المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف ظهرت الجهمية ؟



د. محمود عبد الرازق الرضواني
11-09-2005, 11:42 PM
الحمد لله مسبغ النعم ، وبارئ النسم ، وموجد الخلق بعد العدم ، حكمته في خلقه تاهت في فهمها عقول ذوي الحكم ، خالف بأنواع الابتلاءات بين الآراء والاعتقادات كما خالف بين الصور والهيئات ، وأخبرنا بما في ذلك من الحكم والغايات والآيات ، فقال سبحانه وتعالي : ( وَمِنْ آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلسِنَتِكُمْ وَأَلوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلكَ لآيَات للعَالمِينَ ) ، وقال جل جلاله : ( وَلوْ شَاءَ رَبُّكَ لجَعَل النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلذَلكَ خَلقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) (هود:119/118) .

وبين لنا أنه قدير على أن يكونوا مؤتلفين غير مختلفين فقال سبحانه وهو أصدق القائلين : ( وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَليْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلوْ شَاءَ اللهُ لجَمَعَهُمْ على الهُدَي فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الجَاهِلينَ ) (الأنعام:35) ، ونبهنا الله عز وجل ألطف تنبيه على أن هذا الخلاف بين المستخلفين في أرضه فيه حكمة بالغة ، ليعتبر البشر عند النظر ، إلي صحة البعث والحساب ، ووجود الثواب والعقاب ، وردا على المنكرين للنعيم والعذاب ، فقال وقوله الحق ، ووعده الصدق : ( وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلي وَعْدًا عَليْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلمُونَ ) (النحل:38) ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بلغ الرسالة وأدي الأمانة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله حتى أتاه اليقين ، فاللهم اجزه خير ما جازيت به نبيا عن أمته ، ورسولا عن رسالته ، أما بعد ..

إذا كان الاختلاف بين العقول البشرية ، مقدرا في سنن الله الكونية ، وجاريا على العباد بحكمة المتوحد في الربوبية ، إلا أنه من جهة العبودية ابتلاء لسائر الإنسانية ، في قوة التمسك بعقيدة التوحيد وطاعة الأحكام الشرعية ، من أجل ذلك نهانا الله عن الاختلاف وحذرنا من الوقوع في الخلاف ، وأمرنا بالاستسلام لله والاعتصام بكتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فقال جل ذكره :  يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْل اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَليْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلكَ يُبَيِّنُ اللهُ لكُمْ آيَاتِهِ لعَلكُمْ تَهْتدُونَ ) (آل عمران:103:102) ، وقال تعالى :  فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلمُوا تَسْليمًا  (النساء:65) .

والصحابة جميعهم آمنوا بكلام الله ، واتبعوا طريقة رسول الله ، صدقوا نبيهم فكل ما أخبرهم به ، وأطاعوه عن حب في كل ما أمرهم به ، كما قال نبينا لسفيان بن عبد الله : قل آمنت بالله فاستقم ، وظل أمر السلف من بعدهم يسير بفضل الله على دربهم ، يخضعون لله عن طواعية وتسليم ، يصدقون خبر نبيهم ، وينفذون أمر رسولهم ، يتابعونه من غير ابتداع ، ويسلمون للوحي بلا نزاع ، ويعلمون أن صلاح العقول في اتباع المنقول ، في التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وظلت أمور العقيدة على هذا الحال صافية نقية ، والأمة الإسلامية تمثل كمال البشرية في تحقيق العبودية لله عز وجل ، حتى ظهر أثر الحاقدين في التشويش على اعتقاد المؤمنين ، وبرز فكر الجاهلين ، الذين يقدمون آراءهم وأهواءهم على كل نص قرآني أو حديث نبوي ، فكان من أبرزهم في التاريخ الإسلامي ، عبد الله بن سبأ اليهودي ، الذي أسهم في تفرق الأمة الإسلامية ، وكان سببا في ظهور الشيعه والخوارج كأبرز الفرق الإسلامية ، وله بإذن الله حديث مستفيض ، في مجموعة من المحاضرات عن الشيعة وتاريخهم ، وأما أس البلاء وسبب ما نحن فيه من الشقاء ، وحامل لواء مقدمي الآراء على كتاب الله وسنة رسوله فهو الجهم بن صفوان الخرساني ، الذي توفي في نهاية الربع الأول من القرن الثاني الهجري .

والجهم بن صفوان استمد فكره من طريقين : طريق يهودي والآخر وثني ، فقد تربّيَ الجهم بن صفوان على يد أستاذه الجعد بن درهم الذي أخذ أفكاره وآراءه من أبان ابن سمعان الذي تعلم من طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وتلميذه ، ولبيد هو الساحر اليهودي الذي سحر النبي في مشط ومشاطة ، فقد روي البخاري من حديث عَائِشَةَ رَضِي الله عَنْهَا أنها قَالتْ سَحَرَ رَسُول اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ يُقَالُ لهُ لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، حتى كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ يُخَيَّلُ إِليْهِ أَنَّهُ كَانَ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلهُ ، حتى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ ليْلةٍ وَهُوَ عِنْدِي ، لكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ، ثُمَّ قَال يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ ، أَتَانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْليَّ ، فَقَال أَحَدُهُمَا لصَاحِبِهِ : مَا وَجَعُ الرَّجُل ؟ فَقَال : مَطْبُوبٌ ، قَال : مَنْ طَبَّهُ ؟ قَال : لبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ ، قَال : فِي أَيِّ شَيْءٍ ؟ قَال : فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلعِ نَخْلةٍ ذَكَرٍ ، قَال : وَأَيْنَ هُوَ ؟ قَال : فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ ، فَأَتَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلي الله عَليْهِ وَسَلمَ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، فَجَاءَ فَقَال : يَا عَائِشَةُ ، كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ، قُلتُ : يَا رَسُول اللهِ أَفَلا اسْتَخْرَجْتَهُ ؟ قَال : قَدْ عَافَانِي اللهُ فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ على النَّاسِ فِيهِ شَرًّا ، فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ ، وفي رواية أخرى عند البخاري : فَقُلتُ اسْتَخْرَجْتَهُ فَقَال لا أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللهُ وَخَشِيتُ أَنْ يُثِيرَ ذَلكَ على النَّاسِ شَرًّا ثُمَّ دُفِنَتِ البِئْرُ .

فهذا الساحر اليهودي هو أحد المصادر الأساسية ، لفكر هذا الجهم وأتباعه الجهمية ، فعقائد الجهم ونظرياته تنبع من أسس يهودية ، بعيدة عن كل البعد عن العقيدة الإسلامية ، استقي أفكاره من الفلاسفة القدماء للديانات اليهودية .

أما الطريق الثاني الذي استمد منه الجهم بن صفوان فكره ، فهو طريق وثني ، فالجهم كان كثير الخصومة والكلام ، لقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية ، والسمنية نسبة إلي قرية بالهند تسمي سُومَنَات ، وهي فرقة تعبد الأصنام وتقول بتناسخ الأرواح ، وتنكر الوحي والدين ، جرت بين الجهم وبينهم مناظرة عقلية ، فلما عرفوا الجهم قالوا له : نكلمك ونناظرك ، فإن ظهرت حجتنا عليك ، دخلت في ديننا ، وإن ظهرت حجتك علينا ، دخلنا في دينك ، - والجهم عامي مسكين ليس له باع أو قدم بين المتناظرين - فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما .

قال ابن شوذب : ( ترك الصلاة أربعين يوما على وجه الشك خالفه بعض السمنية ، فشك فقام أربعين يوما لا يصلي ) ثم استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى ، الذين يزعمون أن الروح الذي في عيسي هو الله وأن الله يحل فيه ، فإذا أراد الله أمرا دخل في عيسي فتكلم على لسانه ، فيأمر بما يشاء وينهي عما يشاء ، وهو روح غائبة عن الأبصار ، فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة ، فقال الجهم لمن ناظره من السمنية : ألست تزعم أن فيك روحا ؟ قال السمني : نعم فقال له : هل رأيت روحك ؟ قال : لا ، قال : فسمعت كلامها ؟ قال : لا قال : فوجدت لها حسا ؟ قال : لا ، قال : فكذلك الله لا يري له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحه وهو غائب عن الأبصار وهو في كل مكان ، فالمخلوقات بمثابة الجسد والله في داخلها بمثابة الروح .

قال أبو معاذ البلخي : ( كان جهم على معبر ترمذ ، بلد من نواحي إيران ، وكان رجلا كوفي الأصل فصيح اللسان ، لم يكن له علم ولا مجالسه لأهل العلم ، وكان قد تناقل كلام المتكلمين وكلمه السمنية ، فقالوا له : صف لنا ربك الذي تعبده ، فدخل البيت لا يخرج كذا وكذا ، قال : ثم خرج عليهم بعد أيام ، فقال : هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء ) .

د. محمود عبد الرازق الرضواني
11-09-2005, 11:46 PM
وقد أخذ الجهم بن صفوان كما ذكرنا أستاذه الجعد بن درهم الذي قال بنفي أوصاف الله وعطل الآيات عن مدلولها وقال بخلق القرآن ، قال أبو القاسم اللالكائي : ( ولا خلاف بين الأمة أن أول من قال القرآن مخلوق جعد بن درهم ، ثم جهم بن صفوان ) .

فالجهم بن صفوان إليه تنسب طائفة الجهمية الذين قالوا لا قدرة للعبد أصلا ، بل هو بمنزلة الجمادات ، والجنة والنار تفنيان بعد دخول أهلهما حتى لا يبقي موجود سوي الله تعالى ) ، وقال أبو الحسن الأشعري : ( قول الجهمية الذي تفرد به جهم القول بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان وأن الإيمان هو المعرفة بالله فقط والكفر هو الجهل به فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة الا الله وحده وأنه هو الفاعل ، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على المجاز ، كما يقال : تحركت الشجرة ودارت السفينة وزالت الشمس ، وإنما فعل ذلك بالشجرة والسفينة والشمس ، الله سبحانه وتعالي ، وكان جهم ينتحل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) ، وكان جهم بن صفوان يقف على الجذامي ويشاهد ما هم فيهم من البلايا ويقول : أرحم الراحمين يفعل مثل هذا ، يعني أنه ليس هناك رحمة في الحقيقة ولا حكمة ، وأن الأمر راجع الجبر وإلي محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة .

والجعد بن درهم قتل حدا وذلك لكفره الصريح بآيات الله وتكذيبها ، قتله خالد بن عبد الله القسري أمير بلاده في عيد الأضحى ، حيث خطب الناس وقال : ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، فإنه يزعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسي تكليما ، ثم نزل فذبحه ، وكان ذلك بعد أن استفتي علماء زمانه من السلف الصالح .
ويذكر الذهبي : ( أن الجعد بن درهم هو أول من ابتدع بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ولا كلم موسي وأن ذلك لا يجوز على الله ، قال المدائني كان زنديقا ، وقال له وهب : إني لأظنك من الهالكين ، لو لم يخبرنا الله أن له يدا ، وأن له عينا ، ما قلنا ذلك ، ثم لم يلبث الجعد أن قتل وصلب ) .

والجهم بن صفوان انتقل إلي ترمذ أحد البلدان في إيران ، وبدأ الدعوة لمذهبه ، فانتشرت فيها عقائد الإنكار والتعطيل لكلام الله ، ثم وجد لدعوته أتباعا ومريدين من العامة والدهماء والجاهلين ، في مدن أخرى من مدن إيران ، ثم انتشرت أفكاره في بغداد وبقية البلدان ، فالجهمية فرقة ظهرت في أواخر الحكم الأموي مؤسسها الجهم بن صفوان الترمذي السمرقندي ، الذي تربي على يد أستاذه الجعد بن درهم ، وأخذ عنه أسس أفكاره ، وكانت جذور أفكار الجعد وآرائه يهودية ، أخذها من أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد بن الأعصم ، والجهم مات مقتولا ، قتله سالم بن الأحوز في آخر أيام الدولة الأموية .
وقد تفرعت من فرقة الجهمية ، فرق عديدة انقسمت إلي أكثر من عشر فرق ، كل فرقة اتخذت لنفسها مسلكا فكريا خاصا ، وعقيدة مستقلة ، لكن أبرز عقائد الجهمية هي القول بنفي صفات الله ، وأن الإنسان لا يقدر على شيء ، وهو مجبور مسير ، مقعور غير مخير ، لا يوصف بالاستطاعة والقدرة ، وأن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو معرفة الله حتى لو كفر الإنسان باللسان ، وقالوا أيضا بأن القرآن مخلوق .

لكن نرجع إلي سؤال الأساسي في مناقشة السمنية لهذا الجهمي ؟ فهم لما ناقشوا الجهم قالوا له : ألست تزعم أن لك إلها ؟ قال الجهم : نعم ، قالوا له : فهل رأيت إلهك ؟ قال : لا ، قالوا : فهل سمعت كلامه ؟ قال : لا قالوا : فهل شممت له رائحة ؟ قال : لا ، قالوا : فوجدت له حسا ؟ قال : لا قالوا : فما يدريك أنه إله ؟ لو أن أحدا سألنا كما سأل الجهم : هل رأيت ربك ؟ أو هل يمكن أن نري الله ؟ والجواب أنه كان يكفي الجهم بن صفوان في الرد على السمنية أن يقول : إن الله يري في الآخرة ولا يري في الحياة الدنيا لأن الله شاء لنا الابتلاء والاختبار فيها ، فلو رأيناه أو رأينا ملائكته أو جنته وعذابه مباشرة دون حجاب لما كان لقيام السماوات والأرض بهذه الكيفية وبهذا الوضع الذي فطرنا عليه معني يذكر ، ولذلك قال تعالى :  ألمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالحَقِّ  (إبراهيم:19) ، وقال أيضا :  الذي خَلقَ المَوْتَ وَالحَيَاةَ ليَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُو العزيز الغَفُورُ  (الملك:2) .

فكيف يتحقق الإيمان به ونحن نراه ؟ وإذا كان الله لا يري في الدنيا ابتلاءا فإنه سبحانه يري في الآخرة إكراما لأهل طاعته كما قال سبحانه :  وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلي رَبِّهَا نَاظِرَةٌ  (القيامة:22:23) وقد تواترت الأحاديث في إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة .

فالعلة في عدم إدراك الكيفية ليست عدم وجودها ولا استحالة رؤية الله عز وجل ، ولكن العلة هي قصور الجهاز الإدراكي البشري في الحياة الدنيا عن إدراك حقائق الغيب ، فقد خلق الله الإنسان بمدارك محدودة لتحقيق علة معينة تمثلت في الابتلاء لقوله تعالى :  إِنَّا خَلقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً  (الانسان:2) .

وقد أجريت التجارب والدراسات الحديثة لتقدير مدارك الإنسان أو المؤثرات التي يستقبلها الجهاز الحسي والإدراكي في جسم الإنسان ، فوجدوا إن البصر يدرك به الإنسان شمعة مضاءة تري على بعد 30 ميلا في ليل مظلم ، والسمع يدرك به الإنسان دقة الساعة في ظروف هادئة تماما على بعد 20 قدما ، والتذوق يدرك به الإنسان ملعقة صغيرة من السكر مذابة في جالونين من الماء ، الشم يدرك به الإنسان رائحة نقطة واحدة من العطر منتشرة في غرفة مساحتها 6 أمتار مربعة ، واللمس يدرك به الإنسان جناح ذبابة يسقط على الصدغ من مسافة 1 سم تقريبا .

فإذا كان الجهاز الإدراكي في الإنسان بهذه الصورة في الدنيا فمن الصعب أن يري ما يحدث في القبر من عذاب أو نعيم أو يري الملائكة أو الجن أويري ذات الله وأوصافه من باب أولي ، ومعلوم أن عدم رؤيته لهذه الأشياء لا يعني عدم وجودها ، فالجن مثلا جهازه الإدراكي يختلف عن الإنسان من حيث القوة قال تعالى في وصفه : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) وموسي عليه السلام لما طلب رؤية الله لم يكن الجواب باستحالة الرؤية أو نفيها مطلقا ، ولكن النفي معلق بانتهاء الحياة الدنيا فإن الشيء لا يري إلا لسببين : خفاء المرئ وهو ممتنع في حق الله ، وضعف الجهاز الإدراكي للرائي وهذا هو شأن موسي عليه السلام .

ولذلك تجلي الله للجبل الذي يتحمل أقصي درجة ممكنة من ضوء الشمس والذي لا يتحملة الإنسان أكثر من تسع دقائق تقريبا ، قال تعالى :  وَلمَّا جَاءَ مُوسَي لمِيقَاتِنَا وَكَلمَهُ رَبُّهُ قَال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِليْكَ قَال لنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إلي الجَبَل فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلمَّا تَجَلي رَبُّهُ للجَبَل جَعَلهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَي صَعِقاً فَلمَّا أَفَاقَ قَال سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِليْكَ وَأَنَا أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ  (الأعراف:143) .

فمن الخطأ طلب البحث عن كيفية الأمور الغيبية أو الذات الإلهية أو صفاتها في الدنيا ، لأن النواميس التي أوجدها الله في الكون لا تسمح بذلك ، اللهم إلا إذا حدث خرق للعادة كأن يري بعض الأنبياء ملائكة الله ، أو يطلعون على الجنة أو النار أو بعض أمور الغيب أو ما يعجز الإنسان العادي عن إدراكه .

أما في الآخرة فالأمر مختلف تماما إذا أن مدركات الإنسان في الآخرة تختلف عن مدركاته في الدنيا كما صح الخبر عن رسول الله بذلك فقد روي البخاري ومسلم من حديث أبي هريرةَ أن النبيِّ صلي الله عليه وسلم قال : ( خَلقَ اللّهُ آدمَ على صورته ، طولهُ ستون ذراعاً ، فلما خَلقَهُ قال : اذهَبْ فسلمْ على أُولئكَ نفَرٍ من الملائكةِ جُلوسٍ ، فاستمعْ ما يُحيُّونَكَ ، فإنها تحيَّتُك وتحية ذرِّيِتك ، فقال : السلامُ عليكم ، فقالوا: السلامُ عليكَ ورَحمةُ اللّه ، فزادوه ورحمة اللّه ، فكلُّ من يَدخلُ الجنةَ على صورةِ آدم، فلم يزل الخلقُ يَنقصُ بعدُ حتى الآن ) ، فالانسان يوم القيامة على صورة آدم طوله ستون زراعا ومن أجل ذلك فإن مداركه وحواسه تتغير بالكيفية التي تناسب أمور الآخرة .

فإذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم كما ثبت عند البخاري : ( إنكم سترون ربكم عيانا ) أو ( إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ) ، علمنا أن إدرك العين المبصرة في الدنيا ، تختلف عن إدراك العين المبصرة في الآخرة .

من أجل ذلك وجب الإيمان بالرؤية في الآخرة والتسليم بذلك لموافقته للعقل الصريح والنقل الصحيح ، وكذلك الحال في بقية الصفات ، نؤمن بها ونثبتها لله دون سؤال عن الكيفية ، لكن الجهم بن صفوان بهذا الفكر العقلي الخبيث الذي زعم به أن الله حل في مخلوقاته وهو بذاته في كل مكان نظر في كتاب الله ، فما ظن أنه يوافق مذهبه من النصوص احتج بها ، وما ظن أنه يخالف مذهبه من النصوص أنكرها وعطلها عن مدلولها ، فوجد قوله تعالى :  ليْسَ كَمِثْلهِ شيء  (الشورى:11) وقوله تعالى :  وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ  (الحديد:4) وقوله تعالى :  لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ اْلأبْصَارَ  (الأنعام:13) فبني عليها القول بالحلول ونفيه لصفات الله والتكذيب بها .

ووجد قوله تعالى :  الرحمن على العرش استوي  ،  سَأَل سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ مِنْ اللهِ ذِي المَعَارِجِ تَعْرُجُ المَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِليْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ  ،  قُل لوْ كَانَ مَعَهُ آلهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لابْتَغَوْا إلي ذِي العَرْشِ سَبِيلا  ،  الذِينَ يَحْمِلُونَ العَرْشَ وَمَنْ حَوْلهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ للذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُل شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلمًا فَاغْفِرْ للذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجَحِيمِ  .

ماذا صنع الجهم بهذه النصوص ؟ اسمعوا : قال أبو نعيم البلخي وكان قد أدرك جهما : كان للجهم صاحب يكرمه ويقدمه على غيره فإذا هو قد هجره وخاصمه ، فقلت له : لقد كان يكرمك ، فقال : إنه جاء منه ما لا يتحمل بينما هو يقرأ سورة طه والمصحف في حجره إذ أتي على هذه الآية :  الرحمن على العرش استوي  ، قال : لو وجدت السبيل إلي أن أحكها من المصحف لفعلت فاحتملت هذه ، ثم إنه بينما يقرأ آية أخرى إذ قال : ما أظرف محمدا حين قالها ثم بينما هو يقرأ القصص والمصحف في حجره إذ مر بذكر موسي عليه السلام فدفع المصحف بيديه ورجليه ، وقال : أي شيء هذا ؟ ذكره هنا فلم يتم ذكره وذكره هنا فلم يتم ذكره .

هذا هو المنهج الذي اتبعته المعطلة إلي يومنا هذا ، أتباع الجهمية من المعتَزِلة والأشعرية وسائر المتكلمين أصحاب المدرسة العقلية ، تسمع أحد المشايخ الكبار جدا يقول لك أنا أفتخر أنني من أصحاب المدرسة العقلية ، هذا هو المنهج الذي يدرس في أغلب البلاد الإسلامية ، منهج أتباع الجهمية .

زعم الجهم بن صفوان أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو في سنة رسوله صلي الله عليه وسلم فهو مشبه ، وأن التوحيد يكمن في نفي هذه الصفات متمسكا بزعمه بقول الله تعالى :  ليْسَ كَمِثْلهِ شيء سواء كان النفي نفيا واضحا أو كان بتأويل القرآن على غير معناه ولي أعناق النصوص بغير ما تحتمل .

فالجهم بن صفوان زعم أن الله في كل مكان ، كما أن الروح في الجسد ، وهذا كلام باطل من جميع الوجوه لأن الله سبحانه وتعالي لا يحل في مخلوقاته ، فقد ثبت أنه بذاته ، في السماء فوق العرش وعرشه فوق الماء ، والماء فوق السماء السابعة ، وهو سبحانه تعالى العلى في سمائه ، يدبر أمر مخلوقاته ويعلم ما هم عليه .

قال أبو عمر الطلمنكي : أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معني قوله تعالى :  وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ  الحديد:4 ونحو ذلك من القرآن أنه علمه ، وأن الله تعالى فوق السماوات بذاته مستو على عرشه كيف شاء ، وقال أهل السنة في قوله :  الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَي  : إن الاستواء من الله على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ) .
وقال أبو زرعة الرازى : إن الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم بلا كيف أحاط بكل شيء علما ، وإنه تبارك وتعالي يري في الآخرة يراه أهل الجنة بأبصارهم ويسمعون كلامه كيف شاء وكما شاء .

وقال أبو نعيم الأصبهاني : طريقتنا طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع الأمة ، ثم قال : فما اعتقدوه أن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلي الله عليه وسلم في العرش واستواء الله يقولون بها ويثبتونها من غير تمثيل ولا تشبيه ولا تكييف وأن الله بائن من خلقه والخلق بائنون منه ولا يحل فيهم ولا يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه دون أرضه وخلقه ، وقال أيضا : وأجمعوا أن الله فوق سماواته عال على عرشه مستو عليه لا مستول عليه كما تقول الجهمية أنه بكل مكان خلافا لما نزل في كتابه ، قال تعالى :  أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ  ، وقال تعالى أيضا :  إِليْهِ يَصْعَدُ الكَلمُ الطَّيِّبُ  ، وقال تعالى :  الرَّحْمَنُ على العَرْشِ اسْتَوَي  .

وقال أبو الحسن الأشعري في كتابه الإبانة عن أصول الديانة الذي نصر فيه أهل السنة والجماعة عند قوله تعالى :
( أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ ) قال : السماوات فوقها العرش ولما كان العرش فوق السماوات قال أأمنتم من في السماء لأنه على العرش الذي فوق السماوات وكل ما علا فهو سماء والعرش أعلى السماوات ، وليس إذا قال : أأمنتم من في السماء يعني جميع السماوات وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات .

وقال يحي بن معاذ الرازى : إن الله على العرش بائن من خلقه قد أحاط بكل شيء علما وأحصي كل شيء عددا لا يشك في هذه المقالة إلا جهمي رديء أو هالك مرتاب يمزج الله بخلقه ويخلط منه الذات بالأقذار والأنتان .

حسن الخطاف
11-16-2005, 12:56 AM
هل استقى جهم بن صفوان [ مؤسس الجهمية ] فكره من الخارج ؟ وما مدى ثقتنا بما نقل عنه ؟
قرأت ما كتبه السيد الدكتور محمود عبد الرزاق الرضواني مشرف قسم التوحيد حول نشأت الجهمية ، وانا لا أوافق الأخ الفاضل فيما ذهب إليه ، أن جهما استقى فكره من مصدر يهودي أو من وثني لمجرد وجود روايات في هذا الغرض ، ولنتفق يا أخي الدكتور اننا نبتغي الحق في مناقشاتنا ، فإن كنتُ مخطئا فارجو منك ومن القراء أن يقوموا هذا الخطأ ، فالغرض من مناقشاتنا الوصول إلى الحق ، وما دام الغرض ذلك ، فإني في واقع الأمر لست مقتنعا بأن جهما استقى هذا الفكر من اليهودي وانا في شك من الروايات التي ذكرت ذلك حتى أجد من يقنعني به ولنتفق مرة أخرى أننا عندما نناقش شخصا ما ، علينا أن نتجرد من مواقفنا المسبقة نحو هذا الشخص وما قيل نحوه ولندرس القضية بتجرد تام.
وأنا لن أقف عند الجزئيات بل سأتناول الحديث عند ثلاثة أشخاص هم بمثابة المحور الذي دار عليه بحث اخينا الفاضل الدكتور محمود عبد الرزاق حفظه الله ووفقه للخير
وهذه الشخصيات هي : الجعد بن درهم ، أبان بن سمعان ، خالد بن عبد الله القسري ، وفي تصوري ان الوقوف عند هذه الشخصيات يحل الإشكال فالجهم أخذ فكره من الجعد حسب ما ذكر الدكتور الرضواني وهو ماذكره كثير من مؤرخي الفكر الإسلامي ، والجعد أخذع من أبان بن سمعان حتى وصل الطريق إلى لبيد اليهودي ، وأمر أساس ان نتحدث عند خالد بن عبد الله القسري الذي قتل الجعد وكأنه يقيم حدا من حدود الله ، وانا أطلب من الدكتور ان يحيلنا على مصدر نرجع إليه في مسألة استفتاء خالد بن عبد الله القسري علماء عصره حيث يقول:" [وكان ذلك بعد أن استفتي علماء زمانه من السلف الصالح" [/grade] فالذي نريده أن يتكرم علينا أخونا الفاضل بالمصدر فيما يتصل بالاستفتاء .
الجعد بن درهم:
-الجعد بن درهم[ت:120]
لم تذكر المصادر -التي اطلعت عليها- أخبارا مفصلة عن نسب الجعد ، وحياته الخاصة، واكتفت بذكر آرائه الفكرية،ومقتله- من غير أن تحدد في أي سنة قتل- ووقوفه أمام بني أمية ، كما أن هذه المصادر تتسم أغلبها بالخلاف الفكري معه ، ولذا ينبغي أخذ الحذر في التعامل معها.
أصل الجعد بن درهم ، من خراسان‹ › ، وقيل من حرَّان‹ › ، كان معلما لمروان بن محمد ، [ت:132]آخر خلفاء بني أمية ، حتى لقب بمروان الجعدي‹ › ، وكان الجعد من موالي بني مروان ،ويسكن في دمشق ‹ › .
يعتبر الجعد من عداد »التابعين [ولكنه في نظر ابن حجر[ت:852هـ]مبتدع ضال« ‹ › وهذا الابتداع والضلال يرجع إلى آرائه الفكرية التي يمكن حصرها فيما يلي:
1-أن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولا كلم موسى تكليما،وهذا أشهر آرائه التي عرف بها ، والتي كانت السبب المعلَن في قتله على يد خالد بن عبد الله القسري[ت:125]،وذلك في قصة مشهورة نقلها من ترجم لخالد القسري ، فقد وقف خالد القسري يوم عيد الأضحى بالكوفة‹ ›وخطب »الناس فقال في خطبته تلك :أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر«‹ ›.
2- يعتبر الجعد أول من أنكر كلام الله يقول ابن تيمية[ت:728هـ] » وأما فتنة إنكار الكلام لله عز وجل ، فأول من بدعها جعد بن درهم«‹ ›
3- كان الجعد أول من أنكر صفات الله يقول ابن تيمية، عن التأريخ لهذه المسألة :» أول من أظهر هذا النفى في الإسلام الجعد بن درهم«‹ ›.
4- أسس الجعد لمسألة القول بخلق القرآن فكان» أول من قال بخلق القرآن «‹ ›.
5- قوْل الجعد بالقدر ، يقول ابن الجوزي [ت:579]» ثم حدثت القدرية في زمن الصحابة وصار معبد الجهني[ت:80] وغيلان الدمشقي]ت:99] والجعد بن درهم[ت:120] إلى القول بالقدر«‹ ›.
إذا القول بالقدر يعد بمثابة الرابط ، الذي يربط بين الجعد وبين المعتزلة من جهة ، وبين الجعد وبين معاصرَيه من القدرية من جهة ثانية ، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي
6-كان الجعد يتردد إلى وهب بن منبه[ت:114] ،ويسأله عن صفات الله ، فقال له وهب يوما »ويلك يا جعد اقصر المسألة عن ذلك ،إني لأظنك من الهالكين، لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك ، وأن له عينا ما قلنا ذلك ، وأن له نفسا ما قلنا ذلك ، وأن له سمعا ما قلنا ذلك ، وذكر الصفات من العلم والكلام وغير ذلك«‹ ›
هذه هي آراء الجعد بن درهم ، وهناك منْ أضاف إليها الزندقة‹ ›،وهي ليست رأيا عقَديا بقدر ما هي خروج عن المنظومة العقدية الإسلامية ، وما نسب له من الزندقة بالإضافة إلى آرائه الأخرى يحتاج إلى تروي للحكم على مدى صحة نسبة هذه الآراء له.
يمكن القول إن آراءه الأربعة الأولى حاملة لمضمون واحد ، وهو إنكار كلام الله تعالى ، وأن هذا القول يمثل جذرا للقول السادس ، بينما يعد القول الخامس رابطا بين الجعد والمعتزلة ، وبين الجعد ومعاصريه ، وهما معبد الجهني وغيلان الدمشقي.
على أنه ينبغي أن لا يُفهم من ذلك أن الجعد ينكر كلام الله الذي هو القرآن ، وإنما ينكر أنْ تكون لله صفة مستقلة تسمى صفة الكلام ، أي ليست لله صفة على غرار صفة الوجود والقدرة ... ومن هنا يكون الجعد أول من أسس لنفي الصفات – كما يقول ابن تيمية-وتمخض عن هذا الرأي القول بخلق القرآن ، فهو ليس قولا مستقلا للجعد بقدر ما هو لازم عن إنكار صفة الكلام .
يقول ابن تيمية[ت:728] في هذا السياق عن الجعد[ت:80] وجهم بن صفوان[ت:128]» وكانوا أول ما أظهروا بدعتهم ،قالوا إن الله لا يتكلم ولا يكلم ، كما حكي عن الجعد ، وهذه حقيقة قولهم ، فكل من قال القرآن مخلوق فحقيقة قوله أن الله لم يتكلم ولا يكلم« ‹ ›،وحُمِّل كلام الجعد القول» بأن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما« فالجعد لم يقل ذلك ، وإنما هذا ترتيب من القسري على قول الجعد بأن الله لا يتكلم ،أي عدم وجود صفة مستقلة تسمى صفة الكلام ، وإذا كان الجعد لم يقل ذلك ،فهو لم يقصد قطعا إنكار حصول هذا الشيء ، لأنّ نص التهمة مكوَّن من آيتين في القرآن :الأولى قوله تعالى:} وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا(125){[النساء] ،والثانية قوله تعالى}وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164) {[النساء].
من المستبعد أنْ يقصد الجعد إنكار هاتين ؛ لأنه عندها يصبح ناكرا لجزء من القرآن ، وبالتالي يخرج عن كونه من عداد المسلمين ، ومن جهة أخرى لو كان الجعد قاصدا ذلك ، لكانت التهمة بإنكار هاتين الآيتين ، ولكانت الإدانة أقوى والتهمة أشد .
إذاً قصْد الجعد إنكار الكلام كصفة لله ، واختيار الآية الثانية من قبل القسري - } وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164) {[النساء]- إشارة إلى صفة الكلام التي أنكرها الجعد ، وكأن خالد القسري يقول للملأ إن الله أثبت لنفسه صفة الكلام بهذه الآية‹ ›، والجعد ينكر ذلك ، أي كأنه ينكر كلام الله ، وهذه هي الرسالة التي أراد القسري إبلاغها للناس.
وإذا ما صح إنكار الجعد لصفة الكلام ، فمفاد هذا أن الجعد هو المجذر للمعتزلة في هذه المسألة ، وكانت زيادة المعتزلة على ذلك التدليل على نفي هذه الصفة عقلا ونقلا‹ ›.
وهذه هي صلة الوصل بين المعتزلة والجعد ، ويضاف إلى هذه الصلة صلة ثانية تمتن جذور العلاقة بينهما ، ويكون المؤسس فيها هو الجعد،هذه الصلة تتمثل في حقيقة موقف الجعد من بقية الصفات الذاتية‹ › من العلم والسمع... وموقفه من الصفات الخبرية كالعين واليد...فما هي حقيقة موقفه؟
تفيد الرواية السابقة أن الجعد كان يتردد إلى وهب بن منبه[ت:114]،وكانا يتذاكران في صفات الله الذاتية والخبرية، ويبدو أن الجعد كان يرى نفي هذه الصفات بفرعيها الذاتي والخبري، وأن وهبا يثبتها،ودليله على ذلك ورودها في القرآن» لو لم يخبرنا الله في كتابه أن له يدا ما قلنا ذلك...«.
ونفي الجعد لهذه الصفات بفرعيها تجعل منه مؤسسا للفكر الاعتزالي الذي تبنى هذه القضية، ودلل عليها ولكن لا بد من التنبيه أن نكران هذه الصفات الذاتية لا يفهم منه أن الجعد والمعتزلة ينكرون أن يكون الله عالما أو سميعا ...وإنما ينكرون أن تكون له صفة مستقلة تسمى العلم والقدرة...؛ لأن إثبات هذه الصفات لله يسوق إلى تعدد القدماء،إذ من صفات الصفة أن تتسم بالبقاء والقدم...وهذا وصف للذات ،فكأن الذات تتعدد‹ ›،أما إنكارهم للصفات الخبرية فلأنه يخدش في نظرهم في توحيد الله ، إذ فيه مشابهة بين الله ومخلوقاته‹ ›
يفهم من إنكار الجعد للصفات الخبرية أن له موقفا من الأحاديث الواردة في هذه الصفات ، وهو عدم الأخذ بها ، كحديث » إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ «‹ ›، فقد كان يتناظر في شأن هذه الصفات مع وهب بن المنبه ، ومن ديدن المناظر أنْ يستجمع ما يتعلق بالمسألة من نصوص ، وربما يؤيد ما قلناه عن موقفه من السنة أن وهبا في استدلاله على هذه الصفات لم يورد أي ذكر للسنة ، وكأن للجعد موقفا منها في هذه المسألة ،ولذلك حاول الاستدلال على ثبوتها بنص القرآن كونه محل اتفاق بين وهب والجعد .
ولكن لماذا يطلب وهب بن المنبه من الجعد الكف عن الخوض في هذه المسألة ، ويتوقع له الهلاك -وقد حصل ما توقع-؟
يبدو أن توقعات وهب ، جاءت حصيلة قياس الجعد على معبد الجهني[ت:80] وغيلان الدمشقي[ت:99] اللذين ُقتلا على يد بني أمية ، والجامع بين الأشخاص الثلاثة القول بالقدر، فإنكار الجعد لهذه الصفات يضيف إلى رصيده تهمة جديدة تقربه من القتل.
أما ما قيل عن زندقة الجعد فمسألة تحتاج إلى تثبت ، سيما في مسائل تقف وراءها السلطة ، التي قد تلفِّق من التهم ما تريد، لمن ترى في فكره منازعا لها ، وقد تروج ما هو صواب على أنه نوع من الزندقة لتجد في ذلك مبررا للتخلص ممن تراه خصما ، وقد لا ينكشف ذلك على الكثير، فمثل هذا قد يكون وراء الترويج بزندقة الجعد،أو قد يوجد من يعادي الجعد فكريا فيفهم من بعض مواقفه أنها نوع من الزندقة، يقول ابن حجر العسقلاني[ت:852هـ]:» وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة ، منها أنه جعل في قارورة ترابا وماء ، فاستحال دودا ... فقال أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه«‹ ›
ولا أدري أين الإشكال،ولماذا وصف فعله هذا بالزندقة ؟! ألأنه أسند عملية التحول إلى نفسه؟ مع العلم أن إسناد ذلك لا يراد منه مشاركة الله في عملية الخلق ، بل المراد أنه كان سببا في إيجاد كائن جديد متولد من الماء والتراب،وهذا يقال عنه خلق ، وهذا ما صرح به الجعد في قوله » كنت سبب كونه« ، وقد وجد في القرآن ما يؤيد هذا كقوله تعالى:) فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)([المؤمنون]
وربما كان المقصود بزندقة الجعد خروجه على المألوف ، بنفيه لصفة من صفات الله ، وهي صفة الكلام ، فاعتُبر ذلك نوعا من الزندقة ، سيما أنه استحق القتل على هذا النفي- حسب الظاهر- ووجد من بارك لخالد القسري[ت:125] هذا القتل ، وهذه المباركة نوع من إعطاء المشروعية على القتل، والمشروعية هنا هي نفي صفة من صفات الله ، وهذا النفي في نظر هؤلاء نوع من الزندقة.
يقول ابن تيمية[ت:728هـ] عن الجعد:» فضحى به خالد بن عبدالله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ نكير«‹ ›.
وعدم الإنكار يضع علامة استفهام ، فلماذا عدم الإنكار؟ قد يكون ذلك خوفا ، إذ من المؤكد أن هذا الموقف المرعب في ذبحه أمام الناس ألجم الأفواه، وقد يكون بعضه خوفا وبعضه رضى، رجاء بن حيوة[ ت:112] المعاصر للجعد ، حيث يقول بعد سماعه مقتل غيلان[ت:99]‹ › - وغيلان ممن عاصر معبداً - يقول:» قتله أفضل من قتل ألفين من الروم«!‹ ›
ويقول الذهبي[ت:748هـ] عن قتل خالد للجعد " هذه من حسناته«‹ › .
إذا لم يكن الجعد زنديقا ، ولو كانت الزندقة ثابتة عليه لما توانى القسري في إحضارها ، كتهمة ثانية تضاف إلى اتهامه الأول المتمثل » بأن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولا كلم موسى تكليما«.
بعد أن تبين مما سبق أن الجعد كان ينفي صفة الكلام ، وأنه براء من الزندقة، يتوجب علينا الأجابة عن سؤالين:
هل نبع هذا القول منه شخصيا ؟ أم استورده من غيره وتبناه؟.
هل هذا القول يعد سببا كافيا ٍ لتبرير قتله؟ أم هناك أسباب خفية؟
يبدو أن هذا القول نبع منه؛إذ معظم المصادر التي تحدثت عن خالد القسري ، أوعن الجعد ابن درهم ، جعلت الجعد أول من قال بذلك ، وهذا القول أولى مما قيل إن الجعد أخذ هذه المقولة من بيان بن سمعان[ت:119] فابن كثير[ت:774هـ] يرى أن الجعد أخذها من بيان بن سمعان،وأخذها بيان من طالوت ابن أخت لبيد بن أعصم، وأخذها لبيد بن أعصم الساحر الذي سحر الرسول r من يهودي باليمن‹ ›.
بيان بن سمعان النهدي[ت:119]
إذاً المصدر المباشر الذي تلقى عنه الجعد- حسب هذه الرواية - هو بيان بن سمعان ، فمن هو بيان بن سمعان؟ وما هي آراؤه؟وهل يمكن أنْ يتلقى الجعد منه؟
عند الرجوع إلى كتب الكلام نجد أن بيان بن سمعان النهدي[ت:119]رئيس فرقة من فرق الشيعة الغالية ، وهي الفرقة المعروفة بالبيانية نسبة إليه، ومن أقوال البيانية القول بنبوة أبي هاشم /عبد الله بن محمد بن الحنفية[ت:81]
ولما توفي أبو هاشم ادعى بيان النبوة‹ ›، وأنه هوالمقصود بقوله تعالى:} هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ(138) {[آل عمران]‹ ›،وكان علاوة على ذلك مجسما ، ومن أقواله أن الله عزو جل على صورة الإنسان ، وأنه يفنى كله إلا وجهه‹ ›،وقد تعلق بقوله تعالى:} كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ(26)وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(27)([الرحمن] ‹ ›، وكان يدعي ألوهية علي ،وأن روح الله حلت فيه‹ ›.
بان مما سبق أن شخصية بيان الفكرية مغايرة لشخصية الجعد ، وعليه يستبعد أن يكون الجعد قد تأثر ببيان فيما يتصل بمسألة نفي كلام الله ، ومما يعزز هذا أنه لم ينسب- فيما اطلعت عليه-أحدٌ من المؤرخين أو المتكلمين جعداً إلى الجماعة البيانية، وليس من آراء بيان- فيما اطلعت عليه- نفي صفة الكلام أو الصفات الأُخر ، وإنَّ أخذ الجعد هذه المقولة من بيان لم يذكره المؤرخون القدامى كالطبري[ت:310] ، وزيادة على ذلك فإن الجعد كان يحاول تنزيه الله في اتجاهه الفكري ، وهذا ما يفهم من إنكاره لليد والعين كصفات لله ، وهذا مغاير عمَّا كان عليه بيان من تجسيمٍ لله ، فهما على طرفي نقيض.
ولعل الذي دعا البعض إلى عزو هذه الفكرة لبيان ، وتلقي الجعد منه هو أن الجعد بن درهم وبيان بن سمعان تعاصرا زمنيا ، وقتل كلاهما على يد خالد بن عبد الله القسري[ت:125]‹ › .
وقد يكون الداعي إلى ذلك تشويه هذه الفكرة ، وأن مصدرها لا إسلامي باعتبار أن بيان بن سمعان خرج عن الإسلام بادعائه النبوة لنفسه ، والألوهية لعلي بن أبي طالب ، ويندرج ضمن هذا السياق ما يراه ابن تيمية[ت:728هـ] أن أصل هذه المقولة هم الصابئة‹ ›، واليهود وأن الجعد أخذ ذلك عنهم ‹ ›
بعد بيان أن أصل نفي صفة الكلام كان من الجعد ، نعود للإجابة عن السؤال الثاني ،وهو هل القول الذي نسبه له خالد القسري يعد كافيا لقتل الجعد؟ أم هناك أسباب خفية؟.
الجواب عن هذا السؤال يستدعي منا أن نتحدث عن شخصية القاتل وهو خالد بن عبد الله القسري.
خالد بن عبد الله القسري[ت:125]
قبل الشروع في الحديث عن خالد ، يتعين أن نذكر أن خالدا قتل الجعد بن درهم، والكشف عن خالد من حيث السيرة والأخلاق...تحدد لنا مدى حرصه على حراسة الدين ، التي ادعاها وجعلها مسوغا لقتل الجعد ، كما أنها تكشف عن مدى صدق ما ادعاه على الجعد ، والكشف عن مدى صدق ذلك وعدمه، قد يؤثر في إعادة النظر في الموقف من الجعد.
هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز‹ › البجلي القسري الدمشقي ،كنيته أبوالهيثم‹ ›، يرجع أصله إلى اليمن ‹ › وأمه نصرانية‹ ›. استمر خالد في الولاية في زمن هشام بن عبد الملك لمدة خمس عشرة سنة‹ ›،وقد قتل هشام غيلان الدمشقي[ت:99] بتهمة القدر،وقَتل الجعد بن درهم[ت:120] باعتبار أن القاتل الحقيقي هو خالد ، وخالد كان واليا لهشام، ومؤدى هذا أن هشاما مسؤول عن هذا ، بل يرى ابن النديم[ت:385] أن هشاما هو الذي أمر خالدا بقتل الجعد ، وذلك أن أهل الجعد رفعوا إلى هشام» يشكون ضعفهم ، وطول حبس الجعد، فقال هشام أهو حي بعد؟ وكتب إلى خالد في قتله، فقتله يوم أضحى ، وجعله بدلا من الأضحية، بعد أن قال ذلك على المنبر بأمر هشام« ‹ ›


استنابه الوليد بن عبد الملك [ت:96] واليا على الحجاز سنة تسع وثمانين إلى أن توفي الوليد،وبقي واليا عليها في عهد سليمان[ت:99] وفي سنة ست ومائة استنابه هشام على العراق إلى سنة عشرين ومائة‹ ›،وقد ضم له إلى جانب العراق المشرق كله‹ ›.
مات خالد سنة خمس وعشرين ومائة تحت العذاب، بعد أن عاش ستين سنة ‹ ›،وموته كان بعد عزْله عن العراق من قبل هشام بن عبد الملك[ت:125] ‹ ›.
عرف خالد بشدته على الرعية ، وعلى كل منْ يشتمُّ منه معارضة لحكم بني أمية، وكان مما قاله أمام الرعية عندما تولى مكة:» والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم ، إن الله جعل الخلافة منه بالموضع الذي جعلها ، فسلموا وأطيعوا ولا تقولوا كيت وكيت ، إنه لا رأي فيما كتب به الخليفة أو رآه إلا إمضاؤه... والله لو أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم ، لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم، إنه لا يسكن حرم الله وأمنه مخالف للجماعة« ‹ ›.
وهو الذي اقتاد خيرة التابعين وأرسل بهم إلى الحجاج[ت:95]منهم سعيد بن جبير[ت:95] ومجاهد[ت:103]،وقد قتل الحجاج سعيد بن جبير، وسُجن مجاهد حتى مات الحجاج‹ ›.
عرف خالد بثرائه الفاحش ، وروى في ذلك المؤرخون قصصا منها أنه سقط خاتم لجاريته رابعة في مكان قذر ، وقيمة الخاتم ثلاثون ألف درهم ، فسألت منْ يخرجه؟ ، فقال لها القسري :إن يدك أكرم علي من لبسه ، بعدما صار في هذا الموضع القذر ،وأمر لها بخمسة آلاف دينار بدله ،وقد كان لرابعة هذه من الحلي شيء عظيم ، من جملة ذلك ياقوتة وجوهرة ،كل واحدة بثلاثة وسبعين ألف دينار‹ ›، ومن ذلك أنه أعطى أعرابيا عشرة آلاف درهم مقابل بيتين من الشعر مدحه بهما‹ ›.
وهذا يدل على وضع أموال الأمة،في غير موضعها ، ويشير إلى تضخم ثروة خالد ، حتى قيل إنها بلغت» ثلاثة عشر ألف ألف« ‹ › ، وقيل» عشرين ألف ألف« ‹ ›.
وقد ترافق هذا التضخم في الثروة ، والطاعة لولاته بدون تبصر، والشدة على الرعية ، مع تجريح علماء الجرح والتعديل له ، فخالد عند ابن حجر العسقلاني[ت:852هـ] له » أقوال فظيعة« ‹ « وفي نظر يحيى بن معين[ت:233] » بغيض ظلوم ...[ و] رجل سوء يقع في علي « ‹ ›، وقد روى أحاديث ، ولكنه » ليس بالمتقن[و] ينفرد بالمناكير« ‹ › والأحاديث التي رواها» لا يتابع عليها كلها لا إسنادا ولا متنا« ‹ ›،وقد وضعه ابن الجوزي[ت:579] ضمن عداد الضعفاء والمتروكين‹ › .
إذاً خالد القسري ليس موطن ثقة من قبل علماء الجرح والتعديل، وهذا لم يأت من فراغ ، وإنما من خلال سلوكه ، ومن خلال الأحاديث التي رواها، ومن هذه الأحاديث ما رواه عن أبيه عن جده ، وهو يخطب على المنبر » حَدَّثَنِي أَبِي ،عَنْ جَدِّي يَزِيدَ بْنِ أَسَدٍ ،قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ r يَا يَزِيدُ بْنَ أَسَدٍ، أَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ « ‹ ›.
يشتم من الحديث علامات الوضع ، فخالد ضعيف جدا، وينفرد بالأحاديث المنكرة الشاذة ، وقوله هذا على المنبر يراد منه الإعلاء من شأن نفسه أمام الملأ بأن جده صحابي، وبأن خالدا راوية للحديث ، ومن المعروف أن جده لم تثبت صحبته للنبي r إلا من خلال هذا الحديث ‹ › ولا يعرف لجده إلا هذا الحديث‹ ›،ويزداد الشك في هذا الحديث - مما يرجح وضعه من قبل خالد- أن أهل خالد ينكرون أن يكون لجدهم هذا الحديث‹ ›» ولو كان جدهم لقي النبي r لم يكن أهله ينكرونه« ‹‹
أما عن مكانة المسلمين في قلبه فقد ذَل المسلمين ؛ لأنه كان» يولي النصارى والمجوس على المسلمين ، وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطؤونهن« ‹ ›
هذه هي شخصية القسري ظلْمٌ للرعية ، وتبديد لمال الأمة ، وإثراء غير مشروع ، فهل مثل هذا الشخص، يمكن أنْ يكون حارسا على الدين ، ليقتل الجعد بن درهم ، بتهمة أنه قال إن الله ما اتخذ إبراهيم خليلا ، وما كلم موسى تكليما، وما كان قصْد الجعد إلا إنكار صفة مستقلة لله تسمى صفة الكلام ، ثم منْ قال إنَّ الجعد كان يقول بهذا الرأي ؟ ومن المعلوم أن إسناد هذا القول له لم يأت إلا من قبل خالد، وليس ببعيد على خالد أنْ يفتري ذلك على الجعد ليتخلص منه، ثم كيف يكون خالد هو الخصم والحكم في آنٍ واحدٍ!
استنادا إلى المعطيات المتصلة بشخصية خالد ، نستبعد أن يكون قول الجعد الذي نقله خالد عنه هو السبب وراء قتله ؟ فما هو السبب إذا ؟ يرجع ذلك إلى أحد السببين التاليين أو إلى كليهما:
الأول: الخلاف الشخصي بين الجعد وبين خالد القسري فقد كان الجعد يرمي خالدا بالزندقة ‹ ›
الثاني: خروج الجعد على خلفاء بني أمية ، وعداؤه لهم ، فقد خرج على بني أمية مع يزيد ابن المهلب[ت:102]الذي استولى على البصرة ،وخلع ابن المهلب يزيد بن عبد الملك[ت:105] ‹ › ، وتتمثل وظيفة الجعد آنذاك بتحريض الناس على قتال بني أمية ، في تلك الفترة كان الخلاف بين يزيد بن المهلب الذي انضم له الجعد، وبين الحجاج[ت:95 ]شديدا‹ › ، وكان الجعد معارضا للحجاج ،وربما عذبه الحجاج ،ولهذا كان الجعد يقول للحجاج
ليثٌ علي وفي الحروب نعامة فتْخاء‹ › تجفل من صفير الصافر‹ ›
فخروج الجعد على يزيد بن عبد الملك وخلعه، ووقوفه أمام الحجاج ، واتهامه خالد القسري بالزندقة ، كانت وراء مقتل الجعد ، وليس ما رماه به من مسألة نفي صفة الكلام ، ولا أدل على هذا من الولاء المطلق الذي كان يبديه خالد القسري لخلفاء بني أمية، إلى حد أنه كان يقول:" والله ما أوتي بأحد يطعن على إمامه إلا صلبته في الحرم ...والله لو أعلم أن هذه الوحش التي تأمن في الحرم ، لو نطقت لم تقر بالطاعة لأخرجتها من الحرم " ‹ ›
على أن هذا الخروج الفعلي على بني أمية متأسس على الموقف النظري الذي كان يتبناه الجعد، وهو القول بالقدر ، ومؤدى القول بالقدر ضرورة تحمل الإنسان كل ما ينجر عن تصرفاته، وهذا ما يتعارض مع السلطة الأموية
إذا الأسباب السابقة هي وراء مقتل الجعد ، والذي قام به القسري هو أنه أخفى هذه الأسباب ، واتخذ قول الجعد بنفي صفة الكلام – على فرض صحة هذا القول له - مطية للوصل إلى قتله.
وإذا كان خالد بهذه الصورة فإنه يدل- -سيما وأنه تولى الإمارة أكثر من ثلاثين سنة - على الشدة التي كان يتسم بها ، أغلب خلفاء بني أمية على رعيتهم ، وأن همهم الأكبر استتباب الأمن لهم ، وأنهم ما كانوا يقتلون أحدا حرصا منهم على دين ، ومنهم هشام بن عبد الملك [ت:125] الذي قتل غيلان الدمشقي[ت:99].
هذه هي صورة الجعد
وأختم كلامي بالقول أنني لا أدافع هنا شخصية الجعد أو جهم ولكن ما أرده قوله أنه علينا أن لانستبعد العامل السياسي في تشويه صورة جهم وصورة الجعد بن درهم بقطع النظر عن موقفنا منهما لاسيما أن جهم بن صفوان كان معارضا لبني أمية ، فهل تتصور ياأخي الدكتور بعد الاطلاع على شخصية خالد ومن خلال المصادر السنية أنه يقتل الجعد بدافع العقيدة والدفاع عن الدين؟ أما أنا فلا أتصور
و جهم بن صفوان الذي قتل سنة[ت:128]كان معارضا لبني أمية وقد ذكر ابن كثير وغيره أنه كان ممن يدعو بني أمية تحكيم كتاب الله وسنة رسوله وجعل الأمر شورى بين المسلمين‹ .›
ولابد من التنبيه إلى أنه لم يصلنا شيء من آثار جهم ، حتى يكون الحكم له أو عليه متصفا بالنزاهة ، وكل ما قيل عن آرائه أخذت عن المخالفين له فكريا إلى حد تكفيره‹ ›، وفي ظل غياب آثار لجهم يصعب الاطمئنان إلى ما قيل عن فكره ، فربما كانت بعض آرائه دسا عليه قصد التشويه لفكره، وربما كانت من لوازم أقواله، ولازم المذهب ليس بمذهب .
أما فيما يتصل بمسألة نفي الصفات عند جهم فلم يأت من فراغ ، ولا يمكن عزله عن الواقع الفكري آنذاك ، فجهم» أقام ببلخ وكان يصلي مع مقاتل بن سليمان[ت:150] في مسجده ويتناظران حتى نفي إلى ترمذ« ‹ › ومقاتل هذا كان مجسما، وله أصحاب يقولون بالتجسيم ومن أقوالهم :» إن الله جسم ... وإنه على صورة الإنسان ، لحم ودم شعر وعظم ، له جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين.... وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه... « ‹ › .
هذه الصورة الحسية التي رسمها مقاتل لله ، هي التي دفعت بجهم إلى تبني منظومة فكرية حول صفات الله ، فقد أنكر أن يقال عن الله شيء خشية أنْ يخدش بتنزيه الله ، وذلك لإطلاق الشيئية على المخلوق‹ ›،ونفى أيضا أنْ يوصف الله بصفة السمع والبصر‹ ›، بل نقل عنه أنه كان » ينفى الصفات كلها عن الله سبحانه« ‹ ›.
إذا هذا النفي من جهم جاء بمثابة ردة فعل- غير عقلانية- على التجسيم الذي تبناه مقاتل ، وقام بنشره ، وهكذا شعر جهم بالخطورة التي تهدد العقيدة الإسلامية من خلال وصف الله بأوصاف لا تليق به ، ولكن جهم أفرط في النفي حتى قال بأن الله لا يوصف بما يوصف به العباد‹ ›
وفي الختام تقبل مني أخي الدكتور محمود كل تحياتي ووفقك الله للخير وإن رأيت اعوجاجا في كلامي أنت أو أي أحد من القراء فرحم الله امرأ أهدى إلي عيوبي والسلام وتقبل مني هذه الوردة :emrose:

د. محمود عبد الرازق الرضواني
11-16-2005, 06:54 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد .
ردا على تعقيب الأخ حسن الخطاف ـ بعد شكره على الوردة التي أهداها إلينا حول سؤاله ـ : ( هل استقى جهم بن صفوان [ مؤسس الجهمية ] فكره من الخارج ؟ وما مدى ثقتنا بما نقل عنه ؟ قرأت ما كتبه السيد الدكتور محمود عبد الرزاق الرضواني مشرف قسم التوحيد حول نشأت الجهمية ، وانا لا أوافق الأخ الفاضل فيما ذهب إليه )
قصة الجهم وأستاذه الجعد قصة متواترة في كتب التراث ويكفي لمن لديه نسخة من المكتبة الشاملة فقط دون بقية المكتبات الالكترونية أن يبحث عن ( الجعد بن درهم ) وسيجد أن الجعد بن درهم ذكرت قصته 164 مرة في 56 مرجعا وسأذكر طرفا من ذلك بعد قليل .
لكن نبدأ أولا بذكر المراجع التي طلبها الأخر الكريم حول قوله : ( وأنا أطلب من الدكتور ان يحيلنا على مصدر نرجع إليه في مسألة استفتاء خالد بن عبد الله القسري علماء عصره حيث يقول وكان ذلك بعد أن استفتي علماء زمانه من السلف الصالح فالذي نريده أن يتكرم علينا أخونا الفاضل بالمصدر فيما يتصل بالاستفتاء ) .
1- (شرح العقيدة الطحاوية [ جزء 1 - صفحة 293 ] (وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم فجزاه الله عن الدين وأهله خيرا وأخذ هذا المذهب [ عن الجعد ] - الجهم بن صفوان فأظهره وناظر عليه وإليه أضيف قول : الجهمية فقتله مسلم بن أحوز أمير خراسان بها ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون حتى امتحن أئمة الإسلام ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة )
2- درء التعارض [ جزء 3 - صفحة 58 ] ( وقال عثمان بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية : ( ما الجهمية عندنا من أهل القبلة بل هؤلاء الجهمية أفحش زندقة وأظهر كفرا وأقبح تأويلا لكتاب الله ورد صفاته من الزنادقة الذين قتلهم علي وحرقهم بالنار قال : والزنادقة والجهمية أمرهما واحد ويرجعان إلى معنى واحد ومراد واحد وليس قوم أشبه بقوم منهم بعضهم ببعض .. قال : ولو كان جهم وأصحابه في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين لقتلوهم كما قتل علي الزنادقة التي ظهرت في عصره ولقتلوا كما قتل أهل الردة ألا ترى أن الجعد بن درهم أظهر بعض رأيه في زمن خالد بن عبد الله القسري فزعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا فذبحه خالد بواسط يوم عيد الأضحى على رؤوس من حضره من المسلمين لم يعبه به عائب ولم يطعن عليه طاعن بل استحسنوا ذلك من فعله وصوبوه )
3- منهاج السنة النبوية [ جزء 3 - صفحة 165 ] وأما السلف والأئمة وأئمة أهل الحديث وأئمة التصوف وكثير من أهل الكلام والنظر فأقروا بأنه محبوب لذاته بل لا يستحق أن يحب لذاته إلا هو وهذا حقيقه الأولوهية وهو حقيقة ملة إبراهيم ومن لم يقر بذلك لم يفرق بين الربوبية والإلهية ولم يجعل الله معبودا لذاته ولا اثبت التلذذ بالنظر إليه ولا أنه أحب إلى أهل الجنة من كل شيء وهذا القول في الحقيقة هو من أقوال الخارجين عن ملة إبراهيم من المنكرين لكون الله هو المعبود دون ما سواه ولهذا لما ظهر هذا القول في اوائل الإسلام قتل من أظهره وهو الجعد بن درهم يوم الأضحى قتله خالد بن عبد الله القسري برضا علماء الإسلام وقال ضحوا أيها الناس تقبل الله ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا ثم نزل فذبحه ) .
أما بخصوص قصة الجعد وأخذ عقيدة التعطيل عن اليهود فنذكر لك المصادر التالية :
1- الوافي في الوفيات جزء 1 - صفحة 1513 ( الجعد بن درهم الجعد بن درهم مؤدب مروان الحمار ولهذا يقال له مروان الجعدي كان الجعد أول من تفوه أن الله لا يتكلم وقد هرب من الشام يقال إن الجهم بن صفوان أخذ عنه مقالة خلق القرآن وأصله من حران يروى أن خالد بن عبد الله القسري خطب الناس يوم الأضحى بواسطة وقال أيها الناس ضحوا تقبل الله منكم ضحاياكم فإني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ثم نزل وذبحه وهي قصة مشهورة رواها قتيبة بن سعيد والحسن بن الصباح وذلك في حدود سنة عشرين ومائة وأخذ جعد عن أبان بن سمعان وأخذ أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ طالوت من لبيد وكان لبيد يقول بخلق التوراة وأول من صنف في ذلك طالوت وكان زنديقاً وأفشى الزندقة وقال علي بن القاسم الخوافي - من الوافر -
أبينوا أين جعد أين جهم ... ومن والأهم لهم الثبور
كأن لم ينظم النظام قولاً ... ولم تسطر لجاحظهم سطور
وأين الملحد ابن أبي دؤاد ... لقد ضلوا وغرهم الغرور . )
2- البداية والنهاية لابن كثير [ جزء 10 - صفحة 19 ] ( وقد روى البخاري في كتاب أفعال العباد وابن أبي حاتم في كتاب السنة وغير واحد ممن صنف في كتب السنة أن خالد بن عبدالله القسري خطب الناس في عيد أضحى فقال أيها الناس ضحوا يقبل الله ضحاياكم فاني مضح بالجعد بن درهم إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل فذبحه في أصل المنبر قال غير واحد من الأئمة كان الجعد بن درهم من أهل الشام وهو مؤدب مروان الحمار ولهذا يقال له مروان الجعدي فنسب إليه وهو شيخ الجهم بن صفوان الذي تنسب إليه الطائفة الجهمية الذين يقولون إن الله في كل مكان بذاته تعإلى الله عما يقولون علوا كبيرا وكان الجعد بن درهم قد تلقى هذا المذهب الخبيث عن رجل يقال له أبان بن سمعان وأخذه أبان عن طالوت إبن أخت لبيد إبن أعصم عن خاله لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم في مشط وماشطه وجف طلعة ذكر له وتحت راعوفة ببئر ذي اروان الذي كان ماؤها نقاعة الحناء وقد ثبت الحديث بذلك في الصحيحين وغيرهما وجاء في بعض الأحاديث أن الله تعإلى أنزل بسبب ذلك سورتي المعوذتين . وقال أبو بكر بن أبي خثيمة حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي سمعت أبا بكر بن عياش قال رأيت خالد القسري حين أتى بالمغيرة وأصحابه وقد وضع له سرير في المسجد فجلس عليه ثم أمر برجل من أصحابه فضرب عنقه ) .
2- مختصر تاريخ دمشق لابن عساكر [ جزء 1 - صفحة 772 ] (جعد بن درهم أول من قال بخلق القرآن . كان يسكن دمشق وله بها دار وهو الذي ينسب إليه مروان بن محمد لأنه كان معلمه . وقيل إنه كان من أهل حران هو الذي قتله خالد بن عبد الله القسري بالكوفة يوم الأضحى وكان أول من أظهر القول بخلق القرآن في أمة محمد فطلبه بن أمية فهرب من دمشق وسكن الكوفة ومنه تعلم الجهم بن صفوان بالكوفة خلق القرآن وهو الذي تنسب الجهمية إليه وقتله سلم بن أحوز بأصبهانسئل أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الغسيلي : من أين كان جهم ؟ قال : من ترمذ وكان يذهب في بدء أمره ثم صار صاحب جيش الحارث بن سريج بمرو فقتله سلم بن أحوز في المعركة وقبره بمرو . وسئل : ممن أخذ ابن أبي دؤاد ؟ فقال : من بشر المريسي وبشر المريسي أخذه من جهم بن صفوان وأخذه جهم من الجعد بن درهم وأخذه جعد بن درهم من أبان من طالوت ابن أخت لبيد وختنه وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم . وكان لبيد يقرأ القرآن وكان يقول بخلق التوراة وأول من صنف في ذلك طالوت وكان طالوت زنديقا وأفشى الزندقة ثم أظهره جعد بن درهم فقتله خالد بن عبد الله القسري يوم الأضحى بالكوفة وكان خالد واليا عليها أتي به في الوثاق حتى صلى وخطب ثم قال في آخر خطبته : انصرفوا وضحوا تقبل الله منا ومنكم فإني أريد أن أضحي اليوم بالجعد بن درهم فإنه يقول ما كلم الله موسى تكليما ولا اتخذ إبراهيم خليلا تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوا كبيرا ثم نزل وحز رأسه بيده بالسكين .)
4- العقود الدرية [ جزء 1 - صفحة 100 ] ( وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس فوق العرش ولا فوق السموات ونحو ذلك بقوله هل تعلم له سميا لقد أبعد النجعة وهو إما ملغز وإما مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيرا لهم في أصل دينهم لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد وإنما الرسالة زادتهم عمى وضلالا العقود الدرية ، يا سبحان الله كيف لم يقل الرسول يوما من الدهر ولا أحد من سلف الأمة هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم واعتقدوا كذا وكذا فإنه الحق وما خالفه ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره وانظروا فيها فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه وما لا فتوقفوا فيه وانفوه ثم الرسول قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثا وسبعين فرقة فقد علم ما سيكون ثم قال إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وروى عنه أنه قال في صفة الفرقة الناجية هي من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي فهلا قال من تمسك بالقرآن أو بدلالة القرآن أو بمفهوم القرآن أو بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال وإنما الهدى في رجوعكم إلى مقاييس عقولكم وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة وإن كان نبغ أصل هذه المقالة في أواخر عصر التابعين ثم أصل هذه المقالة مقالة التعطيل للصفات إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين وضلال الصابئين فأول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو الجعد ابن درهم فأخذها عنه الجهم بن صفوان وأظهرها فنسبت مقالة الجهمية إليه وقد قيل إن الجعد أخذ مقالته عن أبان بن سمعان وأخذها أبان من طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ) .

4- وقال ابن النديم في الفهرست ص472 (الجعد بن درهم الذي ينسب اليه مروان بن محمد فيقال مروان الجعدي وكان مؤدبا له ولولده فأدخله في الزندقة وقتل الجعد هشام بن عبد الملك في خلافته بعد أن أطال حبسه في يد خالد بن عبد الله القسري فيقال ان آل الجعد رفعوا قصة الى هشام يشكون ضعفهم وطول حبس الجعد فقال هشام أهو حي بعد وكتب الى خالد في قتله فقتله يوم أضحى وجعله بدلا من الأضحية بعد أن قال ذلك على المنبر بأمر هشام فإنه كان يرمى أعني خالدا بالزندقة وكانت أمه نصرانية وكان مروان الجعدي زنديقا)
5- لسان الميزان 2/105 . ( 427 الجعد بن درهم عداده في التابعين مبتدع ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر والقصة مشهورة انتهى وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة منها أنه جعل في قارورة ترابا وماء فاستحال دودا وهوام فقال أنا خلقت هذا لأني كنت سبب كونه فبلغ ذلك جعفر بن محمد فقال ليقل كم هو وكم الذكران منه والإناث ان كان خلقه )
قال ابن حجر في فتح الباري (13/346) . ( وأما الجهمية فلم يختلف أحد ممن صنف في المقالات أنهم حتى نسبوا الى التعطيل وثبت عن أبي حنيفة انه جهم في نفي التشبيه حتى قال ان الله ليس بشيء وقال الكرماني الجهمية فرقة من المبتدعه ينتسبون الى جهم بن صفوان مقدم الطائفة القائلة ان لا قدرة للعبد أصلا وهم الجبرية بفتح الجيم وسكون الموحدة ومات مقتولا في زمن هشام بن عبد الملك انتهى وليس الذي انكروه على الجهمية مذهب الجبر خاصة وانما الذي اطبق السلف على ذمهم بسبه حتى قالوا ان القرآن ليس كلام الله وانه مخلوق وقد ذكر الأستاذ أبو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي في كتابه الفرق بين الفرق ان رءوس المبتدعة أربعة الى ان قال والجهمية اتباع جهم بن صفوان الذي قال بالاجبار والاضطرار الى الأعمال وقال لا فعل الله تعالى وانما ينسب الفعل الى العبد مجازا ان يكون فاعلا أو مستطيعا لشيء وزعم ان علم الله حادث وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم أو مريد حتى قال لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره قال واصفه بأنه خالق ومحي ومميت وموحد بفتح المهملة الثقيلة لأن هذه الأوصاف خاصة به وزعم ان كلام الله حادث ولم يسم الله متكلما به قال وكان جهم يحمل السلاح ويقاتل وخرج مع الحارث بن سريج وهو بمهملة وجيم مصغر لما قام على نصر بن سيار عامل بني أمية بخراسان فآل أمره الى ان قتله سلم بن أحوز وهو بفتح السين المهملة وسكون اللام وأبوه بمهملة وآخره زاي وزن أعور وكان صاحب شرطة نصر وقال البخاري في كتاب خلق افعال العباد بلغني أن جهما كان يأخذ عن الجعد بن درهم وكان خالد القسري وهو أمير العراق خطب فقال اني مضح بالجعد بن درهم لأنه زعم ان الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما قلت وكان ذلك في خلافة هشام بن عبد الملك بالحق الكرماني انتقل ذهنه من الجعد الى الجهم فان قتل جهم كان بعد ذلك بمدة ونقل البخاري عن محمد بن مقاتل قال قال عبد الله بن المبارك ولا أقول بقول الجهم ان له قولا يضارع قول الشرك أحيانا وعن بن المبارك انا لنحكي كلام اليهود والنصارى نستعظم ان نحكي قول جهم وعن عبد الله بن شوذب قال ترك جهم الصلاة أربعين يوما على وجه الشك وأخرج بن أبي حاتم في كتب الرد على الجهمية من طريق خلف بن سليمان البلخي قال كان جهم من أهل الكوفة وكان فصيحا ولم يكن له نفاذ في العلم فلقيه قوم من الزنادقة فقالوا له صف لنا ربك الذي تعبده فدخل البيت لا يخرج مدة ثم خرج فقال هو هذا الهواء مع كل شيء وأخرج بن خزيمة في التوحيد ومن طريقه البيهقي في الأسماء قال سمعت أبا قدامة يقول سمعت أبا معاذ البلخي يقول كان جهم على معبر ترمذ وكان كوفي الأصل فصيحا ولم يكن له علم ولا مجالسة أهل العلم فقيل له صف لنا ربك فدخل البيت لا يخرج كذا ثم خرج بعد أيام فقال هو هذا الهواء مع كل شيء وفي كل شيء ولا يخلو منه شيء وأخرج البخاري من طريق عبد العزيز بن أبي سلمة قال كلام جهم صفة بلا معنى وبناء بلا أساس ولم يعد قط في أهل العلم وقد سئل عن رجل طلق قبل الدخول فقال تعتد امرأته وأورد آثارا كثيرة عن السلف في تكفير جهم وذكر الطبري في تاريخه في حوادث سنة سبع وعشرين أن الحارث بن سريح خرج على نصر بن سيار عامل خراسان لبني أمية وحاربه والحارث حينئذ يدعو الى العمل بالكتاب والسنة وكان جهم حينئذ كاتبه ثم تراسلا في الصلح وتراضيا بحكم مقاتل بن حيان والجهم فاتفقا على ان الأمر يكون شورى حتى يتراضى أهل خراسان على أمير يحكم بينهم بالعدل فلم يقبل نصر ذلك واستمر على محاربة الحارث الى ان قتل الحارث في سنة ثمان وعشرين في خلافة مروان الحمار فيقال ان الجهم قتل في المعركة ويقال بل اسر فأمر نصر بن سيار سلم بن احوز بقتله فادعى جهم اختلفا فقال له سلم لو كنت في بطني لشققته حتى اقتلك فقتله وأخرج بن أبي حاتم من طريق محمد بن صالح مولى بني هاشم قال قال سلم حين أخذه يا جهم اني لست أقتلك لأنك قاتلتني أنت عندي أحقر من ذلك ولكني سمعتك تتكلم بكلام أعطيت الله عهدا ان لا املكك الا قتلتك فقتله ومن طريق الفاء بن سليمان عن خلاد الطفاوي بلغ سلم بن احوز وكان على شرطة خراسان ان جهم بن صفوان ينكر ان الله كلم موسى تكليما فقتله ومن طريق بكير بن معروف قال رأيت سلم بن أحوز حين ضرب عنق جهم فاسود وجه جهم وأسند أبو القاسم اللالكائي في كتاب السنة له ان قتل جهم كان في سنة اثنتين وثلاثين ومائة والمعتمد ما ذكره الطبري انه كان في سنة ثمان وعشرين وذكر بن أبي حاتم من طريق سعيد بن رحمة صاحب أبي إسحاق الفزاري ان قصة جهم كانت سنة ثلاثين ومائة وهذا يمكن حمله على جبر الكسر أو على ان قتل جهم تراخى عن قتل الحارث بن سريج واما قول الكرماني ان قتل جهم كان في خلافة هشام بن عبد الملك فوهم لأن خروج الحارث بن سريج الذي كان جهم كاتبه كان بعد ذلك لعل مستند الكرماني ماأخرجه بن أبي حاتم من طريق صالح بن احمد بن حنبل قال قرأت في دواوين هشام بن عبد الملك الى نصر بن سيار عامل خراسان اما بعد فقد نجم قبلك رجل يقال له جهم من الدهرية فان ظفرت به فاقتله ولكن لا يلزم من ذلك ان يكون قتله وقع في زمن هشام وان كان ظهور مقالته وقع قبل ذلك حتى كاتب فيه هشام والله اعلم ) .
وهذا نص كلام الإمام أحمد في كتابه : (الرد على الجهمية
قال الإمام أحمد رحمه الله وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بكلامهم بشرا كثيرا فكان مما بلغنا من أمر الجهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ وكان صاحب خصومات وكلام وكان أكثر كلامه في الله تعالى فلقي أناسا من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم فقالوا له نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له ألست تزعم أن لك إلها قال الجهم نعم فقالوا له فهل رأيت إلهك قال لا قالوا فهل سمعت كلامه قال لا قالوا فشممت له رائحة قال لا قالوا فوجدت له حسا قال لا قالوا فوجدت له مجسا قال لا قالوا فما يدريك أنه إله قال فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوما ثم إنه استدرك حجة مثل حجة زنادقة النصارى وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح الذي في عيسى هو روح الله من ذات الله فإذا أراد أن يحدث أمرا دخل في بعض خلقه فتكلم على لسان خلقه فيأمر بما يشاء وينهى عما يشاء وهو روح غائبة عن الأبصار فأستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة فقال للسمنى ألست تزعم أن فيك روحا قال نعم فقال هل رأيت روحك قال لا قال فسمعت كلامه قال لا قال فوجدت له حسا أو مجسا قال لا قال فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان ووجد ثلاث آيات من المتشابه قوله ليس كمثله شيء 11 الشورى وهو الله في السموات والأرض 3 الأنعام لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار 103 الأنعام فبنى أصل كلامه على هذه الآيات وتأول القرآن على غير تأويله وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أن من وصف الله بشيء مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافرا وكان من المشبهة فأضل بكلامه بشرا كثيرا وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالصرة ووضع دين الجهمية فإذا سألهم الناس عن قول الله ليس كمثله شيء يقولون ليس كمثله شيء من الأشياء وهو تحت الأرضين السبع كما هو على العرش ولا يخلو منه مكان ولا يكون في مكان دون مكان ولم يتكلم ولا يتكلم ولا ينظر إليه أحد في الدنيا ولا في الآخرة ولا يوصف ولا يعرف بصفة ولا يفعل ولا له غاية ولا له منتهى ولا يدرك بعقل وهو وجه كله وهو علم كله وهو سمع كله وهو بصر كله وهو نور كله وهو قدرة كله ولا يكون فيه شيئان ولا يوصف بوصفين مختلفين وليس له أعلى ولا أسفل ولا نواحي ولا جوانب ولا يمين ولا شمال ولا هو خفيف ولا ثقيل ولا له لون ولا له جسم وليس هو بمعمول ولا معقول وكلما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه قال أحمد وقلنا هو شيء فقالوا هو شيء لا كالأشياء فقلنا إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يؤمنون بشيء ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة بما يقرون في العلانية فإذا قيل لهم من تعبدون قالوا نعبد من يدبر أمر هذا الخلق فقلنا هذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة قالوا نعم فقلنا قد عرف المسلمون أنكم لا تؤمنون بشيء وإنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرونه فقلنا لهم هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى قالوا لم يتكلم ولا يكلم لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة والجوارح عن الله منفية فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله ولا يعلم أنهم إنما يعود قولهم إلى ضلالة وكفر ولا يشعر أنهم لا يقولون قولهم إلا فرية في الله ) .

وفي الختام أرجو من الأخ حسن الخطاف أن يركز على الأمور المهمة في الموضوع وهي التبرؤ من عقيدة الجهمية ومن تبنى فكرهم حتى عصرنا وقدم العقل على النقل وعطل أوصاف الله تحت مسمى نفي التشبيه عن الله ، أما الأشخاص ومصيرهم فأمرهم إلى الله عز وجل .

عقبة
11-18-2005, 01:29 AM
الشكر الجزيل يا دكتور محمود

د. هشام عزمي
11-18-2005, 03:59 AM
جزاك الله خيرًا يا فضيلة الدكتور .. وقصة تضحية خالد القسري بالجعد تناولها بعض المعاصرين بالنقد من ناحية الإسناد وسعى البعض للطعن في صحتها مثل كتاب (قصص لا تثبت) لمشهور آل سلمان ، فقد بين ضعفها ، ثم رد عليه الدكتور محمد بن خليفة التميمي في كتاب فيه ذكر لترجمة الجعد ( مقالة الجهمية ... ) من سلسلة دراسات في توحيد الأسماء والصفات ، ثم ردَّ عليه مشهور بعد ذلك في عدد آخر من كتاب (قصص تثبت) .. وقد ذكر شيخنا أبو إسحق الحويني أن هذه القصة لها عدة أسانيد تكلم فيها أهل العلم و لكن مجموعها يؤذن بأن لها أصلاً ، لكن قواعد الحديث الصارمة لا تجري على الأخبار التاريخية بنفس الصرامة خاصة أن القصة قد قبلها المتقدمين جميعًا دون نكير فشهرتها عندهم تغني عن إسنادها .. وكثير من القصص لشهرتها وظهورها يكتفى أهل العلم بذلك عن روايتها فالشهرة احيانًا تفوق في القبول كثيرًا من أسانيد الرجال .

حسن الخطاف
11-23-2005, 10:52 AM
أشكرك الدكتور محمود عبد الرزاق الرضواني والدكتور هشام عزمي – وإن كان في كلامه غمز - وكأنه تصور أنني أنقص من مكانة الدكتور الرضواني وأني أنسبه إلى عدم المعرفة عندما طلبت منه مصدرا في استفتاء خالد القسري لقتل الجعد ، فليس من شأن قلمي أن ينسب أحدا إلى العجز لاسيما الدكتور الرضواني ، ولأن في ذلك استخفافا لست ممن يمارسه ، ولكن ماطلبته فعليا هو أن نجد أشخاصا باركوا هذا الصنيع و كانوا معاصرين للجعد ، وربما خانني التعبير .
ولكن أقول وسيكون كلامي هذا هو الرد الأخير حتى لا يظن ظان أني من هواة البحث عن الخلافيات أو الاسترسال في أمور قد لا يراها البعض مجدية فمن السهل أن نجد هذا التعميم في كثير من الكتب – كقولهم- وقد نقل ذلك الدكتور الرضواني- "وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم " وقريب من هذا ما قلته أنا في كلمتي نقلا عن الشيخ ابن تيمية رحمه الله- فضحى به خالد بن عبد الله القسري على رؤوس الخلائق وماله يومئذ نكير[ ابن تيمية بيان تلبيس الجهمية 1/ 277]فعدم الإنكار إيماء إلى عدم وجود المخالفة ولكن لنطرح بعض الأسئلة .
من هم هؤلاء الذين وافقوا خالد بن عبد الله القسري على القتل ؟ ولنفترض أن الجعد بن درهم كان مرتدا ، أليس من المطلوب أن يطلب منه الرجوع والتوبة ؟ ألا ينبغي أن تترك له مهلة ليرجع فيها عن الارتداد ؟ ألا ينبغي أن يحاور في مسألة ما نسب له من القول أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما لإزاحة هذه الشبهة عن نفسه وهي حتى لو كانت واهية بنظر خالد فهي ليست واهية بنظر الجعد، ثم كيف نجعل من خالد مدعيا وقاضيا في نفس الوقت ! ، وهل تتصور من خالد بن عبد الله القسري الذي يروى أنه كان " يولي النصارى والمجوس على المسلمين وكان أهل الذمة يشترون الجواري المسلمات ويطؤونهن "[ تاريخ الجهمية والمعتزلة:40] هل تتصور منه أن يكون غيورا على الدين! وهو الذي يروى عنه أنه بنى لأمه كنيسة تتعبد فيها ، وفيه يقول الفرزدق :
بنى بيعة فيها الصليب لأمه ويهدم من بغض منار المساجد ، وهو الذي اقتاد سعيد بن جبير ومجاهد وبعث بهما إلى الحجاج وقد قتل الحجاج سعيدا وسُجن مجاهد حتى مات
[ الذهبي، سير أعلام النبلاء 5:427] وزيادة على هذا هو في نظر يحيى بن معين " بغيض ظلوم ... [ ورجل] سوء يقع في علي[ الذهبي ، ميزان الاعتدال] ...
كيف نتصور أن ينتصر مثل هذا لديننا ! وفي تصوري أن البحث في مثل هذه الجزئيات ليس هامشيا ، بل هو أمر أساسي ، فليس ببعيد أن تكون السلطة السياسية آن ذاك تريد التخلص من هذا الرجل فنسبت له هذه الآراء ، وذلك للتخلص من تبعات هذا القتل ولتجد المباركة وكأنها حامية للدين ، وهذا في رأي هو السبب وراء مقتل هذا الرجل فقد كان هناك خلاف شخصي بين الجعد بن درهم ربين خالد القسري ، والجعد كان يرمي خالدا بالزندقة[ ابن النديم، الفهرست :472] وقبل هذا كان الجعد بن درهم قد خرج على بني أمية مع يزيد بن المهلب وتتمثل وظيفته بتحريض الناس على قتال بني أمية .
هذا هو السبب في تصوري وراء مقتل الجعد، وليس ببعيد أن يكون مانسب لجعد مصطنعا بشكل كامل من قبل خالد بن عبد الله القسري ، وذلك لتحقيق غرضين: الأول: التخلص من جعد باعتباره معاديا لها، الثاني: أن تظهر للناس بأنها هي المدافعة عن حمى الدين ، وإلا أين الشهود؟ وكيف لايترك له مجال للتوبة ؟ أو المناقشة؟
وأما تعدد النقل فقد يكون الخبر واحدا ثم نقل بهذه الكثرة كشأن كثير من الأخبار التاريخية ،و هذا المنظر وهو أن ترى شخصا يذبح شخصا أمامك ناظريك مع فقد كثير من المبررات ، تجعل من الطبيعي السكوت وعدم الإنكار ، لاسيما إذا وجد هناك من ينتصر لهذا الصنيع ، أو يكفره لمجرد قوله هذا .
أما عن العلاقة بين الجعد وبين بيان فالربط بينهما غريب ، فبيان حسب المدونات الكلامية كان مجسما بينما الذي دفع الجعد إلى إنكار صفة الكلام هو تصوره الخاطئ أن ذلك أقرب إلى التنزيه ، وشتان بين التجسيم والتنزيه ، ثم لم ينسب- فيما اطلعت عليه-أحدٌ من المؤرخين أو المتكلمين جعداً إلى الجماعة البيانية، وقول الجعد بخلق القرآن ونفي صفات الكلام قصد التنزيه في رأيه لايتفق أيضا مع الفكر اليهودي الذي فيه تشبيه وتجسم.
وعلينا أن نفصل بين أمرين : بين صحة القتل كخبر ينقل وبين مانسب للجعد ، فالقصة كخبر ينقل في تصوري لاشك فيها ، يقول ابن كثير:" ... ثم نزل فذبحه في أصل المنبر وقد ذكر هذا غير واحد من الحفاظ منهم البخاري وابن أبي حاتم والبيهقي وعبد الله بن أحمد وذكره ابن عساكر في التاريخ" [ البداية والنهاية: 9 / 350] وبين سبب قتل الجعد ، فليس من لوازم صحة القصة صحة السبب وراء القتل
ولابد من البيان أننا عندما نكتب ذلك لايخطر على البال أن نكون من دعاة الجهمية او ممن يعطل صفات الله ، ولكن عدم السير وراء هذا المنهج شيء والتصديق بما نسب للجعد شيء آخر ، فليس من لوازم إثبات القصة القول بنفي الصفات والدخول في سلك الجهمية ، كما أنه ليس من لوازم نفي القصة نفي القول بتعطيل الصفات
وفي الختام تقبلوا تحياتي مع هذه الوردة :emrose:

عمار احمد المغربي
05-29-2007, 01:24 AM
جزاك الله كل خير يا دكتور
ان شاء الله ساطبع الكلام لكثرته واقراه على تمهل

طالب
07-02-2007, 11:54 PM
السلام عليكم

بارك الله في الدكتور و وفقه إلى ما يحبه و يرضاه

هل يسمح لي أخي (حسن الخطاف) بسؤاله إن كان قد اطلع على شيء من كتابات الكاتب/ حسن بن فرحان المالكي

و عن رأيه فيها ؟

و لكم منّي جزيل الشكر

متدين عقلاني
07-22-2007, 03:40 AM
أنا يا دكتور مسلم ، أعيش في هذا القرن ، ولدي كثير من الاستشكالات والرغبات والأسئلة المتعلقة بهذا العالم الذي أعيش فيه ، أتمنى منك بحكم كونك أستاذا تحمل على رقبتك هم التوجيه والإرشاد أن تتفرغ لي ولزمني ولقضاياي ، وتترك أنت وعلمائنا الأفاضل الصراع والنقاش والبحث والنشر لمذاهب بادت وانتهى زمنها ، في الوقت الذي أتعرض أنا المسلم العامي لغزو رهيب بث في أداة لا أستطيع قطع إدمان النظر إليها يستغلها الفاتيكان والعلمانيون واليهود وكل العالم ماعدانا نحند المسلمين فما زلنا نخوض حربنا الضروس مع الجهم وغيره ممن لا يستحق صرف الوقت لذكره ، وأتمنى أن لا تفهني فهما خاطئا فهذا تاريخ نسجله ونستفيد منه العبر ثم نغلقه ونضعه في الأرشيف ونشتغل بهذا الزمن الذي نحن فيه......تحياتي

د. هشام عزمي
07-22-2007, 04:34 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،

إذن ما المشكلة يا أخ متدين عقلاني ؟!

أنت تر أمرًا ما مفيدًا نستخلص منه العبر ، إذن لماذا تعترض ؟!

هل ترانا أعطينا الأمر أكثر من حقه وأهملنا باقي المواضيع الهامة في المنتدى ؟!

لا حول ولا قوة إلا بالله !!

وماذا تعرف يا أخ متدين عقلاني عن الدكتور الرضواني وجهوده في تعليم العقيدة السليمة ؟
وهل تتابع ما يكتبه حتى تقفز لتعترض على هذا الموضوع بالذات ؟

وهل إذا أعرضنا عن تعليم الناس عقيدتهم ودينهم وتاريخهم ستحل قضايانا وستعود كرامتنا المهدرة كمسلمين في جميع أنحاء العالم ؟
هل تضمن لي ذلك يا أخ متدين عقلاني ؟

أليس الأولى لك أن تتعلم عقيدتك جيدًا وتصحح اعتقادك في الله حتى تعرف سبب وجودك في هذه الدنيا والمغزى الحقيقي لخلق الإنسان على هذه الأرض ولكي تعرف المنطلقات العقائدية التي ستبني عليها قراراتك المصيرية والأولويات الفكرية التي ستبني عليها حياتك كلها وستستعى لتحقيقها ؟
أم ماذا يا ... متدين !!

متدين عقلاني
07-24-2007, 02:39 PM
أشكرك كثيرا د.هشام ، وكون الدكتور الرضواني صاحب جهود في الدعوة لا ينافي مناقشتنا له في كثير من أساليب طرح الموضوع ومعايير اختيار الموضوع ، لاحظ أنني لم أطلب منه بصفتي باحثا ولا طالبا للعلم وإنما أحببت لفت انتباهه _ مع علمائنا الأفاضل - إلى مسألة هامة وهي مراعاة حاجة جمهور الأمة وهم العوام فملايين المسلمين اليوم في حاجة إلى طرق مواضيع ذات صلة بهمومهم ومعيشتهم ، أعتقد أن مثل هذه المواضيع أعطيت أكثر من حجمها - وقد نبه على ذلك عدد من المفكرين الإسلاميين كالغزالي- فالجهمية والمعطلة والمعتزلة فرق بادت وانتهت وليس شرطا لكي تعلمني العقيدة الصحيحة أن تصرف جهدي ووقتي لمناقشة قضيتهم ، لماذا لا تعرض علي العقيدة مباشرة ثم تتجه للرد على الشبه المثارة الآن من الفاتكان ومن العلمانيين ومن المفكرين الغربيين ، أشكر القائميين على المنتدى كثيرا لأنهم بالفعل يقومون بالكثير لكن لو تأملت يا دكتور لعلمت أن واقعنا ليس وليد اللحظة لكنه نتاج جهود متواصلة من الاستعمار وثمرة غزو ثقافي رهيب لا يمكن أن نحول المسلمين بمجرد طرق تلك المواضيع -الشبه المعاصرة- وإنما بصرف كل الوقت والجهد للرد عليها والهجوم -وهو ما أغفلناه كثيرا- عليها وعرض العقيدة الإسلامية بوضوح وصفاء. وأشكرك مرة أخرى