المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : شرح دليل عقلي من أدلة الفطرة من شرح العقيدة الطحاوية



عبد الغفور
11-06-2011, 07:50 PM
الموضوع منقول من ملتقى العقيدة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد

هذه محاولة لشرح بعض أدلة الفطرة العقلية ، وهي من المسائل التي قد يوجد فيها نوع من الصعوبة في الفهم على بعض الناس
حاولت تبسيطها قدر الإمكان ، واستفدت في ذلك من كتب شيخ الإسلام والعلامة ابن القيم رحمهما الله
ومنهجي في ذلك : أورد نص ابن أبي العز رحمه الله ، واعقبه بالشرح الموجز .

قال ابن أبي العز :

مِنْهَا ، أَنْ يُقَالَ : لَا رَيْبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ وَالْإِرَادَاتِ مَا يَكُونُ حَقًّا ، وَتَارَةً مَا يَكُونُ بَاطِلًا ،
وَهُوَ حَسَّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالْإِرَادَات ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ لِأَحَدِهِمَا .

وَنَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا عُرِضَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ وَأَنْ يُكَذِّبَ وَيَتَضَرَّرَ ، مَالَ بِفِطْرَتِهِ إِلَى أَنْ يُصَدِّقَ وَيَنْتَفِعَ ،
وَحِينَئِذٍ فَالِاعْتِرَافُ بِوُجُودِ الصَّانِعِ الْإِيمَانُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ أَوْ نَقِيضُهُ ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ قَطْعًا ، فَتَعَيَّنَ الْأَوَّلُ ،
فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْفِطْرَةِ مَا يَقْتَضِي مَعْرِفَةَ الصَّانِعِ وَالْإِيمَانَ بِهِ .

الشرح :
الكلام هنا مبني على مقدمات متعددة ، المؤلف رحمه الله يريد إثبات الفطرة بالدليل العقلي ، فسلك في سبيل ذلك
مجموعة من المقدمات :

1- أن كل إنسان تحصل له اعتقادات (قد تكون حقا ، وقد تكون باطلا)
وتحصل له إرادات (قد تكون نافعة متضمنه للمصلحة والخير ، وقد تكون ضارة متضمنة للمفسدة والشر)

2- أنه لابد من مرجح يرجح إحدى الطرفين (إما جانب الحق والصدق والخير، أو جانب الباطل والكذب والشر)

3- إذا عرض على الإنسان أمران : أحدهما : اعتقاد الحق والصدق وأن يريد ما ينفعه ،
والأمر الآخر: عرض عليه اعتقاد الباطل والكذب وإرادة ما يضره ، فأيهما يقدم ؟



لاشك أنه يقدم اعتقاد الحق والصدق وإرادة النافع .
[واعتبر هذا بالجاهلية قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، كانوا يثنون على الصدق وصلة الرحم والكرم ونحوها مع كونهم مشركين. ]

4- لماذا يميل الإنسان إلى الحق والصدق وإرادة ما ينفع ؟ وينفر عن الباطل والكذب ، وإرادة ما يضره ؟
الجواب : لأنه فطر على ذلك ، إذن ففي فطرته قوة تقتضي اعتقاد الحق والصدق وإرادة الخير .

5- الاعتراف بوجود الله والإيمان به ومعرفته ومحبته من أي القسمين :
أ- الحق والصدق والخير .
ب- أو من الباطل والكذب والشر ؟

الجواب : القسم الثاني باطل بالضرورة ، فتعين القسم الأول ، فثبت أن كل إنسان مفطور على الإقرار بوجود الله والإيمان به ومعرفته ومحبته .


وإن شئت قلت على طريقة أهل المنطق :

المقدمة الأولى : كل إنسان مفطور على ----------------اعتقاد الحق والصدق وإرادة ما ينفعه .

المقدمة الثانية : الإقرار بوجود الله والإيمان به ومعرفته ومحبته ----- هو اعتقاد حق وصدق ينفع الإنسان .
------------------------------
النتيجة : بعد حذف الحد الأوسط (وهو المكرر من المقدمتين)

كل إنسان مفطور على الإقرار بوجود الله والإيمان به ومحبته . وهذا هو المطلوب إثباته .

ملاحظات :
المقدمة الثانية : ضرورية .
أما المقدمة الأولى فقد تم الاستدلال عليها .

والله أعلم.
المصادر : انظر : درء التعارض (8/456 ) وما بعدها ، شفاء العليل لابن القيم (ص 303) وما بعدها .

عبد الغفور
11-06-2011, 07:52 PM
شرح الدليل الثاني :

قال ابن أبي العز : وَمِنْهَا : أَنَّهُ مَفْطُورٌ عَلَى جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ بِحسه (وفي نسخة: بحسبه).
وَحِينَئِذٍ لَمْ تَكُنْ فِطْرَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مُسْتَقِلَّةً بِتَحْصِيلِ ذَلِكَ ، بَلْ يَحْتَاجُ إِلَى سَبَبٍ مُعَيَّنٍ لِلْفِطْرَةِ ، كَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوِهِ ،
فَإِذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَانْتَفَى الْمَانِعُ ، اسْتَجَابَتْ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمُقْتَضِي لِذَلِكَ .

الشرح :

1- الإنسان مفطور على جلب المنافع ودفع المضار . وهذا تم إثباته في الدليل الأول .

2- بعث الله تعالى الرسل ، فاستجاب الناس لدعوتهم ، وهذا يدل عليه الواقع .

3- استجابة الناس لدعوة الرسل إنما هي استجابة لما في نفوسهم من مقتضى الفطرة . وهذا دليل على وجود الفطرة لديهم .

وهنا اعتراضان :

الأول : إذا كانت الفطرة موجودة لدى الناس ، لماذا لم يؤمنوا بدون الحاجة للرسل ؟
وجوابه : لأن الفطرة غير مستقلة بتحصيل الإيمان ، فلا بد لها من سبب معين كالتعليم ونحوه لكي يحصل مقتضاها .
وليس معنى قولنا أنه يولد على الفطرة أنه يولد عارفا بالتوحيد ، فمن المعلوم أن الله تعالى أخرج الناس من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئا
ولكن معناه أن مقتضي الإيمان موجود لدية .

الاعتراض الآخر : هناك كثير من الناس لم يؤمنوا ، وهذا يعكر عليكم قولكم أن الناس آمنوا واستجابوا لمقتضى الفطرة .
وجوابه : من لم يؤمن إنما منعه من ذلك وجود مانع منع الفطرة عن مقتضاها .

يقول ابن القيم رحمه الله في شفاء العليل : فإذا لم يحصل مانع يمنع الفطرة عن مقتضاها ، استجابت لدعوة الرسل ولا بد ، بما فيها من المقتضى لذلك ،
كمن دعا جائعا أو ظمآن إلى شراب وطعام لذيذ نافع ، لا تبعة فيه عليه ، ولا يكلفه ثمنه ، فإنه ما لم يحصل هناك مانع ، فإنه يجيبه ولا بد . اهـ


المصادر : نفس المصادر السابقة .

عبد الغفور
11-06-2011, 07:54 PM
شرح الدليل الثالث :

قال ابن أبي العز : وَمِنْهَا : أَنْ يُقَالَ : مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ قَابِلَةٌ لِلْعِلْمِ وَإِرَادَةِ الْحَقِّ ، وَمُجَرَّدُ التَّعْلِيمِ وَالتَّحْضِيضِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْإِرَادَةَ ،
لَوْلَا أَنَّ فِي النَّفْسِ قُوَّةً تَقْبَلُ ذَلِكَ ، وَإِلَّا فَلَوْ عُلِّمَ الْجُماد [وفي نسخة : الجهال ويظهر أنها تصحيف]
وَالْبَهَائِمُ وَحُضِّضَا لَمْ يَقْبَلَا . وَمَعْلُومٌ أَنَّ حُصُولَ إِقْرَارِهَا بِالصَّانِعِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ مُنْفَصِلٍ مِنْ خَارِجٍ ،
وَتَكُونُ الذَّاتُ كَافِيَةً فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانَ الْمُقْتَضِي قَائِمًا فِي النَّفْسِ وَقُدِّرَ عَدَمُ الْمَعَارِضِ ، فَالْمُقْتَضِي السَّالِمُ عَنِ الْمَعَارِضِ يُوجِبُ مُقْتَضَاهُ ،
فَعُلِمَ أَنَّ الْفِطْرَةَ السَّلِيمَةَ إِذَا لَمْ يَحْصُلْ لَهَا مَن يُفْسِدُهَا ، كَانَتْ مُقِرَّةً بِالصَّانِعِ عَابِدَةً لَهُ .


الشرح :
يلاحظ أن هذا الدليل أوضح من سابقيه ، وهو مبني على عدة مقدمات وهي واضحة في غالبها ، ولكن المشكلة في الربط بين المقدمات ، ويمكن تلخيص الشرح فيما يلي :

1- كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق .
الشرح : مجرد التعليم والتحضيض لا يوجد العلم والإرادة ، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك .
الدليل : لو علم الجماد والبهائم وحضضا لم يقبلا ، ولم يحصل لهما ما يحصل لبني آدم ، مع أن السبب في الموضعين واحد ، فعلم أن ذلك لاختلاف المحل القابل .

2- حصول هذا الإيمان والقرار بوجود الله تعالى ومحبته في النفس ، إما أن يكون بسبب خارجي أو داخلي من ذات النفس .
أ- السبب الخارجي لا يمكن أن يكون بنفسه موجبا لحصول العلم والإرادة في النفس ،
وسبق الاستدلال عليها ، بالجماد والحيوان ، فخطابهم لا يوجب حصول المطلوب .

ب- السبب الداخلي ، أي من ذات النفس ، أي بقوة منها تقبل ذلك ، وهذه القوة لا تتوقف على أخرى ؛ لأن الثانية يقال فيها ما يقال في الأولى ،
فتحتاج إلى ثالثة ، والثالثة إلى رابعة ، وهكذا ، فإن استمر إلى مالا نهاية فهو تسلسل ممتنع ، وإن رجع فيكون دورا قبليا ممتنعا أيضا .
(وأيضا : الإنسان وقواه متناهي ، يعني له نهاية ، فكيف تكون فيه قوى غير متناهية . )

إذن ثبت أن في النفس قوة من ذات النفس وليست من الخارج تقتضي الإقرار بالله تعالى والإيمان به ومحبته .

3- إذا كان المقتضي للإقرار بوجود الله تعالى والإيمان به ومحبته موجودا في النفس ، فالمقتضي السالم عن المعارض المقاوم يوجب مقتضاه .
وبهذا تم إثبات أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها من يفسدها كانت مقرة بالله تعالى عابدة له ؛ لأن هذا هو مقتضاها ، كما تم البرهنة عليه أعلاه .
والله أعلم .

توضيحات :
الدور القبلي : كأن تقول: لا يوجد (س) حتى يوجد (ص) ، ولا يوجد (ص) حتى يوجد (س) . وهو ممتنع باتفاق العقلاء .

التسلسل في العلل : كأن تقول : لا يوجد (أ) حتى يوجد (ب) ، ولا يوجد (ب) حتى يوجد (ج) ، ولا يوجد (ج)
حتى يوجد (د) وهكذا إلى ما لا نهاية . وهو أيضا ممتنع باتفاق العقلاء .

عبد الغفور
11-06-2011, 07:56 PM
بسم الله الرحمن الرحيم


شرح الدليل الرابع :

قال ابن أبي العز : وَمِنْهَا : أَنْ يُقَالَ ، أَنَّهُ إِذَا لَمْ يَحْصُلِ الْمُفْسِدُ الْخَارِجُ ، وَلَا الْمُصْلِحُ الْخَارِجُ ، كَانَتِ الْفِطْرَةُ مُقْتَضِيَةً لِلصَّلَاحِ ،
لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ فِيهَا لِلْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ قَائِمٌ ، وَالْمَانِعَ مُنْتَفٍ .

الشرح :
هذا الدليل من النوع السهل ، ولهذا سأكتفي بتجزئته إلى عناصر حتى يتضح المراد منه

1- الفطرة تقتضي الصلاح ، التعليل : لأن مقتضي العلم والإرادة قائم بها .

2- ليس هنا مانع ؛ لا في الفطرة ، ولا خارجا عنها .

3- لم يحصل مفسد ، ولا مصلح خارجي .

النتيجة : هذا مقتضٍ تام ، فيجب وجود مقتضاه ، وهو الإقرار بالله تعالى ومحبته .

والفرق بين هذا والذي قبله :

أن السابق استدلال بوقوع الإقرار بدون سبب خارجي ، وهنا استدلال بوجود المقتضي التام على وجوب حصول مقتضاه .

وهنا تنبيه : ليس المقصود هنا أن المقتضي التام يجب وجوده لكل أحد فإن هذا ممتنع ، بل إن الفطرة تقتضي وجوده ، كما تقتضي فطرة الصبي
شرب لبن أمه ، فلو لم يعرض له مانع للزم وجود الشرب ، لكن قد يعرض له مرض فيه أو في أمه أو غير ذلك ،
يوجب نفوره عن شرب لبنها وحب العبد لربه هو مفطور فيه أعظم مما فطر فيه حبه للبن أمه .

توضيحات :
المقتضي التام : هو الذي يستلزم حصول مقتضاه .

أمثله :
الهدى التام : المستلزم لحصول الاهتداء وهو المطلوب في قوله (اهدنا الصراط المستقيم ) .
الإنذار التام : المستلزم خشية المنذر وحذره مما أنذر به من العذاب .
التعليم التام : المستلزم لحصول العلم في نفس المتعلم .

المقتضي غير التام : المقتضي الموجب المتوقف اقتضاؤه على شروط وزوال موانع .
وهذا قد يتخلف عنه موجبه لفقدان شروطه ، مثال: قوله تعالى ( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى )
فالمراد بالهداية هنا : البيان والإرشاد المقتضي للاهتداء ، وإن كان موقوفاً على شروط ، وله موانع .

والله أعلم .

المصادر : سبق ذكرها .

(يتبع)

عبد الغفور
11-06-2011, 07:58 PM
وختاما : هذا ملخص للأدلة لكي يمكن التفريق بينها :

الدليل الأول : استدلال بميل الإنسان إلى الصدق والحق وإرادة ما ينفعه ، حيث أن الإقرار بالله تعالى ومحبته وتوحيده من الصدق والحق ومما ينفع .

الدليل الثاني : استدلال باستجابة الناس لدعوة الخيرة على وجود مقتضيه في نفوسهم ، وهذا المقتضي هو الفطرة .

الدليل الثالث : استدلال بوقوع الإقرار بالله تعالى بدون سبب خارجي ، وهذا يدل على وجود مقتضيه في النفس .

الدليل الرابع : استدلال بالمقتضي التام (اقتضاء الفطرة للصلاح + عدم المانع + عدم المصلح أو المفسد الخارجي ) على وجود مقتضاها .

وأخيرا أتمنى أن يكون الشرح واضحا ، وأرجو كل من لديه تنبيه أو استدراك أو ملاحظة فلا يبخل بها على أخيه ،

وأسأل الله تعالى التوفيق والسداد ، والإخلاص له في القول والعمل ،

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .