستقطبة غير حقيقية :
أ) فالصورة الأولى تفشل في رصد تلك الجوانب النبيلة في الإنسان مثل مقدرته على التضحية بنفسه من أجل وطنه أو من أجل أبيه أو أمه، و مقدرته على ضبط نفسه من أجل مثل عليا.
ب) الصورة الثانية تؤكد أن الإنسان غير قادر على الثورة و التجاوز. و بالفعل، يلاحظ في العصر الحديث هيمنة نظم سياسية تسيطر عليها رؤى تكنوقراطية محافظة. و مع هذا، لم تنجح المادية تماما في قمع الإنسان و تسويته بالأمر الواقع. فالإنسان لا يزال غير راض، قلقا إن لم يعبر قلقه عن نفسه من خلال الثورة الناضجة فهو يعبر عن القلق نفسه بأشكال مرضية.
5- المادية تفشل في تفسير إصرار الإنسان على أن يجد معنى في الكون و مركزا له، و حينما لا يجد معنى له فإنه لا يستمر في الإنتاج المادي مثل الحيوان الأعجم، و إنما يتفسخ و يصبح عدميا و يتعاطى المخدرات و ينتحر و يرتكب الجرائم دون سبب مادي واضح. و قضية المعنى تزداد حدة مع تزايد إشباع الجانب المادي في الإنسان، فكأن إنسانية الإنسان لصيقة بشيء آخر غير مادي. و البحث عن المعنى قد عبر عن نفسه على هيأة فنون و عقائد. و كما يقول علي عزت بيجوفيتش فإن (الدين و الفن مرتبطان بالإنسان منذ أن وجد على وجه الأرض، أما العلم المادي فهو حديث، و فشل العلم المادي الذي يدور في إطار نماذج مادية في تفسير الإنسان و في التحكم فيه هو دليل فشله في إدراك الظاهرة الإنسانية و إدراك أن الحلول التي يأتي بها ناقصة).

Eslam Ramadan
06-15-2013, 08:19 PM
- المساواة والتسوية

إذا تم رصد الإنسان بشكل موضوعي ، طبيعى/ مادي، في إطار المرجعية المادية الكامنة فإنه سيتم إستبعاد مفهوم الإنسانية المشتركة والجوهر الإنساني ، وهى أمور متجاوزة لعالم المادة . وبدلاً من ذلك سيقوم الراصد العلمى بما يلي :

أ) سيتم رصد الفروق المادية بين الشعوب والأفراد بكل دقة وعناية ، كما سيتم تسجيل الاختلافات فى الذكاء والمقدرة العضلية بكل دقة وعناية ، كما سيتم تسجيل الأختلافات فى الذكاء والمقدرة العضلية والفروق الناجمة غن الأختلافات فى البيئة ، وسيتم كذلك تسجيل الأختلافات التشريحية بين الرجل والمرأة ، وبين الأقوياء والضعفاء ، وهذا تعبير عن النزعة نحو تأليه الكون فى النظم المادية . ولذا ليس من قبيل الصدفة أن عنصرية التفاوت الغربية ، بما فى ذلك النازية والصهيونية ، أستندت إلى نظريات مادية عن الأختلافات بين الشعوب ، وتم استبعاد الشعوب وإبادة الملايين وتدمير المعمورة باسم هذه المنظومة العلمية التى لا تعرف الرحمة أو التراحم ، ولا تعرف الضحك أو البكاء ولا الخير أو الشر ، فهى لا تعرف سوى القوة والعنف والبقاء والهلاك . وهذه هى عنصرية التفاوت وعدم المساواة .

ب) يمكن للرصد العلمى أن يتجاهل كل هذه الفروق ويركز على الصفات المادية المشتركة بين كل البشر ووظائفهم البيولوجية ( التعبير عن النزعة نحو إنكار الكون ). ولكن هذه الصفات المادية العامة المشتركة بين البشر هى ذاتها الصفات التى ترباط بين البشر والقردة العليا ، على سبيل المثال ، وتسوي بينهم، وهذه عنصرية التسوية . فالرؤية المادية العلمية لا ترصد سوى الاختلافات المادية الواضحة أو الصفات العامة المادية المشتركة ، أى إنها رؤية تتأرجح وبحدة بين التفتت الذرى والوحدة الكونية العضوية . وفى كلتا الحالتين ، يتم استبعاد مفهوم الإنسانية المشتركة . وعنصرية التفاوت وعدم المساواة أمر معروف لدينا ، تم دراسته وتمحيصه ، ولكن عنصرية التسوية هى أمر جديد تماماً ، فهى عنصرية ما بعد الحداثة ، وهذا ما سنركز عليه فى بقية هذا الجزء .
أما المساواة ، فهى أن يتعادل شىء ما وآخر فى ((بعض)) الوجوه وحسب ، أما التسوية فهى إحداث التساوى بين شيئين فى ((كل)) الوجوه . والمساواة بين البشر هى مساواة بينهم فى الأساسيات الإنسانية ، أي فيما يميز الإنسان كإنسان ، أما التسوية فهي تسوية بين كل المخلوقات ، البشر والحيوانات والجمادات ، فى كل هذه الوجوه تقريباً . وكل من المساواة والتسوية نتاج عملية تجريدية ، ولكن المساواة تتم فى إطار المرجعية المتجاوزة والإيمان بأن الإنسان مقولة مستقلة عن عالم الطبيعة / المادة برغم من وجوده فيها . ولذا فإن التجريد يأخذ شكل نزع السمات الشخصية والفردية عن البشر بحيث تظهر السمات التي تميزهم بوصفهم بشراً ، والحدود التى تفصلهم عن بقية الكائنات فتتضح تركيبة الإنسان وتميزه عن عالم الطبيعة / المادة . أما التسوية ، فهى عملية تتم فى إطار الطبيعة / المادة ، فيتم نزع كل السمات غير المادية عن الإنسان لتظهر السمات المادية المشتركة بينه وبين بقية الكائنات، ومن ثم تنزع عن الإنسان كل قداسة وخصوصية ومركزية وتركيبية ، وتسقط حدوده الإنسانية ، ليصبح الإنسان مجرد مادة ، شيئاً بين الأشياء يتساوى معها ويُسوَّى بها.
والمساواة ، لهذا السبب ، مفهوم إنسانى أخلاقى دينى يستند إلى اساس غير مادي ، مرجعية متجاوزة ، أما ما يسمى بالمساواة فى العصر الحديث ، فهو فى واقع الأمر تسوية ، تتم فى إطار مرجعية مادية كامنة، أي إنها عملية تفكيك للإنسان وتدمير وتقويض له بوصفه كياناً مستقلاً عن الطبيعة /المادة. وقد تتم مساواة الإنسان بالإنسان الآخر ، ولكن تتسم تسويتهما بالإنسان الطبيعي المادي الذى يتساوى فى كل الوجوه مع الكائنات الطبيعية الأخرى.
وفى تصورنا ، فإن مفهوم المساواة فى الغرب كان يدور فى إطار المرجعية المتجاوزة ، وكان ترحمته علمانية ، واعية أو غير واعية ، للفكرة التوحيدية المتمثلة فى قصة الخلق : خلق الله آدم ، ونفخ فيه من روحه ، وعلمه الأسماء كلها ، وقد جئنا كلنا من صلب آدم. فثمة مساواة مبدئية بين البشر فى الأساسيات الإنسانية ، أي فيما يميزهم بشراً ، فى جوهرهم الإنسانى الذي يفصلهم عن عالم الطبيعة/ المادة. وتتحقق إنسانية الإنسان بمقدار تجاوزه لكثير من دوافعه الطبيعية والمادية ، وبمقدار إعلائه لهذه الدوافع وتعبيره عنها من خلال أشكال إنسانية متميزة عن الأشكال الطبيعية المتاحة للحيوانات ، إذ ثمة أختلاف بينه وبين الطبيعة /المادة بسبب الثغرة أو المسافة التى تفصل بينهما. وفى هذا الإطار ، تصبح المساواة شكلاً من أشكال تحقيق الإنسانية وتحقق جوهر الإنسان ، فهي شكل من أشكال الاجتماع البشري وتحقيق لقيمة مطلقة متجاوزة للمادة والطبيعة ، بل ومتجاوزة لدوافع الإنسان المادية والجسدية ، أي تجاوز لما يسمى الإنسان الطبيعى (المادي) واقتراب لما يمكن أن نسميه الإنسان الرباني الذي يحوي داخله عناصر لا يمكن ردها إلى النظام الطبيعى ، أو لما يمكن أن نسميه الإنسان فى المنظور الهيومانى والذي لا يمكن أن يُرد إلى الطبيعة /المادة.

ولو قلنا : ((كلكم لآدم وآدم من تراب)) في إطار المرجعية المتجاوزة ، فإن آدم هنا يحوى داخله قبساً من الله سبحانه وتعالى تجعله مستخلفاً فى الأرض، أو يحوى داخله ذاته التى ترفض الإذعان للمادة ، وبذا يصبح كائناً حراً مسؤولاً عن أفعاله ، له هوية مستقلة ، وإرادة مستقلة ، ومقدرة على إدراك الخير والشر وما ينفع وما يضر ، ولا يمكن تفكيكه أو تقويضه . أما إذا قلنا العبارة نفسها في إطار المرجعية الماادية الكامنة ، فإننا نرى آدم هو تراب وحسب ، ويمكن أن يُردَّ أما للتراب فيسوى بالطبيعة /المادة، فهو الإنسان الطبيعى الذي يمكن تفكيكه وتقويضه ورده إلى الطبيعة/ المادة ولا وجود مستقل له عنها ، تسري عليه القوانين الطبيعية سريانها على القرود والفراش والأشجار. ولذا فإن التسوية تعنى اقتراباً متزايداً من حالة الطبيعة وتشكل هجوماً شرساً على الطبيعة البشرية وعلى كل المعايير أو الموازين التي تفترض وجود مرجعية إنسانية متجاوزة ، كما تأخذ شكل الابتعاد المتزايد عن الحالة الإنسانية والجوهر الإنسانى والاقتراب المتزايد من الفكرة المادية الطبيعية . فالتسوية لا تتم من خلال اقتراب البشر من خصوصيتهم الإنسانية وإنما تكمن فى مقدار تخليهم عن هذه الخصوصية وذوبانهم فى عالم الطبيعة العام حتى يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً ، ثم يتطور هذا الإنسان ويزداد تخليه عن أي خصوصية إلى أن يصبح طبيعة/مادة محضاً ، خاضعاً تماماً لقوانين الحركة. ويلاحظ أن الحركة هنا هي الحركة العامة للنمط الحلولي الكموني الواحدي والتى تأخذ شكل التخلي التدريجي عن عبء الهوية الإنسانية ، بما يحمل من تكليف ومسؤولية وإحساس بالحدود، والعودة المتزايدة إلى الحالة الرحمية حيث لا مسؤولية ولا هوية ولا حدود، فهو إنتقال من المرجعية المتجاوزة والمركزية الإنسانية إلى المرجعية المادية الكامنة وإزاحة الإنسان عن المركز ثم إلى حالة السيولة الشاملة واختفاء كل المرجعيات.
ويلاحظ أنه ، على حين أن الأطار التوحيدى والهيومانى يفترض أن المساواة الكاملة مثل أعلى لا يتحقق ، لأن البشر يتفاوتون فى مقدرتهم على تحقيق الحالة الإنسانية ، فإن الإطار الحلولي الكموني الواحدي يفترض أنه يمكن الوصول إلى هذا التساوي الكامل بل والمطلق . ولكن المساواة المطلقة ، أي التسوية ، لو تحققت فإنها هى ايضاً لحظة الهيولى والعدم المطلق ـ إذ يختفي الإنسان كياناً مستقلاً له قيمته ومركزيته ، ويلتحم بالسيولة الكونية الرحمية الحلولية الكبرى ، إذ يصبح الإنسان إنساناً طبيعياً تماماً خاضعاً لقوانين الطبيعة ولا يختلف عن الطيور والقرود واليرقات.

ويخلط معظم الدارسين بين النمطين : المساواة فى إطار المرجعية المتجاوزة (والتوحيد) والتسوية الحلولية الكمونية . ويعود ذلك لأسباب ، من بينها أنه عادةً ما يتم فصل المؤشر والدال فى العلوم الإنسانية عن سياقه ويصبح دالاً يشير إلى مدلول واحد. ولذا ، فإنه إذا وردت كلمة مساواة مقصوداً بها المساواة الإنسانية فى نص يدور فى إطار المرجعية المتجاوزة توحيدي وإنساني هيوماني، فإن الدارسين عادةً ما يتصورون أن الكلمة تشير إلى مدلول واحد فيخلطون بينهما ، برغم أختلاف الدلالات باختلاف السياق . ومما يساعد على هذا الخلط أنه في عصر النهضة فى الغرب، ظهرت رؤيتان إلحاديتان : واحدة متمركزة حول الإنسان بوصفه كائناً مركباً حراً مستقلاً عن الطبيعة ((التمركز حول الذات )) ، والأخرى متمركزة حول الطبيعة/المادة (التمركز حول الموضوع). وقد تم تصنيفهما على أنهما رؤية واحدة ، مع أنهما مختلفتان تماماً .ففي إطار الرؤية المتمركزة حول الإنسان، يصبح الإنسان مركزاً للكون ، خليفة للإله أو بديلاً لع ، وبشكل مرجعية نهائية متجاوزة نوعاً ما لعالم المادة ، فيظل هناك شكل من اشكال الهرمية والثنائية ( أعلى/اسفل- إنسان/طبيعة - ذات/موضوع) وهى بقايا الرؤية التوحيدية بعد علمنتها. ولكن نطاق الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية المادية يتسع ويزداد تغلغلها وهيمنتها إلى أن تنحسر الرؤية الإنسانية الهيومانية تماماً، ويتم رد الإنسان إلى عالم الطبيعة والمادة، وتظهر مركزية الطبيعة/المادة والمرجعية المادية الكامنة. ويستمر اتساع نطاق الواحدية المادية إلى أن يتم نصفية أي مطلق أو معيار أو مرجعية متجاوزة أو نهائية (إلهية كانت أم إنسانية) لنصل إلى عالم لا مركز له (عالم ما بعد الحداثة) يتساوى فيه الإنسان تماماً بالأشياء،ويتم التسوية بينهما إذ يتم الهجوم على أى مركزية أو معيارية.

محمد عبدالمنعم عثمان
06-15-2013, 10:06 PM
هل من نسخة pdf للكتاب؟

متعلم أمازيغي
06-15-2013, 10:25 PM
الكتاب غير متوفر في الشبكة أخي الكريم..
لكن سنفرغه كاملا إن شاء الله

محمد عبدالمنعم عثمان
06-15-2013, 10:38 PM
جزاكم الله خيرا...جعله الله في ميزان حسناتكم

عمار سليمان
06-17-2013, 07:12 PM
الهجوم على الطبيعة البشرية

تنكر الفلسفة المادية وجود أي جوهر مستقل عن حركة المادة فهي تدور في إطار المرجعية المادية الكامنة ووحدة الوجود المادية ومن ثم لايحقق أي عنصر في الكون تجاوزا بما في ذلك الإنسان والفلسفة العقلانية المادية حينما تتعامل مع الإنسان تنظر إليه في إطار نموذج تحليلي مادي/طبيعي يستبعد كل خصائصه الغير طبيعية مثل تركيبته ومقدرته على التجاوز واسقلاله عن المقولات المادية/الطبيعية ثم تقوم بتفكيكه إلى عناصره الأولية المادية "الحقيقية" وترده في كليته إلى مبدأ مادي واحد وتقوم بتعميم المبادئ العلمية والرياضيةعلى جميع الظواهر بما ذلك الإنسان ومن هنا الهجوم المادي الحتمي الشرس على الطبيعة البشرية والجوهر الإنساني أي على تلك السمات التي تميز الإنسان كإنسان مقدرته على التجاوز أو انشغاله بالأسئلة النهائية الكبرى أو استقلاله عن الطبيعة /المادة فمهوم الطبيعة البشرية يعني أن ثمة مقولة مستقلة داخل النظام الطبيعي المادي تسمى الإنسان تستعصي على التفسيرات الطبيعية/المادية وهذا يمثل فضيحة معرفية إذ إن ثنائية الإنسان /الاله أو الخالق /المخلوق ولذا لابد وأن تستوعب الطبيعة البشرية تماما في النظام الطبيعي ولابد وأن يختفي الإنسان وان تهيمن المرجعية الكامنة الواحدية المادية وان تزول كل الثنائيات او تحيد بحيث تصبح متوازنه ومتعادلة تماما .

ومع هذا يحدث احيانا في داخل المنظومة الواحدية المادية ان يصبح الإنسان هو مركز الكون المتجاوز له فتظهر ثنائية الإنسان/ الطبيعية وهذا هو اساس الفكر الإنساني الهيوماني التمركز حول الذات ومرجعية متجاوزة في إطار مادي ولكن مثل هذه الثنائية واهية غير حقيقية فالفلسفة المادية كما اسلفنا تنكر وجود أي جوهرمستقل عن حركة المادة ومن ثم لايمكن لأي عنصر بما في ذلك الإنسان أن يحقق تجاوزا للنظام المادي الطبيعي ولذا لابد أن تسري القوانين الواحدية المادية في نهاية الأمر وفي التحليل الأخيرعلى الإنسان سريانهاعلى الطبيعة ,فيصبح الإنسان بوعيه و فهمه وحسه الخلقي جزءاً لا يتجزأ من حركة المادة خاضعاً لها , وتصبح هي المركز ,و ينتصر الموضوع على الذات ويذوب الإنسان ويختفي و يفقد مقدرته على التجاوز ,و يُستوعب تماماً في لنظام الطبيعي , فموت الإنسان هو نتيجة حتمية للرؤية المادية و موت الإله ,

Eslam Ramadan
06-17-2013, 07:25 PM
وسنحاول أن نضرب بعض الأمثلة المعاصرة على هذا الهجوم الشرس على الإنسان وطبيعة البشرية:

1- وحدة العلوم

لنأخذ الحوار الدائر منذ عصر النهضة ، والذي لم ينته بعد، عن وحدة العلوم. فهناك من يرى أن هناك علوماً وحسب ، يمكن عن طريقها دراسة كل من الإنسان والطبيعة دون تمييز أو تفريق بين علوم طبيعية وأخرى إنسانية ، وهؤلاء يرون أن كل العلوم تهتم بوقائع لا تختلف فى حالة الإنسان عن حالة الحيوان ، ولكن هناك أيضاً من يرى أن العلوم الإنسانية في تصورهم تختلف عن وقائع العلوم الطبيعية . فالواقعة فى السياق الإنساني ينتجها موجود إنساني له ظاهر وباطن، وله معايير وقيم وأهداف ومقاصد ومشاعر وهواجس ، أما وقائع العلوم الطبيعية فهى مجرد حركة فى الزمان والمكان ولها وجود حسى وملموس. والوقائع الإنسانية ليست ماثلة أمامنا بشكل مباشر ، فهى مرتبطة بعالم الدوافع التى تحركها، والرموز التى تعبر عنها ، وحتى يمكننا الوصول إليها لا بد وأن نكد ونتعب ونفسر ونتعاطف مع الإنسان ، أما الوقائع الطبيعية فهى وقائع مباشرة تخضع للإدراك الحسي ، ولذا فالوقائع الإنسانية تخضع للفهم الذى ينفذ إلى المعانى الباطنة داخل الأشياء، أما الوقائع الطبيعية تخضع للتفسير . إن الوقائع الإنسانية ذات طبيعة كيفية خالصة، أما الوقائع الطبيعية فيمكن التعبير عنها بلغة الكم.

ونحن لو دققنا النظر لوجدنا أن الصراع الدائر هنا هو صراع بين المرجعيتين ، المرجعية المتجاوزة والمرجعية الكامنة، يأخذ شكل صراع بين دعاة الإيمان بالإنسان المتجاوز للطبيعة ، الذي يستند وجوده إلى نقطة خارج النظام الطبيعي ، من جهة ومن جهة أخرى دعاة الإيمان بالطبيعة المادية التى تحوي داخلها ما يكفي لتفسيرها والذين يساوون بين الإنسان والكائنات الطبيعية ويسوون بينهما فيسقطون الإنسان كمقولة مستقلة فى النظام الطبيعي، ومن هنا فنحن نصفهم بالعداء للإنسان ( بالإنجليزية : أنتى هيومانيزم anti- humanisim) . فدعاة الإيمان بالطبيعة يرون أن القوانين العامة للعالم هى القوانين الكامنة فى المادة والتى تسرى على كلًّ من الطبيعة والإنسان دون أي تفرقة أو تمييز ، وأننا سيزداد تحكمنا فى أنفسنا وفي الطبيعة ، وأن المعرفة هى تزايد معرفتنا بقوانين الحركة المادية العامة ، ذلك لأن المنحنى الخاص للظاهرة الإنسانية وما يميز الإنسان كإنسان (جوهره الإنسانى وتركيبيته ومقدرته على التجاوز) أمور لا تهم ، ولهذا ينادي دعاة وحدة العلوم بأنه من الممكن أدخال كل شىء فى شبكة السببية الصلبة والمطلقة ودراسته من خلال النماذج الرياضية التى تتجاوز المرجعية المتجاوزة، ربانية كانت أم إنسانية. قد نخطيء فى محاولتنا ولكننا نعيد الكرة وتزداد معرفتنا ويزداد تحكمنا، وتدار التجارب فى إطار محايد خالٍ من أي قيم إنسانية أو أخلاقية تضع حدوداً على التجريب ، أو تطرح أي غائية خاصة بالإنسان، او تمنحه أي مركزية، فكل الأمور متساوية ، ولذا لابد وأن يخضع كل شىء للتجريب الذي يستبعد أي معايير غير علمية وغير مادية مثل السمات البشرية ، أو القيم الأخلاقية ، أو الطبيعة البشرية ، ومن ثم يختفي الإنسان ويسوى بالحيوان ، وتختفى معه العلوم الإنسانية وتصبح كل العلوم طبيعية ، تدرس قوانين المادة كما يطالب دعاة وحدة العلوم .

وأنطلاقاً من مفهوم وحدة العلوم ، أو واحديتها المادية، يبدأ تأسيس علوم طبيعية تستبعد الجوهر الإنساني ومفهوم الطبيعة البشرية . ومما لاشك فيه أنه إن اراد الإنسان أن يبني جسراً فإنه لا بد أن يعرف طبيعة المواد التى سيبنى بها هذا الجسر، ، وطريقة تنظيمها وتركيبها وخواصها... إلخ. ومن دون هذه المعرفة ، لايمكن ان يدعى أنه على ((علم)) بالجسر. ولتأسيس علم الحيوان ، مثلاً ، لابد أن نعرف نطاق هذا العلم من خلال تعريف الحيوان مقابل الإنسان والنبات. وحتى فى العلوم الغير دقيقة، مثل النقد الأدبي وتاريخ الفنون ، لابد تتم الأجابة عن سؤال ما الأدب؟ والسؤال الذي لابد أن نطرحه هو : هل يمكن تأسيس علوم إنسانية دون معرفة الإنسان؟ هذا ما حدث بالفعل في العلوم الإنسانية الغربية إذا اختفت الإشارات إلى الطبيعة البشرية تماماً فيها ، ولا يمكن الحوار إلا من خلال المؤشرات الكمية والجداول والقرائن المادية المباشرة.

وحينما ترسم هذه العلوم صورة الإنسان ، فإنه يكون إنساناً طبيعياً وظيفياً ذا بُعد واحد ، آلياً يتحرك فى إطار الدوافع والمثيرات. ويُقسم إلى الذات والذات العليا الهو، ويدفعه الإيروس والثاناتوس (فرويد) أو النماذج الأصلية (يونج). وكما يقول على عزت بيجوفيتش، فلقد تم طرد النفس من علم النفس ، وفي الأقتصاد نجد الإنسان مجموعة من المصالح الإقتصادية، ، وفى علم الأخلاق هو كيان تحركه الرغبة فى البقاء المادي وتحقيق الملصلحة المادية . أما فى علم الأجتماع، فقد اعلن دوركهايم أن الظواهر الأجتماعية مستقلة عن الأفراد، وتتمتع بسلطة قاهرة تفرض نفسها على الأفراد عن طريق الإكراه، وأن الضمير الفردي صدى للضمير الجمعي. فعندما يتكلم ضميرنا فمعنى ذلك أن المجتمع هو الذي يتكلم فينا، فالفرد (( ذرة إجتماعية)) يدرسها علم الاجتماع الذي كان ينوى كونت تسميته الفيزياء الأجتماعية! اما الأنثربولوجيا (علم الإنسان!) فهو يؤكد أن الإنسان ليس له طبيعة وإنما له تاريخ. وإن كانت لديه خاصيات عند الولادة ـ فهى مجرد استعدادات شفافة لا تصمد أمام مؤثرات المحيط القادر على تشكيل الإنسان كيفما شاء. ففى الإنسان لا توجد دوافع نفسية ثابتة اللهم إلا دافع الجنس والأكل ، أما دافع المعرفة والعاطفة والتملك فهي فى نظر بعض الدراسات الأنثربولوجية متغيرة تظهر وتختفي بحسب عوامل البيئة . كما سمعت النظريات التاريخية (المادية) إلى بيان أن الإنسان كائن تشكَّل عبر التاريخ وعبر علاقاته مع الطبيعة ومع الآخرين وأنه قبل ذلك لم يكن إنساناً ، وليس فى طبيعة الإنسان خاصيات أولية مشتركة بين الناس لأنه ليس للإنسان طبيعة. فالإنسان هو مجموع علاقاته الإنتاجية وهو لحظة من لحظات جدل الطبيعة، هنا تنتفى الذات الفردية لتخلي مكانها للذات الجماعية وتتراجع الذات الواقعية الطامحة لحساب الذات التاريخية الخاضعة للحتمية التاريخية المتحكمة فى مسار التاريخ. وحتى فى عالم الأدب ، الملجأ الأخير للنفس البشرية ، ظهرت الفلسفات البنيوية والتفكيكية التى تحاول أن تطهر ذاتها من آخر المطلقات الإنسانية ( أي الطبيعة البشرية) ، ولذا يتحول النقد الأدبي إلى محاولة لرصد أنماط وبنى وألعاب لغوية ، تدخل فيها الذات الإنسانية وتصبح خاضعة لها .

إن العلوم التي تدعى أنها إنسانية وتدور فى نطاق المرجعية المادية الكامنة تنطلق من الإيمان بأنه لا توجد عناصر إنسانية عالمية أو طبيعة بشرية ثابتة أو مستقرة خاصة ، فما يوجد هو ممارسات وعقائد لا يبتنظمها إطار . وكما يقول فوكوه : (( لا يوجد ذات إنسانية ثابتة فى التاريخ ، ولا يوجد حالة طبيعية إنسانية، ولا يوجد شيء فى الإنسان (حتى جسده) ثابت بما فيه الكفاية يصلح أساساً ليتعرف الإنسان على ذاته وليفهم الآخرين)). فكل شيء فى ذلك الإنسان حادث ـ بل عرضي وطاريء، ومن ثم محتمل الوقوع والزوال. ولا مهرب من إدراكنا لهذه الحقيقة (ولحقيقة القوة والهيمنة، مطلق فوكوه الوحيد) ، أي إن كل الأمور ، بما في ذلك الإنسان - كما يعرف الجميع الآن فى الغرب- مادية ونسبية وخاضعة لذلك القانون الواحدي العام الذى يسرى على الطبيعة والإنسان.هذا يعني فى واقع الأمر أنه لا توجد معيارية إنسانية ، أي لا توجد سوى معيارية موضوعية شيئية .إن ما يحدث هنا هو إلغاء ثنائية الإنسان/الطبيعة، أى ثنائية الجنس البشرى/ الأشياء، ليسود عالم الكم والأرقام والنماذج الاختزالية البيسطة التى قد تعطي من يسخدمها راحة كبيرة ومقدرة على الإنجاز ، ولكنها تفكك الإنسان تماما ثم تقتله. وليس من قبيل الصدفة أن الفلسفة السائدة الآن فى الغرب هى الفلسفة التفكيكية التى تهدف إلى تصفية كل الثنائيات ، وعلى كلًّ فإن هو ميرات الاستنارو المظلمة والمضيئة.

ولكن هناك النموذج الآخر الذي يرى الإنسان ظاهرة منفردة متجاوزة (ربانية) لايمكن مساواته أو تسويته بالكائنات الطبيعية. ولا شك أن الإنسان يحوي كثيراً من العناصر الطبيعية، وهى عناصر لابد أن تخضع بشكلٍ ما ، وفي بعض جوانبها ـ إلى التجريب الطبيعى، وتدخل شبكة السببية الصلبة. لكن الإنسان يظل يملك ما يتحدى التجريب وما لا يمكن معرفته ولا يمكن استيعابه داخل هذه لالشبكة ، إذ إن أي محاولة من هذا النوع لابد أن تبوء بالفشل . ولذا ، فإن أكثر النماذج التفسيرية كفاءة ، حسب هذا التصور، هي النماذج المنفتحة الفضفاضة التى تعترف بثنائية الإنسان والطبيعة ، وبأن الطبيعة البشرية والقيم الأخلاقية والغائية النابعة من مركزية هذا الإنسان هى المرجعية النهائية لدراسة ظاهرة الإنسان، وأن هناك ما يمكن معرفته وإدخاله في شبكة السببية الصلبة والمطلقة، وذلك مع تأكيدها بأن هناك ايضاً ما لايمكن معرفته أو اصطياده، ومن ثم فإن الوصول إلى تفسيرات كاملة وحلول نهائية أمر مستحيل . ولذا، فقد أقترح هؤلاء أن الإنسان لا يُشرح ، ولا يُفسر كما نفعل مع الظواهر الطبيعية، وإنما يُفهم ويُؤول ، ومن هنا ظهرت مدرسة الهرمنيوطيقا والتأويل التى تنظر إلى الإنسان باعتباره ظاهرة مركبة تستعصي على التفسير من خلال النماذج الطبيعية المادية .

ويقول دعاة هذا النموذج الذي يدور في إطار المرجعية المتجاوزة ، إن النظم المعرفية المادية نظم واحدية تسعى إلى تفسير كل الظواهر تفسيراً كاملاً ن ولذا فهي تسقط فى حلم نهاية التاريخ ، حيث يصبح ما كان مجهولاً معروفاً . ومن ثم فهى تقوم بتفكيك الإنسان وتسويته بكل الأشياء الأخرى ومن هنا ، فإن نهاية التاريخ تأخذ دائماً شكل يوتوبيا تكنوقراطية تسير حسب قوانين الاشياء العلمية المادية الموضوعية ، فى دقة صارمة ، وكأنها مترو مدينة "ليل" فى فرنسا الذي يسير بلا سائق بشرى.

أما النظم التى تنطلق من الاعتراف بثنائية الإنسان/الطبيعة ، فهى لا يمكن أن تسقط في مثل هذه الرؤية الساذجة، ومن ثم فإن إستراتيجية أنسنة العلوم بالنسبة إلى هؤلاء تتكون من : استرجاع مفهوم الطبيعة البشرية ككيان مركب لايمكن أن يُرد للنظام الطبيعي، ولا أن يسوى مع الأشياء الطبيعية ، أي استرجاع الثنائية التقليدية. وإن تم استرجاع مفهوم الطبيعة البشرية، فإنه سيتم معه استرجاع القيم الإنسانية والأخلاقية كقيم اساسية فى عمليات البحث العلمي في مجال الطبيعة والإنسان، فاستبعاد هذه القيم هو الذى أدَّى إلى السقوط في الواحدية الكونية المادية وإلى تسوية الإنسان بالحيوان وإلى انفصال التجريب العلمي المادي عن العقلانية الإنسانية.

واسطة العقد
06-18-2013, 05:44 AM
بعد انتهائكما.. ارجو ارسال رسالة لي لاقوم بنسخ كل هذا و تنسيقه بملف بي دي اف لينشر.

Eslam Ramadan
06-18-2013, 10:27 AM
2-نظرية الحقوق الجديدة

كثير من الحركات التحررية الجديدة الداعية ((للمساواة)) فى عصر ما بعد الحداثة تختلف تماماً عن الحركات التحررية القديمة، في عصر الحداثة. فالحركات الجديدة تدعوا في واقع الأمر إلى التسوية ، فهي ترفض مفهوم الطبيعية البشرية المتجاوزة للطبيعة/المادة وللإنسان الذي يشغل مركزاً متميزاً فى الكون، وتصدر عن فهم للإنسان باعتباره جزءاً لا يتجزأ من الطبيعة/المادة لايتسم بأي تجاوز لها أو تعالٍ عليها .وانطلاقاً من هذا ن تؤسس حركات التحرر الجديدة نظريتها في الحقوق ، فنجد جماعات تدافع عن الفقراء والسود والشواذ جنسياً والأشجار وحقوق الحيوانات والأطفال والعراة والمخدرات وفقدان الوعي ، وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على بال، ولعل شيوع الرؤية الحلولية الكمونية الواحدية في العصر الحديث هو الذي يُفسر سر انتشار الديانات الطبيعية والعبادات الجديدة والنزعات الكونية والدفاع الحلولى الكمونى عن البنية، فكلها دعوات تؤكد اسبقية الكون على الإنسان، وتدعوا الإنسان إلى الذوبان في الكون، وتلغى كيانه كمقولة مستقلة عن عالم الطبيعة . ويُعد رفض الإنسان تأييد هذه الدعوة للتسوية فعلاً رجعياً ورفضاً للتقدم،مع أن رفضه فى واقع الأمر محاولة للعودة إلى الإنسانية والتراجع عن حالة الطبيعة المادية (البهيمية)، كما انه دفاع عن مركزية الإنسان فى الكون ورفض تسويته ومساواته بالحيوانات.

وفى هذا الأطار ، يمكننا أن نعيد النظر في هذا الدفاع الشرس عن الشذوذ الجنسى والدعوة إلى تطبيعه ، فهو في جوهره ليس دعوة للتسامح أو لتفهم وضع الشواذ جنسيا ً ، بل هو هجوم على المعيارية البشرية، وعلى الطبيعة البشرية كمرجعية نهائية ومعياراً ثابتاً يمكن الوقوف على ارضه لإصدار أحكام وتحديد ما هو إنساني وما هو غير إنساني. والشذوذ الجنسي هو محاولة أخرى لإلغاء ثنائية إنسانية اساسية هى ثنائية الذكر/ الأنثى التى تستند إليها المعيارية الإنسانية.

بل أننا نرى أن الحديث المتواتر والمتوتَّر عن حقوق الإنسان والذي تقوده اكثر الدول إمبريالية فى العالم، الولايات المتحدة، هو في جوهره هجوم على الإنسان والطبيعة البشرية. فالإنسان الذي يتحدثون عن حقوقه هو وحدة مستقلة بسيطة أحادية البعد لا علاقة له بأسرة أو مجتمع أو دولة ، وهو مجموعة من الحاجات المجردة التى تحددها الأحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة. والفرد هنا هو وحدة تتلقى عديداً من الأشارات الحسية البسيطة الكثيفة من مؤسسات عامة لا خصوصية لها ولا تحمل أى قيم، إلا فكرة تعظيم الأرباح.وحقوق مثل هذا الإنسان هى في واقع الأمر استمرار للهجوم على الطبيعة البشرية بوصفها كياناً مركباً متجاوزاً للطبيعة/المادة. ولذا، لم يتحدث أحد عن حق الإنسان في وقف تيار الأباحية التي تُصدَّر من الغرب، والتي تهدر ابسط الحقوق الإنسانية . وكذلك لا يتحدث احد عن حقوق الأفراد (الشعوب) الذين سُرقت وتُسرق اموالهم وتودع فى بنوك غربية من قبل شخصيات تساندها الحكومات نفسها التي تصرخ عن حقوق الإنسان، ولم يحتج أحد على صناعة اسلحة الفتك والدمار التى يطور ويصنع معظمها في العالم الغربي. فالحديث دائماً يجرى عن إنسان مجرد بسيط لا يوجد داخل المجتمع والتاريخ والأسرة. ولذا، نجد أن الحديث ينصب على الحقوق المطلقة لهذا الفرد؛ أي حقوق تتجاوز حقوق المجتمع ومنظوماته الأخلاقية والمعرفية.

ويظهر الهجوم على الطبيعة البشرية من خلال نظرية الحقوق المطلقة في المفهوم الجديد للأقليات الذي يروجه النظام العالمى الجديد، وهيئة الأمم المتحدة، وبعض الجماعات التى تدور في فلكها. فالجماعات الدينية الصغيرة أقلية ، والجماعات الإثنية الصغيرة أقلية ، والشواذ جنسياً اقلية ، والنساء أقلية ، والمعوقون أقلية، والمسنون أقلية، والبدينون اقلية والأطفال أقلية ،، وكل واحد فيهم له حقوق مطلقة. وهذا يؤدي فى واقع الأمر إلى أن فكرة المجتمع الذي يستند إلأى عقد اجتماعي تصبح مستحيلة إذ إن الحقوق المطلقة لا يمكنها التعايش. وهذا ما حدث في فلسطين المحتلة حين جاء اليهود بحقوق يهودية مطلقة شردت الفلسطينيين وهدمت وطنهم. ولكن الأخطر من هذا هو أن تكون الغالبية العظمى من الناس أقليات ، فهذا يعنى أنه لا يوجد اغلبية، أي لا يوجد معيارية إنسانية، فتصبح كل الأمور نسبية متساوية وتسود الفوضى المعرفية والأخلاقية.

Eslam Ramadan
06-18-2013, 06:57 PM
3- حركة التمركز حول الأنثى

ولعل أهم نظريات الحقوق هى النظرية التى تدعو لها الحركات النسائية الجديدة. ولعل الخلط المصطلحي السائد في هذه الحركات (التحرر) هو ذاته تعبير متبلور عن الصراع الدائر بين النموذجين: نموذج المرجعية المتجاوزة والجوهر الإنساني المستقل وإمكانية المساواة. ونموذج المرجعية المادية الكامنة. فقد ظهر فى اللغات الغربية (الإنجليزية) مصطلح ويمنز ليبريشن موفمنت liberation movement women's الذى يترجم عادةً إلى حركة تحرير المرأة والدفاع عن حقوقها، وهذا ما كان يفهم من هذاالمصطلح بشكلٍ عام في اللغات الأوروبية. ثم ظهر منذ عدة سنوات مصطلح فيمنيزم feminism وحل محل المصطلح الأول وكأنهما مترادفان، وكأن المصطلح الأخير اكثر شمولاً أو أكثر راديكالية من المصطلح الأول، وليس مختلفاً عنه تمام الأختلاف . ولكننا لو دققنا النظر في هذا المصطلح الأخير لوجدنا أنه يشير فى واقع الأمر إلى مدلولين مختلفين تمام الأختلاف : حركة تحرير المرأة وما يمكن تسميته حركة التمركز حول الأنثى وهما حركتان - فى تصورنا - مختلفتان، بل ومتناقضتان. فحركة تحرير المرأة هى حركة أجتماعية ذات مرجعية إنسانية متجاوزةن بمعنى أنها ترى المرأة باعتبارها جزءاً من المجتمع، كائناً مستقلاً عن عالم الطبيعة/المادة لايمكن تسويته بالظواهر الطبيعية، ومن ثم تحاول ان تدافع عن حقوقها داخل المجتمع. وبرغم ان هذه الحركة- في رأينا - حركة علمانية في رؤيتها، تستند إلى فكرة العقد الأجتماعى (والإنسان الطبيعي والإنسان الأقتصادي)، إلا أن مثلها الأعلى يحوي داخله أبعاداً إنسانية اجتماعية مركبة، متجاوزة للطبيعة/ المادة، لعلها بقايا الرؤية التوحيدية والهيومانية فى الغرب، وهي رؤية تفترض مركزية إنسانية وعيارية إنسانية معينة ، وهى بمثابة المرجعية النهائية ، المتجاوزة للطبيعة/المادة والتى تضع حدوداً بينه وبينها فلا يذوب فيها ويسوى بالكائنات الأخرى. ومع تصاعد معدلات العلمنة وهيمنة المرجعية الكامنة، بدأت هذه البقايا في التبخر، وتراجع البعد الأجتماعي الذى يفترض مركزية إنسانية وهوية إنسانية منفردة ، وثنائيةالإنسان والطبيعة، وتم إدراك الأنثى خارج أي سياق اجتماعى إنساني وكأنها كائن طبيعى مادي يتساوى مع الأشياء الطبيعية المادية الأخرى.
ولنا أن نلاحظ أن ما يحدث هنا هو عملية تفكيك لمقولة المرأة كما تم تحديدها وتعريفها عبر التاريخ ، لتحل محلها مقولة جديدة تماماً تسمى المرأة أيضاً ولكنها مختلفة في جوهرها عن سابقتها. وهذا جزء من عملية تفكيك مقولة الإنسان التي تقوم بها الحضارة الغربية العلمانية الحديثة في إطار المرجعية المادية الكامنة حين أعلنت أن الإنسان لا يتحرك في إطار المرجعية المتجاوزة، وإنما هو كائن طبيعي مادي ينتمي للطبيعة/المادة، وسمت الكائن الطبيعي الجديد الإنسان الطبيعي، الإنسان غير الإنسان ، الإنسان الذي يُرد إلى مرجعية مادية غير إنسانية، ومن ثم فهو يتساوى مع الكائنات الأخرى. ونحن نرى أن الخطاب المتمركز حول الأنثى يفعل الشىء نفسه بالنسبة إلى المرأة، فالأنثى في الغطار التعاقدي هي مركز الأسرة وعمودها الفقري، ومن ثم فهي مركز الإنسانية التي نعرفها ، وهي المؤسسة التي يحتمي بها الإنسان ويحقق من خلالها جوهره . وقد تم تقسيم العمل في هذا الإطار.لكن ضرب هذا المركز هو ضرب للإنسانية كما نعرفها وللطبيعة البشرية كما خبرناها.

إن البرنامج الإصلاحي الذي تطرحه حركة التمركز جول الأنثى لا يهدف إلى تحقيق مساواة بين الرجل والمرأة أو إلى تغيير القوانين أو السياق الأجتماعي للحفاظ على إنسانية المرأة باعتبارها أماً وزوجة وابنة وعضواً في الأسرة أو المجتمع ، وإنما يرمي إلى تفكيك مقولة المرأة في إطار المرجعية المادية، لتصبح إنساناً طبيعياً، وينم عن هذا شكلين متناقضتين، يعبران عن نزعتي تأليه الكون وإنكاره:

أ- تأكيد الفوارق التشريحية بين الرجل والمرأة . وتصبح الخصائص التشريحية للمرأة هي قدرها، والخصائص التشريحية للرجل هي ايضاً قدره، ومن ثم تصبح المرأة هي عدو الرجل وينحل العالم إلى ثنائية صارمة: ثنائية الأنا والآخر، ولا توجد أي مرجعية إنسانية جوهرية مشتركة بينهما.فالمرأة في حالة صراع كوني مع الرجل، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار، وتظهر نظريات عن ذكورة وأنوثة الإله وعن الفهم الأنثوي للتاريخ وعن استحالة التواصل بين الذكر والأنثى ، فالأنثى متمركزة حول ذاتها وفي حالة صراع كوني مع الذكر، ومهمة البرنامج الإصلاحى المتمركز حول الأنثى هو تحسين أدائها في عملية الصراع هذه . كما تهدف هذه البرامج إلى تغيير الإنسانية لتعكس الثنائية الصلبة ، بل وتهدف إلى فرض الثنائية على التحليل التاريخي.

ويتم الهجوم على ما يسمى ذكورة اللغة ولكنه في واقع الأمر هو هجوم على اللغة البشرية وحدودها وتشويه وأيقنة لها. فهل نحن نفكر في كلمة الأمانة باعتبارها أنثى، وفى لفظ الشيطان بأعتباره ذكراً؟ وحينما نقول : أبواب ، هل نفكر في أعضاء التذكير، بينما نفكر في اعضاء التأنيث حينما نقول بوابات أم أن هذا هو وجدان الحلوليين الكمونيين الواحديين الطبيعيين الماديين الذين يستخدمون الجنس عنصراً اساسياً لإدراك كل شيء؟ وهل يمكن أن يكون استخدام كلمة الإنسان وهي تعبير عن الذكر والأنثى ، حلاً للمشكلة ؟ الأجابة بطبيعة الحال، بالنفي ، لكن المهم هو طرح برامج نقدية مستحيلة ، غير قابلة للتنفيذ ، وذلك حتى يتم تقويض حدود اللغة القائمة والمرجعية الإنسانية المتجاوزة.

يُنظر للمرأة باعتبارها اقلية، وكلمة اقلية هنا لا تعني أقلية عددية مضطهدة، وأنما تعنى فى واقع الأمر أنه لا يوجد اغلبية من أي نوع، إنسانية مشتركة ، ولا يوجد معيار يحكم به، فالجميع مساوون ولا يمكن الحكم على أحد ، أي إن الأقلية تعني اختفاء المرجعية الإنسانية.

ب- ويمكن أن تأخذ عملية التفكيك لمقولة المرأة شكلاً مغايراً تماماً إذ تصبح المرأة كائناً طبيعيًّا تتم تسويتها بالرجل في جميع الوجوه بحيث لا تختلف عنه في أي شىء، دورها لا يختلف عن دوره، إي إنه تم أختزال الرجل والمرأة إلى مستوى واحد. وتسويتهما في إطار من الواحدية الكونية المادية يعبرَّ عن نفسه في ظهور الجنس الواحد أو الجنس الوسط بين الجنسين (بالإنجليزية : يوني سكس unisex) ، أي إنه تم رد الواقع إلى عنصر واحد أو مبدأ واحد ينكر أي عدم التجانس أو أي تنوع، بل وينكر وجود ثنائية ذكر/أنثى، فالذكر مثل الأنثى والأنثى مثل الذكر.

وكما أن الإنسان في المنظومة العلمانية الواحدية يتم إعادة صياغته بحيث يصبح إما فوق الإنسان أو دون الإنسان (سوبر مان نيتشه أو الإنسان العادي- إرادة القوة أو التكيف والمرونة- قاتل أو مقتول) ، فإنه يتم إعادة صياغة المرأة بحيث تصبح إما اكثر من مرأة (عدو الرجل) أو أقل من امرأة (متطابقة مع الرجل تماماً :اليونيسكس). وفي كلتا الحالتين، ليس المرأة هي الأم- الزوجة - الأخت - الحبيبة التي نعرفها والتي لها دور مستقل داخل إطار الجماعة الإنسانية الشاملة التي تضم الذكور والإناث والصغار والكبار. وبسقوط الأم والزوجة ، تسقط الأسرة ويتراجع الجوهر الإنساني أو يصبح كل البشر أفراداً طبيعيين لكلَّ مصلحته الخاصة يجابهون الدولة وقطاع اللذة والإعلانات بمفردهم، ويسقطون في قبضة الصيرورة، ويتم تسوية الجميع بالحيوانات والأشياء.

متعلم أمازيغي
06-18-2013, 06:59 PM
4- مشكلة القيمة في المجتمعات العلمانية (الرأسمالية و الاشتراكية الحديثة)

ثمة مشكلة أساسية كامنة في المجتمعات العلمانية التي تستند إلى عقد اجتماعي نابع من الإيمان بحقوق الإنسان الطبيعية، و هو عقد – كما نعلم- ينص على مساواة كل البشر. و لكن الإطار العام هو المرجعية المادية الكامنة (الطبيعة/المادة)، الأمر الذي يعني استبعاد أي قيم متجاوزة مطلقة، و استبعاد الإنسان أيضا كقيمة مطلقة. و من ثم، يصبح نموذج المجتمع هو حركة الذرات المتساوية المتحركة المتصارعة، و هو نموذج بسيط للغاية لا يعترف بالهرمية أو التراتبية و لا يميز بين ذرة و أخرى. و الذرات تتحرك من تلقاء نفسها و يسود النظام بشكل آلي من تلقاء نفسه، تماما كما يحدث في عالم الأشياء و الحيوان، فثمة تسوية كاملة بين الإنسان و الأشياء. و تؤدي هذه الرؤية، بطبيعة الحال، إلى نسبية أخلاقية يتساوى داخلها الخير بالشر. و تعبر هذه المرجعية المادية الكامنة عن نفسها في مفهوم السوق/المصنع و الإيمان بأن كل شيء يرد إلى المادة و بأن البناء الفوقي يمكن تفسيره في كليته في ضوء البناء التحتي (في النظام الاشتراكي).
و لكن إلى جانب هذا العالم الذري الأملس المستوي، الذي وقع في قبضة الصيرورة، الخالي من القيم المطلقة و الذي لا مركز له، يوجد الإيمان (في كل من الرأسمالية و الاشتراكية) بعزة النفس و بكرامة الإنسان و حقوقه المطلقة و بالعدالة، فهو إيمان بمطلقات متجاوزة لعالم الصيرورة المادية، و من ثم هي تفصل الإنسان عن عالم الطبيعة، و تميز بينه و بين الأشياء و ترفض التسوية بينهما، و يتم ترتيب عناصر الواقع بموجبها. فما هو خير، هو ما يقترب في هذه القيم (الجوهرية) و يحققها، و ما هو شر هو ما يبتعد عنها. و تستند النظرية الماركسية إلى الإيمان بوجود جوهر إنساني يشكل الابتعاد عنه اغترابا، و من ثم فإن مفهوم الاغتراب الماركسي هو تعبير عن التمسك الإنساني الهيوماني بالمطلقات الإنسانية مثل العدالة و منع الاستغلال و مساواة الإنسان بأخيه الإنسان، و هي مطلقات تشكل جوهر الاشتراكية في حقبتها البطولية، و باسمها تتم الثورة ليتجاوز الإنسان واقعه و ينهي حالة اغترابه. فكأن هناك نموذجان : واحد حلولي كموني مادي ينكر التجاوز، و الآخر يدور في إطار مرجعية متجاوزة داخل إطار مادي.
و هنا، يبدأ الصراع الحاد الخاص بالقيمة في المجتمعات العلمانية، فإذا كان ثمة إيمان بالقيم المطلقة، فمن ذا الذي يقرر هذه القيم؟ الإجابة الحديثة عن هذا السؤال، في إطار المرجعية المادية الكامنة، هو : الأغلبية العددية، و يقال أيضا : العلم الطبيعي الذي يسوي بين الإنسان و الطبيعة، فلا يوجد أي حقيقة مفارقة لواقعنا الأرضي و صيرورتنا الزمنية، أي إن المتجاوز المفارق، القيم المطلق مثل الكرامة و العزة، تسقط في الصيرورة، الأغلبية العددية و العلم الطبيعي. و هنا، تظهر الإشكاليات المختلفة. فماذا يحدث لو قررت الأغلبية الاستعناء تماما عن مفهوم الطبيعة البشرية الجوهرية المتميزة عن الطبيعة المفارق لها و بدأت تحكم على البشر من منظور حلولي كموني واحدي طبيعي مادي كمي؟ ماذا لو قررت الأغلبية، متسلحة بالرؤية العلمية المادية الطبيعية، ضرورة إبادة المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم؟ أليس من حق أعضاء أي مجتمع يدور في إطار الحلولية الكمونية أن يقرروا أي قرار طبيعي مادي دون العودة إلى أي مرجعية إنسانية مفارقة؟ أليس من حقهم استئصال جزء من الجسد يراه صاحب هذا الجسد ضارا، بما في ذلك أعضاء الأقليات غير المرغوب فيهم؟ أليس هذا أمرا طبيعيا ماديا لا يمكن الوقوف ضده إلا بالعودة إلى مرجعية متجاوزة و منظومة قيمية مطلقة تؤكد القيمة المطلقة للإنسان؟
و ماذا لو أن أعضاء الأغلبية، انطلاقا من إيمانهم بأن الإنسان كائن يتساوى مع كل الكائنات الأخرى قرروا التخلي عن قيم إنسانية، مثل القيم الاشتراكية عن العدالة و مركزية الإنسان، و آثروا الاستغراق في قيم طبيعية مادية مثل الإنتاج و الاستهلاك باعتبارها أمورا ألذ و أظرف و أكثر طبيعية و أكثر مادية و معقولية من عملية الدفاع عن هذه القيم، كما حدث في الاتحاد السوفيتي حين سقطت المنظومة الاشتراكية؟
و تصبح الأمور أكثر إشكالية، على صعيد العلاقات الدولية، لو قررت دولة مثلا غزو الدول الشعبية الأخرى، فما الأساس الأخلاقي لمحاولة وقفها عن عدائها، مع غياب المرجعية الإنسانية المشتركة المتجاوزة؟ و ماذا لو قررت دولة ما التوسع في إنتاج السلع، الطبيعة المادية التي لا علاقة لها بأي مرجعية إنسانية أو ربانية، المرتبطة بإباحية الأطفال كما تفعل الدانمارك، أكبر منتج لهذه الأشياء في العالم، و هل من حق الجماعة الدولية إيقافها؟ و ما هو هرم القيم الذي يجعلنا نفترض أسبقية قيمة أخلاقية إنسانية مطلقة غير طبيعية الوقوف ضد غزو الشعوب و الإباحية على قيمة طبيعية مادية خالصة مثل الإنتاجية و الربح؟ و على أي أساس تعارض الأمم المتحدة الآن في انضمام بعض الجماعات المدافعة عن ممارسة اللواط مع الصبية ممن لم يبلغوا سن الرشد بعد؟ و إن قبلنا باللواط باعتباره أسلوبا مختلفا من أساليب الحياة و تعبيرا عن حرية الإنسان و ميله الجنسي، فما هذا الحديث عمن لم يبلغوا سن الرشد بعد؟ و لماذا يكون ذلك أمرا مباحا لمن بلغوا سن الرشد و غير مباح لمن لم يبلغوا هذه السن السحرية بعد؟ أليست كل الأمور طبيعية مادية نسبية متساوية؟ أو لم يتم تسوية الإنسان بالإنسان و الإنسان بالطبيعة؟

5- الثقافة الشعبية و الهجوم على الطبيعة البشرية

هذا الهجوم الواضح على الإنسان في العلوم الإنسانية الغربية العلمانية يظهر في أشكال كثيرة في حياتنا اليومية. فيلاحظ في الثقافة الشعبية التي تصدرها هوليود شيوع شخصيات لا علاقة لها بالطبيعة البشرية أو بالإنسان كما نعرفه، فهناك شخصيات ما فوق الإنسان (طرزان – رامبو - .. إلخ)، و لكن هناك شخصيات دون الإنسان (فرانكشتاين – مادونا)، و هي كلها شخصيات لا علاقة لها بالإنسان و لا بالطبيعة البشرية تذكرنا بإنسان داروين و نيتشه و فرويد. و سلوك الإنسان الجنسي و أحلامه هي شأن خاص تماما مرتبط بفرديته و رؤيته للنفس. و لذا، نجد أن الهجوم على الطبيعة البشرية في مجال الثقافة اليومية قد ركز على هذا الجانب ببراعة فائقة إذ إنه يمكن صياغة أحلام الإنسان الجنسية بطريقة تجعله يقبل اختفاء المعيارية الإنسانية المركبة المتجاوزة للطبيعة/المادة. و نحن نرى أن انتشار الإباحية في العالم الغربي ليس مجرد مشكلة أخلاقية و إنما هي أيضا قضية معرفية. فالإباحية هي جزء من هذا الهجوم على الطبيعة البشرية و على قداسة الإنسان و محاولة تفكيكه، فقد قامت الرؤية العلمانية الإمبريالية بتطبيع الإنسان، أي رأته كائنا طبيعيا ماديا بسيطا و حسب، و نظرت إليه باعتباره مادة نسبية صرفة لا قداسة لها. و الإباحية هي تعبير عن الاتجاه نفسه، فتجريد جسد الإنسان من ملابسه هو نوع من نزع القداسة عنه حتى يتحول الإنسان، خليفة الله في الأرض في الرؤى الدينية، و مركز الكون في الرؤى الإنسانية، إلى مجرد لحم يوظف و يستغل بحيث يصبح مصدرا للذة. و من هذا المنظور، يمكن أن نرى الإبادة النازية لليهود و غيرهم على أنها شكل من أشكال الإباحية أو الإمبريالية الكاملة التي تؤدي إلى موت الإنسان الفعلي، فهي حولت البشر إلى صفوف و تلال لحم توظف و ينتفع بها و لذا، فنحن نرى أن ثمة تشابها بين اللحظة النازية و اللحظة التايلاندية في الحضارة العلمانية، فكلاهما أسقط القداسة عن الإنسان و رآه مادة استعمالية توظف في أعمال السخرة في ألمانيا و في البغاء في تايلاند.

متعلم أمازيغي
06-18-2013, 07:14 PM
الفصل الثالث

العقل و المادة

تستخدم كلمة عقل و كأنها كلمة واضحة المعالم محددة الأبعاد، دال مدلوله واضح تمام الوضوح. و لكننا لو دققنا النظر لوجدنا أن الأمر جد مختلف، و أن العقل يدور في إطار مرجعية معينة تشكله و تحدد مجاله.

العقل المادي

العقل في اللغة الحجر و النهي، و قد سمي بذلك تشبها بعقل الناقة، لأنه يمنع صاحبه من العدول عن سواء السبيل، كما يمنع العقال الناقة من الشرود.
و العقل في الخطاب الفلسفي (خصوصا الغربي) كلمة غامضة للغاية لها معان كثيرة متناقضة أحيانا. و عادة ما يوضع العقل في مقابل الخيال و التجربة و الإيمان و العاطفة، و لكن هناك أيضا من يرى ضرورة ارتباط العقل بكل هذه المقولات، كما يرى أنه من دونها يصبح أداة مدمرة.
و هناك من يرى أن العقل إن هو إلا جزء لا يتجزأ من الطبيعة-المادة، و هذا هو العقل المادي، و لكن هناك أيضا من يرى أن العقل يتمتع باستقلالية عنها. فعلى سبيل المثال، عرف الفلاسفة الماديون العقل بأنه صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات الحسية لتصبح أفكارا بسيطة، و تتجمع الأفكار البسيطة من تلقاء نفسها (و من خلال قوانين الترابط) لتصبح أفكارا مركبة، و تستمر عملية التركيب إلى أن نصل إلى ما نتصور أنه الأفكار الكلية و الثوابت و المطلقات مع أنها في واقع الأمر مجرد أحاسيس مادية، فكأنه لا يوجد في العقل شيء لا يوجد أصلا في الواقع المادي. هذه هي الصورة المبدئية للعقل المادي، و لكنها يمكن أن تأخذ أشكالا أكثر صقلا، فالنظرية الدراروينية ترى أن العقل قد ظهر من خلال عملية تطور كامنة في المادة ذاتها. و ترى الماركسية أن العقل ظهر من خلال علاقة الإنسان بالطبيعة و ببقية البشر أثناء العملية الإنتاجية. أما دوركهايم فقد تحدث عن العقل الجمعي، و أنه من الجماعة بمثابة الضمير من الفرد. و لكن العقل الجمعي، في نهاية الأمر و في التحليل الأخير، إن هو إلا صورة مركبة مجردة اجتماعية من العقل التجريبي الفردي الذي يكون المعرفة من خلال مراكمة المعطيات الحسية (فلا يوجد في العقل شيء لا يوجد له أصل في الواقع المادي).
أما الفلسفات التي يقال لها مثالية، فترى أن العقل قوة في الإنسان تدرك المبادئ العامة التي تتحكم في الواقع، كما تدرك المعاني العامة غير المادية، مثل : ماهية الظواهر، أي كنهها لا ظواهرها، و الوجود و العدم، و الجوهر في مقابل العرض، و العلية و المعلولية، و الغاية و الوسيلة، و الخير و الشر، و الفضيلة و الرذيلة، و الحق و الباطل، و الجزء و الكل، و علاقة كل هذه الثنائيات بعضها ببعض، و يعرّف العقل بأنه الملكة التي يحصل بها للنفس علم مباشر بالحقائق المطلقة. فكأن هذا العقل شيء مستقل عنا. و كل إنسان يشعر بأن في داخله عقلا محدودا لا يصحح أحكامه إلا باستلهام عقل كلي ثابت لا يتغير. و قد عرّف العقل كذلك بأنه مجموع المبادئ الصلبة، المنظمة للمعرفة، كمبدأ عدم التناقض، و مبدأ السببية، و مبدأ الغائية. و تتميز هذه المبادئ بضرورتها و كليتها و استقلاليتها عن التجربة، و من هنا التمييز بين النزعة العقلانية و النزعة التجريبية. و قد خلص بعض الفلاسفة من ذلك إلى المعاني الأولية التي يكشف عنها الفكر موجودة في العقل قبل اتصاله بالحس، و أن العقل ليس صفحة بيضاء لم يتم نقشها، و إنما هو ذو رسوم فطرية تنظم معطيات التجربة. و يشير كانط إلى ما يسميه العقل المجرد أو العقل الخالص أو العقل المحض، و هو ما يسمو على عالم الحس و التجربة و العقل التجريبي، و هو ضرب من العقل النظري، و هو ما ينصب على الإدراك و المعرفة، كما يشير إلى العقل العملي، و هو ما ينصب على الأخلاق و السلوك.

و يلاحظ أن ثمة تأرجحا هنا بين تصنيف العقل على أنه ينتمي لعالم الطبيعة/المادة و التجربة جزء لا يتجزأ منها، العقل المادي، و بين كونه يعلو عليها مستقلا عنها، العقل المثالي أو غير المادي، و يظهر هذ التأرجح منذ بداية تاريخ الفلسفة و الفكر في العالم. فأرسطو يميز بين العقل بالفعل ( و هو فاعل) و العقل بالقوة (و هو منفعل). و قد نسب شراح أرسطو إلى العقل بالفعل صفات تسمو به على عالم المادة و تبرئه من الفناء. و يلاحظ التأرجح نفسه في فكر مدرسة فرانكفورت حيث يميزون بين العقل النقدي (الذي يمكنه تجاوز الطبيعة) و العقل الأداتي و هو العقل الإجرائي الذي لا يحقق تجاوزا.

و قد حاولت المدرسة الألمانية المثالية أن تحل مشكلة التأرجح هذه بافتراض تقابل و تماثل كاملين بين العقل و الطبيعة، فالعقل الكلي يتجلى في كل من عقل الإنسان و الطبيعة/المادة، فيوحد بينهما و يجعل معرفة الواحد هي معرفة الآخر، أي إن المثالية الألمانية الواحدية تسقط في نهاية الأمر و في التحليل الأخير في الواحدية المادية التي ترد كل شيء إلى قوانين المادة، و ذلك برغم استخدامها اصطلاحات تنم عن الواحدية المثالية. و من هنا كان يمكن أن يخرج من هذه المدرسة هيجل و يخرج من تحت عباءته شيلنج و فخته من ناحية و فيورباخ و ماركس من ناحية أخرى.
و في الخطاب الفلسفي العربي الاستناري، عادة ما تستخدم كلمة العقل بشكل بسيط و مباشر و بشكل مطلق دون إيضاح، و لكن السياق يدل على أن المقصود هو العقل المادي القادر على التواصل مع الواقع بشكل مباشر دون أي مشاكل أو قلق، الأمر الذي يدل على عدم إدراك، أو إغفال متعمد، للقضايا التي أثارتها الفلسفة الغربية حين نصبت العقل المادي حكما. و عملية التأرجح التي دامت مئات السنين، والمحاولات، البطولية العبثية، المختلفة التي بذلها الفلاسفة الغربيون للتغلب على عملية التأرجح هذه، هي محاولات أدت في نهاية الأمر إلى ظهور المادية الجديدة و اللاعقلانية المادية التي أعلنت إفلاس العقل و نهايته. و عملية الإغفال هذه تدل على أن الخطاب الفلسفي العربي آثر أن يبدأ من حيث بدأ الغرب، حين كان لا يزال على مشارف منظومته التحديثية الاستنارية المادية، لا من حيث انتهى، بعد أن اكتملت كثير من حلقات المتتالية التحديثية الاستنارية المادية و بعد أن تكشفت معالمها، و بعد أن أدرك كثير من المفكرين و الفلاسفة الغربيين بعض نقط قصور العقل المادي التي يمكن أن نوجزها فيما يلي :
1- العقل المادي يوجد داخل حيز التجربة المادية محكوم بحدودها، و لذا فهو لا يكتشف إلا ذاته في الواقع و لا يهتدي إلا بقوانين المادة الكامنة في الأشياء، و لا يمكنه التعامل لا مع الواقع و لا مع كافة الظواهر إلا في هديها.
2- ينسحب هذا على العقل ذاته، و هو يتم تفكيكه في إطار الطبيعة-المادة، و يرد إليها باعتباره جزءا لا يتجزأ منها، يسري عليه ما يسري عليها من قوانين كامنة في المادة، و هو ما يعني إنكار مقدرة العقل على التجاوز و الوصول إلى الكليات.
3- العقل المادي يصبح بهذه الطريقة، أداة الطبيعة-المادة ( و النماذج التي تدور في إطارها) في الهجوم على الإنسان، بدلا من أن يكون علامة انفصاله عنها و أسبقيته عليها.
4- العقل المادي محايد و قادر على رصد ما هو كائن و غير قادر على إصدار الأحكام و على التعرف على ما ينبغي أن يكون، و لذا فهو يتعرف على الحقائق المادية و حسب، و لا يمكنه أن يتعرف على قيمتها. فالحقائق كمّ أما القيمة فكيف، و الحقائق أشياء ملموسة توجد في حيز التجربة المادية، أما الأخلاق فهي تنتمي إلى عالم يتجاوز حدود مثل هذه التجربة. و لذا، لا يمكن للعقل أن يصل إليها، و إن وصل إليها فهو ينكرها تماما و يردها إلى عالم المادة. و يفشل تماما في التمييز بين ما هو أخلاقي و ما هو غير أخلاقي، و بين ما هو إنساني و ما هو غير إنساني، و بين ما هو قبيح و ما هو جميل.
5- العقل المادي معاد للتاريخ، فالتاريخ بنية إنسانية متجاوزة لعالم الطبيعة-المادة، و هي تتسم بالتنوع و التركيب و الإبهام، أما العقل المادي –كما أسلفنا- فإنه يتعامل بكفاءة مع الأرقام و الصيغ البسيطة الواضحة و يدور في إطار الطبيعة-المادة.
6- و لكل هذا، نجد أن العقل المادي، بعد حقبة ثورية أولية، يتحول إلى عقل تكنوقراطي محافظ رجعي يذعن للأمر الواقع و قوانين الواقع الثابتة، فهو غير قادر على تجاوزها أو نقدها، فهي الأساس الذي يستند إليه، و مهمته في الإطار المادي هي رصدها في دقة بالغة و موضوعية تامة و سلبية كاملة.
7- العقل المادي لا يرصد سوى التشابه و التواتر و التجانس و العمومية، فهو عاجز عن رصد عدم الاستمرار والفرادة، و لذا فهو يقوم بتجريد الإنسان من خصوصيته و فرادته و تركيبته.
8- العقل المادي ينظر للواقع بمنظار كمي و يفرض المقولات الكمية على الواقع، فيرصد الواقع باعتباره كما و أرقاما و سطحا بسيطا خاليا من الأسرار، فما يستعصي على القياس يظل بمنأى عنه و غير موجود، و من ثم يختفي الكيف تماما ويتحول الإنسان من كيف إلى كم محض.
9- العقل المادي غير قادر على إدراك الإبهام أو التركيب، و لذا فهو يقوم بتبسيط الإنسان و اختزاله في صيغ كامية رياضية بسيطة.
10- العقل المادي عقل تافه سطحي، فهو لا يمكنه أن يسأل أيا من الأسئلة الكلية و النهائية الكبرى (ما الإنسان؟ ما مصيره في الكون؟ كيف يواجه الموت؟ ما نطاق حدوديته و شموليته؟) فهي أسئلة لا معنى له من منظوره، قضايا فارغة، على حد قول الوضعيين، لا يمكن البرهنة على صدقها أو كذبها.
11- العقل المادي لا يرصد سوى التفاصيل المتناثرة التي لا يربطها رابط، و لذا فهو يؤدي إلى التشظي. و لكنه قادر أيضا على رصد التماثل و العمومية، دون الخصوصية التي تؤدي إلى التفرد. مما يفقد الواقع ألوانه و شخصيته. و قد شبه الواقع المادي بأشعة إكس التي يمكنها أن تكشف جمجمة الرأس لكن لا يمكنها أن تنقل لنا صورة الوجه الإنساني في أحزانه و أفراحه.
12- العقل المادي عقل غير قادر على إدراك القادسة و الأسرار، و لا يعرف الحرمات أو المحرمات، و لذا فهو ينزع القداسة بكل صرامة عن كل الظواهر بما في ذلك الإنسان، و يراها باعتبارها مادة استعمالية
13- العقل المادي عقل عنصري غير قادر على إدراك الكليات (إلا الطبيعة/المادة)، و لذا فهو يسقط مفهوم الإنسانية المشتركة، فهو مفهوم مركب لا يمكن قياسه. و بدلا من ذلك، يتأرجح العقل بين قطبين متنافرين : عنصرية التفاوت، و عنصرية التسوية. فالعقل المادي قادر على رصد الاختلافات الجوهرية بين الناس، فيؤكد التفاوت بينهم، أو (على النقيض من هذا) هو قادر على أن يصدر البشر باعتيارهم كيانات بيولوجية و حسب، و من ثم لا توجد أي اختلافات كيفية بين كل الأفراد و بين الإنسان و الحيوان، فالإنسان شأنه شأن الحيوان، مجموعة من الوظائف البيولوجية و الكيميائية، و عدد من الغرائز و التفاعلات الحتمية، و لذا فإن العقل المادي لا يسوي بين كل البشر و حسب، و إنما يسوي كل البشر و الحيوانات.
14- العقل المادي، لأنه لا يمكنه إدراك الكليات أو القيمة أو الثوابت أو المطلقات أو المقدسات، عقل تفكيكي عدمي قادر على تفكيك الأشياء كما يقول دعاة ما بعد الحداثة عاجز عن إعادة تركيبها. عقل يفرز قصصا صغرى و حسب، أي مجموعة من الأقوال التي ليست لها أي شرعية خارج نطاقها المباشر و الضيق تماما مثل إدراك العقل المادي للعقل المادي بطريقة حسية مباشرة، و هو عقل عاجز عن إنتاج القصص الكبرى أو النظريات الشاملة و عن التوصل للحقيقة الكلية، و من ثم لا يوجد بالنسبة إلى هذا العقل التفكيكي المادي، خير أو شر أو عدل أو ظلم، و لا توجد أية ثنائية من أي نوع. و هو أمر متوقع بعد أن صفى هذا العقل ثنائية الإنسان و الطبيعة.
15- العقل المادي، لكل ما تقدم، عقل إمبريالي فهو عقل لا يلتزم بأي مقاييس أخلاقية و ينكر الإنسانية المشتركة، كما أنه لا تحده حدود أو سدود، و لذا فهو لا يمكنه إلا التفكير في هزيمة العالم (الإنسان و الطبيعة) و اختزاله و تحييده و حوسلته و تحويل الطبيعة و الإنسان إلى مادة استعمالية، فكل الأمور متساوية و نسبية و لا قداسة لها.

و نحن نذهب إلى أن العقل الإنساني، شأنه شأن الظاهرة الإنسانية، مادي في بعض جوانبه، و لكنه في جوانب أخرى متجاوز للمادة. أي إنه ليس عقلا ماديا واحديا و لا مثاليا واحديا، و إنما عقل إنساني مركب يعيش في ثنائية الجسد و الروح التكاملية، و لا يمكن رده إلى أي شيء خارجه في عالم المادة.

magdy2
08-12-2013, 01:07 AM
سلام ياشباب

ارجوا ان تواصلوا في تفريغ مادة الكتاب بارك الله فيكم

دمتم بخير

علي عبد الله
10-11-2013, 01:52 AM
لا تبخلوا علينا بإتمام هذا الكتاب الرائع أرجو إكمال تفريغه و وفقكم الله لكل خير

Eslam Ramadan
12-01-2013, 12:07 PM
العقل الأداتى والعقل النقدي

مصطلح العقل إذن ليس مصطلحاً بسيطاً . وقد ساهم مفكرو مدرسة فرانكفورت (ماركوز - هوركهايمر- أدرنو - هابرماس) في إلقاء المزيد من الضوء على العقل وإشكالياته ، فميزوا بين العقل الأداتي والعقل النقدي، وبيَّنوا وحشية العقل الأداتي. والعقل الأداتي ترجمة للمصطلح الإنجليزي إنسترومنتال ريزون instrumental reason ويُقال له إيضاً العقل الذاتي أو التقني أو الشكلي وهو على علاقة بمصطلحات مثل العقلانية التكنولوجية أو التكنوقراطية ويقف على الطرف النقيض من العقل النقدي او الموضوعي.
والعقل الأداتي هو العقل الذي يلتزم، على المستوى الشكلي، بالأجراءات دون هدف أو غاية، أي إنه العقل الذي يوظف الوسائل في خدمة الغايات دون تساؤل عن مضمون هذه الغايات، وهل هي إنسانية أم معادية للإنسان؟ وهو، على المستوى الفعلي، العقل الذي يحدد غاياته وأولوياته وحركته انطلاقاً من نموذج عملي مادي بهدف السيطرة على الطبيعة والإنسان وحوسلتهما.

وفي محاولة تفسير هيمنة العقل الأداتي على المجتمعات الغربية الحديثة ، يرى اعضاء مدرسة فرانكفورت أن احد أهم اسباب ظهوره هو آليات التبادل المجردة في المجتمع الرأسمالي. فتبادل السلع يعني تساوي الأشياء المتبادلة، فما يُهم في السلعة ليس قيمتها الإستعمالية المتعينة وإنما ثمنها المجرد. والأيدولوجيا النابعة من هذا التبادل المجرد هي أيدولوجيا واحدية تمحي الفروق وتُوحد الواقع مساويةً بين الظواهر المختلفة بحيث يصبح الواقع كله مادةً لاسمات لها. ولم تشكل المجتمعات التي كانت اشتراكية إي بديل ، فهي الأخرى سيطر عليها العقل الأداتي متمثلاً في التكنوقراطيات الحاكمة.
ولا يفسر اعضاء مدرسة فرانكفورت اصول العقل الأداتي استناداً إلى عناصر مادية أو اقتصادية أو سياسية وإنما يرجعونه إلى عنصر ثقافي حضاري على طريقة ماكس فيبر. فالعقل الأداتي –حسبما يرى هوركهايمر وأدورنو –يعود إلى الأساطير اليونانية القديمة، خصوصاً اسطورة أوديسيوس بأعتبار أن الألياذة والأوديسة هما اللبنة الأسطورية الأساسية للوجدان الغربي .وقد جاء في الأوديسا أن اوديسيوس طلب من بحارته أن يضعوا في آذانهم حتى لا يسمعوا غناء الحوريات ، وهو غناء ينتهي بمن يسمعه إلى الأستسلام لهن ولإغوائهن. وطلب منهم أن يقيدوه إلى ((صاري)) السفينة ، وأن يزيدوا تقييده كلما ازداد الغناء . وتنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات لأن اوديسيوس سمع غناءهن وعرف سرهن.

وتفسر هذه الأسطورة على النحو التالي :

1- علاقة الإنسان بالطبيعة في الأوديسة هي علاقة صراع وهيمنة وليست علاقة توازن .وأوديسيوس وبحارته هم رمز الإنسان الذي يود الهيمنة على الطبيعة

2- يتم أنجاز هذا الهدف عن طريق إهدار إنسانية الإنسان وتلقائيته ، فالبحاره ، رمز الطبقة العاملة ، يفقدون الصلة تماماً مع الطبيعة ، واوديسيوس , رمز الطبقة الحاكمة ، لا يستمع إلى الغناء إلا وهو مقيد إلى الصاري ، إي إنه يحلم بالسعادة دون أن يعيشها ويحلم بالطبيعة دون أن يرتبط بها .


3- لاينتج عن هذا نفصال الإنسان عن الطبيعة وحسب وإنما ينتج عنه إيضا انفصال المثال عن الواقع وانفصال الجزء الإنساني عن الكل الطبيعي، وبذا اصبح الإنسان يعيش بعقله في مواجهة البيئة يحاول استغلالها وحسب دون أن يتفاعل معها ، أي أن الإنسان الكلي الحي يموت ليحل محله إنسان اقتصادي إمبريالي ميت ، لأنه لا يحوي داخله الجوهر الإنساني المتكامل.



4- تنتهي الأسطورة بانتحار الحوريات وموت الطبيعة ، لأنها فقدت سحرها وقدسيتها .

ويرى مفكرو مدرسة فرانكفورت أن جذور العقل الأداتي تعود إلى المنطق الأرسطي الذي يكشف عن الميل لإخضاع جميع الموضوعات ، سواء كانت عقلية أم جسمية ، اجتماعية إنسانية أم طبيعية مادية ، لنفس القوانين العامة للتنظيم والحسابات والأستنتاج.

وأخيراً ، يذكر هوركهايمر وأدورنو ذاتية ديكارت حين وضع الذات مقابل الموضوع وخلق هذه الثنائية الحادة والصلبة بينهما وكأن الذات يمكن أن تُوجَد مستقلة عن الموضوع ، وكأن الموضوع يمكن أن يوجد في حد ذاته مستقلاًَ عن الذات . واستقلال الذات هنا يعني أنها ستحول الطبيعة إلى مجرد موضوع للتأمل (كما فعل اوديسيوس) يمكن توظيفه وحوسلته والسيطرة عليه .ويميز أدورنو وهوركهايمر بين المحاكاة والإسقاط. فالمحاكاة هي إدراك مركب يحفظ التوازن بين الذات والموضوع كما يحفظ التوتر الخلاف بينهما . أما الأسقاط فهو شكل من اشكال البارانويا إذ يحول البيئة إلى مجرد امتداد للذات .

وحركة الأستنارة هي قمة منطق السيطرة والهيمنة يشيرون لها بأنها الأستانرة المريضة والإستنارو اللاإنسانية والمدنية في مقابل الحضارة، فهي حركة إسقاط لا محاكاة إذ تلغي الطبيعة تماماً وتعلن إمكانية السيطرة النهائية من خلال تجريدها من خصائصها الضرورية (قداستها – حرمتها- اسرارها –غيبها ) ، وتفتيتها إلى ذرات منفصلة ، وأدركها من خلال مقولات واحدية مادية بسيطة، وإخضاعها للقياس والحساب والتحكم والسيطرة .ولكن المفارة تكمن في أن الأستنارة بذلك أدركت الإنسان نفسه من خلال مقولات العلوم الطبيعية البسيطة (الموضوعية المنفصلة تماما عن الذات ) . وينتهي الأمر حين يسوي التنوير كل شيء بكل شيء آخر ، ويصبح العالم مادة استعمالية خاضعة لمؤسسات العقل الأداتي الأدارية ولابيروقراطية الذي ينفلت من أية غائيات إنسانية حتي يصبح قوة مستقلة تماماً لها أجزاؤها وأهدافها التي تتجاوز ما هو إنساني . وتصل هذه الاستنارة اللاإنسانية إلى قمتها في الفاشية التي هي شكل من أشكال البارانويا المتطرفة التي تُسقط الذات الإنسانية على الطبيعة وتُلغي الطبيعة تماماً ، فالرأسمالية التقليدية تعتمد على وساطة السوق ، ولذا ثمة علاقة ما بين الذات والموضوع ، أما الفاشية فهي تُسقط السوق وتحاول السيطرة الكاملة عليه بشكل مباشر من خلال ممارسة القوة غير المحدودة .

ويمكن القول بأن العقل الأداتي ، بعد تبلوره ، يتسم بالسمات التالية :

1- ينظر العقل الأداتي إلى الواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية ، ولذا فهو يبحث عن السمات المتماثلة في الأشياء ويهمل السمات التي تميز ظاهرة ما عن أخرى .

2- العقل الأداتي قادر على أدراك الأجزاء ، ولذا فهو يفتت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة ، ويفككه دون ان يستطيع إعادة تركيبه إلا من خلال نماذج اختزالية بسيطة .

3- ينظر العقل الأداتي إلى الإنسان باعتباره مجرد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية/المادية الأخرى. وهذا الجزء ليس له ما يُميزه عن بقية العالم، ولذا فهو مُستوعب في كليته في النظام الاجتماعي وفي تقسيم العمل السائد وفي الطبيعة/المادة.

4- العقل الأداتي ينظر إلى الإنسان من منظور العلوم الطبيعية باعتباره شيئاً ثابتاً وكماً واضحاً ووضعاً قائماً لا يحوي إية إمكانيات.

5- العقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والإنسان باعتبارهما مادة استعمالية يمكن توظيفهما وحوسلتهما لخدمة أي هدف.

6- الهدف النهائي من الوجود هو الحفاظ على بقاء الذات وهيمنتها وتفوقها ، ومن هنا تسميته بالعقل الذاتي إيضاً .

7- لتحقيق هذا الهدف ، يلجأ العقل الأداتي إلى فرض المقولات الكمية على الواقع وإخضاع جميع الوقائع والظواهر الطبيعية والإنسان للقوانين الشكلية والقواعد القياسية والنماذج الرياضية ، حتى يمكن التحكم في الواقع ويصل هذا إلى ذروته في الفلسفة الوضعية .

عمار سليمان
03-04-2014, 09:39 AM
ينتج عن هذا ما يلي:

1_أن العقل الأداتي يصبح عاجزاً تماماً عن إدراك العمليات الاجتماعية و السياسية و التاريخية في سياقها الشامل الذي يتخطى حدوده المياشرة , بل إنه يعجز تماماً عن إدراك غائيات نهائية أو كليات متجاوزة للمعطيات الجزئية الحسية و المعطيات المادية الآنية ( و لذا, يمكن تسميته بالعقل الجزئي ) , و هو ما يعني أن يصبح عاجزاً تماماً عن تحقيق أي تجاوز معرفي أو أخلاقي .

2_ لهذا السبب نفسه يصبح العقل الأداتي غير قادر على تجاوز الحاضر للوصول إلى الماضي و إلى استشراف المستقبل , أي أن العقل الأداتي يسقط تماماً في اللازمنية و اللاتاريخية .

3_مع غياب أية مقدرة على إدراك الكلى المتجاوز و أية أسس تاريخية و رؤوى مستقبلية . أي مع غياب أية أرضية معرفية ثابتة , يمكن أن تستند إليها معايير عامة = يسقط العقل الأداتي تماماً في نسبية المعرفة و الأخلاقية و الجمالية و إذ تصبح كل الأمور متساوية , و من ثم تظهر حالة من اللامعيارية الكاملة , و مع هذا , يمكن القول بأن النموذج الكامن المهيمن على الإنسان يصبح مع تساوي الأمور هو : الطبيعة / المادة _السلعة_ الشيء في ذاته_ علاقات التبادل المجردة .

4_لكل هذا يصبح العقل الأداتي قادراً على شيء واحد : قبول الامر الواقع و التكيف مع ما أماماه من وقائع قائمة و احداث و جزئيات و ظروف القهر و القمع و التشيؤ و الاغتراب , وهو ما يعني تثبيت دعائم السلطة و علاقات القوة و السيادة القائمة في مجتمع معين , و كبح أية نزعات إبداعية تلقائية تتجاوز ما هو مألوف.

5_لكل ها فان العقل برغم تحرره من الأساطير إلا أنه تحول هو نفسه إلى قوة عقلانية تحاول السيطرة على الطبيعة و على الإنسان و ترشيد الحياة بشكل يؤدي الى نفية الحرية تماماً , كما يبتدّى في البنى الرشيدة الحديثة للتسلط , و لذا فالتقدم أدّى إلى عكسه و التنوير أدّى الى الشمولية و المجتمعات الحديثة التى تسعى الى الفردية همشت الفرد , و لذا فهي في طريقها إلى شكل من أشكال البربرية تتقدم بخطى حثيثة ((نحو الجحيم )) , و ما جرى في معسكرات الإبادة النازية ما هو إلا جزء عضوي من هذه المسيرة الشيطانية .

و قد رصد بورجين هابرماس , أخر ممثلي مدرسة فرانكفورت , ظاهرة العقل الأداتي و ترةيض الإنسان في المجتمعات الحديثة و سماها استعمار الحياة , أي عالم الموجود المتعين المعاش الذي توجد فيه الذات و تتفاعل معه و تستمد وجودها منه , فالترشيد الأداتي و الحوسلة المتزايدة لمجالات متنامية في الحياة الإجتماعية , من قبل الأنظمة و المؤسسات الاقتصادية و السياسية و الإدارية , يؤدي الى استعباد الإنسان , و إلى تقليص عالم الحياة و هيمنة عالم الأداة , و استعباد كثير من جوانب حياته الثرية و إمكانيته الكامنة المتنوعة.

و في مقابل العقل الأداتي يضع مفكرو مدرسة فرانكفورت العقل النقدي و العبارة ترجمة للمصطلح الإنجليزي (critical reason ) و العقل النقدي : هو المفهوم الأساسي في كتابات مفكري مدرسة فرانكفورت (النظرية النقدية) و يقال له أيضاً : العقل الكلي أو العقل الموضوعي في مقابل العقل الأداتي أو العقل الجزئي أو العقل الذاتي , و كلمة نقدي هنا مبهمة نوعاً ما , و تعود الى مفهوم كانط في النقد , فكانط كان يرى عمله باعتباره جزءًا من المشروع التنويري الغربي الذي رفض جميع الحجج التقليدية القائمة و أخضع كل شيء للنقد , و لكنه لم يتوقف عند هذا الحد و غنما خذ خطوة للإمام , و أخضع العقل للعملية النقدية ذاتها , أي أن كانط أخضع أداة الاستنارة الكبرى للنقد و بيّن حدودها الضيقة , متجاوزاً بذلك عقلانية عصر الاستنارة , أي أن هناك عقلانيتين: عقلانية مباشرة و سطحية , و عقلانية أكثر عمقاً و هذا هو الذي ترجم نفسه إلى عقلانية العقل الأداتي , و عقلانية العقل النقدي .

الواضحة
03-07-2014, 11:54 AM
الان فقط وبعد فترة ليست بالقليلة من البحث عن الكتاب اجد هذا الموضوع
لا املك الا دعوة خالصة في ساعة الجمعة ان يرزقكم الله الخير كله أوله وآخره وعاجله وآجله ويكفيكم الشر كله اول وآخره وعاجله وآجله

عمار سليمان
03-10-2014, 10:23 AM
الان فقط وبعد فترة ليست بالقليلة من البحث عن الكتاب اجد هذا الموضوع
لا املك الا دعوة خالصة في ساعة الجمعة ان يرزقكم الله الخير كله أوله وآخره وعاجله وآجله ويكفيكم الشر كله اول وآخره وعاجله وآجله

جزاكم الله خيراً و نفع بكم أختنا .

عمار سليمان
03-10-2014, 10:36 AM
و يتسم العقل النقدي بما يلي :

1_ لا ينظر العقل النقدي إلى الإنسان باعتياره جزءاً من كل أكبر منه يعيش داخل أشكال إجتماعية ثابتة معطاة , مُستوعَباً تماماً فيها و في تقسيم العمل القائم , و إنما أعتباره كياناً مستقلاً مبدعاً لكل ما حوله من الأشكال التاريخية و الاجتماعية .

2_ العقل النقدي يدرك العالم , الطبيعة و الإنسان , لا كما تدركه العلوم الطبيعية باعتباره مُعطى ثابتاً و وضعاً قائماً و سطحاً صلباً , و إنما يدركه باعتباره وضعاً قائماً و إمكانية كامنة .

3_العقل النقدي لا يقنع بإدراك الجزئيات المباشرة , فهو قادر على إدراك الحقيقة الكلية و الغاية من الوجود الإنساني .

4_ العقل النقدي قادر على التعرف على الإنسان و دوافعه و إمكانيته و الغرض من وجوده .

5_ العقل النقدي لكل ما سبق , قادر على تجاوز الذات الضيقة و الإجراءات و التفاصيل المباشرة و الحاضر و الأمر الواقع , و لذا يمكن تسمية العقل النقدي بـ العقل المتجاوز , و لذا فهو لا يذعن لما هو قائم و يتقبله , و إنما يمكنه القيام بجهد نقدي تجاه الأفكار و الممارسات و العلاقات السائدة و البحث في جذور الأشياء و أصولها و في المصالح الكامنة وراءها و المعارف المرتبطة بهذه المصالح , و هذا هو الجانب التفكيكي في العقل النقدي .

6_ الحقيقة الكلية التي يدركها العقل النقدي و الإمكانيات الكامنة التي ليست أموراً مجردة متجاوزة للإنسان , الفكرة الهيجلية الملطقة و إنما كامنة في الإنسان ذاته , و العقل النقدي قادر على رؤيتها في كمونها هذا ؛ أي أن الإنسان يحل على الفكرة المطلقة .

Eslam Ramadan
10-24-2014, 04:41 AM
7-لكل هذا ،فالحقيقة لا توجد في الواقع بذاته وإنما تقع بين الواقع الملموس كما يحدده المجتمع من جهة ، والخبرة الذاتية من جهة اخرى . ولذا فالوضع الأمثل هو وضع التوازن بين الذات والموضوع ، وهذا ما يقدر علي إنجازه العقل النقدي وما يفشل فيه االعقل الأداتي .

8-التاريخ هو عملية كاملة تتحقق من خلالها الذاتية الإنسانية ، أي إن التاريخ هو الذي يُرد إلى الإنسان ، خالق التاريخ ، وليس الإنسان هو الذي يرُد إلي التاريخ . ولذا ، فإن المجتمع في كل لحظة هو تجل فريد للإنسان ، وتحقق الإمكانية الإنسانية في التاريخ هو الهدف االإنساني .
9- يمكن إنجاز عملية انعتاق الإنسان من خلال التنظيم الرشيد للمجتمع المبني على ادراك الإمكانية الإنسانية من خلال الترابط الحر بين افراد ، عند كل منهم نفس الإمكانية لتنمية نفسه بنفس الدرجة وبذا يمتنع الاستغلال .

10-يمكن للعقل النقدي أن يساهم في هذه العملية من خلال الجهد التفكيكي الذي اشرنا إليه . ويمكنه ايضاً القيام بجهد تركيبي إبداعي ، فهو قادر على التمييز بين ما هو جوهري وبين ما هو عرضي ، وعلى صياغة نموذج ضدي لا انطلاقاً مما هو معطي وإنما مما هو متصور وممكن في آن واحد ، ويمكن علي اساسه تغيير الواقع ، أي أن العقل النقدي يطرح أمام الإنسان إمكانية تجاوز ما هو قائم دائما ً إنطلاقاً من إدراكه لما هو ممكن داخله ، إي إنه يفتح باب الخلاص والتجاوز أمام الإنسان ، وهو عكس التكيف والإذعان للأمر الواقع على طريقة العقل الأداتي.

وبرغم أن مفكري مدرسة فرانكفورت لم يصرحوا بهذا ، فيمكن القول بأن الحقيقة الكلية التي يتحدثون عنها هي حقيقة ثابتة ، وأن الغاية الإنسانية التي يتحدثون عنها هي غاية نهائية ، فكأنهم يعارضون ما هو ثابت ونهائي وكامن ، ويضعونه في مقابل ماهو متغير وآلي وظاهر . ولذا برغم حديثهم الدائم عن المادية والتاريخ ، فهم أكثر تركيباً من ذلك . فالكل الأجتماعي الذي يتحدذون عنه والإمكانية الإنسانية الكامنة التي يتعرفون عليها والكل الإنساني الذي لا يمكن فهمه إلا من منظور الغائية الإنسانية الكامنة فيه، هذه كلها ليست مفاهيم علمية مادية وإنما هي مفاهيم فلسفية متجاوزة لعالم الطبيعة / المادة . لكل هذا ، يُطلق علي مدرسة فرانكفورت اصطلاح إنسانية (هيومانية ) ميتافيزيقية ، أي إن مقولة الإنسان تصبح مقولة متجاوزة لقوانين الطبيعة /المادة .وانطلاقاً من هذا ، فإن مفكري مدرسة فرانكفورت يذهبون إلي أن آلية الخلاص ليست الطبقة العاملة ، وإنما المثقفون القادرون على التعرف على الأمكانيات الكامنة في الإنسان وعلى رؤية الماضي والحاضر والمستقبل ، ثم يضيفون إلي المثقفين (( العناصر تطوراً في الطبقة العاملة)) أي أكثر العناصر اقتراباً من المثقفين .

ويظهر التحليل الفلسفي في مقابل التحليل العلمي المادي في رؤيتهم لليبرالية وعلاقتها بالفاشية . فالليبرالية ، ابنة عصر الإستنارة ، تدور حول المصلحة الآنية والعقل الذاتي الأداتي ، ويتم التناسق في المجتمع من خلال اليد الخفية التي لا يتحكم فيها احد ، والتي تتجلي بشكل متبلور في السوق وآليات العرض والطلب والبيع والشراء، أي إن ثمة غياباً كاملاً لأي إدراك للإمكانيات الإنسانية الكامنة وللغائية الإنسانية . ولذا ، فإن العلوم الطبيعية والحسابات الكمية الصارمة تسيطر دون اعتبار لما هو إنساني . وحينما يدخل المجتمع بالطريقة نفسها دون اي اعتبار لأية غائية إنسانية ، ويسيطر العقل الأداتي تماماً . فآليات السوق ليست هي السبب في تحول الليبرالية إلي فاشية ، فالسبب الحقيقي هو هيمنة العلوم الطبيعية والمنطق الكمي . وبهذا المعني ، فإن الفاشية كامنة في الليبرالية وكلاهما كامن في فكر حركة الإستنارة .

Eslam Ramadan
12-22-2014, 10:30 AM
الفصل الرابع
المادية في التاريخ

بعد ان تناولنا بعض معالم الفلسفة المادية وفشلها في تفسير ظاهرة الإنسان باعتباره ظاهرة مركبة ، فلنحاول ان نري ترجمة ذلك في التاريخ . ونحن نذهب إلي ان الرؤية المادية تترجم نفسها إلي الداروينية الأجتماعية ، اكثر الفلسفات مادية ، وإلي ما نسمية العلمانية الشاملة ، والرؤية العلمانية الإمبريالية .

الداروينية الإجتماعية

الداروينية ترجمة لكلمة داروينيزم Darwinism الإنجليزية ، ويقال لها ايضاً : الداروينية الإجتماعية . وهي كلمة منسوبة إلي تشارلز داروين (1731-1820 م ). وهي فلسفات علمانية شاملة ، واحدية عقلانية مادية كمونية تنكر أية مرجعية غير مادية ، وتستبعد الخالق من المنظومة المعرفية والأخلاقية ، وترد العالم بأسره إلي مبدأ مادي واحد كامن في المادة وتدور في نطاق الصورة المجازية العضوية والآلية للكون . والآلية الكبري للحركة هي الصراع والتقدم اللانهائي وهو صفة من صفات الوجود الإنساني . وقد حققت الداروينية الإجتماعية ذيوعاً في اواخر القرن التاسع عشر ، وهي الفترة التي اتسع فيها التشكيل الإمبريالي الغربي ليقتسم العالم بأسره. ويمكن القول بأن الداروينية هي النموذج المعرفي الكامن وراء معظم الفلسفات العلمانية الشاملة ، إن لم يكن كلها .

ويري دعاة الداروينية الاجتماعية ان القوانين التي تسري علي عالم الطبيعة والغاية هي ذاتها التي تسري علي الظواهر الإنسانية ، التاريخية والاجتماعية . وهم يذهبون إلي ان تشارلز داروين قد وصف هذه القوانين في كتابيه الكبيرين : حول (اصل الأنواع) من خلال الأنتخاب الطبيعي و (بقاء الأجناس) الملائمة في عملية الصراع من اجل الخياة . وقد ذهب داروين إلي ان الكون بأسره سلسلة متواصله في حالة حركة من اسفل إلي اعلي وان الإنسان إن هو إلا إجدي هذه الحلقات ، قد يكون ارقاها ولكنه ليس آخرها . ويري داروين ان تقدم الأتواع البيولوجية الحية يعتمد علي الصراع من اجل البقاء الذي ينتصر فيه الأصلح إن عالم داروين عالم مستمر ومغلق لا ثغرات فيه ، ولا فراغات ، ولا مسافات فكل حلقة تؤدي إلي التي تليها تماماً كما هو الحال مع عالم اسبينوزا ونيوتن حيث تحرك كل عجلة العجلة التي بجوارها وبالفعل ، وصف احدهم داروين بأنه نيوتن العلوم البيولوجية . وهكذا تؤدي اليرقة إلي القرد ، والقرد إلي الإنسان بطريقة آلية تماماً كما تتحرك الأجسام تحت تأثير قانون الجاذبية ، وكما تتحول الأفكار الجزئية إلي افكار آلية بطريقة آلية في منظومة لوك .

وهذا هو تصور داروين أو فرضيته . ولكنه كان في واقع الأمر عاجزاً تماماً من الناحية العلمية عن إثبات كثير من فرضياته . ولذا فهناك حديث عن الحلقة المفقودة ، وهي تعني وجود مسافة بين القرود والإنسان ، ولذا فقد تحدثوا عن الطفرة بمعني سد الثغرة في الزمان من دون سبب واضح ، وتم فرض الاستمرارية والواحدية دون وجود شواهد مادية علمية . ومع هذا ذهب دعاة الداروينية الاجتماعية إلي ان فرضية داروين نظرية وحقيقة علمية ، ثم نقلوا هذه الفرضية من عالم الطبيعة إلي عالم الإنسان، وقرروا أن العلاقة بين الكائنات الحية في الطبيعة لا تختلف عن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمعات الإنسانية ، ولا عن العلاقات بين المجتمعات والدول . وعلي هذا، تم استخدام النموذج الدارويني لا لتفسير الطبيعة / المادة وحسب ، وإنما لتفسير حياة الإنسان الفرد في المجتمعات ، وفي تفسير العلاقات بين الدول والمجتمعات علي المستوي الدولي.

وقد وظفت الداروينية الاجتماعية في تبرير التفاوت بين الطبقات داخل المجتمع الواحد وفي الدفاع عن حق الدولة العلمانية المطلقة وفي تبرير المشروع الإمبريالي الغربي علي صعيد العالم بأسره . فالفقراء في المجتمعات الغربية وشعوب آسيا وإفريقية (والضعفاء علي وجه العموم ) هم الذين اثبتوا ان مقدرتهم علي البقاء ليست مرتفعة ، ولذا فهم يستحقون الفناء أو علي الأقل الخضوع للأثرياء ولشعوب اوروبا الأقوي والأصلح .

ويمكن تلخيص الأطروحات الأساسية في الداروينية الاجتماعية علي النحو التالي :

1- كل الأنواع العضوية ظهرت من خلال عملية من التطور ، وهي عملية حتمية شاملة تشمل كل الكائنات ، وضمن ذلك الإنسان ، وكل المجتمعات في المراحل التاريخية كافة .

2- العالم كله في حالة تطور دائم ، وهذا التطور يتبع نمطاً واضحاً متكرراً ، برغم ان التطور قد يكون بطيئاً وغير ملحوظ احياناً ، وقد يأخذ شكل طفرة فجائية واضحة احياناً اخري .

3- تتم عملية التطور من خلال صراع دائم بين الكائنات والأنواع . فالصراع دموي حتمي ، وهو صراع جماعي لا فردي .

4- السبب الذي يؤدي إلي تغير الأنواع هو الأختيار الطبيعي الذي يؤثر في جماعات الكائنات العضوية ويترك عليها آثاراً مختلفة .

5- الكائن أو النوع الذي ينتصر علي الكائنات والأنواع الأخري ، ويحقق البقاء المادي لنفسه ، يثبت بالتالي أنه نوع أرقي من الأنواع الأخري إذ حقق البقاء علي حسابها ، فبقي هو بينما كان مصيرها الفناء .

6- تحقق الكائنات البقاء إما من خلال التكيف البرجماتي مع الواقع ، فتتلون بألوانه وتخضع لقوانينه ، أو تحقق البقاء من خلال القوة وتأكيد الإرادة النيتشوية علي الواقع ، والبقاء من نصيب الأصلح القادر علي التكيف والأقوي القادر علي فرض إرادته. ومن اشكال التكيف ، الأنتقال من التجانس (البسيط ) إلي اللاتجانس (المركب) .

7- مهما كان آلية البقاء ، لا علاقة لها بأية قيم مطلقة متجاوزة ـ مثل الأمانة أو الأخلاق أو الجمال ، فالبقاء هو القيمة المحورية في المنظومة الداروينية التي تتجاوز الخير والشر والفرح والحزن .

8- النوع الذي ينتصر يورث الخصائص التي أدت إلي انتصاره –سر بقائه – إلي بقية اعضاء النوع ، بمعني أن التفوق يصبح عنصراً وراثياً .

9-هذا يعني استحالة وجود مساواة مبدئية بين الأنواع أو بين اعضاء الجنس البشري.

10-مع تزايد معدلات التطور ، يصبح هناك كائنات اكثر رقياً من الكائنات الأخري بحكم بنيتها البيولوجية ، ومن ثم يصبح للتفاوت الثقافي اساسً بيولوجياً حتمياً .

Eslam Ramadan
12-22-2014, 12:06 PM
ولعله لا توجد فلسفة اثرت في عصرنا الحديث أكثر من الفلسفة الداروينية ، كما لا توجد فلسفة بلورت الرؤية العلمانية للكون اكثر من الفلسفة الداروينية :

1- فقد رسخت الفلسفة الداروينية افكار الواحدية المادية الكونية التي تذهب إلي أن العالم إن هو إلا مادة واحدة صدر عنها كل شىء ، مادة خالية من الغرض والهدف والغاية ولا توجد داخلها مطلقات متجاوزة من أي نوع ، فالعالم طبيعة ، والطبيعة محايدة لا تعرف الخير أو الشر أو القبح أو الجمال . ولا توجد اية ثغرات في الكون إذ أن المنطق المادي حتمي شامل يشتمل علي كل شىء . ولا توجد ثنائيات في الكون إذ يُرد كل شىء إلي المادة ويفسر كل شىء بالتطور المادي . ومع هذا ، توجد الثنائيات الأجتماعية الصلبة : الأقوياء / الضعفاء – الأثرياء / الفقراء- السادة/ العبيد – القادرون علي البقاء / ضحايا الصراع .

2-الإنسان إن هو الا جزء من هذه الطبيعة وهذة المادة ، وقد صدر هو أيضاً عنهما من خلال عملية التطور ، إذ لا يوجد سوي قانون طبيعي واحد يسري علي الإنسان والأشياء ، فالوجود الإنساني نفسه يتحقق من خلال الآليات التي يتحقق من خلالها وجود كل الكائنات الأخري ، اي الصراع والقوة والتكيف . وهو وجود مؤقت ، تماماً مثل مكانته في قمة سلم التطور ، إذ إنه حتماً سيفقد مكانته هذه من خلال سلسلة التطور التي دفعت به إلي القمة . بل ويمكن القول بأن الأميبا من منظور تطوري صارم اكثر تطور من الإنسان لأنها حققت البقاء لنفسها مدة اطول من الإنسان ، والإنسان شأنه شأن الأميبا ، لا يتمتع بأية حرية ولا يحمل ابعاء أخلاقية ، فالقوانين الأخلاقية هي مجرد تطور لأشكال من السلوك الحيواني الأقل تطوراً والحرص الغريزي علي البقاء البيولوجي . وهذا يعني ان القانون الأخلاقي ، وكل القوانين ، هي قوانين مؤقتة ونسبية ، ترتبط بحلقة التطور التي افرزتها ، ولذا يتم الأحتفاظ بالقوانين ما دامت تخدم المرحلة . ومن ثم فإن الأخلاق المطلقة تقف ضد التقدم العقلاني المادي ، خصوصاً إذا كانت هذه الأخلاق اخلاق دينية تدعو إلي حماية الأضعف والأقل مقدرة الإشفاق عليه والعناية به . وهذا يعني ان كل الأمور نسبية تماماً ولا توجد اي مطلقات ، ولذا يمكن القول بأن النظرية الداروينية هي الأساس العلمي للفكر النسبي ، وإذا كان التطور يتم احياناً عن طريق الصدفة وتحدده الحوادث العارضة ، فيمكن القول بأن النظرية الداروينية هي ايضاً اساس التفكير العبثي .

3- إذا كان الأمر كذلك ، فإن افضل طريقة لتفسير سلوك الإنسان ووجوده ، لا يمكن ان يتم إلا من خلال النماذج الطبيعية المادية ، ومن هنا حتمية وحدة العلوم . وإذا كان للظاهرة تاريخ ، فهو تاريخ مادي يمكن دراسته من خلال دراسة بنية الظاهرة . وقد قام داروين نفسه بتفسير الظواهر البيولوجية من خلال دراسة تاريخها البيولوجي . وكما قال احد الباحثين : هذا يعني في واقع الأمر عدم وجود إي فارق اساسي بين مجموعة من الشباب الذين يختطفون فتاة ويقتلونها وقطيع من الذئاب تهاجم ظبياً وتلتهمه . فكلاهما تدفعه غريزة طبيعية مادية قوية . ولعل الفارق الثانوي الوحيد أن الشبان قد هاجموا عضواً من نفس نوعهم ، وهو الأمر الذي يعوق عملية البقاء وهذا هو المنطق الوحيد المقبول في أطار دارويني عقلاني مادي

4- وبرغم الواحدية الكونية التي تصدر عنها الداروينية ، وبرغم رفضها لأن تكون اية نقطة متجاوزة للمادة مصدراً للحركة ، وبرغم انها تفترض عدم وجود مخطط إلهي وراء الكون ، إلا إنها تفترض مع ذلك كله وجود غائية طبيعية كالتطور باعتباره حركة من نقطة أدني إلي نقطة اعلي ومن التجانس البسيط إلي اللاتجانس المركب ، حركة حتمية تماماً مثل التقد الحتمي الذي تفترضه معظم الإيدولوجيات العلمانية . والغائية التي يطرحها داروين غائية غير متجاوزة تأخذ شكل إيمان بأن هناك غاية كامنة في الطبيعة نفسها . لكن هذه الغائية قد تكون زيادة في التركية والتطور من البسيط إلي المركب . وقد تكون شيئاً يسمي إرادة الحياة أو القوة ، وقد يكون شكلاً من اشكال الوعي ظهر بالصدفة من خلال عملية كيماوية زادت من تركيب المادة . والمهم أن التطور ، مهما بلغ بالكائنات من ارتفاع ورقي ، فليس ثمة تجاوز إذ إن كل شىء ، وضمن ذلك الإنسان ، اصله مادي ويرد إلي المادة . وينطبق الشىء نفسه علي نظرية الأخلاق ، فالبقاء هو القيمة الوحيدة ، والصراع هو الآلية ،والأنانية وحب الذات هما مصدر الحركة ، ولذا فإن العالم هو ساحة قتال بين الذئاب من البشر ، والإنسان الذئب يفترس اخاه الإنسان ، وبين الأمم التي لابد أن تصرع بعضها بعضاً لغاية البقاء ، فهي حرب الجميع ضد الجميع . ولاتوجد قيمة مطلقة لأي شىء ، إذ إن ما يحدد القيمة هو القدرة علي الصراع والبقاء . ويمكن القول بأن النظرية الداروينية هي خليط من الصورة المجازية العضوية والصورة المجازية الآلية ، فالكون في حالة تطور عضوي مستمر ، يتبع نمطاً ثابتاً لا يتغير ، ومن ثم لا يختلف التطور العضوي عن الحركة الآلية في النمطية أو الرتابة .

مشرف 7
12-22-2014, 12:26 PM
جزاك الله خيرا جزيلا عميما - ونشكر لك هذا الجد والعزيمة والإصرار أعانكم الله

Eslam Ramadan
12-22-2014, 05:07 PM
جزاك الله خيرا جزيلا عميما - ونشكر لك هذا الجد والعزيمة والإصرار أعانكم الله
بارك الله فيك سيد مشرف 7 ..

Eslam Ramadan
12-28-2014, 07:57 AM
تبدت المنظومة الداروينية بشكل واضح في الرؤية المعرفية العلمانية الامبريالية ، من انكار لقيمة اي شىء أو أية مرجعية متجاوزة إلي تأكيد ضرورة التنافس والصراع علي حرية السوق وآلياته وعدم تدخل الدولة بحيث يهلك الضعفاء ولا يبقي سوي الأقوياء . والأمبريالية هي تدويل للرؤية الداروينية حيث اصبح العالم كله سوقاً ، مسرحاً لنشاط الإنسان الأبيض المتفوق الذي اباح لنفسه قتل الآخر ضماناً لبقائه وتأكيداً لقوته . وقد ساهمت الداروينية ايضاً في تزويد النظريات العرقية الغربية والتجارب الخاصة بتحسين الأجناس والنسل والقتل الرحيم علي اساس علمي .

وقد هيمنت النظرية التطورية ، ذات الأصل الدارويني ، علي العلوم الأجتماعية . فالأيمان بالتقدم والحتمية التاريخية جميعها اشكال من التطورية . وهناك كثير من النظريات التاريخية والأجتماعية هي تطبيقات لمبدأ التطور من التجانس البسيط إلي اللاتجانس المركب . لقد درس هربرت سبنسر التاريخ باعتباره تطوراً من المجتمع العسكري إلي المحتمع الصناعي ، ورآه دوركهايم تطوراً من التضامن الميكانيكي إلي التضامن العضوي ، ورآه ماركس تطوراً من الشيوعية البدائية إلي الشيوعية المركبة (عبر حلقات محددة المجتمع العبودي فالإقطاعي فالرأسمالي فالاشتراكي ). وقد بَين اوجست كونت أن التطور هو تطور من مجتمع يستند إلي السحر إلي مجتمع يستند إلي الدي وصولاً إلي المجتمع الحديث الذي يستند إلي العلم . والفكر العرقي الغربي هو فكر تطوري إذ يري أن الإنسان الأبيض هو آخر حلقات التطور وأعلاها ، ولذا فله حقوق معينة .

وقد تبلور الفكر التطوري العرقي في الأيدولوجيا النازية التي تبنت تماما فكرة وحدة العلوم وطبقت القوانين الطبيعية بصرامة علي الكافة ، وحاولت الاستفادة من قوانين التطور من خلال قواعد الصحة النازية (إبادة المعاقين والمتخلفين عقلياً وأعضاء الأجناس الأخري ) ومن خلال محاولات تحسين النسل من خلال التخطيط وعقد زيجات أو تنظيم علاقات إخصاب تؤدي إنجاب اطفال آريين أصحاء.

والفكر الصهيوني ، مثله مثل الفكر النازي ، هو ترجمة للرؤية الداروينية ، فالصهاينة قاموا بغزو فلسطين باسم حقوقهم اليهودية المطلقة التي تَجُبُ حقوق الآخرين ، كما انهم جاؤوا إلي فلسطين ممثلين للحضارة الأوروبية ويحملون عبء الرجل الأبيض . وهم نظراً لقوتهم العسكرية ، يملكون مقدرة اعلي علي البقاء . إي انهم جاؤوا من الغرب مسلحين بمدفعية أيدولوجية وعسكرية داروينية علمانية ثقيلة ، وقاموا بتسوية الأمور من خلال الموقع الدارويني النيتشوي فذبحوا الفلسطينيين وهدموا قراهم واستولوا علي اراضيهم ، وهي امور شرعية تماماً من منظور دارويني علماني ، بل وواجبة . ولعل تأثر معظم المفكرين الصهاينة بنيتشة امر له دلالته في هذا المقام .

Eslam Ramadan
12-28-2014, 08:49 AM
-الرؤية المعرفية العلمانية الامبريالية الشاملة

الفلسفة الداروينية تُشكل اللبنة الأساسية في الرؤية الغربية الحديثة للعالم ، وقد شكلت هذه الفلسفة المادية الإطار المعرفي لما نسمية الرؤية المعرفية العلمانية الإمبريالية . ولتوضحي ابعاد هذه الرؤية فلنبدأ بتعريف العلمانية الشاملة التي يمكن ان نسميها ايضاً العلمانية المادية أو العلمانية العدمية هي رؤية شاملة للعالم ،
عقلانية مادية ، تدور في إطار المرجعية الكامنة ، التي تري أن مركز الكون كامن فيه غير مفارق أو متجاوز له، وأن العالم بأسره مُكون أساساً من مادة واحدة ، ليست لها أية قداسة ولا تحوي أية أسرار ، وفي حالة حركة دائمة لا غاية لها ولا هدف ، ولا تكترث بالخصوصيات أو التفرد أو المطلقات أو الثوابت . هذه المادة تشكل كلا من الإنسان والطبيعة ، فهي رؤية واحدية كونية مادية .

والعلمانية الشاملة ، بهذا المعني ، ليست مجرد فصل الدين أو الكهنوت أو هذه القيمة أو تلك عن الدولة أو عما يسمي الحياة العامة ، وإنما فصل لكل القيم الدينية والأخلاقية والإنسانية المتجاوزة لقوانين الحركة والحواس عن العالم ، أي عن كل من الإنسان والطبيعة بأعتبارها فلسفة مادية محضة نافعة نسبية لا قداسة لها – توظف وتُسخَّر . والهدف من وجود الإنسان في الأرض هو زيادة معرفة قوانين الحركة والطبيعة البشرية والهيمنة عليها من خلال التقدم المستمر الذي لا ينتهي ، ومن خلال تراكم المعرفة وسد كل الثغرات وقمع الآخر إلي أن يخضع كل شىء ، الإنسان والطبيعة ، لحكم العقل وقانون الأرقام وهو قانون يستمد مشروعيته من المعارف العلمية المادية ، بحيث تحول الواقع بأسره طبيعه وبشراً إلي جزء متكامل عضوي تنتظمه شبكة المصالح الاقتصادية والعلاقات المادية ، فيصبح الواقع اشبه ما يكون بالسوق والمصنع ، كل شىء فيه محسوب ومظبوط بعد استبعاد كل الاعتبارات الغير مادية ، مثل الغيبيات والمطلقات والخصوصيات ، ذلك لأن ما بداخله غيب أو أسرار ، وكل ما هو فردي فريد لا يمكن قياسه أو التحكم فيه أو غزوه أو توظيفه أو حوسلته .

وقد تم تهميش الإله أو إلغاؤه باسم الإنسان وصالح الجنس البشري وبعد إلغاء إي مرجعية متجاوزة ، تظهر المرجعية الكامنة فيصبح مركز الكون كامناً فيه ، ويصبح الإنسان هو مركز الكون دون أي استخلاف من الإله ، وتظهر الحركة الإنسانية (الهيومانية ) . ولكن في إطار المرجعية الكامنة يُختزل الإنسان ويُرد في كليته إلي الطبيعة/ المادة ، ويصبح إنساناً طبيعياً مادياً غير قادر علي تجاوز ذاته الطبيعية المادية ولا يتجاوز الطبيعة / المادة بحيث يسري عليه ما يسري علي الظواهر الطبيعية من قوانين وحتميات ، وهذا ما يعني أن الإنسان يفقد إنسانيته المركبة وتنزع عنه القداسة تماماً والإنسان الطبيعي إنسان لا حدود ولا قيود عليه ، يقف وراء الخير والشر ، متمركز حول منفعته ولذته ، ولا راد لقضائه أو رغبته في البقاء وهو لايلتزم بأية قيم معرفية أو أخلاقية أو أبعاد نهائية فهو يتبع القانون الطبيعي ولا يلتزم بسواه ، بل ولا يمكنه تجاوز.لكل هذا اصبح الإنسان كائناً غير قادر إلا علي التمركز حول مصلحته ومنفعته ولذته ، المادية وبقائه المادي ، فمفهوم الإنسانية جمعاء مفهوم اخلاقي مطلق متجاوز لقوانين المادة ، وليس هناك ما يلزم الإنسان الطبيعي مرجعية ذاته المتمركز حولها أن يؤمن بمثل هذه المطلقات وهذه المثل العليا غير المادية ، فماذا في قوانين الطبيعة يلزمه بأن يتجاوز مصلحته الخاصة الضيقة وألا يحول الآخر إلي مادة توظف لصالحه ؟


لكل هذا ، بدلاً من مركزية الإنسان في الكون تظهر مركزية الإنسان الأبيض في الكون ، وبدلاً من الدفاع عن مصالح الجنس البشري بأسره يتم الدفاع عن مصالح الجنس الأبيض ، وبدلاً من ثنائية الإنسان والطبيعة وأسبقية الأول علي الثاني تظهر ثنائية الإنسان الأبيض في مقابل الطبيعة / المادة ، وبقية البشر الآخرين الذين يصبحون جزءاً لا يتجزأ منها ةتظهر اسبقيته وأفضليته عليهم . ويصبح هم هذا الإنسان الأبيض هو غزو الطبيعة المادية والبشرية وحوسلتها وتوظيفها لحسابه واستغلالها بكل ما أوتي من إرادة وقوة ، وهكذا تحولت الإنسانية الهيومانية الغربية إلي إمبريالية .