مشاهدة النسخة كاملة : ركبَ الموجة ..! ركبته الموجة ..!
حسام الدين حامد
07-30-2011, 02:38 AM
ركبَ الموجة ..! ركبته الموجة ..!
"لم تكن دعوة الفلاسفة أبدًا إلى التمرد، حيث إن غرضهم لم يكن
يومًا متمثلًا في طرح النظام الاجتماعي، وإنما كان مرماهم إجمالًا
إلى حماية الدولة من الكوارث من خلال التحديث والإصلاح"(*)
أمست فقرةً ثابتة ينتظرها المشاهدون مطمئنين، في أيّ لقاءٍ يجمع مذيعًا جريئًا بأحد الإسلاميين، يسأله عن شعوره أثناء ركوب موجة الثورة المصرية، ولا يتغير المشهد عن إسلاميٍّ يتوسط قفص الاتهام، محاولًا أن يستجلب رفقاء يؤنسونه حبسه، يشركونه التهمة ويخففون بؤسه، دون أن يرى حقيقةَ نفسه .. بريئًا يتهمه مشبوهون، ويكتمل المشهد بمذيعٍ يستذئب على ضيفه، يُحكم عليه الخناق مبلغ استطاعته، من غير أن يحدثّنا عن تعريف ركوب الموجة، وأركان الركوب وشروطه، وحيثيات التلبس بالفعل، ليتمكن المشاهد من ممارسة الحكم بموضوعيةٍ ما، بدلًا من أن تظل التهمة بيد الآلة الإعلامية وحدها، ترمي بها من تشاء، وتمسكها عمّن تشاء، وهي تحسب -كالأعرابي حال جهله- أن مدحها زين، وأن ذمها شين ... فتعالوا نتطفل على المشهد!
يُقال ركب الرجل الموجة، إن كان منكرًا على من استشرف قدومها قبل بدوِّها، وسعى في تشكيك الناس في نفع اللحاق بها إذ أقدمت، وما أعدّ نفسه لامتطائها أوان ظهورها، حتى إذا أتت عليه وأحس دفعها في خصره، ركبها سابحًا مع ركبها ... هذا -فيما يبدو- هو تعريف ركوب الموجة عرفًا واصطلاحًا، استقراءً للأجزاء الشتيتة المبعثرة على الألسنة هنا وهناك .. والمقصود بالموجة هنا هو الثورة المصرية، والقصد من ركوبها يتراوح بين ادعاء المشاركة فيها إلى ادعاء الزعامة لها .. فهل لنا الآن بالبحث فيمن ركب الموجة؟! تعالوا نجرّب!
هل يمكننا أن نستعين في حيثيات الاتهام بركوب الموجة بعنصر الزمن، ومركب السياسة، وجزئيات الحوادث، ثم ننظر فنرى من الذي ركب الموجة حقًّا؟! ومن الذي أغرقته الموجة؟! هل يمكننا؟! نعم .. فما عليّ إن طوّفت والقارئ الكريم ساعةً أو بعض ساعة، في أمرٍ صار من لوازم استقبال أيّ إسلاميٍّ هذه الأيام، سواءً أكان مرشحًا للرئاسة أو عضوًا في حزب، أو حتى من لم يكن منه إلا التلبس بسمت السنة الظاهر، فما علينا بأسٌ –إن شاء الله- إن طال بنا التطواف قليلًا، في سبيل فك هذه العقد التي ينفثها الإعلام الموجّه في مصرنا بالليل والنهار!
نتجه عكس اتجاه عقارب الساعة، ونسبح ضد تيّار الأيام إلى ما قبل الثورة، كردِّ فعلٍ لاتهام الإسلاميين بركوب الثورة من خلال سلوكهم قبلها، باعتزالهم للسياسة أو تحريمهم الخروج على الحاكم، ومن خلال ذلك تحكم "محكمة الثورة" على الإسلاميين بركوب الموجة .. ولنهدأ قليلًا! ولنفحص تلك الدعوى فحصًا دقيقًا! فهاهنا موضع خفة اليد، وسحر العين، وقلب الحقائق!
ولنبدأ الحديث عن دعوى اعتزال الإسلاميين للسياسة قبل الثورة، برأي هنتجتون في دور الأحزاب في الاستقرار السياسي إذ يقول "إن تقليل احتمال عدم الاستقرار السياسي الذي ينتج عن اتساع الوعي السياسي والانغماس السياسي، يستلزم خلق مؤسساتٍ سياسيةٍ حديثة– أي أحزابٍ سياسية- في بداية عملية التحديث"، وبقول الدكتور أسامة الغزالي حرب إن "أحزاب التمثيل تستمد شرعيتها من النظام ذاته"(1).
قد علم أهل السياسة أن العمل السياسي العسير، ليس في البحث عن رغبات الناس وإنشاء أحزابٍ لتمثيلها، وإنما الجهد الحقيقي في العمل التعبوي، من خلال تعبئة الناس نحو حزمةٍ من الأفكار، بشرحها وتبسيطها والترويج لها وبيان مزاياها، فالعمل لحزبٍ تعبويٍّ أشد تطلبًا من العمل لعشرةٍ من أحزاب التمثيل، ويتضمن هذا العمل التعبوي إضافةً للتوعية السياسية، فطمعًا من المواطنين في المشاركة السياسية، فتهديدًا لاستقرار النظام الحاكم ما لم تنخرط هذه القوى السياسية الواعدة في إطارٍ حزبيٍّ يرضاه النظام الحاكم كما سبق من قول هنتجتون.
جمعني– بعد الثورة -لقاءٌ بمرشح الرئاسة الأستاذ حمدين صباحي، وذلك في أحد المؤتمرات الطبية لا أدري أدُعيَ إليها أم تصادف وجوده، فبدأ متكلّمًا عن مجانية التعليم بكلامٍ طالما سمعناه، فاعترض الجالسون بأنّ المجانية قد تؤثر على الكفاءة، فأضاف أن المجانية ستكون في إطار ما يسمح بالكفاءة المطلوبة، فاعترض الجالسون بأنّ التعليم ليس غاية الدولة، وإنّما تأهيل الأفراد بحسب غاية الدولة، فإن التعليم المجاني اللازم لتأهيل أهل الحرف ليس كالتعليم المجاني اللازم لأهل الطب مثلًا، فنظرة رئيس الدولة لأفراد شعبه ليست كنظرة رب الأسرة لأبنائه، فما كان من صباحي إلا أن أضاف إلى مجانية التعليم تأطيراتٍ أخرى تناسب المقام... وهكذا هي أحزاب التمثيل... يدخل الرجل في ألف رجلٍ بوجه، فيخرج بألف وجهٍ، ويحدّثهم بلسان، وينصرف عنهم بألف لسان، وهذا أمرٌ سهلٌ يحسنه –وقد يحبه- محترفو السياسة!
في حين أنك تجد الاستفتاء على التعديلات الدستورية بالرفض أو القبول، قد استدعى عملًا تعبويًّا يقتضي سعيًا سياسيًّا في سبيل حشد الناس في اتجاهٍ معين، فرأينا حينها كيف ارتقت المشاركة السياسية لدى المواطنين، وكيف صار الرجل -ليس له في السياسة من قبل- داعيةً لقبول التعديلات، وصاحبه لم يشارك بحزبٍ يومًا يدعو لرفض التعديلات .. هكذا أحزاب التعبئة، يدخل الرجل في ألف رجل، فيصبحون على قلب رجلٍ واحد، ويحدثهم بلسانٍ، فينصرف عنه ألف داعية!
وقد علمنا من حديث الزمان، أن أقصى درجات الخصومة السياسية، أو آخر أوراق الضغط السياسي، فضلًا عن اليأس من قدرة النظام على الإصلاح، تتمثل في اعتزال العملية السياسية التي يديرها النظام الحاكم، هكذا اعتزلت جبهة العمل الإسلامي الانتخابات الأردنية في نوفمبر 2010م، ومثلها كبرى أحزاب المعارضة السودانية إذ اعتزلت انتخابات 2008م، ومثلها التيارات الأمازيغية إذ اعتزلت الانتخابات المغربية مرارًا، وقد راجت الدعوة لمقاطعة الانتخابات المصرية التي سبقت الثورة في نوفمبر2011م بين بعض القوى السياسية، إعلانًا لرفض سياسة النظام، وتشكيكًا في ضمانات النزاهة والشفافية في إدارة العملية الانتخابية.
ونحن نرى في أيامنا هذه أنّ النضج السياسي قد بلغ أشده، متمثلًا في تصريح القوى السياسية المختلفة، أنّ القضية الحالية ليست في استبدال أشخاصٍ بأشخاص، فإن أصل الداء وأمّ القيح يتمثل في النظام السياسي والإطار القانوني، فلا يهم عدد الأحزاب التي سيُعترف بها وإن كان فيهم حزب الوسط وحزبٌ للجماعة الإسلامية، إنما القضية في قانون الأحزاب نفسه، ولا يهم أن يأتي إلينا رئيسٌ ترضاه النخبة أو لا، إنما المهم هو تحديد صلاحيات الرئيس وآليات محاسبته وسبل عزله... وهذا كلامٌ حسنٌ جميلٌ، أنعِم به وأكرِم!
ومن هذا الذي مضى كلّه، فإنّ طائفةً في الدولة تخاصم النظام السياسي حتى أنها تعتزل سياسته، وتعمل في السياسة بمعناها الواسع العسير، من خلال تعبئة الناس تجاه فكرها ورؤيتها، بما يخالف إدارة النظام الحاكم وطريقته، ثم هي لا تشارك بحزبٍ سياسيٍّ لتقليل عدم الاستقرار السياسي، الناتج عن وعي هذه الطائفة، وهي طائفةٌ بلغت من النضج أنها ترى أن الآفة في النظام السياسي والقانوني، وليست في مجرد استبدال أشخاصٍ بأشخاص ... أفليس من الظلم البيّن والافتراء الطاغي أن تُرمى هذه الطائفة بركوب الموجة لأنّها اعتزلت السياسة؟!! أفليس من طمس البصيرة وجهل السياسة ألّا تُرى حقيقة هذه الطائفة شرخًا في دولة النظام البائد تهدد استقراره؟! أليست هذه الطائفة بين طوائف المشاركة السياسية الهشة هي الحقيقة بأن تكون الطائفة الثائرة الرافضة للنظام وسياسته؟!
إنّ من السطحية التي لا أراها تقع إلا متعمدة، أن يُنظر إلى طائفةٍ كان نظام مبارك نفسه يضطهدها، ويدرك خطرها، ويسومهم الحبس والنفي والقتل، بل أكثر من ذلك عند ذوي المروءة والغيرة.. يُنظر إلى هذه الطائفة التي أدرك النظام السابق ثقلها السياسي، على أنّها مجرد طائفةٍ اعتزلت السياسة!! هكذا... وكأنّهم مجموعةٌ من دراوشة الصوفية الجبرية.. ثمّ .. ثمّ إني أراني أطلتُ التطواف بصاحبي، وأوشك أن أكون ضيفًا ثقيلًا على قارئي .. فأستأذنه قليلًا لنعود بحديثٍ عن المصداق العملي لسلوك هذه الطائفة، وما قرُب منها من تيارات العمل الإسلامي، مع اتحادهم في أصل النظر .. وما قضية تحريم الخروج على الحاكم؟! وهل في الليبراليين مانعٌ للخروج على الحاكم؟! ثمّ من الذي ركبته الموجة؟! وسوف -بإذن الله- نرى!
-----------
(*) J-J. Mounier - See: B. Baczko, ‘Enlightenment’, in F. Furet and M. Ozouf, eds, A Critical Dictionary of the French Revolution, Cambridge, MA, 1989, p. 661.
(1) الأحزاب السياسية في العالم الثالث: 81 و 182.
حسام الدين حامد
08-02-2011, 03:53 PM
ركبَ الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"لن يحصل المعارضون سوى على الفتات، وسيكتشف الشعب عندئذٍ- وسيكتشفون هم
أنفسهم- أنهم عقدوا باختيارهم صفقةً مع النظام يقومون فيها بدور "السنيد" الذي لا
تكتمل بدونه المسرحية" (*)
الأستاذة جينيفر غاندي متخصصةٌ في العلوم السياسية، لها عدة أبحاثٍ تتعرض فيها لدراسة الأنظمة الديكتاتورية، على رأسها كتاب "المؤسسات السياسية في النظم الديكتاتورية"، تتعرض فيه لظاهرة استعانة النظم الديكتاتورية بمؤسسات النظم الديموقراطية كالمجالس التشريعية والأحزاب السياسية، وتبرهن من خلال استقراء ودراسة عينةٍ ممثِّلةٍ لنظم الحكم الديكتاتورية بعد الحرب العالمية الثانية، أنّ "المجالس التشريعية والأحزاب السياسية تساعد الديكتاتور جزئيًّا في بناء قاعدة دعمٍ بتقديم تنازلاتٍ سياسيةٍ للمعارضة المحتملة، وبالتالي فإنّ هذه المؤسسات تزيد التعاون بين النظام والمجموعات الخارجية"(1) وبالتالي فإنّ هذه "المؤسسات تزيد من عمر الأنظمة الديكتاتورية"(2).
أنت الآن صاحب همّ وفكر، يحلم حلمًا سياسيًّا، تمنعك دولة مبارك من السعي في تحقيقه، تتذرع لذلك بأسبابٍ شتى، وتروّج لذلك أقلامٌ مأجورة، وألسنةٌ مغرضة، والمعارضة السياسية "الرسمية!" –عند التحليل- تساعد على بقاء النظام الحاكم، وإن اكتست بزيّ الخصم وتزيّت بلباس المنافس، و"الأحزاب لا برامج لها ولا مناهج، ولا خلاف بينها في شيءٍ أبدًا إلا في الشخصيات"(3)، فكن على الجادة سياسيًّا، عرفَ الدنيا وعركته الأيام، وأخبرني عن فعلك في ظل هذه الدولة الغاشمة؟!
"فلنكن واقعيين .. ولنقل إن "القاعدة الإسلامية" لم تزل بعدُ أصغر من حجم العمل المطلوب! وقبل أن تقوم القاعدة بالصورة الصحيحة، فكل محاولة للصدام مع السلطة للوصول إلى الحكم عبثٌ غير مبنيٍّ على بصيرةٍ ولا تدبر ... إنّ القاعدة تتكون .. ببطءٍ نعم.. ولكنها تتسع على الدوام، ولا تتوقف على النمو، وينضم لها على الدوام شبابٌ جديد، يعلم سلفًا عقبات الطريق، وعذابات الطريق، فيوطّن نفسه على ملاقاة الموت، واحتمال العذاب، ويوطّن نفسه كذلك على المشوار الطويل ... وذات يومٍ –لا يعلمه إلا الله سبحانه- ستنضج القاعدة وتتسع، وتصبح بندقةً صعبة الكسر ... وعندئذٍ –بسنةٍ من سنن الله الجارية- سيدخل الناس فيها أفواجًا، وسيجد العدو نفسه لا أمام جماعةٍ منعزلةٍ يحصدها حصدًا وهو مطمئن، إنما أمام أمةٍ قد اجتمعت على إرادةٍ موحدة ... فيجري قدرُ الله بما تفرح به قلوب المؤمنين."(4)
فكن على الجادّة منصفًا، كقاضٍ يخشى عذاب الآخرة، وانظر في صاحب هذا المنهج، قِف موقفه وارسم له طريقًا... لن تراه إلا مُجدّا في الدعوة يسعى، يحدّث الناس عن دولة الإسلام، وشروط التمكين وبشريات النصر، يمضي في سبيلٍ موازٍ لسبيل السلطة، تهاوشه فيتصبّر، وتؤذيه فيصبر، لا يبالي بأحزابها ولا مجالسها، فقد نفذ إلى الناس من طريقٍ قريب، فما عليه إن أصدر الكبراء مرسومًا لا يُسمع، أو أمرًا لا يُطاع، ثمّ ما عليه أن يكون الموقّع على المرسوم فلانًا أو فلانًا... عزيزي القارئ! مرحبًا بك في الطريق الموازي!
تسعى مخلصًا، ترى أنّ مكسبك الحقيقي هو الناس، وتتبع في الممكنات سببًا، تُصوّر البناء الذي تحلم به، والنموذج الذي تقتفي أثره، والمثال الذي تستلهم هديه، لتتشربه قلوب الناس، فمهنتك هي الدعوة، وثمرة سعيك العلم والتوعية، فيمتاز بأثر دعوتك الخير والشر، والحسن والقبيح، والحرام والحلال، حتى يبلغ هذا الوعي أن يُحترم، ويُرى عصيًّا على التجاوز أو التشويه، فيكون مدعاةً عند الباحثين عن المال إلى ترضيةٍ مقبولة، ولو بليّ عنق السينما لتكون "سينما نظيفة"!، أو مدعاةً لترهيبٍ يمارسه النظام الغاشم، باشتراط التقرير الأمني قبل التعيينات، والتضييق على المساجد، ومنع بث القنوات الدينية .. هذا الوعي يورث الجماهير طمعًا في تغييرٍ سياسي، يوجب تحللًا سياسيًّا وتفكيكًا لسلطان الدولة الظالمة، إنها دولة الظلم تُنقص من أطرافها!
لا يحتاج رصد هذا الطريق الموازي لمعايشةٍ دائمةٍ للعمل الإسلامي، ولا يلزمك انخراطٌ في الدعوة الإسلامية حدّ الاستغراق، كي تتمكن من استشعار هذا المكان السياسي لرجل الدعوة الإسلامية، فالأستاذة كاري ويكهام المتخصصة في العلوم السياسية، وهي صاحبة اهتمامٍ بالعالم الثالث والحراك السياسي في الدول العربية، يتوّج ذلك كتابها (الإسلام التعبوي .. الدين، العمل الحركي، والتغير السياسي في مصر)، تصل إلى نفس المؤدّى فتفرد في كتابها فصلًا تتناول فيه نشاط الجماعات والتيارات الإسلامية إجمالًا، فلا تجد لهذا الفصل عنوانًا أكثر دلالةً من (القطــاع الإسلامي الموازي)(5)! أفتبصرُ هذه الباحثة هذا الطريق المرسوم قبل الثورة، ويعمى عنه السياسيون والإعلاميون في مصر، ليتقدم أحدهم تهورًا وتحللًا من النظر فضلًا عن دقة النظر، وينفي عن الإسلاميين عمومًا والسلفيين خصوصًا دورًا في تفكيك الدولة البائدة وتقويض بنيانها؟!
إنّ تناقضًا لطيفًا يظلّل رأس الإعلامي اللامع، وهو يسأل ضيفه السلفيّ عن علة غياب دوره قبل الثورة، وهو في نفس الوقت ما عقد اللقاء مع ضيفه إلا مواكبةً للأحداث، التي شكّل فيها السلفيون عنصر ضغطٍ يتكرر ظهوره، فصارت الحاجةُ ملحةً لاستضافة هؤلاء ومعرفة ما يدور برؤوسهم، ولولا ذلك لما خطر ببال هذا الإعلاميّ أن يجمعه بضيفه هذا مجلسٌ واحد، فضلًا عن لقاءٍ مصوّرٍ تشاهده الجماهير، وموطن التناقض أنّ غياب الدور قبل الثورة، لا يمكن أن يجتمع مع الحضور الواضح للسلفية، بمجرد زوال الطاغية وانكسار جبروته، وفي ظلّ الحملة الإعلامية الموجهة ضد السلفيين بشكلٍ لا تخطؤه بصيرة(6) .. هذا الحضور السلفي هو ثمرة عملٍ تمّ قبل الثورة ولابد، فلو أحسن الإعلامي اختيار كلماته دفعًا لحرج التناقض، لسأل عن سرّ عدم ظهور دور السلفيين قبل الثورة، غير أنّ سؤالًا بهذا الصدق والوضوح لا يناسب الإعلام الموجّه، لأنّ المشاهد نفسه سيتبادر إلى ذهنه التضييق الأمني والقيود السياسية كجوابٍ مبين، وهذا غير مطلوب! فليبق التناقض!
والقول بتحريم ممارسة العمل السياسي لذاته على الإسلاميين، هو قولٌ لا يقول به إلا العلمانيون وحدهم، المطالبون بفصل الدين عن الدولة، إلّا أنّ هذا لا يعني اشتراك الإسلاميين في موقفهم من دوائر العمل السياسي المختلفة، فالدائرة الأوسع هي التي اشترك فيها الإسلاميون جميعًا، وهي دائرة الخلطة بالناس من خلال المساجد والمدارس والجامعات ومراكز الشباب ونواديهم وكثيرٍ يشبه ذلك، فهذه تمثّل بابًا للدعوة يتنافس فيه المتنافسون، ثم تليها دائرةٌ أضيق تتمثل في الكيانات الخدمية، مثل النقابات واتحادات الطلبة والمجالس المحلية وما شابه من رابطةٍ أو اتحاد، هذه كذلك مما اتفق على جوازه أو حسن العمل فيه كثيرٌ من الإسلاميين!
أما الدائرة الضيقة وهي دائرة البرلمان والسعي لإنشاء حزبٍ سياسي، فهذه مما اختُلف فيه داخل تيارات العمل الإسلامي، في ظل الدولة المستبدة دولة مبارك، بناءً على الاختلاف في المصالح والمفاسد المترتبة على مشاركةٍ من هذا النوع، فمن رأى مفسدةً تتعلق بمناقضة التوحيد، اعتزل هذه الدائرة ولم يُعن أحدًا على المشاركة فيها، ومن كان خطب المفاسد عنده دون ذلك مع رجحانه، اعتزل المشاركة ولكنّه قد لا يرى بأسًا من دعم غيره من الإسلاميين ممن يرى جواز المشاركة، ومن ترجحت عنده كفة المصالح عقد العزم على المشاركة ودعم من يشارك بنفس فكره، غير أنّ الجميع يعرف أنّ طريقهم ليس هو طريق النظام الحاكم، سائرين في سبيلٍ موازٍ، لا عليهم إن مُنعوا من إنشاء حزب، أو من مقعدٍ في مجلس الشعب، يعملون بين الناس وفي دعوتهم، حتى تتكوّن القاعدة التي لا تُكسر، ويأذن الله بسنةٍ من سنن كونه، أو بوعدٍ من بشريات وحيه، لأهل هذا الصراط المستقيم بالتمكين!
وبعدُ .. فهذا هو الإطار العام للردّ على دعوى ركوب الإسلاميين الموجة، بناءً على زعم اعتزالهم السياسة كاعتزال عجائز نيسابور! سواءً أكان من يردد هذه الاتهام إعلاميٌّ محترف! أو أحد أعضاء الأحزاب التي حصلت على رخصة مزاولة عملها من نظام مبارك! هذا الإطار يُبطل دعوى اعتزال الإسلاميين السياسة بمفهومها الواسع، ويبيّن أنّ المشاركة السياسية –بالمعنى الضيّق- هي محل التهمة في ظل الأنظمة الديكتاتورية، إذ إنّها تقلل من عدم الاستقرار السياسي، وتطيل عمر الديكتاتور، وبها تكتمل شخصيات المسرحية، مع بيانٍ مجملٍ لموقف الإسلاميين من دوائر العمل السياسي، وأن اعتزال بعضهم للدائرة الأضيق دائرة البرلمان والأحزاب، هو موقفٌ فكريٌّ أو سياسيٌّ من حقهم تبنيه، كما تبنت اعتزال الانتخابات أحزابٌ وتياراتٌ سياسيةٌ في أزمنةٍ مختلفةٍ وبلدانٍ شتى، يؤيد هذا الإطار رأي أهل التخصص في موقف الإسلاميين، ويؤكده عداء مبارك لهم وتضييقه عليهم، ويجلّيه الحضور الطاغي لهم بعد الثورة، مع إمكانية احتواء الجزئيات المختلفة في هذا الإطار، إن وضعنا في الحسبان يد الأمن الطاغية الساعية للتشتيت والتفريق والدس، وكذلك عنصر الخطأ البشري من بعض الأفراد، في تصوّر الواقع والحكم عليه، أو في تحقيق رتبة الخلاف، أو في التحلي بأدب الخلاف.
وبعدُ أيضًا .. فلماذا لم يختر معظم الإسلاميين الصدام مع السلطة؟! لماذا لم نر فيهم مثل حركة كفاية مثلًا؟! ما الفرق؟! وما موقفهم من الخروج على الحاكم؟ وما موقف الليبراليين والعلمانيين من الخروج على الحاكم؟! والبحث في جواب ذلك يأتي تمامًا لما مضى، ولكن قبل ذلك سأطرح سؤالًا –أو أكثر- عن حقيقة المعارضة الليبرالية، ومعيار الحكم عليها، والعلاقة بين الفكر الليبرالي والمعارضة، وسوف –بإذن الله- نرى!
------------
(*) مقال الأستاذ حمدي قنديل: مجرد كومبارس.. يحثُّ فيه القوى السياسية أن تقاطع الانتخابات.
http://www.shorouknews.com/Columns/column.aspx?id=289630
(1) Gandhi J - Political institutions under dictatorship – P. xxiii.
(2) Gandhi J - Political institutions under dictatorship – P. 188.
(3) مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا : 254 .
(4) واقعنا المعاصر: 438 فما بعدها.
(5) Wickham C – Mobilizing Islam... religion, activism and political change in Egypt – P. 93.
(6) وقد بدأت هذه الحملة الشرسة قبل قيام الثورة، وبلغت أوجها بحادثة تفجير كنيسة القديسَين، ومقتل سيد بلال رحمه الله، فتوجهت الأقلام المشبوهة للنيل من السلفية، حتى ملأت صورة الدكتور ياسر برهامي حفظه الله غلاف روزاليوسف، ويتبع ذلك مقالٌ طويلٌ عريضٌ فارغٌ عنوانه "أخطر رجل ضد مصر"! ثمّ بعد الثورة سمعنا عن سلفيين يقطعون الأذن إقامة للحدود!! وغيرها من حوادثَ مضحكةٍ تبيّن في نهاية الأمر ما فيها من بهتانٍ وزور!
حسام الدين حامد
08-06-2011, 05:57 PM
ركبَ الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"الحل هو الحل ... حل النظام السياسي هو السبيل الوحيد ...
لستُ من الذين يرون أنّ إجراء إصلاحاتٍ ممكنةٍ على طريقة العمل
الحالية يمكن أن يأتي بنتائج، لأن الوضع كلّه شديد الفساد"(*)
إنّ مما أدرك الناس من كلام الحكماء، أنّه بضدها تتميّز الأشياء، وذاك برهانٌ حسنٌ ينبغي استحضاره، حين يسأل ليبراليٌّ ذليق اللسان، عن معالم دور الإسلاميين قبل الثورة المصرية، فجواب الحكيم أن تتبع بيانك بقلب السؤال، فتسأله عن أية آثارٍ للدور الليبرالي قبل الثورة.. زميلي الليبرالي! أين كنتم؟!
في كتابه "من داخل مصر .. أرض الفراعنة على حافة الثورة"، يتعرض الصحافي البريطاني جون برادلي لما رآه في مصر قبل قيام الثورة ببضع سنين، ويرصد مجتهدًا ما رآه من نُذُر الثورة ... وتقرأ كتابَ الرجل، فلا يخطر ببالك سؤالٌ عن دور الإسلاميين قبل الثورة، فقد تكفّل النصف الأول من الكتاب بعرض دور الإسلاميين من الإخوان المسلمين والأصوليين والصوفيين مع علاقة ذلك بالمسيحيين في مصر، ويتناول النصف الثاني التعذيبَ والفسادَ والمهانةَ التي انتشرت في عهد مبارك ... هذا الصحافي الذي رصد في كتابه عن المملكة السعودية، الأصوات الليبرالية كعنصرٍ أولَ في مناوشةِ النظام السعودي، لا يولّد لديك بعضًا –أو حتى شيئًا- من هذا الشعور تجاه الليبرالية في مصر(1) ... أين النشاط الليبرالي؟!
ربّما نجد جوابًا عند الأستاذ بروس رزرفورد، المتخصص في العلوم السياسية، المهتّم بسياسات الشرق الأوسط، في كتابه الصادر عام 2008م "مصر ما بعد مبارك .. الليبرالية، الإسلام، والديموقراطية في العالم العربي"، فقد أثبتَ الرجل نشاطًا ليبراليًّا في مقابل الإسلام السياسي ... الغريب أنّ الذي يقود النشاط الليبرالي عنده، ليس أحدًا من رجال الفكر المثقفين، وإنما هم رجال الأعمال حاملو لواء الليبرالية الاقتصادية(2)، غير أن رزرفورد لم يكن يدري أن هذا النشاط الليبرالي، الذي تجري به حاشية أمين لجنة سياسات الحزب الوطني، سيكون سببًا رئيسًا في اشتعال الثورة المصرية .. الأكثر غرابةً من هذا أن يجترئ أحد الليبراليين من بعد، ليسأل عن دور الإسلاميين قبل الثورة، ولا يخطر بباله أننا سنبادر بسؤاله عن دور الليبراليين قبل الثورة؟!!
إنّ خاطرةً تمرُّ بذهني أتصور فيها جماعة الليبراليين وُكّلت بمصر، وأوصاهم الموكِّل بنشر مفاهيم الليبرالية والعلمانية والديموقراطية، وبث معاني التحرر في النفوس، وغرس صورة المرأة المتحررة في الأذهان، ورفع شعار المجد للعقلانية والعقل، وكسر سلطان النصوص على القلب، والترغيب في الزواج المدني، والتنفير من القيد الديني، وبتر الإسلام عن جسد الوطن، ودفنه جيدًا بحيث لا يرى أثره، ليكون علاقةً بين المرء وربِّه في نفسه ... ثمّ مضت الأيام، وقامت الثورة، وأتى الموكِّل يرى ما فعل الليبراليون من بعده، فماذا يرى؟!
سيرى شعبًا خرج ثائرًا عزاؤه في قتلاه الشهادة، وطمأنينته في ثورته تأتيه من صلاة الجماعة، ومبعث انطلاقته متظاهرًا من ساحات المساجد ... سيرى شعبًا لا يزيل أسماء الملوك ليضع مكانها أسماء الفلاسفة، ولا يرفع الإشارة للملائكة من الأسماء لأنّها خرافة، كما فعل الثائرون عقب الثورة الفرنسية، وإنما سيرى شعبًا يزيل اسم "مبارك" ويكتب مكانه لفظ "الشهداء"، ويرفع صورة الظالم ليضع مكانه رسمًا للفظ الجلالة... سيرى شعبًا ينظّم عُقيب زوال الطاغية، مليونية صلاة الفجر لنصرة فلسطين.. سيرى شعبًا يذهب بعد تجبّر الطاغية الآخر، ليمد إخوانه في ليبيا بما استطاع من عون.. سيرى شعبًا تخرج أغلبيته لتقبل التعديلات الدستورية، ظنّا منهم أنّ الأمر استفتاءٌ على المادة الثانية من الدستور، كما تشنّع الجماعة الليبرالية في بلادنا!
وما من منصفٍ يستطيع أن يدعي أنّ الليبراليين في مصر، قد تمكن جمعهم من نشر وعي، أو رسم منهج، أو تشييد بناء، أو احتواء تجربة، أو كسب قاعدةٍ ذات وزن، تتعلق بالفكر الليبرالي وتدعو إليه.. وإني لأراه أمرًا يدعو للرثاء والنعي، ألّا يستطيع الفكر الليبراليّ صياغة شعارٍ واحد، يجد رواجًا ما في الشارع المصري، سوى شعار "الدولة المدنية" تمويهًا بالاعتماد على غموضه وبريقه وحسب، دون أن يسبق هذا الشعار عملٌ تعبويٌّ أو سعيٌ دعويٌّ في العقود الماضية، من طرف مفكري الليبرالية أصحاب الأقلام والبرامج والصحف، ولا أدلّ على ذلك التقصير والتمويه من قول الأستاذ خالد الخميسي –وهو منهم-: (أنا لا أعرف تعريفًا واضحًا وغير ملتبسٍ عن الدولة المدنية، درستُ عبر حياتى العلوم السياسية ودرست أنواعًا مختلفةً من النظم السياسية ولكننى لم أقرأ أبدًا عن نظامٍ سياسيٍّ يطلق عليه دولةً مدنية)(3)؛ فيالله ما أشد حسرة من وكَّلهم في هذه البلاد! أين ما كانوا يعرشون؟! وماذا كانوا يفعلون؟!
ومن بعد ذلك القول.. فأمامك سبيلان لمعارضة النظام الظالم، أولهما بإقامة بناءٍ محكم، تلتف حوله الجماهير فينفضون عن النظام الحاكم، وتمتلئ نفوسهم بعداوته والطمع في زوال دولته، وهذا الطريق قد انفرد به الإسلاميون، وهو سرُّ أزمة الليبراليين الحالية، افتقادهم لرؤى بنَّاءةٍ تلقى قبولًا وتصلح للتنفيذ، وبيان ذلك مضى في هذا المقال والمقالين اللذين سبقاه .. والسبيل الآخر هو سبيل الهدم والتعرية، وسلوك الليبراليين لهذا السبيل، ليس بالحجم الذي يبدو عليه بادي الرأي، فلا يستوي منتقدٌ يرى نفسه في ظلّ نظامٍ قابلٍ للإصلاح، ونقاط التقائه مع النظام أكثر من مواضع الاختلاف، فهذا ينتقد ليصل صوتُه فتجري إصلاحات، فهذا على الحقيقة متسقٌ مع النظام، لا يستوي هذا ومن يرى أنَّ الوضع شديد الفساد لا يقبل الإصلاح، فانتقاده هدمٌ وتعريةٌ وزلزلةٌ لكيانٍ آيلٍ للسقوط، وبالمثال يتضح المقال .. فاقرأ معي!
"إغلاق القنوات الدينية التي تحرّض على الفتنة مطلبٌ صحيح، ويتفق مع فكرة مدنية الدولة، لكن السؤال هنا هل يريدون بهذه الخطوة عمل دخانٍ كثيف، تتم التغطية به على تقييد الحريات، والقضاء على الهامش الصغير لحرية وتداول المعلومات، فالظرف الذي أغلقت فيه القنوات غريب، رغم أنني ضد كل المحطات الدينية الإسلامية منها والمسيحية، السنية منها والشيعية، لأنها تنشر النعرات والمذاهب ... والسؤال الأهم: لماذا سمحوا لها من الأساس بالبث؟ ولماذا تغلق الآن رغم كون إغلاقها كان مطلبًا من الجماعة الوطنية المصرية التي تتحدث عن مدنية الدولة، وقلقةٌ ومفزوعةٌ من تهييج الفتنة الطائفية، ولم يتم الالتفات إلى هذه المطالبات ولم تلق اهتمامًا"
إنّ هذه الفقرة السابقة ليست وصالًا غزليًّا يمده أحد المنافقين المعلومين طمعًا في منصبٍ ما، مكافأةً على ترقيعه ما اهترأ من نسيج ديموقراطية النظام، بدعوى الحفاظ على مدنية الدولة، عن طريق إغلاق قنواتٍ دينيةٍ خاصةٍ مملوكةٍ لأصحابها، لا يمكن منعها في أي نظامٍ ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ في العالم، دون تحقيقٍ مستقلٍّ يثبت تورط كل قناةٍ على حدة في مصادمة مدنية الدولة وسلامها الاجتماعي، وموطن عجب المتحدث يكمن في التوقيت فحسب، فقد كان يطمع من (دولة مبارك المدنية) أن تمنع بث هذه القنوات من الأساس، موافقةً لمطلب "الجماعة الوطنية المصرية" .. هذه الفقرة هي جزءٌ من حوارٍ جرى قبل الثورة، مع الإعلامي المعارض المتصدر لمنصة الليبرالية في ميدان التحرير هذه الأيام، الأستاذ حسين عبد الغني مدير مكتب قناة الجزيرة السابق(4)!
ليس مدار النظر بالأساس على التمثيل لعقد كثيرٍ من المثقفين المصريين "صفقةً غير مكتوبةٍ مع النظام، قوامها سكوتهم عن معارضة النظام معارضةً تناسب طغيانه -أو عدم معارضته بالمرة- مقابل قمع النظام للأعداء المشتركين المتمثلين في التيار الإسلامي"(5)، مهما كان هذا التيار معارضًا .. مخاصمًا .. مصادمًا، بل على عكس المفترض من "الجماعة الوطنية الليبرالية"، فإنّه كلما ازداد التيار الإسلامي عملًا وتأثيرًا وحركة، ازدادت عداوة هؤلاء المثقفين له وتحريضهم عليه، بينما أيّ عملٍ إسلاميّ يقع تحت جناح الدولة، ويلتزم بسبيلها، فهو حبيبهم وقطب مدحهم، ولا أدل على ذلك من مواقفهم من الأزهر وهو كسير الجناح، وتمثّلهم إياه أنموذجًا يقتفى وطريقةً تعمّم، بدلًا من مؤسسةٍ تقزّم دورها جدًّا لتقع في ظل الطاغية!
إنما مدار النظر على نظرة الأستاذ حسين والجماعة الوطنية المصرية - من معارفه - لدولة مبارك، كدولةٍ مدنيةٍ تنقصها خطوات إصلاحٍ وتحديث، تستحث هذه الخطوات جماعةٌ معارضةٌ تلتزم بإطار نظام دولة مبارك، وتنادي بالإصلاح من خلال آليات هذا النظام، فتطالب –مثلًا- بإغلاق القنوات الدينية حفاظًا على مدنية الدولة، وتطالب بحرية الإعلام ورفع يد الدولة عنه حفاظًا -هذه المرة- على ديموقراطية الدولة، ثم تطالب بمنع إنشاء أحزابٍ على أسس دينية حفاظًا على مدنية الدولة، ثم تعود لتطالب بحرية إنشاء الأحزاب حفاظًا –أحسنت!- على ديموقراطية الدولة ... هذه النظرة كنتُ أتشربها في قلبي انطباعًا عن جماعة الأستاذ حسين الوطنية، من خلال كتاباتهم وأحاديثهم وحواراتهم وجميع نشاطاتهم!!
إنّ مجرد الاختلاف مع النظام لا يعني أنك مخاصمٌ للنظام، وإن نشرت المقالات وهيّجت الناس، وهددت بالاعتزال أو الإضراب عن الطعام، ودونك شنودة واختلافاته مع نظام مبارك، بمثل القانون الموحد لدور العبادة، وقضية طلاق النصارى، والمظلومية المتكررة من عدم تكافؤ الفرص، فهذه الاختلافات لم تكن لتجعل شنودة في مصاف المخاصمين لمبارك، فقد كان كلاهما يُسند الآخر ويقوم به، ورأينا مصداق ذلك في دعوة شنودة لعدم الخروج في مظاهرات يناير، وتجديده الثقة في مبارك، وحزنه على زوال حكم مبارك ... وهذا كلُّه منسجمٌ في سياقٍ واضح، من أنّ نظام مبارك في العموم كان يوافق مراد شنودة، إلا أنّه كان في حاجةٍ إلى بعض الإصلاحات والتحديثات التي قد تأتي -أو ستأتي- مع الوقت!
والتفرقة بين المخاصم للنظام الساعي لهدمه، وبين المتسق معه الساعي لإصلاحه، وإن كان كلاهما يندرج تحت مظلة المعارضة، هذه التفرقة تفسر الكثير من المواقف(6)، مثل موقف الدكتور يحيى الجمل، الذي كان عضوًا في الجبهة الوطنية للتغيير، وأحد مؤسسي حزب الجبهة الديموقراطية، وفي نفس الوقت كان يسعى بكل طاقته لإنعاش حكومة شفيق، ويطوف القنوات الفضائية مؤكدًا على ضرورة بقاء مبارك، حتى لا يُحدث غيابُه فراغًا دستوريًّا، وكأنّه لا يدري معنى الثورة ولا يعرف إمكاناتها، ومن لا يستحضر هذا الفرق فسوف يرى موقف يحيى الجمل عصيًّا على التفسير، بل رأته الكاتبة نجلاء بدير مستحيلًا(7)!!
أما وقد انتفى عن الليبرالية معارضةٌ بنّاءة، بشهادة الصحافي المتابع، وكلمة السياسيّ المتخصص، ودلالة الواقع، وحسرة الموكّل، ثمّ رأينا فرقانًا بين طريق الانتقاد بنية إصلاح النّظام، وطريق المعارضة الهدّامة لبنيان الطغيان، بحيث إذا ما اتُّخذ هذا الفرقان معيارًا، خرج لنا من الليبراليين الصادقين نفرٌ قليل، لهم عندنا عرفانٌ بدورهم وجرأتهم في تعرية الظلم وصدقهم في الحث على زواله، بغضّ النظر عن تأثير مثل هذه الأصوات القليلة على دولة مبارك، فما عليهم إلا أداء واجبهم وتأدية الأمانة التي في أعناقهم.. أما وقد أُجمل ذلك ومُثّل له، فعسى أن يكون الفرق قد اتضح بين دور الإسلاميين وحجمه، بمشاركة جمعهم في البناء، ونفرٍ منهم في الهدم، ودور الليبراليين، بغياب جمعهم عن البناء، وحضور نفرٍ منهم في مقام الهدم، وهكذا بضدها تتميز الأشياء، ويقتنع المنصف، وينقطع المتطاول ظلمًا ... ثم لم يبق إلا أن نرى موقف الإسلاميين من التصادم والهدم، ونتعرض للعلاقة بين الإسلاميين وجيفارا والدكتور زويل... وما حكاية هذه العلاقة؟! سوف –بإذن الله- نرى!
--------------
(*) الأستاذ عبد الحليم قنديل في لقاء مع قناة الجزيرة قبل الثورة.
(1) انظر كتابيّ جون برادلي:
Inside Egypt: The land of the pharaohs on the brink of a revolution
Saudi Arabia exposed: Inside a kingdom in crisis
وبعد الثورة .. فقد أصدر برادلي كتابه "تسونامي تونس.. لماذا على الغرب أن يستعد للأصولية الإسلامية"، ليخبر الغرب أنّ القادم في أرض العرب، ليس الليبرالية ولا العلمانية ولا غيرها من الرؤى الغربية، وإنما هو الإسلام الأصولي وعلى الغرب أن يستعد لذلك، والكتاب مخطَّط لنشره في يناير 2012م.
(2) انظر كتاب بروس رزرفورد:
Egypt after Mubarak: Liberalism, Islam, and Democracy in the Arab World
وكذلك اللقاء المصوّر معه –وهو متاحٌ على اليوتيوب- حول نفس الموضوع بعنوان:
Egypt after Mubarak- Challenges and Opportunities in Egyptian Politics
(3) مقال الأستاذ خالد الخميسي: هل يمكن تطبيق الشريعة فى دولة مدنية ديمقراطية؟
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=488504
(4) اللقاء مع الأستاذ حسين عبد الغني في المصري اليوم:
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=274349&IssueID=1932
(5) مقال الشيخ أبي فهر السلفي: كيف كرس العلمانيون للاستبداد السياسي في مصر.
http://www.nahdaislah.com/article/81--.aspx
(6) وخذ أيضًا موقف مجدي الجلاد رئيس تحرير جريدة المصري اليوم، وهي جريدة مستقلة يعدها كثيرون معارضة، فهذا الموقع لا يمنع مجدي الجلاد من أن يكون محبًّا لجمال مبارك، موافقًا على انتخابه، معترفًا له بإصلاحات اقتصادية سواءً اختلف معه أو اتفق!
http://www.youtube.com/watch?v=7OVFWYf3Z28
(7) انظر مقالها في الدستور الأصلي بعنوان: تعديل وزاري!
http://www.dostor.org/authors/11/59/11/february/23/36850
أبو القـاسم
08-09-2011, 11:15 PM
بيض الله وجهك كما ذببت عن الملة وأهلها بقذائف الحق هذه..وهنيئا ليراعك الحر الأغر
وبارك فيك يا دكتور حسام الدين..فإني أرى لك من اسمك نصيبا عاليا..تبارك الرحمن
حسام الدين حامد
08-10-2011, 05:38 PM
جزاكم الله خيرًا أيها الحبيب الفاضل، وهذا مما أدبك الله تعالى، ومن ستره وفضله عليّ سبحانه..
وفقك الله وحفظك وأعانك ويسر أمرك..
حسام الدين حامد
08-10-2011, 05:40 PM
ركب الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ
وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ شُرَكَائِهِمْ
سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ "(*)
ولطيفةُ التناقض أنّه باطلٌ مضحك، وحقيقة مادته أنّها عجز المُبطل، تفاديه عَثرة، ولزومه عِبرة، والتزامه من العَجب، وتكاثره من البطَر، وُجوده موعدة، وفضحه قاعدة، خفاؤه ابتلاء، واتباعه بلاء، مداد سوادِه سَكرة، وشمس ظلامه فكرة، فكأنّه علامةٌ تشير إلى سبيل المحجة، وإنّه باطلٌ قام على ذاتية بطلانه حجة، فلو لم يخلق الله السماوات والأرض بالحق، لافتقرت الخلائق إلى فكاكٍ من باطلٍ زك، فذاك في ابن آدم فيضٌ من رسوم الفطرة، وهو في عنقه قيدٌ إلى الحق بآثار القدرة ... وقد فُتح أمامي في قضية الركمجة(1) هذه بابٌ من التناقضات، ما لو كان مثلها ذهبًا لعُدّ رِكازًا يخمّس، فهاكم من ذلك بعضه!
ما رأي الزميل الليبراليّ في قول قائل: (إنّ القوى الشعبية قادرةٌ على الفوز بحربٍ مع جيش الدولة النظامي، وليس من الضروري أن ننتظر حتى تكون كل الظروف مواتيةً للثورة، فإنّ البدء بالتمرد يمكنه التهيئة لإيجاد هذه الظروف ... إن القوى الظالمة التي تحاول البقاء في السلطة ضد القانون قد نقضت السلام معها بالفعل.)؟؟ هه! ما رأيك في هذا الكلام إن كان من إسلاميٍّ مجاهد؟! فكيف به إن قاله ثوريٌّ مناضل؟! ما رأيك في ذاك الكلام الطيب .. أو الخبيث؟! أفتنا مأجورًا!!
وعندما يُعلم أن قائل هذا الكلام هو جيفارا(2)، فإنّه حينئذٍ إلهامٌ للمناضلين وشعلةٌ في سبيل الثائرين، فإن نقلنا أحسن من هذا الكلام عقلًا وأكثر انضباطًا، عن أحد المنظّرين للحركات الجهادية في مصر والعالم، صار هذا الكلام تطرفًا وظلامًا ورجعيةً وإرهابا .. فحسنٌ جدًّا قتال جيفارا المسلّح ضد باتستا طاغية كوبا، وقبيحةً كانت عمليات الجهاديين العسكرية ضد مبارك طاغوت مصر، وملهمةٌ حرب العصابات إذ يديرها جيفارا، وليست كذلك إذ يديرها يحيى هاشم، وليس على جيفارا جناحٌ بعد أن تُعلم ثمرةُ سعيه في كوبا حكمًا ديكتاتوريًّا لصديقه كاسترو، بينما على الجهاديين إثم المصريين حين تُتوهم ثمرة سعيهم حكمًا قد لا يُرضي النخبة الليبرالية.. وكِل بهذين المكيالين هاهنا وهاهنا هكذا من دون حد!
ثمّ ما رأي الزميل الليبرالي في قول قائل: (أظن أنني أستطيع ذكر بعضٍ من عواقب العنف الثوري، فإنّه يمهّد الطريق أمام إعادة التخطيط والبناء اللذين ذكرت، ويقضي على مؤسسات "النظام البائد" بسرعةٍ وقوة، بما يجعل أيَّ شيءٍ يبدو ممكنًا، كما وإنّه يطلق طاقة بناء المدينة الفاضلة من النفوس)؟؟ هه! ما رأيك في هذا الكلام إن كان من جهاديٍّ يُقرئ تلامذته التاريخ؟! فكيف به إن خرج من فم أستاذٍ أكاديميٍّ متخصص؟! ما رأيك في ذاك الكلام الطيب .. أو الخبيث؟! أفتنا مأجورًا!!
ما أذكى هذا التحليل حين يكون صاحبه أستاذ التاريخ روبرت دارنتون(3)، متحدثًا عن الثورة الفرنسية التي "ولدت في العنف ودمغت مبادئها على عالمٍ منه"(4)! ما أذكاه!! أمّا أن يصدر مثل هذا أو دونه عن شيخٍ مجاهدٍ فهو بحرٌ من الدم تفجّر من فم إنسان!! ورائعةٌ تلك الثورة الفرنسية العنيفة بما أعقبها، وقبيحٌ عنف الجهاديين مهما أعقبه! ويُعجب المثقفين بناءُ برج إيفل في مئوية الثورة الحرة على الطريقة الفرنسية، ويعجبهم كذلك بناء السجون والمعتقلات لمئاتٍ ممن يحلمون بجهاد الطواغيت على الطريقة الإسلامية!
ونعم .. إنّي أراهن على ذكاء القارئ، أن يدرك أنّ المقام ليس مقام تقييم الجماعات الجهادية، والنظر في حكم عملياتها، والحكم على طريقة تطبيقها، إنمّا المقام هو مقامُ إلزامٍ لمن يرمى الإسلاميين قاطبةً بعدم معارضة النظام السابق، وهو يتعامى عن قومٍ بلغ صدامهم مع السلطة إلى الغاية، ولا يُعلم ولم يوجد مثل صدامهم في دعاةِ الليبرالية والعلمانية والشيوعية، المغرمين بصورة جيفارا المعجبين بنضاله، يتعامى عنهم لأنّهم لا يمثّلون الليبرالية، فإمّا أن تناضل من خلال منظومة الليبرالية أو الشيوعية، وإمّا أن تقصيك الجماعة الليبرالية، ليس فقط من حسبتها وصحبتها، بل من العمل الإسلامي كلّه، ثم تأتي لتسأل عن دور الإسلاميين في مصادمة السلطة!! عجبٌ .. وأعجب منه ما يأتي!!
يخرِجهم أحدُهم من زمرة المعارضة ومن كافة الحسابات بقوله: "هؤلاء كانوا يتحدثون عن حاكمٍ كافر، وهؤلاء كانوا يتحدثون عن إقامة الشرع الإسلامي، وكانوا يتحدثون أيضًا عن تغييره بالقوة وبالعنف، إنما ما أتكلم عنه هو الداعية الذي يقف في مواجهة الظلم والاستبداد، والذي يدعو إلى الحرية والديموقراطية"(5) ... وأنا لا أتعجب من هذا القائل إذ يجعل شرطه في الاعتداد بمعارضة الإسلامي، ألّا تكون معارضته على أساس دينه وشريعته، ولا أتعجب منه ألّا يتصور ملابسات الاضطرار إلى التغيير بالعنف، مع أنّ أشهر دعاة عدم العنف يقرّون أن "العنف المحدود لا مناص منه في بعض الحالات"(6)، ولا أتعجب كذلك ألّا يكون قرأ شيئًا من كتب منظري الجهاد، وموقفهم من ظلم واستبداد الحكام، ولا يرى أن مطالبتهم بإقامة الشرع هي مواجهةٌ للظلم ودعوة لنشر العدالة والشورى، بل لا أتعجب منه وهو يقصي المعارض الإسلامي ما لم يتبنَّ المصطلح الديموقراطي، ذلك أنّ هذا القائل هو موسوعة العلوم، المتبحر في كل الفنون الأستاذ إبراهيم عيسى!
وإن أقيم لسان الأستاذ إبراهيم عيسى عربيًّا غير ذي عوج، فلسوف نتحصل من كلامه ذاك على فائدةٍ مهمة، وهي أنّ عيسى والجمع الليبرالي في مصر ليس خلافهم مع الإسلاميين في الخروج على الحاكم، فسواءً أكنتَ ترى الحاكم كافرًا أو ظالمًا، ترجحت عندك مصلحة الخروج عليه أو لم تترجح، اتبعت خلافًا قديمًا أو إجماعًا لاحقًا، هذا كلّه لا يعنيهم، فهم لا يوافقون على منطلق "الخروج على الحاكم" للمعارضة، هم فقط يلزمون من قال بحرمة أو عدم ترجح مصلحة الخروج على الحاكم بألّا يتكلم في السياسة حتى بعد زوال الحاكم!! وبعيدًا عن هذه الديكتاتورية الليبرالية! فما معنى اعتبار المصالح والمفاسد في الخروج على الحاكم؟! لماذا لم نرَ في الإسلاميين مثل حركة "كفاية"؟! وجواب ذلك في أربعة..
بدايةً .. ليس صحيحًا أن الإسلاميين لم يوجد فيهم مثل حركة "كفاية"، فقد تأسست الحركة المصرية من أجل التغيير أو "حركة كفاية" سنة 2004م خليطًا من عدةِ قوى سياسية، من أحزاب الوفد والوسط والتجمع والناصري والكرامة والأمل وجماعة الإخوان المسلمين وغيرهم، ومعلومٌ أنّ حزب الوسط وجماعة الإخوان المسلمين يندرجون تحت مظلة الإسلاميين، وقد بدأ الانفصال في سنة 2006م باستشعار الإسلاميين محاولة تهميشهم، وتهميش قضية الصراع العربي مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وتخوُّف العلمانيين من سيطرة الإسلاميين على الحركة، واستشعار بعضهم أنّ مظاهرات الإسلاميين ضد احتلال العراق وفلسطين بإيحاءٍ من النظام الحاكم لتفقد الحركة الدعم الغربي، واختلاف الطرفين تجاه تصريحات وزير الثقافة فاروق حسني المضادة لحجاب المرأة المسلمة، فالإسلاميون عارضوها بشدة وبعضٌ من العلمانيين في الحركة يؤيدون الوزير.. وهكذا ليس صحيحًا أن الإسلاميين ليس فيهم مثل حركة كفاية، وإن حدثت في النهاية المفارقة لعدم إمكانية التوافق!
الأمر الثاني أنّ سياسة مبارك كانت تراعي –أو كانت جزءًا من- سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، ومن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م وغزو العراق سنة 2003م، فإنّ "الأهداف السياسية للولايات المتحدة في المنطقة مترابطة –وأحيانًا متضاربة- وتشمل الحد من تهديد الإرهاب، والضغط من أجل الإصلاح السياسي الديموقراطي، واحترام حقوق الإنسان"(7)، وعليه فإنّ نظام مبارك يعطي إذنًا بإعادة إصدار جريدة الدستور سنة 2005م، وتُترك صفحاتها تنشر سبًّا للرئيس المخلوع وولده، فإن معظم الديكتاتوريات "تعلم أنّ هناك فائدةً تُرتجى من ترك بعض الأصوات الليبرالية البارزة مع وسائلها الخاصة، لتعطي للعالم الخارجي انطباعًا خاطئًا عن حريةٍ وتعدديةٍ في الداخل"(8)، فأمريكا والمنظمات الحقوقية ستطالب بحرية الصحفيين، وقد تنادي بحرية مدوّنٍ مغمورٍ أو صحافيٍّ مبتدئٍ إن وصلهم صوته، ولكنّها لم تُر تطالب أن يكون للإسلاميين نشاطٌ سياسيٌّ خالص، وإن طالبت فسرعان ما ستقتنع أن هذا يندرج تحت استراتيجية الحد من تهديد الإرهاب أكثر من كونه تابعًا للإصلاح السياسي وحقوق الإنسان! وهذا لا يعني أننا لا نشكر صحافيًّا رأى فرصةً لقول كلمة الحق فقالها، وإنما نطالب هذا الصحافي ألّا يدّعي لنفسه بطولةً على الإسلاميين، إذ لو تقدّم لمثل موقعهم لكان صَمُوتًا، ولو تقدم أحد الإسلاميين لمثل موقعه لكان سجينًا!
وثالثهم أنّ تعامل نظام مبارك مع الإسلاميين ليس كتعامله مع الليبراليين، وأسباب ذلك لا أحسبها تحتاج دقيق نظرٍ لاستنباطها لأطيل المقام بذكرها، أمّا مثال ذلك فانظر موقف مبارك من "البرلمان الموازي" الذي قامت بتشكيله بعض أحزاب المعارضة والمرشحين الخاسرين عقيب تزوير انتخابات نوفمبر 2011م، وكذلك "حكومة الظل" التي قرر أحد أحزاب المعارضة تشكيلها، كان تعليق مبارك في الجلسة المشتركة لمجلسي الشعب والشورى بتاريخ 19 ديسمبر 2011م هو "خليهم يتسلوا ..!!"، أمّا لو قام بذلك إسلاميّون، بل لو خططوا لذلك، بل لو تُصوِّرت منهم نيةٌ للقيام بذلك، لاستضيفوا مؤقتًا في أقرب مقرٍّ لأمن الدولة، ثمّ جهّزت لهم تهمة التسلية بقلب نظام الحكم، واختير "لتنظيمهم" اسمٌ مناسبٌ كتنظيم "الوعد" مثلًا، ونوّه لأخبار هذا التنظيم في بعض الصحف القومية والمستقلة، ثم يكون مثواهم أحد المعتقلات لا يدرون متى يخرجون، ولا يعلم أهلوهم أين يمكثون، وقد يلبثون هكذا إلى يوم يبعثون!
وأخيرًا وأكثر الأربعة أهميةً أنّ الإسلاميين هم أصحاب مشروع بناء، همهم إقامة بناءٍ دينيٍّ واجتماعيٍّ وأخلاقي في أرض الواقع، ويسعون –مقتصدين أو ظالمي أنفسهم- في تنظيرٍ للجانب السياسي والاقتصادي والقانوني والتعليمي، يتحيّنون فرصةً تمكنهم من نقل هذا الشق النظري بدوره إلى أرض الواقع ليبدأ التمحيص ويصح البناء، وأيّ حكيمٍ يقوم على رؤية بناءٍ ومشروع نهضة، فلابد أن يحسب خطواته ويزن أموره بميزان المصالح والمفاسد، حفاظًا على رصيده من الضياع، وسعيًا وراء المزيد من المكاسب النبيلة، ومثل هذا يختلف عمّن نذر نفسه للهدم فحسب -مثل حركة كفاية- فليس عنده ما يبكي عليه ... وهذا الفرق بين عامل البناء ومعول الهدم –وفي كلٍّ خير- يدركه المتهجمّون على الإسلاميين جيدًا، بل هو من الوضوح بحيث يدركه الأستاذ إبراهيم عيسى نفسه، إلّا أن هذا الفرق يُراعي عندهم مع كل من سوى الإسلاميين، وهاك المثال باختصار!
الدكتور أحمد زويل بعد تخرجه من مصر، سافر إلى الولايات المتحدة وبنى مجده العلمي هناك، وحصل على جائزة نوبل فأعيد بذلك اكتشاف زويل في وطنه الأم، ثم أتى بمشروع نهضةٍ علميةٍ يسعى لتحقيقه، فقوبل بالعنت والتضييق، وما لبث أن أصبح غرضًا ترميه الأقلام في الصحف القومية، فما كان من الرجل إلا أن ترك ذلك وعاد لمعمله وجامعته ليُكمل بناء مجده العلمي، فلما قربت انتخابات الرئاسة قبل الثورة، وتردد اسم الدكتور زويل كمرشحٍ محتمل، لم يقل الأستاذ إبراهيم عيسى وقتها إنّ زويل لم يصطدم بالنظام، ولم يحارب ورضي بما سُمح له به، وإنما وصفه بأنه (شخصيةٌ مثقفةٌ وجماهيريةٌ من طرازٍ فريد، ومخططٌ استراتيجي، ومن البنائين العظام لمشروعات نهضةٍ وتقدم ...إلخ)(9)، فهل ذنب الإسلاميين أن عيسى غافلٌ عن بنائهم؟! أم ذنبهم أنّه لا يعترف ببنائهم ولا يعترف لهم بحقّهم في الاختلاف؟!
فلو عومل الإسلاميون بمثل معاملة الدكتور زويل، لسهل أن يُفهم معنى أن مصلحة محاولة الخروج على الحاكم أو نفع كلمةٍ أو فائدة مظاهرة، قد تُترك لأنها غالبًا ما تكون أدنى بكثيرٍ من المفسدة المترتبة على رد فعل الحاكم تجاه الإسلاميين، فالمفسدة هنا متعلقة بالدعوة والأرواح والحريات والأعراض وما شابه، وهنا أمرٌ ينبغي التفطن له، أن من لم ير الخروج مثلًا في مظاهرات 25 يناير، لم يكن ذلك تآمرًا مع النظام السابق أو رضًا به أو طمعًا في بقائه، كحال أهل الفن والتمثيل الذين وضع أكثرهم في قوائم سوداء، وإنما موقف الإسلاميين مختلفٌ تمامًا، لا يجادل في ذلك من ذاق طعم الإنصاف، فموقف من لم ير الخروج منهم مبنيّ على قراءةٍ للتاريخ والواقع، ونظرٍ في ميزان المصالح والمفاسد، ومن تكن هذه نظرته فلا يُعاب عليه ما اجتهد فيه، ولا يُلام على تراجعه عن رأيه أثناء الثورة لتلاحق الأحداث وتغير المقدمات التي بنى عليها حكمه، ولا يُرفض منه اعتذاره عن خطئه في ترجيحه بعد الثورة، لا يرفض ذلك إلا مستبدٌّ برأيه يرى نفسه محتكرًا للصواب!
غير أنّ اشتغال الإسلاميين بالبناء الذي يؤدي إلى الهدم غير المباشر، لا يعني غياب جمعهم عن المشاركة في هدم النظام الظالم مباشرة، فلو تكلمنا بلسان الثورة، فسبقَ الإلزام بأنّ الجماعات الجهادية قامت بأقصى درجات التصادم والهدم، بما لم يتحقق في فصيلٍ سياسيٍّ آخر، ولو تكلمنا بلسان الرغبة والدافع، فأكثر من أوذي في هذا العهد البائد، وتعرض للتعذيب والتنكيل والقتل وأكثر من ذلك، هم الإسلاميون بشتى اتجاهاتهم لا ينازعهم في ذاك أحد، ولو تكلّمنا بلسان السياسة فلا شكّ أن أقوى خصمٍ سياسيّ كان في مقابلة النظام السابق –إن لم يكن الخصم الوحيد- هو جماعة الإخوان المسلمين، وقد شاركت مع حزب الوسط في حركة كفاية قبل أن يحدث الانفصال، ولو تكلمنا بلسان القاضي لقلنا بثلاثة إطاراتٍ –تجدها في الوجوه الأربعة المذكورة أعلاه- تحكم مشاركة الإسلاميين في عملية هدم النظام السابق وهي تميزهم عن غيرهم وتفرض عليهم قيودًا لا تلزم غيرهم.
ولكن ماذا عن الموقف من المظاهرات؟! ألم يكن في السلفيين من لا يرى الخروج فيها؟! هل ستكتفي بالأوجه الأربعة السابقة كجواب على الموقف من المظاهرات؟! ... لا! فقضية المظاهرات تحتاج لمزيدٍ من التفصيل والتمثيل، لأنها أقرب إلى الاستحضار، وأكثر تردادًا في لقاءات الإعلام .. ونكون بذلك قد انتهينا من نقض حيثيات اتهام الإسلاميين بركوب الموجة من خلال سلوكهم قبل الثورة، ويبقى النظر في موقفهم من الموجة إذ أقدمت، ثم نبحث في مقارنةٍ ظالمةٍ بين شيخٍ شهيرٍ وسياسيٍّ اشتهر، ونبحث عمن ركبته الموجة! وسوف –بإذن الله- نرى!
---------------
(*) الأنعام: 136.
(1) لفظٌ منحوتٌ من ركوب الموج.
(2) Guevara E. - Guerrilla warfare – P. 7&8 in short.
(3) Darnton R. – What was revolutionary about the French revolution? – P. 16.
(4) Darnton R. – What was revolutionary about the French revolution? – P. 13.
(5) هذا كلام الصحافي إبراهيم عيسى في لقائه مع الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، على قناة التحرير "عند الدقيقة 13 تقريبًا"، منقول بتصرف بنقل الكلام إلى الفصحى، واللقاء كاملًا متاح على اليوتيوب.
(6) Sharp G. - From dictatorship to democracy: a conceptual framework for liberation – P.28.
(7) The Kefaya Movement: A Case Study of a Grassroots Reform Initiative – A report prepared by the RAND Corporation – P.6.
(8) Bradley J. - Inside Egypt: The land of the pharaohs on the brink of a revolution – P.9.
(9) انظر مقاله: الطريق إلى رئاسة مصر.
حسام الدين حامد
08-15-2011, 04:25 PM
ركب الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"ارموا الثورة للشارع .. يحتضنها الشعب!"(*)
وليس باطلٌ يروج إلا بغلافٍ من حق، ولا زيفٌ يُستحسن إلا متبرجًا بالصدق، والبيع آلته حيلة، والشراء دافعه غفلة، والخيار ابتلاء، والصفقة خُسر، والتراضي شقاء، والثمن سُحت، و.. ويفسخ عقد ذلك كلُّه لحظة... لحظةٌ يخلو فيها المرء بنفسه، متخليًا عن شهوات النفس ونزغاتها، مستدعيًا ميزان القسط، منتهجًا الإنصاف، متخلقًا بالعدل، لا يجرمنّه شنآن قومٍ أن يظلم .. فتغدو تلك اللحظة ميلاد إنسانٍ آخر، وكم ميتٍ خرج من ثناياه حيّ! وهذا المقال يُخاطب هذه اللحظة، لعل وعسى!
ما أُحدّث الرفيق الليبرالي بالخلاف في أمر المظاهرات، إلا ويهم بالمفارقة والمخاصمة غضوبًا لا يكظم غيظه، فهو يرى أنّ مجرّد الرضا بوجود خلافٍ في شأن المظاهرات، يرميني في طائفةٍ لا تحب الحرية ولا تتصور معناها، مهلًا .. مهلًا! فإنما أقصد خلافًا غير الذي أغضبك، أقصد خلافًا يعجبك! وكيف ذلك؟! فاسمع إذن!
في كتابه "الاحتجاج المجتمعي والتغير السياسي"، يتعرض الأستاذ ماركو جوجني -المتخصص في العلوم السياسية- لدراسة ربع قرنٍ من الزمان في الولايات المتحدة وإيطاليا وسويسرا، يبحث في تأثير الاحتجاج المجتمعي -بخصوص البيئة والنشاط النووي والسلام- في تغيير سياسات الدولة، ومن خلال التحليل المنهجي لهذه الفترة يرى أن تأثير الاحتجاجات في حد ذاتها على تغير السياسة العامة ليس تأثيرًا مباشرًا ولا غير مباشر، وإنما هو تأثيرٌ مشتركٌ يتعلق بمطالب تلك الاحتجاجات، ووجود تحالفٍ نخبويٍّ يدعم هذه المطالب، ورأيٍ عامٍّ يؤيدها(1).. فالنظر في التأثير ينبغي ألّا يقتصر على المظاهرات أو غيرها من صور الاحتجاج في ذاتها، وإنما يُنظر إلى ما يحتف بها من ظروفٍ وملابسات!
ولندع الأكاديميَّ السويسري قليلًا إلى أمريكيٍّ مشتغلٍ بلعبة السياسة، إلى مات هاريسون مؤسس ومدير معهد بروميثيوس المهتم بالنشاط السياسي، يكتب مقالًا بعنوان "لماذا تعد المظاهرات العامة صورةً عديمةَ الفائدة من النشاط السياسي؟!"(2)، يرى فيه أنّ الأضرار المترتبة على المظاهرات راجحة، والفوائد المتحصلة من ورائها فمتوهَّمَةٌ أو مرجوحةٌ أو تتحققُ من سبيلٍ آخر.. فرفض التظاهر كأسلوبٍ احتجاجيٍّ قد يقع من سياسيٍّ مشتغلٍ بالسياسة، بل من أحد العاملين على تطوير أشكال الاحتجاج السياسي إلى صورٍ حديثة!
ولندع ذا وذاك إلى تقرير مؤسسة راند عن حركة "كفاية" المصرية، حيث تتناول أسباب هبوط تأثير حركة كفاية ومظاهره، فتقول في كثيرٍ مما قالت: "يرى المراقبون أن الحركة ظلّت في (مرحلة الاحتجاج) لمدةٍ طويلةٍ جدًّا، وبصيغةٍ أخرى فإن الحركة ركّزت بصورةٍ كبيرةٍ جدًّا على التظاهر ولم تعط الاهتمام المطلوب لبناء قاعدة دعمٍ شعبية"(3).. فيُعد الاكتفاء بالاحتجاج دون بحثٍ عن الانتشار والتعبئة الشعبية، مما يؤدي لضعف تأثير وقوة الحركات السياسية، بمعنى أنّ الاحتجاج درجةٌ في السلم وليس كلّ السلم!
ثم تعالَ الآن إلى الإسلاميين وخلافهم الذي كان يغضبك، ولعله الآن قد بدأ يصير مقبولًا لديك، شأنه شأن كل الاختلافات التي تقبل وجودها كثمرةٍ حتميةٍ لحرية الرأي، وعساك الآن ترى أنّه من حقّ هؤلاء القوم أن يكون لهم نظرٌ مستقل، مثلما كان لمن سبقَ ذكرُهم.. يرفضون التظاهر كأسلوبٍ احتجاجيٍّ أو يقبلونه، يعتقدون بترجح المصالح المتعلقة به أو بغلبة المفاسد، من خلال النظر فيما يحتف بها من ظروفٍ وممارسات، يرون أن الاشتغال بالبناء والتوعية أولى أو يقررون أنّه لا تعارض؟؟ أليس هذا جزءًا من حقِّهم كآدميين قبل أن يكون حقَّهم كمفكرين وأصحاب قضية؟! إنّه -بلا شكّ- حقّهم لا يجادل في ذاك منصف! وهذا الذي قد كان .. فاسمع إذن!
إنّ كثيرًا من العلماء يرى جواز التظاهر كأسلوبٍ احتجاجي مادام لم يقارنه إثمٌ، ولم يكن الدافع إليه مُحرّمًا، وأغلبية فصائل العمل الإسلامي قد شاركت في مظاهراتٍ أو دعت إليها، لا يشذ عن ذلك السلفيون إذ خرج بعضهم متظاهرين -قبل الثورة- لنصرة قضيةٍ يدلس فيها الإعلام، ويداري حقيقتها عن الرأي العام، وتتخلف عنها النخبة وغالب دعاة حقوق الإنسان، لتصير قضيةً شائكة، ألا وهي قضية كاميليا شحاتة.. في حين يرى بعض أهل العلم حرمة المظاهرات لغلبة مفاسدها بما يخالطها أو ينتج عنها، أو أولوية غيرها من السبل عليها، أو عدم حصول فائدةٍ تُرتجى من ورائها، أو غير ذلك من مواطن النظر... المهم أنّ بعض أهل العلم يرى حرمة المظاهرات، وهذا حقهم، وممارستهم لهذا الحق لا تعني موالاة النظام السابق، فعداوتهم له وتضييقه عليهم قد سارت به الركبان، ويؤكدّ ذلك أمرٌ آخر لابد أن يُدرك جيدًا.. وهو أن الثورة المصرية لم تكن مجرّد مظاهرات وحسب! وإليك تفصيل ذلك!
يقول الأستاذ محمد عادل المتحدث باسم حركة 6 إبريل في إحدى اللقاءات التليفزيونية: "فرق ما بين الاحتجاج والمقاومة السلمية، الاحتجاج أن أنزل لأسجّل موقفًا عن أمرٍ معين، أقول –مثلًا- أنا أرفض تمديد العمل بقانون الطوارئ، ثمّ أذهب إلى بيتي وأنام، المقاومة هي أن تقف في وجه تنفيذ قانون الطوارئ"(4)، وعلى هذا قامت حركة 6 إبريل التي كانت بداية بزوغها الدعوة إلى إضرابٍ عام، في يوم 6 إبريل سنة 2008م، ولم تؤت تلك الدعوة الثمار المرجوة منها، وأعقبها توقيفاتٌ وتحقيقاتٌ واعتقالاتٌ بالجملة لكثيرٍ من النشطاء السياسيين والإسلاميين!
قامت حركة 6 إبريل على أساس المقاومة السلمية، وهي الفكرة التي عمل على بلورتها وسرد آلياتها، الأستاذ جين شارب Gene Sharp، ذلك الرجل الذي يقبع في العقد التاسع من عمره، بالكاد يستطيع أن يمشي، له العديد من الكتب التي تتناول فلسفة وتكييف المقاومة السلمية، وأسس معهد "ألبرت آينشتين" للتدريب على ذلك، وإليه يردُّ كثيرون إلهام الثورات التي قامت في أوربا الشرقية، وخصوصًا "ثورة البلدوزر" الصربية سنة 2000م، وحركة 6 إبريل قامت على ذات الفكرة، وتشربت تجربة حركة أوتبور Otpor الصربية(5)، وكانت تسعى لتفعيل المقاومة السلمية في مصر.. ثمّ.. ثمّ قامت ثورة تونس!
قامت الثورة التونسية وأدركت الشعوب العربية أن زوال الظالمين بأياديهم ممكن، ودعت صفحة "كلنا خالد سعيد" على الفيسبوك إلى نزول المصريين للتظاهر يوم 25 يناير 2011م وهو يوم عيد الشرطة، وقبِل الدعوة آلافٌ من الشباب المصري الطامع في "وضع حدٍّ أدنى مقبولٍ للأجور، وصرف إعانة بطالة، وإلغاء حالة الطوارئ، وإقالة وزير الداخلية، وحل مجلسي الشعب والشورى، ووضع ضماناتٍ لنزاهة العملية الانتخابية، وتعديل الدستور فيما يخص المواد المتعلقة بالترشح للرئاسة" كما كانت المطالب التي رفعتها صفحة "كلنا خالد سعيد" في أول الأمر، لا يتصور أحدهم أنّ هذا اليوم سيصير أيامًا يخلد التاريخ ذكراها، بل لا يوجد إلا فئةٌ قليلةٌ –تجد نفسها متفائلةً جدًّا- إذ تتخيل أن ينقلب تظاهر 25 يناير إلى ثورةٍ كثورات أوربا الشرقية!
وسُئل العلماء عن مظاهرات 25 يناير، فحضّ على الخروج فيها كثيرٌ من العلماء داخل مصر وخارجها؛ اتساقًا مع مذهبهم المستقر بجواز التظاهر، إضافةً لما رأوه في تونس، وأجاب بعض أهل العلم بعدم الجواز بعدما وازن بين المصالح والمفاسد، ونظر في قلة المصالح المتمثلة في الاستجابة لمطالب المظاهرات قبل ذلك، والتي لم يكن زوال رأس النظام معلنًا فيها ابتداء، ونظر في المفاسد المتمثلة في رد فعل النظام تجاه المظاهرات، مستحضرًا ما حدث في 6 إبريل 2008م، ولا ينسى أن تعامل النظام مع الإسلاميين ليس كتعامله مع غيرهم، فإسراء عبد الفتاح إحدى الداعين إلى إضراب 2008م، عندما اعتُقلت سُلطت عليها أضواء الإعلام، ورفعت قضيتها الكثير من الأقلام، وكثرت الوساطات لحسن معاملتها وإطلاق سراحها، وبالفعل خرجت سالمةً بفضل الله، لتختفي تمامًا عن المشهد ويتهمها كثيرون –ظلمًا لما ظهر بعدُ- أنّها "باعت القضية"، ولو كان مكان إسراء أحد الإسلاميين....!
فاصدقني القول تكرمًا.. أيّ شيءٍ من أفعال الإسلاميين أغضبك وجعلك ترميهم بالرجعية؟! أمن حقهم في الاختلاف أم ممارستهم الاختلاف تغضب؟! أم نظرهم فيما يحتف بالمظاهرات من ملابساتٍ كمثل دعوة الأستاذ ماركو جوجني؟! أم أنّ بعضهم لم ير جدوى للمظاهرات كمثل الناشط السياسي مات هاريسون؟! أم اهتمامهم بالبناء والتوعية أكثر من اهتمامهم بالاحتجاج كيلا يكون مصيرهم مثل حركة كفاية؟! أم كونهم ظنّوا أن يوم 25 يناير يوم تظاهرٍ وحسب كمثل عامة المصريين وغيرهم؟! أم خطأٍ فرديٍّ وقع من أحدهم فتعممه على الجميع؟! أم نسيانك أنّ كثيرًا منهم يرى جواز التظاهر والمشاركة فيه؟! أم إقصائك لمن لا يرى جواز التظاهر وحجرك على رأيه؟! أم أيّ شيءٍ هو؟!
ولكي يتضح أنّ الاتهام بركوب الموجة هو تحيّزٌ إعلاميٌّ أكثر من كونه حكمًا موضوعيًّا، فقارن بين موقف الشيخ يوسف القرضاوي وموقف الدكتور عمرو حمزاوي، فالشيخ يوسف القرضاوي معروفٌ مشهور، وله تأثيرٌ بالغٌ في كثيرٍ من الشباب، وقد سُجن واعتقل وعارض الحاكم وطُرد من مصر، وكان من أشد المساندين للثورة المصرية، وكلماته في قناة الجزيرة كانت صداعًا في رأس النظام لما لها من أثرٍ على الشعب، وخطب الجمعة التي تلت تنحي مبارك في ميدان التحرير، وبعد هذه الخطبة عادت علاقة الشيخ بالشأن المصري إلى ما كانت عليه قبل الثورة.
الدكتور عمرو حمزاوي لم يكن معروفًا قبل الثورة، وما كان لكلمته تأثيرٌ في أحدٍ من الشباب، وكان عضوًا في لجنة السياسات بالحزب الوطني لفترة، وسافر ألمانيا وحصل على الجنسية الألمانية(6)، وخرج قبل الثورة على قناة BBC العربية ليقول إن مصر ليست كتونس، لا من ناحية حجم الفساد الداعي للثورة، ولا من ناحية ثقافة وتعليم و"علمانية" –هكذا!- الشعب القائم بالثورة، مستبعدًا أن تثور مصر كما ثارت تونس(7)، وكانت كلماته أثناء الثورة كلمات محللٍ سياسي، لا كلمات ثائرٍ أو مناضل، وبعد الثورة أنشأ حزبًا سياسيًّا، ويندر يومٌ لا تلقى وجه حمزاوي أو قلمه في شيءٍ من وسائل الإعلام!
فانظر في الإعلام الموجّه يرمي الشيخ القرضاوي بركوب الموجة، بل يعرض التليفزيون المصري تقريرًا عن الثورة، وعندما يتلو قارئ التقرير فقرةً عن ركوب الموجة، لا يجد المُعد إلا أن يضع مشهد الشيخ القرضاوي وهو يخطب الجمعة في ميدان التحرير، في حين أنّني لم أقف على أحدٍ حتى الآن في الإعلام الليبرالي الحر، يتهم الدكتور عمرو حمزاوي بركوب الموجة، مع أنّ التعريف الرسمي –إن كان- لركوب الموجة على المذهب الإعلامي لو تجسّد في تجاليد إنسانٍ لما خرج عن قالب الدكتور عمرو حمزاوي!!
ثم.. ثم أتى يوم 25 يناير .. أتى وقام الشعب .. "قام الشعبُ فأسمع من كانت له أذنان، فإذا فئةٌ من محترفي السياسة، ومن كلّ محتالٍ عليم اللسان، ومن كل وجيهٍ زيّنه ماله وغناه، ومن كل ذي صيتٍ رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل، قد هبّوا جميعًا مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظنّ الشعب أنّهم قد صدقوا بعد ماضٍ كذب على التاريخ وعليهم، فرضي عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلًا حتى رأى الوادي يموج عليه بالحيات والأفاعي والعقارب، وكلِّ لدَّاغٍ ونفاثٍ وغدَّار"(8)، فهل لنا في زيارةٍ إلى هذا الوادي ونحن في حديث الركمجة؟! سوف –بإذن الله- نرى!
-----------
(*) من كلمات المناضل الجزائري العربي بن مهيدي رحمه الله، وتشبهها كلمة ماوتسي تونج "الثورة أسماك.. مياهها الشعوب".
1) Giugni M - Social protest and policy change … Ecology, antinuclear and peace movements in comparative perspective – P. 225.
2) انظر مقاله على موقع معهد برمثيوس:
http://theprometheusinstitute.org/index.php?option=com_content&view=article&id=197:why-public-demonstration-is-a-useless-form-of-activism&catid=54:politics&Itemid=37
(3)The Kefaya Movement: A Case Study of a Grassroots Reform Initiative – A report prepared by the RAND Corporation – P.39.
(4) في لقاءٍ معه ببرنامج "كل يوم" على قناة 25، واللقاء متاح على اليوتيوب كاملًا، عند الدقيقة 17 تقريبًا، مع نقل الكلام من العامية إلى الفصحى.
(5) انظر لقاء المتحدث باسم 6 إبريل الذي سبقت الإشارة إليه، وهو يحكي عن سفره إلى صربيا، لمعرفة التجربة الصربية في الثورة والاستفادة منها، وكذلك انظر تقريرًا مصوّرًا بعنوان "صناعة الثورات" يتحدث عن جين شارب، وعلاقته بالثورات في صربيا وجورجيا وأوكرانيا وغيرها، وفيه أحد أعضاء Otpor يذكر مفتخرًا أنّه درّب شباب 6 إبريل.
http://www.youtube.com/watch?v=lpXbA6yZY-8
(6) انظر مقاله: الوزارة والجنسية:
http://www.shorouknews.com/Columns/column.aspx?id=397158
(7)
http://www.youtube.com/watch?v=pYE8qyZnCfo
(8)جمهرة مقالات الشيخ محمود شاكر رحمه الله (1: 310 فما بعدها).
أبو المظفر السناري
08-15-2011, 11:46 PM
أحسن الله إليك يا حسام الدين. مقالات جيدة. وهي تُنْبِئ عن صاحبها بكونه بَصِيرًا بِمذَاهِب الْكَلام، عَلِيمًا بِمَوَاضِعِ النَّقْد، عَرَّافًا بِمَطَارِح الإِسَاءة وَالإِحْسَان. حسَنَ الْمَلَكَةِ، مليح التَّرَسُّل.
هذه شهادتي، وقد علم خُلَطائي أنني قلَّ مَنْ أرضَى؟:):
لكن زبدة الحديث: أن القوم لا يجدي معهم التحمس في درء دعواهم (ركوب الموجة ) أو (استعلاء اللُّجّة )! لأن مجتمَع أقوالهم يرمي إلى غاية واحدة! وهي رفض الاحتكام إلى شريعة الله ورسوله طوعًا أو كرهًا! رضًا أو سُخطًا! وقد حصحص بعضهم بل جماعة منهم عن ذلك صراحة! فوضَحَ النهار لِذِي عَيْنَيْنِ، وَانْكَشَفَ قِنَاع الشَّكّ عَنْ مَحْيَا الْيَقِين.
وما أرى ذلك المعترك اللفظي معهم مما يفيد في ركوب أكتافهم شيئًا! ولو كان فيه ما يُدِيلُ مِنْهُم، أو يرميهم بِسُكَاتِهِم، فيقصدَ أَقْحَافَ رَأْسهم ويتَرَكَهُم مُعْتَقَلِي اللِّسَان، كَأَنَّمَا أُفْرِغَ عَلَيْهِم من علقم الحق ذَنُوبًا!
وأنا على معرفة تامة من أن مثل مقالات أخينا حسام الدين هنا بها - عند من أنصف من نفسه ولنفسه- قد اِنْدَفَعَ الإِشْكَال، وَانْدَرَأَتْ الشُّبْهَة، وَبَرِحَ الْخَفَاء، وَانْكشَفَ الْمُوَرَّى، وَاتَّضَحَ الْمُعَمَّى، وَصَرَّحَ الْحَقّ عَن مَحْضِه، وَأَبْدَتْ الرُّغْوَة عَنْ الصَّرِيحِ، وَاستبان الصُّبْح لِذِي عَيْنَيْنِ.
ولكن أين من يقرأ؟ ومن يقرأ أين له أن يفهم؟ ومن فهم أين له أن يدرك؟ ومن أدرك كيف له يستمسك بالنَّصَفَة في أمره كله؟ سيما بعد أن أَبْدَى القوم صَفْحَة إِعْرَاضهم، وَكَشَفَوا لنا قِنَاع الْمُصَارَمَة، ورضوا أن يكونوا مع دين الله على حَدِّ مَنْكِب!
ولا أرغب بذلك تثبيطًا لتلك العزَمات، أو تقْويسًا لهذه القنوات، بل نحن مع جماعتنا في تلك الخطة نؤازرهم ونقول كما قال أسلافنا: (مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ).
لكن: ربما ضاق الصدر، ونفد الصبر، واستطال الأمر! ولم يعد في قوس الترقُّب مَنْزَع!
قد - والله - طالتِ الغفلة حتى نامتِ الفِكْرة، وعظمتْ الغفوة حتى ضعفتِ النخوة.
وصار الأمر كما قال بعضهم: ( تالله ما فسد الناس، ولكن اطَّردَ القياس، وما أظلمتْ بنا شمسُ الأيام، ولكن امتدَّ نورُ الظلام ).
والله المستعان لا رب سواه.
حسام الدين حامد
09-04-2011, 05:07 AM
بارك الله فيكم أيها الفاضل الكريم، شهادة أعتز بها، وأخوة أتمنى دوامها، ورأي أحترمه.
زادك الله علمًا وفضلًا، وجمعني وإياكم على خيرٍ أيها الشيخ الحبيب.
حسام الدين حامد
09-04-2011, 05:09 AM
ركبَ الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!"، ثمَّ تقدَّم ..."(*)
أفرأيتَ إن التقيتَ الباطلَ أول مرة، يتودد إليك بلسانٍ يُعجبك قوله، وسجعٍ يأخذك جرسه، ومجازٍ محيّرٍ لا تدري مراده، ومعنىً هو العدم من غير زيادة، يؤكّد ذا المعنى بصراخٍ هادر، ويعمّي ذلك المراد بتهكمٍ سافر، يراودك عن نفسك بخطرات الهوى، ودواعي الدَّعة، يغريك عسى أن تسخر كما يسخر، وتصرخ كما يصرخ، وتهوى أن يكون لك لسانٌ يعجِب، أرأيتَ إن ابتُليتَ بهذه الدهشة؟! فاسأل الله الثبات عند الفتن، وتعال إلى أحد مواطن هذا البلاء في شأننا هذا!
لم يجد الإعلام الليبراليّ موقفًا من مواقف الإسلاميين، يصلح مادةً تتناولها الأقلام والألسنة إلا موقف السلفيين، إذ إنّ موقف السلفيين يتسم بالتشعب والتداخل، وقد يتقاطع موقف بعضٍ منهم مع موقفِ مؤيدي النظام البائد، وهو موقفٌ نابعٌ من تنظيرٍ لا يأخذ حقُّه من البيان في الإعلام، وهو بذلك منبعٌ لإشكالاتٍ تصلح لمقالٍ يكتبه مثقف، ومبالغاتٍ يرسمها رسّامٌ هزلي، وأسئلةٍ يطرحها مذيعٌ مخضرم، وحوادثَ يخترعها صحافيٌّ مغرض، وشناعاتٍ يدندن بها سياسيٌّ محنك، وغير ذلك مما يراهن طارحُه على الجهل بالسلفية والموقف السلفي، طامعًا في الطعن في السلفيين خصوصًا والإسلاميين عمومًا، ولعل أولَ ما يُفسد هذا الرهان أن نسأل: ما موقف دعاة الليبرالية أو الحداثة أو التنوير من الثورة المصرية؟!
هل لنا أن نحكم على التنوير بالخيانة بسبب تولي جابر عصفور لمنصب وزير الثقافة وزاهي حواس لحقيبة وزارة الآثار في حكومة الوقت الضائع التي كان شفيق على رأسها؟! أيحق لي أن أصف الحداثة بالانحياز للسلطة الغاشمة لأنّ أدونيس أعلن أنّه ضد ثورة سوريا التي تخرج من عتبات الجوامع(1)؟! أيكون من شأني أن أرمي الليبرالية بالنفاق لأنّ مواقف رؤوسهم المبرّزين كانت مع النظام المصري قبل الثورة، حتى أنّ الصحافيّ سعد القرش تناول مواقف سيد ياسين وخيري شلبي وجمال الغيطاني وغيرهم تجاه مبارك قبل وبعد الثورة في كتابٍ مازال يسعى لنشره(2)؟! وهل أستطيع منصفًا أن أرمي المثقفين بتجميل وجه النظام لتأخر كثيرٍ منهم عن الدعوة والمشاركة والمساندة ولو بالكلمة في الثورات العربية؟! هل أستطيع؟!
وهنا تأتي عليك الردود أشكالًا وألوانا، ويتناولك المنتقدون زرافاتٍ ووحدانا، فكيف تعامل مذهبًا فكريًّا معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! وكيف لا تفرق بين الفكر والمنهج وبين الأفراد؟! وكيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف بلغ بك التعدّي أن تفترض أن كل الحداثيين على قول فلانٍ أو فلانٍ ممن ذكرت؟! وكيف غفلت عن المدارس الليبرالية المختلفة وجعلتَ جهلك حجةً على الليبرالية؟! وهذه أسئلةٌ ملزمةٌ نأخذها ونعيدها ونزيد عليها قليلًا!
إنّ المنهج السلفيَّ لا ينحصر في جماعةٍ أو تنظيمٍ معين، فهو منهجٌ قائمٌ على اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ذلك أنّ الله تعالى قال " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"(3)، وقال لأمة الصحابة " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"(4)، وقال صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم"(5)، وأنذر سبحانه من تولّى فقال " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"(6)، فهو دعوةٌ للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فمن يستجب لهذه الدعوة فهو سلفي، وإن يكن فردًا وحيدًا لم يسمع بجماعةٍ أو تنظيمٍ يومًا!
توجد السلفية –على المراد العرفي(7)- في الواقع في صورٍ متنوعة، كجماعةٍ لها نوع تنظيمٍ مثل الدعوة السلفية بالإسكندرية، أو مدرسةٍ يشترك رؤوسها في ذات الرؤية دون أن يكون لهم كيان جماعةٍ منظمة، مثل الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ سيد العربي والشيخ فوزي السعيد والشيخ نشأت أحمد فيما عرف بالسلفية الحركية، أو أفرادٍ من الدعاة المستقلين يرون مشروعية العمل الجماعي ولا تشملهم جماعة، أو أفرادٍ يرون بدعية العمل الجماعي ويرون في الجماعات الإسلامية صورةً من الحزبية المنكرة، وواضحٌ جدًّا أن الاختلاف بين السلفيين في أمرٍ ما ليس تناقضًا في السلفية، ولا خلطًا في موقف السلفيين، وعجيبٌ جدًّا أن يكون في خلق الله من يرى أن الاختلاف بينهم تناقضٌ في موقفهم وخلطٌ في السلفية، ولا يرى في بقية الخلاف الواقع في شتى المذاهب تناقضًا في المذهب وخلطًا من أفراده!
فإن أردتَ أن تنظر في موقف الجماعات والحركات السلفية من الثورة، فقد انقسمت إلى مؤيدٍ للمشاركة ساعٍ فيها، وممتنعٍ عن المشاركة غير ناشطٍ في صدِّ الناس عنها، أما الموقف الموافق فتمثله الحركة السلفية من أجل الإصلاح "حفص" والتي أصدرت بيانًا تؤيد التظاهرات وتدعو للمشاركة فيها، ونقلت هذا البيان بعض الصحف المستقلة مثل صحيفة الدستور الأصلي قبل الثورة، ومن الداخل فهناك الدكتور محمد يسري إذ دعا للمشاركة من أول يوم، والشيخ محمد عبد المقصود أفتى الناس بالمشاركة وهو في ميدان التحرير، وغيرهم ممن يُنسبون للمدرسة السلفية الحركية.
أما الموقف الممتنع عن المشاركة ولم ينشط في صدِّ الناس عنها، فهذا هو الإطار المجمَل لموقف الدعوة السلفية بالإسكندرية، إذ رأت "عدم المشاركة في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير"(8)، من خلال نظرهم في ميزان المصالح والمفاسد، وتوقعهم أنّ تظاهرات يناير ستكون "حركةً احتجاجيةً من ضمن فعاليات احتجاجٍ كانت ستصل إلى ذروتها في آخر الفترة الرئاسية للرئيس السابق حال إصراره على ترشيح ابنه، وربما حال إصراره على إعادة ترشيح نفسه"(9)، ولم يقع منهم نشاطٌ في نهي الناس عن التظاهر، بل ربما أثنوا على بعض الخصال الحميدة التي كشفت عنها الأحداث، وكان جلُّ اهتمامهم في حفظ الأمن الداخلي مع الأهالي.
أما الأفراد من علماء السلفية فقد تنوّعت مواقفهم كما هو متوقع، فمنهم مؤيدٌ للمشاركة من داخل وخارج مصر وهم الغالبية، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع عدم نشاطه في منع الناس عنها، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع نشاطه في تحذير الناس من المشاركة فيها من خلال النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ومنهم من اعتمد لغةً غير واضحةٍ وكان موقفه محيرًا لا يُدرى ما هو، والظاهر أنّه كان يريد تكثير المصالح بتحقيق الممكن من طلبات المتظاهرين في رأيه، مع أقل خسائر في الأرواح وفي المال العام من جهة أخرى، ومنهم من سكتَ ولم يبن عما في دخيلة نفسه أثناء الثورة مطلقًا، ومن المنتسبين للسلفية من امتنع عن المشاركة في الثورة مع تحذيره الناس من المشاركة فيها، بناءً على اعتقاده أنّ دولة مبارك دولةٌ مسلمةٌ ظالمة، لا يجوز الخروج عليها، والثورة خروجٌ لا يجوز، والدعوة إليها دعوةٌ إلى فتنة، فهو يرى صد الناس عن الخروج واجبًا، والنداء بالقعود متحتمًا!
غير أنّ نظرًا يجعل دولة مبارك مسلمة، والثورة عليها مجرّمةٌ محرمة، والعمل الجماعي بدعةٌ مهلكة، والجماعات الإسلامية حزبيةٌ منتنة، هذا النظر وإن قالت به طائفةٌ لا تطمع في شيءٍ من وراء تلك الدولة، بل فيهم من أوذي من قِبلها، إلا إنّه نظرٌ يطمع في سيادته عناصر أمن الدولة، بل يصرّح المخططون الأمريكيون بحاجتهم لدعم ونشر هذا الفكر، فبه يضربون الجماعات بعضها ببعض، ويضعفون العمل الإسلامي ويمنعون جني ثمرته، فكثُر في المشتركين في هذا النظر قومٌ هم صنيعة أمن الدولة، بل منهم من يصرّح بحفاوة استقبالهم إيّاه، وحسن إنصاتهم له وهو يعلمهم كيفية التفرقة بين الجماعات الإسلامية، وبعد الثورة أصابهم ما يصيب الحرباء، فإذا بهم يمدحون في الثورة ويحبون الثائرين! فهؤلاء الخاسرون لا يشملهم كلامي، وهم سقط الناس وسفلتهم، لا رحم الله في منافقٍ يبيع إخوانه مغرز إبرة! ومن أراد أن يحسب هؤلاء المتلونين على السلفية فإني سائله: وهل أقوّم الصحافيين من خلال مقالات رؤساء تحرير الصحف القومية قبل الثورة؟!
والحقيقة أن تأطير الأحداث بإطار اصطناع "الفوضى الخلاقة"، والذي دفع جماعةً من أهل العلم إلى عدم تبين الصواب في هذه الأحداث، فكان الأمر في نظرهم "فتنة" من هذه الجهة، لا يعرفون موضع الخير من الشر باعتبار مآل الأحداث، هذا التأطير قد تبناه غيرُ هؤلاء العلماء، فقد بسط فيه القول الباحث الأمريكي وليام إنجدال، فمثلًا في مقاله "الثورة المصرية.. الفوضى الخلّاقة من أجل صناعة الشرق الأوسط الكبير"(10)، يرى أن الثورات الصربية والجورجية والأوكرانية والتونسية والمصرية كلها تصب في المصلحة الأمريكية، ووراءها أصابع أمريكية، ويحرّك مثيريها دعمٌ أمريكي، واستطرادًا فإننا وإن أبصرنا الأحداث بمنظار "الفوضى الخلاقة"، فإنّ المصلحة المشتركة بزوال النظام الظالم، لا تعني أن باستطاعة أمريكا فرض السيناريو حتى مشهد النهاية الأمريكية السعيدة، وإنما يعني أن تُجابه تلك السعاية الأمريكية بضدها، لا أن تُعتزل ويُترك لها المجال تفعل ما تشاء بعد زوال مبارك!
هذا هو الموقف السلفي باختصار، فأيُّ شيءٍ في هذا الموقف كان ليهيّج الإعلام المحايد، ليضرب بظلفه في الصخر، ويحك قرنه بالأرض، وينفخ منخره أنفاسًا حارة، يستعد ليثب على السلفية، ولن يضيرها وسيوهِي قرنه وسينقلب حسيرًا؟! أيّ شيءٍ؟! ألم يكن الشعب المصريّ عَزوفًا عن المشاركة السياسية الفعالة لانعدامها أصلًا، ثم لما جاءت الثورة انقسم على نفسه إلى آراءٍ شتى، وخرجت من ملايينه بعضها ولم يخرج كلُّه، ثمَّ لمّا نجحت الثورة صارت ثورة الشعب المصري؟! ألم يكن هذا هو موقف أتباع المذاهب المختلفة الذين لا يشملهم تنظيمٌ ولا جماعة؟! فما بال الصدور تتسع لشتى المذاهب وتضيق عند السلفية التي مثّل أهلها حوالي 10-20% من الثائرين(11)؟!
إنّ أولئك العلماء السلفيين الذين ما شاركوا في الثورة، كان مبعث فعلهم هو النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ولا يزعمّن زاعمٌ أن الكفةَ كانت ظاهرة الرجحان في صف المصالح، بل كان من المتوقع جدًّا في بداية الأحداث أن تنقلب الثورة إلى نقمةٍ على هذا الشعب، لولا أن منَّ الله علينا وأراد بنا خيرًا، لم يكن ترك بعض علماء السلفية المشاركة من باب التزلف للنظام، والرضا به، والطمع في بقائه، فلم يُر لهم في أيام صولة النظام توددٌ إليه، ولم يُر منه ترحيبٌ بهم، وقد عُلِم منهم عدم الرضا عن حكم مبارك، والتبرم من ظلمه وبطشه، واستنكار عدم تحكيم الشريعة، ولكنّ النظر في المصالح والمفاسد آل بهم إلى غلبة المفسدة في الخروج، مستحضرين تاريخ الخروج في الإسلام وكيف كانت عاقبة الخروج سفك الدماء من غير نفع، فرأى أن الصواب عدم المشاركة في الثورة، وهؤلاء أقرّ بعضهم بالخطأ في اجتهاده في تقدير المصالح والمفاسد، وبعضهم مازال على قوله في شأن الثورة، ولا يرى أنّه يبطل قوله ما نتج عن الثورة من زوال الحاكم الظالم، فإنّه لا يمتنع أن يكون ما لا يرضاه الله شرعًا سبيلًا لتحقق ما يرضاه الله شرعًا من الناحية القدرية!
وإنّ أولئك العلماء السلفيين الذين قرروا المشاركة في الثورة، قد باعوا أرواحهم، وحملوا أكفانهم، ووضعوا رقابهم على المقصلة، فلو لم تنجح الثورة لما تردد النظام في قطع حبل المقصلة، وجعل أجسادهم عبرةً لمن تسول له نفسه قيامًا بمظاهرة، على الجانب الآخر كانت الوجوه الليبرالية والإعلامية المؤيدة للثورة في بحبوحةٍ من أمرها، حتى أنك تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك في السلطة لنهاية مدته الرئاسية، ثم تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك مع تسليمه مهامه لنائبه، لا يشمون رائحة بحر الدم الذي كان سيجري من أجساد النشطاء السياسيين ومن أجساد الإسلاميين لو ظلّ مبارك في قصره يومًا واحدًا في سعةٍ من أمره!
فمن يرمي السلفية بسوءٍ وهو لا يعرف حقيقتها، أو يعمم على السلفيين بحكمٍ وهو لا يدري مواقفهم، أو يتناولهم لسانه بزورٍ وهو لا يعلم تاريخهم، فإني سائله: كيف تعامل المنهج السلفي معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! كيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف تغفل موقف المعاضدين للثورة، والبيانات الموافقة عليها، والمقالات المشجعة لها، والفتاوى الداعية إليها، والعلماء الخارجين فيها، كيف تغفل عنها لتختصر السلفية في الموقف الرافض للثورة؟! ثم كيف لا تعترف بحق السلفيين المعارضين للثورة في الرأي طالما لم يُعرف عنهم تعاونٌ مع ظلمة النظام ولا رضًا بهم؟! ثم كيف لا تلتمس لهؤلاء الساكتين عذرًا ويكفيك منهم أنّهم ما عاونوا الظالم؟! كيف لا تتفهم امتناعهم عن إبداء الرأي فيما لم يظهر لهم وجه الصواب فيه؟! كيف تلجأ إلى المتلونين المعلوم عنهم تبعيتهم لأمن الدولة لتستنبط من كلامهم موقف السلفية، أترى أن أقوّم الصحافة من خلال مقالات الأقلام المأجورة المعلومة النفاق؟!
وعزيزٌ على نفسي أن أرى بعض إخواني في الصف السلفي، قد اهتزت ثقته بنفسه ويوشك أن يندم على ما قدم، من أثر هذه الهجمة الإعلامية المدهشة عند أول لقاء، ومن أثر بعض الأخطاء التي وقعت في الصف السلفي.. نعم! قد وقعت أخطاءٌ عديدة، وتناولت بيان بعضها أقلامٌ من داخل الصف السلفي نفسه، ليس الخطأ في تبني بعض السلفيين عدم المشاركة في الثورة كما مضى، وإنما أخطاءٌ من نوع إهدار الحق في الاختلاف، والتعمية على القول المخالف، ومحاولة ادعاء إجماع المعاصرين في نازلةٍ كهذه، والتكلم بلسان السلفية بالنيابة، وعدم التحلي بآداب الخلاف، واستعمال الخطاب غير المناسب للمتلقي، وتقدّم القُصّاص حيث ينبغي ألا يتكلم إلا الراسخون في العلم، والظهور على الشاشة الخطأ، وبطء رد الفعل في مواكبة الأحداث، والرجوع عن القول الأول دون بيان ذلك، وإقصاء المخالف من الطرفين، هذه أخطاءٌ وقعت.. فقل كما قال أنس بن النضر رضي الله عنه "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!"، وإيّاك أن تخلط فتتبرأ من أخيك الذي تعتذر عنه، وتعتذر عن مخالفك فيما هو من مواطن البراءة، وإنما اسأل الله الثبات، واعرف موضع قدميك، ثم تقدّم! فقد مضى زمانٌ كانوا يخلّونك فيه والناس! واليوم صارت المعركة معركة دعوةٍ وثوابت!
ومن معاقد الإنصاف ومواطن الفتنة فيه، أن يكونَ المرءُ مصيبًا وأخوه مخطئ، فتغريه به نفسُه ليحطّ عليه، ويذهب بماء وجهه فيذره مسودًّا، ويطرحه أرضًا لا يُبقي له على فضيلة، ولا يتركه إلا لَقىً رميمًا لا يؤبه به، فإذا به يقابل نفسَه بلجام العدالة، ويذكّرها محاسن أخيه وسابق منزلته، ثمّ يرقى فيقيم نفسه مقام أخيه ليلتمس لوجهته في النظر حجةً، ثم يرقى فيضعه في إطار منهجه وسيرته، فيراه مصيبًا في ذاته له بذلك أجر، مخطئًا في الواقع فاته بذلك أجر، ثمّ يرقى فيحفظ له مقامه، ويستزيد نصحه، ويستبقي أخوَّتَه، وإنّها لكبيرةٌ إلا على من رحم الله!
ومن تمام الردّ على ما يثيره الإعلام من أباطيل تجاه موقف السلفيين، فينكر عليهم ما هو من حقهم، ويلصق بهم ما لم يقع منهم، ويوهم تفردهم بما وقع من سائر المذاهب، ويلغي عنصر الزمن في تقييم المواقف، ويسحب أخطاء الأفراد على المنهج، من تمام الرد أن نذكر موقف بقية الإسلاميين، وسوف –بإذن الله- نرى!
-----------
(*) قاله أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد، اعتذارًا من فعل بعض المسلمين الذين قعدوا بعد أن ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وبراءةً من فعل المشركين، والقصة رواها البخاري وغيره واللفظ له رحمه الله.
(1) هذا ما صرّح به وتناقلته عنه مختلف المواقع في لقائه مع الإعلامي أحمد علي الزين في برنامج "روافد".
(2) والكتاب اسمه " الثورة الآن.. هوامش ومشاهدات من يوميات ميدان التحرير"، وخبر ذلك نشرته جريدة روزاليوسف بتاريخ 27يوليو 2011.
(3) سورة النساء: 80.
(4) آل عمران: 110.
(5) متفق عليه.
(6) النساء: 115.
(7) وقد اعتمدت في ذلك على ما اشتهر في وسائل الإعلام والدراسات الحديثة التي تتناول السلفية، مع العلم أنّ هناك تقسيماتٍ أخرى للسلفية المعاصرة لم أذكرها، ولولا مقام الحاجة للكلام بلسان يناسب المتلقي لما لجأت لهذه التقسيمات.
(8) جواب الشيخ ياسر برهامي على سؤال " ما حكم المشاركة في ثورة 25 يناير التي دعا لها عدد من الناشطين على الإنترنت اقتداءً بثورة تونس؟" وقال في جوابه " والمشايخ في الإسكندرية جميعهم -بعد تشاورهم- متفقون على ما ذكرته في إجابتي".
(9) مقال الشيخ عبد المنعم الشحات: السلفيون وكشف حساب الأزمة.
(10) F. William Engdahl: Egypt’s Revolution-Creative Destruction for a ‘Greater Middle East’
(11) ذكرت هذه النسبة دراسة أعدها المركز العربي للدراسات الإنسانية بعنوان "حقيقة موقف السلفية المصرية من ثورة 25 يناير"، وقد نقل هذه الدراسة عددٌ من الصحف ذات التوجه الليبرالي استدلالًا بها واعتمادًا عليها.
Powered by vBulletin™ Version 4.2.1 Copyright © 2024 vBulletin Solutions, ENGAGS © 2010