حسام الدين حامد
08-06-2011, 05:54 PM
ركبَ الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"الحل هو الحل ... حل النظام السياسي هو السبيل الوحيد ...
لستُ من الذين يرون أنّ إجراء إصلاحاتٍ ممكنةٍ على طريقة العمل
الحالية يمكن أن يأتي بنتائج، لأن الوضع كلّه شديد الفساد"(*)
إنّ مما أدرك الناس من كلام الحكماء، أنّه بضدها تتميّز الأشياء، وذاك برهانٌ حسنٌ ينبغي استحضاره، حين يسأل ليبراليٌّ ذليق اللسان، عن معالم دور الإسلاميين قبل الثورة المصرية، فجواب الحكيم أن تتبع بيانك بقلب السؤال، فتسأله عن أية آثارٍ للدور الليبرالي قبل الثورة.. زميلي الليبرالي! أين كنتم؟!
في كتابه "من داخل مصر .. أرض الفراعنة على حافة الثورة"، يتعرض الصحافي البريطاني جون برادلي لما رآه في مصر قبل قيام الثورة ببضع سنين، ويرصد مجتهدًا ما رآه من نُذُر الثورة ... وتقرأ كتابَ الرجل، فلا يخطر ببالك سؤالٌ عن دور الإسلاميين قبل الثورة، فقد تكفّل النصف الأول من الكتاب بعرض دور الإسلاميين من الإخوان المسلمين والأصوليين والصوفيين مع علاقة ذلك بالمسيحيين في مصر، ويتناول النصف الثاني التعذيبَ والفسادَ والمهانةَ التي انتشرت في عهد مبارك ... هذا الصحافي الذي رصد في كتابه عن المملكة السعودية، الأصوات الليبرالية كعنصرٍ أولَ في مناوشةِ النظام السعودي، لا يولّد لديك بعضًا –أو حتى شيئًا- من هذا الشعور تجاه الليبرالية في مصر(1) ... أين النشاط الليبرالي؟!
ربّما نجد جوابًا عند الأستاذ بروس رزرفورد، المتخصص في العلوم السياسية، المهتّم بسياسات الشرق الأوسط، في كتابه الصادر عام 2008م "مصر ما بعد مبارك .. الليبرالية، الإسلام، والديموقراطية في العالم العربي"، فقد أثبتَ الرجل نشاطًا ليبراليًّا في مقابل الإسلام السياسي ... الغريب أنّ الذي يقود النشاط الليبرالي عنده، ليس أحدًا من رجال الفكر المثقفين، وإنما هم رجال الأعمال حاملو لواء الليبرالية الاقتصادية(2)، غير أن رزرفورد لم يكن يدري أن هذا النشاط الليبرالي، الذي تجري به حاشية أمين لجنة سياسات الحزب الوطني، سيكون سببًا رئيسًا في اشتعال الثورة المصرية .. الأكثر غرابةً من هذا أن يجترئ أحد الليبراليين من بعد، ليسأل عن دور الإسلاميين قبل الثورة، ولا يخطر بباله أننا سنبادر بسؤاله عن دور الليبراليين قبل الثورة؟!!
إنّ خاطرةً تمرُّ بذهني أتصور فيها جماعة الليبراليين وُكّلت بمصر، وأوصاهم الموكِّل بنشر مفاهيم الليبرالية والعلمانية والديموقراطية، وبث معاني التحرر في النفوس، وغرس صورة المرأة المتحررة في الأذهان، ورفع شعار المجد للعقلانية والعقل، وكسر سلطان النصوص على القلب، والترغيب في الزواج المدني، والتنفير من القيد الديني، وبتر الإسلام عن جسد الوطن، ودفنه جيدًا بحيث لا يرى أثره، ليكون علاقةً بين المرء وربِّه في نفسه ... ثمّ مضت الأيام، وقامت الثورة، وأتى الموكِّل يرى ما فعل الليبراليون من بعده، فماذا يرى؟!
سيرى شعبًا خرج ثائرًا عزاؤه في قتلاه الشهادة، وطمأنينته في ثورته تأتيه من صلاة الجماعة، ومبعث انطلاقته متظاهرًا من ساحات المساجد ... سيرى شعبًا لا يزيل أسماء الملوك ليضع مكانها أسماء الفلاسفة، ولا يرفع الإشارة للملائكة من الأسماء لأنّها خرافة، كما فعل الثائرون عقب الثورة الفرنسية، وإنما سيرى شعبًا يزيل اسم "مبارك" ويكتب مكانه لفظ "الشهداء"، ويرفع صورة الظالم ليضع مكانه رسمًا للفظ الجلالة... سيرى شعبًا ينظّم عُقيب زوال الطاغية، مليونية صلاة الفجر لنصرة فلسطين.. سيرى شعبًا يذهب بعد تجبّر الطاغية الآخر، ليمد إخوانه في ليبيا بما استطاع من عون.. سيرى شعبًا تخرج أغلبيته لتقبل التعديلات الدستورية، ظنّا منهم أنّ الأمر استفتاءٌ على المادة الثانية من الدستور، كما تشنّع الجماعة الليبرالية في بلادنا!
وما من منصفٍ يستطيع أن يدعي أنّ الليبراليين في مصر، قد تمكن جمعهم من نشر وعي، أو رسم منهج، أو تشييد بناء، أو احتواء تجربة، أو كسب قاعدةٍ ذات وزن، تتعلق بالفكر الليبرالي وتدعو إليه.. وإني لأراه أمرًا يدعو للرثاء والنعي، ألّا يستطيع الفكر الليبراليّ صياغة شعارٍ واحد، يجد رواجًا ما في الشارع المصري، سوى شعار "الدولة المدنية" تمويهًا بالاعتماد على غموضه وبريقه وحسب، دون أن يسبق هذا الشعار عملٌ تعبويٌّ أو سعيٌ دعويٌّ في العقود الماضية، من طرف مفكري الليبرالية أصحاب الأقلام والبرامج والصحف، ولا أدلّ على ذلك التقصير والتمويه من قول الأستاذ خالد الخميسي –وهو منهم-: (أنا لا أعرف تعريفًا واضحًا وغير ملتبسٍ عن الدولة المدنية، درستُ عبر حياتى العلوم السياسية ودرست أنواعًا مختلفةً من النظم السياسية ولكننى لم أقرأ أبدًا عن نظامٍ سياسيٍّ يطلق عليه دولةً مدنية)(3)؛ فيالله ما أشد حسرة من وكَّلهم في هذه البلاد! أين ما كانوا يعرشون؟! وماذا كانوا يفعلون؟!
ومن بعد ذلك القول.. فأمامك سبيلان لمعارضة النظام الظالم، أولهما بإقامة بناءٍ محكم، تلتف حوله الجماهير فينفضون عن النظام الحاكم، وتمتلئ نفوسهم بعداوته والطمع في زوال دولته، وهذا الطريق قد انفرد به الإسلاميون، وهو سرُّ أزمة الليبراليين الحالية، افتقادهم لرؤى بنَّاءةٍ تلقى قبولًا وتصلح للتنفيذ، وبيان ذلك مضى في هذا المقال والمقالين اللذين سبقاه .. والسبيل الآخر هو سبيل الهدم والتعرية، وسلوك الليبراليين لهذا السبيل، ليس بالحجم الذي يبدو عليه بادي الرأي، فلا يستوي منتقدٌ يرى نفسه في ظلّ نظامٍ قابلٍ للإصلاح، ونقاط التقائه مع النظام أكثر من مواضع الاختلاف، فهذا ينتقد ليصل صوتُه فتجري إصلاحات، فهذا على الحقيقة متسقٌ مع النظام، لا يستوي هذا ومن يرى أنَّ الوضع شديد الفساد لا يقبل الإصلاح، فانتقاده هدمٌ وتعريةٌ وزلزلةٌ لكيانٍ آيلٍ للسقوط، وبالمثال يتضح المقال .. فاقرأ معي!
"إغلاق القنوات الدينية التي تحرّض على الفتنة مطلبٌ صحيح، ويتفق مع فكرة مدنية الدولة، لكن السؤال هنا هل يريدون بهذه الخطوة عمل دخانٍ كثيف، تتم التغطية به على تقييد الحريات، والقضاء على الهامش الصغير لحرية وتداول المعلومات، فالظرف الذي أغلقت فيه القنوات غريب، رغم أنني ضد كل المحطات الدينية الإسلامية منها والمسيحية، السنية منها والشيعية، لأنها تنشر النعرات والمذاهب ... والسؤال الأهم: لماذا سمحوا لها من الأساس بالبث؟ ولماذا تغلق الآن رغم كون إغلاقها كان مطلبًا من الجماعة الوطنية المصرية التي تتحدث عن مدنية الدولة، وقلقةٌ ومفزوعةٌ من تهييج الفتنة الطائفية، ولم يتم الالتفات إلى هذه المطالبات ولم تلق اهتمامًا"
إنّ هذه الفقرة السابقة ليست وصالًا غزليًّا يمده أحد المنافقين المعلومين طمعًا في منصبٍ ما، مكافأةً على ترقيعه ما اهترأ من نسيج ديموقراطية النظام، بدعوى الحفاظ على مدنية الدولة، عن طريق إغلاق قنواتٍ دينيةٍ خاصةٍ مملوكةٍ لأصحابها، لا يمكن منعها في أي نظامٍ ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ في العالم، دون تحقيقٍ مستقلٍّ يثبت تورط كل قناةٍ على حدة في مصادمة مدنية الدولة وسلامها الاجتماعي، وموطن عجب المتحدث يكمن في التوقيت فحسب، فقد كان يطمع من (دولة مبارك المدنية) أن تمنع بث هذه القنوات من الأساس، موافقةً لمطلب "الجماعة الوطنية المصرية" .. هذه الفقرة هي جزءٌ من حوارٍ جرى قبل الثورة، مع الإعلامي المعارض المتصدر لمنصة الليبرالية في ميدان التحرير هذه الأيام، الأستاذ حسين عبد الغني مدير مكتب قناة الجزيرة السابق(4)!
ليس مدار النظر بالأساس على التمثيل لعقد كثيرٍ من المثقفين المصريين "صفقةً غير مكتوبةٍ مع النظام، قوامها سكوتهم عن معارضة النظام معارضةً تناسب طغيانه -أو عدم معارضته بالمرة- مقابل قمع النظام للأعداء المشتركين المتمثلين في التيار الإسلامي"(5)، مهما كان هذا التيار معارضًا .. مخاصمًا .. مصادمًا، بل على عكس المفترض من "الجماعة الوطنية الليبرالية"، فإنّه كلما ازداد التيار الإسلامي عملًا وتأثيرًا وحركة، ازدادت عداوة هؤلاء المثقفين له وتحريضهم عليه، بينما أيّ عملٍ إسلاميّ يقع تحت جناح الدولة، ويلتزم بسبيلها، فهو حبيبهم وقطب مدحهم، ولا أدل على ذلك من مواقفهم من الأزهر وهو كسير الجناح، وتمثّلهم إياه أنموذجًا يقتفى وطريقةً تعمّم، بدلًا من مؤسسةٍ تقزّم دورها جدًّا لتقع في ظل الطاغية!
إنما مدار النظر على نظرة الأستاذ حسين والجماعة الوطنية المصرية - من معارفه - لدولة مبارك، كدولةٍ مدنيةٍ تنقصها خطوات إصلاحٍ وتحديث، تستحث هذه الخطوات جماعةٌ معارضةٌ تلتزم بإطار نظام دولة مبارك، وتنادي بالإصلاح من خلال آليات هذا النظام، فتطالب –مثلًا- بإغلاق القنوات الدينية حفاظًا على مدنية الدولة، وتطالب بحرية الإعلام ورفع يد الدولة عنه حفاظًا -هذه المرة- على ديموقراطية الدولة، ثم تطالب بمنع إنشاء أحزابٍ على أسس دينية حفاظًا على مدنية الدولة، ثم تعود لتطالب بحرية إنشاء الأحزاب حفاظًا –أحسنت!- على ديموقراطية الدولة ... هذه النظرة كنتُ أتشربها في قلبي انطباعًا عن جماعة الأستاذ حسين الوطنية، من خلال كتاباتهم وأحاديثهم وحواراتهم وجميع نشاطاتهم!!
إنّ مجرد الاختلاف مع النظام لا يعني أنك مخاصمٌ للنظام، وإن نشرت المقالات وهيّجت الناس، وهددت بالاعتزال أو الإضراب عن الطعام، ودونك شنودة واختلافاته مع نظام مبارك، بمثل القانون الموحد لدور العبادة، وقضية طلاق النصارى، والمظلومية المتكررة من عدم تكافؤ الفرص، فهذه الاختلافات لم تكن لتجعل شنودة في مصاف المخاصمين لمبارك، فقد كان كلاهما يُسند الآخر ويقوم به، ورأينا مصداق ذلك في دعوة شنودة لعدم الخروج في مظاهرات يناير، وتجديده الثقة في مبارك، وحزنه على زوال حكم مبارك ... وهذا كلُّه منسجمٌ في سياقٍ واضح، من أنّ نظام مبارك في العموم كان يوافق مراد شنودة، إلا أنّه كان في حاجةٍ إلى بعض الإصلاحات والتحديثات التي قد تأتي -أو ستأتي- مع الوقت!
والتفرقة بين المخاصم للنظام الساعي لهدمه، وبين المتسق معه الساعي لإصلاحه، وإن كان كلاهما يندرج تحت مظلة المعارضة، هذه التفرقة تفسر الكثير من المواقف(6)، مثل موقف الدكتور يحيى الجمل، الذي كان عضوًا في الجبهة الوطنية للتغيير، وأحد مؤسسي حزب الجبهة الديموقراطية، وفي نفس الوقت كان يسعى بكل طاقته لإنعاش حكومة شفيق، ويطوف القنوات الفضائية مؤكدًا على ضرورة بقاء مبارك، حتى لا يُحدث غيابُه فراغًا دستوريًّا، وكأنّه لا يدري معنى الثورة ولا يعرف إمكاناتها، ومن لا يستحضر هذا الفرق فسوف يرى موقف يحيى الجمل عصيًّا على التفسير، بل رأته الكاتبة نجلاء بدير مستحيلًا(7)!!
أما وقد انتفى عن الليبرالية معارضةٌ بنّاءة، بشهادة الصحافي المتابع، وكلمة السياسيّ المتخصص، ودلالة الواقع، وحسرة الموكّل، ثمّ رأينا فرقانًا بين طريق الانتقاد بنية إصلاح النّظام، وطريق المعارضة الهدّامة لبنيان الطغيان، بحيث إذا ما اتُّخذ هذا الفرقان معيارًا، خرج لنا من الليبراليين الصادقين نفرٌ قليل، لهم عندنا عرفانٌ بدورهم وجرأتهم في تعرية الظلم وصدقهم في الحث على زواله، بغضّ النظر عن تأثير مثل هذه الأصوات القليلة على دولة مبارك، فما عليهم إلا أداء واجبهم وتأدية الأمانة التي في أعناقهم.. أما وقد أُجمل ذلك ومُثّل له، فعسى أن يكون الفرق قد اتضح بين دور الإسلاميين وحجمه، بمشاركة جمعهم في البناء، ونفرٍ منهم في الهدم، ودور الليبراليين، بغياب جمعهم عن البناء، وحضور نفرٍ منهم في مقام الهدم، وهكذا بضدها تتميز الأشياء، ويقتنع المنصف، وينقطع المتطاول ظلمًا ... ثم لم يبق إلا أن نرى موقف الإسلاميين من التصادم والهدم، ونتعرض للعلاقة بين الإسلاميين وجيفارا والدكتور زويل... وما حكاية هذه العلاقة؟! سوف –بإذن الله- نرى!
--------------
(*) الأستاذ عبد الحليم قنديل في لقاء مع قناة الجزيرة قبل الثورة.
(1) انظر كتابيّ جون برادلي:
Inside Egypt: The land of the pharaohs on the brink of a revolution
Saudi Arabia exposed: Inside a kingdom in crisis
وبعد الثورة .. فقد أصدر برادلي كتابه "تسونامي تونس.. لماذا على الغرب أن يستعد للأصولية الإسلامية؟!"، ليخبر الغرب أنّ القادم في أرض العرب، ليس الليبرالية ولا العلمانية ولا غيرها من الرؤى الغربية، وإنما هو الإسلام الأصولي وعلى الغرب أن يستعد لذلك، والكتاب مخطَّط لنشره في يناير 2012م.
(2) انظر كتاب بروس رزرفورد:
Egypt after Mubarak: Liberalism, Islam, and Democracy in the Arab World
وكذلك اللقاء المصوّر معه –وهو متاحٌ على اليوتيوب- حول نفس الموضوع بعنوان:
Egypt after Mubarak- Challenges and Opportunities in Egyptian Politics
(3) مقال الأستاذ خالد الخميسي: هل يمكن تطبيق الشريعة فى دولة مدنية ديمقراطية؟
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=488504
(4) اللقاء مع الأستاذ حسين عبد الغني في المصري اليوم:
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=274349&IssueID=1932
(5) مقال الشيخ أبي فهر السلفي: كيف كرس العلمانيون للاستبداد السياسي في مصر.
http://www.nahdaislah.com/article/81--.aspx
(6) وخذ أيضًا موقف مجدي الجلاد رئيس تحرير جريدة المصري اليوم، وهي جريدة مستقلة يعدها كثيرون معارضة، فهذا الموقع لا يمنع مجدي الجلاد من أن يكون محبًّا لجمال مبارك، موافقًا على انتخابه، معترفًا له بإصلاحات اقتصادية سواءً اختلف معه أو اتفق!
http://www.youtube.com/watch?v=7OVFWYf3Z28
(7) انظر مقالها في الدستور الأصلي بعنوان: تعديل وزاري!
http://www.dostor.org/authors/11/59/11/february/23/36850
"الحل هو الحل ... حل النظام السياسي هو السبيل الوحيد ...
لستُ من الذين يرون أنّ إجراء إصلاحاتٍ ممكنةٍ على طريقة العمل
الحالية يمكن أن يأتي بنتائج، لأن الوضع كلّه شديد الفساد"(*)
إنّ مما أدرك الناس من كلام الحكماء، أنّه بضدها تتميّز الأشياء، وذاك برهانٌ حسنٌ ينبغي استحضاره، حين يسأل ليبراليٌّ ذليق اللسان، عن معالم دور الإسلاميين قبل الثورة المصرية، فجواب الحكيم أن تتبع بيانك بقلب السؤال، فتسأله عن أية آثارٍ للدور الليبرالي قبل الثورة.. زميلي الليبرالي! أين كنتم؟!
في كتابه "من داخل مصر .. أرض الفراعنة على حافة الثورة"، يتعرض الصحافي البريطاني جون برادلي لما رآه في مصر قبل قيام الثورة ببضع سنين، ويرصد مجتهدًا ما رآه من نُذُر الثورة ... وتقرأ كتابَ الرجل، فلا يخطر ببالك سؤالٌ عن دور الإسلاميين قبل الثورة، فقد تكفّل النصف الأول من الكتاب بعرض دور الإسلاميين من الإخوان المسلمين والأصوليين والصوفيين مع علاقة ذلك بالمسيحيين في مصر، ويتناول النصف الثاني التعذيبَ والفسادَ والمهانةَ التي انتشرت في عهد مبارك ... هذا الصحافي الذي رصد في كتابه عن المملكة السعودية، الأصوات الليبرالية كعنصرٍ أولَ في مناوشةِ النظام السعودي، لا يولّد لديك بعضًا –أو حتى شيئًا- من هذا الشعور تجاه الليبرالية في مصر(1) ... أين النشاط الليبرالي؟!
ربّما نجد جوابًا عند الأستاذ بروس رزرفورد، المتخصص في العلوم السياسية، المهتّم بسياسات الشرق الأوسط، في كتابه الصادر عام 2008م "مصر ما بعد مبارك .. الليبرالية، الإسلام، والديموقراطية في العالم العربي"، فقد أثبتَ الرجل نشاطًا ليبراليًّا في مقابل الإسلام السياسي ... الغريب أنّ الذي يقود النشاط الليبرالي عنده، ليس أحدًا من رجال الفكر المثقفين، وإنما هم رجال الأعمال حاملو لواء الليبرالية الاقتصادية(2)، غير أن رزرفورد لم يكن يدري أن هذا النشاط الليبرالي، الذي تجري به حاشية أمين لجنة سياسات الحزب الوطني، سيكون سببًا رئيسًا في اشتعال الثورة المصرية .. الأكثر غرابةً من هذا أن يجترئ أحد الليبراليين من بعد، ليسأل عن دور الإسلاميين قبل الثورة، ولا يخطر بباله أننا سنبادر بسؤاله عن دور الليبراليين قبل الثورة؟!!
إنّ خاطرةً تمرُّ بذهني أتصور فيها جماعة الليبراليين وُكّلت بمصر، وأوصاهم الموكِّل بنشر مفاهيم الليبرالية والعلمانية والديموقراطية، وبث معاني التحرر في النفوس، وغرس صورة المرأة المتحررة في الأذهان، ورفع شعار المجد للعقلانية والعقل، وكسر سلطان النصوص على القلب، والترغيب في الزواج المدني، والتنفير من القيد الديني، وبتر الإسلام عن جسد الوطن، ودفنه جيدًا بحيث لا يرى أثره، ليكون علاقةً بين المرء وربِّه في نفسه ... ثمّ مضت الأيام، وقامت الثورة، وأتى الموكِّل يرى ما فعل الليبراليون من بعده، فماذا يرى؟!
سيرى شعبًا خرج ثائرًا عزاؤه في قتلاه الشهادة، وطمأنينته في ثورته تأتيه من صلاة الجماعة، ومبعث انطلاقته متظاهرًا من ساحات المساجد ... سيرى شعبًا لا يزيل أسماء الملوك ليضع مكانها أسماء الفلاسفة، ولا يرفع الإشارة للملائكة من الأسماء لأنّها خرافة، كما فعل الثائرون عقب الثورة الفرنسية، وإنما سيرى شعبًا يزيل اسم "مبارك" ويكتب مكانه لفظ "الشهداء"، ويرفع صورة الظالم ليضع مكانه رسمًا للفظ الجلالة... سيرى شعبًا ينظّم عُقيب زوال الطاغية، مليونية صلاة الفجر لنصرة فلسطين.. سيرى شعبًا يذهب بعد تجبّر الطاغية الآخر، ليمد إخوانه في ليبيا بما استطاع من عون.. سيرى شعبًا تخرج أغلبيته لتقبل التعديلات الدستورية، ظنّا منهم أنّ الأمر استفتاءٌ على المادة الثانية من الدستور، كما تشنّع الجماعة الليبرالية في بلادنا!
وما من منصفٍ يستطيع أن يدعي أنّ الليبراليين في مصر، قد تمكن جمعهم من نشر وعي، أو رسم منهج، أو تشييد بناء، أو احتواء تجربة، أو كسب قاعدةٍ ذات وزن، تتعلق بالفكر الليبرالي وتدعو إليه.. وإني لأراه أمرًا يدعو للرثاء والنعي، ألّا يستطيع الفكر الليبراليّ صياغة شعارٍ واحد، يجد رواجًا ما في الشارع المصري، سوى شعار "الدولة المدنية" تمويهًا بالاعتماد على غموضه وبريقه وحسب، دون أن يسبق هذا الشعار عملٌ تعبويٌّ أو سعيٌ دعويٌّ في العقود الماضية، من طرف مفكري الليبرالية أصحاب الأقلام والبرامج والصحف، ولا أدلّ على ذلك التقصير والتمويه من قول الأستاذ خالد الخميسي –وهو منهم-: (أنا لا أعرف تعريفًا واضحًا وغير ملتبسٍ عن الدولة المدنية، درستُ عبر حياتى العلوم السياسية ودرست أنواعًا مختلفةً من النظم السياسية ولكننى لم أقرأ أبدًا عن نظامٍ سياسيٍّ يطلق عليه دولةً مدنية)(3)؛ فيالله ما أشد حسرة من وكَّلهم في هذه البلاد! أين ما كانوا يعرشون؟! وماذا كانوا يفعلون؟!
ومن بعد ذلك القول.. فأمامك سبيلان لمعارضة النظام الظالم، أولهما بإقامة بناءٍ محكم، تلتف حوله الجماهير فينفضون عن النظام الحاكم، وتمتلئ نفوسهم بعداوته والطمع في زوال دولته، وهذا الطريق قد انفرد به الإسلاميون، وهو سرُّ أزمة الليبراليين الحالية، افتقادهم لرؤى بنَّاءةٍ تلقى قبولًا وتصلح للتنفيذ، وبيان ذلك مضى في هذا المقال والمقالين اللذين سبقاه .. والسبيل الآخر هو سبيل الهدم والتعرية، وسلوك الليبراليين لهذا السبيل، ليس بالحجم الذي يبدو عليه بادي الرأي، فلا يستوي منتقدٌ يرى نفسه في ظلّ نظامٍ قابلٍ للإصلاح، ونقاط التقائه مع النظام أكثر من مواضع الاختلاف، فهذا ينتقد ليصل صوتُه فتجري إصلاحات، فهذا على الحقيقة متسقٌ مع النظام، لا يستوي هذا ومن يرى أنَّ الوضع شديد الفساد لا يقبل الإصلاح، فانتقاده هدمٌ وتعريةٌ وزلزلةٌ لكيانٍ آيلٍ للسقوط، وبالمثال يتضح المقال .. فاقرأ معي!
"إغلاق القنوات الدينية التي تحرّض على الفتنة مطلبٌ صحيح، ويتفق مع فكرة مدنية الدولة، لكن السؤال هنا هل يريدون بهذه الخطوة عمل دخانٍ كثيف، تتم التغطية به على تقييد الحريات، والقضاء على الهامش الصغير لحرية وتداول المعلومات، فالظرف الذي أغلقت فيه القنوات غريب، رغم أنني ضد كل المحطات الدينية الإسلامية منها والمسيحية، السنية منها والشيعية، لأنها تنشر النعرات والمذاهب ... والسؤال الأهم: لماذا سمحوا لها من الأساس بالبث؟ ولماذا تغلق الآن رغم كون إغلاقها كان مطلبًا من الجماعة الوطنية المصرية التي تتحدث عن مدنية الدولة، وقلقةٌ ومفزوعةٌ من تهييج الفتنة الطائفية، ولم يتم الالتفات إلى هذه المطالبات ولم تلق اهتمامًا"
إنّ هذه الفقرة السابقة ليست وصالًا غزليًّا يمده أحد المنافقين المعلومين طمعًا في منصبٍ ما، مكافأةً على ترقيعه ما اهترأ من نسيج ديموقراطية النظام، بدعوى الحفاظ على مدنية الدولة، عن طريق إغلاق قنواتٍ دينيةٍ خاصةٍ مملوكةٍ لأصحابها، لا يمكن منعها في أي نظامٍ ديموقراطيٍّ حقيقيٍّ في العالم، دون تحقيقٍ مستقلٍّ يثبت تورط كل قناةٍ على حدة في مصادمة مدنية الدولة وسلامها الاجتماعي، وموطن عجب المتحدث يكمن في التوقيت فحسب، فقد كان يطمع من (دولة مبارك المدنية) أن تمنع بث هذه القنوات من الأساس، موافقةً لمطلب "الجماعة الوطنية المصرية" .. هذه الفقرة هي جزءٌ من حوارٍ جرى قبل الثورة، مع الإعلامي المعارض المتصدر لمنصة الليبرالية في ميدان التحرير هذه الأيام، الأستاذ حسين عبد الغني مدير مكتب قناة الجزيرة السابق(4)!
ليس مدار النظر بالأساس على التمثيل لعقد كثيرٍ من المثقفين المصريين "صفقةً غير مكتوبةٍ مع النظام، قوامها سكوتهم عن معارضة النظام معارضةً تناسب طغيانه -أو عدم معارضته بالمرة- مقابل قمع النظام للأعداء المشتركين المتمثلين في التيار الإسلامي"(5)، مهما كان هذا التيار معارضًا .. مخاصمًا .. مصادمًا، بل على عكس المفترض من "الجماعة الوطنية الليبرالية"، فإنّه كلما ازداد التيار الإسلامي عملًا وتأثيرًا وحركة، ازدادت عداوة هؤلاء المثقفين له وتحريضهم عليه، بينما أيّ عملٍ إسلاميّ يقع تحت جناح الدولة، ويلتزم بسبيلها، فهو حبيبهم وقطب مدحهم، ولا أدل على ذلك من مواقفهم من الأزهر وهو كسير الجناح، وتمثّلهم إياه أنموذجًا يقتفى وطريقةً تعمّم، بدلًا من مؤسسةٍ تقزّم دورها جدًّا لتقع في ظل الطاغية!
إنما مدار النظر على نظرة الأستاذ حسين والجماعة الوطنية المصرية - من معارفه - لدولة مبارك، كدولةٍ مدنيةٍ تنقصها خطوات إصلاحٍ وتحديث، تستحث هذه الخطوات جماعةٌ معارضةٌ تلتزم بإطار نظام دولة مبارك، وتنادي بالإصلاح من خلال آليات هذا النظام، فتطالب –مثلًا- بإغلاق القنوات الدينية حفاظًا على مدنية الدولة، وتطالب بحرية الإعلام ورفع يد الدولة عنه حفاظًا -هذه المرة- على ديموقراطية الدولة، ثم تطالب بمنع إنشاء أحزابٍ على أسس دينية حفاظًا على مدنية الدولة، ثم تعود لتطالب بحرية إنشاء الأحزاب حفاظًا –أحسنت!- على ديموقراطية الدولة ... هذه النظرة كنتُ أتشربها في قلبي انطباعًا عن جماعة الأستاذ حسين الوطنية، من خلال كتاباتهم وأحاديثهم وحواراتهم وجميع نشاطاتهم!!
إنّ مجرد الاختلاف مع النظام لا يعني أنك مخاصمٌ للنظام، وإن نشرت المقالات وهيّجت الناس، وهددت بالاعتزال أو الإضراب عن الطعام، ودونك شنودة واختلافاته مع نظام مبارك، بمثل القانون الموحد لدور العبادة، وقضية طلاق النصارى، والمظلومية المتكررة من عدم تكافؤ الفرص، فهذه الاختلافات لم تكن لتجعل شنودة في مصاف المخاصمين لمبارك، فقد كان كلاهما يُسند الآخر ويقوم به، ورأينا مصداق ذلك في دعوة شنودة لعدم الخروج في مظاهرات يناير، وتجديده الثقة في مبارك، وحزنه على زوال حكم مبارك ... وهذا كلُّه منسجمٌ في سياقٍ واضح، من أنّ نظام مبارك في العموم كان يوافق مراد شنودة، إلا أنّه كان في حاجةٍ إلى بعض الإصلاحات والتحديثات التي قد تأتي -أو ستأتي- مع الوقت!
والتفرقة بين المخاصم للنظام الساعي لهدمه، وبين المتسق معه الساعي لإصلاحه، وإن كان كلاهما يندرج تحت مظلة المعارضة، هذه التفرقة تفسر الكثير من المواقف(6)، مثل موقف الدكتور يحيى الجمل، الذي كان عضوًا في الجبهة الوطنية للتغيير، وأحد مؤسسي حزب الجبهة الديموقراطية، وفي نفس الوقت كان يسعى بكل طاقته لإنعاش حكومة شفيق، ويطوف القنوات الفضائية مؤكدًا على ضرورة بقاء مبارك، حتى لا يُحدث غيابُه فراغًا دستوريًّا، وكأنّه لا يدري معنى الثورة ولا يعرف إمكاناتها، ومن لا يستحضر هذا الفرق فسوف يرى موقف يحيى الجمل عصيًّا على التفسير، بل رأته الكاتبة نجلاء بدير مستحيلًا(7)!!
أما وقد انتفى عن الليبرالية معارضةٌ بنّاءة، بشهادة الصحافي المتابع، وكلمة السياسيّ المتخصص، ودلالة الواقع، وحسرة الموكّل، ثمّ رأينا فرقانًا بين طريق الانتقاد بنية إصلاح النّظام، وطريق المعارضة الهدّامة لبنيان الطغيان، بحيث إذا ما اتُّخذ هذا الفرقان معيارًا، خرج لنا من الليبراليين الصادقين نفرٌ قليل، لهم عندنا عرفانٌ بدورهم وجرأتهم في تعرية الظلم وصدقهم في الحث على زواله، بغضّ النظر عن تأثير مثل هذه الأصوات القليلة على دولة مبارك، فما عليهم إلا أداء واجبهم وتأدية الأمانة التي في أعناقهم.. أما وقد أُجمل ذلك ومُثّل له، فعسى أن يكون الفرق قد اتضح بين دور الإسلاميين وحجمه، بمشاركة جمعهم في البناء، ونفرٍ منهم في الهدم، ودور الليبراليين، بغياب جمعهم عن البناء، وحضور نفرٍ منهم في مقام الهدم، وهكذا بضدها تتميز الأشياء، ويقتنع المنصف، وينقطع المتطاول ظلمًا ... ثم لم يبق إلا أن نرى موقف الإسلاميين من التصادم والهدم، ونتعرض للعلاقة بين الإسلاميين وجيفارا والدكتور زويل... وما حكاية هذه العلاقة؟! سوف –بإذن الله- نرى!
--------------
(*) الأستاذ عبد الحليم قنديل في لقاء مع قناة الجزيرة قبل الثورة.
(1) انظر كتابيّ جون برادلي:
Inside Egypt: The land of the pharaohs on the brink of a revolution
Saudi Arabia exposed: Inside a kingdom in crisis
وبعد الثورة .. فقد أصدر برادلي كتابه "تسونامي تونس.. لماذا على الغرب أن يستعد للأصولية الإسلامية؟!"، ليخبر الغرب أنّ القادم في أرض العرب، ليس الليبرالية ولا العلمانية ولا غيرها من الرؤى الغربية، وإنما هو الإسلام الأصولي وعلى الغرب أن يستعد لذلك، والكتاب مخطَّط لنشره في يناير 2012م.
(2) انظر كتاب بروس رزرفورد:
Egypt after Mubarak: Liberalism, Islam, and Democracy in the Arab World
وكذلك اللقاء المصوّر معه –وهو متاحٌ على اليوتيوب- حول نفس الموضوع بعنوان:
Egypt after Mubarak- Challenges and Opportunities in Egyptian Politics
(3) مقال الأستاذ خالد الخميسي: هل يمكن تطبيق الشريعة فى دولة مدنية ديمقراطية؟
http://www.shorouknews.com/Columns/Column.aspx?id=488504
(4) اللقاء مع الأستاذ حسين عبد الغني في المصري اليوم:
http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=274349&IssueID=1932
(5) مقال الشيخ أبي فهر السلفي: كيف كرس العلمانيون للاستبداد السياسي في مصر.
http://www.nahdaislah.com/article/81--.aspx
(6) وخذ أيضًا موقف مجدي الجلاد رئيس تحرير جريدة المصري اليوم، وهي جريدة مستقلة يعدها كثيرون معارضة، فهذا الموقع لا يمنع مجدي الجلاد من أن يكون محبًّا لجمال مبارك، موافقًا على انتخابه، معترفًا له بإصلاحات اقتصادية سواءً اختلف معه أو اتفق!
http://www.youtube.com/watch?v=7OVFWYf3Z28
(7) انظر مقالها في الدستور الأصلي بعنوان: تعديل وزاري!
http://www.dostor.org/authors/11/59/11/february/23/36850