المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عبوديّة الذلّ والانكسار ..!



مالك مناع
09-24-2011, 02:50 PM
قال الإمام ابنُ القيّم - رحمه الله - في (( مدارج السالكين )) :

(( وَصَاحِبُ هَذَا الْمَشْهَدِ-الذلّ والانكِسارِ- يَشْهَدُ نَفْسَهُ كَرَجُلٍ كَانَ فِي كَنَفِ أَبِيهِ يَغْذُوهُ بِأَطْيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَاللِّبَاسِ، وَيُرَبِّيهِ أَحْسَنَ التَّرْبِيَةِ، وَيُرَقِّيهِ عَلَى دَرَجَاتِ الْكَمَالِ أَتَمَّ تَرْقِيَةٍ، وَهُوَ الْقَيِّمُ بِمَصَالِحِهِ كُلِّهَا ... فَبَعَثَهُ أَبُوهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ..
فَخَرَجَ عَلَيْهِ فِي طَرِيقِهِ عَدُوٌّ، فَأَسَرَهُ وَكَتَّفَهُ وَشَدَّهُ وَثَاقًا، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلَادِ الْأَعْدَاءِ فَسَامَهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَعَامَلَهُ بِضِدِّ مَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ ...
فَهُوَ يَتَذَكَّرُ تَرْبِيَةَ وَالِدِهِ وَإِحْسَانَهُ إِلَيْهِ الْفَيْنَةَ بَعْدَ الْفَيْنَةِ، فَتَهِيجُ مِنْ قَلْبِهِ لَوَاعِجُ الْحَسَرَاتِ كُلَّمَا رَأَى حَالَهُ، وَيَتَذَكَّرُ مَا كَانَ عَلَيْهِ وَكُلَّ مَا كَانَ فِيهِ.
فَبَيْنَمَا هُوَ فِي أَسْرِ عَدُوِّهِ يَسُومُهُ سُوءَ الْعَذَابِ، وَيُرِيدُ نَحْرَهُ فِي آخِرِ الْأَمْرِ، إِذْ حَانَتْ مِنْهُ الْتِفَاتَةٌ إِلَى نَحْوِ دِيَارِ أَبِيهِ: فَرَأَى أَبَاهُ مِنْهُ قَرِيبًا، فَسَعَى إِلَيْهِ، وَأَلْقَى نَفْسَهُ عَلَيْهِ، وَانْطَرَحَ بَيْنَ يَدَيْهِ، يَسْتَغِيثُ:

يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ، يَا أَبَتَاهُ!
انْظُرْ إِلَى وَلَدِكَ وَمَا هُوَ فِيهِ- وَدُمُوعُهُ تَسْتَبِقُ عَلَى خَدَّيْهِ-، قَدِ اعْتَنَقَهُ وَالْتَزَمَهُ، وَعَدُوُّهُ فِي طَلَبِهِ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِوَالِدِهِ مُمْسِكٌ بِهِ ...
فَهَلْ تَقُولُ: إِنَّ وَالِدَهُ يُسْلِمُهُ مَعَ هَذِهِ الْحَالِ إِلَى عَدُوِّهِ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ؟!
فَمَا الظَّنُّ بِمَنْ هُوَ أَرْحَمُ بِعَبْدِهِ مِنَ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ، وَمِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا إِذَا فَرَّ عَبْدٌ إِلَيْهِ، وَهَرَبَ مِنْ عَدُوِّهُ إِلَيْهِ، وَأَلْقَى بِنَفْسِهِ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعْتَابِهِ بَاكِيًا بَيْنَ يَدَيْهِ، يَقُولُ:

يَا رَبِّ، يَا رَبِّ..
ارْحَمْ مَنْ لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ..
وَلَا نَاصِرَ لَهُ سِوَاكَ..
وَلَا مُؤْوِيَ لَهُ سِوَاكَ..
وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ..
مِسْكِينُكَ وَفَقِيرُكَ، وَسَائِلُكَ وَمُؤَمِّلُكَ وَمُرَجِّيكَ..
لَا مَلْجَأَ لَهُ وَلَا مَنْجَى لَهُ مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ..
أَنْتَ مَعَاذُهُ وَبِكَ مَلَاذُهُ.

يَا مَـنْ أَلُـوذُ بِـهِ فِيمَــــا أُؤَمِّلُهُ ***** وَمَــنْ أَعُوذُ بِــهِ مِمَّـــا أَحَـــــــاذِرُهُ
لَا يَجْبُرُ النَّاسُ عَظْمًا أَنْتَ كَاسِرُهُ *****وَلَا يَهِيضُونَ عَظْمًا أَنْتَ جَابِرُهُ )) .


انتهى كلامه رحمه الله ..

مالك مناع
09-25-2011, 02:50 PM
قال ابن القيم -رحمه الله-:
"فإنّ تمام العبوديّة هو: بتكميل مقام الذلّ والانقياد؛ وأكملُ الخلقِ عُبوديّة: أكملهم ذلاًّ لله، وانقياداً، وطاعة، والعبد ذليلٌ لمولاه الحقّ بكل وجه من وجوه الذلّ ..
فهو ذليلٌ لعزِّه ..
وذليلٌ لقهره ..
وذليلٌ لربُوبيّته فيه وتصرّفه ..
وذليلٌ لإحسانه إليه، وإنعامه عليه ..
فإنّ مَن أحسن إليك: فقد استعبدك، وصار قلبُك مُعبَّداً له، وذليلاً، تعبَّدَ له لحاجته إليه على مدى الأنفاس، في جلب كلّ ما ينفعه، ودفع كلّ ما يضرّه."
(مفتاح دار السعادة 1 / 289 ).

ماجد
09-27-2011, 03:23 PM
بارك الله في نقلك العطر يا أخي مالك
جزاك الله خيرا ً , كلمات ترقق القلب
رحمنا الله ورحمك ورحم شيخنا بن القيم , وجمعنا بالصالحين في الدنيا والأخرة
وصلي الله علي نبينا محمد وسلم

نور الدين الدمشقي
09-27-2011, 05:46 PM
رحم الله العلامة ابن القيم.....وبارك في الناقل.

مالك مناع
09-28-2011, 03:07 PM
بارك الله فيكم أيها الأحبة الكرام ..

أما الإنكسار بين يدي الله وإظهار الافتقار إليه فهو مقام عالٍ يصل إليه العبد من طرق كثيرة، فإذا تحصَّل العبدُ على مقام الذلّ لربه تعالى: ظهر مقامُ الافتقار، وعَلِم أنّه لا غنى له عن ربّه تعالى، بل صار مُستغنٍ بربه عن غيره؛ فكمال الذلّ، وكمال الافتقار: يَظهران في تحقيق كمال العبودية للرب تعالى.

قال ابن القيم رحمه الله:
سُئل محمد بن عبد الله الفرغاني عن الافتقار إلى الله سبحانه، والاستغناء به، فقال: "إذا صحّ الافتقار إلى الله تعالى: صحَّ الاستغناء به، وإذا صحّ الاستغناء به: صحَّ الافتقار إليه، فلا يقال أيهما أكمل: لأنه لا يتم أحدهما إلا بالآخر". قلت (الإمام ابن القيم): الاستغناء بالله هو عين الفقر إليه، وهما عبارتان عن معنى واحد؛ لأن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية: كمال الافتقار إليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به. (طريق الهجرتين ص 84 ).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
"والمقصود هنا: الكلام أولاً في أن سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه، واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك، من الذل، والخضوع، والخشوع، وإلا فالخلق كلهم محتاجون، لكن يظن أحدهم نوع استغناء، فيطغى، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ (٦) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ﴾ [سورة العلق:6-7]"
(مجموع الفتاوى1 / 50 ).

ومما يظهر فيه مقام الافتقار إلى الله تعالى: حين يستعين العبد بربه ويتوكل عليه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كلام عظيم لا أعلم ما ألون منه أو أضع تحته خط فاقرأوه كله بقلوبكم يا رعاكم الله :
"إذا تبيّن هذا: فكلما ازداد القلب حبّاً لله: ازداد له عبودية، وكلما ازداد له عبودية: ازداد له حبّاً، وفضَّله عما سواه، والقلب فقيرٌ بالذات إلى الله من وجهين: من جهة العبادة الغائية، ومن جهة الاستعانة والتوكل، فالقلب لا يصلح، ولا يفلح، ولا ينعم، ولا يسر، ولا يلتذ، ولا يطيب، ولا يسكن، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحبه، والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات: لم يطمئن، ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده، ومحبوبه، ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرَح، والسرور، واللذة، والنعمة، والسكون، والطمأنينة. وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة: (إياك نعبد وإياك نستعين)."(العبودية ص 97 ).

مالك مناع
11-15-2012, 03:04 AM
قال العلاّمة ابن قيّم الجوزيّة رحمه الله:

لا غنىً للعبد عن الذل والانكسار والخضوع والافتقار للرب جلّ جلاله، فيشهد في كل ذَرَّةٍ من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليِّه، ومن بيده صلاحه و فلاحه، وهُداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتَها، و إنما تُدرَك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرَةٌ خاصة لايشبهها شيئ، بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيئ فيه، ولا به ولا منه! و لا فيه منفعة، و لا يُرغب في مثله، و أنّه لا يصلح للإنتفاع إلاّ بجبرٍ جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذٍ:
- يستكثر في هذا المشهد ما منَّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلا منه و لا كثيراً، فأيّ خير ناله من الله استكثره على نفسه، و علم أنّ قَدْره دونه، وأنّ رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه.
- واستقلَّ ما من نفسه من الطاعات لربّه، و رآها - ولو ساوت طاعات الثقلين - مِنْ أقلّ ما ينبغي لربّه عليه.
-واستكثر قليل معاصيه و ذنوبه.

فإن الكسرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله. فما أقرب الجَبْر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النّصر والرّحمة و الرزق منه!

وذرّةٍ من هذا ونَفَسٍ منه أحبّ إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المُدلّين المُعْجبين بأعمالهم، وعلومهم وأحوالهم. فأحبّ القلوب إلى الله سبحانه: قلبٌ قد تمكّنت منه هذه الكسرة، ومَلَكَتُه هذه الذلّة؛ فهو ناكسُ الرأس بين يدي ربه؛ لا يرفع رأسه إليه حياءً و خجلاً من الله.

قيل لبعض العارفين: أيسجد القلب؟ قال: نعم؛ يسجد سجدةً لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء.

فهذا سجود القلب. فقلبٌ لا تباشره هذه الكسرة فهو غير ساجد السجود المراد منه، و إذا سجد القلب ( هذه السجدة العظمى ) سجدت معه جميع الجوارح، وعَنَا الوجهُ حينئذٍ للحيّ القيوم، وخشع الصوت والجوارح كلّها، وذلّ العبد وخضع و استكان، ووضع خدّه على عتبة العبودية، ناظراً بقلبه إلى ربّه وَوَلِيّه نَظَرَ الذّليل إلى العزيز الرحيم، فلا يُرى إلاّ متملِّقاً لربّه، خاضعاً له، ذليلاً مُستعطفاً له، يسأله عطفه ورحمته، فهو يرتضى ربه كما يرتضى المُحبّ الكامل المحبة مَحبُوبه المالك له، الذي لا غنىً له عنه، و لا بُدّ له منه، فليس له همٌّ غير استرضائه واستعطافه؛ لأنه لا حياة له ولا فلاح إلا في قربه ورضاه عنه ومحبته له؛ يقول: كيف أُغضبُ مَنْ حياتي في رضاه؟! وكيف أعدل عمّن سعادتي وفلاحي وفوزي في قربه وحُبّه و ذكره؟!!

مالك مناع
12-17-2012, 02:35 AM
قال ابن قيِّم الجوزيّة -رحمه الله تعالى- في كتابه: ((الفوائد)):
((وأما عُبوديّة النّعم، فمعرفتها والاعتراف بها أولاً، ثم العياذ به أن يقع في قلبه نسبتها وإضافتها إلى سواه، وإن كان سبباً من الأسباب، فهو مُسبّبه ومقيمه، فالنعمةُ منه وحده بكل وجه واعتبار، ثمّ الثناء بها عليه، ومحبته عليها، وشكره بأن يستعملها في طاعته.
ومن لطائف التعبد بالنّعم أن يستكثر قليلها عليه، ويعلم أنها وصلت إليه من سيّده من غير ثمن بذله فيها، ولا وسيلة منه توسَّل بها إليه، ولا استحقاق منه لها، وإنها لله في الحقيقة لا للعبد، فلا تزيده النّعم إلا انكساراً وذلاً وتواضعاً ومحبة للمُنعم، وكلما جدّد له نعمة أحدث له رضى، وكلما أحدث ذنباً أحدث له توبة وانكساراً واعتذاراً، فهذا هو العبد الكيّس، والعاجز بمعزل عن ذلك)).