المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تأملات إيمانية



عبدالعزيز الباروني
11-16-2005, 05:20 AM
د. جاري ميللر
ترجمة: عبدالعزيز

د. جاري ميلر (تسمى بعد إسلامه بـ عبد الأحد عمر)، يرينا هنا كيف أنه يمكن تأسيس الإيمان عن طريق بناء معايير للحقيقة.
وهو متخصص في المنطق الرياضي والأديان، كان نشطا في مجال التبشير، ولكنه اكتشف خللا واضحا في الكتاب المقدس، وفي عام 1978 قرأ القرآن متوقعا نفس النوعية من الأخطاء والحقائق، ثم درس اللغة العربية لكي يستطيع فهم القرآن، وأخيرا اعتنق الإسلام. وصار يلقي محاضرات ويكتب مقالات ويؤلف كتبا حول الإسلام.
عمل عضو هيئة تدريس في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في المملكة العربية السعودية لعدة سنوات بعد إسلامه.
وهذه ترجمة لمحاضرة ألقاها حول الموضوع، وهي محاضرة مشهورة ولكن لا نعلم بوجود ترجمة لها بالعربية فقمنا بترجمتها عسى ِأن يكون في ذلك ما يفيد إخواننا.


رابط النص الإنجليزي:
http://www.thetruereligion.org/basisbelief.htm

رابط الملف الصوتي:
http://islam.org/audio/RA1100_7.ram


معضلة تطبيق المنطق العقلي
لقد واجه الكثير منا أسئلة يرددها الأطفال مرارا، فالطفل يثير فينا مشاعر الإحباط عندما يكرر أسئلة مثل "لماذا؟". فإذا ما قمت بإبعاد السكين عن متناوله فإنه يسألك: "لماذا تبعدها؟"، فتخبره بأنها أداة حادة، فيسألك مرة أخرى: "لماذا هي حادة؟"، ثم تخبره مرة أخرى أنها حادة لكي تقطع بها الفاكهة، فيسألك: "ولماذا تقطع الفاكهة؟".. وهكذا تستمر الأسئلة. وهذا في الحقيقة يصور معضلة تطبيق المنطق العقلي.
إن ما يجب فعله عندما نريد استخدام المنطق العقلي هو أن نعمد أولا إلى وضع ضوابط للبراهين التي سنقبلها. فعلينا أولا أن نقرر لأنفسنا القدر الذي يكفينا من الضوابط لنصل إلى نتيجة نعتبرها برهانا نهائيا.
هذا ما يجب علينا تحديده أولا..
لكن ما يحدث فعلا بالنسبة للقضايا والمواضيع الفكرية ذات الأهمية الحقيقية هو أن المفكرين يضعون معايير محددة للبراهين ثم يدرسون تلك المواضيع، وفي النهاية يصلون إلى الضوابط التي وضعوها وقد ينتهون إلى النقطة التي قالوا أنها تمثل برهانا، لكنهم بعد ذلك يطلبون برهانا آخر لإثبات ذلك البرهان.

وضع الضوابط
لتجنب حالة عدم القبول المستمرة للبراهين علينا أن نقبل ضوابط محددة أولا؛ علينا أن نقبل منهجية معينة توصلنا إلى البرهان المقبول بدقة، ثم نبدأ بعد ذلك باختبار ودراسة الموضوع الذي نريد بحثه. وسأطبق هذه الطريقة على القرآن تحديدا.
يمكنك أن تسأل مفكرا نصرانيا عن سبب إيمانه بالنصرانية وستجد جوابه عادة: "معجزة القيامة من الأموات". إن أساس اعتقاده في العادة هو أنه حدث قبل حوالي ألفي عام أن مات رجل ثم بعث من الموت. هذه هي المعجزة والمحك الذي تقوم عليه عقيدته، لأن كل ما عدا ذلك يعتمد على هذه المعجزة.
لكن لو سألت مسلما: "ماهي معجزتك؟ ولماذا أنت مسلم؟" فإنه سيمد يده إلى الرف ويتناول معجزته من هناك ويمدها إليك، فمعجزته لا تزال معنا اليوم، إنها القرآن.. إنها المحك الذي يقوم عليه إيمانه.

الآية الإلهية
لقد كان لجميع الرسل معجزاتهم؛ فموسى مثلا دخل في تحد بينه وبين السحرة وفرعون، والمسيح شفى المرضى وأحيا الموتى بإذن الله، وهكذا.. ولم يكن آخر الرسل استثناء من ذلك، فالمسلمون يؤمنون بأن تلك المعحزة هي القرآن، ولكنها معجزة لا تزال معنا إلى اليوم.
ألا يبدو ذلك مناسبا وعادلا؟ فإذا كانت النبوة والرسالة ستنتهي، فإن آخر الأنبياء والمرسلين يجب أن يأتي بمعجزة باقية، وإذا كان المسلم قبل ألف وأربعمائة عام يستطيع الوصول إلى المعجزة الإلهية فإن المسلم اليوم يجدها أيضا بين يديه دون نقص أو تغيير؛ فصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت لهم القدرة على الوصول إلى مصدر تلك المعلومات الإلهية بنفس القدر الذي لدى المسلمين اليوم. كان لديهم القرآن الذي يعتبرونه آية ومعجزة لهم، وهو لا يزال آية ومعجزة لنا اليوم، نفس المعجزة..
حسنا، إذًا فلنقم بدراسة القرآن..
لنفترض أنني قلت لرجل ما: "إنني أعرف أباك" فالاستجابة المحتملة لذلك الرجل هي أن يتحقق من الأمر ليتأكد أنني ربما قابلت أباه. فإذا لم يقتنع فسيستمر بطرح الأسئلة، فيقول مثلا: "أنت تعرف أبي؟ حسنا.. هل كان طويلا؟ وهل كان أجعد الشعر؟ وهل كان يرتدي النظارات؟" وهكذا.. فإن كانت إجاباتي على أسئلته صحيحة، فسيقتنع حتما بصحة كلامي، ويتحقق أنني صادق حين ادعيت معرفة أبيه.

نظرية الانفجار العظيم
إذا كان القرآن يقول أن من أنزله هو من خلق الكون وكان حاضرا في بداية نشوئه وبداية الحياة فيه، فإن لنا أن نسأل فنقول: "حسنا.. نريد ما يثبت لنا أن منزل الكتاب كان موجودا عندما نشأ الكون ونشأت الحياة."
وهنا يعطينا القرآن بيانا شيقا لذلك الحدث الكبير، فيقول:
"أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" الأنبياء: 30
إن في هذه الآية ثلاثة أمور هامة: الأول، أن مكتشفي هذا الأمر كفار؛ والثاني، أن السماوات والأرض كانتا جسما واحدا ثم انفصلتا، والثالث أن وجود الحياة يعتمد على وجود الماء..
والحاصل أن النظرية المقبولة عالميا لأصل نشوء الكون هي نظرية الانفجار العظيم (Big Bang Theory). فهي تقول إن كل الأجرام السماوية والأرض كانت في الماضي البعيد قطعة مادية واحدة تسمى "الكتلة الموحدة" (monoblock)، وهذه الكتلة الموحدة انفجرت واستمرت في التوسع، فنتج هذا الكون الذي نعيش فيه اليوم. وهذه النظرية تعد اكتشافا حديثا تم التأكد من صحته، وقد منحت جائزة نوبل لأولئك الذين أثبتوا أن بداية الكون هي الانفجار العظيم.
أما بالنسبة لضرورة وجود الماء للحياة فلم يتم اكتشافه إلا قبل حوالي مائتي سنة حين اخترع العالم الهولندي ليفنهوك (Leeuwenhoek) وآخرون الميكروسكوب واكتشفوا لأول مرة أن حوالي ثمانين بالمائة من حجم الخلايا الحية ماء.
لم يكن هؤلاء الفائزون بجائزة نوبل وذلك العالم الهولندي الذي اخترع الميكروسكوب مسلمين، ورغم ذلك فإنهم أكدوا تلك المعلومة القرآنية التي قالت أن الكون كان قطعة مادية واحدة وأن الماء هو أصل الحياة، بالضبط كما ورد في الآية التي ذكرناها.

اتخاذ الموقف
كل منا يجب أن يتخذ موقفا، فلابد أن تضع قدميك في مكان ما.. ومن المستحيل أن تكون محايدا كل الوقت.
إن من الواجب أن توجد نقطة مرجعية في حياة كل فرد مفكر منا، وأن يقف في مكان محدد، ولكن الأمر الهام بالطبع هو أن تضع قدميك في المكان المناسب، وسيكون البحث عن البراهين اللازمة لذلك عن طريق منهجية أحاول أن أوضحها هنا.
إن الأمر يتعلق بإيجاد نقطة التقاء، فنحن نبحث عن الحقيقة في أماكن متعددة ثم نجد أننا ننجح في اكتشاف الحقيقة إذا بدأت كل الطرق المختلفة تلتقي معا في النقطة نفسها. فإذا كنا نتفحص كتابا لنبحث عن دليل على مصدره الإلهي، ثم نجد أنفسنا نتجه إلى الإسلام، فهذا طريق واحد. أما إذا كنا نتفحص في نفس الوقت ما قاله الأنبياء ثم نجد مرة أخرى أننا نتجه إلى الإسلام، فهذا طريق ثان، ولهذا فإننا نجد أنفسنا أخيرا على أرضية صلبة للإيمان، فقد بدأنا بالبحث عن الحقيقة في مكانين مختلفين ووجدنا أنفسنا متجهين إلى نفس النقطة.
لا أحد على الإطلاق بإمكانه إثبات كل شيء.. علينا أن نقف عند نقطة معينة عندما يكون لدينا شعور بالاكتفاء بمعاييرنا كما أشرت سابقا. ولكي نتأكد أن موقفنا هو الموقف الصحيح علينا أن نتفحص كل الأدلة من حولنا ونرى إلى أين تتجه بنا ونتطلع إلى نقطة الالتقاء تلك، بحيث تبدو كل الأشياء تشير إلى تلك النقطة. ثم نذهب إلى تلك النقطة وننظر في كل المعطيات التي حولنا لنتأكد أنها ثابتة وأننا بالتالي نقف في المكان المناسب.

الكون المتمدد
لنقم بالمزيد من الفحص القرآني، ثم بعض كلمات الأنبياء لنجد نقطة الالتقاء تلك..
يقول القرآن:
"وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ" سورة الذاريات 47
لقد ذكرت سابقا نظرية الانفجار العظيم، وهذا الأمر يتعلق بنشوء الكون من ذلك الانفجار العظيم. ولكن في عام 1973م منحت جائزة نوبل لثلاثة علماء اكتشفوا أن الكون يتسع بصورة مستمرة.
إن تعليقات المسلمين في تفسير آيات القرآن عبر القرون حول هذه الآية لطيفة للغاية.. فأحكمهم أشار إلى أن تلك الآية تتحدث عن توسع السماوات، لكنه لم يتخيل كيف يتم ذلك، وإنما كان تعليقه على ذلك غالبا هو "الله أعلم".

مدينة إرم
يذكر القرآن مدينة إرم بالاسم، لكنها مدينة غير معروفة تاريخيا حتى أن بعض المسلمين قالوا مجتهدين أن تلك الآية ربما كانت تتحدث عن رمز ما.
ولكن في عام 1973م وأثناء أعمال الحفر والتنقيب عن الآثار في المدينة الأثرية "إبلس" (Eblus) في سوريا، وجدت أكبر مجموعة تم اكتشافها من الكتابات الأثرية المكتوبة بالخط المسماري على ألواح طينية. وقد احتوت تلك المكتبة على ألواح تعود إلى أربعة آلاف سنة يفوق عددها جميع الألواح المشابهة المكتشفة في أماكن أخرى.
ويمكن الاطلاع على تلك التفاصيل في عدد ديسمبر 1978م من مجلة ناشيونال جيوغرافيك (National Geographic)، الصفحات 730-736، ولكن المثير حقا هو أن مدينة إرم ذكرت بالاسم في تلك الألواح. فتقول الألواح أن سكان "إبلس" القديمة كانوا يتبادلون التجارة مع سكان "إرم".
المقصود هنا هو أننا نكتشف في عام 1973م دليلا تاريخيا على مدينة حقيقية كانت موجودة بهذا الاسم. لكن السؤال الذي يجب أن نسأله هو كيف وجد اسم تلك المدينة طريقه إلى القرآن؟

المادة الأصغر
تترجم كلمة "ذرة" عادة للإنجليزية على أنها أصغر جزء من المادة (atom). والكلمة العربية تستخدم للتعبير عن أصغر مادة موجودة. وربما اعتقد العرب أن المقصود بها "النملة" أو "ذرة الغبار". أما اليوم فإنها تعني أصغر جسيم يحمل خصائص المادة.
ويقول أولئك الذين يكذبون القرآن أن "الذرة" ليست أصغر جزء من المادة، فهناك اكتشافات في هذا القرن تقول أن "الذرة" نفسها تحوي جسيمات أصغر منها. فهل هذا يتفق مع ما ورد في القرآن؟ حسنا.. هناك آية في القرآن تتحدث عن أجسام في حجم الذرة أو أصغر.. تقول الآية:
"وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" يونس- 61
ولهذا فلا إمكانية لأحد أن يقول أن اكتشافا جديدا تجاوز النص القرآني في مجال حجم أصغر جزء من المادة، فالآية تتكلم عن مادة في حجم الذرة أو أصغر.

الغفران
وما دام حديثنا يدور حول تحدي القرآن، فإن من المعروف شرعا أن الإسلام يجبّ ما قبله، فعندما يسلم الكافر فإنه لا يحاسب على ما افترفه في حياة الكفر.. وكانت دعوة الإسلام تقول: تعال إلى الإسلام ويغفر الله لك.
لكن تأمل هذه القصة.. لا يوجد أحد من أعداء الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في القرآن بوضوح تام إلا رجل واحد هو "أبو لهب". وفي القرآن توعده الله بالعذاب:
"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ، مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ، سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ" سورة المسد 1-3
لقد عاش الرجل سنوات عديدة بعد نزول هذه السورة من القرآن. وكان يستطيع أن يوجه هزة عنيفة لهذا الدين الجديد ببساطة شديدة، فكل ما يحتاجه لذلك هو أن يذهب إلى المسلمين ويعلن إسلامه، والنص القرآني الذي بين يدي المسلمين يقول إنه "سيصلى نارا ذات لهب"، بينما الحكم الإسلامي يقول إن "الإسلام يجبّ ما قبله"..
وهكذا كان بإمكان الرجل أن يعلن إسلامه ثم يأتي للمسلمين ليقول لهم: "لقد أسلمت، فهل يغفر الله لي أم لا؟" كان يمكنه إرباك الدين الإسلامي في مهده، فهذا ليس بالأمر اليسير.. وسيكون موقف النبي الجديد أمام أتباعه موقفا متهالكا.. فيمكنه بهذا أن يبرز هذا الارتباك في أحكام الدين الجديد لهم بكل وضوح، فالحكم الشرعي كان مغفرة مامضى قبل إسلامه والآيات تقول أنه لن يغفر له.
لكن الذي حصل هو أن أبا لهب مات بعد سنوات عديدة من نزول السورة دون أن يسلم. وهذا تحد إعجازي سافر من القرآن أن يضع سلاحا ضده في يد شخص واحد ويتحداه أن يستخدمه.

النبوءات
لقد تنبأ القرآن بعدة أمور قبل أن تقع بسنوات قليلة. ومن ذلك أنه لما تفوق الفرس على الروم في حروبهم وانتصروا عليهم، كانت كل المؤشرات تقول إن قوة الروم العسكرية والسياسية في نهاياتها، لكن ما ورد في سورة الروم كان مختلفا تماما، وكان مطمئنا للمسلمين على انتصار أهل الكتاب على الوثنيين الفرس:
"غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" سورة الروم 2-5
كان هذا الوحي ينزل والمسلمون مطاردون وخائفون على أرواحهم في بداية الدعوة، ولكن هذا ما حصل بالضبط بعد انتصار الفرس بعدة سنوات، فقد انتصر عليهم الروم مرة أخرى.

الدليل على المصدر الإلهي
قد يهتم البعض بتأمل أعداد الأشياء في القرآن.. لكن الطريقة الأمينة لتفحص ذلك الكتاب والبحث عن الأصل الإلهي فيه هي أن تؤخذ الأشياء بقيمها، وأن يتم النظر في تلك الأماكن التي دعينا للنظر فيها.
إنك حتما تذكر تلك الآية التي أوردتها سابقا، "أولم ير الذين كفروا.."، إنها أسلوب قرآني مستخدم كثيرا، فعندما يقول القرآن مثلا "ألم تر..."، فالدعوة هنا هي لتفحص الدليل والبرهان في تلك الأماكن بالذات.
إن كل واحد منا خبير بشيء ما.. وليس لأحدنا أن يحصل على درجة علمية عليا لكي يقول "سآخذ خبرتي إلى القرآن وأرى ماذا أجد هناك".. فكلنا نعرف أشياء معينة من خلال تجربتنا في الحياة.
لقد سمعت بقصة قبل عدة سنوات في مدينة تورنتو بكندا حول رجل أعطي القرآن ليقرأه، وقد كان عضوا في البحرية التجارية حيث أمضى جل حياته في البحر. وعندما قرأ الآية القرآنية التي تتحدث عن أمواج البحر:
"أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" سورة النور 40
عندما قرأها الرجل أصابته الدهشة! لقد كانت وصفا دقيقا لشيء يعرفه جيدا.. وعندما مد القرآن ليعيده للرجل قال له: "هل كان محمد هذا بحارا؟" لكنه فوجيء حينما أتته الإجابة إن محمدا صلى الله عليه وسلم أمضى حياته كلها في الصحراء، فقال: "ومن أين حصل إذًا على مثل المعلومات عما يحدث في يوم بحري عاصف؟"
إننا نعرف جميعا أشياء نثق بها، وإذا توجهنا إلى القرآن لنعرف ما يقوله عن تلك الأشياء فإننا سنجد تأكيدا على الأصل الإلهي للقرآن.

ظاهرتان
لدى أحد أصدقائي من جامعة تورنتو تجارب مع أحد الطلبة الذين يحضرون درجة الدكتوراه في علم النفس، وقد اختار ذالك الدارس عنوانا لدراسته هو "فعالية النقاش الجماعي".
لقد اقترح عدة معايير لتحديد مكونات النقاش الفعال، ووضع رسما بيانيا يوضح العملية، أي أنه حقق معيارا لقياس فعالية كل المجموعات أثناء النقاش. وفي رسمه البياني ذلك حدد التقدم المتحقق في مجموعات النقاش ذات الأعداد المختلفة.
أما الأمر المثير الذي اكتشفه ولم يكن يتوقعه في البداية فهو أنه خلال بحثه في النسبة بين مدى التقدم في فعالية المناقشة وبين حجم المجموعة، اكتشف أن المجموعات التي تتكون من اثنين تفوق كل المجموعات الأخرى بصورة لا تتفق مع مقاييس تلك المجموعات الأخرى.
وعندما سمع صديقي المسلم عن تلك النتائج خطر له أمر حول هذا الموضوع. إن الباحث لم يكن مسلما، وكان يفكر في تغيير عنوان الدراسة، فهل يسميه "ظاهرة الإثنين" أو "الظاهرة الثنائية".. لقد كان مندهشا لاكتشافه..
في هذه الأثناء عثر صديقي المسلم على آية من القرآن الكريم، وتلك الآية كانت تتحدث عن النقاش وحجم مجموعات النقاش وفعاليتها. ولن نستغرب عندما نكتشف أن المجموعات الثنائية هي التي كانت لها الفعالية الكبرى في تحصيل النتائج.والآية تتحدث عن تدارس القرآن والتفكر في أمر الوحي فتقول:
"قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد" سبأ 46

الفرق بين استخدام الكلمة وذكرها
أما عن نفسي حين قلت أن كل شخص لديه اهتمامات معينة وتجربة في الحياة، فإن اهتمامي هو الرياضيات والمنطق.
هناك آية في القرآن تقول:
"كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" هود 2
وهذه الآية تفيد أنه لا يوجد في القرآن كلمات زائدة، أي أن كل آية قد أحكمت ثم فصلت من حيث المعنى، فهي إذن لا يمكن أن تأتي بصيغة أفضل من ذلك. فإذا استخدمت كلمات أقل فلن يأتي المعنى كاملا، أما إن استخدمت كلمات أكثر فستأتي معان زائدة غير مطلوبة.
لقد جلب هذا الأمر اهتمامي إلى موضوع رياضي محدد ذي صلة وثيقة بالمنطق، ولهذا فقد عمدت إلى دراسة القرآن لأكتشف إن كان هناك شيء حول هذا الموضوع.
لقد حدثت ثورة في المنطق خلال السوات المائة الماضية، وكانت تدور على وجه الخصوص حول استخدام الكلمات وذكرها. ولكن البناء المنطقي كان يوشك أن ينهار أكاديميا قبل حوالي مائة سنة، فقد ظهر للمهتمين بهذا العلم أن البناء المنطقي لم يكن سليما تماما. والمشكلة كانت تدور حول "المرجعية الذاتية" والفرق بين استخدام الكلمات وذكرها.
سأحاول توضيح هذا الأمر..
كان قانون أرسطو "الوسط المستثنى" ينص على أن كل عبارة مفيدة إما أن تكون صحيحة أو خاطئة. ولكن قبل حوالي مائة سنة تقريبا أشار أحد المهتمين إلى أن قانون "الوسط المستثنى" ليس سوى عبارة مفيدة لا يمكن اعتبارها قانونا، ولهذا فكما أنه يمكن أن يكون صحيحا فهو أيضا قد يكون خاطئا.
لقد كان هذا الأمر عقدة بالنسبة للمنطقيين لم يتمكنوا من فكها حتى استطاعوا أن يفهموا الفرق بين استخدام الكلمات وذكرها.
فعندما نستخدم كلمة فإننا نفكر في معناها، ولكن عندما نذكرها فإننا نفكر في الكلمة نفسها. فلو قلت مثلا: "تورنتو مدينة كبيرة" فإني أعني تورنتو، تلك المدينة الكندية. ولكن عندما أقول: "تورنتو تتكون من ستة أحرف"، فإني أتحدث عن الكلمة نفسها وليس عن المدينة. في الحالة الأولى استخدمت الكلمة وفي الحالة الثانية ذكرت الكلمة.

عيسى وآدم
بربط هذه الأفكار المنطقية حول استخدام الكلمات وذكرها، وتلك الآية التي تقول أن آيات القرآن أحكمت ثم فصلت، تأمل الآية التالية:
"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم..." آل عمران 59
من الواضح ان لدينا معادلة في هذه الآية. وهي تستمر في إثبات أنهما متماثلان لأن كل منهما أتى تحت ظروف غير طبيعية، ولم يأتيا من أب وأم كما هي الحال في التناسل البشري العادي. ولكن يمكننا أن نفكر أيضا هنا في "استخدام الكلمات وذكرها".
إن الكلمتين تعنيان بوضوح عيسى وآدم الرجلين. ولكن ماذا عن المثلية في ذكر الكلمتين تحديدا؟ فالآية تقول أن "عيسى" مثل "آدم" بطريقة ما.. لكن الكلمتين لا تتكونان من نفس الحروف، فكيف تكونان مثل بعضهما في هذا الكتاب؟ كانت الإجابة الوحيدة قد خطرت ببالي سريعا فذهبت أتصفح معجم ألفاظ القرآن.
عندما نبحث عن كلمة "عيسى" فإننا نجدها وردت في القرآن خمسا وعشرين مرة، وعندما نبحث عن كلمة "آدم" فإننا نجد أيضا أنها وردت خمسا وعشرين مرة. والخلاصة هي أنهما مثل بعضهما كثيرا في هذا الكتاب.. إنهما حقا طرفا معادلة.
وكلما قال القرآن أن شيئا مثل الآخر فإن هذه القاعدة تكون صحيحة. فلديك مثلا هذه الآية الأخرى:
"ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون" الأعراف 176
إن المثلية هنا هي بين "الكلب" وبين " القوم الذين كذبوا"، فكلا الطرفين وردا في القرآن خمس مرات.
بعد عدة أشهر من عثوري على هذا الأمر في القرآن، عرض لي أحد أصدقائي أن في القرآن أيضا ذكر لبعض "الكلمات" التي ليست كمثل "كلمات" أخرى.
ذهبنا فورا لمراجعة معجم ألفاظ القرآن الكريم وبحثنا عن المواقع التي ذكر فيها عدم التماثل، وأحصينا عدد مرات حدوثها، وكانت المفاجأة أنها لا تتساوى في مرات الحدوث. فمثلا الآية:
"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون" البقرة 275
ذكر أن البيع ليس مثل الربا، والبيع ذكر في القرآن سبع مرات، والربا ست مرات. وهكذا بقية الأمثلة. فعندما يذكر أن شيئا ليس كالآخر، فإن الفرق بينهما في العدد دائما هو واحد.

حدوث الكلمات
لقد اتهم بعض النقاد في السنوات الماضية القرآن بأنه تبنى استخدام السنة القمرية بدلا من السنة الشمسية للمسلمين. ويقول أولئك النقاد أن القرآن لا يعلم عن الاختلاف في طول السنوات، فإذا كانت المدة عندنا إثني عشر شهرا قمريا فإننا نفقد أحد عشر يوما كل سنة.
وبمراجعة النص القرآني نكتشف أن القرآن أشار إلى الفرق بين طول السنة الشمسية وطول السنة القمرية:
"ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا" الكهف 25
والواضح أن ثلاثمائة سنة شمسية تساوي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية.
سنعود الآن إلى موضوعنا الأصلي وهو حدوث الكلمات في النص القرآني. إن كلمة "شهر" في القرآن قد وردت 12 مرة، وهناك 12 شهرا في السنة. فإذا وجدنا كلمة "شهر" 12 مرة في القرآن فكم نتوقع أن نجد كلمة "يوم"؟ لقد وردت في النص القرآني 365 مرة. وفي الحقيقة أن ما جلب اهتمامي للنظر في حدوث كلمة "شهر" وكلمة "يوم" في النص القرآني هو اهتمامي بالسنة الشمسية والسنة القمرية..
إن من المعروف منذ ألفين وخمسمائة سنة أن المواقع النسبية للشمس والقمر والأرض تتطابق كل تسع عشرة سنة. وهذه الحقيقة اكتشفها إغريقي اسمه ميتون (Meton) ولهذا فإنها سميت "الدورة الميتونية". وحيث كنت أعلم ذلك فقد قررت أن أبحث عن كلمة "سنة" في النص القرآني فوجدت أنها قد وردت تسع عشرة مرة.

عبدالعزيز الباروني
11-16-2005, 05:21 AM
التوازن الكامل للكلمات
والآن، ما المقصود بهذا التوازن الكامل للكلمات؟ يظهر جليا أن القرآن يشير بوضوح إلى الفرق بين "استخدام الكلمات" و "ذكر الكلمات"، وهي لفتة منطقية لطيفة، لكن الأكثر من ذلك أنها تشير إلى حفظ هذا الكتاب من التغيير.
بعد أن ألقيت محاضرة عن هذا الموضوع حول القرآن، وتطرقت إلى بعض هذه المفاهيم، سألني أحد الحاضرين قائلا: "كيف تتحقق من أن لدينا النص القرآني الأصلي؟ ربما فقدت أجزاء منه، أو أضيفت أجزاء أخرى.."
كانت الإجابة بسيطة، فقد أشرت إلى أننا تحدثنا عن هذه الموضوع بشكل دقيق.. إن هذا التوازن الكامل لألفاظ القرآن تم التحقق منه في هذا الجيل فقط، ولو حصل أن أحدا فقد أجزاء من القرآن أو أخفى أجزاء أو أضاف أخرى من عنده، فحتما لن يكون على علم بهذه الشفرة المخفية في القرآن، أعني التوازن اللفظي، ولكان قد أتلف هذا التوازن تماما.
من الملاحظات اللطيفة أيضا أنه قد يكون ممكنا اليوم باستخدام الحاسب الآلي أن نعمل نموذجا مشابها، أي أن نجمع قدرا من الكلمات التي نريد استخدامها ونعيد تنسيقها آليا بحيث تكون متوازنة العدد ثم نبدأ بصياغة المعاني، قد يكون هذا ممكنا نظريا.. ولكن حتى لو كان للبشر أن يفعلوا مثل هذا الأمر قبل أربعة عشر قرنا، فلماذا يتم بذل الجهد في استخدام هذه الخاصية العجيبة في القرآن وتركها مخفية عن أولئك الذين تلقوا القرآن أول مرة؟ لماذا يتركها المؤلف مخفية على أمل أن يأتي أحد بعد قرون عديدة ويكتشف هذه الأعجوبة؟

وأحسن تفسيرا
لقد أخبرنا القرآن أنه لن يأتي أحد للمسلمين بسؤال ولا يجد أفضل الإجابات في القرآن..
"وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" الفرقان 33
لقد نظرنا مرة أخرى في معجم ألفاظ القرآن الكريم فوجدنا أن كلمة "قالوا" قد وردت 332 مرة، والآن مالذي يمكن أن يقابل هذه الكلمة في القرآن؟ إنها كلمة "قل"، وكما تتوقع فقد وجدنا أن عدد مرات ذكرها في القرآن هو 332 مرة، وهي ألفاظ مبثوثة في القرآن دون تتابع.

مصدر القرآن
إن من المثير حقا أن القرآن يرد كثيرا على منتقديه حول موضوع مصدره. أي أنه لم يأت أحد حتى الآن بادعاء حول مصدر القرآن إلا ويجد الرد في القرآن نفسه.
تحت كلمة (Quran) تقول الموسوعة الكاثوليكية الجديدة (The New Catholic Encyclopedia) أنه كان هناك نظريات كثيرة عبر القرون حول المصدر الذي أتى منه القرآن.. ثم تقول الموسوعة: "لا يوجد شخص مدرك اليوم يستطيع أن يقبل أيا من هذه النظريات". وهذا طبعا يترك النصراني في موقف لا يخلو من الصعوبة؛ فكل النظريات المطروحة إلى الآن، حسب هذه الموسوعة، غير مقبولة لدى الشخص الواعي المدرك. فكلها إذن نظريات غير واقعية، فمن أين أتى هذا الكتاب إذًا؟
"قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد" سبأ 49
تقول الآية إن الباطل لا يمكن أن يصير مصدرا لأي شيء.. فأي حق جديد لا يمكن أن يأتي من مصدر باطل، والباطل لا يعيد الحقائق إلى أذهاننا. فالحق يتفق مع الحقيقة، وأما الباطل فهو شيء آخر، وهو فارغ بلا محتوى، وإذا كان هناك ما ينتج عن الباطل فلن يكون معلومة جديدة نستفيد منها وهي لن تستمر بالتأكيد، وإنما ستسقط مع مرور الوقت.

التحدي
هناك آية أخرى مثيرة تحوي تحديا لغير المؤمنين:
"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا" النساء 82
وهو تحد للقارئ مفاده: إذا كنت تعتقد أن لديك تفسيرا لمصدر هذا الكتاب، فاقرأ الكتاب مرة أخرى.. وحتما ستجد المتناقضات عندما تريد أن تستدل على المصدر الذي افترضته.
تخيل لو أن طالبا يقدم اختباره النهائي لأحد المواد ثم يكتب ملاحظة في أسفل الورقة لمدرسه "لن تجد أخطاء في هذه الورقة. فاختباري هذا لا أخطاء فيه!" مالذي تعتقد أن يفعله المدرس عندما يقرأ هذه العبارة؟ طبعا لن يقر له قرار حتى يجد خطأ أو تناقضا في ورقة ذلك الطالب بعد هذا التحدي..
إن هذه الطريقة ليست طريقة بشرية في التحدي.. فالبشر لا يتحدون بهذه الطريقة.. لكننا نجدها هنا في القرآن في تحد سافر يقول أنك إذا كنت تعتقد أنه من عند غير الله فابحث عن المتناقضات فيه..
إن هناك من النقاد من يحاول ذلك، فيقولون أن القرآن يحوي بعض التناقضات، ولكن إذا استشهد أحدهم بآية من القرآن ليقول أنها خاطئة، فما علينا للتحقق من ذلك إلا أن نختار طريقة من ثلاث: إما أن الآية غير كافية لتأسيس ما يدعيه من الخطأ، أو أن الآية تحمل معنى آخر غير الذي ذهب إليه، أو أن الآية لا يمكن أن تعطي لغويا نفس المفهوم الذي ذهب إليه الناقد. ودائما تجد أحد هذه الطرق الثلاث ناجحة في نفي ذلك الخطأ. فالدليل إما أنه غير كاف أو أنه غامض أو أنه ممتنع.

الادعاء بالشيطان
حدث موقف معي عندما كنت أشرح لأحد الأشخاص، وهو كاهن في أحد الكنائس، بعض محتويات القرآن، ولم يكن الرجل يعرف شيئا عن هذا الكتاب الذي أتحدث عنه. لقد جلس بجانبي والكتاب غير مفتوح، وكنت قد أخبرته عن الكتاب وما يحويه وقلت له إنه ليس "الكتاب المقدس". فكان استنتاجه من كلامي أن الكتاب "معجزة". ثم أردف قائلا: "نعم، إن هذا الكتاب لا يمكن أن يكون من عمل البشر، فهو لا بد وأنه من عمل الشيطان لأنه ليس "الكتاب المقدس"..
لقد رد القرآن على هذه الفكرة قائلا:
"وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ، وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ" الشعراء 210-211
والآية كما هو واضح تقول أنه لا ينبغي لهم ذلك، أي أنه لا يناسبهم.. وهو حقا لا يناسبهم، أليس كذلك؟ هل هذا هو الأسلوب الذي يضل به الشيطان الناس؟ أن يقول لا تعبدوا إلا الله؟ وأن يأمر بالصيام، والصلاة، والزكاة؟ فهل هذا هو الأسلوب المناسب للشيطان ليظل البشر؟
قارن هذا الموقف بموقف شبيه آخر، إنه موقف اليهود الذين عرفوا المسيح عليه السلام وحاربوه حتى النهاية. هناك نص في الكتاب المقدس يتحدث عن المسيح عندما أحيا أحد الأموات (بإذن الله) وهو لعازر الذي كان ميتا لمدة أربعة أيام. ولكن ماذا فعل أولئك اليهود الذين كانوا يشاهدون لعازر وهو يخرج حيا من عالم الأموات؟ هل قالوا فورا بأن المسيح مرسل حقا من الله؟ يقول "الكتاب المقدس" إن هؤلاء اليهود اجتمعوا فورا وأخذوا يتجادلون قائلين إنه إذا استمر هذا الرجل باستخدام تلك المعجزات فإن الكل سيؤمن به، وإنهم يجب أن يجدوا طريقة لقتله.وعزوا معجزاته إلى الشيطان، وأنه أحيا ذلك الرجل بقدرة الشيطان.
طبعا ستجد أن النصارى يشعرون بالأسى الشديد على أولئك اليهود عند قراءة تلك القصة في "الكتاب المقدس". أولئك اليهود الذين كان البرهان الساطع يحدث أمام أعينهم ثم يعزونه للشيطان! ألا يظهر لنا أنهم يفعلون الشيء نفسه عندما يعرض عليهم القرآن ولا يجدون من التبريرات إلا أنه "عمل الشيطان"؟ هل من المعقول أن يقول الشيطان للناس كلما قرأتم كتابي استعيذوا بالله مني؟:
"فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" النحل 98

قصة أخرى
إن هناك من يصر على أن القرآن منقول وأن مصادره هي مصادر يهودية ومسيحية. إن كتابا تم نشره مؤخرا بعنوان "عبادة الرب الخطأ" (Worshipping the Wrong God) ذكر شيئا وكأنه حقيقة، وهو أن محمدا صلى الله عليه وسلم بعد الوحي الأول ماتت زوجته فسارع إلى الزواج بيهودية ونصرانية، ومن هنا يعزو الكاتب مصادر القرآن.
ورغم أن جزءا من الكلام حقيقي، لكن زوجته لم تمت إلا بعد عشر سنين من بداية نزول القرآن، ثم أنه لم يتزوج باليهودية والنصرانية إلا بعد عشر سنين أخرى من موت زوجته تلك، أي بعد عشرين سنة من بدء نزول الوحي وقبل وفاته بثلاثة أعوام فقط.
هل فعلا نقل القرآن من المصادر اليهودية والمسيحية؟ يذكر القرآن حاكم مصر الذي طارد موسى على أن اسمه "فرعون" وليس "فارو". واليهود والنصارى دائما يسمونه "فارو" (Pharaoh). فلماذا هذا الاختلاف؟ لقد بقي الاسم في القرآن هكذا حتى اليوم رغم إشارة اليهود والنصارى المتكررة حول ذلك على أنه خطأ..
المدهش أن الكتابات التاريخية لهيرودوس (Herodotus) المؤرخ الإغريقي، قد تحدث بعضها عن حاكم مصري في ذلك العصر اسمه "فرعون".
فهل حقا نقل القرآن من المصادر اليهودية والنصرانية؟ إن القرآن يؤكد على أن المسيح لم يصلب، وأن الصلب لم يكن إلا وهما، وأن اليهود الذين اعتقدوا أنهم صلبوا المسيح واهمون لأن ذلك لم يحدث في الحقيقة. والنصارى بالطبع لا علاقة لهم بذلك.. وفي الحقيقة فإن فكرة أن المسيح لم يصلب فكرة قديمة جدا ويمكن تتبعها إلى القرن الميلادي الأول، ولكن أولئك النصارى الذين اعتقدوا ذلك تم التخلص منهم على أنهم مهرطقون خلال المائتي سنة الأولى من عهد المسيح. زد على ذلك أنه لم تتم الدعوة إلى ذلك في أي جزء من الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرنا.
هل كان القرآن ينقل من المصادر المسيحية عندما قال أن المسيح تكلم في المهد؟:
"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين" آل عمران 46
"إذ قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل..." المائدة 110
"فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا" مريم 29-30
كل هذه التفاصيل تشير إلى أنه ليس هناك نقل من المصادر المسيحية.

تطهير البيت
الآن نتحدث عن كلام الأنبياء أنفسهم، الذي يمثل طريقا أخرى تقودنا إلى الإسلام. نجد في المخطوطات الفارسية التي كانت منتشرة لآلاف السنين نقرأ:
"عندما يهبط الفرس كثيرا في أخلاقهم، سيولد رجل في جزيرة العرب وسيقلق أتباعه عرش الفرس ودينهم وكل شيء لهم. وسيتم التغلب على أصحاب الأعناق القوية العظيمة. والبيت الذي بني ووضع به أصنام كثيرة سيتم تطهيره من الأصنام، وسيصلي الناس صلواتهم وهم متجهون إلى ذلك البيت. وسيفتح أتباع ذلك الرجل فارس وإنتاوس وبلخ وأماكن كبيرة قريبة منها. وسيكون هناك تشويش بين الناس، وسيتبع حكماء فارس وآخرون ذلك الرجل." (Desature no.14)
ولا نعلم إن كان هذا كلام أنبياء أم رؤى، ولكن المسلم يستطيع أن يتعرف على التفاصيل هنا بسهولة بالغة، فالكعبة التي يتجه لها المسلمون في صلواتهم يوميا كانت يوما ما مملوءة بالأصنام، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإزالة الأصنام كلها منها. وبقيت الكعبة (وتسمى في القرآن بـ "البيت") إلى اليوم نظيفة من الأصنام. وفي الجيل التالي فتحت بلاد فارس واعتنق حكماؤه الإسلام.

نبي مثل موسى
في سفر التثنية من "الكتاب المقدس" الأصحاح الثامن عشر نجد كلمات موسى التي تقول أن الله أخبره أنه سيبعث نبيا من بين إخوة الإسرائيليين مثل موسى.
النصارى بالطبع يسعون لتطبيق هذه النبوءة على المسيح، فيقولون إنه هو النبي الذي يشبه موسى.. لكن الأمر ليس مريحا لهم عندما يدركون أن المسيح لا يشبه موسى بما يكفي. فالمسيح لم يكن له أب ولم يكن له زوجة ولم يكن له أبناء، ولم يمت بسبب طول العمر ولم يقد أمة من الأمم، بينما كل تلك الأمور كان لموسى منها نصيب. لكنهم يقولون أن المسيح سيعود منتصرا ولهذا فهو أقرب إلى الشبه بموسى.. فهل يعتقدون أنه أيضا سيعود ليكون له أب وزوجة وأبناء ثم يموت بعد عمر مديد؟ ليس بالتأكيد.
أكثر من ذلك فإن المسيح كان إسرائيليا، في حين أن الفقرة المعنية من "الكتاب المقدس" تقول أن ذلك النبي سيبعث من بين أخوة الإسرائيليين وليس من بين الإسرائيليين. والمعروف هو أن العرب هم أبناء إسماعيل بينما الإسرائيليين هم أبناء إسحاق، وإسماعيل وإسحاق هما إبنا إبراهيم عليه السلام.
في الأصحاح الثالث من سفر الأعمال يقول القديس بطرس لجمع من الناس أن المسيح قد رفع وأنه في السماء. ثم يقول أنه سيبقى في السماء ولن يعود حتى تتم كل الأشياء التي وعد الله بها.. فما هي الأشياء التي لا نزال ننتظرها؟ هل أخبر بطرس ذلك الجمع؟ إنه يقتبس قول موسى هكذا:
"فان موسى قال للآباء ان نبيا مثلي سيقيم لكم الرب الهكم من اخوتكم. له تسمعون في كل ما يكلمكم به." أعمال 3-22
والمقصود واضح جدا، فالنصارى يودون أن يكون هو المسيح. ولكن عندما تقرأ سفر الأعمال، الأصحاح الثالث، بعناية فإن ما يقوله هو أن المسيح سيعود، ولكنه لن يعود حتى تتحقق نبوءته، والنبوءة هي أن ذلك النبي الآخر سيأتي. لقد تحدث المسيح بها بنفسه وبقيت تلك الكلمات بكل هذا الوضوح، ولكنها بقيت في "الكتاب المقدس". لقد قال المسيح أن الله سيرسل "بارقليطا" آخر.

البارقليط
إن هناك الكثير من الجدل حول كلمة "بارقليط" (Paraclete). لكننا الآن لن نتحدث عن ذلك الجدل. ماهو الـ "بارقليط"؟ لا يهم.. إن أول رسالة من يوحنا تقول بأن المسيح "بارقليط".. إذن فالمسيح "بارقليط" وقد وعد بأن "بارقليطا" آخر سيرسل..
إننا نفقد الكثير باستخدام الكلمة الإنجليزية "آخر" (another) لأنها غامضة. لنوضح المقصود بالمثال التالي: لو كسر قلم أحدنا من نوع "باركر" ثم قلت لصاحب القلم: "سأذهب وأحضر لك قلما (آخر)"، فإن معنى قولي ذلك قد يكون: "سأحضر لك قلم باركر آخر لأن قلمك الباركر قد انكسر"، وقد يكون قصدي: "دع عنك قلم الباركر، فهو قلم رديء، سأذهب وأحضر لك قلم شيفر".. لذا فإن كلمة "آخر" تعتبر كلمة غامضة.
لكن الإغريق لم يكن لديهم هذا الغموض في استخدام كلمة "آخر".. إنهم يستخدمون كلمة (aloes) عندما يتحدثون عن شيء "آخر" من نفس النوع، وكلمة (heteroes) عندما يتحدثون عن شيء آخر من نوع مختلف. والمهم هنا هو أن المسيح، الذي كان هو نفسه بارقليطا، قال أن "الله سيرسل لكم بارقليطا آخر"، واستخدمت هنا كلمة (aloes) الإغريقية وليس كلمة (heteroes).
والنصارى بالطبع يريدون أن يقولوا أن هذا "البارقليط" الآخر الذي أرسل كان مختلفا عن المسيح. إنه لم يكن رجلا، بل كان روحا.. بينما الذي قال المسيح هو أن "الله سيرسل لكم واحدا آخر مثلي، رجلا آخر". والمسلمون يرون أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم هو تحقيق هذه النبوءة من المسيح. والقرآن يقول أن محمدا مذكور في التوراة والإنجيل.
والنصارى يتوقعون عودة المسيح بسبب سوء فهم من اليهود.. فكلمة "المسيح" وعبارة "ابن الإنسان" قد أعطيتا اهتماما خاصا من قبل اليهود، حتى بالرغم من كون آخرين كثر حصلت تسميتهم بهذين الاسمين في "الكتاب المقدس". واليهود كانوا يتوقعون قائدا منتصرا وعندما جاء المسيح بعكس توقعات الكثيرين، أخذوا فكرة عودته يوما ما وتحقيق كل تلك النبوءات.

أتباع المسيح
وأخيرا لنفترض أن أحدا رأى المسيح قبل ألفي عام، ثم غادر هذا الكوكب.. ولنقل أنه نام خلال الألفي عام، ثم عاد اليوم ليبحث عن أتباع المسيح.. فمن سيجد؟ ومن الذين سيتعرف عليهم على أنهم أتباع المسيح؟ هل هم النصارى؟
قبل أن نستنتج دعونا نرى ماذا يقول "الكتاب المقدس" عن المسيح، لقد قال بوضوح أن المسيح كان يصوم، فهل النصارى اليوم يصومون؟ بالطبع لا، وإنما المسملون هم الذين يصومون، والصوم مفروض عليهم شهرا كل عام..
ثم أنه قال أيضا أن المسيح كان يصلي فيضع جبهته على الأرض، فهل النصارى يصلون هكذا؟ كلا، فالمسلمون هم الذين يفعلون ذلك، وهذه سمة من سمات صلاتهم، ولا أحد من أهل الأرض يجهل هذه الحقيقة..
كذلك فإن المسيح أوصى حوارييه عندما يحيون بعضهم أن يقولو "السلام عليكم"، فهل يفعل ذلك النصارى اليوم؟ نادرا.. أما المسلمون فهذه تحيتهم دوما سواء كانوا يتحدثون العربية أم لا..
وفي كتاب يعقوب (James) ورد أن لا أحد يقول أنه سيفعل شيئا في المستقبل إلا أن يقول "إن شاء الله".. فهل هذا من فعل النصارى أم المسلمين؟ إن تعبير "إن شاء الله" من أكثر التعبيرات استخداما عند المسلمين سواء كانوا عربا أو غيرهم، فهم لا يتحدثون عن أمر مستقبلي عادة إلا بعد ربطه بالمشيئة هكذا..