المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تنقيح القرآن: لعبة التأويل والنص القرآني!



حازم
11-12-2005, 02:02 AM
بقلم : د. محمد أحمد الحضراوي**

تردد مؤخرًا ضمن الحديث عن "التحديث والإسلام" الحديث عما سُمي بـ "تحقيق القرآن" في ندوة عقدت في بيروت 25-26 يونيو/2003 ولقيت صدى في تونس، والبعض عبر بـ "تنقيح القرآن"، ويبدو جليًّا اندراج هذه المقولة -أو التقاؤها- ضمن مشروع تحديث الإسلام، ومحاربة ما تسميه الولايات المتحدة بـ "الإرهاب"، فهي تتجه نحو محاولات هندسة المجتمعات لتجفيف منابع الرفض للهيمنة الغربية.

ولعلَّ السيناريو السوداوي الذي كان يتخوف منه إسلاميو الستينيات والسبعينيات عن محاولات تنقيح للقرآن الكريم أصبح الآن سياسة غربية معلنة، فآيات مثل: (وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)، أو (واقتلوهم حيث ثقفتموهم)، يراد إلغاؤها أو تنقيحها، وربما تعتبر الآيات التي تحكي ما فعله اليهود من قبيل ما يسمى في الأدبيات السياسية الصهيونية التي تبنَّتها كثير من دول الغرب، بـ "معاداة السامية"، هذا المقال يناقش مقولة "تنقيح القرآن"، ويبين تهافتها مستعينًا ببعض مقولات الهيرمينوطيقا (التأويلية). (المحرر).

لم تتوقف المحاولات عن الارتطام بالجسد القرآني، راغبةً -في كل مرة- بالقضم من معماره اللغوي وزعزعة بِنيته اللسانية؛ فقد كانت دومًا تتغيا تفكيك مكوناته بشكل تدميري من أجل معاودة صياغته طبقًا لمقتضيات اللحظة التاريخية، وشرط التفوق المادي، واختلال موازين القوى. وليست محاولة "تنقيح النص الكريم" المعلنة -مؤخرًا- إبداعًا حداثيًّا، وإنما هي مشروع تاريخي بعيد المدى يجد بذرته التفكيكية في خضمّ الصدامات الحضارية القديمة التي اجتهدت في فصل الوعي الإسلامي عن قواعده القرآنية من خلال إعدام النص المؤسّس، وإبادة معالمه الدلالية.

دوائر ثلاث.. للتصادم مع القرآن

وقد تمنهجت مواقف هذا الانقلاب ضمن ثلاث واجهات:

تعتمد الأولى على كسر انتماء الكتاب الكريم إلى أصالته الأنطولوجية واجتثاثه من حقيقته القدسية؛ لأن الله تعالى ليس موجودًا -كما هو رأي البراجماتيين من بقايا الأيديولوجيات البائدة، وقد تسربلوا بأردية ليبرالية وأقنعة ملائكية-.

والواجهة الثانية تتعلق بالشخص النبوي ذاته. فهو -وفقًا لهذه المنازع القصدية- يمثل مصدرا للانتهاكات؛ لكونه المرسِل التاريخي للحوافز الصدامية، ومختلف شروط العدوان على الآخر!

لكن هذه الأحكام المتعرجة تتعامى عن الماهية الإرسالية للنبوة. فالرسول الكريم جاء يشفّف الصورة الاجتماعية، ويتمم مكارم الأخلاق، وقد كان هذا الحضور التعييني لأهداف النبوة، أساس التواصل الميتافيزيقي ذاته (بين الله والإنسان)، كما جاء في سورة [الأنبياء 108] (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) والرحمة هي فن التجاوز والتسامح مع الآخر. فاقتدر بذلك على صياغة نظام كوني جوهره التعايش والتقارب البشري (إذا ما رجعنا إلى دستور المدينة مثلا)، فأسس بذلك للعالمية التي استقطبت وقتئذ (من623م إلى 633م) كل الحضارات (بما في ذلك المحاربون الرومان الغربيون)، وكل الديانات حتى الاستلابية منها، كتلك الطوائف التي تعبد النار؛ فقال في المجوس: (سُنّوا بهم سنة أهل الكتاب) حتى يمنحهم إطارًا اجتماعيًّا وقانونيًّا يندمجون بموجبه في الحياة العامة. فكانت عالمية النبي وجهًا مشرقًا للتحاور والتقارب، يختلف عن نظام العولمة الفرداني.

وبإزاء القفز على هذه الأحداث، والتقويمات اللاموضوعية للشخص النبوي الشريف، فإن الذات المفكرة تتحير أمام هذا الخلط التاريخي الذي يقفز على كل البداهات المعلومة. ولا أحد يفهم إن كانت أمة الشر هي التي تحب نبيها وتصلي عليه، أم تلك التي تقتل نبيها، ثم تنطلق في رحلة ندب على خطيئتها، لتبشر بالمحبة القاتلة! والسلام المضرج بالدماء!

أما الواجهة الثالثة التي يدار بها التصادم مع القرآن الكريم، فهي السعي إلى خلخلة قداسة هذا النص الكريم؛ إذ هو آرامي وعبراني أو سرياني المنشأ والمنتمى. أي أنه - طبقا لهذه الرؤية - يسوغ انتماؤه إلى أية لغة -ما عدا العربية-!

وكأن العرب، وقد بلغوا أعلى هرم البيانية والتعبير، ووصلوا إلى حد الإعجاز - كما يقول عنهم الآلوسي - فأنتجوا الأشعار واستوعبوها ذاكريًّا، واستوحوا من وسطهم الجغرافي المغلق جملة من العلوم التوثيقية، كحفظ أنساب القبائل والأفراد، وما تستثيره أوضاعهم البيئية من ضرورات ثقافية. لكنهم وقد أساءوا إلى العقلانية الإيمانية، وشوهوا معالم الديانات التي جاءت من أجل أن تتكامل، ففعلت فيها القطائع الجاهلية حتى تشظت، صار لزامًا إحياؤها بالوحي الإلهي وإحياء العالم بها، لكن الهاجس الصدامي لم يتوقف عن تغذية الخطاب التعبوي باستنساخ موزون لأدوات التمويه، والمسخ، والزيف الأيديولوجي.

وقد نقل محمد أركون -في إطار هذه المحاكاة- تأكيدا حاسما ودوغمائيًّا لتوصيف لا عربية النص الديني، فكتب [1] معبرا عن مرجعيته الواحدية والنهائية: ويرى المستشرقون المتخصصون بفقه اللغة أن كلمة "قرآن" ذات أصل سرياني أو عبري. فهو -في نظره- لا يوجد شيء خارج النص الاستشراقي؛ إذ المستشرقون - وحدهم - المؤتمنون على قراءة الشرع الإسلامي وتوثيقه أصالة عن أنفسهم، ونيابة عن المسلمين! ولا فرق - لدى أركون - أن يكون الأصل سريانيًّا أو عبرانيًّا. المهم أن يؤدي هذا التوصيف إلى تصفية الحضور القرآني من سماته الثقافية العربية!

لقد تولّد عن هذه المفاهيم المجتزأة والمنتقاة: فراغ معرفي لا يتأصل بمعنى تاريخي، ولا تتحد بموجب تلك المفاهيم الطبيعة الثقافية للنص المؤسِّس. لكن الكتاب الكريم كان شفافًا في طرح هوية نفسه، وتموضعه في حقل الدلالة القرائي (القرآن = القراءة)؛ فهو قرآن عربي مبين، من البيانية والخطابة التي تُمَظهر روحه العربية. وقد أحال الكتاب في درسه المنهجي الأول على فعل القراءة الإنتاجية؛ بما هي نشاط إدراكي يفضي إلى تحرير العقل، وتحقيق المعاني الشاملة والكامنة في بواطن الأشياء.

وتُدرَك هذه القراءة في إطار تحديد العلاقة الأنطولوجية مع الذات، ومع العالم، ومع الله. فقال تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم). وللقراءة -في هذا النص- مستويات متفاوتة منفتحة على الاستثمار الدلالي. فهي -في معناها المباشر- تفيد الترديد الفيزيولوجي، والاسترجاع الصوتي للتمظهرات النطقية. وتدل -في معناها العميق- على الاستقراء، وهو التنقيب والحفر الدلالي في التمظهرات من جهة ما هي ظواهر، ومن جهة أصالتها الأنطولوجية، وانتمائها إلى ذات فاعلة متعالية.

وفعل القراءة في المنظومة الإسلامية يحيل إلى دلالة ثالثة وهي الإقراء، وتعني التوجه في إطار حواري نحو الآخر من خلال عرض مبادئ الذات وطرقها الافتكارية.

فالقرآن العربي هو أساس الأبستيمولوجيا الإسلامية. والأبستيمولوجيا -كما يقول فوكو [2]– "هي جملة من العلاقات التي تنتظمها النصوص، وتربط بين العلوم في مجال معرفي متعين" فيكون النص القرآني بهذا التشخيص مجتمع العلوم، ومنطلق الحضارة والفعل الثقافي الديني.

وبالمحصلة فإن الهوية اللغوية للنص القرآني العربي تتشرعن بالقرآن ذاته، وبالواقع التاريخي؛ فالإدارة النبوية لوظائف الانتشار الإسلامي، وتصدير الفكر الديني الجديد إلى الأقطار الأجنبية بلغاتها: توفر برهانًا مضادًّا للمرجعيات المهووسة بـ "لا عربية" النص المؤسّس. والنماذج -متعددةً- تثبت أن المنهاج النبوي هو الذي أسس نظام الترجمة من العربية، وأمر بتعلم اللغات المختلفة، وذلك في بدايات الزمان المديني (الهجرة 623م). فأسس للحوار والتواصل الكوني، وأمّن النصوص الدينية من التحريف والتزوير كما تدل على ذلك قراراته -صلى الله عليه وسلم- التي اتخذها حال افتتاحه التاريخ المدني.

النص ونظرية التلقي.. و"لعبة التأويل"

تقوم "نظرية النص" على علاقة حتمية بين المشروع التعبيري للمؤلف، وبين استعادة هذا المشروع في زمن القراءة، فجمالية الاستقبال هي المعادل البنائي المناظر لفعل التأليف. بهذا تنتظم الكتابة ضمن علاقة تقاطبية يتجاذبها طرفان هما: الدال (الصورة الصوتية)، والمدلول (الصورة الذهنية). فالدال هو الحيز الأصلي، والسياق المرجعي الذي يشخص ملكية المؤلف، وقد ثبتت شرعية هذا المكتسب المعرفي بتقنين استخدامات النتاج الشخصي للكاتب من قبل القارئ. فانتخاب مقولات نصية يمتلكها الآخر وتحويل وجهتها من الكاتب إلى القارئ تتصنف ضمن دوائر مغلقة هي: الاستشهاد والاقتباس والسرقة. وهذا يعني أن تغيير مسار السياق اللساني لأي نص، يتموقع في إطار اللامسئولية والاعتداء.

وتبقى الناحية المدلولية للنص، فهي منفتحة على ما لا يتناهى من التخريجات السيميولوجية (الدلالية)، إذ شرعنت العديد من المدارس النقدية إخضاع النص للتجريب والتفكيك حتى لو أدى هذا التقليب إلى الخروج عن مضمون المرادات الأولى (للمؤلف). فقد صار التأويل "لعبة لغوية" -يقول أمبرتو إيكو- بما أن البحث عن مقاصد المؤلف تحول إلى قراءة للنص اللغوي في ذاته (مقاصد النص)، ثم صار الأمر إلى القارئ نفسه يشحن السياق بمقاصده، ويسقط مفاهيمه على النص.

وبما أن اللغة "لعب" -كما يقول بارط وديكرو[3]- فإن التأويل اللامحدود (في النصوص الأدبية) صار عملة المقروئية المعاصرة. وقد انخرط السيميائي أمبرتو إيكو في هذه اللعبة ثم تراجع حين لمس مفعولها السلبي، وسجل تراجعه في كتاب أسماه "حدود التأويل"، فعكس بعنوانه خلاصة موضوعه بعد عشرين عامًا من إستراتيجيا اللعب اللامحدود باللغة.

أما التأويل في سياق القرآن الكريم فيتخذ مقامًا مركزيًّا في إستراتيجيا القراءة الدينية، وهو متى ما حاز صفة "العلمية": استنطق كينونة النص المقدس من أجل استرعاء كليات الكتاب الكريم وخصائصه الإيمانية، فالاستقراء الأبستيمولوجي ليس هو ما بحث عن النتائج العدمية، ولكنه ما يولد علاقة توفيق وتواصل مع المقروء، ويجعل من التأويل وسيطًا حضاريًّا بينه وبين النص الكريم من أجل إيجاد مخارج روحية وعملية لهذه الحضارة المصابة بالعياء والمرض -كما يسمي ذلك فرويد- واستنقاذ الحداثية مما أسماه "هوسرل" بأزمة العلوم الغربية التي تحولت إلى برنامج ميتافيزيقي بشري أساسه العنف ومنهجه الاستقواء بالمكتسبات التكنولوجية. وذلك بعد أن تحول العقل العلمي من المفهومية إلى الأداتية، ومن المنطقية إلى البدائية والتوحش.

ولو أخذنا بعض النماذج الوظيفية من أجل بيان العوائق الأيديولوجية التي تفصل بين جاهزية الفهم (الفهم السابق على النص)، والقراءة الحرة الالتزامية للقرآن الكريم (قراءة النص من داخله) فإن أمريكا -مثلا- قرأت الجهاد طبقًا لمجالها المرجعي على أنه إرهاب. ولكن المنظومة الإسلامية تقرؤه من جهة ما هو بذل الجهد العلمي والتكنولوجي (والنووي المحظور)، لتشخيص معالم الاستخلاف الحضاري، وهو إقامة العمران لتحقيق الرفاه لعباد الله في أرض الله. فتلك مهمة الخلق المركزية التي تُستنفر لها الطاقات العقلية، وتُحشد لها الإمكانات الجسدية والمادية.

ولا يتخذ الجهاد مفهومه الحربي إلا في حالة الكفاح المسلح متى ما انتهكت الحرمات الوطنية ـ الدينية، كما هو الحال بالنسبة إلى فلسطين والعراق. فما يسمى بالدفاع الشرعي عن النفس هو التحديد الدلالي لمعنى الجهاد.

وإذا أضفنا إلى هذا المثال طرحًا استشكاليا آخر تعرض لعديد من التصورات التحريفية والاستيهامات السرابية، نظرنا إلى ما عُنْون له بـ "ضرب المرأة في زمان الحداثة"؛ فقد جعلت منه الأيديولوجيا لقطة إشهار وتشهير، وهي غاية في التسطيح واللامفهومية؛ لأن الاعتداء الجسدي مقصي من هذا المستوى الدلالي؛ وإلا فما معنى قوله تعالى: (أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين)، وما معنى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقًا في البحر يبسًا)؟ وما معنى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) وما معنى (ضربت عليهم الذِّلة والمسكنة)؟

إن العقل الدلالي لمصطلح "الضرب" يتسع -في عموم القرآن- للمجال الاستخلافي السابق الذكر ضمن الإطار الثقافي والمنطقي الذي هو غاية الخلق الأولى. وذلك طبقًا لثلاث مقايسات فيلولوجية:

- فهناك ضرب المثل، وهو المرور العقلي من المحسوس إلى اللامحسوس، ومن المرئي إلى اللامرئي عبر مسار ذهني تتحايث فيه المقومات المعرفية والمفهومية، لتحقق العبور إلى معنى المعنى.

- وقد تحدث النص الكريم كذلك عن الضرب في الأرض.. وهو السعي العلمي والجسدي في العالم من أجل ترك البصمات الثقافية على المستوى المعماري في الكون.

- وكذلك القول في ضرب العملة (سكّ العملة)، فهو وضع اللمسات الحضارية والسياسية على القطع النقدية من أجل ارتسام صورة تاريخية لزمان حكمي معين.
وهو الذي يُطلب في التعامل الحضاري الأسري بما أنه مسئولية رعوية، كما في النص النبوي (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته). فالمسئولية تقتضي وضع البصمات الثقافية، والتربوية والدينية كلما أرادت المرأة النشوز عن هذا العهد المتعاقد عليه بأمانة الله، كما جاء في خطبة الوداع.

وهذا ليس تأويلا لمجرد التوفيق الحضاري، ووضع آلية للحوار، ولكن القرآن ذاته يعبر عن هذا؛ فقد جاءت الآية الكريمة لتقول من بعد: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُّرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} [سورة النساء/35]. فالخلاف يعالج داخليًّا بالوسائل الحوارية، ثم ينتقل منه إلى التحكيم التوفيقي فإلى الطلاق وهو مبغوض في الإسلام.

لكن، حين يتم السعي إلى إبدال عقائدي جديد، فإنه من السر بمكان تفصيل دلائل القرآن على قدر المقايسات الأيديولوجية من أجل تثوير الكائنات المسلمة بعضها ضد بعض، وتصديع البنية الاجتماعية للمواطنة الإسلامية من الداخل!

ومن المفارقات أن يلجأ العقل الغربي إلى تأسيس قرائية للتوراة والإنجيل رغم كونها نصوصًا بشرية تستعيد المقولات النبوية، وليست استنساخا مباشرًا للوحي كما هو الحال بالنسبة إلى القرآن، فظهرت الهرمينوطيقا (التأويلية) اللاهوتية التي أنشأها شلايرماخر ودلتاي. ووجدت الكتب الدينية علميتها، ومن ورائها العلوم الإنسانية، حتى أن دلتاي قد فرّق بين التفسير والتأويل بما يتقارب مع المنهجية الإسلامية حيث جعل التفسير أو الشرح مرتهنًا بالعلوم الطبيعية، فهو الثابت الذي يستعيد جلايا النص، ورأى في التأويل نشاطًا ذهنيًّا محضًا يتوازن بالإجراءات التفسيرية.

ويظل الكائن الغربي يراكم قطيعته مع القرآن الكريم، ويرفض تأويله على كل الصعد المفهومية رغم كونه -من الناحية النصية- بنكًا من العلامات والرموز يؤهل تأويلها لمد جسور الحداثة والحوار بين العالمين الشرقي والغربي.

وفي النهاية فإن هذه المحاولات التي تداعت الأمم بموجبها على الشعوب الإسلامية لن تكون أبدية. فهي مجرد قيم لحظية تعرف الصعود والنزول في بورصة هي بورصة التاريخ، كما يقول بارط في درسه الافتتاحي عن السيميولوجيا.

القرآن.. والقراءة

لو أردنا تأطير الكتاب الكريم نصيًّا، لقلنا: إن القرآن بنية لغوية متناهية لسانيًّا ومنفتحة دلاليًّا. وإذا ما استندنا إلى حقيقته من جهة طبيعته التجاوزية (المتعالية عن الواقع والتاريخ) كان التعريف أكثر دقة وتعبيرًا عن ذاتية الموضوع. فالقرآن هو قول إلهي متحدد كلاميًّا منفتح دلاليًّا. وفي كلا التعريفين ينقفل السياق اللغوي، ويمتنع عن الزيادة والنقصان. فالموقف الإبستيمولوجي والثقافي يقتضي النظر إلى القرآن في قرآنيته، بمعنى اكتشاف ذاتيته من خلال الغوص في بواطنه وتشفيف (من الشفافية) حركته الجوانية، وقراءته من الداخل -كما يقول هشام جعيط في كتابه عن "الوحي والقرآن والنبوة"-.

أما القراءات الخارجية المسقطة على الداخل القرآني فلا تعبر إلا عن روافدها الأيديولوجية وقراراتها الإقصائية المسبقة.

وإذا وقفنا على العتبة المنهجية لاتجاهات قراءة الكتاب الكريم، ألفينا علم النص الديني قد استبق الزمن ليؤسس الهرمينوطيقا اللاهوتية بما يؤمن النفاذ الماهوي إلى الحقائق التي يستنبطها العمق القرآني؛ فقد نَظّر (من التنظير) ابن رشد لقانون التأويل على المستوى الفلسفي، وطرح الشاطبي في مجال التأصيل الشرعي والتقنين المقاصدي قواعد للتأويل القرآني ومعالم السيمياء (الدلالة) الإسلامية. وكان التأكيد على ضرورة اكتساب المعلومات القاعدية للألسنية العامة (إتقان اللغة العربية)، ومعرفة علوم القرآن (القراءات، أسباب النزول، المكي والمدني، الناسخ والمنسوخ)، إضافة إلى العلم بتقنيات الخطاب وميكانيزمات القول القرآني (المجمل والمبين، المحكم والمتشابه، العام والخاص، المطلق والمقيد..) وسواء كان القارئ إيمانيًّا أو غير إيماني، فإن الاستناد إلى هذه الحصانة المنهجية ينتهي بمختلف مسالك الاستقراء إلى ذوات النتائج المتوازنة التي تعبر عن هوية القرآن وذاتيته.

إن ما يزعج العلمانيين العرب، أن يُستقبل الكتاب الكريم ضمن معتقد أساس هو سمته القدسية. فالقرآن كلام الله تعالى. لذلك كان كذلك. والمقدس لا تحديد له في علوم الحداثة. وقد كان للاجتماعي دوركايم في الأشكال البدائية للحياة الدينية قول شخصي في المصطلح، مبني على مناهضته للمعتقد الإيماني، فالمقدس عنده هو المتدرع بالحرام (الممنوع الصِّرْف أو التابو).

وهذا الرأي يتناقض مع الدلالة الدينية (الإسلامية)؛ لأن التعامل مع الإلهي لا يتخذ صبغة الهيمنة والتوتر. فالله هو المحبة والرضى (رضي الله عنهم ورضوا عنه) – كما يقول القرآن - فليس ثمة ممنوعات في الإسلام. إذ الحرام هو الاحترام.. احترام ما يجتنب الفعل لأجله، كما في مسألة تحريم الخمر. فلو كانت ممنوعة بالشكل التسلطي الذي يصوره دوركايم للناس لكان أول النصوص حاسما في النهي، ولكنه تدرج بالمتلقين لفترة دامت عشرين سنة، واستغرقت أربع مراحل من أجل إرساء وظيفة النقد الذاتي لدى الكائن الإيماني المفكر. فعلّم هذا الكائن أن كليات الشريعة خمسة: المحافظة على العقل والنفس (الجسد) والمال والعِرض والدين.. وفي تناول الكحول والمخدرات انتهاك للكل. فتحريم الخمر إذن هو اجتنابها احترامًا للعقل والجسد والمال.. واحترامًا للممارسات الشعائرية، ولروح التواصل مع الله؛ فالمقدس إسلاميًّا يحمل معنى طهريًّا يدل على مفارقته المدنسات الدنيوية.

وهذا يعني أن القرآن قائم بذاته لا يخضع إلى المؤثرات الأيديولوجية والسوسيولوجية والثقافية، ولا يستمد مقولاته من التناص ومن سلطة الكتابة التداولية (كما في تجربة الكتابة البشرية التي لا تعدو كونها نسيجًا من الاقتباسات حسب درس سيميولوجيا بارط). لذلك صنع القرآن واقعه الإسلامي بعد أن قلب أنظمة الوعي الجاهلي وأبنيته الفكرية دون أن يكون لها فيه شيء منها. وقد تعالى الرسول الكريم ذاته وهو يبلغ الوحي الإلهي عن الذاتية (المصلحية) وكل أسباب الدنس، وقد أعطي الحكم والمال والجمال من قبل السلطة الجاهلية في مقابل التنازل عن مبادئه. فنقش هذا الرسول ـ الإنسان الكامل في ذاكرة التاريخ أن: "والله لو وضعوا الشمس عن يميني والقمر عن شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته". ولهذا كان الإلهي مقدسًا ومتعاليًا في ذاته، لا يخضع لحقول الاختبارات والتجارب والألعاب اللغوية والنصوصية (إنه لقول فصل وما هو بالهزل) [سورة الطارق/ 13].

وبالمحصلة، فقد تعاقبت التجارب البشرية على العالم، وحين توهمت أنها انتصرت على الإلهي واقتنصت المطلق، واستحدثت دينها، انزلقت إلى سلسلة من التصفيات (موت الآلهة ـ موت المؤلف ـ موت الطليعة ـ موت الحداثة).. وبعد أن دفعت بالتفاؤل إلى أقصاه حين أعلت من شجن الترعة الإنسانية، وحفزت الإنسان إلى أن يتمركز حول ذاته، لم تلبث أن أهدرت كافة المشاريع الأنطولوجية وأسقطت كافة الرهانات حين أنشأت فلسفة موت الإنسان وأضحت تبشر بالفناء وتقويض الوجود.

فلا يمكن أن تكون نزعة القتل المعاصرة قانونًا لتفكيك النص القرآني وإسناد وظائف مناهضة لدلائله على وجه الاستبدال. ذلك أن المشروع الإسلامي الإحيائي لا يتمثل النهاية بالموت. لقد أزال العدم من مخزونه الروحي، ونحن نقرأ في سورة [الأنفال/ 24] (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم..) ولهذا بقيت الكلمة القرآنية؛ لأنها مصدر وجود ينشر الحياة ويبشر بالتواصل الميتافيزيقي والخلود، وانهار مسلسل الدعوات التدميرية التي بشرت بموت الدين كما بشرت بموت كل شيء. وقد مات فرويد ودوركايم وشتراوس وفيبر، واندثرت الشيوعية والشيوعيون، وعادت الميتافيزيقيا، وبقي الدين دعامة أساسية تنير روح الكائن المعاصر البئيس كلما عتمها المدنس، وأحست بالاستلاب عن مسارها الفطري إلى إشراقة الوجود.

خسوف العقل التلفيقي

تسجل مقولة تنقيح القرآن الكريم انقطاعات جذرية مع العقل العلمي، ومع المسار الطبيعي لممارسات الذوات المفكرة، وهذا إضافة إلى انتهاك البنية التحتية للكائن الوجودي، وأعني بها هنا الفطرة البشرية التي ترنو وتتطلع على الدوام إلى إله يحل ألغاز الرعب الميتافيزيقي (الغيبي)، ويلغي الشعور الكامن لدى الكائن بالعدمية واللاجدوى.

وقد قوضت مقولة التنقيح ذاتَها من خلال جملة من التناقضات والتهافتات التي تعكس تشنجها واقتناعها بضحالة مشروعها:

1 ـ ظل أبطال التنقيح منزعجين، وقد خابت آمالهم في تصدع الدين وموت الكائن الإيماني، فقاموا يندبون سوء الطالع لاحتكار الدين من قبل المتخصصين في الشرعيات تارة، ومن قبل المتطرفين أطوارًا أخرى. إذ لا وصاية على الدين فهو مشاع للجميع. ولكنهم قرروا أخيرا أن يتحولوا إلى أوصياء على الدين، وعلى المسلمين في العالم، وذلك حين أصرت انفعالاتهم على أن يصنعوا للأمة قرآنًا.. هكذا!! ودفعة واحدة: قرآن جديد (غير مجيد)، ومعان عولمية لدين آخر ليس بعده دين للعرب ولمسلمي العالم. فحكمت بذلك على نفسها بالتطرف الذي كانت تصف به الناس؛ إذ كل خروج عن حدود المنطق والمعقولية والتوازن تطرف خطير الصيرورة وعكسي النتائح.

2 ـ إن التطرف والإرهاب كليهما رد فعل عكسي على الاستفزازات، وعلى الاحتكارية التي تمارسها القوى الكولونيالية (الاستعمارية) وأياديها في العالم الإسلامي للهيمنة على معتقدات الناس وتحديد هوياتهم وأنظمة تفكيرهم. ولكن الانتهازيين لا يناسبهم من أجل التعيش بالأموال الإمبريالية إلا أن يغذوا أسباب التوتر وتفجير الأوضاع للمحافظة على منابيع الآمال والأعمال؛ لأن الاستقرار يفسد عليهم أسباب التكسب والاسترزاق بالرشاوى الاستعمارية. ولكنهم - كما يقول القرآن - متى ما استحصلوا عليها (فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون) [سورة الأنفال/ 36].

3 ـ إن محاولة تدليس النص القرآني هذه، ليست سوى نزعة عبثية؛ لأن هذا الكتاب الكريم قد قهر الزمان، بما أنه تأسس على الخلود؛ فقد اندثرت قوى الطعن والتحريف بغوغائياتها، وظل النص متصدرًا مشاهد الوجود. فالقرآن منحوت في الذاكرة الإسلامية ومنتقش في أعماق العقل الإيماني. إضافة إلى أنه مخزون ورقيًّا وإلكترونيًّا وتكنولوجيًّا. ومع ذلك فإن المثقف الإيماني -ومن ورائه المجتمع المدني وكل مثقف موضوعي- سيحبطون هذه المساعي الاعتباطية كما في كل مرة تتصدى الهيمنة لتحريف التاريخ، واجتثاث حقائقه منه.

4 ـ إن محاور الحداثة الثلاثة: الإنسان والعقل والحرية استقطبت العقل الإنساني لكونها فتحت الوعي البشري المنغلق، على التواصل والتثاقف واكتشاف الذات جدليًّا بالتحاور مع الآخر. لكن هذه الحداثة وقد سارعت إلى إفراغ الهويات من محتوياتها وخصوصياتها حين اكتسحتها العولمة المشحونة بإرادة الهيمنة، فإنها تحولت إلى أيديولوجيا قمعية وهي تسعى إلى أمركة العالم وتقسيمه إلى مركز وأطراف، بفرض الحراسة والعقاب على المعتقدات والاستثمار في القيم المقلوبة.

غير أن هذا التضخم الأيديولوجي ما دام تعرض إلى النصوص الكريمة سيؤسس للكراهة والتنافر العقائدي؛ لأن ممارساته التحريفية اغتالت الإنسان وحنطت العقل واغتصبت الحرية، وستنتهي إلى تكرير مأزقية التحاقد، وتوليد القطائع التاريخية بين المستعمِر والمستعمَر. وإذا اختلت موازين القوى التكنولوجية، فإن الحاجة ستخترع موضوعها، أي أن الترعة الإنسانية التي كانت مفخرة الحداثة ستتساقط في العدمية لكونها استعادت تاريخ التوحش واستقدمت البدائية الأولى بعد أن أهدرت الحق الطبيعي (وهو الحرية وحقوق الإنسان).

5 ـ إن مصطلح "تنقيح القرآن" مشحون بالتباين والتسالب فيما بين حدي هذه العبارة المتوترة. فالتنقيح معناه التغيير بالزيادة والنقصان أو بكليهما، وينصبّ على المفعولات البشرية وكل ما ينتمي إلى الإنتاج الديني والفعل الإنساني. من هنا تسقط هذه العبارة المتشنجة في مأزق نهائي، وذلك حين يستقرئ التباين بين مفردات العبارة من جهة ما يكون التنقيح فعلاً بشريًّا تتقاذفه دوافع ثقافية واجتماعية وحضارية، إضافة إلى ما يصطبغ به من تحكم نفسي ومصلحي وأيديولوجي. وهذا بإزاء النص القرآني بمصدريته الإلهية، وانتمائه إلى دوائر الميتافيزيقا وهي متعالية على التقلبات البشرية، والتنافيات الثقافية الدائمة (وهذا ما يحتم العقل العلمي مراعاته واحترامه حتى ممن ترك الإيمان بذلك).

وبما أن هذا الطريق يؤدي إلى طرق في مختلف مسالك الثقافة والاعتقاد (اللاإسلامي)، فإن إرادة تفكيك النص القرآني في هذه اللحظة التاريخية التآمرية هي دعوة دوغمائية جاهزة تفضي إلى الاستنتاج البديهي والتلقائي أن مقولة تنقيح القرآن مشحونة بإرادة التسلط، وممهورة بنظام الغلبة العولمي. وهذا يعني أنها تتغيا إسقاط مفاهيم أيديولوجية قبلية على مضامين القرآن الكريم من أجل صهره داخل بوتقة المسبقات الفكروية (التي تزعم الانتماء للفكر)، وقولبته طبقًا لتوجه فرداني وعقل كلي مركزي يتغنى بالتحكم في السياقات والمفاهيم والقيم الاختلافية من أجل فرض أيديولوجيا وفكر عولمي واحد ووحيد تطمس فيه الغيرية والتعدد، وينتهك حق الآخر الثقافي، وهو ما يتناقض مع منطق الحضارة، وقد أَمّنت الناس من تعقب المعتقدات والآراء. وذلك في إطار الامتياز التحرري الذي يطمح إليه إنسان الحداثة، وقد تجاوز (ولو نظريًّا) أزمنة البداوة والتوحش والاعتداء، وجعل الحوار بين الحضارات أساسًا وجوديًّا ما كان ليعني تبديد هذه الحضارات؛ لأن المشهد الكوني لا يتناسق إلا بالتعدد والاختلاف.

حصانة القرآن.. ليست سياسية

لكن هذه المخاطرة الثقافية لم تعدّ لهذه المواجهة مع العالم الإسلامي عدتها المفهومية؛ لأن الإيمانية ليست ذات مرجع سلطوي؛ فهي شعبية جماهيرية، ولهذا فإن مشروع تنقيح الكتاب المؤسس ليست وظيفة سياسية تدفع من خلالها الأمركةُ المؤسساتِ السلطوية إلى فرض مرادات استعمارية وانتزاع إرادات المتلقين من أجل تدجينهم وفك روابطهم مع ذواتهم.

ورغم أن السلطة عدوة للكلمة، وبما أن الأيديولوجيا المهيمنة -وهي أفكار الطبقة الغالبة- ستظل تمد ظلالها على قراءة النصوص -كما يقول بارط [4] - فإن هذه الإرادة الإمبريالية نظرا لما تحمل من تزوير وتدليس وتحد، لن يقبلها العقل الإسلامي وإن تفككت روابطه مع القرآن الكريم في الحياة اليومية وألغى الإسلام كمشروع وطني.

وإذا لم يُعجِب أمريكا دفاعُ الكائن الإسلامي عن ذاتيته، واستمساكه بهويته، وأرادت صناعة مسلم انهزامي استسلامي جديد، فإنه يتوجب عليها أن تبحث عن ذلك داخل مدارات مدنسة متباعدة عن المقدس؛ لأن ما تبيت له، من رسم صورة بورنوغرافية للمرأة العربية، أو تنصيع سمعة اليهودي الصهيوني وغيره من المتطرفين الذين أحسن القرآن -كعادته ببيانيته- تعرية حقائقهم وكشف تآمراتهم، فإن هذا الهاجس الرومانسي، والحنينية إلى الإطاحة بالمقدس لن يجدياها نفعًا؛ لأن الأمة، وإن تراءى للبعض -كما في العراق- أنها انهارت، إلا أنها محصنة بجهاز مناعي لن تفككه لحظة اللين، ومناخ الاختراق الذي جللها بالوهم. وستبقى للقرآن وظيفة توحيدية ولو ترميزًا ومجازًا. ثم إن الأحرار في العالم سيقاومون فكريًّا وثقافيًّا هذا الإرهاب العقائدي والقمع الاستعماري للأديان الذي انتهى إليه صدام الحضارات.

ولن يغني شيئًا أن يتم البحث في مزابل التاريخ عن مقولات تبريرية متهاوية عساها تشفع لتلك المحاولات لما تحمل من الالتباس والضبابية لتلفيق سياق مدلس ودلائل نمطية للقرآن الكريم.

-----------------------------------------------------

** كاتب وأكاديمي من تونس.

[1] في "الفكر الإسلامي .. نقد واجتهاد"، 77 ـ 1990م

[2] في "أركيولوجيا المعرفة" طبعة غاليمار الفرنسية 250 ـ 1969

[3] في كتابه: قل، لا تقل: مبادئ دلالية لسانية ـ باريس ـ هارمان 1972 ـ 5.

[4] في "لذة النص"، سوي ـ باريس 1973/54.