د. أحمد إدريس الطعان
10-21-2005, 01:26 AM
مجازفة العـقـل الأولى
لقد جازف العقل الغربي عندما اكتشف الخدعة الكنسية فحكم على كل الأديان بالنفي والإقصاء ، وأصر على أن يبحث عن إجابة للمعضلات الإنسانية الكبرى بعقله المجرد مستبعداً أي إمكانية لوجود وحيٍ صادق ، أو دينٍ حق ، فهل استطاع ذلك ؟
لقد تنقل هذا العقل – كما رأينا - بين القول بحقيقيتين إحداهما فلسفية والأخرى لاهوتية ، ثم قال بوحدة الوجود ، ثم قال بإله دون نبوة ، ثم قال بتأليه الإنسان أو تأليه الطبيعة ، ثم أنكر وجود الإله أو حَكم عليه بالموت ثم قال أخيراً : لا أدري !! وتقلب بين المادية المطلقة والروحانية المفرطة ، والحرية الكاملة والجبرية الشاملة ، والأخلاق الوضعية أو الأخلاق الدينية ثم قال أخيراً : لا أدري !!
وأصبحت السمة الأساسية التي تميز عصر اليوم في الغرب والتي يعبر عنها برتراند رسل هي الإحباط ، واليأس ، والقنوط من الوصول إلى المعرفة ( ) . وإن ثمرة العلمانية التي نجنيها في هذا العصر : اليأس الفكري المرير ، والعدمية ، واللاأدرية ، وانفصام الإنسان عن العالم ( ) ، وإننا نعيش اليوم فيما أُطلق عليه اسم عصر الشك والقلق ، والنسبية ، والسخرية من كل شيء ( ) .
ولكـن السؤال :هل كانت هذه هي مجازفة العقل الغربي الأولى على طريق العلمانية ؟
إذا تأملنا في تاريخ الفلسفة اليونانية ، فإننا نجد فصلاً مشابهاً لما حدث في أوربا في العصور الحديثة ، فقد أهمل فلاسفة اليونان دلائل الوحي، وتعاليم الأنبياء، وذهبوا يقترحون بعقولهم أجوبة لأسئلتهم. فاقترح طاليس 624 - 550 ق. م أن يكون أصل الكون هو الماء ( ).
ويَعتبر الشهرستـاني هـذا الرأي قـريبـاً من الوحي القرآني وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء ( ) ولذلك فهو ربما يقتبس من مشكاة النبوة ( ). ولكن أنكسمنيس 588 – 524 ق . م رفض هذا واعتبر أن أصل الكون ليس الماء وإنما الهواء ( ) . ثم جاء فيثاغورث 572 – 497 ق . م فرأى رأياً مخالفاً وهو أن أصل الكون ليس الماء ولا الهـواء وإنما هو العدد، وأن ما نراه موجـوداً ما هـو إلا مـركب مـن أعداد ( ). وبعده هرقليطس 535 – 475 لم يقبل شيئاً من هذه الاقتراحات فقال : إن أصل الكون هو النار ، وكل شيء يخرج من النار ويعود إليها ( ) .
أما أمبذقليس 490 – 430 ق . م فقد حاول أن يجمع بين آراء سابقيه ويضيف إليها التراب، فقال :" إن مادة الكون مُشكّلة من أربعة أصول هي: " الماء والهواء والنار والتراب وأن كل ما نراه من اختلافات بين الأشياء راجع إلى نسبة المزيج بين هذه العناصر الأربعة " ( ).
ونشير هنا إلى أن الشهرستاني ينقل عن فيثاغورث أنه التقى بسليمان عليه السلام وأخذ الحكمة من معدن النبوة ( )،وأن أمبذقليس كان في زمن النبي داوود عليه السلام مضى إليه وتلقى العلم منه ، وكذلك اختلف إلى لقمـان الحكيم عليـه السلام ، فاقتبس الحكمة منه ( ) .
والملاحـظ هنا أنه إما أن الشهرستاني مخطئ ومصادره التي ينقل عنها ليست موثوقة ، أو أن المصادر التي ينقل عنها يوسف كرم تواريخ وفيات هذين الفيلسوفين غير دقيقة لأن أمبذقليس على ما ينقل الشهرستاني يلتقي مع داوود عليه السلام ، وفيثاغورث يلتقي مع سليمان وهو متقدم على أمبذقليس ، ومع ذلك يبقى هناك تساؤل كيف يلتقي هؤلاء مع أنبياء الله [عز وجل] ثم تصدر عنهم مثل هذه الآراء الشاذة التي لا يمكن أن يُقرها الأنبياء عليهم السلام . فإما أن لقاءهم مع الأنبياء ليس حاصلاً ، أو أنه حصل ولكنهم لم يكترثوا بتعاليم النبوة ، وأطلقوا العنان لعقولهم تتخرص في سجاف الغيب .
وعلى كل حال جاء بعد أمبذقليس كل من ليوسبس وديمقريطس فأسسا المذهب المادي ، كان للأول منهما دور التأسيس ، وللثاني دور الإذاعة والنشر حتى نسب إليه ، ونُسي الأول . ذهب هذان الفيلسوفان إلى أن مادة الكون تتألف من ذرات لا تقبل التقسيم ، وهي ما سمي بـ"الجواهر الفردة "وأن هذه الذرات هي عنصر واحد متجانس، تشـكَّل منها الكون ( ).
في هذه الأثناء كان السوفسطائيون يجوبون شوارع أثينا يعلمون الناس فن الخطابة والبلاغة والجدل ، وأنه لا يمكن الجزم بشيء ، وأن الإنسان مقياس كل شيء ( ) . وحاول جورجياس وهو أحد أقطابهم أن يثبت ثلاثة أشياء : لا شيء موجود ، وإن وُجد لا يمكن أن يُعرف ، وإن عُرف فلا يمكن إيصال هذه المعرفة للآخرين ( ) .
ولكن جاء سقراط 470 ق.م فتصدى للسوفسطائيين، وجعل غاية السؤال هي المعرفة، وليس السفسطة ، وكان يقول : إن حرفته هي نفس حرفة والدته " قابلة " ، ولكن في حين كانت أمه تولد النساء ، كان هو يولد العقول ، فقد كان شغله الشاغل إثارة الأسئلة المحرجة ، وإيقاع الخصم ، وإثبات صعوبة التعاريف الدقيقة ، وكان يقول : " أنا لا أعرف إلا شيئاً واحداً ، هو أنني لا أعرف شيئاً " ( ) .
وأنجب سقراط تلميذين : أفلاطون 429 ق , م الذي أقام فلسفته على نظريته المثل ، واعتبرها مصدر المعرفة لأنها دائمة ثابتة لا تتغير ( ) ، وكل معارفنا – بنظره - ليست إلا تذكراً لما كانت تعلمه النفس عندما كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تحل بالجسم ( ). وأرسطو 384 – 322 ق ، م الذي ابتكر المنطق ( )، وقال بأن الله عز وجل هو العلة الغائية للكون ، وهو الذي يسعى إليه الكل فهو بذلك معشوق العالم ، يحركه دون أن يتحرك فهو إذن المحرك الأول . وقال بأن الله [عز وجل] فكرة ، أي صورة مجردة ، ولكنه ليس صورة لمادة ، بل هو صورة الصورة ، أو فكرة الفكرة ، فهو المفكر بنفسه وذاته وهو في سعادة أبدية وتفكير دائم في كماله وذاته ( ) .
هذا التجريد الأرسطي المفرط لم يعجب زينو 342 ق ( ) ، م مؤسس الرواقية فعاد بالفلسفة إلى ما قبل سقراط ، إلى المادية ، ونفى أي شيء غير المادة ، ونفى أي معرفة لا تأتي عن طريق الحواس، حتى الروح عنده مادة ، وحتى الباري[عز وجل] عنده مادة ، واعتبـر النار هي أصل العالم كما فعل هـرقليطس مـع إضافة بسيطة هي أنه اعتبر هـذه النار هـي الله[عز وجل] ( ).
راقت هذه المادية لأبيقور 342 ق.م ولكنه أعرض عن نار هرقليطس ، وتبنى ذرات ديمقريطس ، فوافقه على أنها أصل الوجود ، وهو لم ينف وجود آلهة ، ولكنه اعتبر هذه الآلهة متعددة كثيرة ، وتعيش في عالم مستقل عن عالم البشر ، وهي في سعادة دائمة ، ولا تتدخل في شؤون الكون أو الإنسان ( ) .
والفصل الأخير من الفلسفة اليونانية ينتهي بالشُكَّاك واللاأدرية ، والحق أننا لا نستطيع أن نزعم أن الشك كان غائباً ثم وجد ، لأن الشك مستمر ومترافق مع الفلسفة ولم ينفصل عنها لا في المرحلة اليونانية ، ولا في المرحلة الأوربية الحديثة ، ولكنه في الفصل الأخير من تلك المرحلتين يتفاقم حتى يشكل مذهباً وتياراً له زعماؤه وفلاسفته ، ولقد استمر في المرحلة اليـونانية منـذ الـقرن الثـالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني للميلاد تقريباً ( ) .
وإمام الشكاك هو بيرون أو بيرو " ت : 275 ق . م " وإليه ينسب مذهب الشك واللاأدرية ، فكل قضية عنده تحتمل السلب والإيجاب بقوة متعادلة ( ) ، وقال : " لست أدري ولست أدري أني لا أدري " ( ) ، وقال : بالوقف التام فنحن لا نستطيع أن نعرف شيئاً ( ) .
ومن تلاميذه قرينادس 214 – 128 ق .م : أنكر أن تكون هناك علامة للحقيقة ، فتشكك في العقل والحواس وقال بالاحتمال والترجيح ( ) .
وأناسيداموس : عاش في أواخر القرن الأول قبل الميلاد ، يقول بالنسبية المطلقة ، وأن ما يراه كل إنسان حقاً فهو حق بالنسبة له ، ولا يمكن معرفة الحق بذاته ( ) .
وأغريبا : عاش في القرن الأول أو الثاني للميلاد وأكد حجج أناسيداموس ونصر أدلته ، وأيد نسبيته المطلقة ( ) .
وسكستوس : عاش في القرن الثاني أو الثالث للميلاد ومن كتبه " الحجج البيرونية " وهو أيضاً نصير للشك واللاأدرية ، ويرد على أصحاب اليقين ، وقد حاول أن يفند منطق أرسطو ، ويبين أنه لا يمكن الوصول إلى المعرفة فهي ممتنعة المنال ( ) .
وهكذا نجد أن العقل الغربي ممثلاً في العقل اليوناني والأوربي قد جازف مرتين استهلك في كل منهما قرابة ستة قرون تقريباً، يبدأ بالسفسطة ثم يتقلب بين الآراء والاقتراحات المختلفة ، ثم لا يجد في النهاية إلا أن يرفع يديه ويعلن عجزه وجهله ولا أدريته ، لقد اعترفت الأغلبية الساحقة من العقول في المرحلتين بوجود إله قادر حكيم ، وكان الإلحاد دائماً حالة شاذه ، أفيعقل أن يترك الحكيم عباده هكذا في حيرة وظلمة يخبطون خبط عشواء دون أن يتداركهم برحمته وهدايته ؟ لا بل إنه عز وجل تدراكهم ولكنهم أعرضوا . والآن بعـد أن جربوا مئات السنين واعتـرفوا بعجزهم ، ألـم يأن لهذا العقـل أن يصيخ إلى الحق ، ويصغي إلى الهـدى ، ويبصر النور ؟
د.أحمد إدريس الطعان - كلية الشريعة - جامعة دمشق
ahmad_altan@maktoob.com
لقد جازف العقل الغربي عندما اكتشف الخدعة الكنسية فحكم على كل الأديان بالنفي والإقصاء ، وأصر على أن يبحث عن إجابة للمعضلات الإنسانية الكبرى بعقله المجرد مستبعداً أي إمكانية لوجود وحيٍ صادق ، أو دينٍ حق ، فهل استطاع ذلك ؟
لقد تنقل هذا العقل – كما رأينا - بين القول بحقيقيتين إحداهما فلسفية والأخرى لاهوتية ، ثم قال بوحدة الوجود ، ثم قال بإله دون نبوة ، ثم قال بتأليه الإنسان أو تأليه الطبيعة ، ثم أنكر وجود الإله أو حَكم عليه بالموت ثم قال أخيراً : لا أدري !! وتقلب بين المادية المطلقة والروحانية المفرطة ، والحرية الكاملة والجبرية الشاملة ، والأخلاق الوضعية أو الأخلاق الدينية ثم قال أخيراً : لا أدري !!
وأصبحت السمة الأساسية التي تميز عصر اليوم في الغرب والتي يعبر عنها برتراند رسل هي الإحباط ، واليأس ، والقنوط من الوصول إلى المعرفة ( ) . وإن ثمرة العلمانية التي نجنيها في هذا العصر : اليأس الفكري المرير ، والعدمية ، واللاأدرية ، وانفصام الإنسان عن العالم ( ) ، وإننا نعيش اليوم فيما أُطلق عليه اسم عصر الشك والقلق ، والنسبية ، والسخرية من كل شيء ( ) .
ولكـن السؤال :هل كانت هذه هي مجازفة العقل الغربي الأولى على طريق العلمانية ؟
إذا تأملنا في تاريخ الفلسفة اليونانية ، فإننا نجد فصلاً مشابهاً لما حدث في أوربا في العصور الحديثة ، فقد أهمل فلاسفة اليونان دلائل الوحي، وتعاليم الأنبياء، وذهبوا يقترحون بعقولهم أجوبة لأسئلتهم. فاقترح طاليس 624 - 550 ق. م أن يكون أصل الكون هو الماء ( ).
ويَعتبر الشهرستـاني هـذا الرأي قـريبـاً من الوحي القرآني وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاء ( ) ولذلك فهو ربما يقتبس من مشكاة النبوة ( ). ولكن أنكسمنيس 588 – 524 ق . م رفض هذا واعتبر أن أصل الكون ليس الماء وإنما الهواء ( ) . ثم جاء فيثاغورث 572 – 497 ق . م فرأى رأياً مخالفاً وهو أن أصل الكون ليس الماء ولا الهـواء وإنما هو العدد، وأن ما نراه موجـوداً ما هـو إلا مـركب مـن أعداد ( ). وبعده هرقليطس 535 – 475 لم يقبل شيئاً من هذه الاقتراحات فقال : إن أصل الكون هو النار ، وكل شيء يخرج من النار ويعود إليها ( ) .
أما أمبذقليس 490 – 430 ق . م فقد حاول أن يجمع بين آراء سابقيه ويضيف إليها التراب، فقال :" إن مادة الكون مُشكّلة من أربعة أصول هي: " الماء والهواء والنار والتراب وأن كل ما نراه من اختلافات بين الأشياء راجع إلى نسبة المزيج بين هذه العناصر الأربعة " ( ).
ونشير هنا إلى أن الشهرستاني ينقل عن فيثاغورث أنه التقى بسليمان عليه السلام وأخذ الحكمة من معدن النبوة ( )،وأن أمبذقليس كان في زمن النبي داوود عليه السلام مضى إليه وتلقى العلم منه ، وكذلك اختلف إلى لقمـان الحكيم عليـه السلام ، فاقتبس الحكمة منه ( ) .
والملاحـظ هنا أنه إما أن الشهرستاني مخطئ ومصادره التي ينقل عنها ليست موثوقة ، أو أن المصادر التي ينقل عنها يوسف كرم تواريخ وفيات هذين الفيلسوفين غير دقيقة لأن أمبذقليس على ما ينقل الشهرستاني يلتقي مع داوود عليه السلام ، وفيثاغورث يلتقي مع سليمان وهو متقدم على أمبذقليس ، ومع ذلك يبقى هناك تساؤل كيف يلتقي هؤلاء مع أنبياء الله [عز وجل] ثم تصدر عنهم مثل هذه الآراء الشاذة التي لا يمكن أن يُقرها الأنبياء عليهم السلام . فإما أن لقاءهم مع الأنبياء ليس حاصلاً ، أو أنه حصل ولكنهم لم يكترثوا بتعاليم النبوة ، وأطلقوا العنان لعقولهم تتخرص في سجاف الغيب .
وعلى كل حال جاء بعد أمبذقليس كل من ليوسبس وديمقريطس فأسسا المذهب المادي ، كان للأول منهما دور التأسيس ، وللثاني دور الإذاعة والنشر حتى نسب إليه ، ونُسي الأول . ذهب هذان الفيلسوفان إلى أن مادة الكون تتألف من ذرات لا تقبل التقسيم ، وهي ما سمي بـ"الجواهر الفردة "وأن هذه الذرات هي عنصر واحد متجانس، تشـكَّل منها الكون ( ).
في هذه الأثناء كان السوفسطائيون يجوبون شوارع أثينا يعلمون الناس فن الخطابة والبلاغة والجدل ، وأنه لا يمكن الجزم بشيء ، وأن الإنسان مقياس كل شيء ( ) . وحاول جورجياس وهو أحد أقطابهم أن يثبت ثلاثة أشياء : لا شيء موجود ، وإن وُجد لا يمكن أن يُعرف ، وإن عُرف فلا يمكن إيصال هذه المعرفة للآخرين ( ) .
ولكن جاء سقراط 470 ق.م فتصدى للسوفسطائيين، وجعل غاية السؤال هي المعرفة، وليس السفسطة ، وكان يقول : إن حرفته هي نفس حرفة والدته " قابلة " ، ولكن في حين كانت أمه تولد النساء ، كان هو يولد العقول ، فقد كان شغله الشاغل إثارة الأسئلة المحرجة ، وإيقاع الخصم ، وإثبات صعوبة التعاريف الدقيقة ، وكان يقول : " أنا لا أعرف إلا شيئاً واحداً ، هو أنني لا أعرف شيئاً " ( ) .
وأنجب سقراط تلميذين : أفلاطون 429 ق , م الذي أقام فلسفته على نظريته المثل ، واعتبرها مصدر المعرفة لأنها دائمة ثابتة لا تتغير ( ) ، وكل معارفنا – بنظره - ليست إلا تذكراً لما كانت تعلمه النفس عندما كانت تعيش في عالم المثل قبل أن تحل بالجسم ( ). وأرسطو 384 – 322 ق ، م الذي ابتكر المنطق ( )، وقال بأن الله عز وجل هو العلة الغائية للكون ، وهو الذي يسعى إليه الكل فهو بذلك معشوق العالم ، يحركه دون أن يتحرك فهو إذن المحرك الأول . وقال بأن الله [عز وجل] فكرة ، أي صورة مجردة ، ولكنه ليس صورة لمادة ، بل هو صورة الصورة ، أو فكرة الفكرة ، فهو المفكر بنفسه وذاته وهو في سعادة أبدية وتفكير دائم في كماله وذاته ( ) .
هذا التجريد الأرسطي المفرط لم يعجب زينو 342 ق ( ) ، م مؤسس الرواقية فعاد بالفلسفة إلى ما قبل سقراط ، إلى المادية ، ونفى أي شيء غير المادة ، ونفى أي معرفة لا تأتي عن طريق الحواس، حتى الروح عنده مادة ، وحتى الباري[عز وجل] عنده مادة ، واعتبـر النار هي أصل العالم كما فعل هـرقليطس مـع إضافة بسيطة هي أنه اعتبر هـذه النار هـي الله[عز وجل] ( ).
راقت هذه المادية لأبيقور 342 ق.م ولكنه أعرض عن نار هرقليطس ، وتبنى ذرات ديمقريطس ، فوافقه على أنها أصل الوجود ، وهو لم ينف وجود آلهة ، ولكنه اعتبر هذه الآلهة متعددة كثيرة ، وتعيش في عالم مستقل عن عالم البشر ، وهي في سعادة دائمة ، ولا تتدخل في شؤون الكون أو الإنسان ( ) .
والفصل الأخير من الفلسفة اليونانية ينتهي بالشُكَّاك واللاأدرية ، والحق أننا لا نستطيع أن نزعم أن الشك كان غائباً ثم وجد ، لأن الشك مستمر ومترافق مع الفلسفة ولم ينفصل عنها لا في المرحلة اليونانية ، ولا في المرحلة الأوربية الحديثة ، ولكنه في الفصل الأخير من تلك المرحلتين يتفاقم حتى يشكل مذهباً وتياراً له زعماؤه وفلاسفته ، ولقد استمر في المرحلة اليـونانية منـذ الـقرن الثـالث قبل الميلاد إلى نهاية القرن الثاني للميلاد تقريباً ( ) .
وإمام الشكاك هو بيرون أو بيرو " ت : 275 ق . م " وإليه ينسب مذهب الشك واللاأدرية ، فكل قضية عنده تحتمل السلب والإيجاب بقوة متعادلة ( ) ، وقال : " لست أدري ولست أدري أني لا أدري " ( ) ، وقال : بالوقف التام فنحن لا نستطيع أن نعرف شيئاً ( ) .
ومن تلاميذه قرينادس 214 – 128 ق .م : أنكر أن تكون هناك علامة للحقيقة ، فتشكك في العقل والحواس وقال بالاحتمال والترجيح ( ) .
وأناسيداموس : عاش في أواخر القرن الأول قبل الميلاد ، يقول بالنسبية المطلقة ، وأن ما يراه كل إنسان حقاً فهو حق بالنسبة له ، ولا يمكن معرفة الحق بذاته ( ) .
وأغريبا : عاش في القرن الأول أو الثاني للميلاد وأكد حجج أناسيداموس ونصر أدلته ، وأيد نسبيته المطلقة ( ) .
وسكستوس : عاش في القرن الثاني أو الثالث للميلاد ومن كتبه " الحجج البيرونية " وهو أيضاً نصير للشك واللاأدرية ، ويرد على أصحاب اليقين ، وقد حاول أن يفند منطق أرسطو ، ويبين أنه لا يمكن الوصول إلى المعرفة فهي ممتنعة المنال ( ) .
وهكذا نجد أن العقل الغربي ممثلاً في العقل اليوناني والأوربي قد جازف مرتين استهلك في كل منهما قرابة ستة قرون تقريباً، يبدأ بالسفسطة ثم يتقلب بين الآراء والاقتراحات المختلفة ، ثم لا يجد في النهاية إلا أن يرفع يديه ويعلن عجزه وجهله ولا أدريته ، لقد اعترفت الأغلبية الساحقة من العقول في المرحلتين بوجود إله قادر حكيم ، وكان الإلحاد دائماً حالة شاذه ، أفيعقل أن يترك الحكيم عباده هكذا في حيرة وظلمة يخبطون خبط عشواء دون أن يتداركهم برحمته وهدايته ؟ لا بل إنه عز وجل تدراكهم ولكنهم أعرضوا . والآن بعـد أن جربوا مئات السنين واعتـرفوا بعجزهم ، ألـم يأن لهذا العقـل أن يصيخ إلى الحق ، ويصغي إلى الهـدى ، ويبصر النور ؟
د.أحمد إدريس الطعان - كلية الشريعة - جامعة دمشق
ahmad_altan@maktoob.com