المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حوار مع الشيخ أبي الفداء بن مسعود: فلسفة العلم.



حسام الدين حامد
10-20-2011, 07:52 PM
بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، وصلى الله وسلم على خاتم رسله ومصطفاه، وبعد..


فهذا حوارٌ سيدور بيني وبين الشيخ الفاضل أبي الفداء، عن فلسفة العلم Philosophy of science ، أسأله ويجيبني بما يفتح الله به عليه، والحوار سيكون ثنائيًّا منعًا للتشتيت وحفاظًا على الوقت، ومن يرد من المتابعين الأكارم طرح أسئلةٍ ذات تعلق بالحوار، فليراسلني بها على الخاص تكرمًا منه، وسوف أنتقي منها ما يُناسب موضعه من الحوار، نسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه، وأن يعلمنا ما ينفعنا وينفعنا بما علمنا.

شيخنا الفاضل!

شكر الله لك قبولك هذه الدعوة، وأسأل الله أن يوفقنا لما فيه رضاه.

سؤالي الأول عن معنى فلسفة العلم؟ وما أهمية هذا المبحث للمشتغلين بالرد على الإلحاد وما يتصل به من مذاهب الفكر الغربية المعاصرة؟

جزاكم الله خيرًا، وبارك الله فيكم.

أبو الفداء
10-21-2011, 10:15 PM
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده،
بداية أشكر أخي الحبيب الدكتور حسام الدين على فكرته الطيبة التي أرجو أن يكون فيها نفع لعامة المشتغلين بالرد على الملاحدة في هذا المنتدى المبارك وغيره.
ما من شك في أن الحكمة تقتضي الإتيان على الباطل من جذوره وهدم بنيانه من قواعده، وتلمس السبل إلى ذلك مقدم عند النبهاء والنابغين من العلماء وطلبة العلم على الاشتغال بنقض فروع ذلك الباطل وأذياله، فإن الشجرة إذا ما انقطع جذعها أو استئصلت جذورها، سقطت سائر الفروع والأوراق معها وانتهى أمرها! هذا المنهج الضارب في جذور الباطل، الذي هو أقرب إلى طريقة المرسلين وإلى خطاب القرءان، ما علمت الشيخ حسام وفقه الله إلا داعيا إليه وإلى الأخذ بأسباب التمكن منه، فجزاه الله عن هذا المنتدى خيرا.

وإني أستأذنه قبل أن أشرع معه في هذا الأمر، أن يسمح لي بالترسل والاستطراد حيثما أرى الحاجة إلى ذلك، وأستأذن القراء كذلك أن يسمحوا لي بالإطالة والبسط حيثما وقع ذلك، وأرجو ألا يملّوا من طول المشاركات وأن يصبروا على قراءتها، فمن وجد فيها نفعا فليدعُ الله لي بالمغفرة، ومن رأى في شيء منها خللا فأنا أرحب بنصحه وتوجيهه على الخاص، والله يجزيه عني خيرا.
وليسمح لي شيخنا الدكتور حسام بأن أبدأ بمقدمة معرفية طويلة نوعا ما، أراها مهمة للتمهيد لما نحن بصدد الكلام فيه، والله الموفق للسداد في القول والعمل.

أما بعد،
فإن تحري المنهجية الصحيحة في بناء الحجج العلمية على المخالفين، سواء كانوا من أهل القبلة أو من أهل الملل أو من الملاحدة على اختلاف مشاربهم، واجب متعين على كل من تصدى لهذا الأمر قربة إلى الله جل وعلا. ومما لا شك فيه أن أول العلوم التي يجب على كل من أراد سلوك طريق الدعوة إنما هو العلم الشرعي. فإن من أذمّ الخصال أن ترى أخا من إخواننا المسلمين قد أخذته حمية الدين وحب الله ورسوله وحملته نفسه على التصدي للكتابة والمنافحة عن دين الله جل وعلا، فإذا به يتكلم في الرد على الملاحدة والشيوعيين وأضرابهم بكلام يهدم أصول الدين هدما من حيث لا يدري، أو تراه يخوض في مناقشة شبهة فلسفية من شبهات القوم فينتهي به الأمر إلى موافقة المعتزلة أو الجهمية أو غيرهم من المتكلمين من حيث لا يشعر، أو يخرق إجماعات منعقدة من صدر الإسلام ومن قرونه الأولى وهو لا يعلم، فيكون وبالا على الدعوة وهو يحسب أنه يحسن صنعا. فعلى رأس ما ينبغي لمن أراد التخصص في الرد على الملاحدة من طلبة العلم أن يتوسع في تعلمه وأن يصبر عليه، علم العقيدة والتوحيد، ومعه – ولا أقول من بعده – علم أصول الفقه وعلم المنطق. فإذا ما تحصلت لديه أصول العقيدة الصحيحة، فإنه لا يضيره المرور بما في كثير من مطولات الأصوليين من مخالفات عقدية وانحرافات في التصور منشأها نظريات الجهمية والمعتزلة في علم الكلام بالأساس. فإذا ما استوى عوده في تلك العلوم وشهد له مشايخه بذلك، فإنه ينتقل بعدئذ للنظر في جملة أخرى من العلوم يأتي الكلام بصددها فيما يلي بعون الله تعالى.

وليعلم طالب العلم أن العلوم في ديننا – وكما هو مقتضى الحكمة والعقل السوي - يدور حكمها مع العلة من تحصيلها، فلا نشرع في عمل ما دون تحصيل ما يلزم لذلك العمل من علم ودراية، فما كان من الأعمال واجبا على الفور فالعلم به له نفس حكمه، وما كان واجبا على التراخي فالعلم اللازم له واجب على التراخي كذلك، وما كان من الأعمال واجبا على أعيان المسلمين في اليوم والليلة فتعلمه واجب عليهم من أول دخولهم في سن التكليف، وما كان على الكفاية فعلى الكفاية وهكذا. وما لا يتم العمل الواجب إلا بتعلمه على تمامه، فتمام تعلمه واجب، وما لا يتصور له نفع إلا أن ينبني عليه عمل محرم ممنوع، فتعلمه حرام ممنوع، ومن العلوم والمعارف ما كان تعلمه والاشتغال به عبثا، إما لأنه لا ينبني عليه عمل أصلا أو لأنه شرط لعمل فاسد أو لا قيمة له، نعوذ بالله من ذلك.

والعمل في هذا المقام يطلق ويراد به الفعل والترك، كما يراد به كذلك القول والتوقف والسكوت، ويدخل فيه تلقي الأمور الخبرية الاعتقادية وتطهير النفس مما يخالفها. فلا يقال لعلم غايته المعرفة بأركان الإيمان الستة الواجب تعلمها على أعيان المسلمين، إنه لا ينبني عليه عمل، أو لعلم غايته إصلاح التصور عند الناس في أمر يتعلق بأسماء الله وصفاته، من بعد ما شاعت فيهم شبهة مخالفة لما جاء به الوحي في ذلك، إنه لا ينبني عليه عمل! فإن مفهوم العمل في هذا السياق أشمل وأعم من "العمليات" على الاصطلاح الفقهي كما بينا. وهو كذلك أشمل من وأعم من الأعمال التعبدية المحضة، فتدخل فيه سائر المعاملات وصنوف الأفعال التي يرى الناس فيها مصالح ومنافع لهم في الحياة الدنيا، أيا ما كان نوعها. فإنه ما من شيء من أمر الإنسان في أي حال من أحواله إلا وهو داخل – ولابد – في حكم من أحكام الشرع التكليفية الخمسة، بمعنى أنه لا يتصور للإنسان حال في هذه الدنيا إلا وهو فيها إما على شيء محرم، أو على شيء واجب، أو على شيء مباح أو مستحب أو مكروه، سواء كان ذلك قولا يقوله أو فعلا يفعله أو حالا يكون عليها أو غير ذلك.

هذا الإطار الإبتسمي (1) الكلي الذي أسس له الإسلام على أساس الحكمة الربانية، وجعله سابغا على كل صغيرة وكبيرة من أحوال الإنسان وأفعاله، بات يحتاج في زماننا هذا إلى أن يعتني العلماء وطلبة العلم ببيانه وبإيفائه حقه والتصنيف فيه، لا سيما إذا ما عرفنا أن الإسلام يختلف في تعامله مع المعارف البشرية عما عليه الفلسفات الغربية المعاصرة اختلافا يبدأ من تعريف العلم نفسه! فإذا علمنا في ذات الوقت أن الحضارة الغربية المعاصرة قد تشعبت فيها صنوف العلم وحقول المعرفة البشرية تشعبا واسعا للغاية، بداية من المفاهيم الكلية والعقائد والأخلاق، ووصولا إلى أدق دقائق العلاقات والمعاملات والتكميليات من المصالح الدنيوية وما دونها من ترفيه ولعب وغير ذلك، تأكد لدينا ضخامة ما صار ينبغي للعلماء وطلبة العلم في هذا الزمان أن يتخصصوا فيه من فروع للنظر والدراسة الفقهية والعقدية الدقيقة، حتى يحسنوا إخضاع ذلك الوارد المعرفي الوافر للإطار المعرفي الشرعي، وحتى يتسنى لهم عرضه على مفرزة الكتاب والسنة عرضا مستقيما، ليس بغرض تطهيره من المخالفات الشرعية وحسب (وهو ما صار يعرف في زماننا بأسلمة العلوم المعارف)، وإنما بغرض إصلاح نظرية المعرفة الإنسانية نفسها والقاعدة الفلسفية التي تنبني عليها منطلقات البحث العلمي نفسه فيها بالأساس!

فما أحوج جامعاتنا الإسلامية إلى أن يتفق العلماء والمشايخ الأكاديميون فيها على استحداث فروع علمية جديدة كأقسام وشعب تخصصية تحت علوم الفقه وأصوله وعلوم العقيدة والتوحيد، لا أن يأتي التخصص الدقيق في مرحلة الدراسات العليا كما هو الشائع في كليات الشريعة في بلاد المسلمين! فإن الفرق والنحل الاعتقادية المعاصرة لم تعد مقصورة على تلك التي أفرد فيها علماؤنا – رحمهم الله تعالى – التصانيف المطولة، والبدع الكلية في أبواب الاعتقاد وفي المنهج الفكري والعلمي التي صارت تبث في أذهان العوام ليل نهار من منابر العلمانية (ربيبة الإلحاد) على وجه الخصوص، ومنابر غيرها من النحل والملل المعاصرة على وجه العموم، صارت تحتاج إلى من يتخصص في دراستها بتوسع والتصنيف فيها على المستوى الأكاديمي. وكذلك يقال في أمور المعاملات المعاصرة وفي نظم الإدارة والنظم المؤسسية ولوائحها والعلاقات التي تربط بعضها ببعض من جهة والتي تربط بينها وبين الدولة من جهة أخرى، وكذلك في آداب وأخلاقيات التعامل (أو ما يسمى بكود أخلاقيات المهنة) في إطار جملة كبيرة من الصناعات والمهن المعاصرة التي تتسع فيها دائرة المتغيرات من أحوال وأفعال تحتاج إلى نظر فقهي دقيق.
لذا فإنه ينبغي أن ينتبه علماء الشريعة إلى قيام الداعي إلى زيادة التخصصات الفرعية في علوم العقيدة والفقه في زماننا، وإلى افتقار المكتبة الإسلامية المعاصرة إلى ما نرجو أن يجلبه ذلك الأمر من ثمرة في التصانيف والأبحاث على المدى البعيد، والله المستعان.

هذا النظر ينسحب كذلك على العوام ومأخذهم من تلك المعارف الوافدة وكيفية تعاملهم معها، وليس على المختصين والأكاديميين فحسب! فإننا عندما نرى "المتثقفة" من أرباب الأقلام في بلادنا يبالغون في الدعوة إلى ما يسمى "بالقراءة الحرة" بمعنى القراءة التي لا تنضبط بضابط ولا تنتظم على نظام، فلا يخفى علينا قيام تلك الدعوة عند أصحابها على أصول فلسفية للبنيان المعرفي تخالف ما ينبغي أن تقوم عليه معرفة المسلمين عامة. فإن الإسلام يؤسس البنيان المعرفي عند الإنسان على أساس تكليفي شرعي قد تقدمت الإشارة إليه آنفا، منه ما خوطب به الأعيان ومنه ما كان الخطاب به عاما للأمة فكان على حد الكفاية، ومنه ما كان حقه المنع وما كان حقه الإيجاب، ومنه ما كان حقه التقديم وما كان حقه التأخير. لذا ففي محل ما يقال له "القراءة الحرة" ويدعى إلى الغرق فيه عوام الناس، فإن المسلمين ينبغي أن تكون قراءتهم قراءة راشدة، لا تكون غايتها المطالعة لمجرد التشبع وحسب، هكذا بلا قيد ولا ضابط!
ينزل المرؤ إلى ما يسمى بالمكتبة العامة فتأخذه النهمة وحب الاطلاع فيقرأ كلاما لا يدري عن حال كاتبه شيئا (من جهة أهليته للتصنيف في هذا الموضوع أو ذاك)، ولا يدري هل يلزمه قبل الاطلاع على هذا الكلام الذي بين يديه أن يقرأ شيئا قبله أم لا، وإن كان فما هو وأين يجده وممن يطلبه.. الخ! ترى الرجل يفاخر بأنه قد جمع لنفسه مكتبة عظيمة فيها ستون ألف كتاب، لعله لو قرأ ثلثها لمات على الإلحاد، ولو قرأ الثلث الآخر لمات على الوثنية، ولو قرأ الثلث الرابع لمات منتحرا، ولا حول ولا قوة إلا بالله! والسبب في هذا الضياع وفي تلك اللا-منهجية في القراءة أنه إنما أراد من الأمر كله أن يوسع دائرة اطلاعه، حتى إذا ما تكلم أحد الأقران في مسألة أمامه أيا ما كانت، وجد ما يرد به ويناقش ويبارز، ولم يظهر للناس أنه جاهل فيها! فإذا به يستبدل الجهل المركب بالجهل البسيط من حيث لا يدري! فإذا ما جئته تقول له لا تقرأ هذا الكتاب فإنه لا يناسبك أو قد يكون فيه ما يضلك ويفسد عليك فهمك في هذا الباب، أو إنه قد حذر أهل العلم بالشرع أو حتى بالعلم الدنيوي موضوع الكتاب من هذا الكاتب ومن جهالاته، فعليك تعلم كذا وكذا أولا حتى تأمن على نفسك مما فيه من الغلط ومن أمور تخرق إجماعات أهل العلوم والاختصاص، رأيته يثور في وجهك وينفى أن يكون لك أو لأحد من الناس "الوصاية" عليه أو الحق في توجيهه إلى ما يأتي وما يذر من القراءة والاطلاع!

هذه "العربدة" المعرفية المعاصرة التي أهدرت مكانة العلماء وهتكت أستار العلم نفسه عند العوام، إنما أكدها في بلادنا وفي واقعنا المعاصر ما صار الناس يتشربونه ليل نهار من ترويج لمفاهيم حرية الكلمة وحرية التعبير، وما صارت تمثله وسائل الإعلام من تجسيد دائم الحضور لهذه المفاهيم في حياة الناس اليومية وفي قعر بيت كل واحد منهم، حتى صار حقا لكل إنسان أن يكوِّن لنفسه رأيا في أي شيء وفي كل شيء وأن ينشر ذلك الرأي ويدعو إليه غيره من الناس في أي محفل يحلو له بلا قيد ولا شرط، وبغض النظر عن المصدر الذي جاء منه برأيه ذاك، وعن صحة ذلك الرأي في نفسه وفساده على مقاييس أهل الاختصاص! هذه نظرية معرفية مستوردة تفتقر للقيد والضابط الحاكم لعلم العامة وما يصل إليهم من المعارف وأحكام ذلك، لأنها تفتقر إلى تشريع رباني حكيم يغطي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان في الأرض بالأساس، العامي والعالم والمتخصص على السواء! فعندما يرى الإنسان نفسه حرا في اختيار الغاية من وجوده في هذا العالم على ما يحلو له، فإنه يرى نفسه حرا – بالتبعية – في أن يصنع بنفسه ما يحلو له، فلا حد ولا قيد ولا ضابط عليه فيما يقرأ وما يتعلم وما يكتب وما ينشر وما يدعو إليه غيره، إلا اشتراط إلا يؤذي غيره من الناس ماديا أو حسيا! ولا يتضرر المختصون في قلاعهم الأكاديمية من عبث العابثين الخارجين عن دائرة التخصص، ولا يستاؤون من ذلك، وإنما يهملون ما لا يصح عندهم من دعاوى الناس ولا يعنيهم أن يهلك به صاحبه من الجهال! وقد لا يتضرر الواحد منهم إلا إن قُدم عليه عامي جاهل في مجال من مجالات العمل أو التدريس أو نحو ذلك مما يراه المتخصص حقا قد اكتسبه بجهده وبذله.

والحاصل من هذه المقدمة، أن الأمة الإسلامية باتت تحتاج في هذا الزمان إلى من يتخصص من طلبة العلم وعلماء الشريعة والأصول في دراسة ما يلزم من الفلسفات المعاصرة حتى تخرج للمسلمين مصنفات علمية وافية تسد تلك الثغرة التي صار يتصدر فيها العوام والجهال من الكتاب والمفكرين وغيرهم، يجمع الواحد منهم ما يجمع كحاطب بليل لا يميز في أي شيء يضع يده! كما باتت الحاجة اليوم ماسة إلى تمييز مجالات المعرفة الغربية المعاصرة (على وفرتها وتشعبها) عن بعضها البعض، ومن ثمّ معرفة أولويات النظر وما يحتاج إليه الباحث بعموم، وطالب العلم المشتغل بالرد على الملاحدة بخصوص، من مادة علمية يلزمه الإلمام بها ودراستها لنوال بغيته وتحقيق مأربه، والله الموفق المستعان.

-------------------------
(1) الإبستمي: المعرفي، والابستمولوجيا epistemology هو فرع من فروع الفلسفة يعنى بدراسة المعرفة البشرية، بداية من السؤال عن كنه وحقيقة المعرفة ومعناها، وما يمكن وما لا يمكن التوصل إلى معرفته من القضايا، ووصولا إلى أقسام المعارف البشرية وتشعباتها ومواد البحث والنظر في كل منها، وترتيب تلك الحقول في أصول وفروع والنظر في علاقة الفروع بالأصول وعلاقة الفروع بعضها ببعض.

نور الدين الدمشقي
10-21-2011, 10:40 PM
ماتع بارك الله فيك ونفع بك.

إلى حب الله
10-21-2011, 10:58 PM
اللهم انفعنا بإخواننا وأساتذتنا الأفاضل ..
وبارك الله في أخينا الشيخ أبي الفداء ..
وشكر الله لأخينا د. حسام الدين هذه السنة الحسنة ...
متابع بإذن الله ...

عبدالله الشهري
10-21-2011, 11:05 PM
جزاكما الله خيرا، تسجيل متابعة عن كثب.

عَرَبِيّة
10-22-2011, 02:38 AM
بارك الله فيكم ونفع بكم الإسلام والمسلمين , متابعة بهمّةٍ وإهتمام .

أبو الفداء
10-22-2011, 10:49 AM
بناء على المقدمة السابقة، أقول إن المشتغلين بالرد على الملاحدة يلزمهم من بعد العلم الشرعي توسيع دائرة الاطلاع على جملة من الحقول الفلسفية المعاصرة ترتيبها كالتالي:

Philosophy of Religion فلسفة الأديان
Philosophy of Science فلسفة العلم الطبيعي (لا سيما علم الأحياء)
Philosophy of moralities فلسفة الأخلاق
Epistemology مباحث فلسفة المعرفة المعاصرة
Philosophy of language فلسفة اللغة والتأويل
Philosophy of psychology فلسفة وأصول علم النفس

هذه في تصوري أهم الحقول المعرفية المعاصرة التي يحتاج إلى البحث فيها وإلى كثرة الاطلاع عليها طلبة العلم المشتغلون بالرد على الملاحدة المعاصرين. ولا شك أن المطالعة في مصنفات تلك العلوم والفلسفات تتطلب إلماما جيدا باللغة الانكليزية على وجه الخصوص، فالذي أوصي به كل طالب علم يريد التخصص في الرد على الملاحدة أن يحرص على دراسة اللغة الانكليزية دراسة جيدة وأن يتمرس بها. فمن كان يجد صعوبة في قراءة كتاب من كتب القوم بلسانهم، فيجد نفسه مضطرا إلى فتح القاموس عدة مرات في قراءة الفقرة الواحدة، فإن هذا لم يحقق في نظري النصاب اللازم من تلك اللغة، وعليه الصبر على مزيد من التعلم والممارسة فيها.

ودخولا في موضوع هذا الشريط، نقول إن فلسفة العلوم Philosophy of science تعد في الحقيقة من أهم حقول البحث الفلسفي دخولا في جملة ما يحتاج طالب العلم إلى النظر فيه من فلسفات الغرب المعاصرة للتخصص في دراسة فلسفات الإلحاد في زماننا والرد على الملاحدة، وهي تأتي في نظري في المرتبة الثانية كما أسلفت عرضه، لا سيما وقد أصبح عامة الملاحدة في زماننا من تلك الطائفة المسماة بالملاحدة الجدد New-Atheists الذين يتلقون "دينهم" وتصورهم عن الحياة وأصلها وعن الكون وما ورائه وما قبله وما بعده عن جملة من علماء الطبيعيات! ومع أنه ليس كل الدراونة ملاحدة ولابد، إلا أن جميع الملاحدة المعاصرين داروينيون غلاة لا محالة! والداروينية نحلة لا أرى طريقا أنجع ولا أقوى في هدمها من إثبات شذوذها عن فلسفة العلم الطبيعي الذي تنتسب إليه أولا، من بعد بيان قيامها على أصول عقلية فاسدة في الاستدلال والنظر، لا يوصل منها (إبستميا) إلى معرفة صحيحة بما يريد القوم الوصول إليه!

وكتعريف عام لفلسفة العلوم الطبيعية يمكننا أن نقول إنها ذلك الحقل الفلسفي المعني بدراسة جنس الفرضيات والأسس والوسائل وطرق الاستدلال التي يوصل منها إلى ذلك الصنف من المعرفة المسمى بالعلم الطبيعي (Science. (2 وهو يعنى كذلك بالنظر في مفهوم ما يسمى بالعلم الطبيعي بالأساس، ودائرة وطبيعة وحدود ما يمكن الوصول إلى تحصيله من الحقائق المعرفية في إطار ذلك العلم. ولهذا فإن مباحث فلاسفة العلم الطبيعي كثيرا ما تتداخل مع مباحث فلسفة المعرفة (الإبستمولوجيا) كما سيأتي التثميل له، وتتداخل كذلك مع تلك الحقول الفلسفية الخمسة التي تقدم ذكرها وغيرها من مجالات النظر العقلي، لا سيما أصول علم المنطق وفلسفة الرياضيات. (3)

وكما هو الشأن في جميع مجالات الفلسفة المعاصرة، فإن تعريفات فلسفة العلوم متعددة، ولا شك في أن الصعوبات التي تعتري الاتفاق على تعريف واحد لفلسفة العلم المعاصرة، مرجعها في الحقيقة إلى الصعوبات التي تعتري تعريف الفلسفة نفسها بالأساس. ولكن قد يكون من المفيد أن نذكر في هذا المقام أن من التعريفات التي وضعها الفلاسفة لصنعة الفلسفة نفسها، أنها ذلك الحقل المعرفي المعني بالوصول إلى الجواب عن تلك الأسئلة التي لا يمكن معرفة جوابها من طريق العلم المصطلح عليه بلفظة Science! وبغض النظر عن مدى مطابقة ذلك التعريف لشروط المناطقة في الحد من عدمها، وعن كونه يلجئنا للسؤال عن حقيقة ذلك العلم المذكور وحدوده بما يفتقر إليه التعريف نفسه كما هو واضح، إلا أن غرضي من إيراد هذا التعريف ههنا الإشارة إلى أن الفلاسفة كانوا ولا يزالون يرسمون خطا إبستميا يفصل بين جنس الأسئلة التي يمكن للعلم "الطبيعي" (أو ذاك العلم المسمى Science أيا كان) أن يكون طريقا لمعرفة جوابها، وجنس الأسئلة التي لا يمكن له أن يوصل الباحث إلى جوابها، فيشتغل بها الفلاسفة من دون هؤلاء. لولا وجود هذا الخط المعرفي ما انفصل العلم الطبيعي عن الفلسفة كصنعتين مستقلتين لكل منهما مختصون يشتغلون بها!

فالتعريف الذي نختاره ههنا لهذا المجال الفلسفي هو ذلك الذي يعد من مباحث فلسفة العلوم الطبيعية، بل من أهمها على الإطلاق، دراسة حدود العلم الطبيعي وتمييز ما يصح وما لا يصح بالعقل أن يُتطلع إلى معرفته من طريق تلك الصنعة المعرفية القائمة على الحس والمشاهدة والتجريب. هذا التعريف (على بديهيته في الحقيقة كما سنبين) إنما هو أكثر التعريفات حظا من النزاع بين الفلاسفة وعلماء الطبيعيات! (Rosenberg 2005)
والسبب في هذا النزاع فيما يبدو لي، إنما هو كراهية علماء الطبيعيات من الملاحدة الجدد على وجه التحديد لأن يأتي من خارج دائرة اختصاصهم من يقول لهم: "ليس لكم البحث أو وضع الفرضيات والنظريات في هذه المسألة أو تلك"! وما ذلك إلا لأنهم قد اختاروا لأنفسهم والتزموا بألا يقبلوا من العقائد في الموارائيات والغيبيات إلا ما زعم بعضهم أن العلم الحديث يمكن أن يكون طريقا لمعرفته، بناء على التصور المادي الإلحادي الذي تخدمه – فيما يعتقدون - نظرياتهم عن أصل الكون ونشأة ومصير الحياة على وجه الأرض. فبطبيعة الحال فإذا جاء هؤلاء من يقول لهم: ليس لكم أن تزعموا أن العلم الطبيعي يصلح أن يكون طريقا لتحصيل هذا التصور الماورائي أو ذاك، فإنه يكون عندهم بمثابة الطاعن على عقائدهم المشكك في أصول دينهم، مهما جاءهم من الأدلة العقلية والبراهين المنطقية بما لا يدع مجالا للجدال أصلا! ومع أن من الملاحدة المعاصرين من لا يرى بأسا في التفريق بين دائرتين كليتين للمعرفة لا تتقاطعان، يتحرك العلم الطبيعي في إحداهما دون الأخرى، في إطار ما يسميه ستيفن جاي غولد Non-overlapping magisteria أو NOMA على سبيل الاختصار (4)، إلا أن غلاة الداروينية والإلحاد الجديد أمثال دوكينز وهاريس وغيرهما (بل وحتى غولد نفسه) لا يقبلون فكرة ضرب القيود والحدود المعرفية على العلم الطبيعي، وادعاء أنه لا يمكن الوصول منه إلى جواب جنس واحد على الأقل من أجناس الأسئلة البشرية!

فإذا ما طُرح السؤال المشروع الذي يقوم عليه تعريف أي صنعة من صناعات العلم ولابد: "ما هو جنس المباحث التي يمكن لهذا العلم بهذه الأدوات والوسائل البحثية أن يدرسها وما هو صنف الأسئلة التي يمكن أو لا يمكن أن يجيبها، ولماذا؟"، رأيت علماء الطبيعيات من الملاحدة يتحولون إلى فلاسفة يتكلم أكثرهم بمغالطات عقلية وفلسفية فادحة، مع أنهم يصرون على أن الفلسفة – كصناعة معرفية - ليس لها مدخل إلى أصول صناعتهم، وعلى أن العلم الطبيعي نفسه يكفي للإجابة عن كل سؤال!

أقول إن العلاقة بين فلسفة العلم الطبيعي والعلم الطبيعي، كالعلاقة بين أصول الفقه وعلم الفقه، من حيث كون العلم الأول مختصا بدراسة طرائق البحث والاستدلال، وكذا جنس المباحث والمسائل والغايات والوسائل والشروط والضوابط التي ينضبط بها العلم الثاني. وعلى الرغم من أن الفقيه عندنا لا غنية له عن تعلم أصول الفقه، حتى قال العلماء إن من لم يتعلم أصول الفقه ويتقنها فهو عامي، إلا أننا نجد عامة علماء الطبيعيات المعاصرين في الحقيقة شديدي الجهل بأكثر مباحث تلك الفلسفة! ففيما خلا ما يتعلق بوسائل البحث والتجريب التي لا يكون العالم الطبيعي عالما حتى يتقنها، لا نجد لهم عناية بهذا المجال البتة! يقول الفيزيائي ريتشارد فينمان (R. Feynman (5 ساخرا من مجال فلسفة العلم الطبيعي: "إن مَثل انتفاع عالم الطبيعة من فلسفة العلم الطبيعي كمثل انتفاع الطيور من علم الطيور"! فكأنما لا يرى الرجل في مباحث تلك الفلسفة إلا أنها محاولة من بعض الفلاسفة لمتابعة ما يصنعه العلماء بالوصف والاستقراء والتقسيم، كما يصنع علماء الطيور بمتابعة الطيور ودراستها، فلا تفيد مباحث تلك الفلسفة أولئك العلماء إلا كما تفيد أبحاث علم الطيور تلك الطيور نفسها! ومع أن هذا الوصف قد يصح إطلاقه على كثير من مباحث أولئك الفلاسفة بالفعل، إلا أن فلسفة العلم الطبيعي ليست في الحقيقة فلسفة وصفية، وليس غرضها مقصورا على وصف ما يصنعه العلماء في معاملهم! ولا يحتاج فينمان أو غيره إلى أكثر من النظر في مصنفات القوم حتى يرى ذلك بنفسه!

إن السؤال: "ما نوع الأسئلة التي لا يمكن للعلم الطبيعي أن يصل إلى إجابتها؟" من بعد السؤال: "هل يوجد من الأسئلة ما لا يمكن للعلم الطبيعي أن يكون طريقا إلى إيجابته؟"، لا يماري في خروجهما عن دائرة العلم الطبيعي نفسه إلا مكابر. وهو سؤال لا يقبل العقل فصله عن تعريف العلم نفسه الذي لا يتقرر إلا بتعريف مادته وموضوعاته ومباحثه! فإذا كانت مسألة حدود العلم الطبيعي (على سبيل المثال) ومعرفة ما لا يمكن – في العقل – أن يوصل إلى معرفته وتصوره من طريق العلم الطبيعي، ليست مما يُتصور إمكان بحثه في دائرة العلم الطبيعي نفسه، فأيما حقل من حقول المعرفة البشرية جاز أن تبحث فيه تلك المسألة فهو – بالضرورة الإبستمية المحضة – حاكم على حقل العلم الطبيعي ولابد، ضابط لحدوده، مقيد لمباحثه ولو كره من كره وسخر من سخر!

فإذا انقتلنا معاشر طلبة العلم إلى السؤال التالي: في أي شيء تفيدنا هذه المباحث؟

فنقول إنه مما لا يخفى على العامة فضلا عن الخواص من طلبة العلم المشتغلين بدراسة فلسفات الإلحاد المعاصرة والرد على الملاحدة، كيف أغرق ملاحدة هذا الزمان في التعلق بأهداب جملة من النظريات في العلم الطبيعي يرونها داعمة لعقيدتهم في الغيبيات ولتصورهم المادي لهذا العالم! هذه النظريات منها ما هو باطل في أصله الفلسفي، فتأتي حاجة الباحث الشرعي من ثمّ إلى النظر في تلك الأصول الفلسفية لتحرير وجه ذلك البطلان بحجج عقلية محكمة. ولا يخلو الباحث في ذلك من الحاجة إلى الاطلاع على مباحث فلسفة العلم الطبيعي لمعرفة مدى موافقة أصول النظرية لما هو معتبر (عقليا) كطريق للاستدلال وبناء التصور النظري وإنشاء الفرضيات العلمية واختبارها في إطار ما يسمى بالطريقة العلمية الطبيعية Scientific method. ومن تلك النظريات ما قد يكون مقبولا بالجملة ولكن يريد الماديون اتخاذه مدخلا للقفز إلى تصورات ماورائية إلحادية بدعوى أن قبول تلك النظريات يستلزم قبول تلك التصورات الماورائية ويفضي إليه لا محالة! فيحتاج الباحث في ذلك إلى تحقيق النظر العقلي والفلسفي في وجه ذلك اللزوم المزعوم، وهو ما يمكن عده من مباحث فلسفة العلوم.

إن بيان انقطاع نظرية ما من النظريات المنتسبة إلى علم من العلوم أو مذهب من المذاهب الفكرية التي ينسبها أصحابها (في مجموع أدلتها وحججها) إلى صنعة من صناعات العلم، عن أصول تلك الصنعة نفسها في استخراج الدلالة من الأدلة وبيان شذوذ تلك النظرية أو ذلك المذهب عن جنس ما تصلح أدوات ذلك العلم لبحثه ودراسته من المسائل = يعد طريقا بالغ القوة في تجفيف منابع تلك النظرية أو ذلك المذهب، من خلال نزعها من السياق المعرفي الذي تكتسي بكسوته زورا وبهتانا للتلبيس على السذج والجهلاء، ثم رميها في ساحة المختصين الذين تسمح أدواتهم المعرفية ببحث المسألة موضوع تلك النظرية بحثا عليما مستقيما. فإذا ما ثبت لكثير من الجهال والسفهاء بطلان تلك الكلمة العنترية التي يتقعر بها الملاحدة الجدد في كل مناسبة من قولهم "إن العلم الحديث أثبت كذا وكذا (أي من معتقادتهم الباطلة)!" وتبين شدة فقر هؤلاء القوم في العلوم العقلية والفلسفية، انفض من حولهم خلق كثير ممن فتنوا ببهرج ودعاية العلم الطبيعي الكاذب Pseudoscientific propaganda التي صارت طريقهم المضمون للترويج لسائر ما يعتقدونه من أمر الغيب المطلق الزماني والمكاني والغاية من الوجود في هذا العالم وغير ذلك من الأسئلة الفلسفية الكبرى!
فعلى سبيل المثال عندما يأتينا من يتكلم في الفيزياء بكلام له تعلق بالغيبيات المطلقة عندنا، فإنه يلزمنا قبل الدخول في دراسة ذلك الكلام على طرائق الفيزيائيين ومحاكمته إلى أصول ذلك العلم وأدواته المعرفية (وهو ما يبحث في إطار فلسفة العلوم الطبيعية)، أن ننظر أولا في قضية فلسفية كلية تتعلق بالمنطق الإبستمي نفسه الذي اتبعه الفيزيائي صاحب الدعوى المبحوثة للوصول إلى مزاعم بشأن الغيب المطلق (أو الماورائيات)! فالسؤال المطروح يكون كالتالي: هل للفيزيائي أن يفترض زعما كهذا بشأن الغيب المطلق، ويسعى إلى إثباته باستعمال الطرق والوسائل التي يستعملها الفيزيائيون؟ أو بعبارة أخرى هل هذا الجنس من المزاعم الماورائية (بعموم) (أ) يمكن أن يوصل إليه – من حيث الأصل العقلي – من طريق ذلك الصنف من الأدوات والفرضيات التي يشتغل بها الفيزيائيون في مباحثهم (بعموم) (ب)؟ فإذا ما أثبتنا من طريق العقل (بالاستدلال الفلسفي) أن القضية الكلية (أ) لا يمكن الوصول إليها من طريق القضية الكلية (ب)، فقد هدمنا دعوى ذلك الفيزيائي وجميع ما يناظرها من دعاوى للفيزيائيين بشأن الماورائيات ونزعناها من جذورها نزعا، دون الحاجة إلى استقراء تلك الدعاوى والوقوف عليها جميعا، ودون الحاجة إلى الخوض فيما أفاض فيه أصحابها من تجارب ورياضيات دقيقة! فإننا إن قلنا إن هذا الجنس من الوسائل لا يوصل منه إلى إثبات هذا الصنف من الفرضيات، فقد أبطلنا هذا الجنس من الدعاوى بإطلاق!

ولا شك أن نقض الأصل الفلسفي الذي تقوم عليه الفرضية الباطلة، هو أمضى وأبلغ في الرد، وأوفر للجهد والوقت، وأرجى لقيام الحجة، من الإغراق في نقد أعيان "الأدلة" التجريبية التي يستند إليها أصحاب النظرية في المحاججة لنظريتهم، كما يكون من بعض الإخوة عندما نراهم يُغرقون في الرد على دعوى أحد علماء الأحياء أن الزائدة الدودية – مثلا – تعد من الأدلة على أن الإنسان قد ارتقى، لأنها لا عمل لها، فتراهم يبحثون عن أدلة على أن لها وظيفة ما (وسيجدوا ذلك في بعض نظريات القوم لا محالة)، مع أنهم لو عملوا على إثبات بطلان الدعوى الإبستمية الأولية أن ما لا نعلم له اليوم وظيفة في النظام البيولوجي فهو بالتبعية لا وظيفة له، وبطلان الدعوى الفلسفية بأن طرائق العلم الطبيعي تجيز لعالم الأحياء أن يدعي هذا الادعاء ثم يجعله دليلا على أن الإنسان لم يخلق وإنما نشأ بالارتقاء، لكان ذلك أحكم وأصوب وأمضى في هدم الباطل! وأهم من ذلك أن يسلم طالب العلم من التلبس بما تلبس به النصارى من قبل من الاستدراج إلى تحويل الحقائق القطعية إلى نظريات تقبل الأخذ والرد، ومن تسويغ ذلك المسلك (فلسفيا) في دراسة المسألة محل النظر وإظهار قبوله والإقرار به والاعتبار بما يستعمله الخصم فيه من أجناس الأدلة، حتى صارت حقيقة الخلق التي لا ينبغي أن يماري فيها عاقل = نظرية من النظريات العلمية التي يتمسك الطبيعيون بإخراجها من دائرة العلم الطبيعي (وصدقوا في ذلك)!

ومن المباحث التي يمكن عدها من قبيل التداخل بين علم أصول الفقه وفلسفة العلوم الطبيعية، إثبات تقدم النص الشرعي الصحيح – بموجب قوته الدلالية – على كل ما يخالفه مما يفترضه الطبيعيون في مجموع نظرياتهم. ومادة هذا المبحث بيان أنه إن جاءتنا نظرية من نظريات الطبيعيات وكان لدينا ما يبطلها من النص الشرعي ويخالفها صراحة فإنه ينحسم به الأمر من خلال قضية معرفية كلية يعبَّر عنها بالسؤال: أي الصنفين من الأدلة أقوى وأرجى لتحقيق العلم المطابق للواقع في تلك المسألة، الخبر الغيبي الصريح من نصوص الوحي، أم التنظير الطبيعي المستند إلى النموذج التراكمي في جمع القرائن Forensic للترجيح؟ أو بعبارة أخرى، إن جاءنا من نصوص الوحي ما يخالف نظرية من نظريات العلم الطبيعي لها ما لها من أكوام "الأدلة" التي يستعملها (نوعا) علماء الطبيعة ويقبلون بها في الوصول إلى الترجيح الظني بين الفرضيات النظرية التفسيرية عندهم، فأيهما نقدم، النص أم النظرية؟

هنا ينطلق بعض فلاسفة الإلحاد بزعمهم أن أتباع الأديان – بهذا الإطلاق - يتبعون النص بلا دليل، لينقضوا به النظريات العلمية المعاصرة مهما كانت ثابتة (بهذا الإطلاق أيضا)! والواقع أن هذا إن صح أن ينطبق على النصارى المعاصرين فإننا معاشر المسلمين برءاء منه والله الحمد. فإن النص يمكن تعريفه على أنه كل محتوى معرفي يُنسب بلفظه وعبارته إلى الإله الخالق أو إلى رسول من رسله. فعند هذا القدر يشترك معنا سائر أهل الملل في تعريف النص، ولكننا معاشر المسلمين نزيد بعلو كعبنا العلمي في كليتين يفتقر إليهما عامة أهل الملل، ألا وهما الطريق العلمي لإثبات صحة نسبة النص إلى قائله (أ)، والطريق العلمي لإثبات صحة نبوة ذلك القائل بالأساس (ب). فليس النص الذي نعده نحن دليلا تتحصل منه المعرفة والعلم المطابق للواقع، كالنص عند غيرنا من أصحاب الملل! فما كان صحيحا من النصوص عندنا على درجة القطع، فإنه يفضي إلى علم قطعي لا يرقى لمعارضته شيء من نظريات الطبيعيين مهما تراكمت أدلته التراكمية عندهم! وكذلك يقال فيما كان ثبوته ظنيا صحيحا من خبر العدل الضابط عن مثله إلى منتهاه، مع كونه أقل قوة من النص قطعي الثبوت ويفضي إلى علم ظني، ولكنه ظن مقدم على ما يخالفه من ظنيات الطبيعيين، والاستدلال لهذا الأمر وبسط الكلام فيه ليس ههنا محله.
والقصد أن هذه الموازنة بين مراتب الأدلة التي بها حررنا جوابا فلسفيا كليا نقطع به دابر من يزعم أن نصوصنا (بهذا الإطلاق) لا تكفينا لبناء التصور المعرفي الصحيح، أو أننا إنما نقدمها على "نظريات العلم الحديث" من باب التعلق بالإيمان الأعمى ونبذ الدليل العلمي والعقلي في ذلك، قد جرينا فيها على أصول كلية تشترك فيها فلسفات المعارف الإنسانية جميعا في الحقيقة، وتوافقها أصول الفقه والنظر والموازنة بين الأدلة عندنا معاشر المسلمين، ولا يماري فيها إلا مكابر مماحك، والحمد لله رب العالمين.

---------------------------
(1) الإبستمي: المعرفي، والابستمولوجيا epistemology هو فرع من فروع الفلسفة يعنى بدراسة المعرفة البشرية، بداية من السؤال عن كنه وحقيقة المعرفة ومعناها، وما يمكن وما لا يمكن التوصل إلى معرفته من القضايا، ووصولا إلى أقسام المعارف البشرية وتشعباتها ومواد البحث والنظر في كل منها، وترتيب تلك الحقول في أصول وفروع والنظر في علاقة الفروع بالأصول وعلاقة الفروع بعضا ببعض.
(2) على الرغم من أن المعنى اللاتيني لكلمة science هو scienta أو "المعرفة"، أو "العلم بالكون وما فيه" كما ورد في قاموس "ميريام-ويبستر"، إلا أن الترجمة المعاصرة الأصوب لهذه الكلمة في نظري إنما هي العلم المادي أو الحسي (لا سيما الطبيعي)، تمييزا له عن المعارف العقلية التجريدية والمعارف التاريخية والدينية. هذه الترجمة هي الأوفق للاستعمال الشائع لهذه الكلمة في زماننا. فبداية من القرن التاسع عشر، وعلى أثر أفكار فرانسيس بيكون وغيره، انفصلت الفلسفة الطبيعية عن عموم الممارسة الفلسفية، وأصبحت كلمة "علم" يغلب على إطلاقها إرادة العلم الطبيعي دون غيره من العلوم. والناظر في عامة أصول فلسفة العلم المسمى بهذا الاسم science يتبين له بجلاء أن المراد هو العلم المعني بدراسة الظواهر المادية في الكون، وتتبعها بمن طرق المشاهدة والحس والتجريب والإحصاء، لا سيما العلوم الطبيعية. فلا أجد غضاضة في القول بأن هذه الكلمة متى ما جاءت مفردة غير مضافة – لا سيما في أدبيات الملاحدة - فإنما يراد بها العلم الطبيعي دون غيره من العلوم.
(3) وعلى أي حال فإن مسألة تداخل المعارف Interdiscipliarity قد صارت سمة غالبة على سائر المعارف البشرية في هذا الزمان، لا سيما في العلوم الإنسانية والفلسفية، فينبغي أن يكون طالب العلم المختص بدراسة فلسفات الإلحاد على استعداد في كل ساعة لاستفتاح النظر في حقل علمي جديد لم يسبق له من قبل النظر فيه، وهذا له ترتيبه الذي أتوقع أن يأتي الكلام عليه لاحقا إن شاء الله تعالى.
(4) أطلق عالم الأحياء الأمريكي "ستيفن جاي غولد" هذه العبارة في أول ظهورها في مقال له بنفس الاسم نشر في مجلة Natural History في سنة 1997، لبيان موقفه من النزاع الفكري المصطنع بين العلم الطبيعي (كحقل من حقول المعرفة) والدين (كحقل آخر من حقول المعرفة). فهو يقول في تفريقه بين دائرة العلم الطبيعي ودائرة الدين: "تغطي دائرة المعرفة العلمية (الطبيعية) الحيز الإمبريقي (الحسي أو القائم على التجريب): أي جميع ما يتعلق بما يتركب منه الكون (كحقائق)، ولماذا يعمل على هذا النحو (كنظريات تفسيرية). أما دائرة المعرفة الدينية فتغطي تلك الأسئلة المتعلقة بالمعاني المطلقة والقيم الأخلاقية. هاتان الدائرتان لا تتقاطعان، ولا تغطيان سائر المطالب المعرفية للإنسان (إذا ما اعتبرنا على سبيل المثال دائرة الفن ومعنى الجمال)" اهـ.
(Gould 2002, pp. 6)
ولا شك في أن تعريف غولد للدين ودائرته المعرفية قاصر للغاية، أو إن شئت فقل: مفتوح لما لا حصر له من التأويلات! ولا شك كذلك في أن ما كان يرمي إليه – كملحد – ليس الوصول إلى وضع قيود معرفية (سواء من الدين أو من الفلسفة أو غير ذلك من دوائر المعرفة البشرية) على تطلعات البحث العلمي الطبيعي، كما قد يتصور بعض الناس! وإنما أراد الرجل أن يقول لرجال الدين في أمريكا: لا تزعجونا معاشر "العلماء" بما لا دخل "للدين" فيه أصلا من قبول أو رفض هذه النظرية أو تلك من نظريات العلم الطبيعي، ونحن في المقابل لن نتعرض لما تتخصصون فيه من القضايا المعرفية!
(5) المصدر: http://www.diracdelta.co.uk/science/source/q/u/quotes/source.html
----------------------------
المراجع:
Gould, S. J. (2002). Rocks of Ages: Science and Religion in the Fullness of Life. New York: Ballantine Books.
Rosenberg, A. (2005): Philosophy of Science: a contemporary introduction, Second Edition, UK: Routledge.

مستفيد..
10-22-2011, 05:56 PM
بارك الله فيكم ونفع بكم..بادرة طيبة نسأل الله أن تدوم..

ontology
10-23-2011, 12:33 AM
احسن الله اليكم أساتذتي على هذه المبادرة القيمة..

د. هشام عزمي
11-08-2011, 01:09 AM
ليتك تكمل يا شيخنا ..

ابن عبد البر الصغير
11-09-2011, 08:14 PM
سطور الشيخ أبي الفداء ماتعة، خاصة مع كوب شاي أو قهوة يساعد على التركيز ويضمن التنسيم، فتكتمل بذلك أركان روضة الفكر.

أما "فلسفة العلم" فموضوع مهم، أدخر له بعض الإضافات بعدما ينقضي هذا الحوار الماتع إن شاء الله.

حسام الدين حامد
11-11-2011, 04:46 PM
بارك الله فيكم شيخنا الفاضل..

نِعمَ ما قدّمتم به! تحذيرًا إلى ومِن هذا الذي لا يصبر على العلم وطلبه، ثم يبادر إلى الرد على المخالفين، متكئًا على ما يُسعفه به عقله، مختصرًا منهجه في "تفكير اللحظة"، وإشارةً إلى مسألةٍ لا يستشعرها إلا من جرّب الأمرين، فصحبَ سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعالج أمر الجاهلية، كما ورد مفهومه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حتى يفطن إلى أنّ ما يتوهمه الناس من مواطن الاتفاق بين الإسلام وغيره من المذاهب الإنسانية، غالبًا ما يكون في حقيقته من مواطن الاختلاف لاختلاف الأصول، وقد تنبه لذلك ونبّه عليه كثيرٌ من المهتمين بدراسة الحضارات والعلاقة بينها، فيرى هنتجتون Huntington أن الدعوة لعولمة حقوق الإنسان لابد أن تبوء بالفشل، وأنّها لن تنجح إلا بربطها بالقيم الغربية، وكذلك فكنتشر Wolfgang Fikentscher إذ يقول إن العلمانيين الذين يدعون إلى الإصلاح "على الطريقة الغربية" في دول العالم الثالث هم في حقيقة الأمر يواصلون العمل التبشيري للكنيسة من حيث لا يشعرون!

وتنكشف حقيقة زيف هذا الاتفاق الموهوم في المجال الاجتماعي، بسهولةٍ ويسرٍ نوعًا ما عن طريق بعض التنبيه وضرب الأمثلة، لكن الذي يثقل على النفوس فعلًا، أن تتصور مثل هذا الاتفاق الزائف في مجال العلم كذلك، بما يستدعي إصلاح النظرية المعرفية الواردة ككل، قبل المبادرة إلى التسليم بمنتجاتها والسعي لأسلمتها، وهذا الثقل يعود لما استقر في النفوس من كون الحقل العلمي لا يؤسس إلا على مقدماتٍ مبرهنةٍ أو مسلمة، ولا تدخله اختلافاتٌ فلسفيةٌ فضلًا عن أهواءٍ نفسية، مع هزيمةٍ نفسيةٍ باستشعار الدونية في المجال العلمي عمومًا، ولعلنا في حوارنا هذا -مع تتابع الإجابات- نرفع هذا الجاثوم المثقِل بما يلزم من البيان والتمثيل، أعانكم الله وكتب لكم التسديد والتوفيق.

وبعد أن أخذت النفوس الطيبة من القراء الكرام، حظها من الدوافع التي نستحضرها عند دراسة فلسفة العلوم، كي تتأهل للتدافع مع الإلحاد وما شابهه من مذهب أو تفرع منه، وبعد أن تبين معنى فلسفة العلوم والمباحث التي تتعلق بها، والعلاقة بين فلسفة العلوم والعلوم، ليكن السؤال الثاني عن سر الاختلاف في التعريف، وموطن من مواطن النزاع بين المتكلمين، وموضعٍ يكثُر فيها الكلام بغير برهان، ويُتخذ وليجةً إلى بث الشبهات بين ضعفاء العلم..


ما هي حدود الدائرة التي يبحث فيها العلم science؟ وهل من حجةٍ لأولئك الذين يجعلونها دائرةً بلا حدود؟ وكيف يكون الرد عليهم والتدليل على الصواب؟

أبو الفداء
11-12-2011, 08:09 PM
شكر الله لكم متابعتكم أيها الإخوة الكرام، وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال.

كما أشار دكتورنا الفاضل د. حسام وفقه الله، فلا شك أن مسألة تعيين حدود العلم الطبيعي، من بعد تقرير محدوديته بالأساس، تعد مسألة خطيرة للغاية، وقد باتت الحاجة ماسة إلى غزوها بأقلام المختصين في العقيدة والفلسفة من الباحثين المسلمين لوضع الأمر في نصابه الصحيح، لا سيما بعدما رأينا قيام عدة مذاهب فكرية معاصرة عند الغربيين (بل إن شئت فقل ملل ونحل كاملة) على جملة من العقائد من بينها اعتقاد كفاية العلم الطبيعي في بناء كل معرفة ذات قيمة معتبرة في حياة الإنسان، أو اعتقاد أن العلم الطبيعي هو غاية العمل الفلسفي ومنتهاه، كما يرى راسل وكثير من الفلاسفة المعاصرين، أو اعتقاد أن العلم الطبيعي لا ينبغي أن يقام فيه وزن لشيء جاء من غير طريق المشاهدة والتجريب أصلا (كما يرى الفلاسفة الوضعيون التنويريون أمثال لابلاس وأوغست كومت وغيرهما)، هذه المواقف وما شابهها يمكن أن يقال إن الوصف الجامع الذي تتفق عليه جميعا هو أنها ترى في العلم الطبيعي بديلا مشروعا وكافيا لتقديم الإجابة لكافة الأسئلة الكبرى التي طالما اختص الدين (كحقل معرفي) والفلسفة، بتقديم الجواب عنها. وكما تقدم فإن البحث في الحجج العقلية اللازمة لدحض هذا المزعم، تدخل في إطار فلسفة العلم الطبيعي أو إبستمولوجيا العلم الطبيعي scientific epistemology.
ومع أن كثيرا من كبار الفلاسفة الذين تطرقوا إلى تلك المباحث أمثال هيوم، وكون ولاكاتوس وبوبر وغيرهم قد كانت لهم اعتراضات قوية ضد مبدإ السيادة المعرفية المطلقة للعلم الطبيعي في الفكر الغربي المعاصر، إلا أن أغلب المنطلقات الفكرية لكل لهؤلاء الفلاسفة لا يمكن التسليم بها، وإنما يؤخذ من أقوالهم ما وافق الحق، مع ضرورة أن يتنبه الباحث غاية التنبه إلى لوازم كل قول ينقله عنهم في الانتصار لما يريد تقريره، وإلى مرادات كل واحد منهم بمصطلحاته وعباراته، لا سيما وقد ذكرنا آنفا أن الاختلاف الفكري بين البنيان المعرفي الإسلامي ونظرية المعرفة الغربية المعاصرة يضرب إلى العمق، إلى تعريف العلم نفسه كما أسلفنا.

وعليه، فمن المناسب أن تكون البداية أن نتأمل في هذه المسألة: تعريف العلم وحدوده، وتحته تعريف العلم الطبيعي وتقرير حدوده، وتحرير ما يلزم تحريره من الأدلة الفلسفية لإثبات ما نذهب إليه معاشر المسلمين في ذلك.

مبحث في مسألة حدود العلم الطبيعي.

يقول الفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس Charles S. Pierce (ت: 1914 الميلادية):

من كان يمكنه أن يتصور، من بضع سنوات خلت، أننا سيأتي علينا يوم نتمكن فيه من معرفة المواد التي تتكون منها نجوم ربما استغرق وصول ضوئها إلى الأرض زمانا أطول من عمر الإنسان نفسه على الأرض؟ من ذا الذي يمكنه أن يكون أكيدا من مقدار ما يمكننا معرفته في بضع مئات من السنوات؟ ومن ذا الذي يمكنه أن يخمن ما ستكون عليه نتيجة استمرارنا في مطاردة المطالب العلمية الطبيعية لعشرة آلاف سنة في المستقبل، بنفس هذا النشاط الذي رأيناه في المئة سنة الماضية؟ ولو أن العالم بقي لمليون سنة أخرى، أو بليون سنة، أو لأي عدد من السنوات يحلو لك تصوره، فكيف لنا أن نقول إن ثمة أسئلة لن يكون من الممكن الوصول إلى معرفة جوابها (يعني من طريق العلم الطبيعي) يوما ما؟
(Wiener (Ed.) 1958, pp. 134)

هذا التساؤل الذي يطرحه "بيرس" من باب الاستفهام الخبري، يكشف عن خلل عميق في تصور حدود صنعة العلم الطبيعي من الناحية المعرفية، بل إنه يُسقط عنها سائر الحدود جملة واحدة! وما أشبه هذا الكلام بقول منظري الإلحاد الجديد ما معناه أنه كلما امتد عمر الأرض في الزمان الماضي السحيق إلى ما هو أبعد وأبعد، زادت احتمالية أن يقع كل شيء يعسر علينا تصور وقوعه، بمحض الصدفة أو تراكم الصدف الكثيرة! فلعله من المفيد أن نقارن بين هذين القولين في مقدمة هذا المبحث. ذلك أن مكمن الخلل الفلسفي في كلا القولين واحد في الحقيقة. وهو أنهما يفترضان في ضوء المنطق الاحتمالي المجرد، فراغا إحصائيا ضخما بما فيه الكفاية ليستوعب وقوع أحداث محالة الوقوع، وكأن وجه كونها محالة إنما هو ضعف الاحتمالية الترجيحية لوقوعها وليس الامتناع العقلي!

إن قول الدراونة بإمكان قيام نظام معقد من مجموع الصدف التراكمية على امتداد الزمان، يعد مثالا جليا لتطبيق أدوات العلم الطبيعي حيث لا يصح تطبيقها. ذلك أن وقوع هذا "التراكم" للحوادث في إطار منفك عن النظام الموجه وعن إرادة وتوجيه كيان فاعل منظِّم يصح أن يكون تعليلا له، يناقض ضرورة عقلية يفرضها معنى "النظام" ومعنى "التراكم" نفسه، فلا مدخل لتطبيق المنطق الاحتمالي Probabilistic Logic في تلك المسألة. فمن حيث الأصل، لو كنا نتكلم عن أحداث تقع في إطار النظام الطبيعي (أو أي نظام مادي مغلق: ن) بصورة تكرارية، ولكنها قليلة الوقوع للغاية وشديدة الندرة، فمن المعقول – في إطار تطبيقات المنطق الاحتمالي – أن نقول إننا إن تكلمنا عن فرصة أو احتمالية وقوع ذلك الحدث النادر في النظام (ن) خلال فترة يوم أو يومين، فإنها ستكون أقل بكثير من فرصة وقوعه خلال فترة من مئة إلى مئتي سنة مثلا! وكلما طالت الفترة الزمنية، زادت قوة الاحتمالية بطبيعة الحال. هذا متصور ومعقول في صنف من الأحداث التي تظهر بغير علم واف منا بشروط ظهورها، مع علمنا بأنها محكومة بإطار نظام مغلق نعرفه، ونتوقع لها – من سابق الخبرة والملاحظة الحسية من جانبنا - أن تقع فيه. أما عندما يكون الحدث المنظور يوصف بأنه فردية singularity ويفترض فيه إمكان أن يقع على غير تقيد بنظام أصلا، بل يفترض أن تكرار جنسه قد مشى (بالصدفة المحضة) على نسق أفضى إلى توليد النظام نفسه قبل أن لم يكن شيئا، ثم يقال إنه كلما استطال الزمان في الماضي، زادت "الاحتمالية الإحصائية" لنشأة النظام على ذلك النحو، فإن هذا تجويز لانقلاب العدميات إلى وجوديات بلا علة، وهو خُلفٌ واضح!

كذلك الحال عند صاحبنا "بيرس" ههنا، إذ يتصور أو يدعي أنه ما دام الإنسان قد اكتشف كل تلك الاكتشافات وتوصل إلى تلك الفتوحات المعرفية الكبيرة من طريق العلم الطبيعي في فترة لا تتجاوز القرن الواحد، فبعلاقة رياضية بسيطة يمكننا أن نقول إنه إذا كان مجموع الأسئلة التي ما زال الإنسان يتطلع إلى معرفة جوابها يساوي (س)، وكان مجموع ما توصلت البشرية إلى جوابه بالفعل من أسئلة من طريق العلم الطبيعي خلال 100 سنة = (أ)، فإنه يمكننا تقدير عدد السنين المتبقية للوصول بالعلم الطبيعي لتغطية المادة (س) - على افتراض ثبوت معدل الإنجاز والإضافة العلمية على ما كان عليه خلال المئة سنة المذكورة - من طريق العلاقة:
ع = (س)/(أ) * 100
هكذا بكل سهولة!!

لا شك أن هذه الفكرة تبدو للوهلة الأولى جذابة للغاية لعامة الملاحدة والماديين! ولكنها في الحقيقة – كعامة معتقداتهم – مغالطة عقلية كبرى! وذلك من ثلاثة أوجه: (6)
- أنها تستلزم افتراض محدودية مادة السؤال العلمي نفسه (كمعنى مطلق) وهذا باطل، ويكفي للتدليل على بطلانه مطالبة القوم بتعيين قيمة اللانهاية العددية (كما سيأتي)! فالتقديم بافتراض القيمة (س) أيا ما كانت = باطل. ---------------------------------- (أ)

- تفترض أن القدرة الإنسانية على استيعاب المعارف (عموما أو من طريق التراكم) لا حد لها ولا نهاية، وهذا باطل. ------------ (ب)

- تفترض أن جميع القضايا المعرفية التي يمكن للإنسان أن يصل إلى معرفتها، يصح أن يكون العلم الطبيعي طريقا إلى تحصيلها، وهذا باطل. --(جـ)
هذه الأوجه الثلاث لبطلان تلك الفكرة هي بمجملها موضوع هذا المبحث.
فسينتظم البحث في مطالب ثلاثة، ألا وهي إثبات تلك الأوجه (أ) – (ب) – (جـ) بالدليل الفلسفي.

أولا: إثبات محدودية العلم البشري بإطلاق.
بداية نقول إن العلم الذي نتكلم عنه في هذا السياق ينبغي أن نفرق فيه بين تصورين كليين مختلفين لتلك الغاية المعرفية النهائية التي يتطلع إليها عموم الماديين في عصر ثورة العلم الطبيعي:
- تمام الإلمام والإحاطة بكل موجود يجوز في العقل أن يتحقق العلم به.
- تحقيق المعرفة بكل ما يمكن لبني البشر الوصول إلى معرفته.

والفرق بين التصورين الأول والثاني أن الأول أنطولوجي مطلق والثاني إبتسمي نسبي. والمعني بأنطولوجي ههنا أنه تصور لصفة العلم عند كائن مخصوص في الوجود لا يوصف بها غيره. فعلى التصور الأول لتمام العلم بإطلاق، يكون المقصود تحقق الإحاطة بكل شيء كان أو هو كائن أو سيكون في الوجود. وما من كائن ذي علم يدخل تحت علمه كل موجود بالضرورة، إلا من كان موصوفا بالعلم الكلي Omniscience وليس هذا الوصف مما يصح لأحد إلا لمن كان موصوفا بأنه واجب الوجود، علة العلل، الأول الذي لا شيء قبله ولا صانع له، القيوم الذي لا مقيم له، وليس هذا إلا خالق السماوات والأرض سبحانه وتعالى. فكل مخلوق حادث فهو محدود فيما يمكنه الوصول إلى معرفته استقلالا بنفسه ولابد. فأي كائن من الكائنات (س) مهما وصل به علمه إلى أبعد نقطة يمكنه بلوغها في الماضي البعيد، فهو مسبوق فيها لا محالة بعلم الكائن الأول الذي لا بداية له، وكذلك يقال في العلم بما يقع في المستقبل.

ومن هنا يأتي معنى الغيب الزماني المطلق كضرورة عقلية يجب أن يشهد بها كل مخلوق على نفسه وعلى جنس المخلوقات، وبخروجها عن دائرة علمه المكتسب ولابد، مهما بلغ به ذلك العلم، كما سيأتي بيانه لاحقا بإذن الله تعالى عند تحرير الفرق بين الغيب المطلق والغيب النسبي بدرجاته. وكذلك الشأن في دائرة الإحاطة العلمية المكانية، فكل مخلوق محدود في خلقته ولابد كما لا يماري إلا مكابر. فمهما بلغ به سفره في أقطار السماوات والأرض، فيقينا ستبقى ثمة نقطة أبعد ما زال لم يصل إليها بعد، ومن ثمّ فهو – من حيث الأصل – جاهل بما هنالك، ما لم يصل للوقوف عليه بالحس والمشاهدة، أو يأتيه خبر به من الخارج من مصدر معرفي قد سبق له الاطلاع على ذلك الموضع.

فإذا تكلمنا عن حدود العلم البشري بعموم، فأي مصدر معرفي خارجي هذا، الذي يحيط علمه بما تعجز سائر الكائنات ممكنة الوجود عن الاستقلال بمعرفته (بمعنى أن تصل تلك الكائنات إلى اكتساب العلم به بنفسها)، إلا أن يكون هو الخالق الواحد الأول الآخر سبحانه وتعالى؟

لذا فإن إثبات محدودية المعرفة البشرية كوصف لازم لها أبدا، هو بعينه إثبات وجود جنس المعرفة الغيبية مطلقة التغييب، وهو في نفس الوقت دليلنا على أنه لا طريق إلى الوصول لتحصيل المعرفة بشيء من تلك الأمور مطلقة التغييب إلا من طريق الخبر المتلقى من الخالق العليم الشهيد جل وعلا. بل إن من أدلة وجود الخالق ما هو دليل – في نفسه – على وجوب تلك المحدودية المعرفية، كدليل التعليل الذي يقضي بقطع تسلسل العلل بالعلة الأولى التي لا تعليل لها. فمجرد وصف تلك العلة الأولى بأنها لا تعليل لها، إنما هو تقرير لوجود سقف معرفي لسائر المخلوقين تنشأ الضرورة إلى إثباته من حقيقة المعرفة نفسها لديهم. فإن اعتبرنا أن التعليل والسببية هما طريقنا معاشر المخلوقين إلى تحصيل المعرفة، فإن هذا الطريق ينقطع أمامنا لا محالة، وبضرورة المنطق نفسه، عند تلك العلة الأولى واجبة الوجود، فوجب في العقل أن يكون ثمة سقف مطلق ثابت لمعرفة البشر لا يمكنهم تجاوزه. ولهذا تكثر سفسطة الملاحدة الجدد كدوكينز وغيره بقولهم إن "فرضية" الخالق تقتل العلم وتعد جوابا "سهلا" لقضية أصل الكون والحياة على سطح الأرض! فإن هذا الجواب يقضي بوضع حدّ مطلق لعلم الإنسان لا ينبغي له التطلع لمجاوزته، وهذا ينقض ملة الإلحاد الجديد التي من أركانها اعتقاد أن أدوات العلم الطبيعي عند البشر كاملة القدرة omnipotent وأنها ستصل – ربما بعد بضعة ملايين من السنين كما يرجو "بييرس" - إلى تحصيل المعرفة بكل شيء في الوجود!

هذان المثالان الزماني والمكاني الذين بينا بهما الفرق بين العلم المحدود واللا-نهائي (ومن ثمّ أثبتنا وجوب تحقق معنى الغيب المعرفي المطلق عند أي مخلوق ممكن الوجود، أيا ما كان مقدار أهليته الخلقية لتحصيل المعرفة)، يشهد لهما التصور الرياضي المجرد لمعنى اللانهاية العددية نفسها كما بينا ذلك من قبل في غير موضع. فإن آلة البحث الكمي في الموجودات التي ركبها الرب تبارك وتعالى في عقولنا، هي في نفسها شاهد على هذا النقص اللازم في معرفتنا، وعلى ضرورة وجود حد لا يقدر شيء من المخلوقات العاقلة ممكنة الوجود (7) على مجاوزته معرفيا مهما زاد محصولها العلمي، سواء كأفراد أو كجماعات يتراكم العلم فيما عندها، وذلك إنما يعزى إلى كونها (كجنس من الموجودات) مخلوقة حادثة بالأساس. بل إن مفهوم اللانهاية العددية في الرياضيات يعد شاهدا شديد الجلاء على ضرورة وجود شطر من معرفتنا نعلم وصفه العام ولكن لا نعلم حقيقته (أو إن شئت فقل تحقيقه أو ما به يكتمل العلم به كغيره من المعلومات)، وضرورة أن ينتهي علمنا به عند هذا الحد. (8)

ذلك أن كل قيمة من القيم العددية في الرياضيات (س) قد علمنا من صفاتها أن القيمة السابقة لها مباشرة هي (س – 1) والقيمة التالية لها مباشرة هي (س + 1)، وقد أمكننا تعيين تلك القيم بدقة وأمكننا تعيين نتاج قسمتها ومضاعفتها والتعامل معها كما نتعامل مع سائر القيم العددية المعروفة، إلا العدد المسمى باللانهاية العددية، فإننا مضطرون إلى التعامل معه كقيمة مبهمة تأتي في مختتم الأعداد كلها لتعبر عن معنى (كل شيء) أو عن معنى نهاية الأعداد: أقصى قيمة عددية في الوجود، أو ما وراءها، على كلام قديم بين الفلاسفة في ذلك. فمع كونه يعبر عن هذه المعاني المحدِّدة بطبيعتها لحدود معرفتنا البشرية، ولا يشاركه فيها أي عدد آخر على الإطلاق، فإننا لسنا نقبله فحسب، بل إن علم الرياضيات لا قيام له أصلا بدون التعامل مع ذلك المعنى الرياضي على أساس التسليم بهذه الجهالة عندنا بحقيقته. فهو ليس جهلا محمودا، وإنما هو جهل متعين في العقل لا سبيل دوننا إلى إزالته.

فلو أننا تصورنا أن جاء علينا يوم تمكن فيه الرياضيون من تحديد قيمة معينة (س) للا-نهاية العددية، فإنه سيفسد معناها حينئذ لأن ذلك سيعني أن سائر الخصائص الرياضية الضرورية للا-نهاية العددية ستبطل ولابد، وذلك لتحولها إلى قيمة عددية كغيرها من القيم، يمكن الزيادة عليها بل ومضاعفتها للوصول إلى قيم أخرى معروفة، وهو ما ينقض معناها أصلا! أو بعبارة أخرى نقول إن بقاء تلك القيمة الاعتبارية على خصائصها التي تأسس عليها علم الرياضيات نفسه، يلزم له التسليم باستحالة الوصول إلى تعيين قيمتها الحقيقية في يوم من الأيام أو حتى الاقتراب إلى ذلك. فإننا معاشر البشر لا يمكننا أن نعين قيمة عددية حقيقية (س) إلا وقد جاز عندنا أن يكون ثمة قيمة أخرى بعدها (س + 1) يمكننا تعيينها كذلك، وأن يكون لها مضاعفات يمكن حسابها، فوجب في العقل أن تظل تلك القيمة كما مبهما لا يمكننا الوصول إلى تعيينه في يوم من الأيام.

هذا التصور الرياضي مطابق تمام المطابقة للتصور اللغوي الذي ذكرناه آنفا من لزوم محدودية المخلوق الحادث مهما بلغ، وأنه لا يمكن في العقل أن يستوي في العلم بالكائن الأزلي القيوم علة العلل الذي يوجب العقل انفراده بما لا يصح أن يوصف به أي كائن من الكائنات الممكنة عقلا. فإن الخالق الأول الآخر الذي يمتد وجوده من الأزل وإلى الأبد، يلزم في العقل ألا يقيده ذلك القيد المعرفي الذي يتقيد به علم المخلوقين المحدثين ولابد، ولهذا كان من أسمائه سبحانه (الشهيد)، فلا شيء يجري في الوجود من الأزل وإلى الأبد إلا وهو شاهد عليه لا محالة، عليم به تمام العلم ولابد. فالغيبية والخفاء المعرفي والجهل الذي يحملنا على البحث العلمي، إنما يتصف بها المخلوق دون الخالق. (9)

وعليه فالقضية المعرفية التي نحن بصددها، ينبغي أن يبدأ تحريرها من أن نقول إن العلم (بمعنى مجموع المعلومات المعبرة عن الموجودات الواقعة والممكنة عقلا) لا نهاية له، فلا يمكن – بضرورة العقل - أن نصل يوما ما إلى نقطة نقول عندها إننا قد علمنا كل ما يمكن أن يُعلم في الوجود! بل لا يمكن أن نصل إلى نقطة نقول عندها إننا قد توصلنا إلى الإحاطة بكل ما يمكن للبشر أن يتوصلوا إلى معرفته (وهو تقييد للإطلاق السابق بقيد القدرة البشرية المتناهية).

فإذا تقرر لدينا ذلك القدر، تحقق لنا الوجه (أ) في الوجوه الثلاثة سالفة الذكر، ألا وهو إثبات وجوب محدودية ما يمكن الوصول إلى تحصيله من العلم لجنس المخلوقات بإطلاق، وهو كاف فيما أرى لإثبات محدودية العلم الطبيعي بالتبعية أيا ما كان تعريفه عند فلاسفة العلم. وسنتابع في المشاركات التالية – إن مدّ الله لنا في العمر وبسط لنا في الوقت – عرض المزيد من الحجج مع بيان الوجهين الباقيين والتدليل عليهما لتمام مطالب هذا المبحث.

--------------------------
الحواشي:
(6) ثمة وجه رابع قليل القيمة ولكن لا ضير من ذكره، ألا وهو بطلان قولهم بثبات معدل الإنجاز في المستقبل (أو حتى بتسارعه، طردا لما كان عليه الحال في الحضارة الغربية المعاصرة خلال القرنين الماضيين)، فإن البحث العلمي تحكمه متغيرات كثيرة لا يمكن التنبؤ بمسارها في المستقبل، وهذا واضح من مجرد النظر إلى ما كان عليه ذلك "المعدل" في الماضي البعيد، بل القريب قبل مئتي سنة فقط أو أقل!)

(7) أثبتنا وجوب تحقق معنى الغيب المعرفي المطلق في جنس المخلوقات العاقلة بعموم، وليس في الإنسان وحدة، تأسيسا على قاعدة نعتبر الجدال فيها من السفسطة المحضة، ألا وهي القول بأن كل مخلوق عاقل ممكن الوجود، سيتفق معنا معاشر البشر في ثوابت وبدهيات المنطق العقلي التي نتفق عليها ولابد، بما في ذلك أصول الرياضيات ومنطق اللغة الطبيعية.

(8) وفي هذا بينة عند التأمل ليس فقط على إمكان أن يدخل في بنيان معرفتنا البشرية معاني تتعلق بجنس من المعلومات نضطر إلى الوقوف عليها دون التطلع لمعرفة حقيقة تلك المعلومات، بل إنها تدل على وجوب تحقق تلك الخصلة في بنيان المعرفة البشرية لا محالة! بمعنى أن يكون لدينا معلوم ما، نقبل أن يتحقق لنا العلم بدرجة من درجات المعاني الواصفة لذلك المعلوم (وتكون مما تحيط به لغتنا أو يكون من المشتركات المعنوية التي يجيز العقل مشابهتها لما يدخل دخولا كاملا تحت دائرة الخبرة البشرية)، مع كوننا في نفس الوقت نقبل أن يمتنع عنا الوصول إلى مجاوزة ذلك القدر من المعرفة بصفات وخصائص ذلك المعلوم وحقيقته التفصيلية، فنقف عند ما لدينا من العلم به، ونتخذ لما وراء ذلك موقف اللا-أدرية agnosticism ونرتضي به. أو بعبارة أخرى، لنفترض أن كان لدينا موجود ما (م) (أيا كان طريق الوصول إلى إثبات وجود ذلك الموجود والمعرفة بشيء من صفاته)، وقد تحقق لنا العلم بجملة من صفات ذلك الموجود: المجموعة "أ، ب، ج، د، هـ، و، ز"، هذه الصفات إما أن يكون بوسعنا أن نتوصل إلى معرفة صفة كل واحدة منها وحقيقتها، فنقول إن حقيقة (أ) تتقرر في مجموعة من الصفات: "1،2،3،4،5" أو نقول إن هذه الصفات لا شيء منها يمكن في العقل أن نتوصل في يوم من الأيام إلى معرفة صفاته أو حقيقته أو السؤال عنه، فيتعين أن نمتنع عن طلب ذلك العلم الإضافي ضرورة. هذا الموقف الأخير لسنا نجيزه في العقل فحسب، بل إننا نوجبه ونوجب قبوله كموقف صحيح لازم لجنس واحد على الأقل من أجناس المعلومات في الوجود لا محالة، وتعتبر اللا-نهاية العددية مثالا له في غاية الجلاء في الحقيقة.
وهو نفسه موقفنا معاشر أهل السنة من أسماء الخالق وصفاته، عندما نقول إننا نثبت لربنا تبارك وتعالى تلك الأسماء والصفات التي تحققت لنا المعرفة بها من طريق الوحي، ونعقلها على ظاهر اللغة بما لها من اشتراك معنوي واضح مع بعض صفات المخلوقين، ولكننا نفوض العلم بصفة الصفة، أو بعبارة أخرى، نمتنع عن طلب العلم بالمزيد من المعاني الإضافية التي تصف كل صفة من تلك الصفات وتبين حقيقتها وتفصيلها. هذا الموقف ليس واجبا علينا من جهة الشرع وحسب، ولسنا نقول به لأن عقولنا تعجز عن تصور ذلك وحسب، بل إنه واجب من جهة العقل كذلك كما بينا.

(9) قد دلت النصوص من القرءان والسنة المطهرة، مصداقا لما يشهد به العقل، على وجود معاني لا يمكن للغة البشر استيعابها. ذلك أن اللغة إنما تعمل في توليد الألفاظ الجديدة لوصف الموجودات سواء في الذهن أو في الخارج، بناء على القياس العقلي على ما هو محصول في الذهن من قبل من خبرات الحس والإدراك ومن المعارف المخزونة. فما لم يسبق لنا أن رأينا شيئا مثله البتة، فإنه لن يجد في ألسنتنا لفظا يناسبه. نعم قد نخترع له اسما ما (كأن نقول: الشيء "س" مثلا!)، ولكننا سنعجز عن وصفه وصفا دقيقا! فإن افترضنا التعرض لشيء مجهول بالكلية (س)، فإننا سنظل نحاول أن نقربه في قياسنا إلى أقرب شيء رأيناه من قبل شبها به، حتى نصفه بما يقربه إلى أذهان السامعين.

فهل من الممكن في العقل أن يكون ثمة شيء مجهول (س) لو رأيناه لعجزنا تمام العجز عن وصفه أو احتوائه فيما نعقل من معاني اللغة؟ نعم ولا شك، بل إنه واجب تبعا لعجزنا الضروري عن استيعاب المعاني التي توصف بها حقيقة الذات الأزلية الأبدية وكيف تكون تلك الذات التي لا نهاية لها إلا ما يفصلها عن خلقها. فالعقل يوجب هذا القصور اللغوي عندنا (كما عبرنا عنه رياضيا باللا-نهاية العددية). وفي الحديث أن الجنة يكون فيها من النعيم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومع أن مادة هذا الخبر محل النظر من المخلوقات مثلنا، إلا أنه قد وصفها النص بأنها لم تخطر على قلوب البشر، أي لم يسبق لهم أن حازوا في أذهانهم من المعاني ما يطابقها في اللغةً، وإن كان لا يمتنع بالضرورة أن يتمكنوا من تقريبها بالقياس (التشبيه) إلى أقرب الأشياء شبها بها، لأن إخبار النص عنها بأنها لم تخطر على قلوبهم ولا تطرقت إلى إدراكهم من قبل، لا تؤخذ منه ولابد الدلالة على أن أهل الجنة لم يسبق لهم أن تعرضوا لشيء في الدنيا يشترك معها ولو في بعض الصفات الظاهرة القليلة التي يمكن من طريقها أن تُقرب تلك الأشياء إلى الأذهان عند العبارة عنها ووصفها.

وفي المقابل فإن ما ثبت في النص من صفات الذات والفعل للخالق جل وعلا، نحن نجزم بأن العقل البشري وإن كان يفهم معانيه على ظاهر اللغة، إلا أن حقيقة وكنه تلك المعاني (أو صفة الصفة: الكيفية التي بها تتحقق) لا يمكن للعقل البشري استيعابها ولا وضعها في إطار اللغة البشرية أصلا، لأنها معاني تتعلق كما تقدم بذات لا قياس لحقيقتها على شيء من الموجودات الممكنة التي لا نملك من القدرة العقلية (اللغوية) أو الحسية الإدراكية عند التعبير عن الكيفيات والحقائق إلا ما يناسبها. فإن عقولنا وألسنتنا وحواسنا قد تحددت فينا بموجب كوننا مخلوقين حادثين، من صنعة خالق لا أول له ولا آخر، سبحانه وتعالى!
هذا التحدد واجب عقلا في سائر المخلوقات الممكنة، بمعنى أن المنطق لا يجيز أن يرفع الخالق عن شيء من خلقه مطلق التحديد العقلي والحسي والمعرفي، فيرى ذلك الخلقُ كل ما يرى الخالق، ويسمع كل ما يسمع، ويعلم كل ما يعلم، لأن ذلك لو جاز أن يقع لمخلوق من المخلوقات، لاستوى الحادث بالقديم الأبدي، ولبطل التفريق بينهما في العقل وهذا محال.

ولعل هذا التقرير في محدودية اللغة وعلاقتها بمحدودية المعرفة البشرية، يقترب بنا من بعض صياغات الموقف القائل بالحتمية اللغوية Linguistic Determinism، التي يرى أصحابها من الفلاسفة أن الإنسان تتحدد معرفته في هذا العالم بحدود ما يمكنه (كجنس من المخلوقات) أن يعبر عنه بلسانه وأن يستوعبه في ألفاظ اللغة. فإننا لا نبالغ إن قلنا إن سائر عمليات المنطق الفكري البشري بما فيها الرياضيات نفسها، إنما هي عمليات لغوية في الحقيقة، تقوم بقدرة الإنسان اللغوية على التعبير عن الأفكار في أسماء يتفق البشر على معانيها فيما بينهم (سواء كانت ألفاظا أو رموزا تعبر عن الأعداد وعلاقاتها.. الخ). فما خرج عن حيز التعبير اللغوي البشري بطبيعته، أنى لمثله أن يدخل إلى حيز التقرير المعرفي البشري سواء على المستوى التنظيري أو الوصفي؟ هذا محال! وعليه فالذي أراه أن من يزعم بطلان هذا المبدإ، سيعجز – لا محالة – عن دعم اعتراضه عليه بالدليل العلمي، لأنه سيكون مطالبا بإثبات أنه قد دخل إلى علمه شيء لا يمكن التعبير عنه بألفاظ اللغة! فإذا تقرر أن الإثبات والبرهنة على صحة الأفكار، ونقل التصور من عقل إلى عقل بما تقوم بمثله الحجج وتتحقق به المعرفة، لا سبيل إليه عند البشر سوى العبارة اللغوية (بفنونها المختلفة، التي يتكون بها بناء المعرفة البشرية في شتى حقولها ومجالاتها)، تبين امتناع تحقيق ذلك المطلوب عند من يزعمه.

وقد يزايد بعض الماديين ههنا من المهتمين بقضية ثنائية العقل والجسد، والمشتغلين بفلسفة أو علم العصبيات neuroscience ويقول: لعل صاحب هذا المطلب يتوصل إلى إثبات وقوع شيء في معرفته لا يمكن للغة البشر التعبير عنه، من خلال أدوات البحث الإمبريقي empirical methods، بأن يبين – مثلا – أن المنطقة (س) في المخ المخصصة لتخزين المعارف، قد ظهر فيها نشاط يظهر في وصفه دليل على هذا الأمر! ونقول لهم هذه رمية بغير رام، لأنه حتى على التسليم بإمكان معرفة مواقع الأفكار والمعارف في جوف الإنسان حال انقداحها في ذهنه أو حيثما يخزنها في ذاكرته، فإن التفريق بين أعيان تلك الأفكار بما يوصل منه إلى توصيفها ومعرفة كنهها وموضوعها، سيظل في جميع الأحوال مهمة صاحب الأفكار نفسها، التي لن تتحقق له إلا بأن يتمكن من وضع تعبير لغوي مناسب لها! لأنها أفكاره، المنقدحة في نفسه هو، في سياق إدراكه الشامل لا إدراك غيره، فإن عجز هو عن وضعها في عبارة تناسبها، فلن تزيد في أعين الناظرين على مخه وجهازه العصبي عن مجرد إشارات كهربية وتفاعلات في جملة مما يجري في دماغه في هذا الموضع أو ذاك! ولا يفوتنا أن نقول لمثل هذا: من أراد الوقوف على حقائق المعرفة، فليطرق إليها طريقا أكثر نضجا وأقرب مأخذا من طريق روايات الخيال العلمي، والله الهادي!


------------------------
المراجع:
Wiener, P. P. (Ed.) (1958): Values in a Universe of Chance: Selected Writings of Charles S. Pierce, USA: Stanford University Press

أهل الحديث
11-12-2011, 08:11 PM
بارك الله لنا في علمكم شيخنا أبي الفداء ، فكم هي ماتعة طيبة هذه السطور .

geek
11-17-2011, 02:48 PM
بارك الله في الشيخين أبي الفداء وحسام الدين حامد ... كل يوم أفتح هذا الشريط على أمل قراءة ردود جديدة ... كنت بدأت في قراءة كتاب "فلسفة العلم في القرن العشرين" للدكتورة يمني طريف الخولي وكتاب "فلسفة العلوم بنظرة إسلامية " للدكتور أحمد فؤاد باشا لترجمة بعض الفقرات إلى لغتنا ، حتما سأستفيد مما سطره الشيخ أبو الفداء هنا .

أبو الفداء
12-16-2011, 02:46 AM
ثانيا: إثبات محدودية القدرة البشرية على التحصيل والبناء المعرفي.

تقدم في المطلب السابق إثبات وجوب محدودية مادة العلم التي يمكن لنوع المخلوقات – بإطلاق - أن يصل إلى إصابتها (أيا ما كانت وسيلة الوصول إلى تلك المعرفة). وفي هذا المطلب نستعرض الدليل العقلي على محدودية قدرة الإنسان على تحصيل العلم وجمعه، بما يمنع محصول التراكم المعرفي لدى أي جماعة من البشر مهما عظم من مواصلة النمو صوب نقطة يوصف العلم البشري عندها بأن بناءه قد تم واكتمل. والفرق بين المطلبين أننا في المطلب الأول تناولنا جنس ما يمكن في العقل أن يصل المخلوق إلى معرفته عن الواقع الوجودي الذي يوجد فيه، بينما في هذا المطلب نتناول قدرة العقل المخلوق على بناء المحتوى المعرفي لنوع البشر تحديدا، بما يدخل في ذلك من عوامل اجتماعية تؤثر في مسار عملية البناء المعرفي في تاريخ الأمم البشرية. فلعله يمكن اعتبار هذا المطلب من قبيل البحث السوسيو-إبستمولوجي في تصور الآلية الاجتماعية التي تفضي إلى تشكل المخزون المعرفي البشري على هذا النحو الذي نراه. "6"
ذلك أن النموذج الطبيعي لبناء المعرفة البشرية يقوم على التراكم المعرفي الجماعي، الذي حقيقته أن كل باحث إنما يبدأ من حيث انتهى من سبقوه (أو بعبارة أدق: من حيث انتهى ما نما إلى علمه مما انتهى إليه سابقوه)، ليضيف إلى ما قدموا، سواء بالزيادة أو بالتعديل والتقويم والنقد (وليس الحذف أو البتر غالبا)، متحركا في إطار جملة من الغايات الكبرى التي تتفق عليها جماعته البشرية التي ينتمي إليها (سواء وافقهم في مجموعها أو في بعضها). فإن وافقهم في غاياتهم وأصولهم، فغالبا ما تكون إضافته بمثابة فرع جديد من أحد أو بعض الفروع التي اجتمعت لديهم، أو تكون صياغة جديدة لتلك الفروع أو لقواعده الأصلية مع البقاء عليها. وإن خالفهم في بعض تلك الأصول (التي تدخل فيها الغايات والمقاصد الكلية للعملية البحثية نفسها)، فسيأتي بأصل جديد تنمو منه فروع جديدة تكون موازية لما اجتمعت جماعته البشرية عليه، متفرعة عن أصوله الجديدة وكذلك عن الأصول الكلية المشتركة فيما بينه وبينهم.
فلعل أول دليل على وجوب هذا النمط – عقلا – في جنس واحد على الأقل من المخلوقات العاقلة (يُعد منه النوع البشري)، يمكن صياغته على النحو التالي:
مقدمة (1): كل مخلوق يولد جاهلا لا يدري شيئا (إلا ما قد يكون مركبا في أصل خلقته من علم فطري أو غريزي غير مكتسب).
مقدمة (2): كل مخلوق يتحدد علمه بحدود ما يصل إليه من معرفة تتحصل لديه خلال عمره المحدود (سواء بالتلقي المباشر والتلقين "السماع" أو بالخبرة والتجريب والممارسة، وهما طريقان تختلف مآرب المخلوق العاقل فيهما باختلاف هيئة المخلوق وطبيعة وجوده وقدراته وطبيعة العالم الذي خُلق فيه، وموضوع العلم المراد تحصيله).
نتيجة (3): إن كان المخلوق مبنيا في تكوينه وطبيعته على نمط التعاون الجماعي المتبادل reciprocity للتكيف والتمكن من البيئة التي خلق فيها، فإن نموذج المعرفة لديه يكون نموذجا تراكميا ولابد، (ويكون علم الجماعة هو مجموع ما تحصل لأفراد تلك الجماعة من علوم دونوه في صورة حوض معرفي Pool of Knowledge يأخذ كل فرد منه ليضيف إليه.)

هذا الترتيب السابق أسسنا نتيجته على شرط أن يكون المخلوق مطبوعا على بناء التجمعات النوعية حيث تشترك أفراد نوعه في الانتماء إلى بيئة واحدة يزداد انتفاع كل فرد منهم بمواردها ويزداد تمكنه من تحقيق الغاية التي اجتمعوا عليها من العيش في تلك البيئة، كلما ازداد تعاونهم على ذلك المطلب. وهذا مشاهد محسوس في الإنسان كما في عامة صنوف المخلوقات المتحركة animate المتكاثرة على هذه الأرض، على اختلاف في طبيعة وحجم المعارف المتحصلة لدى كل صنف من تلك المخلوقات باختلاف طبيعته النوعية والغاية التي من أجلها خلق وبناء عليها تحددت حدود قدرته على التعامل مع موارد البيئة التي يسكنها وعلى تطويعها لصالحه. هذا التعاون الفطري في تلك الأنواع من المخلوقات هو ما يفضي بالتبعية إلى حرصهم – أي تلك المخلوقات - على تحقيق ما تدعو الحاجة إلى تحقيقه من التراكم المعرفي فيما عند كل جماعة منهم، حتى لا يقع كل واحد من أفراد تلك الجماعات النوعية فيما وقع فيه من سبقوه من نوعه من أخطاء وإشكالات بسبب جهله أو قلة خبرته، وحتى يتسنى لهم جميعا الانتفاع من مخزون المعارف والخبرات التي تحصلت لدى آحادهم.

ولا تظهر تلك الخصلة أو الصفة في مخلوق من المخلوقات التي نراها فيما حولنا كما تظهر في الإنسان. فقد ابتلاه خالقه بقدرة هائلة على تطويع الموارد المحيطة به في هذا العالم وسخرها له تسخيرا، تبعا للغاية التي خلقه من أجلها التي هي الاستخلاف في الأرض. وابتلاه كذلك بمقتضيات تلك الأمانة: حرية اختيار الفلسفة الأخلاقية التي يؤسس عليها سائر عمله في الأرض، تبعا لاختياره فيما يعتقد أنه الغاية من خلقه في الحياة الدنيا (فإما حق وإما باطل). فترتب على ذلك كله أن كان الإنسان أكثر شيء جدلا، وأكثر المخلوقات بحثا وفحصا وإعمالا لمراتب الظن والنظر، وأكثرها حاجة للتفريق بين القطع والظن، وبين اليقين والشك، وبين العلم والجهل، وأكثرها حاجة إلى بناء المجتمعات ذات النظم الأخلاقية المعقدة، التي تتنافس فيما بينها طمعا في السيادة والعلو بما يعتقد كل مجتمع منها صحته من أجوبة للأسئلة الوجودية الكبرى، ومن تصور أخلاقي لطبيعة العلاقة التي تربطهم بمن سواهم من المجتمعات.
وقد اقتضت غاية الاستخلاف في الأرض أن يتحقق في الإنسان كذلك وفي الوقت نفسه، قدر كبير من التغييب المعرفي، ربما لا يضاهيه في مقداره وضخامته شيء مما سوى الإنسان من أنواع المخلوقات على ظهر الأرض. هذا التغييب، الذي حقيقته خفاء التأويل المشاهد لجملة من الحقائق الكبرى التي يتأسس عليها اعتقاد الإنسان في الماورائيات وتصوره لمكانه في هذا العالم ومآله فيما بعد الموت، وانحصار طريق المعرفة بذلك كله في طرائق يبتلى بها الناس من صنوف الرسالات والنبوات، فتقوم الأدلة والبراهين على أيديهم ليحيى من حي عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة، هذا التغييب، كان له أبلغ الأثر في تضخم المحتوى المعرفي التراكمي عند البشر، وتداخله وتشابكه وتعقيده أيما تعقيد.

هذه الطبيعة المعقدة للعملية المعرفية عند الإنسان قد غرته في نفسه وأوهمته بأنه أذكى المخلوقات العاقلة في العالم، وبأنه أرقى عقلا مما سواه، وبأن اللاحق من بني البشر أرقى وأذكى وأقوى عقلا من السابق منهم ولابد، فلا يزداد الناس إلا ذكاءً بتتابع الأجيال! بل إنها زينت له الظن بأن مآله أن يصير في المستقبل البعيد، قادرا على تفكيك أربطة هذا الكون وإعادة بنائه على نحو جديد! مع أنه في الحقيقة لا يمكنه أن يثبت أنه "أذكى" من القرد أو من الحمار أو من أي صنف شئت من بهائم الأنعام، وإنما هم في الحقيقة "أمم أمثالنا"! فمن الحماقة بمكان أن ترى أناسا في معامل الأحياء يقيسون ذكاء القرد إلى ذكاء الإنسان، يحاولون التوصل إلى معرفة الحوافز والعوامل التي أدت إلى "ارتقاء" العقل البشري فوق عقول "بني عمومته" من القردة، بحسب اعتقاد الدراونة! فإننا إن عرفنا الذكاء على أنه القدرة على التعامل مع الضوابط الأخلاقية والأحكام العقلية الحاكمة لسلوكيات بني آدم، التي على أساسها نقول لقرد لا يدري كيف يمسك ورقة وقلما ويكتب (مثلا)، فلا شك أن الأنعام والبهائم والقردة وغيرها من صنوف المخلوقات تتخلف عن ذلك الذكاء وتفتقر إليه، وهي – على هذا المعيار – أقل "ذكاء"، وإن شئت فقل إنها "غبية" (نقيض الذكاء). "7"

ولكن الواقع أن تلك الدواب إنما خلقت لغايات ليس منها ما يتطلب أن يتمكن القرد – مثلا – في يوم من الأيام من القبض على قلم وكتابة كلمة "بابا" أو "ماما"، كما يحاول به بعض سفهاء الدراونة البحث في سبب "ارتقاء" بعض أسلاف القرد إلى ذكاء البشر، وبقاء هؤلاء على "غبائهم"!! فمن هذا الوجه، لسنا "أذكى" من تلك القردة نوعا، وليست عقولنا أرقى من عقولهم، لأن الغاية التي من أجلها خلق كل نوع منا على تلك الهيئة التي هو عليها وفي مكانه الذي هو فيه من العالم، ليست واحدة أصلا، فلا نحن أرقى منهم في القدرة العقلية على تحقيق غايتهم، ولا هم أدنى منا في قدرتنا العقلية على تحقيق غايتنا، وإنما لكل أمة منا معاشر المخلوقات غاياتها في الحياة الدنيا، التي بها يُعرف مفهوم الذكاء والغباء في كل منها! "8"

وإنما كانت هيئتنا هي أحسن الهيئات والتقويمات فيما خلق الله في هذا العالم، لأننا في الحقيقة مكلفون بأعقد وأدق المهام والغايات التي يخلق من أجلها مخلوق فيه، ألا وهي مهمة الخلافة في الأرض ((إني جاعل في الأرض خليفة))!
ولما كان بناء المحتوى المعرفي في مجتمع بني آدم بناء تراكميا، وكانت طريقة الإنسان في التعامل مع هذا العالم أن يحوز لنفسه غاية ما يمكنه تحقيقه من السيطرة على موارد الأرض، كما مكنه الخالق سبحانه من ذلك تسخيرا وتذليلا، وكان أصل ابتلائه في اختيار الغاية التي من أجلها أراد التمكن من تلك السيطرة والخلافة في الأرض اختيارا صحيحا، ومن ثمّ توجيه سائر تلك الموارد لخدمة تلك الغاية على النحو الصحيح، كان من أثر ذلك أن انقسم البنيان المعرفي نفسه عند بني آدم إلى قسمين عظيمين:

- البحث في المعاني والغايات (بداية من إجابة الأسئلة الوجودية الكبرى، ووصولا إلى تحرير الغايات الصغرى وتفاصيل النظم الأخلاقية الملزمة للمجتمع البشري)
- البحث في الكيفيات: الأسباب والوسائل المادية والعملية (التي بها يوصل إلى تحقيق الغايات والأهداف الكلية)

هذا التقسيم على الاعتبار الغائي (أي على اعتبار الغاية المرادة من العلم أو نوع السؤال المطلوب التوصل لإجاباته، وهو ما يسمى عند الأصوليين بالثمرة أو الفائدة من الفنّ المعرفي) أراه أوفق من التقسيم الموضوعي الذي اشتهر بين الفلاسفة من زمان أرسطو وإلى اليوم، حيث جردوا الفنون العلمية في كليات كبرى بالنظر إلى موضوعها أو مادتها وحسب. وتقسيمنا هذا مشابه لما قرره الأصولوين من تقسيم العلوم الشرعية إلى علوم آلة وعلوم غاية. فليس في علوم البشر المعتبرة مهما تشعبت ما لا تكون غايته داخلة تحت إحدى هاتين الكليتين أو تحتهما جميعا.
فعلم التاريخ – على السبيل المثال – قد يدخل تحت القسمين جميعا، بينما علم الطب يقتصر على القسم الثاني دون الأول، وأما علم النفس فقد يدخل تحت كلا القسمين باختلاف موضوعاته وغاياته، وهكذا. ولعل من فائدة هذا التقسيم، أنه يلزم أصحاب كل صنعة علمية بتحرير ثمرة تلك الصنعة وغايتها عندهم بوضوح، من خلال التأمل في نوع الأسئلة التي يرجى من مباحثها أن توصلهم إلى معرفة جوابها. ومن فائدته كذلك أنه يظهر محل النزاع بيننا وبين الغلاة من عبدة العلم الطبيعي في زماننا، إذ يتمثل ذلك المحل بإيجاز في زعمهم أن العلم الطبيعي يغطي كلا القسمين جميعا، وليس القسم الثاني فقط! ومع أننا يمكننا أن نقول إن العلم الطبيعي (والتجريبي الإمبريقي بعبارة أشمل) قد يكون من الوسائل الخادمة لكثير من المقاصد البحثية الداخلة في القسم الأول، ومن أمثلة ذلك: حاجة القاضي في المحكمة إلى الاستعانة بأدوات العلم الطبيعي في بحث الأدلة الجنائية، وحاجة الفقيه إلى الباحث في علم الاجتماع وعلم الاقتصاد بأدواتهم الإحصائية والتجريبية للإفادة ببناء تصور صحيح لمسألة من المسائل، وحاجتهم جميعا إلى استعمال تكنولوجيا الاتصالات وغيرها مما يقوم قياما كاملا على العلوم الطبيعية، إلا أن هذا لا يغير من حقيقة أن نوع العلم الطبيعي يعد من الناحية الغائية: وسيلة أو آلة، على حد اصطلاح الأصوليين، وليس غاية معرفية في نفسه.

وهذه مسألة يطول بحثها على أي حال، وإنما كان المقصود من ذلك بيان أن البنيان المعرفي البشري بطبيعته شديد التعقيد والتداخل، وأن حجم وطبيعة ونوعية الأسئلة التي تتعامل معها مجالات المعرفة الإنسانية على اختلافها وتنوعها، تجعل من التراكم المعرفي البشري كيانا هو أقرب شبها إلى الحوض العشوائي Pool الذي يتوسع أفقيا ورأسيا في آن واحد، منه إلى صورة الصرح الذي يتوسع رأسيا على أساس واحد يتفق عليه جميع المساهمين في بنائه، أو صورة الشجرة التي تتفرع سائر فروعها من أصل واحد. وهذه مشكلته في الحقيقة وهذا من ابتلائنا بواقعه فيما بين أيدينا معاشر البشر. فإن الناس يختلفون في سائر الغايات والمعاني الكبرى، فما بالك بما دونها وما يتفرع عليها؟

لذا فمن جاء بجملة من القواعد والأسس الداخلة تحت القسم الأول من أقسام المعارف البشرية، يريد أن يجعل العلم البشري كله قائما عليها، فإنه سيتعامل مع ما يحيط به في ذلك الحوض من بنايات معرفية مركبة بأصولها وفروعها تعاملا انتقائيا على أساس من القبول والرد لا محالة، ولن يبدأ من نقطة الصفر. فتراه ينزع فروعا من أصول فاسدة تسيطر عليها وعلى غاياتها البحثية ليقيمها على أصول صحيحة عنده، أو تراه يرد مجالا من المجالات البحثية الحادثة ردا مطلقا لقيامها على غاية فاسدة من الأساس، أو تراه يعيد صياغة جملة من التأويلات التفسيرية التي افترضها الباحثون في مجال من المجالات العلمية لتقوم على ما يرى صحته من الأصول الكلية الكبرى. وما زلنا نرى أفذاذا من علماء الطبيعيات – على سبيل المثال – يظهرون بأصول كلية جديدة في بناء التصور الرياضي للعالم، يفضي قبولها إلى سقوط تصورات قديمة كانت قد ارتضاها المجتمع العلمي من قبل، ثم ما لبث أن تخلى عنها ليتخذ التصورات الجديدة في مكانها.
ولهذا نقول إن بنيان المعرفة البشرية لا ينبغي أن يغتر الناس بكونه تراكميا في طبيعته، ليتوهم المتوهم منهم أنه يمكن أن يصل بهم تراكمه هذا في يوم من الأيام إلى مجاوزة حدود النوع البشري نفسه، أو إلى اتصاف مخزونه التراكمي العملاق هذا بصفة "النهائية" أو "الكمال" أو قريب من ذلك! فإنه ليس كل قسم منه يتراكم الجديد فيه بالضرورة تأسيسا على أصول كلية لا تقبل النقد والمراجعة والتغيير، وليس كل فرع فيه منبثقا – مهما طال وتشعبت منه فروع وفروع – من أصل مسلّم به عند النظار!

بل كل عالم صادق يدري أنه كلما ازداد علمه واطلاعه على ما كان من قبل يخفى عليه، ازداد إدراكه لحجم ما يجهل، ولدقة موارد النزاع العلمي بينه وبين أقرانه في تفاصيل كل جزئية جديدة تنضاف إلى علمه الشخصي، وازداد استعداده لقلب موقفه المختار في تلك التفاصيل الظنية والفرعيات الجزئية الكثيرة من قول إلى قول مغاير، ومن مذهب إلى مذهب مخالف، تبعا لظهور دليل جديد أو مرجح جديد لم يكن قد وقف عليه من قبل، مع ثقته في رسوخ قدمه على الأصول الكبرى التي لا يجوز له أن يمارس العمل العلمي والمعرفي في هذا المجال أو ذاك دون تثبيتها تحت قدميه أولا. ولهذا ترانا كثيرا ما نقول إن سعي كثير من الفيزيائيين اليوم إلى التوصل لما يسمونه بنظرية كل شيء Theory of Everything إنما يقوم لديهم على موقف فلسفي سطحي يتغافل الفوارق النظرية الكبرى (والإشكالات الفلسفية الجوهرية كذلك) في أصول كل من النظريتين النسبية والكماتية، ويفترض في سذاجة ملفتة إمكان التوصل إلى كلمة سحرية واحدة ينحسم بها الجدال في تلك الضروب كلها جملة واحدة! "9"

على أية حال، فإن غايتنا الآن بيان أن نمط النمو المطرد للمخزون المعرفي البشري، نمط عشوائي على أقصى تقدير، ولا يمكن لأحد من البشر أن يتنبأ به، مع كونه في كثير من أقسامه مركبا من ظنيات ضعيفة للغاية إنما يتشبث بها العلماء لافتقارهم إلى ما هو أقوى منها حجة وأحرى بالصواب. فهو نمط تتضخم فيه مواطن الجهل وأوجه التشكيك ومواطن النزاع باطراد ثابت كلما تضخمت فيه مواطن العلم أو ما يعد من العلم ويعتمد كإضافة معرفية جديدة! هذا الوصف لا يتصف به فرع من فروع المعرفة البشرية كما يتصف به العلم الطبيعي والتجريبي بصفة عامة، كما سيأتي بيانه.

وعلى الرغم من تجلي تلك النقائص المعرفية البشرية في آلية ذلك العلم وحدوده لكل عاقل صادق منصف، ترى الماديين والدراونة والملاحدة الجدد لا يؤملون في قيام علم من العلوم البشرية بكفاية الحاجة المعرفية عند الإنسان كافية تامة كما يؤملون في العلم الطبيعي (وهذا غلو وإفراط بين، فإن لكل صنعة من صناعات العلم غايتها وحدودها التي لا ينبغي أن تتجاوزها، والعلم الطبيعي مهما عظم ومهما عمت منافعه على الناس، ليس إلا صنعة واحدة من تلك الصناعات على أي حال)، وتراهم يتكلمون وكأنما ينتظرون يوما تتحول فيه كافة الظنيات في ذلك العلم إلى قطعيات يقينية حاسمة، ويتحول مخزوننا المعرفي الطبيعي إلى كيان نهائي كامل لا نقص فيه ولا مجال في بنائه لإضافة ولا لتعديل أو نقد أو إبطال Falsification! فلا يسعك في كثير من الأحيان إلا أن تتساءل، هل حقا يدري هؤلاء القوم طبيعة الأدلة التي يتعاملون معها في ذلك العلم، وحدودها والطرق التي بها تستعمل تلك الأدلة في بناء الفرضيات وفي إثباتها أو إبطالها؟ هل حقا يعقلون لوازم مذهب الشك المعرفي الذي هو ركن أركان صنعة العلم الطبيعي كما سيأتي تناوله في مبحث لاحق إن شاء الله تعالى؟

الأمر ليس سببه جهالة القاعدة العريضة من علماء الطبيعيات في الغرب في زماننا بفلسفة العلم الطبيعي وافتقارهم للتأهل الكافي في العلوم العقلية بصفة عامة وحسب، وإنما مرجعه إلى اعتقاد راسخ يتمسكون به، كان من لوازمه ومقتضياته عندهم أن يجعلوا السيادة المعرفية المطلقة للعلم المختص بدراسة المادة وأحوالها ونظمها السببية، فتراهم يرومون تطبيق ذلك العلم على سائر صنوف الأسئلة عند الإنسان، يرفعونه إلى محل ليس له ولا يصح في العقل أن يقدَّم إليه، ويتعاملون – في المقابل - تعاملا اختزاليا للغاية reductive مع سائر ما سوى ذلك العلم من حقول معرفية ووسائل للاستدلال وتحصيل المعرفة. "10"

فعلى سبيل المثال، أي شيء هذا الذي جرّأ عالما من علماء الحيوان zoology كالبروفيسور ريتشارد دوكينز على أن يؤلف كتابا يسميه "وهم الإله"، يحشوه من أوله إلى آخره بمغامراته الصبيانية في التعامل مع الحجج الفلسفية والمسائل العقلية وكأنه متخصص في ذلك العلم؟ إنه ازدراء متأصل لديه هو وأقرانه – إن لم يكن بلسان المقال فبلسان الحال - لتلك العلوم كلها جملة واحدة، مبناه اعتقاده المسبق بأنها ما عادت تلزمنا معاشر البشر وما عدنا في حاجة إليها أصلا، فالعلم الطبيعي فيه الكفاية وفيه جواب كل مسألة، وعلاج كل معضلة، وطريق كل معرفة! ترى أتباع دوكينز عندما يدافعون عن ذاك الكتاب المتهافت الذي شهد عليه حتى فلاسفة الإلحاد أنفسهم بالهزال الفلسفي، يقولون إنه لم يكتب ليكون مخصصا لمجادلة ومصارعة الفلاسفة وإنما كتب لمخاطبة العوام! فهل ترتضون يا أدعياء الأمانة والنزاهة العلمية ويا من ترفعون لواء الإصلاح المعرفي المزعوم وترويج العلم والوعي العلمي بين العامة، مخاطبة الناس بكلام فارغ لا يقوم على أساس علمي صحيح؟ هذا عذر أقبح من الذنب كما يقولون! لماذا ترتضي يا أستاذ دوكينز مخاطبة العامة بكلام لا قيمة له في ميزان علم من العلوم أنت تعلم أن له أهله المختصون فيه، وتعلم أنك لست منهم، أو لست على مثل أهليتهم العلمية في صنعتهم وإن لم تكن معدودا منهم (أكاديميا)؟ أم أن العلم الطبيعي هو وحده الذي ترجى منه المعرفة التي يقام للمشتغلين بها وزن وتراعى لهم السلطة المعرفية على ما يتكلمون فيه وتحفظ لهم حدود علمهم وتحترم مكنتهم منه، وأما ما سوى ذلك فلا مانع من أن يكون كلأ مستباحا يخوض فيه كل إنسان بما يحلو له؟ لماذا استجزت لنفسك أن تكتب كتابا في الفلسفة والثيولوجيا، ترد فيه على هذه الحجة وتلك، وتجمع فيه من هنا وهناك، وأنت أجهل من الدابة في الفلسفة؟ وأي معرفة هذه التي خرجت لتدعو الناس إليه؟

على أية حال، فإن مقصودنا في هذا المطلب أن نبين أن مخزون المعرفة البشرية مخزون تراكمي مترامي الأطراف، وأن نمط الاجتماع البشري وإن كان قد خدم النوع الإنساني في تمكيننا من التحصل على مخزون معرفي متنامي (على اختلاف منازل ودرجات القطع والظن في وصف مكوناته) لا يمكن للفرد الواحد من بني آدم أن يجمعه في نفسه ولو عُمّر ألف سنة كاملة، إلا أن ذلك النمط نفسه لا يفضي عند بني آدم إلى تحقيق المعرفة الكاملة، حتى يرجى له أن ينتهي تلك النهاية الساذجة التي يحلم بها "تشارلز بيرس" وغيره من دعاة "السوبرمان"! وإنما كان ولا يزال يفضى كذلك إلى نمو مطرد للجهالات والأخطاء والنزاعات والمخاطر التطبيقية بل والانقلابات الإجماعية consensual & fundamental revolutions على الإجماعات القديمة في عامة العلوم التجريبية والطبيعية، وكأن ثمة آلية للتدمير أو التحلل الذاتي Fragmentation مصممة خصيصا لمنع المعرفة الإنسانية من مجاوزة حد معين!
ولا عجب! أليس قد قال الله تعالى ((وما أوتيتم من العلم إلا قليلا))؟ تمر القرون بعد القرون والأجيال تلو الأجيال، ويظل خطاب الآية الكريمة صحيحا من يوم أن نزلت على قلب النبي الأمي وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، نؤتَى ما نؤتى من العلم، وما يكون مهما ازداد لدينا وتراكم إلا قليلا! فإن الذي تكلم بهذا الوصف إنما هو الخالق الحكيم الخبير علام الغيوب الذي هو أدرى بخلقه من أنفسهم ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)). لو كان هذا القرءان من كلام بشر، أفكان يجرؤ مؤلفه على إطلاق دعوى يخاطب بها سائر البشر، قد تمر الأيام والسنوات ثم يراها هو أو من تبعوه وقد ثبت بطلانها في يوم من الأيام أو في حق أمة من الأمم؟ "11" لقد اقتضت مشيئة الرب سبحانه أن يجعل الابتلاء في كل شيء في هذه الدنيا حتى في المعرفة الشرعية التي هي طريق النجاة في الآخرة. أوليس قد قال جل من قائل: ((ونبلوكم بالشر والخير فتنة))؟ ما من نعمة يستزيد منها الإنسان في هذا العالم إلا ويشتد ابتلاؤه بها ولابد! لذا فإن هذه الخصيصة السوسيولوجية العشوائية للبناء التراكمي المعرفي لبني آدم، خصيصة ملازمة لذلك البناء لا انفكاك له عنها، ولا تزداد بنموه إلا تفاقما وتضخما!

فكيف يكون نمو المعرفة البشرية نقصا تراكميا في نفس الوقت، وكيف يكون التكاثر التراكمي العملاق الذي هو مزية العملية المعرفية في النوع البشري، الذي هو كذلك من أهم أسباب تفرد بني آدم بالسيادة في الأرض على غيرهم من المخلوقات، هو نفسه طريقهم الحتمي للتفكك والتآكل والشتات؟ لقد صار عقلاء البشر من كل ملة ونحلة يعلمون أنهم لا غنية لهم عن الاغتراف مما فيه تقارب الأمم وفيه كذلك صراعها، وبه علوها وهبوطها وهلاكها، وأن الأيام دول بينهم في ذلك لا محالة، فما علا طير وارتفع، إلا كما طار وقع! ولا يكون لأمة من الأمم علو في الأرض مهما اطرد إلا أمكنهم التنبؤ بسقوط حتمي من بعده مهما طال أمد العلو ومهما بلغ ظهور نجمه في سماء العالم! ولا ريب في أن تفاوت الأمم في المعارف مؤداه تفاوتها في القوة والبطش والمنعة، فالذين علوا فإنما علوا بمعارفهم وعلومهم، والذين انحطوا فإنما أُتوا من قبل معارفهم كذلك!

فلعلنا ننتقل الآن إلى إقامة برهان فلسفي شكلي على هذه الدعوى التي قررناها فيما تقدم (= أن المجتمع البشري لا يزداد علما إلا ازداد جهله وإدراك أفراده لذلك الجهل كذلك). وسنبرهن بعون الله تعالى على أن أحرى التراكمات المعرفية عند الإنسان بهذه الخصيصة في الحقيقة إنما هو مخزونه من العلوم الإمبريقية على وجه الخصوص، تلك العلوم المختصة ببناء تصوره لآلية عمل النظم المتراكبة التي يدركها في الكون المنظور من حوله!

هب أن ثمة موجود ما (أ) في الواقع (داخل الذهن أو خارجه) يراد الوصول إلى معرفة تفصيلية بشأنه. فيكون أول سؤال يطرح عن (أ) هو س1(أ)، ولنفترض أن جوابه المراد الوصول إليه هو جـ(س1(أ)). وأن ذلك الجواب قد توصلنا إليه من طريق الأدلة د1، د2، د3 .. دن (بصرف النظر عما إذا كانت تلك الأدلة من نمط الاستنباط، فتكون تلك المجموعة معبرة عن مقدمات ونتيجة منطقية، أم أنها من نمط الاستقراء فتكون معبرة عن جملة من المشاهدات أو القرائن الحسية أو الإحصائية أو النصوص التاريخية أو غير ذلك).
- فما لم تكن المجموعة د(جـ(س1(أ)) أو مجموعة الأدلة (د1، د2 ... دن) من جنس الأدلة القطعية، فإن المعرفة التي تتحقق من الجواب جـ(س1(أ)) تكون معرفة ظنية (وهي موجبة – عقلا - للاعتقاد والعمل في ظل الافتقار إلى المعرفة القطعية). ووجه نقصها أن ثمة سؤال آخر س2(أ)، أو س(جـ(س1(أ)) يطرأ بين الباحثين بمجرد زعم الباحث الأول أن الجواب هو كذا وأدلته الظنية هي كذا وكذا. فيظل ذلك السؤال رابضا في انتظار ظهور جواب قد يزيد من قوة الظن في صحة جـ(س1(أ))، أو يوهنه أو ينقضه ويفترض جوابا آخر في محله، فهو سؤال نقدي للجواب الأول وأدلته. ....... (م1)
- فإذا نوقش كل دليل على حدة، فإن س2(أ) تتحول إلى س2(د1) وس2(د2)، وس2(د3)، وهكذا!! ................. (م2)
- وإن قلنا إن في كل دليل مسائل لغوية أو منطقية أو نحوها، فسنسأل عنها بالسؤال س3(د1)، س3(د2)، س3(د3) .. إلخ. ............... (م3)
- فإن كانت الأدلة من قبيل الأسباب الطبيعية (لكون الموجود محل البحث "أ" مما يوصف بأنه حدث أو عرض أو من الطبيعيات المشاهدة عموما)، جاز السؤال حول التفسير السببي الاستقرائي بتسلسل لا تظهر له نهاية محددة عند الباحث، ما لم يصل صاحب الأسئلة بتلك السلسلة التفسيرية إلى منطقة الغيبيات والماورائيات (وعندها يظهر نزاع آخر ليطرح أسئلة أخرى) .............. (م4)
- ينتج عن ذلك أن كل معرفة تأتي من طرق الاستدلال الظني (لا سيما في العلوم الإمبريقية التي أساسها الحس والمشاهدة)، فإنها لن تدخل إلى مخزون المعرفة البشرية إلا ومعها من الأسئلة الجديدة ما يفوق في صعوبته وعمقه السؤال الأول نفسه.................. (نتيجة)

هذا البرهان الآنف مداره كما لا يخفى على كيفية التعامل العقلي الفردي (أي من المنظور السيكولوجي وليس السوسيولوجي) مع الإشكاليات البحثية، ويظهر فيه (في مقدمة: م4) كيف أن التفسير الطبيعي scientific explanation بطبيعته يتحرك في صورة مسلسل سببي، كلما تكشفت منه حلقة، استدعت البحث عن الحلقة التي تليها (فضلا عن تفاصيل تلك الحلقات وأدلتها وما تستدعيه من فحص وتمحيص)، إلى غير نهاية يمكن للباحث أن يطمع في أن يكون العلم الطبيعي طريقا إلى الوقوف عليها.
فمع أن علماء الطبيعيات يعلمون أن تسلسل التفسيرات يجب في العقل أن ينتهي عند سبب أول رئيس، ومع أنهم يعلمون أن العلم الطبيعي بأدواته لا يمكن أن يوصل منه إلى معرفة ذلك السبب الأول، أو ربطه بالأسباب الحسية المشاهدة ربطا إمبريقيا، إلا أنهم يصرون على ترك ذلك التسلسل مفتوحا، ويكابر بعضهم بزعمه أن دوائر المعارف المختصة ببحث القضايا الثانوية A Posteriori التي منها العلم الطبيعي بمختلف فنونه، يمكن أن تصل في يوم من الأيام إلى توفير الجواب الكافي عن كل سؤال طرأ في ذهن الإنسان أو يمكن أن يطرأ يوما ما! مع أن هذه الخصيصة تضمن لذلك العلم أن يظل دائما وأبدا هو أكثر العلوم حظا من الشك والتقلب والانقلاب الفكري، ومن ثمّ أن يظل دائما وأبدا – مهما تضخم وتنامى - أبعد دوائر المعرفة البشرية عن الوصول إلى نقطة نهاية قطعية يكتمل معها الجواب فيه عن أي مسألة من مسائله! بل لعله ليس من الصعب علينا الآن أن ندرك أن محتوى العلم الطبيعي كجنس من أجناس المعرفة البشرية، يمتنع (في مجموعه لا في بعض أفراد تفاصيله) حتى عن التقارب convergence الذي يمكن أن يرجى معه الوصول إلى نقطة كهذه في يوم من الأيام، فلا يزداد بنموه (إجمالا) إلا تباعدا وتراميا Divergence.

وقبل أن يتقافز الملاحدة من القراء من مقاعدهم نقمة على كلامي هذا، فإنني أنبه إلى أن تقريرنا هذه الصفة أو الخاصية لذلك القسم من العلوم البشرية، أي تلك المعارف التي يتلقاها الإنسان من طريق الحس والتجريب والاستقراء، لا يعني التنقص منها أو إهدار أهميتها – بل ضروريتها – للإنسان بحال من الأحوال، ولا يعني أننا ننقم من علماء الطبيعيات استحضارهم لقاعدة الشك العلمي في كل مبحث من مباحثهم، فلقد كان من مقاصدنا في صياغة هذا البرهان بالأساس، أن ندلل على وجوب أن تكون تلك هي صفة ذلك القسم من أقسام العلوم وصفة المشتغلين به، بالنظر إلى طبيعة مادته وموضوعه ومصادر تلقي المعرفة فيه. وإنما أردنا أن نثبت محدودية جنس المعرفة البشرية بعموم، وأن هذه المحدودية تعد خاصية ملازمة للكيفية التي بها يبني الإنسان معرفته فلا انفكاك لها، وأنها أشد التصاقا بهذا القسم من أقسام العلوم بصفة خاصة من غيره من حقول المعرفة البشرية!
كما أننا لا ندعي لأخبار الغيب في نصوصنا – مثلا - الحق في أن تحل محل البحث الإمبريقي حيثما تدعو الحاجة إلى تحصيل ذلك الصنف من المعارف الذي تستعمل فيه أدوات الحس والتجريب، فإنها ما أنزلت لهذه الغاية أصلا! ولا يعني كلامنا هذا أننا نحشر "الإله" في فجوات العلم، كما يحلو لسدنة الإلحاد الجديد أن يدندنوا!

فإنه لم يقل أحد من العقلاء قطّ أن زعمنا دخول السبب الأول والعلة التفسيرية الأولى لما يجري في هذا العالم من حوادث، في إطار حقل آخر من حقول المعرفة البشرية بخلاف العلوم الإمبريقية والطبيعية (أو الثانوية A Posteriori)، يلزم منه عرقلة مسير علماء الطبيعيات في استخراج واستكشاف طبقات الأسباب المادية "الطبيعية" لتلك الحوادث، بدعوى أن مجرد علمنا بأن "الله خلق هذا وأراد هذا" مؤداه انقطاع البحث وذهاب الأرب منه لدينا رأسا! هذا لا يقوله إلا من جعل من العلم الطبيعي وسيلة لغاية لم يوضع من أجلها أصلا! لا يقوله إلا أصحاب الملة المادية المعاصرة الذين زعموا أن العلم الطبيعي يكفيهم لتحصيل المعرفة بسائر الغيبيات والماورائيات ولإثبات أو نفي العلة الأولى نفسها والإحاطة بعلمها إن وُجدت! من كان دينه أو نظامه الاعتقادي يقوم على تلك المكابرة المعرفية والعقلية الفجة، فهو وحده من يزعم أن المؤمنين بالخالق – وهم عامة بني آدم إلا الملاحدة - يتهربون من الإشكالات العلمية الكبرى ويطرقون طريقا سهلة في جوابها بقولهم إن الله خلق كل شيء في هذا العالم وهو علة كل معلول! هذا الجواب الذي يوجبه العقل الصحيح في منتهى مسلسل الأسباب والتفسيرات لا يكون هروبا إلا عند من يكرهه، لأنه يدري تمام الدراية أنه لا يمنع أصحاب العلوم الإنسانية من مواصلة مسيرهم في ارتقاء سلم الأسباب المادية، وأنه السبيل الوحيدة لتقرير نهاية التسلسل، تلك النهاية الضرورية لقيام ذلك السلم التفسيري كله من أوله إلى آخره على أساس عقلي صحيح!

وفي الحقيقة فإن هذا البرهان الآنف لم أتطرق فيه بعد إلى العوامل السوسيولوجية، أو التي تتعلق بطبيعة وآليات عملية التراكم المعرفي نفسها في المجتمع البشري.

فلعلنا لتمام المطلوب نضيف مقدمة خامسة بهذه العبارة:
- المسألة (أ) لن تحظى بمحاولة واحدة من باحث واحد للوصول إلى جوابها، وإنما بعدة محاولات من جملة كبيرة من الباحثين في أرجاء المعمورة، كل منهم يجري عمله في إطار العمليات التي استعرضناها في المقدمات (م1 – م4)، بما يفضي لا محالة إلى تضاعف الإشكاليات ومواطن النزاع والجدل أضعافا مضاعفة. ....................... (م5)
ونضيف مقدمة سادسة أيضا، عبارتها كالتالي:
- كل باحث يأخذ من المخزون المعرفي بقدر ما تصل إليه يده وما يبلغه بحثه واطلاعه. فقد يجري الباحث بحثا يصل منه إلى نتيجة لا يدري أن غيره قد سبقه إليها في مكان ما، وأنه قد قوبل باعتراضات مفادها كذا وكذا، ولو أنه وقف على ذلك لما وقع في تلك النقائص نفسها. هذا النقص في قدرات كل باحث والجهة التي يخدمها ببحثه، له أبلغ الأثر في المستقبل المعرفي للمسألة (أ). ............ (م6)
ويمكن إضافة مقدمة سابعة كالتالي:
- لا تخلو الزعامات السياسية لأمم البشر من نزاعات على السيادة والسلطان، أساسها جملة من العقائد التي يتنازع عليها أصحابها ويزعم كل منهم أن لها الحق في أن تكون هي أساس الحكم والدولة والنظام القانوني والأخلاقي. هذه النزاعات قد يكون لها تأثيرها البالغ في صياغة الفرضيات العلمية لجواب المسألة (أ) – في حالة كونها من المسائل الطبيعية أو التجريبية – وفي المسارات التي تتخذها الأبحاث تحت جهات بحثية مختلفة في تلك المسألة نفسها. بمعنى أن الخلاف في التشريع الأخلاقي بين الأمم من جانب، وفي غايات الساسة والقادة من تمويل البحث العلمي وتوجيهه من جانب آخر، يؤثر لا محالة في تضخم الإشكاليات البحثية وتعقيدها. إلى جانب تأثير الصراع السياسي نفسه في فقد المخزون المادي للعلم وتضييعه أحيانا (كما كان مصير مكتبة الإسكندرية في العصور السحيقة). ................ (م7)
بل يمكن إضافة مقدمة ثامنة مفادها:
- في غياب نظام أخلاقي يمنع الجهلاء والدخلاء على صناعات المعارف البشرية من الكلام فيها بغير أهلية، يزداد حجم المحتوى "الجهلي" الذي يضطر أصحاب العلوم إلى مجابهته وإفناء أوقاتهم وأعمارهم في رده وإبطاله. ..................... (م8)
هذه المقدمات (م5 – م8) أحسبها كافية لإدخال البعد السوسيولوجي للبرهان السابق، وبها نكون قد أتممنا المقصود من مطلبنا هذا، ولله الحمد والمنة.
--------------
حواشي:
(6) ينبغي التفريق ههنا بين اصطلاحين حادثين في فلسفة المعرفة تطلقان على دائرتين للبحث في قضية العلاقة بين المعرفة – كقضية فلسفية كلية – والمجتمع البشري (بوصفة الكيان الاعتباري الحاوي أو الخازن لتلك المعرفة، وهو كذلك منتجها ومستهلكها في آن). أما الاصطلاح الأول فهو ما يسمى Social Epistemology وهو يطلق على مجال فرعي جديد في فلسفة المعرفة ظهر قبل عقدين من الزمان تقريبا، ويعني بدراسة الآليات التي يمكن بها توجيه وتهذيب النمو المعرفي الإنساني من خلال توجيه العناصر المنتجة للمعرفة في المجتمع البشري توجيها يكون من شأنه أن يصلح ما يعاني منه البنيان المعرفي البشري من آفات مرتبطة بجملة من الخصائص السوسيولوجية التي يتصف بها ذلك المجتمع (Fuller 2002). وأما الاصطلاح الثاني فهو Communitarian Epistemology وهو يطلق على مجال فرعي آخر يستهدف دراسة نمو المعرفة بوصفه عملية اجتماعية محضة. (Kusch 2002) ولعل هذا المصطلح الأخير هو الأنسب لوصف ما نسلكه في هذا المطلب من تصور المآل استنادا إلى واقع الحال في علاقة النمو المعرفي التراكمي بطبيعة المجتمع البشري.

(7) ولهذا جاء ذمّ المشكرين في القرءان في غير موضع بتشبيههم بالأنعام والدواب، وكان ذلك – كما جرى في عرف الناس – ذما لهم، كما يقال لكل بليد "يا حمار" ونحو ذلك، لأن علة التشبيه ههنا إنما هي التخلف عن الخضوع للضابط الأخلاقي الصحيح الذي يوجب على الإنسان أن يفعل كذا وأن يترك كذا (بداية من الإيمان بالخالق والكفر بالطواغيت، ونزولا إلى أدق دقائق الحكم الأخلاقي والسلوكي)! فإذا جاز أن توصف الدواب والأنعام بأنها ضالة عن ذلك الالتزام (إذ ليست هي مطالبة به أصلا)، كان هؤلاء أحق منها بذلك الوصف ولابد، لأنهم يعلمون أنهم مخاطبون بتلك الأحكام والضوابط وأنهم مكلفون بها مسؤولون عنها!

(8) لقد استخرج العلماء ما يربو على عشر فوائد في خطاب هدهد ضئيل لنبي الله سليمان! فلولا أن شاء الخالق جل وعلا أن تكون اللغة وطريقة التخاطب حاجزا من الحواجز التغيبية فيما بيننا وبين تلك المخلوقات، ما وجدنا في ذلك الأمر ما يدعو إلى العجب، وما تطاول المرضى عبدة الهوى على القرءان وعلى خالقهم الذي نزله، سبحانه وتعالى علوا كبيرا! فإنما هي مخلوقات مسخرة وليست مستخلفة، فلا تملك إلا أن تكون عابدة موحدة لله جل وعلا، فاقتضت حكمة الخالق الحكيم أن يبتلينا بقطع التواصل اللغوي بيننا وبينها لصالح الابتلاء الذي من أجله خلقنا سبحانه وتعالى، والله أعلم.

(9) إن عامة مغالطات الفكر الغربي المعاصر فيما يتعلق بمسألة حدود العلم الطبيعي مرجعها في الحقيقة إلى مغالطة كلية لعلي أفرد لها فيما بعد مبحثا مخصوصا إن وفق الله تعالى وأعان، ألا وهي مغالطة تحويل معالم النقص الإبستمي الذي هو خصيصة من خصائص علم الإنسان المخلوق، إلى حقائق أنطولوجية واقعية (أو نقائص تكوينية) في العالم الخارجي نفسه، بما يفضي إلى انسحاب تبعات تلك المعالم ومقتضياتها على قدرة وعلم الخالق، سبحانه وتعالى عما يصفون علوا كبيرا. هذه المغالطة الكبرى تظهر في كلام عامة المدافعين عن فكرة "نظرية كل شيء" هذه ظهورا جليا، حيث ترى كثيرا منهم يقولون – في مناقضة واضحة لاعتقادهم فيما يتعلق بمعقولية ما يجري من أحداث على المستوى الكماتي - إن اعتقادنا بضرورة وجود قانون حاكم موحد لكل صغيرة وكبيرة في الكون يربط سائر القوى الكونية الكبرى ببعضها البعض وعلى جميع المستويات، يجعلنا نراه من المعقول أن نطمح في التوصل إلى معرفة ذلك القانون بصورته النهائية. فهم في ذلك يتقلبون ما بين مغالطتين عقليتين متناقضتين، إحداهما ترجع إلى هذه المغالطة المعرفية الكبرى، والثانية ترجع إلى الغلو والتطرف الأعمى في تعظيم قدرات الإنسان. فبينما يرون أن تلك "العشواء" التي يعانون منها "إبستميا" في فهم وتتبع الجسيمات الكماتية، إنما هي دليل على كون تلك العشواء خصيصة أنطولوجية وجودية لتلك الجسيمات نفسها، بمعنى قيام تركيب المادة نفسه عند ذلك المستوى "تحت-الذري" sub-atomic على فوضى وعشواء متجذرة inherent Chaos لا على نظام محكم يمكن للإنسان أن يدرسه يوما ما كما يصنع على المقياس الأكبر، تراهم في المقابل يزعمون أن النظام الكوني مهما كان معقدا فسيأتي يوم للإنسان، ربما بعد قرون طويلة من التراكم المعرفي، يُحكم فيه سلطانه المعرفي على ذلك النظام إحكاما تاما، وتكون لديه نظرية أو معادلة رياضية تربط كل شيء يراه في هذا الكون برباط معرفي واحد! فهل يعتقدون – مثلا – أن الإنسان قد يأتي عليه يوم، يرتقي فيه منطقه العقلي بالطفرة العشوائية (على نمط روايات الخيال العلمي)، فيصبح ما يراه الآن من المحالات العقلية من جملة الممكنات، وما يراه الآن من الممكنات العقلية من جملة المحالات؟؟
نعم بعضهم يعتقد ذلك تحقيقا، ولا عجب!

(10)- أذكر أنني جادلت ذات يوم شابا أمريكيا من الباحثين في العلوم الطبيعية، وكانت مناظرتنا مكتوبة عبر الانترنت في مراسلة خاصة فيما بيني وبينه، وكانت تدور حول نظرية داروين. فأخذت أحدثه في الفساد الفلسفي والمنطقي للأصول التي تقوم عليها تلك النظرية، ووجدتني في سياق ذلك أستعمل أدوات البحث الفلسفي واللغوي وغير ذلك، فإذا به كلما أتيته بحجة ظاهرة يعترض على ذلك بكونها – أي تلك الحجة – ليست مما يوصف بأنه علم طبيعي science!! فكان وجه الاعتراض عنده منصبا – بالكامل – في حقيقة أنني لست أتكلم بمثل ما يجده الرجل في كتب الأحياء من مناقشات بين الدراونة في تفاصيل نظرية الارتقاء، ولا أستعمل جنس الأدلة التي يستعملونها (من حفريات ونحوها)! وكلما حاولت زحزحته للكلام في القضايا الفلسفية الأولية A-priori التي هي بيت الداء في الملة الداروينية، رأيته يتشبث بأن الفلسفة لن توصلنا إلى شيء، وأنه لن يرتضي في القضية إلا صنف الأدلة الحسية والتجريبية! وكأن تلك الحفريات التي يخرجونها من بطن الأرض، تخرج وعلى كل واحدة منها نقش أو ختم يقول: "أنا دليل على كذا وكذا"، أو وكأن رؤية تلك الحفريات تستوي في الميزان الإمبريقي برؤية تلك الطفرة التي يزعمون أنها أصل الأنواع، أو رؤية ذلك الكائن أحادي الخلية الذي يزعمون أنه نشأ بالصدفة المحضة ثم تفرعت عنه سائر الكائنات بطبقات من الصدفة والتطفر العشوائي! لا يعي هذا المسكين وأمثاله أن مجرد الوصول إلى عد تلك الحفائر الكثيرة من جنس الأدلة على زعمهم هذا، إنما يستلزم التسليم المسبق بصحة جملة من الدعاوى الفلسفية كثير منها ننازعهم فيه بحجج وأدلة عقلية ظاهرة لا يتصورونها ولا يريدون أن يتصوروها أصلا!!

(11) هذا المنطق في إقامة البرهان على نسبة القرءان إلى رب العالمين، منطق صحيح إجمالا، وقد استعمله العلماء في بعض النصوص، لعل من أقواها كلامهم في سورة الروم في قوله تعالى ((وهم من بعد غلبهم سيغبلون . في بضع سنين)). فإنه لا يُعقل أن يتكلم رجل يؤمل في بناء سلطانه وملكوته على هذا الكتاب الذي يزعم نسبته إلى رب العالمين، أن يضع فيه نبوءة مفادها أن جيشا قد هزم لتوه، سينتصر ويتغلب في بضع سنين! مهما كان عبقريا من عباقرة التحليل العسكري والسياسي وما إلى ذلك مما وصفه به المستشرقون، فإن إقدام رجل كهذا على مغامرة كهذه يعد ضربا من السفاهة في الحقيقة! فلو كان ولابد فاعلا، لاكتفى بالتنبؤ بأنهم سينتصرون يوما ما، وينقضي الأمر عند ذلك، ثم لا يضيره ألا يأتي ذلك اليوم أبدا! أما أن يجترئ على تحديد المدة وحصرها في بضع سنين (والبضع في اللغة يطلق على العدد من ثلاث لتسع) فهذا ما لا يمكن تصور وقوعه من إنسان يؤلف كتابا ويزعم نسبته إلى الرب علام الغيوب، بغية أن يؤسس ملكه وسيادته على أمة من الأتباع تأسيسا عليه!
والأمر الذي يجعل هذا الدليل من جملة البراهين القطعية على صدق النبوة، أن النبوءة قد تحققت بالفعل! فقد نُقلت الأخبار بانتصار الروم بعد تسع سنوات من نزول الآية! ولا يصح لعاقل أن يزعم أن ظنية تلك الأخبار لا تكفي لحمل هذه الحجة على محمل القطع واليقين! فإنه لو كانت تلك السنوات التسع قد مرت حقا دون أن تتحقق تلك النبوءة، لكان من المحال أن يجري التاريخ على نحو ما جرى! فيقينا كنا سنرى الأتباع ينصرفون من تحت ذاك الرجل ويكفرون بدعواه، ويقينا كنا سنرى الكفار والأعداء يطيرون بذلك الأمر كل مطار! ولكن شيئا من ذلك لم يحدث البتة! ولم يزدد الأتباع إلا إيمانا، ولم يزدد الناس إلا دخولا في الدين أفواجا، ولم يتكلم أحد قطّ بأن تلك النبوءة لم يأت تأويلها على وجه التمام! فإن لم تجتمع تلك الأدلة والقرائن العقلية لترفع منزلة هذا البرهان على صدق النبوة إلى منزلة الدلالة القطعية، فأي معنى يبقى في اللغة نفسها للقطع واليقين؟
--------------------
مراجع:
Fuller, S. (2002): Social Epistemology, U.S: Indiana University Press.
Kusch, M. (2002): Knowledge as Agreement, U.S.: Oxford University Press.

shawky
12-19-2011, 11:36 AM
السلام عليكم و رحمة الله
ذكرتم انه يتوجب علينا الاطلاع فى هذه المواضيع:

بناء على المقدمة السابقة، أقول إن المشتغلين بالرد على الملاحدة يلزمهم من بعد العلم الشرعي توسيع دائرة الاطلاع على جملة من الحقول الفلسفية المعاصرة ترتيبها كالتالي:

Philosophy of religion فلسفة الأديان
philosophy of science فلسفة العلم الطبيعي (لا سيما علم الأحياء)
philosophy of moralities فلسفة الأخلاق
epistemology مباحث فلسفة المعرفة المعاصرة
philosophy of language فلسفة اللغة والتأويل
philosophy of psychology فلسفة وأصول علم النفس


هل يمكن افادتنا باسماء كتب بعينها أو مؤلف بالاسم أو روابط لهذه الكتب و تكون للمبتدئين غير المتبحرين أو المتخصصين فى الفلسفة.
و جزاكم الله خيرا

نور الدين الدمشقي
11-07-2012, 08:39 PM
للرفع - وارجوا التثبيت

Rengle
09-16-2014, 02:36 PM
حوار ماتع نافع ... جزاكم الله خيراً.

شهاب المسلم
09-17-2014, 09:04 PM
جزاكم الله عنا خيرا ونفع بكم
ولكن لنا رجاء .
نحن طلاب العلم نطمع فى الزياده