حسام الدين حامد
09-04-2011, 05:06 AM
ركبَ الموجة ...! ركبته الموجة ...!
"قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!"، ثمَّ تقدَّم ..."(*)
أفرأيتَ إن التقيتَ الباطلَ أول مرة، يتودد إليك بلسانٍ يُعجبك قوله، وسجعٍ يأخذك جرسه، ومجازٍ محيّرٍ لا تدري مراده، ومعنىً هو العدم من غير زيادة، يؤكّد ذا المعنى بصراخٍ هادر، ويعمّي ذلك المراد بتهكمٍ سافر، يراودك عن نفسك بخطرات الهوى، ودواعي الدَّعة، يغريك عسى أن تسخر كما يسخر، وتصرخ كما يصرخ، وتهوى أن يكون لك لسانٌ يعجِب، أرأيتَ إن ابتُليتَ بهذه الدهشة؟! فاسأل الله الثبات عند الفتن، وتعال إلى أحد مواطن هذا البلاء في شأننا هذا!
لم يجد الإعلام الليبراليّ موقفًا من مواقف الإسلاميين، يصلح مادةً تتناولها الأقلام والألسنة إلا موقف السلفيين، إذ إنّ موقف السلفيين يتسم بالتشعب والتداخل، وقد يتقاطع موقف بعضٍ منهم مع موقفِ مؤيدي النظام البائد، وهو موقفٌ نابعٌ من تنظيرٍ لا يأخذ حقُّه من البيان في الإعلام، وهو بذلك منبعٌ لإشكالاتٍ تصلح لمقالٍ يكتبه مثقف، ومبالغاتٍ يرسمها رسّامٌ هزلي، وأسئلةٍ يطرحها مذيعٌ مخضرم، وحوادثَ يخترعها صحافيٌّ مغرض، وشناعاتٍ يدندن بها سياسيٌّ محنك، وغير ذلك مما يراهن طارحُه على الجهل بالسلفية والموقف السلفي، طامعًا في الطعن في السلفيين خصوصًا والإسلاميين عمومًا، ولعل أولَ ما يُفسد هذا الرهان أن نسأل: ما موقف دعاة الليبرالية أو الحداثة أو التنوير من الثورة المصرية؟!
هل لنا أن نحكم على التنوير بالخيانة بسبب تولي جابر عصفور لمنصب وزير الثقافة وزاهي حواس لحقيبة وزارة الآثار في حكومة الوقت الضائع التي كان شفيق على رأسها؟! أيحق لي أن أصف الحداثة بالانحياز للسلطة الغاشمة لأنّ أدونيس أعلن أنّه ضد ثورة سوريا التي تخرج من عتبات الجوامع(1)؟! أيكون من شأني أن أرمي الليبرالية بالنفاق لأنّ مواقف رؤوسهم المبرّزين كانت مع النظام المصري قبل الثورة، حتى أنّ الصحافيّ سعد القرش تناول مواقف سيد ياسين وخيري شلبي وجمال الغيطاني وغيرهم تجاه مبارك قبل وبعد الثورة في كتابٍ مازال يسعى لنشره(2)؟! وهل أستطيع منصفًا أن أرمي المثقفين بتجميل وجه النظام لتأخر كثيرٍ منهم عن الدعوة والمشاركة والمساندة ولو بالكلمة في الثورات العربية؟! هل أستطيع؟!
وهنا تأتي عليك الردود أشكالًا وألوانا، ويتناولك المنتقدون زرافاتٍ ووحدانا، فكيف تعامل مذهبًا فكريًّا معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! وكيف لا تفرق بين الفكر والمنهج وبين الأفراد؟! وكيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف بلغ بك التعدّي أن تفترض أن كل الحداثيين على قول فلانٍ أو فلانٍ ممن ذكرت؟! وكيف غفلت عن المدارس الليبرالية المختلفة وجعلتَ جهلك حجةً على الليبرالية؟! وهذه أسئلةٌ ملزمةٌ نأخذها ونعيدها ونزيد عليها قليلًا!
إنّ المنهج السلفيَّ لا ينحصر في جماعةٍ أو تنظيمٍ معين، فهو منهجٌ قائمٌ على اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ذلك أنّ الله تعالى قال " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"(3)، وقال لأمة الصحابة " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"(4)، وقال صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم"(5)، وأنذر سبحانه من تولّى فقال " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"(6)، فهو دعوةٌ للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فمن يستجب لهذه الدعوة فهو سلفي، وإن يكن فردًا وحيدًا لم يسمع بجماعةٍ أو تنظيمٍ يومًا!
توجد السلفية –على المراد العرفي(7)- في الواقع في صورٍ متنوعة، كجماعةٍ لها نوع تنظيمٍ مثل الدعوة السلفية بالإسكندرية، أو مدرسةٍ يشترك رؤوسها في ذات الرؤية دون أن يكون لهم كيان جماعةٍ منظمة، مثل الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ سيد العربي والشيخ فوزي السعيد والشيخ نشأت أحمد فيما عرف بالسلفية الحركية، أو أفرادٍ من الدعاة المستقلين يرون مشروعية العمل الجماعي ولا تشملهم جماعة، أو أفرادٍ يرون بدعية العمل الجماعي ويرون في الجماعات الإسلامية صورةً من الحزبية المنكرة، وواضحٌ جدًّا أن الاختلاف بين السلفيين في أمرٍ ما ليس تناقضًا في السلفية، ولا خلطًا في موقف السلفيين، وعجيبٌ جدًّا أن يكون في خلق الله من يرى أن الاختلاف بينهم تناقضٌ في موقفهم وخلطٌ في السلفية، ولا يرى في بقية الخلاف الواقع في شتى المذاهب تناقضًا في المذهب وخلطًا من أفراده!
فإن أردتَ أن تنظر في موقف الجماعات والحركات السلفية من الثورة، فقد انقسمت إلى مؤيدٍ للمشاركة ساعٍ فيها، وممتنعٍ عن المشاركة غير ناشطٍ في صدِّ الناس عنها، أما الموقف الموافق فتمثله الحركة السلفية من أجل الإصلاح "حفص" والتي أصدرت بيانًا تؤيد التظاهرات وتدعو للمشاركة فيها، ونقلت هذا البيان بعض الصحف المستقلة مثل صحيفة الدستور الأصلي قبل الثورة، ومن الداخل فهناك الدكتور محمد يسري إذ دعا للمشاركة من أول يوم، والشيخ محمد عبد المقصود أفتى الناس بالمشاركة وهو في ميدان التحرير، وغيرهم ممن يُنسبون للمدرسة السلفية الحركية.
أما الموقف الممتنع عن المشاركة ولم ينشط في صدِّ الناس عنها، فهذا هو الإطار المجمَل لموقف الدعوة السلفية بالإسكندرية، إذ رأت "عدم المشاركة في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير"(8)، من خلال نظرهم في ميزان المصالح والمفاسد، وتوقعهم أنّ تظاهرات يناير ستكون "حركةً احتجاجيةً من ضمن فعاليات احتجاجٍ كانت ستصل إلى ذروتها في آخر الفترة الرئاسية للرئيس السابق حال إصراره على ترشيح ابنه، وربما حال إصراره على إعادة ترشيح نفسه"(9)، ولم يقع منهم نشاطٌ في نهي الناس عن التظاهر، بل ربما أثنوا على بعض الخصال الحميدة التي كشفت عنها الأحداث، وكان جلُّ اهتمامهم في حفظ الأمن الداخلي مع الأهالي.
أما الأفراد من علماء السلفية فقد تنوّعت مواقفهم كما هو متوقع، فمنهم مؤيدٌ للمشاركة من داخل وخارج مصر وهم الغالبية، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع عدم نشاطه في منع الناس عنها، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع نشاطه في تحذير الناس من المشاركة فيها من خلال النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ومنهم من اعتمد لغةً غير واضحةٍ وكان موقفه محيرًا لا يُدرى ما هو، والظاهر أنّه كان يريد تكثير المصالح بتحقيق الممكن من طلبات المتظاهرين في رأيه، مع أقل خسائر في الأرواح وفي المال العام من جهة أخرى، ومنهم من سكتَ ولم يبن عما في دخيلة نفسه أثناء الثورة مطلقًا، ومن المنتسبين للسلفية من امتنع عن المشاركة في الثورة مع تحذيره الناس من المشاركة فيها، بناءً على اعتقاده أنّ دولة مبارك دولةٌ مسلمةٌ ظالمة، لا يجوز الخروج عليها، والثورة خروجٌ لا يجوز، والدعوة إليها دعوةٌ إلى فتنة، فهو يرى صد الناس عن الخروج واجبًا، والنداء بالقعود متحتمًا!
غير أنّ نظرًا يجعل دولة مبارك مسلمة، والثورة عليها مجرّمةٌ محرمة، والعمل الجماعي بدعةٌ مهلكة، والجماعات الإسلامية حزبيةٌ منتنة، هذا النظر وإن قالت به طائفةٌ لا تطمع في شيءٍ من وراء تلك الدولة، بل فيهم من أوذي من قِبلها، إلا إنّه نظرٌ يطمع في سيادته عناصر أمن الدولة، بل يصرّح المخططون الأمريكيون بحاجتهم لدعم ونشر هذا الفكر، فبه يضربون الجماعات بعضها ببعض، ويضعفون العمل الإسلامي ويمنعون جني ثمرته، فكثُر في المشتركين في هذا النظر قومٌ هم صنيعة أمن الدولة، بل منهم من يصرّح بحفاوة استقبالهم إيّاه، وحسن إنصاتهم له وهو يعلمهم كيفية التفرقة بين الجماعات الإسلامية، وبعد الثورة أصابهم ما يصيب الحرباء، فإذا بهم يمدحون في الثورة ويحبون الثائرين! فهؤلاء الخاسرون لا يشملهم كلامي، وهم سقط الناس وسفلتهم، لا رحم الله في منافقٍ يبيع إخوانه مغرز إبرة! ومن أراد أن يحسب هؤلاء المتلونين على السلفية فإني سائله: وهل أقوّم الصحافيين من خلال مقالات رؤساء تحرير الصحف القومية قبل الثورة؟!
والحقيقة أن تأطير الأحداث بإطار اصطناع "الفوضى الخلاقة"، والذي دفع جماعةً من أهل العلم إلى عدم تبين الصواب في هذه الأحداث، فكان الأمر في نظرهم "فتنة" من هذه الجهة، لا يعرفون موضع الخير من الشر باعتبار مآل الأحداث، هذا التأطير قد تبناه غيرُ هؤلاء العلماء، فقد بسط فيه القول الباحث الأمريكي وليام إنجدال، فمثلًا في مقاله "الثورة المصرية.. الفوضى الخلّاقة من أجل صناعة الشرق الأوسط الكبير"(10)، يرى أن الثورات الصربية والجورجية والأوكرانية والتونسية والمصرية كلها تصب في المصلحة الأمريكية، ووراءها أصابع أمريكية، ويحرّك مثيريها دعمٌ أمريكي، واستطرادًا فإننا وإن أبصرنا الأحداث بمنظار "الفوضى الخلاقة"، فإنّ المصلحة المشتركة بزوال النظام الظالم، لا تعني أن باستطاعة أمريكا فرض السيناريو حتى مشهد النهاية الأمريكية السعيدة، وإنما يعني أن تُجابه تلك السعاية الأمريكية بضدها، لا أن تُعتزل ويُترك لها المجال تفعل ما تشاء بعد زوال مبارك!
هذا هو الموقف السلفي باختصار، فأيُّ شيءٍ في هذا الموقف كان ليهيّج الإعلام المحايد، ليضرب بظلفه في الصخر، ويحك قرنه بالأرض، وينفخ منخره أنفاسًا حارة، يستعد ليثب على السلفية، ولن يضيرها وسيوهِي قرنه وسينقلب حسيرًا؟! أيّ شيءٍ؟! ألم يكن الشعب المصريّ عَزوفًا عن المشاركة السياسية الفعالة لانعدامها أصلًا، ثم لما جاءت الثورة انقسم على نفسه إلى آراءٍ شتى، وخرجت من ملايينه بعضها ولم يخرج كلُّه، ثمَّ لمّا نجحت الثورة صارت ثورة الشعب المصري؟! ألم يكن هذا هو موقف أتباع المذاهب المختلفة الذين لا يشملهم تنظيمٌ ولا جماعة؟! فما بال الصدور تتسع لشتى المذاهب وتضيق عند السلفية التي مثّل أهلها حوالي 10-20% من الثائرين(11)؟!
إنّ أولئك العلماء السلفيين الذين ما شاركوا في الثورة، كان مبعث فعلهم هو النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ولا يزعمّن زاعمٌ أن الكفةَ كانت ظاهرة الرجحان في صف المصالح، بل كان من المتوقع جدًّا في بداية الأحداث أن تنقلب الثورة إلى نقمةٍ على هذا الشعب، لولا أن منَّ الله علينا وأراد بنا خيرًا، لم يكن ترك بعض علماء السلفية المشاركة من باب التزلف للنظام، والرضا به، والطمع في بقائه، فلم يُر لهم في أيام صولة النظام توددٌ إليه، ولم يُر منه ترحيبٌ بهم، وقد عُلِم منهم عدم الرضا عن حكم مبارك، والتبرم من ظلمه وبطشه، واستنكار عدم تحكيم الشريعة، ولكنّ النظر في المصالح والمفاسد آل بهم إلى غلبة المفسدة في الخروج، مستحضرين تاريخ الخروج في الإسلام وكيف كانت عاقبة الخروج سفك الدماء من غير نفع، فرأى أن الصواب عدم المشاركة في الثورة، وهؤلاء أقرّ بعضهم بالخطأ في اجتهاده في تقدير المصالح والمفاسد، وبعضهم مازال على قوله في شأن الثورة، ولا يرى أنّه يبطل قوله ما نتج عن الثورة من زوال الحاكم الظالم، فإنّه لا يمتنع أن يكون ما لا يرضاه الله شرعًا سبيلًا لتحقق ما يرضاه الله شرعًا من الناحية القدرية!
وإنّ أولئك العلماء السلفيين الذين قرروا المشاركة في الثورة، قد باعوا أرواحهم، وحملوا أكفانهم، ووضعوا رقابهم على المقصلة، فلو لم تنجح الثورة لما تردد النظام في قطع حبل المقصلة، وجعل أجسادهم عبرةً لمن تسول له نفسه قيامًا بمظاهرة، على الجانب الآخر كانت الوجوه الليبرالية والإعلامية المؤيدة للثورة في بحبوحةٍ من أمرها، حتى أنك تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك في السلطة لنهاية مدته الرئاسية، ثم تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك مع تسليمه مهامه لنائبه، لا يشمون رائحة بحر الدم الذي كان سيجري من أجساد النشطاء السياسيين ومن أجساد الإسلاميين لو ظلّ مبارك في قصره يومًا واحدًا في سعةٍ من أمره!
فمن يرمي السلفية بسوءٍ وهو لا يعرف حقيقتها، أو يعمم على السلفيين بحكمٍ وهو لا يدري مواقفهم، أو يتناولهم لسانه بزورٍ وهو لا يعلم تاريخهم، فإني سائله: كيف تعامل المنهج السلفي معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! كيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف تغفل موقف المعاضدين للثورة، والبيانات الموافقة عليها، والمقالات المشجعة لها، والفتاوى الداعية إليها، والعلماء الخارجين فيها، كيف تغفل عنها لتختصر السلفية في الموقف الرافض للثورة؟! ثم كيف لا تعترف بحق السلفيين المعارضين للثورة في الرأي طالما لم يُعرف عنهم تعاونٌ مع ظلمة النظام ولا رضًا بهم؟! ثم كيف لا تلتمس لهؤلاء الساكتين عذرًا ويكفيك منهم أنّهم ما عاونوا الظالم؟! كيف لا تتفهم امتناعهم عن إبداء الرأي فيما لم يظهر لهم وجه الصواب فيه؟! كيف تلجأ إلى المتلونين المعلوم عنهم تبعيتهم لأمن الدولة لتستنبط من كلامهم موقف السلفية، أترى أن أقوّم الصحافة من خلال مقالات الأقلام المأجورة المعلومة النفاق؟!
وعزيزٌ على نفسي أن أرى بعض إخواني في الصف السلفي، قد اهتزت ثقته بنفسه ويوشك أن يندم على ما قدم، من أثر هذه الهجمة الإعلامية المدهشة عند أول لقاء، ومن أثر بعض الأخطاء التي وقعت في الصف السلفي.. نعم! قد وقعت أخطاءٌ عديدة، وتناولت بيان بعضها أقلامٌ من داخل الصف السلفي نفسه، ليس الخطأ في تبني بعض السلفيين عدم المشاركة في الثورة كما مضى، وإنما أخطاءٌ من نوع إهدار الحق في الاختلاف، والتعمية على القول المخالف، ومحاولة ادعاء إجماع المعاصرين في نازلةٍ كهذه، والتكلم بلسان السلفية بالنيابة، وعدم التحلي بآداب الخلاف، واستعمال الخطاب غير المناسب للمتلقي، وتقدّم القُصّاص حيث ينبغي ألا يتكلم إلا الراسخون في العلم، والظهور على الشاشة الخطأ، وبطء رد الفعل في مواكبة الأحداث، والرجوع عن القول الأول دون بيان ذلك، وإقصاء المخالف من الطرفين، هذه أخطاءٌ وقعت.. فقل كما قال أنس بن النضر رضي الله عنه "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!"، وإيّاك أن تخلط فتتبرأ من أخيك الذي تعتذر عنه، وتعتذر عن مخالفك فيما هو من مواطن البراءة، وإنما اسأل الله الثبات، واعرف موضع قدميك، ثم تقدّم! فقد مضى زمانٌ كانوا يخلّونك فيه والناس! واليوم صارت المعركة معركة دعوةٍ وثوابت!
ومن معاقد الإنصاف ومواطن الفتنة فيه، أن يكونَ المرءُ مصيبًا وأخوه مخطئ، فتغريه به نفسُه ليحطّ عليه، ويذهب بماء وجهه فيذره مسودًّا، ويطرحه أرضًا لا يُبقي له على فضيلة، ولا يتركه إلا لَقىً رميمًا لا يؤبه به، فإذا به يقابل نفسَه بلجام العدالة، ويذكّرها محاسن أخيه وسابق منزلته، ثمّ يرقى فيقيم نفسه مقام أخيه ليلتمس لوجهته في النظر حجةً، ثم يرقى فيضعه في إطار منهجه وسيرته، فيراه مصيبًا في ذاته له بذلك أجر، مخطئًا في الواقع فاته بذلك أجر، ثمّ يرقى فيحفظ له مقامه، ويستزيد نصحه، ويستبقي أخوَّتَه، وإنّها لكبيرةٌ إلا على من رحم الله!
ومن تمام الردّ على ما يثيره الإعلام من أباطيل تجاه موقف السلفيين، فينكر عليهم ما هو من حقهم، ويلصق بهم ما لم يقع منهم، ويوهم تفردهم بما وقع من سائر المذاهب، ويلغي عنصر الزمن في تقييم المواقف، ويسحب أخطاء الأفراد على المنهج، من تمام الرد أن نذكر موقف بقية الإسلاميين، وسوف –بإذن الله- نرى!
-----------
(*) قاله أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد، اعتذارًا من فعل بعض المسلمين الذين قعدوا بعد أن ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وبراءةً من فعل المشركين، والقصة رواها البخاري وغيره واللفظ له رحمه الله.
(1) هذا ما صرّح به وتناقلته عنه مختلف المواقع في لقائه مع الإعلامي أحمد علي الزين في برنامج "روافد".
(2) والكتاب اسمه " الثورة الآن.. هوامش ومشاهدات من يوميات ميدان التحرير"، وخبر ذلك نشرته جريدة روزاليوسف بتاريخ 27يوليو 2011.
(3) سورة النساء: 80.
(4) آل عمران: 110.
(5) متفق عليه.
(6) النساء: 115.
(7) وقد اعتمدت في ذلك على ما اشتهر في وسائل الإعلام والدراسات الحديثة التي تتناول السلفية، مع العلم أنّ هناك تقسيماتٍ أخرى للسلفية المعاصرة لم أذكرها، ولولا مقام الحاجة للكلام بلسان يناسب المتلقي لما لجأت لهذه التقسيمات.
(8) جواب الشيخ ياسر برهامي على سؤال " ما حكم المشاركة في ثورة 25 يناير التي دعا لها عدد من الناشطين على الإنترنت اقتداءً بثورة تونس؟" وقال في جوابه " والمشايخ في الإسكندرية جميعهم -بعد تشاورهم- متفقون على ما ذكرته في إجابتي".
(9) مقال الشيخ عبد المنعم الشحات: السلفيون وكشف حساب الأزمة.
(10) F. William Engdahl: Egypt’s Revolution-Creative Destruction for a ‘Greater Middle East’
(11) ذكرت هذه النسبة دراسة أعدها المركز العربي للدراسات الإنسانية بعنوان "حقيقة موقف السلفية المصرية من ثورة 25 يناير"، وقد نقل هذه الدراسة عددٌ من الصحف ذات التوجه الليبرالي استدلالًا بها واعتمادًا عليها.
"قال: "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!
وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء!"، ثمَّ تقدَّم ..."(*)
أفرأيتَ إن التقيتَ الباطلَ أول مرة، يتودد إليك بلسانٍ يُعجبك قوله، وسجعٍ يأخذك جرسه، ومجازٍ محيّرٍ لا تدري مراده، ومعنىً هو العدم من غير زيادة، يؤكّد ذا المعنى بصراخٍ هادر، ويعمّي ذلك المراد بتهكمٍ سافر، يراودك عن نفسك بخطرات الهوى، ودواعي الدَّعة، يغريك عسى أن تسخر كما يسخر، وتصرخ كما يصرخ، وتهوى أن يكون لك لسانٌ يعجِب، أرأيتَ إن ابتُليتَ بهذه الدهشة؟! فاسأل الله الثبات عند الفتن، وتعال إلى أحد مواطن هذا البلاء في شأننا هذا!
لم يجد الإعلام الليبراليّ موقفًا من مواقف الإسلاميين، يصلح مادةً تتناولها الأقلام والألسنة إلا موقف السلفيين، إذ إنّ موقف السلفيين يتسم بالتشعب والتداخل، وقد يتقاطع موقف بعضٍ منهم مع موقفِ مؤيدي النظام البائد، وهو موقفٌ نابعٌ من تنظيرٍ لا يأخذ حقُّه من البيان في الإعلام، وهو بذلك منبعٌ لإشكالاتٍ تصلح لمقالٍ يكتبه مثقف، ومبالغاتٍ يرسمها رسّامٌ هزلي، وأسئلةٍ يطرحها مذيعٌ مخضرم، وحوادثَ يخترعها صحافيٌّ مغرض، وشناعاتٍ يدندن بها سياسيٌّ محنك، وغير ذلك مما يراهن طارحُه على الجهل بالسلفية والموقف السلفي، طامعًا في الطعن في السلفيين خصوصًا والإسلاميين عمومًا، ولعل أولَ ما يُفسد هذا الرهان أن نسأل: ما موقف دعاة الليبرالية أو الحداثة أو التنوير من الثورة المصرية؟!
هل لنا أن نحكم على التنوير بالخيانة بسبب تولي جابر عصفور لمنصب وزير الثقافة وزاهي حواس لحقيبة وزارة الآثار في حكومة الوقت الضائع التي كان شفيق على رأسها؟! أيحق لي أن أصف الحداثة بالانحياز للسلطة الغاشمة لأنّ أدونيس أعلن أنّه ضد ثورة سوريا التي تخرج من عتبات الجوامع(1)؟! أيكون من شأني أن أرمي الليبرالية بالنفاق لأنّ مواقف رؤوسهم المبرّزين كانت مع النظام المصري قبل الثورة، حتى أنّ الصحافيّ سعد القرش تناول مواقف سيد ياسين وخيري شلبي وجمال الغيطاني وغيرهم تجاه مبارك قبل وبعد الثورة في كتابٍ مازال يسعى لنشره(2)؟! وهل أستطيع منصفًا أن أرمي المثقفين بتجميل وجه النظام لتأخر كثيرٍ منهم عن الدعوة والمشاركة والمساندة ولو بالكلمة في الثورات العربية؟! هل أستطيع؟!
وهنا تأتي عليك الردود أشكالًا وألوانا، ويتناولك المنتقدون زرافاتٍ ووحدانا، فكيف تعامل مذهبًا فكريًّا معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! وكيف لا تفرق بين الفكر والمنهج وبين الأفراد؟! وكيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف بلغ بك التعدّي أن تفترض أن كل الحداثيين على قول فلانٍ أو فلانٍ ممن ذكرت؟! وكيف غفلت عن المدارس الليبرالية المختلفة وجعلتَ جهلك حجةً على الليبرالية؟! وهذه أسئلةٌ ملزمةٌ نأخذها ونعيدها ونزيد عليها قليلًا!
إنّ المنهج السلفيَّ لا ينحصر في جماعةٍ أو تنظيمٍ معين، فهو منهجٌ قائمٌ على اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، ذلك أنّ الله تعالى قال " مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ"(3)، وقال لأمة الصحابة " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ"(4)، وقال صلى الله عليه وسلم "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثمّ الذين يلونهم"(5)، وأنذر سبحانه من تولّى فقال " وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا"(6)، فهو دعوةٌ للكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فمن يستجب لهذه الدعوة فهو سلفي، وإن يكن فردًا وحيدًا لم يسمع بجماعةٍ أو تنظيمٍ يومًا!
توجد السلفية –على المراد العرفي(7)- في الواقع في صورٍ متنوعة، كجماعةٍ لها نوع تنظيمٍ مثل الدعوة السلفية بالإسكندرية، أو مدرسةٍ يشترك رؤوسها في ذات الرؤية دون أن يكون لهم كيان جماعةٍ منظمة، مثل الشيخ محمد عبد المقصود والشيخ سيد العربي والشيخ فوزي السعيد والشيخ نشأت أحمد فيما عرف بالسلفية الحركية، أو أفرادٍ من الدعاة المستقلين يرون مشروعية العمل الجماعي ولا تشملهم جماعة، أو أفرادٍ يرون بدعية العمل الجماعي ويرون في الجماعات الإسلامية صورةً من الحزبية المنكرة، وواضحٌ جدًّا أن الاختلاف بين السلفيين في أمرٍ ما ليس تناقضًا في السلفية، ولا خلطًا في موقف السلفيين، وعجيبٌ جدًّا أن يكون في خلق الله من يرى أن الاختلاف بينهم تناقضٌ في موقفهم وخلطٌ في السلفية، ولا يرى في بقية الخلاف الواقع في شتى المذاهب تناقضًا في المذهب وخلطًا من أفراده!
فإن أردتَ أن تنظر في موقف الجماعات والحركات السلفية من الثورة، فقد انقسمت إلى مؤيدٍ للمشاركة ساعٍ فيها، وممتنعٍ عن المشاركة غير ناشطٍ في صدِّ الناس عنها، أما الموقف الموافق فتمثله الحركة السلفية من أجل الإصلاح "حفص" والتي أصدرت بيانًا تؤيد التظاهرات وتدعو للمشاركة فيها، ونقلت هذا البيان بعض الصحف المستقلة مثل صحيفة الدستور الأصلي قبل الثورة، ومن الداخل فهناك الدكتور محمد يسري إذ دعا للمشاركة من أول يوم، والشيخ محمد عبد المقصود أفتى الناس بالمشاركة وهو في ميدان التحرير، وغيرهم ممن يُنسبون للمدرسة السلفية الحركية.
أما الموقف الممتنع عن المشاركة ولم ينشط في صدِّ الناس عنها، فهذا هو الإطار المجمَل لموقف الدعوة السلفية بالإسكندرية، إذ رأت "عدم المشاركة في تظاهرات الخامس والعشرين من يناير"(8)، من خلال نظرهم في ميزان المصالح والمفاسد، وتوقعهم أنّ تظاهرات يناير ستكون "حركةً احتجاجيةً من ضمن فعاليات احتجاجٍ كانت ستصل إلى ذروتها في آخر الفترة الرئاسية للرئيس السابق حال إصراره على ترشيح ابنه، وربما حال إصراره على إعادة ترشيح نفسه"(9)، ولم يقع منهم نشاطٌ في نهي الناس عن التظاهر، بل ربما أثنوا على بعض الخصال الحميدة التي كشفت عنها الأحداث، وكان جلُّ اهتمامهم في حفظ الأمن الداخلي مع الأهالي.
أما الأفراد من علماء السلفية فقد تنوّعت مواقفهم كما هو متوقع، فمنهم مؤيدٌ للمشاركة من داخل وخارج مصر وهم الغالبية، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع عدم نشاطه في منع الناس عنها، ومنهم الممتنع عن المشاركة في الثورة مع نشاطه في تحذير الناس من المشاركة فيها من خلال النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ومنهم من اعتمد لغةً غير واضحةٍ وكان موقفه محيرًا لا يُدرى ما هو، والظاهر أنّه كان يريد تكثير المصالح بتحقيق الممكن من طلبات المتظاهرين في رأيه، مع أقل خسائر في الأرواح وفي المال العام من جهة أخرى، ومنهم من سكتَ ولم يبن عما في دخيلة نفسه أثناء الثورة مطلقًا، ومن المنتسبين للسلفية من امتنع عن المشاركة في الثورة مع تحذيره الناس من المشاركة فيها، بناءً على اعتقاده أنّ دولة مبارك دولةٌ مسلمةٌ ظالمة، لا يجوز الخروج عليها، والثورة خروجٌ لا يجوز، والدعوة إليها دعوةٌ إلى فتنة، فهو يرى صد الناس عن الخروج واجبًا، والنداء بالقعود متحتمًا!
غير أنّ نظرًا يجعل دولة مبارك مسلمة، والثورة عليها مجرّمةٌ محرمة، والعمل الجماعي بدعةٌ مهلكة، والجماعات الإسلامية حزبيةٌ منتنة، هذا النظر وإن قالت به طائفةٌ لا تطمع في شيءٍ من وراء تلك الدولة، بل فيهم من أوذي من قِبلها، إلا إنّه نظرٌ يطمع في سيادته عناصر أمن الدولة، بل يصرّح المخططون الأمريكيون بحاجتهم لدعم ونشر هذا الفكر، فبه يضربون الجماعات بعضها ببعض، ويضعفون العمل الإسلامي ويمنعون جني ثمرته، فكثُر في المشتركين في هذا النظر قومٌ هم صنيعة أمن الدولة، بل منهم من يصرّح بحفاوة استقبالهم إيّاه، وحسن إنصاتهم له وهو يعلمهم كيفية التفرقة بين الجماعات الإسلامية، وبعد الثورة أصابهم ما يصيب الحرباء، فإذا بهم يمدحون في الثورة ويحبون الثائرين! فهؤلاء الخاسرون لا يشملهم كلامي، وهم سقط الناس وسفلتهم، لا رحم الله في منافقٍ يبيع إخوانه مغرز إبرة! ومن أراد أن يحسب هؤلاء المتلونين على السلفية فإني سائله: وهل أقوّم الصحافيين من خلال مقالات رؤساء تحرير الصحف القومية قبل الثورة؟!
والحقيقة أن تأطير الأحداث بإطار اصطناع "الفوضى الخلاقة"، والذي دفع جماعةً من أهل العلم إلى عدم تبين الصواب في هذه الأحداث، فكان الأمر في نظرهم "فتنة" من هذه الجهة، لا يعرفون موضع الخير من الشر باعتبار مآل الأحداث، هذا التأطير قد تبناه غيرُ هؤلاء العلماء، فقد بسط فيه القول الباحث الأمريكي وليام إنجدال، فمثلًا في مقاله "الثورة المصرية.. الفوضى الخلّاقة من أجل صناعة الشرق الأوسط الكبير"(10)، يرى أن الثورات الصربية والجورجية والأوكرانية والتونسية والمصرية كلها تصب في المصلحة الأمريكية، ووراءها أصابع أمريكية، ويحرّك مثيريها دعمٌ أمريكي، واستطرادًا فإننا وإن أبصرنا الأحداث بمنظار "الفوضى الخلاقة"، فإنّ المصلحة المشتركة بزوال النظام الظالم، لا تعني أن باستطاعة أمريكا فرض السيناريو حتى مشهد النهاية الأمريكية السعيدة، وإنما يعني أن تُجابه تلك السعاية الأمريكية بضدها، لا أن تُعتزل ويُترك لها المجال تفعل ما تشاء بعد زوال مبارك!
هذا هو الموقف السلفي باختصار، فأيُّ شيءٍ في هذا الموقف كان ليهيّج الإعلام المحايد، ليضرب بظلفه في الصخر، ويحك قرنه بالأرض، وينفخ منخره أنفاسًا حارة، يستعد ليثب على السلفية، ولن يضيرها وسيوهِي قرنه وسينقلب حسيرًا؟! أيّ شيءٍ؟! ألم يكن الشعب المصريّ عَزوفًا عن المشاركة السياسية الفعالة لانعدامها أصلًا، ثم لما جاءت الثورة انقسم على نفسه إلى آراءٍ شتى، وخرجت من ملايينه بعضها ولم يخرج كلُّه، ثمَّ لمّا نجحت الثورة صارت ثورة الشعب المصري؟! ألم يكن هذا هو موقف أتباع المذاهب المختلفة الذين لا يشملهم تنظيمٌ ولا جماعة؟! فما بال الصدور تتسع لشتى المذاهب وتضيق عند السلفية التي مثّل أهلها حوالي 10-20% من الثائرين(11)؟!
إنّ أولئك العلماء السلفيين الذين ما شاركوا في الثورة، كان مبعث فعلهم هو النظر في ميزان المصالح والمفاسد، ولا يزعمّن زاعمٌ أن الكفةَ كانت ظاهرة الرجحان في صف المصالح، بل كان من المتوقع جدًّا في بداية الأحداث أن تنقلب الثورة إلى نقمةٍ على هذا الشعب، لولا أن منَّ الله علينا وأراد بنا خيرًا، لم يكن ترك بعض علماء السلفية المشاركة من باب التزلف للنظام، والرضا به، والطمع في بقائه، فلم يُر لهم في أيام صولة النظام توددٌ إليه، ولم يُر منه ترحيبٌ بهم، وقد عُلِم منهم عدم الرضا عن حكم مبارك، والتبرم من ظلمه وبطشه، واستنكار عدم تحكيم الشريعة، ولكنّ النظر في المصالح والمفاسد آل بهم إلى غلبة المفسدة في الخروج، مستحضرين تاريخ الخروج في الإسلام وكيف كانت عاقبة الخروج سفك الدماء من غير نفع، فرأى أن الصواب عدم المشاركة في الثورة، وهؤلاء أقرّ بعضهم بالخطأ في اجتهاده في تقدير المصالح والمفاسد، وبعضهم مازال على قوله في شأن الثورة، ولا يرى أنّه يبطل قوله ما نتج عن الثورة من زوال الحاكم الظالم، فإنّه لا يمتنع أن يكون ما لا يرضاه الله شرعًا سبيلًا لتحقق ما يرضاه الله شرعًا من الناحية القدرية!
وإنّ أولئك العلماء السلفيين الذين قرروا المشاركة في الثورة، قد باعوا أرواحهم، وحملوا أكفانهم، ووضعوا رقابهم على المقصلة، فلو لم تنجح الثورة لما تردد النظام في قطع حبل المقصلة، وجعل أجسادهم عبرةً لمن تسول له نفسه قيامًا بمظاهرة، على الجانب الآخر كانت الوجوه الليبرالية والإعلامية المؤيدة للثورة في بحبوحةٍ من أمرها، حتى أنك تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك في السلطة لنهاية مدته الرئاسية، ثم تجد نفرًا منهم قد رضي ببقاء مبارك مع تسليمه مهامه لنائبه، لا يشمون رائحة بحر الدم الذي كان سيجري من أجساد النشطاء السياسيين ومن أجساد الإسلاميين لو ظلّ مبارك في قصره يومًا واحدًا في سعةٍ من أمره!
فمن يرمي السلفية بسوءٍ وهو لا يعرف حقيقتها، أو يعمم على السلفيين بحكمٍ وهو لا يدري مواقفهم، أو يتناولهم لسانه بزورٍ وهو لا يعلم تاريخهم، فإني سائله: كيف تعامل المنهج السلفي معاملتك لتنظيمٍ بشري؟! كيف تعمم خطأ الفرد على الجماعة بله المذهب؟! ثمّ كيف تغفل موقف المعاضدين للثورة، والبيانات الموافقة عليها، والمقالات المشجعة لها، والفتاوى الداعية إليها، والعلماء الخارجين فيها، كيف تغفل عنها لتختصر السلفية في الموقف الرافض للثورة؟! ثم كيف لا تعترف بحق السلفيين المعارضين للثورة في الرأي طالما لم يُعرف عنهم تعاونٌ مع ظلمة النظام ولا رضًا بهم؟! ثم كيف لا تلتمس لهؤلاء الساكتين عذرًا ويكفيك منهم أنّهم ما عاونوا الظالم؟! كيف لا تتفهم امتناعهم عن إبداء الرأي فيما لم يظهر لهم وجه الصواب فيه؟! كيف تلجأ إلى المتلونين المعلوم عنهم تبعيتهم لأمن الدولة لتستنبط من كلامهم موقف السلفية، أترى أن أقوّم الصحافة من خلال مقالات الأقلام المأجورة المعلومة النفاق؟!
وعزيزٌ على نفسي أن أرى بعض إخواني في الصف السلفي، قد اهتزت ثقته بنفسه ويوشك أن يندم على ما قدم، من أثر هذه الهجمة الإعلامية المدهشة عند أول لقاء، ومن أثر بعض الأخطاء التي وقعت في الصف السلفي.. نعم! قد وقعت أخطاءٌ عديدة، وتناولت بيان بعضها أقلامٌ من داخل الصف السلفي نفسه، ليس الخطأ في تبني بعض السلفيين عدم المشاركة في الثورة كما مضى، وإنما أخطاءٌ من نوع إهدار الحق في الاختلاف، والتعمية على القول المخالف، ومحاولة ادعاء إجماع المعاصرين في نازلةٍ كهذه، والتكلم بلسان السلفية بالنيابة، وعدم التحلي بآداب الخلاف، واستعمال الخطاب غير المناسب للمتلقي، وتقدّم القُصّاص حيث ينبغي ألا يتكلم إلا الراسخون في العلم، والظهور على الشاشة الخطأ، وبطء رد الفعل في مواكبة الأحداث، والرجوع عن القول الأول دون بيان ذلك، وإقصاء المخالف من الطرفين، هذه أخطاءٌ وقعت.. فقل كما قال أنس بن النضر رضي الله عنه "اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء!"، وإيّاك أن تخلط فتتبرأ من أخيك الذي تعتذر عنه، وتعتذر عن مخالفك فيما هو من مواطن البراءة، وإنما اسأل الله الثبات، واعرف موضع قدميك، ثم تقدّم! فقد مضى زمانٌ كانوا يخلّونك فيه والناس! واليوم صارت المعركة معركة دعوةٍ وثوابت!
ومن معاقد الإنصاف ومواطن الفتنة فيه، أن يكونَ المرءُ مصيبًا وأخوه مخطئ، فتغريه به نفسُه ليحطّ عليه، ويذهب بماء وجهه فيذره مسودًّا، ويطرحه أرضًا لا يُبقي له على فضيلة، ولا يتركه إلا لَقىً رميمًا لا يؤبه به، فإذا به يقابل نفسَه بلجام العدالة، ويذكّرها محاسن أخيه وسابق منزلته، ثمّ يرقى فيقيم نفسه مقام أخيه ليلتمس لوجهته في النظر حجةً، ثم يرقى فيضعه في إطار منهجه وسيرته، فيراه مصيبًا في ذاته له بذلك أجر، مخطئًا في الواقع فاته بذلك أجر، ثمّ يرقى فيحفظ له مقامه، ويستزيد نصحه، ويستبقي أخوَّتَه، وإنّها لكبيرةٌ إلا على من رحم الله!
ومن تمام الردّ على ما يثيره الإعلام من أباطيل تجاه موقف السلفيين، فينكر عليهم ما هو من حقهم، ويلصق بهم ما لم يقع منهم، ويوهم تفردهم بما وقع من سائر المذاهب، ويلغي عنصر الزمن في تقييم المواقف، ويسحب أخطاء الأفراد على المنهج، من تمام الرد أن نذكر موقف بقية الإسلاميين، وسوف –بإذن الله- نرى!
-----------
(*) قاله أنس بن النضر رضي الله عنه يوم أحد، اعتذارًا من فعل بعض المسلمين الذين قعدوا بعد أن ظنوا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وبراءةً من فعل المشركين، والقصة رواها البخاري وغيره واللفظ له رحمه الله.
(1) هذا ما صرّح به وتناقلته عنه مختلف المواقع في لقائه مع الإعلامي أحمد علي الزين في برنامج "روافد".
(2) والكتاب اسمه " الثورة الآن.. هوامش ومشاهدات من يوميات ميدان التحرير"، وخبر ذلك نشرته جريدة روزاليوسف بتاريخ 27يوليو 2011.
(3) سورة النساء: 80.
(4) آل عمران: 110.
(5) متفق عليه.
(6) النساء: 115.
(7) وقد اعتمدت في ذلك على ما اشتهر في وسائل الإعلام والدراسات الحديثة التي تتناول السلفية، مع العلم أنّ هناك تقسيماتٍ أخرى للسلفية المعاصرة لم أذكرها، ولولا مقام الحاجة للكلام بلسان يناسب المتلقي لما لجأت لهذه التقسيمات.
(8) جواب الشيخ ياسر برهامي على سؤال " ما حكم المشاركة في ثورة 25 يناير التي دعا لها عدد من الناشطين على الإنترنت اقتداءً بثورة تونس؟" وقال في جوابه " والمشايخ في الإسكندرية جميعهم -بعد تشاورهم- متفقون على ما ذكرته في إجابتي".
(9) مقال الشيخ عبد المنعم الشحات: السلفيون وكشف حساب الأزمة.
(10) F. William Engdahl: Egypt’s Revolution-Creative Destruction for a ‘Greater Middle East’
(11) ذكرت هذه النسبة دراسة أعدها المركز العربي للدراسات الإنسانية بعنوان "حقيقة موقف السلفية المصرية من ثورة 25 يناير"، وقد نقل هذه الدراسة عددٌ من الصحف ذات التوجه الليبرالي استدلالًا بها واعتمادًا عليها.