المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شلل العقول , صمم الآذان , عمى الابصار و غشاوة القلوب



أبو يحيى الموحد
10-08-2011, 09:41 PM
كلام رائع لإبن القيم عليه رحمات الله:
فصل: وأما القفل فقال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} قال ابن عباس: "يريد على قلوب هؤلاء أقفال" وقال مقاتل: "يعني الطبع على القلب" وكأن القلب بمنزلة الباب المرتج الذي قد ضرب عليه قفل فإنه ما لم يفتح القفل لا يمكن فتح الباب والوصول إلى ما وراءه وكذلك ما لم يرفع الختم والقفل عن القلب لم يدخل الإيمان والقرآن وتأمل تنكير القلب وتعريف الأقفال فإن تنكير القلوب يتضمن إرادة قلوب هؤلاء وقلوب من هم بهذه الصفة ولو قال أم على القلوب أقفالها لم تدخل قلوب غيرهم في الجملة وفي قوله أقفالها بالتعريف نوع تأكيد فإنه لو قال أقفال لذهب الوهم إلى ما يعرف بهذا الاسم فلما أضافها إلى القلوب علم أن المراد بها ما هو للقلب بمنزلة القفل للباب فكأنه أراد أقفالها المختصة بها التي لا تكون لغيرها والله أعلم.
فصل: وأما الصمم والوقر ففي قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} وقوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} وقوله: {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} قال ابن عباس: "في آذانهم صمم عن استماع القرآن وهو عليهم عمى أعمى الله قلوبهم فلا يفقهون أولئك ينادون من مكان بعبد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء" وقال مجاهد: "بعيد من قلوبهم" وقال الفراء: "تقول للرجل الذي لا يفهم كذلك أنت تنادي من مكان بعيد قال: وجاء في التفسير كأنما ينادون من السماء فلا يسمعون" انتهى والمعنى أنهم لا يسمعون ولا يفهمون كما أن من دعى من مكان بعيد لم يسمع ولم يفهم.
فصل: وأما البكم فقال تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} والبكم جمع أبكم وهو الذي لا ينطق والبكم نوعان بكم القلب وبكم اللسان كما أن النطق نطقان نطق القلب ونطق اللسان وأشدهما بكم القلب كما أن عماه وصممه أشد من عمى العين وصمم الأذن فوصفهم سبحانه بأنهم لا يفقهون الحق ولا تنطق به ألسنتهم والعلم يدخل إلى العبد من ثلاثة أبواب من سمعه وبصره وقلبه وقد عليهم سدت هذه الأبواب الثلاثة فسد السمع بالصمم والبصر بالعمى أو القلب بالبكم ونظيره قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا} وقد جمع سبحانه بين الثلاثة في قوله: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ} فإذا أراد سبحانه هداية عبد فتح قلبه وسمعه وبصره وإذا أراد ضلاله أصمه وأعماه وأبكمه وبالله التوفيق.
فصل: وأما الغشاوة فهو غطاء العين كما قال تعالى: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} وهذا الغطاء سري إليها من غطاء القلب فإن ما في القلب يظهر على العين من الخير والشر فالعين مرآة القلب تظهر ما فيه وأنت إذا أبغضت رجلا بغضا شديدا أو أبغضت كلامه ومجالسته تجد على عينك غشاوة عند رؤيته ومخالطته فتلك أثر البغض والإعراض عنه وغلظت على الكفار عقوبة لهم على إعراضهم ونفورهم عن الرسول وجعل الغشاوة عليها يشعر بالإحاطة على ما تحته كالعمامة ولما عشوا عن ذكره الذي أنزله صار ذلك العشاء غشاوة على أعينهم فلا تبصر مواقع الهدى.
فصل: وأما الصد فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} قرأ أهل الكوفة على البناء للمفعول حملا على زين وقرأ الباقون وصد بفتح الصاد ويحتمل وجهين أحدهما: أعرض فيكون لازما والثاني: يكون صد غيره فيكون متعديا والقراءتان كالآيتين لا يتناقضان وأما الشد على القلب ففي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا} فهذا الشد على القلب هو الصد والمنع ولهذا قال ابن عباس: "يريدا منعها" والمعنى قسها وأطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان وهذا مطابق لما في التوراة أن الله سبحانه قال لموسى اذهب إلى فرعون فإني سأقسي قلبه فلا يؤمن حتى تظهر آياتي وعجائبي بمصر وهذا الشد والتقسية من كمال عدل الرب سبحانه في أعدائه جعله عقوبة لهم على كفرهم وإعراضهم كعقوبته لهم بالمصائب ولهذا كان محمودا عليه فهو حسن منه وأقبح شيء منهم فإنه عدل منه وحكمة وهو ظلم منهم وسفه فالقضاء والقدر فعل عادل حكيم غني عليم يضع الخير والشر في أليق المواضع بهما والمقضي المقدر يكون ظلما وجورا وسفها وهو فعل جاهل ظالم سفيه.
فصل: وأما الصرف فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الانقياد والإذعان فأفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى: {أَنَّى يُصْرَفُونَ} و: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسله وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.
فصل: وأما الإغفال فقال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} سئل أبو العباس ثعلب عن قوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا} فقال: جعلناه غافلا قال: ويكون في الكلام أغفلته سميته غافلا ووجدته غافلا" قلت: الغفل الشيء الفارغ والأرض الغفل التي لا علامة بها والكتاب الغفل الذي لا شكل عليه فأغفلناه تركناه غفلا عن الذكر فارغا منه فهو إبقاء له على العدم الأصلي لأنه سبحانه لم يشأ له الذكر فبقي غافلا فالغفلة وصفه والإغفال فعل الله فيه بمشيئته وعدم مشيئته لتذكره فكل منهما مقتض لغفلته فإذا لم يشأ له التذكر لم يتذكر وإذا شاء غفلته امتنع منه الذكر فإن قيل فهل تضاف الغفلة والكفر والإعراض ونحوها إلى عدم مشيئة الرب أضدادها أم إلى مشيئته لوقوعها قيل القرآن قد نطق بهذا وبهذا قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} وقال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً}: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ} فإن قيل فكيف يكون عدم السبب المقتضى موجبا للأثر إن كان وجوديا فلا بد له من مؤثر وجودي وأما العدم فيكفي فيه عدم سببه وموجبه فيبقى على العدم الأصلي فإذا أضيف إليه كان من باب إضافة الشيء إلى دليله فعدم السبب دليل على عدم المسبب وإذا سمي موجبا ومقتضيا بهذا الاعتبار فلا مشاحة في ذلك وأما أن يكون العدم أثرا ومؤثرا فلا وهذا الإغفال ترتب عليه اتّباع هواه وتفريطه في أمره قال مجاهد: "كان أمره فرطا أي ضياعا" وقال قتادة: "أضاع أكبر الضيعة" وقال السدي: "هلاكا" وقال أبو الهيثم: "أمر فرط أي متهاون به مضيع والتفريط تقديم العجز" قال أبو إسحاق: "من قدم العجز في أمر أضاعه وأهلكه" قال الليث: "الفرط الأمر الذي يفرط فيه يقول كل أمر فلان فرط" قال الفراء: "فرطا متروكا يفرط فيما لا ينبغي التفريط فيه واتبع مالا ينبغي اتّباعه وغفل عما لا يحسن الغفلة عنه".
فصل: وأما المرض فقال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} وقال: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} وقال: {وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً} ومرض القلب خروج عن صحته واعتداله فإن صحته أن يكون عارفا بالحق محبا له مؤثرا له على غيره فمرضه إما بالشك فيه وإما بإيثار غيره عليه فمرض المنافقين مرض شك وريب ومرض العصاة مرض غي وشهوة وقد سمى الله سبحانه كلا منهما مرضا قال ابن الأنباري: "أصل المرض في اللغة الفساد" مرض فلان فسد جسمه وتغيرت حاله ومرضت بالمرض تغيرت وفسدت قالت ليلى الأخيلية:
إذا هبط الحجاج أرضا مريضة تبع أقصى دائها فشفاها
وقال آخر:
ألم تر أن الأرض أضحت مريضة فقد الحسين والبلاد اقشعرت
والمرض يدور على أربعة أشياء فساد وضعف ونقصان وظلمة ومنه مرض الرجل في الأمر إذا ضعف فيه ولم يبالغ وعين مريضة النظر أي فاترة ضعيفة وريح مريضة إذا هب هبوبها كما قال:
راحت لأربعك الرياح مريضة
أي لينة ضعيفة حتى لا يعفى أثرها وقال ابن الأعرابي: "أصل المرض النقصان ومنه بدن مريض أي ناقص القوة وقلب مريض ناقص الدين ومرض في حاجتي إذا نقصت حركته وقال الأزهري عن المنذري عن بعض أصحابه: "المرض أظلام الطبيعة واضطرابها بعد صفائها" قال والمرض الظلمة وأنشد:
وليلة مرضت من كل ناحية فما يضيء لها شمس ولا قمر
هذا أصله في اللغة ثم الشك والجهل والحيرة والضلال وإرادة الغي وشهوة الفجور في القلب تعود إلى هذه الأمور الأربعة فيتعاطى العبد أسباب المرض حتى يمرض فيعاقبه الله بزيادة المرض لإيثاره أسبابه وتعاطيه لها.

عَرَبِيّة
10-09-2011, 04:37 AM
كلامٌ نفيس .. أحسنتَ الإنتقاء أحسن الله إليك ورحِمَ ابن القيّم .

هاشمي
10-10-2011, 12:25 AM
كيف نوفق بين كلام الله عز وجل في الايات (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) و (انا هديناه النجدين) وغيرها وبين ايات ختم القلوب وإضلالها؟

أبو يحيى الموحد
10-10-2011, 12:31 AM
كيف نوفق بين كلام الله عز وجل في الايات (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) و (انا هديناه النجدين) وغيرها وبين ايات ختم القلوب وإضلالها؟

وأما الصرف فقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} فأخبر سبحانه عن فعلهم وهو الانصراف وعن فعله فيهم وهو صرف قلوبهم عن القرآن وتدبره لأنهم ليسوا أهلا له فالمحل غير صالح ولا قابل فإن صلاحية المحل بشيئين حسن فهم وحسن قصد وهؤلاء قلوبهم لا تفقه وقصودهم سيئة وقد صرح سبحانه بهذا في قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فأخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به وإن سمعوه سماعا تقوم به عليهم حجته فسماع الفهم الذي سمعه به المؤمنون لم يحصل لهم ثم أخبر سبحانه عن مانع آخر قام بقلوبهم يمنعهم من الإيمان لو أسمعهم هذا السماع الخاص وهو الكبر والتولي والإعراض فالأول مانع من الفهم والثاني مانع من الانقياد والإذعان فأفهام سيئة وقصود ردية وهذه نسخة الضلال وعلم الشقاء كما أن نسخة الهدى وعلم السعادة فهم صحيح وقصد صالح والله المستعان وتأمل قوله سبحانه: {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} كيف جعل هذه الجملة الثانية سواء كانت خبرا أو إعادة عقوبة لانصرافهم فعاقبهم عليه بصرف آخر غير الصرف الأول فإن انصرافهم كان لعدم إرادته سبحانه ومشيئته لإقبالهم لأنه لا صلاحية فيهم ولا قبول فلم ينلهم الإقبال والإذعان فانصرفت قلوبهم بما فيها من الجهل والظلم عن القرآن فجازاهم على ذلك صرفا آخر غير الصرف الأول كما جازاهم على زيغ قلوبهم عن الهدى إزاغة غير الزيغ الأول: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم} وهكذا إذا أعرض العبد عن ربه سبحانه جازاه بأن يعرض عنه فلا يمكنه من الإقبال عليه ولتكن قصة إبليس منك على ذكر تنتفع بها أتم انتفاع فإنه لما عصى ربه تعالى ولم ينقد لأمره وأصر على ذلك عاقبه بأن جعله داعيا إلى كل معصية فعاقبه على معصيته الأولى بأن جعله داعيا إلى كل معصية وفروعها صغيرها وكبيرها وصار هذا الإعراض والكفر منه عقوبة لذلك الإعراض والكفر السابق فمن عقاب السيئة السيئة بعدها كما أن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها فإن قيل فكيف يلتئم إنكاره سبحانه عليهم الانصراف والإعراض عنه وقد قال تعالى: {أَنَّى يُصْرَفُونَ} و: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} وقال: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} فإذا كان هو الذي صرفهم وجعلهم معرضين ومأفوكين فكيف ينفي ذلك عليهم قيل هم دائرون بين عدله وحجته عليهم فمكنهم وفتح لهم الباب ونهج لهم الطريق وهيأ لهم الأسباب فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه ودعاهم على السنة رسله وجعل لهم عقولا تميز بين الخير والشر والنافع والضار وأسباب الردي وأسباب الفلاح وجعل لهم أسماعا وأبصارا فآثروا الهوى على التقوى واستحبوا العمى على الهدى وقالوا معصيتك آثر عندنا من طاعتك والشرك أحب إلينا من توحيدك وعبادة سواك أنفع لنا في دنيانا من عبادتك فأعرضت قلوبهم عن ربهم وخالقهم ومليكهم وانصرفت عن طاعته ومحبته فهذا عدله فيهم وتلك حجته عليهم فهم سدوا على أنفسهم باب الهدى إرادة منهم واختيارا فسده عليهم اضطرارا فخلاهم وما اختاروا لأنفسهم وولاهم ما تولوه ومكنهم فيما ارتضوه وأدخلهم من الباب الذي استبقوا إليه وأغلق عنهم الباب الذي تولوا عنه وهم معرضون فلا أقبح من فعلهم ولا أحسن من فعله ولو شاء لخلقهم على غير هذه الصفة ولأنشأهم على غير هذه النشأة ولكنه سبحانه خالق العلو والسفل والنور والظلمة والنافع والضار والطيب والخبيث والملائكة والشياطين والشاء والذياب ومعطيها آلاتها وصفاتها وقواها وأفعالها ومستعملها فيما خلقت له فبعضها بطباعها وبعضها بإرادتها ومشيئتها وكل ذلك جار على وفق حكمته وهو موجب حمده ومقتضى كماله المقدس وملكه التام ولا نسبة لما علمه الخلق من ذلك إلى ما خفي عليهم بوجه ما إن هو إلا كنقرة عصفور من البحر.