داعية التوحيد
11-11-2005, 03:39 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه بداية للدروس التي سبق أن بدأناها في العام الماضي، وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعنا بما مضى وأن ينفعنا بما سيأتي وأن يثبته في قلوبنا، وأن يمنّ علينا بالعمل بما علمنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى العظيمة الجليلة أن يمنّ علينا بالبصيرة في كلّ ما نأتي وما نذر وأن يجنبنا سلوك غير سبيل سلف هذه الأمة في كل أحوالنا إنّه جواد كريم.
وبمناسبة هذه البداية نُذكّر بشأن العلم وما ينبغي أن يستحضره طالب العلم وهو يعاني العلم ويعاني حمله ويسير في طريقه؛ لأنّ العلم ليس بالطريق الهيّن، وكما قد قيل العلم طريقه طويل، قد قال بعض السلف ”اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد“ وقد قيل للإمام أحمد وقد ظهر الشيبُ فيه، قيل له: إلى متى وأنت مع المحبرة؟ -يعني كانت معه أدوات العلم؛ ورق ومحبرة، فقال كلمة مشهورة: مع المحبرة إلى المقبرة. يعني أنّه مواصل في هذا لا ينقطع.
وسبب الانقطاع فيمن انقطع عن العلم يرجع إلى أسباب من تلك أسباب، فمن تلك الأسباب:
1- أنّه لم يَعِ حقيقة معنى العلم ولماذا يطلب العلم.
2- والثاني أنّه ربما كانت النية في أصلها ضعيفة؛ لأنّه بقوة النية في طلب العلم يكون الاستمرار والحِرص عليه.
3- والثالث من أسباب الانقطاع أن يكون المرء متعجلا يريد أن يكون طالب علم أو أن يكون عالما محصِّلا عارفا بأكثر المسائل في سنوات قليلة، هذا لا يَحْصُل أبدا؛ بل العلم طريقه طويل.
4- وقد يكون السبب راجعا إلى ضعف بصيرته في شأن العلم، ويظنّ أن العلم نفعه قليل، وأنّ غيره من الطرق التي ربما يغشاها بعض المستقيمين أو الذين ظاهرهم الالتزام أنها أسرع في تحصيل المقصود وأنها هي التي بها يحصل المرء على ما يتمنى من رجوع الخلق إلى ربهم جلّ وعلا؛ وهذا من أسباب الانقطاع عن العلم أنه يقول: ماذا فعل العلماء؟ ماذا حصّلنا من العلم، ولكن هناك طرق أخرى كذا وكذا، هذه بها يكون المرء أكثر تأثيرا ويكون محقا للحق ومبطلا للباطل، فتنصرف نفسه عن العلم، والحقيقة أنّه فاته أنّ العلم كالماء الذي يثبت في الأرض فينفع الله جلّ وعلا به من يأتي بعد، كما مثل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي قال فيه «مَثَلُ ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضا» فالعلم الشرعي غيث، وهذا الغيث؛ الغيث نافع.
ومن فوائد الفروق اللغوية في التفسير أنّ أكثر ما يستعمل الغيث في الكتاب والسنة فيما ينفع من الماء والمطر، وأما المطر فأكثر ما يستعمل فيما يضر مما ينزل من السماء، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾( ) ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾[يوسف:49]، فالنّبي عليه الصلاة والسّلام مثّل لنا العلم بالغيث، وهذا فيه مع تتمة الحديث بأنّه أصاب أنواعا من الأرض فكانت منها أرض قبلت العلم فارتوى الناس منه وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وفيه أيضا تسميته بالغيث، والغيث يغيث الأبدان ويغيث القلوب، وهكذا العلم فإنه بهذه المثابة.
5- من أسباب الانقطاع عن العلم التي لمسناها في الشباب في السنين الماضية ودائما تتجدد: أنهم لا تكون صلتهم بالعلم وأهل العلم مستمرة، بل عهدهم بالعلم وأهل العلم في الدروس فقط، وما عدا ذلك فهم يصاحبون الناس من أصناف شتى، فلا تكون النفس دائما متحركة بالعلم، بل تكون تتحرك بالعلم في وقت قليل؛ في وقت الدرس، وما بعد ذلك فأكثر الحديث الذي يتحدث به ليس في العلم، هذا يجعله غير متعلق بالعلم، والعلم يحتاج إلى أن يتعلق به طالبه دائما؛ نفسُه معه في كل حال، وقد كان بعض أهل العلم ينصرف عن ملذّات الدنيا لأجل العلم؛ الملذّات المباحة من مال أومن زوجة أو من نظر مباح أو أُنْس ونحو ذلك لانشغاله به، وقد قال بعض الشعراء في ذلك من العلماء حيث أتته جارية ولم يلتفت وقد كانت حسنة الخَلْق والخُلق فقال فيها أبيات لما أتته وذكر زينتها إلى آخره فقال:
فقلـت ذريني واتـركيني فإنّـني شغلتُ بتحصيل العلوم وكشفها
ولي في طلاب العلم والفضل والتقى غِـنى عن غناء الغانيات وعَرْفِها
يعني أنّه مشغول بشيء أعظم غلب على نفسه، وهذا متى يكون؟ إذا كان المرء دائما مع العلم؛ قراءة، في صحبة من يتكلمون في العلم، في تبليغ العلم، في الكلام في العلم، في رؤية العلماء، في الحديث معهم، في سماع كلامهم تجد النفس تنشغل به، ويكون العلم طبعا له، أولا يكون تطبع يأتي بشيء من الكلفة، ثم يكون طبعا له حتى إذا تحدث حدّث بالعلم، إذا أرشد أرشد بالعلم، إذا بيّن بالعلم، فيكون في ذلك الأنس له ولا شك أنّ هذا يحتاج إلى جهاد وقد قال جلّ وعلا ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت:69].
فالجهل هو ضد العلم، والجهل داء -كما قال ابن القيم- داء قاتل يقتل صاحبه من حيث لا يشعر، فيقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان
علم من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني
يقول: الجهل داء قاتل. لا شك قاتل لرؤية العبد لِما يجب عليه في دينه، كذلك داء قاتل للعبد في أنه يجعله ليس من الأحياء، فالعالمون أحياء وغيرُهم أموات، وسبب موتهم هو الجهل؛ لأنّ الجهل مميت مثل ما قال هنا قاتل، فكل من جهل فقد قُتل وقد مات، والجهل ليس بمرتبة واحدة بل الجهل أنواع كثيرة فكل من جهل شيئا فقد أصيبت مقاتله من الجهة التي جهل فيها، قال:
والجهل داء قاتل وشفاؤه .......................
ما شفاء الجهل؟ قال:
............... وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان
علم من القرآن أو من سنة .......................
هذان الأمران: علم من القرآن أو من السنّة. من الذي يبيّن نصوص القرآن والسنة وينزِّلها منازلها ويجعلها في معانيها الصحيحة؟ قال:
........................ وطبيب ذاك العالم الرباني
ليس أي عالم؛ لكنّه عالم رباني يخشى الله ويتقيه فيما يقول وفيما يأتي وفيما يذر، فنصوص الكتاب والسنة نعم هي شفاء الجهل، وكثير من الناس ينفي الجهل عن نفسه بالحرص على الكتاب والسنة لكنه لم يَستضِئ بكلام أهل العلم بنور أهل العلم، لم يستضيء بذلك، ولما لم يستضئ بذلك أُصيبت مقاتله؛ لأنه قال (وطبيب ذاك العالم الرباني) هذا التعبير يفهمك بأن العلم دواء، فإذا أتى رجل فأخذ من الدواء ما لا يصلح له يهلك أولا يهلك؟ يهلك.
قد هلكت الخوارج لأنهم أخذوا نصوص الكتاب ونصوص السنة ولكن نزلوها في غير منازلها، فأخذوا من نصوص الكتاب ما استدلوا به على أنّ فاعل الكبيرة كافر قال ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾[النساء:93]، قالوا: هذا يدل على أنه كافر.
أخذت المرجئة بعض النصوص نصوص الكتاب ونزلوها في غير منازلها «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»، «من كان آخر كلامهم لا إله إلا الله دخل الجنة» ونحو ذلك من النصوص، فنفت العمل وأبقت القول والاعتقاد وأرجأوا ذلك فأصيبت مقاتلهم، لماذا؟
لأنهم لم يكن طبيبهم في فهم النصوص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علماء زمانهم، أخذوا من أنفسهم ولم يتابعوا أهل العلم المتحققين به، فأصيبت مقاتلهم، وهكذا في كل زمن الحرص على العلم مطلوب؛ لكن لا يمكن أن تكون حريصا على العلم ومصيبا في ذلك إلاّ أنْ تستضيء بفهم أهل العلم؛ لأن العلم في هذه الأمة موروث ليس علما مستأنفا مبتدأً، في كل زمن يبتدئ الناس منه ويستأنفون علما جديدا لم يكن معروفا في من قبلهم، بل علمنا في هذه الأمة علمنا موروث، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء فإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» لهذا! تنتبه إلى هذا الأصل العظيم ألا وهو الحرص على العلم ولكن ينبغي أن يكون طبيبك في ذلك الحرص -في تلقي النصوص- طبيبك العالم الرباني، فإن لم يكن ربانيا كان عالما ذا هوى؛ له مقاصد له أغراض أيضا أصابك شيء من عدم فهم نصوص الكتاب والسنة، وأصابك شيء من الجهل بقدر ما فاتك من ذلك.
والعلم أنواع، الجهل خطير وداء قاتل، ولابد أن تسعى في شفاء نفسك منه عن طريق أهل العلم بفهمهم نصوص الكتاب والسنة، والعلم أنواع كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواع ثلاث مـا لها من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونـعته وكذلك الأسماء للديان
هذا العلم الأول: الأسماء والنعوت والصفات؛ يعني التوحيد جميعه: توحيد العبادة توحيد الربوبية كله من ثمرات معرفة والعلم بأسماء الله وصفاته.
ففي اسم الله الأعظم (الله) الذي مرجع الأسماء الحسنى جميعا إليه فيه أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه.
ففي اسمه الرّب أنه هو ذو الربوبية.
في نعوت الجمال أنّه هو المستحق للعبادة.
وفي نعوت الجلال أنّه هو المستحق للإجلال والتعظيم وإفراده بالربوبية وهكذا...فقال:
علم بأوصاف الإله ونـعته وكذلك الأسماء للديان
هذا ثلث العلم بالتوحيد، ولهذا سورة الإخلاص صارت ثلث القرآن؛ لأنّ القرآن فيه العلم كله، فثلث العلم التوحيد فصارت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها فيها التوحيد كله توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قال بعدها:
والأمر النهي الذي هو دينه ..........................
هذا هو النوع الثاني من العلم: الأمر والنهي هو معرفة الحلال والحرام:
المأمور به يشمل الواجب والمستحب.
والمنهي عنه يشمل المحرم والمكروه.
والأمر النهي الذي هو دينه ..........................
هذا النوع الثاني الذي هو علم في الفقه؛ الحلال والحرام (علم الأحكام).
والثالث منها هو علم الجزاء يوم القيامة قال:
...................... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
الذي يدخل في ذلك علم السلوك، ما يصحح به المرء قلبه، ما يصحح به سلوكه، مقامات الإيمان، ومقامات الزهد، والعبادة، ومعرفة جزاء كل عمل يوم القيامة وما يحصل يوم القيامة من أنواع الجزاءات للمؤمنين وللكافرين، للمقصرين وللمطيعين؛ لأنواع الناس.
إذن فلنعلم هنا أنّ هذه الثلاث هي العلم. فتسعى:
إلى العلم بالتوحيد هذا ثلث العلم.
إلى العلم بالحلال والحرام هذا الثلث الثاني من العلم.
إلى العلم بما تزكي به نفسك ﴿ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[الشمس:9-10].
كيف تحصل على هذا العلم؟ بتدبر نصوص الكتاب والسنة بما يكون يوم القيامة وحال الناس يوم القيامة والنصوص التي جاءت بما يكون به الثواب يوم القيامة؛ نصوص الزهد، نصوص الثواب الأذكار ما يتعلق بذلك، كلها من فروع هذا.
فإذن أقسام العلم ثلاثة، إذا كنت حريصا على هذا العلم فلتكن حريصا على هذه العلوم الثلاثة، ثم لتنفي عن نفسك ما استطعت من أسباب الجهل، وقد عرفت أسباب الجهل، ثم احرص على تمام الحرص على أن لا تنقطع عن الطريق، وتذكر قول ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث نصح المتعجلين فقال: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي. قليلا قليلا، لو ما نكسب كلّ يومين إلا مسألة؛ يعني مسألة نضبطها وتكون ثابتة بدليلها وضوحها فبعد سنة سنحصل قريبا من مائة وثمانين مسألة، وبعد سنتين ثلاثمائة وستين مسألة واضحة، بعد عشر سنين ألف وستمائة مسألة، أحسب بعد ثلاثين سنة يكون الواحد عالم راسخ في العلم، تكون المسائل واضحة مبسوطة عنده بوضوح وفهم غير ملتبسة، هذا إذا كان في كل يومين مسألة، فكيف يكون لو كان في كل يوم مسألة، لو كان في كل يوم مسألتين، خذ ما تحصل من العلم، ولكن يحتاج منك إلى مواصلة.
المطر إذا أصاب أرضا وكان مطرا شديدا يمشي أو يظل راكدا في الأرض؟ يمشي بل يذهب إلى الأودية والشعاب؛ لأنّه قوي، لكن هل الأرض التي نزل عليها أول مرّة نزولا شديدا يكون انتفاعها مثل الأرض التي استقر عليها الماء؟ ليس كذلك، هذا مثال للتقريب، المطر الذي يأتي قليلا قليلا؛ أسبوعا أسبوعين تجد مثلا نصف متر في الأرض كلها رويانة...، هذا وصف بليغ فيما يناسب العلم، إذا ارتويت من العلم بعد ذلك الشيء القليل الذي يأتي تحس أنه ينفع الناس، وتذكره بوضوح، فمثلا تجد بعض طلاب العلم قد يتكلم بالكلمات؛ لكن ما تقنع منها النفوس وهو طالب علم لماذا؟ لأنها لم تنتج عن رسوخ وفهم لما يتكلم فيه، تلحظ في الكلام شيء من الاضطراب، في شيء من عدم الوضوح، ما استطاع أن يوصل لك الكلام بوضوح تام، لماذا؟ لأنّه غير راسخ في هذا المقال الذي قاله.
وهكذا طالب علم أو عالم يكون عنده تسعين في المائة من العلم الذي معه واضح وعشرة في المائة غير واضح، تجد أنه يلتبس عليه فلا يستطيع تأدية هذا الذي إلتبس عليه -مشكل عنده-، فإذا كان العلم راسخا واضحا قد طُلب على مهل فإنه يثبت في القلب، وبعد ذلك يمكنك أن تنفع الناس به، فلا يُغيبنّ عنك هذه الحقيقة وهي أنّ العلم يطلب شيئا فشيئا.
أما التذوق فهذا ليس من العلم في قبيل، ما معنى التذوق؟
التذوق هو ما رأيناه كثيرا يحضر عند فلان من المعلمين أو من المشايخ الكبار شهر وبعد ذلك راح للثاني، راح للثالث، فما استفاد لأنه متذوق، فتجد الإخوان يقبلون سنة شهر شهرين ثم يُحبطون، هذا العلم غير متصل هذا ما يستفيد سنين ثم ينقطع في الغالب ينقطع ثم يصبح كغيره من الناس، أما الذي يصبر ويصابر على مرّ الزمان فإنّه هذا يحصل بحسب ما كتب الله له.
ومما هو من أسباب ثبات العلم وعدم الانقطاع عنه أن تكون مخلصا القصد فيه لابد من الإخلاص في العلم لأن العلم قد أمر به في القرآن وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مأمورا به فإنه عبادة؛ لأنّ العبادة هي ما أُمر به من غير إطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فإذا كان مأمورا به فهو عبادة، فإذا كان عبادة يلزم فيها الإخلاص.
كيف يكون اِلإخلاص في العلم؟ كيف يكون؟ ما النية في العلم؟ سُئل الإمام أحمد عن ذلك –مشكلة- كيف يكون مخلصا في العلم؟ كيف يكون مخلصا في عمله؟ كيف يكون مخلصا في صلاته؟ في صيامه ...إلخ؟ كل عبادة يخلص فيها إذا كان قد أراد بها الله جلّ وعلا، العلم مع إرادته الله وعدم إرادته الرياء والسمعة ولا المكابرة ولا المجاهرة في الناس بالكلام ولا التقدم والتصدر، أن يريد بالعلم نفي الجهل ورفع الجهل عن نفسه، قيل للإمام أحمد: كيف النية في العلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه. لماذا؟ لأنّ الجهل؛ جهله بالله جلّ وعلا، جهله بما يستحقه جلّ وعلا، جهله بصفاته، جهله بأسمائه، جهله بأمره ونهيه، جهله باليوم الآخر وما فيه من تفصيلات وجزاء كل واحد على ما يعمل، هذا لا شك ما يرضى به ذوي النفوس الحية، فإذا طلب العلم يريد به الدنيا فهو من أهل الدنيا، فإذا طلب العلم لله يريد الأجر والثواب ويريد نفي الجهل عن نفسه؛ قطع النفس عن نفسه فإنه يكون مخلصا.
لاحظ هذه النية إذا أتت إليك واستقرّت فهي مباركة؛ لأنك دائما تحس أنك جاهل، ما فيه أحد ينقضي من العلم حتى من عُمّر مائة عام أو أكثر وهو في العلم ما انقضى، العلم واسع لا يستطيع أحد أن يحيط به جميعا من الناس، وهو واسع يعني من غير الأنبياء، وسعته هذه تحتاج إلى أن تكون دائما معه، بالنية أن تنوي رفع الجهل عن نفسك وستلحظ أنّ بها أشياء ما عرفته، فإذا كانت النية الصالحة موجودة ستستمر على العلم، لكن إذا كانت النية غير صالحة والله تعبت خلاص عرفت كذا وكذا، لا العلم طويل.
العلم بالقرآن العلم بالتفسير لا ينتهي، فإذا تأملت أنّ ابن جرير رحمه الله صنف كتابه التفسير مختصرا، وقد قال لهم هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: قدر كم؟ قال: قدر ثلاثين ألف ورقة. قالوا: هذا مما تمضي فيه الأعمار. فقال: الله المستعان ماتت الهمم. فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة؛ يعني قدر العشر وهو الموجود اليوم في ثلاثين جزءا، فأين الباقي؟ موجود في غيره من التفاسير أشياء لم يذكرها ابن جرير رحمه الله وإنما هو قرّب علمه بالتفسير واختصره، هذا القدر من العلم بالقرآن، هذا القدر الهائل إذا وصلنا إلى آخر التفسير نسينا شيئا من أوّله، هذا موجود مررنا على تفسير سور القرآن ثم من الآيات ما نسينا تفسيرها؛ اشتبهت.
فإذا كان المرء معه دائما نية رفع الجهل عن نفسه لا ينقطع عن العلم، دائما يحس أنه ضعيف جاهل، يأتيه الصغير فيعلمه شيئا لم يعلمه من قبل وهو أصغر منه، يقول والله اطلعت على هذه المسألة وفوق كل ذي علم عليم يفرح بها.
تجد أن صاحب النية الصحيحة إذا أرشده من هو أصغر منه أفرح ما يكون، لماذا؟ لأنّه حصّل علما يرفع به الجهل عن نفسه، أما لم تكن نيته صحيحة فإنّك تجد عنده استكبار في العلم: لا، ليس كذلك. ما يفرح بالعلم، تأتيه بالعلم الواضح الصحيح لا يفرح به لماذا؟ لأنّ نيته مدخولة.
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذه بداية للدروس التي سبق أن بدأناها في العام الماضي، وأسأل الله جلّ وعلا أن ينفعنا بما مضى وأن ينفعنا بما سيأتي وأن يثبته في قلوبنا، وأن يمنّ علينا بالعمل بما علمنا وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى العظيمة الجليلة أن يمنّ علينا بالبصيرة في كلّ ما نأتي وما نذر وأن يجنبنا سلوك غير سبيل سلف هذه الأمة في كل أحوالنا إنّه جواد كريم.
وبمناسبة هذه البداية نُذكّر بشأن العلم وما ينبغي أن يستحضره طالب العلم وهو يعاني العلم ويعاني حمله ويسير في طريقه؛ لأنّ العلم ليس بالطريق الهيّن، وكما قد قيل العلم طريقه طويل، قد قال بعض السلف ”اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد“ وقد قيل للإمام أحمد وقد ظهر الشيبُ فيه، قيل له: إلى متى وأنت مع المحبرة؟ -يعني كانت معه أدوات العلم؛ ورق ومحبرة، فقال كلمة مشهورة: مع المحبرة إلى المقبرة. يعني أنّه مواصل في هذا لا ينقطع.
وسبب الانقطاع فيمن انقطع عن العلم يرجع إلى أسباب من تلك أسباب، فمن تلك الأسباب:
1- أنّه لم يَعِ حقيقة معنى العلم ولماذا يطلب العلم.
2- والثاني أنّه ربما كانت النية في أصلها ضعيفة؛ لأنّه بقوة النية في طلب العلم يكون الاستمرار والحِرص عليه.
3- والثالث من أسباب الانقطاع أن يكون المرء متعجلا يريد أن يكون طالب علم أو أن يكون عالما محصِّلا عارفا بأكثر المسائل في سنوات قليلة، هذا لا يَحْصُل أبدا؛ بل العلم طريقه طويل.
4- وقد يكون السبب راجعا إلى ضعف بصيرته في شأن العلم، ويظنّ أن العلم نفعه قليل، وأنّ غيره من الطرق التي ربما يغشاها بعض المستقيمين أو الذين ظاهرهم الالتزام أنها أسرع في تحصيل المقصود وأنها هي التي بها يحصل المرء على ما يتمنى من رجوع الخلق إلى ربهم جلّ وعلا؛ وهذا من أسباب الانقطاع عن العلم أنه يقول: ماذا فعل العلماء؟ ماذا حصّلنا من العلم، ولكن هناك طرق أخرى كذا وكذا، هذه بها يكون المرء أكثر تأثيرا ويكون محقا للحق ومبطلا للباطل، فتنصرف نفسه عن العلم، والحقيقة أنّه فاته أنّ العلم كالماء الذي يثبت في الأرض فينفع الله جلّ وعلا به من يأتي بعد، كما مثل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي قال فيه «مَثَلُ ما بعثني الله به من العلم كمثل غيث أصاب أرضا» فالعلم الشرعي غيث، وهذا الغيث؛ الغيث نافع.
ومن فوائد الفروق اللغوية في التفسير أنّ أكثر ما يستعمل الغيث في الكتاب والسنة فيما ينفع من الماء والمطر، وأما المطر فأكثر ما يستعمل فيما يضر مما ينزل من السماء، ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ﴾( ) ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾[يوسف:49]، فالنّبي عليه الصلاة والسّلام مثّل لنا العلم بالغيث، وهذا فيه مع تتمة الحديث بأنّه أصاب أنواعا من الأرض فكانت منها أرض قبلت العلم فارتوى الناس منه وأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وفيه أيضا تسميته بالغيث، والغيث يغيث الأبدان ويغيث القلوب، وهكذا العلم فإنه بهذه المثابة.
5- من أسباب الانقطاع عن العلم التي لمسناها في الشباب في السنين الماضية ودائما تتجدد: أنهم لا تكون صلتهم بالعلم وأهل العلم مستمرة، بل عهدهم بالعلم وأهل العلم في الدروس فقط، وما عدا ذلك فهم يصاحبون الناس من أصناف شتى، فلا تكون النفس دائما متحركة بالعلم، بل تكون تتحرك بالعلم في وقت قليل؛ في وقت الدرس، وما بعد ذلك فأكثر الحديث الذي يتحدث به ليس في العلم، هذا يجعله غير متعلق بالعلم، والعلم يحتاج إلى أن يتعلق به طالبه دائما؛ نفسُه معه في كل حال، وقد كان بعض أهل العلم ينصرف عن ملذّات الدنيا لأجل العلم؛ الملذّات المباحة من مال أومن زوجة أو من نظر مباح أو أُنْس ونحو ذلك لانشغاله به، وقد قال بعض الشعراء في ذلك من العلماء حيث أتته جارية ولم يلتفت وقد كانت حسنة الخَلْق والخُلق فقال فيها أبيات لما أتته وذكر زينتها إلى آخره فقال:
فقلـت ذريني واتـركيني فإنّـني شغلتُ بتحصيل العلوم وكشفها
ولي في طلاب العلم والفضل والتقى غِـنى عن غناء الغانيات وعَرْفِها
يعني أنّه مشغول بشيء أعظم غلب على نفسه، وهذا متى يكون؟ إذا كان المرء دائما مع العلم؛ قراءة، في صحبة من يتكلمون في العلم، في تبليغ العلم، في الكلام في العلم، في رؤية العلماء، في الحديث معهم، في سماع كلامهم تجد النفس تنشغل به، ويكون العلم طبعا له، أولا يكون تطبع يأتي بشيء من الكلفة، ثم يكون طبعا له حتى إذا تحدث حدّث بالعلم، إذا أرشد أرشد بالعلم، إذا بيّن بالعلم، فيكون في ذلك الأنس له ولا شك أنّ هذا يحتاج إلى جهاد وقد قال جلّ وعلا ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾[العنكبوت:69].
فالجهل هو ضد العلم، والجهل داء -كما قال ابن القيم- داء قاتل يقتل صاحبه من حيث لا يشعر، فيقول ابن القيم رحمه الله في نونيته:
والجهل داء قاتل وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان
علم من القرآن أو من سنة وطبيب ذاك العالم الرباني
يقول: الجهل داء قاتل. لا شك قاتل لرؤية العبد لِما يجب عليه في دينه، كذلك داء قاتل للعبد في أنه يجعله ليس من الأحياء، فالعالمون أحياء وغيرُهم أموات، وسبب موتهم هو الجهل؛ لأنّ الجهل مميت مثل ما قال هنا قاتل، فكل من جهل فقد قُتل وقد مات، والجهل ليس بمرتبة واحدة بل الجهل أنواع كثيرة فكل من جهل شيئا فقد أصيبت مقاتله من الجهة التي جهل فيها، قال:
والجهل داء قاتل وشفاؤه .......................
ما شفاء الجهل؟ قال:
............... وشفاؤه أمران في الترتيب متفقان
علم من القرآن أو من سنة .......................
هذان الأمران: علم من القرآن أو من السنّة. من الذي يبيّن نصوص القرآن والسنة وينزِّلها منازلها ويجعلها في معانيها الصحيحة؟ قال:
........................ وطبيب ذاك العالم الرباني
ليس أي عالم؛ لكنّه عالم رباني يخشى الله ويتقيه فيما يقول وفيما يأتي وفيما يذر، فنصوص الكتاب والسنة نعم هي شفاء الجهل، وكثير من الناس ينفي الجهل عن نفسه بالحرص على الكتاب والسنة لكنه لم يَستضِئ بكلام أهل العلم بنور أهل العلم، لم يستضيء بذلك، ولما لم يستضئ بذلك أُصيبت مقاتله؛ لأنه قال (وطبيب ذاك العالم الرباني) هذا التعبير يفهمك بأن العلم دواء، فإذا أتى رجل فأخذ من الدواء ما لا يصلح له يهلك أولا يهلك؟ يهلك.
قد هلكت الخوارج لأنهم أخذوا نصوص الكتاب ونصوص السنة ولكن نزلوها في غير منازلها، فأخذوا من نصوص الكتاب ما استدلوا به على أنّ فاعل الكبيرة كافر قال ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا﴾[النساء:93]، قالوا: هذا يدل على أنه كافر.
أخذت المرجئة بعض النصوص نصوص الكتاب ونزلوها في غير منازلها «من قال لا إله إلا الله دخل الجنة»، «من كان آخر كلامهم لا إله إلا الله دخل الجنة» ونحو ذلك من النصوص، فنفت العمل وأبقت القول والاعتقاد وأرجأوا ذلك فأصيبت مقاتلهم، لماذا؟
لأنهم لم يكن طبيبهم في فهم النصوص صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا علماء زمانهم، أخذوا من أنفسهم ولم يتابعوا أهل العلم المتحققين به، فأصيبت مقاتلهم، وهكذا في كل زمن الحرص على العلم مطلوب؛ لكن لا يمكن أن تكون حريصا على العلم ومصيبا في ذلك إلاّ أنْ تستضيء بفهم أهل العلم؛ لأن العلم في هذه الأمة موروث ليس علما مستأنفا مبتدأً، في كل زمن يبتدئ الناس منه ويستأنفون علما جديدا لم يكن معروفا في من قبلهم، بل علمنا في هذه الأمة علمنا موروث، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام «العلماء ورثة الأنبياء فإنّ الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما إنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر» لهذا! تنتبه إلى هذا الأصل العظيم ألا وهو الحرص على العلم ولكن ينبغي أن يكون طبيبك في ذلك الحرص -في تلقي النصوص- طبيبك العالم الرباني، فإن لم يكن ربانيا كان عالما ذا هوى؛ له مقاصد له أغراض أيضا أصابك شيء من عدم فهم نصوص الكتاب والسنة، وأصابك شيء من الجهل بقدر ما فاتك من ذلك.
والعلم أنواع، الجهل خطير وداء قاتل، ولابد أن تسعى في شفاء نفسك منه عن طريق أهل العلم بفهمهم نصوص الكتاب والسنة، والعلم أنواع كما قال ابن القيم رحمه الله:
والعلم أنواع ثلاث مـا لها من رابع والحق ذو تبيان
علم بأوصاف الإله ونـعته وكذلك الأسماء للديان
هذا العلم الأول: الأسماء والنعوت والصفات؛ يعني التوحيد جميعه: توحيد العبادة توحيد الربوبية كله من ثمرات معرفة والعلم بأسماء الله وصفاته.
ففي اسم الله الأعظم (الله) الذي مرجع الأسماء الحسنى جميعا إليه فيه أنه هو المستحق للعبادة وحده دون ما سواه.
ففي اسمه الرّب أنه هو ذو الربوبية.
في نعوت الجمال أنّه هو المستحق للعبادة.
وفي نعوت الجلال أنّه هو المستحق للإجلال والتعظيم وإفراده بالربوبية وهكذا...فقال:
علم بأوصاف الإله ونـعته وكذلك الأسماء للديان
هذا ثلث العلم بالتوحيد، ولهذا سورة الإخلاص صارت ثلث القرآن؛ لأنّ القرآن فيه العلم كله، فثلث العلم التوحيد فصارت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن؛ لأنها فيها التوحيد كله توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات.
قال بعدها:
والأمر النهي الذي هو دينه ..........................
هذا هو النوع الثاني من العلم: الأمر والنهي هو معرفة الحلال والحرام:
المأمور به يشمل الواجب والمستحب.
والمنهي عنه يشمل المحرم والمكروه.
والأمر النهي الذي هو دينه ..........................
هذا النوع الثاني الذي هو علم في الفقه؛ الحلال والحرام (علم الأحكام).
والثالث منها هو علم الجزاء يوم القيامة قال:
...................... وجزاؤه يوم المعاد الثاني
الذي يدخل في ذلك علم السلوك، ما يصحح به المرء قلبه، ما يصحح به سلوكه، مقامات الإيمان، ومقامات الزهد، والعبادة، ومعرفة جزاء كل عمل يوم القيامة وما يحصل يوم القيامة من أنواع الجزاءات للمؤمنين وللكافرين، للمقصرين وللمطيعين؛ لأنواع الناس.
إذن فلنعلم هنا أنّ هذه الثلاث هي العلم. فتسعى:
إلى العلم بالتوحيد هذا ثلث العلم.
إلى العلم بالحلال والحرام هذا الثلث الثاني من العلم.
إلى العلم بما تزكي به نفسك ﴿ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾[الشمس:9-10].
كيف تحصل على هذا العلم؟ بتدبر نصوص الكتاب والسنة بما يكون يوم القيامة وحال الناس يوم القيامة والنصوص التي جاءت بما يكون به الثواب يوم القيامة؛ نصوص الزهد، نصوص الثواب الأذكار ما يتعلق بذلك، كلها من فروع هذا.
فإذن أقسام العلم ثلاثة، إذا كنت حريصا على هذا العلم فلتكن حريصا على هذه العلوم الثلاثة، ثم لتنفي عن نفسك ما استطعت من أسباب الجهل، وقد عرفت أسباب الجهل، ثم احرص على تمام الحرص على أن لا تنقطع عن الطريق، وتذكر قول ابن شهاب الزهري رحمه الله حيث نصح المتعجلين فقال: من رام العلم جملة ذهب عنه جملة، وإنما يطلب العلم على مرِّ الأيام والليالي. قليلا قليلا، لو ما نكسب كلّ يومين إلا مسألة؛ يعني مسألة نضبطها وتكون ثابتة بدليلها وضوحها فبعد سنة سنحصل قريبا من مائة وثمانين مسألة، وبعد سنتين ثلاثمائة وستين مسألة واضحة، بعد عشر سنين ألف وستمائة مسألة، أحسب بعد ثلاثين سنة يكون الواحد عالم راسخ في العلم، تكون المسائل واضحة مبسوطة عنده بوضوح وفهم غير ملتبسة، هذا إذا كان في كل يومين مسألة، فكيف يكون لو كان في كل يوم مسألة، لو كان في كل يوم مسألتين، خذ ما تحصل من العلم، ولكن يحتاج منك إلى مواصلة.
المطر إذا أصاب أرضا وكان مطرا شديدا يمشي أو يظل راكدا في الأرض؟ يمشي بل يذهب إلى الأودية والشعاب؛ لأنّه قوي، لكن هل الأرض التي نزل عليها أول مرّة نزولا شديدا يكون انتفاعها مثل الأرض التي استقر عليها الماء؟ ليس كذلك، هذا مثال للتقريب، المطر الذي يأتي قليلا قليلا؛ أسبوعا أسبوعين تجد مثلا نصف متر في الأرض كلها رويانة...، هذا وصف بليغ فيما يناسب العلم، إذا ارتويت من العلم بعد ذلك الشيء القليل الذي يأتي تحس أنه ينفع الناس، وتذكره بوضوح، فمثلا تجد بعض طلاب العلم قد يتكلم بالكلمات؛ لكن ما تقنع منها النفوس وهو طالب علم لماذا؟ لأنها لم تنتج عن رسوخ وفهم لما يتكلم فيه، تلحظ في الكلام شيء من الاضطراب، في شيء من عدم الوضوح، ما استطاع أن يوصل لك الكلام بوضوح تام، لماذا؟ لأنّه غير راسخ في هذا المقال الذي قاله.
وهكذا طالب علم أو عالم يكون عنده تسعين في المائة من العلم الذي معه واضح وعشرة في المائة غير واضح، تجد أنه يلتبس عليه فلا يستطيع تأدية هذا الذي إلتبس عليه -مشكل عنده-، فإذا كان العلم راسخا واضحا قد طُلب على مهل فإنه يثبت في القلب، وبعد ذلك يمكنك أن تنفع الناس به، فلا يُغيبنّ عنك هذه الحقيقة وهي أنّ العلم يطلب شيئا فشيئا.
أما التذوق فهذا ليس من العلم في قبيل، ما معنى التذوق؟
التذوق هو ما رأيناه كثيرا يحضر عند فلان من المعلمين أو من المشايخ الكبار شهر وبعد ذلك راح للثاني، راح للثالث، فما استفاد لأنه متذوق، فتجد الإخوان يقبلون سنة شهر شهرين ثم يُحبطون، هذا العلم غير متصل هذا ما يستفيد سنين ثم ينقطع في الغالب ينقطع ثم يصبح كغيره من الناس، أما الذي يصبر ويصابر على مرّ الزمان فإنّه هذا يحصل بحسب ما كتب الله له.
ومما هو من أسباب ثبات العلم وعدم الانقطاع عنه أن تكون مخلصا القصد فيه لابد من الإخلاص في العلم لأن العلم قد أمر به في القرآن وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان مأمورا به فإنه عبادة؛ لأنّ العبادة هي ما أُمر به من غير إطراد عرفي ولا اقتضاء عقلي، فإذا كان مأمورا به فهو عبادة، فإذا كان عبادة يلزم فيها الإخلاص.
كيف يكون اِلإخلاص في العلم؟ كيف يكون؟ ما النية في العلم؟ سُئل الإمام أحمد عن ذلك –مشكلة- كيف يكون مخلصا في العلم؟ كيف يكون مخلصا في عمله؟ كيف يكون مخلصا في صلاته؟ في صيامه ...إلخ؟ كل عبادة يخلص فيها إذا كان قد أراد بها الله جلّ وعلا، العلم مع إرادته الله وعدم إرادته الرياء والسمعة ولا المكابرة ولا المجاهرة في الناس بالكلام ولا التقدم والتصدر، أن يريد بالعلم نفي الجهل ورفع الجهل عن نفسه، قيل للإمام أحمد: كيف النية في العلم؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه. لماذا؟ لأنّ الجهل؛ جهله بالله جلّ وعلا، جهله بما يستحقه جلّ وعلا، جهله بصفاته، جهله بأسمائه، جهله بأمره ونهيه، جهله باليوم الآخر وما فيه من تفصيلات وجزاء كل واحد على ما يعمل، هذا لا شك ما يرضى به ذوي النفوس الحية، فإذا طلب العلم يريد به الدنيا فهو من أهل الدنيا، فإذا طلب العلم لله يريد الأجر والثواب ويريد نفي الجهل عن نفسه؛ قطع النفس عن نفسه فإنه يكون مخلصا.
لاحظ هذه النية إذا أتت إليك واستقرّت فهي مباركة؛ لأنك دائما تحس أنك جاهل، ما فيه أحد ينقضي من العلم حتى من عُمّر مائة عام أو أكثر وهو في العلم ما انقضى، العلم واسع لا يستطيع أحد أن يحيط به جميعا من الناس، وهو واسع يعني من غير الأنبياء، وسعته هذه تحتاج إلى أن تكون دائما معه، بالنية أن تنوي رفع الجهل عن نفسك وستلحظ أنّ بها أشياء ما عرفته، فإذا كانت النية الصالحة موجودة ستستمر على العلم، لكن إذا كانت النية غير صالحة والله تعبت خلاص عرفت كذا وكذا، لا العلم طويل.
العلم بالقرآن العلم بالتفسير لا ينتهي، فإذا تأملت أنّ ابن جرير رحمه الله صنف كتابه التفسير مختصرا، وقد قال لهم هل تنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: قدر كم؟ قال: قدر ثلاثين ألف ورقة. قالوا: هذا مما تمضي فيه الأعمار. فقال: الله المستعان ماتت الهمم. فاختصره لهم في ثلاثة آلاف ورقة؛ يعني قدر العشر وهو الموجود اليوم في ثلاثين جزءا، فأين الباقي؟ موجود في غيره من التفاسير أشياء لم يذكرها ابن جرير رحمه الله وإنما هو قرّب علمه بالتفسير واختصره، هذا القدر من العلم بالقرآن، هذا القدر الهائل إذا وصلنا إلى آخر التفسير نسينا شيئا من أوّله، هذا موجود مررنا على تفسير سور القرآن ثم من الآيات ما نسينا تفسيرها؛ اشتبهت.
فإذا كان المرء معه دائما نية رفع الجهل عن نفسه لا ينقطع عن العلم، دائما يحس أنه ضعيف جاهل، يأتيه الصغير فيعلمه شيئا لم يعلمه من قبل وهو أصغر منه، يقول والله اطلعت على هذه المسألة وفوق كل ذي علم عليم يفرح بها.
تجد أن صاحب النية الصحيحة إذا أرشده من هو أصغر منه أفرح ما يكون، لماذا؟ لأنّه حصّل علما يرفع به الجهل عن نفسه، أما لم تكن نيته صحيحة فإنّك تجد عنده استكبار في العلم: لا، ليس كذلك. ما يفرح بالعلم، تأتيه بالعلم الواضح الصحيح لا يفرح به لماذا؟ لأنّ نيته مدخولة.