أبو يحيى الموحد
11-06-2011, 05:47 PM
قال البخاري في صحيحه:
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
شرح الحديث نقلا من فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر:
قَوْله : ( عَنْ أَبِيهِ )
هُوَ أَبُو سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ كَيْسَانُ , وَقَدْ سَمِعَ سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ الْكَثِير مِنْ أَبِي هُرَيْرَة وَسَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَوَقَعَ الْأَمْرَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَهُوَ دَالّ عَلَى تَثَبُّت سَعِيد وَتَحَرِّيه .
قَوْله : ( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاء نَبِيّ إِلَّا أُعْطِيَ )
هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَة تَقْتَضِي إِيمَان مَنْ شَاهَدَهَا بِصِدْقِهِ , وَلَا يَضُرّهُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَة . ( مِنْ الْآيَات ) أَيْ الْمُعْجِزَات الْخَوَارِق .
قَوْله : ( مَا مِثْله آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر )
مَا مَوْصُولَة وَقَعَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِأُعْطِيَ , وَمِثْله مُبْتَدَأ , وَآمَنَ خَبَره , وَالْمِثْل يُطْلَق وَيُرَاد بِهِ عَيْن الشَّيْء وَمَا يُسَاوِيه , وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ آيَة أَوْ أَكْثَر مِنْ شَأْن مَنْ يُشَاهِدهَا مِنْ الْبَشَر أَنْ يُؤْمِن بِهِ لِأَجْلِهَا , وَعَلَيْهِ بِمَعْنَى اللَّام أَوْ الْبَاء الْمُوَحَّدَة , وَالنُّكْتَة فِي التَّعْبِير بِهَا تَضَمُّنهَا مَعْنَى الْغَلَبَة , أَيْ يُؤْمِن بِذَلِكَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع دَفْعه عَنْ نَفْسه , لَكِنْ قَدْ يَجْحَد فَيُعَانِد , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الرَّاجِع إِلَى الْمَوْصُول ضَمِير الْمَجْرُور فِي عَلَيْهِ وَهُوَ حَال , أَيْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ فِي التَّحَدِّي , وَالْمُرَاد بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَات وَمَوْقِع الْمِثْل مَوْقِعه مِنْ قَوْله : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) أَيْ عَلَى صِفَته مِنْ الْبَيَان وَعُلُوّ الطَّبَقَة فِي الْبَلَاغَة .
( تَنْبِيه )
: قَوْله " آمَنَ " وَقَعَ فِي رِوَايَة حَكَاهَا اِبْن قُرْقُول " أُومِنَ " بِضَمِّ الْهَمْزَة ثُمَّ وَاو وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الِاعْتِصَام قَالَ وَكَتَبَهَا بَعْضهمْ بِالْيَاءِ الْأَخِيرَة بَدَل الْوَاو وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ " أَمِنَ " بِغَيْرِ مَدّ مِنْ الْأَمَان , وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف .
قَوْله : ( وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّه إِلَيَّ )
أَيْ إِنَّ مُعْجِزَتِي الَّتِي تَحَدَّيْت بِهَا الْوَحْيُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ وَهُوَ الْقُرْآن لِمَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعْجَاز الْوَاضِح , وَلَيْسَ الْمُرَاد حَصْر مُعْجِزَاته فِيهِ وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْمُعْجِزَات مَا أُوتِيَ مَنْ تَقَدَّمَهُ , بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ الْمُعْجِزَة الْعُظْمَى الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا دُون غَيْره , لِأَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مُعْجِزَة خَاصَّة بِهِ لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْره تَحَدَّى بِهَا قَوْمه , وَكَانَتْ مُعْجِزَة كُلّ نَبِيّ تَقَع مُنَاسِبَة لِحَالِ قَوْمه كَمَا كَانَ السِّحْر فَاشِيًا عِنْد فِرْعَوْن فَجَاءَهُ مُوسَى بِالْعَصَا عَلَى صُورَة مَا يَصْنَع السَّحَرَة لَكِنَّهَا تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا , وَلَمْ يَقَع ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إِحْيَاء عِيسَى الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص لِكَوْنِ الْأَطِبَّاء وَالْحُكَمَاء كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَان فِي غَايَة الظُّهُور , فَأَتَاهُمْ مِنْ جِنْس عَمَلهمْ بِمَا لَمْ تَصِل قُدْرَتهمْ إِلَيْهِ , وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْعَرَب الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَايَة مِنْ الْبَلَاغَة جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْله فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ الْقُرْآن لَيْسَ لَهُ مِثْل لَا صُورَة وَلَا حَقِيقَة , بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْمُعْجِزَات فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ مِثْل . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مِنْ الْمُعْجِزَات مَا كَانَ مِثْله لِمَنْ كَانَ قَبْله صُورَة أَوْ حَقِيقَة , وَالْقُرْآن لَمْ يُؤْتَ أَحَد قَبْله مِثْله , فَلِهَذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ " فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا " . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ الَّذِي أُوتِيته لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْيِيل , وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام مُعْجِز لَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَأْتِي بِمَا يَتَخَيَّل مِنْهُ التَّشْبِيه بِهِ , بِخِلَافِ غَيْره فَإِنَّهُ قَدْ يَقَع فِي مُعْجِزَاتهمْ مَا يَقْدِر السَّاحِر أَنْ يُخَيِّل شَبَهه فَيَحْتَاج مَنْ يُمَيِّز بَيْنهمَا إِلَى نَظَر , وَالنَّظَر عُرْضَة لِلْخَطَأِ , فَقَدْ يُخْطِئ النَّاظِر فَيَظُنّ تَسَاوِيهِمَا . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاء اِنْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارهمْ فَلَمْ يُشَاهِدهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا , وَمُعْجِزَة الْقُرْآن مُسْتَمِرَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَخَرْقه لِلْعَادَةِ فِي أُسْلُوبه وَبَلَاغَته وَإِخْبَاره بِالْمَغِيبَاتِ , فَلَا يَمُرّ عَصْر مِنْ الْأَعْصَار إِلَّا وَيَظْهَر فِيهِ شَيْء مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلّ عَلَى صِحَّة دَعْوَاهُ , وَهَذَا أَقْوَى الْمُحْتَمَلَات , وَتَكْمِيله فِي الَّذِي بَعْده . وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَات الْمَاضِيَة كَانَتْ حِسِّيَّة تُشَاهَد بِالْأَبْصَارِ كَنَاقَةِ صَالِح وَعَصَا مُوسَى , وَمُعْجِزَة الْقُرْآن تُشَاهَد بِالْبَصِيرَةِ فَيَكُون مَنْ يَتْبَعهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَر , لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَد بِعَيْنِ الرَّأْس يَنْقَرِض بِانْقِرَاضِ مُشَاهِده , وَاَلَّذِي يُشَاهَد بِعَيْنِ الْعَقْل بَاقٍ يُشَاهِدهُ كُلّ مَنْ جَاءَ بَعْد الْأَوَّل مُسْتَمِرًّا .
قُلْت : وَيُمْكِن نَظْم هَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا فِي كَلَام وَاحِد ; فَإِنَّ مُحَصَّلهَا لَا يُنَافِي بَعْضه بَعْضًا .
قَوْله : ( فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا يَوْم الْقِيَامَة )
رَتَّبَ هَذَا الْكَلَام عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعْجِزَة الْقُرْآن الْمُسْتَمِرَّة لِكَثْرَةِ فَائِدَته وَعُمُوم نَفْعه , لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَة وَالْحُجَّة وَالْإِخْبَار بِمَا سَيَكُونُ , فَعَمَّ نَفْعه مَنْ حَضَرَ وَمَنْ غَابَ وَمَنْ وُجِدَ وَمَنْ سَيُوجَدُ , فَحَسُنَ تَرْتِيب الرَّجْوَى الْمَذْكُورَة عَلَى ذَلِكَ , وَهَذِهِ الرَّجْوَى قَدْ تَحَقَّقَتْ , فَإِنَّهُ أَكْثَر الْأَنْبِيَاء تَبَعًا , وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَاب الرِّقَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَدِيث بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَة أَنَّ الْقُرْآن إِنَّمَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمَلَك لَا بِالْمَنَامِ وَلَا بِالْإِلْهَامِ . وَقَدْ جَمَعَ بَعْضهمْ إِعْجَاز الْقُرْآن فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء : أَحَدهَا حُسْن تَأْلِيفه وَالْتِئَام كَلِمه مَعَ الْإِيجَاز وَالْبَلَاغَة , ثَانِيهَا صُورَة سِيَاقه وَأُسْلُوبه الْمُخَالِف لِأَسَالِيب كَلَام أَهْل الْبَلَاغَة مِنْ الْعَرَب نَظْمًا وَنَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ عُقُولهمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِتْيَان بِشَيْءٍ مِثْله مَعَ تَوَفُّر دَوَاعِيهمْ عَلَى تَحْصِيل ذَلِكَ وَتَقْرِيعه لَهُمْ عَلَى الْعَجْز عَنْهُ , ثَالِثهَا مَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِخْبَار عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَال الْأُمَم السَّالِفَة وَالشَّرَائِع الدَّاثِرَة مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَم مِنْهُ بَعْضه إِلَّا النَّادِر مِنْ أَهْل الْكِتَاب , رَابِعهَا الْإِخْبَار بِمَا سَيَأْتِي مِنْ الْكَوَائِن الَّتِي وَقَعَ بَعْضهَا فِي الْعَصْر النَّبَوِيّ وَبَعْضهَا بَعْده . وَمِنْ غَيْر هَذِهِ الْأَرْبَعَة آيَات وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْم فِي قَضَايَا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَعَجَزُوا عَنْهَا مَعَ تَوَفُّر دَوَاعِيهمْ عَلَى تَكْذِيبه , كَتَمَنِّي الْيَهُود الْمَوْت , وَمِنْهَا الرَّوْعَة الَّتِي تَحْصُل لِسَامِعِهِ , وَمِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلّ مِنْ تَرْدَاده وَسَامِعه لَا يَمُجّهُ وَلَا يَزْدَاد بِكَثْرَةِ التَّكْرَار إِلَّا طَرَاوَة وَلَذَاذَة . وَمِنْهَا أَنَّهُ آيَة بَاقِيَة لَا تُعْدَم مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا , وَمِنْهَا جَمْعه لِعُلُومِ وَمَعَارِف لَا تَنْقَضِي عَجَائِبهَا وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدهَا . ا ه مُلَخَّصًا مِنْ كَلَام عِيَاض , وَغَيْره .
حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثنا سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة قال
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة .
شرح الحديث نقلا من فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر:
قَوْله : ( عَنْ أَبِيهِ )
هُوَ أَبُو سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ كَيْسَانُ , وَقَدْ سَمِعَ سَعِيد الْمَقْبُرِيُّ الْكَثِير مِنْ أَبِي هُرَيْرَة وَسَمِعَ مِنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَة , وَوَقَعَ الْأَمْرَانِ فِي الصَّحِيحَيْنِ , وَهُوَ دَالّ عَلَى تَثَبُّت سَعِيد وَتَحَرِّيه .
قَوْله : ( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاء نَبِيّ إِلَّا أُعْطِيَ )
هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَة تَقْتَضِي إِيمَان مَنْ شَاهَدَهَا بِصِدْقِهِ , وَلَا يَضُرّهُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَة . ( مِنْ الْآيَات ) أَيْ الْمُعْجِزَات الْخَوَارِق .
قَوْله : ( مَا مِثْله آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَر )
مَا مَوْصُولَة وَقَعَتْ مَفْعُولًا ثَانِيًا لِأُعْطِيَ , وَمِثْله مُبْتَدَأ , وَآمَنَ خَبَره , وَالْمِثْل يُطْلَق وَيُرَاد بِهِ عَيْن الشَّيْء وَمَا يُسَاوِيه , وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ آيَة أَوْ أَكْثَر مِنْ شَأْن مَنْ يُشَاهِدهَا مِنْ الْبَشَر أَنْ يُؤْمِن بِهِ لِأَجْلِهَا , وَعَلَيْهِ بِمَعْنَى اللَّام أَوْ الْبَاء الْمُوَحَّدَة , وَالنُّكْتَة فِي التَّعْبِير بِهَا تَضَمُّنهَا مَعْنَى الْغَلَبَة , أَيْ يُؤْمِن بِذَلِكَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيع دَفْعه عَنْ نَفْسه , لَكِنْ قَدْ يَجْحَد فَيُعَانِد , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى ( وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا ) وَقَالَ الطِّيبِيُّ : الرَّاجِع إِلَى الْمَوْصُول ضَمِير الْمَجْرُور فِي عَلَيْهِ وَهُوَ حَال , أَيْ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ فِي التَّحَدِّي , وَالْمُرَاد بِالْآيَاتِ الْمُعْجِزَات وَمَوْقِع الْمِثْل مَوْقِعه مِنْ قَوْله : ( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ) أَيْ عَلَى صِفَته مِنْ الْبَيَان وَعُلُوّ الطَّبَقَة فِي الْبَلَاغَة .
( تَنْبِيه )
: قَوْله " آمَنَ " وَقَعَ فِي رِوَايَة حَكَاهَا اِبْن قُرْقُول " أُومِنَ " بِضَمِّ الْهَمْزَة ثُمَّ وَاو وَسَيَأْتِي فِي كِتَاب الِاعْتِصَام قَالَ وَكَتَبَهَا بَعْضهمْ بِالْيَاءِ الْأَخِيرَة بَدَل الْوَاو وَفِي رِوَايَة الْقَابِسِيّ " أَمِنَ " بِغَيْرِ مَدّ مِنْ الْأَمَان , وَالْأَوَّل هُوَ الْمَعْرُوف .
قَوْله : ( وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيته وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّه إِلَيَّ )
أَيْ إِنَّ مُعْجِزَتِي الَّتِي تَحَدَّيْت بِهَا الْوَحْيُ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيَّ وَهُوَ الْقُرْآن لِمَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِعْجَاز الْوَاضِح , وَلَيْسَ الْمُرَاد حَصْر مُعْجِزَاته فِيهِ وَلَا أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ مِنْ الْمُعْجِزَات مَا أُوتِيَ مَنْ تَقَدَّمَهُ , بَلْ الْمُرَاد أَنَّهُ الْمُعْجِزَة الْعُظْمَى الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا دُون غَيْره , لِأَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مُعْجِزَة خَاصَّة بِهِ لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْره تَحَدَّى بِهَا قَوْمه , وَكَانَتْ مُعْجِزَة كُلّ نَبِيّ تَقَع مُنَاسِبَة لِحَالِ قَوْمه كَمَا كَانَ السِّحْر فَاشِيًا عِنْد فِرْعَوْن فَجَاءَهُ مُوسَى بِالْعَصَا عَلَى صُورَة مَا يَصْنَع السَّحَرَة لَكِنَّهَا تَلَقَّفَتْ مَا صَنَعُوا , وَلَمْ يَقَع ذَلِكَ بِعَيْنِهِ لِغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إِحْيَاء عِيسَى الْمَوْتَى وَإِبْرَاء الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص لِكَوْنِ الْأَطِبَّاء وَالْحُكَمَاء كَانُوا فِي ذَلِكَ الزَّمَان فِي غَايَة الظُّهُور , فَأَتَاهُمْ مِنْ جِنْس عَمَلهمْ بِمَا لَمْ تَصِل قُدْرَتهمْ إِلَيْهِ , وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْعَرَب الَّذِينَ بُعِثَ فِيهِمْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَايَة مِنْ الْبَلَاغَة جَاءَهُمْ بِالْقُرْآنِ الَّذِي تَحَدَّاهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْله فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى ذَلِكَ . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ الْقُرْآن لَيْسَ لَهُ مِثْل لَا صُورَة وَلَا حَقِيقَة , بِخِلَافِ غَيْره مِنْ الْمُعْجِزَات فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ مِثْل . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مِنْ الْمُعْجِزَات مَا كَانَ مِثْله لِمَنْ كَانَ قَبْله صُورَة أَوْ حَقِيقَة , وَالْقُرْآن لَمْ يُؤْتَ أَحَد قَبْله مِثْله , فَلِهَذَا أَرْدَفَهُ بِقَوْلِهِ " فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا " . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ الَّذِي أُوتِيته لَا يَتَطَرَّق إِلَيْهِ تَخْيِيل , وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام مُعْجِز لَا يَقْدِر أَحَد أَنْ يَأْتِي بِمَا يَتَخَيَّل مِنْهُ التَّشْبِيه بِهِ , بِخِلَافِ غَيْره فَإِنَّهُ قَدْ يَقَع فِي مُعْجِزَاتهمْ مَا يَقْدِر السَّاحِر أَنْ يُخَيِّل شَبَهه فَيَحْتَاج مَنْ يُمَيِّز بَيْنهمَا إِلَى نَظَر , وَالنَّظَر عُرْضَة لِلْخَطَأِ , فَقَدْ يُخْطِئ النَّاظِر فَيَظُنّ تَسَاوِيهِمَا . وَقِيلَ الْمُرَاد أَنَّ مُعْجِزَات الْأَنْبِيَاء اِنْقَرَضَتْ بِانْقِرَاضِ أَعْصَارهمْ فَلَمْ يُشَاهِدهَا إِلَّا مَنْ حَضَرَهَا , وَمُعْجِزَة الْقُرْآن مُسْتَمِرَّة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة , وَخَرْقه لِلْعَادَةِ فِي أُسْلُوبه وَبَلَاغَته وَإِخْبَاره بِالْمَغِيبَاتِ , فَلَا يَمُرّ عَصْر مِنْ الْأَعْصَار إِلَّا وَيَظْهَر فِيهِ شَيْء مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ أَنَّهُ سَيَكُونُ يَدُلّ عَلَى صِحَّة دَعْوَاهُ , وَهَذَا أَقْوَى الْمُحْتَمَلَات , وَتَكْمِيله فِي الَّذِي بَعْده . وَقِيلَ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعْجِزَات الْمَاضِيَة كَانَتْ حِسِّيَّة تُشَاهَد بِالْأَبْصَارِ كَنَاقَةِ صَالِح وَعَصَا مُوسَى , وَمُعْجِزَة الْقُرْآن تُشَاهَد بِالْبَصِيرَةِ فَيَكُون مَنْ يَتْبَعهُ لِأَجْلِهَا أَكْثَر , لِأَنَّ الَّذِي يُشَاهَد بِعَيْنِ الرَّأْس يَنْقَرِض بِانْقِرَاضِ مُشَاهِده , وَاَلَّذِي يُشَاهَد بِعَيْنِ الْعَقْل بَاقٍ يُشَاهِدهُ كُلّ مَنْ جَاءَ بَعْد الْأَوَّل مُسْتَمِرًّا .
قُلْت : وَيُمْكِن نَظْم هَذِهِ الْأَقْوَال كُلّهَا فِي كَلَام وَاحِد ; فَإِنَّ مُحَصَّلهَا لَا يُنَافِي بَعْضه بَعْضًا .
قَوْله : ( فَأَرْجُو أَنْ أَكُون أَكْثَرهمْ تَابِعًا يَوْم الْقِيَامَة )
رَتَّبَ هَذَا الْكَلَام عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُعْجِزَة الْقُرْآن الْمُسْتَمِرَّة لِكَثْرَةِ فَائِدَته وَعُمُوم نَفْعه , لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الدَّعْوَة وَالْحُجَّة وَالْإِخْبَار بِمَا سَيَكُونُ , فَعَمَّ نَفْعه مَنْ حَضَرَ وَمَنْ غَابَ وَمَنْ وُجِدَ وَمَنْ سَيُوجَدُ , فَحَسُنَ تَرْتِيب الرَّجْوَى الْمَذْكُورَة عَلَى ذَلِكَ , وَهَذِهِ الرَّجْوَى قَدْ تَحَقَّقَتْ , فَإِنَّهُ أَكْثَر الْأَنْبِيَاء تَبَعًا , وَسَيَأْتِي بَيَان ذَلِكَ وَاضِحًا فِي كِتَاب الرِّقَاق إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى . وَتَعَلَّقَ هَذَا الْحَدِيث بِالتَّرْجَمَةِ مِنْ جِهَة أَنَّ الْقُرْآن إِنَّمَا نَزَلَ بِالْوَحْيِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْمَلَك لَا بِالْمَنَامِ وَلَا بِالْإِلْهَامِ . وَقَدْ جَمَعَ بَعْضهمْ إِعْجَاز الْقُرْآن فِي أَرْبَعَة أَشْيَاء : أَحَدهَا حُسْن تَأْلِيفه وَالْتِئَام كَلِمه مَعَ الْإِيجَاز وَالْبَلَاغَة , ثَانِيهَا صُورَة سِيَاقه وَأُسْلُوبه الْمُخَالِف لِأَسَالِيب كَلَام أَهْل الْبَلَاغَة مِنْ الْعَرَب نَظْمًا وَنَثْرًا حَتَّى حَارَتْ فِيهِ عُقُولهمْ وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الْإِتْيَان بِشَيْءٍ مِثْله مَعَ تَوَفُّر دَوَاعِيهمْ عَلَى تَحْصِيل ذَلِكَ وَتَقْرِيعه لَهُمْ عَلَى الْعَجْز عَنْهُ , ثَالِثهَا مَا اِشْتَمَلَ عَلَيْهِ مِنْ الْإِخْبَار عَمَّا مَضَى مِنْ أَحْوَال الْأُمَم السَّالِفَة وَالشَّرَائِع الدَّاثِرَة مِمَّا كَانَ لَا يَعْلَم مِنْهُ بَعْضه إِلَّا النَّادِر مِنْ أَهْل الْكِتَاب , رَابِعهَا الْإِخْبَار بِمَا سَيَأْتِي مِنْ الْكَوَائِن الَّتِي وَقَعَ بَعْضهَا فِي الْعَصْر النَّبَوِيّ وَبَعْضهَا بَعْده . وَمِنْ غَيْر هَذِهِ الْأَرْبَعَة آيَات وَرَدَتْ بِتَعْجِيزِ قَوْم فِي قَضَايَا أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَهَا فَعَجَزُوا عَنْهَا مَعَ تَوَفُّر دَوَاعِيهمْ عَلَى تَكْذِيبه , كَتَمَنِّي الْيَهُود الْمَوْت , وَمِنْهَا الرَّوْعَة الَّتِي تَحْصُل لِسَامِعِهِ , وَمِنْهَا أَنَّ قَارِئَهُ لَا يَمَلّ مِنْ تَرْدَاده وَسَامِعه لَا يَمُجّهُ وَلَا يَزْدَاد بِكَثْرَةِ التَّكْرَار إِلَّا طَرَاوَة وَلَذَاذَة . وَمِنْهَا أَنَّهُ آيَة بَاقِيَة لَا تُعْدَم مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا , وَمِنْهَا جَمْعه لِعُلُومِ وَمَعَارِف لَا تَنْقَضِي عَجَائِبهَا وَلَا تَنْتَهِي فَوَائِدهَا . ا ه مُلَخَّصًا مِنْ كَلَام عِيَاض , وَغَيْره .