المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هستيريا الخوف من «هتاف الصامتين»د. إبراهيم البيومي غانم



طارق منينة
11-27-2011, 01:48 AM
هستيريا الخوف من «هتاف الصامتين» الأحد، 27 تشرين الثاني 2011


د. إبراهيم البيومي غانم

بلغت هستيريا الخوف من الانتخابات البرلمانية ذروتها في ميدان التحرير خلال الأيام التي تلت مليونية المطلب الواحد يوم 18 نوفمبر 2011 واستمرت على مدى أيام الأسبوع المنصرم، وليس من المتوقع أن تهدأ هذه الهستيريا في وقت قريب.
والسبب الرئيسي لذلك هو أن «الأغلبية الصامتة» سوف تتمكن لأول مرة من الهتاف وإسماع صوتهم عبر صناديق الاقتراع لاختيار ممثليهم في البرلمان القادم، وذلك في الانتخابات التي تبدأ الجولة الأولى منها يوم الاثنين (28 نوفمبر الحالي).
هتاف هؤلاء الصامتين هو بالضبط ما لا يحب المصابون بهستيريا الخوف من الإرادة الشعبية أن يسمعوه على الإطلاق لا في صناديق الانتخابات ولا في ميادين التحرير، لا الآن ولا في أي وقت آخر؛ لسبب بسيط هو أنهم يرون أنفسهم فوق الإرادة الشعبية ويكرهون هذه الإرادة، ويكرهون المؤسسات النيابية ويستعلون عليها. تسيطر هستيريا الخوف من هتاف الصامتين على عدة قوى سياسة وتيارات فكرية أهمها:
أولاً: فلول النظام البائد، وخصوصاً أولئك الذين لا يزالون يقبعون منهم في وزارة الداخلية، ويمسكون بمناصب حساسة في الجهاز الأمني في لاظوغلي وفي مديريات أمن أغلب محافظات الجمهورية، ومعهم رجال الأعمال الذين أثروا في الفترات السابقة على حساب الشعب وامتصوا دمه في عهد المخلوع. هؤلاء وأولئك يحملون في صدورهم حقداً دفينا على أبناء الشعب، وتسيطر عليهم نزعة الثأر ممن تجرؤوا على «بشوات الداخلية»، ويعلمون أن تمكين الشعب من التعبير عن إرادته في انتخابات حرة يعني ـ فيما يعني ـ وضعهم قيد المحاسبة في القريب العاجل.
ثانياً: قسم من النخبة السياسية والحزبية العلمانية/ اليسارية. ولا أقول كلها. هؤلاء منهم من قال وكرر القول ألف مرة أنهم سيفعلون أي شيء حتى لا يصل الإسلاميون إلى السلطة في مصر. قالوا ذلك قبل سقوط حسني مبارك، وتحالفوا معه ضد أي تواجد للإسلاميين في الحياة العامة. ولنتذكر على سبيل المثال رفعت السعيد رئيس حزب التجمع (الشيوعي) الذي دخل في صفقة مع نظام مبارك منذ سنة 2005 وتم تعيينه ثلاث مرات في عضوية مجلس الشورى مقابل أن يدافع عن نظام مبارك من جهة، وأن يستمر في مهاجمة الإسلاميين من جهة أخرى، وهو ما قام به إلى آخر لحظة قبل رحيل مبارك.
المشكلة في هؤلاء العلمانيين اليساريين من أمثال رفعت السعيد وقيادات حزبه أن إدراكهم للمعطيات السياسية والفكرية والشعبية المصرية باتت متكلسة ومتوقفة عن التطور منذ عدة عقود؛ فتراهم يرددون اليوم ما درجوا على ترديده قبل ثلاثة عقود دون أن يشعروا أن العالم قد تغير من حولهم، وأن مصر قد دخلت عهداً لا عهد لهم به ولن تكون فيه سلطة قمعية يستندون إليها ويستمدون منها القدرة على البقاء كما كان حالهم في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك.
ثالثاً: القوى الأجنبية الكارهة لمصر والمصريين، وفي مقدمتها أمريكا وإسرائيل. هذه القوى ترى أن مصالحها في مصر باتت مهددة على نحو خطير في ظل احتمالات ظهور حكومة ديمقراطية يختارها الشعب في انتخابات حرة ووفق معايير النزاهة والشفافية العالمية. هذه القوى الأجنبية لا تزال تعيش أيضاً في رهاب الخوف من «الإسلاميين» بعد أن ظلت تتلقى معلوماتها عنهم من تقارير أجهزة الأمن والمخابرات المصرية، ومن تقارير ونصائح بعض مثقفي اليسار والعلمانيين على مدى أكثر من نصف قرن مضى. مع أننا نلاحظ في الفترة الأخيرة أن مواقف الأمريكيين قد بدأت تتحسن باتجاه تصحيح الرؤية نحو الإسلاميين، وبدأت الشكوك حول التيارات الإسلامية تتراجع بعد أن اكتشفت مراكز الأبحاث وصناع القرار الأمريكي زيف التقارير الأمنية والمخابراتية التي كانت تصورهم في صورة «البعبع» الخطير المعادي للحرية والمدنية.!
قد يقول قائل: لا بد أن يكون هؤلاء الخائفون من هتاف الصامتين «لا شعبية لهم»، فلماذا الاكتراث بهم كل هذا الاكتراث، ولماذا نركز عليهم كل هذا الاهتمام؟
أقول: هم بالفعل لا شعبية لهم بدلالة نتائج جميع الانتخابات السابقة سواء كانت برلمانية أو نقابية أو طلابية، ولكن أصواتهم هي الأعلى والأكثر صخباً لسبب بسيط، وهو أنهم متواجدون بكثافة في وسائل الإعلام والفضائيات التي يمتلك أغلبيتها رجال الأعمال من فلول النظام البائد. خطورة هذا الوضع أن الرأي العام المصري بات ضحية لتلك الأصوات العالية فاقدة الشعبية والجماهيرية.
المفارقة الكبرى في مصر اليوم هي أن الفلول الأمنية ورجال أعمال الحزب الوطني المنحل وبعض العلمانيين واليسار الشيوعي، هؤلاء الخائفون من «هتاف الصامتين»؛ كانوا هم الأكثر حديثاً عن «الأغلبية الصامتة»، وكانوا هم الأكثر ادعاءً للحديث باسمهم وكانوا الأكثر تظاهراً بالتعاطف معهم خلال الفترات السابقة في عهد المخلوع مبارك؛ كل بطريقته: فالفلول الأمنية والسياسية ومعهم رجال أعمال الحزب الوطني المنحل كانت تتظاهر بأن ما تقوم من أعمال قمعية، أو أعمال نهب وسلب وتخريب لاقتصاديات البلاد، هو لمصلحة الأغلبية الصامتة، وضد القلة المنحرفة (وآنذاك كانت التيارات الإسلامية هي المقصودة بتعبير القلة المنحرفة في أغلب الأحوال).
أما اليسار الشيوعي العلماني، فكان كثيراً ما يدعي الحديث باسم الصامتين وينطق نيابة عنهم، ويتهم التيارات الإسلامية بأنها «قلة منظمة» ولا تعبر عن تلك الأغلبية الصامتة!
انقلبت كل الموازين عندما لاحت أول فرصة حقيقية لهذه الأغلبية الصامتة كي تنطق بلسان نفسها، وكي يرتفع صوتها ليسمعه الجميع بطريقة سلمية آمنة عبر صناديق الاقتراع. وبات الخوف يدب في أوصال «الفلول» من قيادات الداخلية ورجال أعمال الحزب الوطني المنحل، ومعهم العلمانيون من اليسار الشيوعي. وكلما اقترب موعد بدء العملية الانتخابية زادت حدة هستيريا الخوف من الاستماع إلى «هتاف الصامتين»، وزاد إصرار تلك الأطراف المفزوعة من يوم الانتخابات، وتكثفت جهودها كي تفشل هذه العملية برمتها، فإن لم يكن فعلى الأقل تأجيلها لأطول فترة ممكنة حتى تعم الفوضى كل أرجاء البلاد.
فبعد نجاح مليونية «المطلب الواحد» التي دعت إليها ونظمتها القوى والتيارات الإسلامية يوم 18 نوفمبر، تصاعدت الأحداث بشكل هستيري في ميدان التحرير وشارع محمد محمود. بدأت بالاعتداء على عدد قليل من مصابي الثورة المعتصمين في الميدان وقتل عشرات منهم بوحشية منقطعة النظير. وسرعان ما ردت الجماهير الغاضبة على هذا العدوان بمزيد من الاحتشاد والإصرار على الاعتصام في الميدان، وساندت المعتصمين بعض القوى الإسلامية من أنصار حازم أبو إسماعيل المرشح لرئاسة الجمهورية والجماعة الإسلامية بوازع النجدة والشهامة ونصرة المظلومين. ورفض الإخوان المسلمون المشاركة في هذه الأحداث، بينما ركب اليسار العلماني الشيوعي الموجة، واختلط الحابل بالنابل، وجرت معارك كر وفر بين الشرطة وقسم من المتظاهرين في شارع محمد محمود المؤدي إلى مقر وزارة الداخلية في محاولة للسيطرة عليه، أو الاشتباك مع القوات المسلحة، ومن ثم إسقاط هيبة الجيش وإدخال البلاد في فوضى عارمة.
الملفت للنظر في تطورات أحداث الأسبوع الماضي أن أغلبية قوى اليسار الشيوعي أيدت أعمال العنف وركبت موجتها، وحرضت الشباب على الاستمرار فيها ضد قوات الشرطة وقوات الجيش. وكانت تلك القوى قد وصفت مليونية المطلب الواحد بأنها «جمعة قندهار»، وأن ميدان التحرير في تلك اللحظة «لا يعبر عن مصر»، وأن المتظاهرين فيه «لا يعبرون عن الأغلبية الصامتة»؛ لا لشيء إلا لأن منظميها كانوا من الإخوان المسلمين والسلفيين الذين طالبوا المجلس العسكري بتحديد جدول زمني لنقل السلطة للمدنيين وموعد محدد للانتخابات الرئاسية، وطالبوا أيضاً بإسقاط وثيقة على السلمي التي تؤسس لحكم عسكري، وتحاول استنساخ التجربة التركية الفاشلة في سيطرة الجيش على الحياة السياسية!. وبالرغم من أن هذه مطالب ديمقراطية من الطراز الأول وصفتها القوى اليسارية الشيوعية بأنها «جمعة قندهار».
وفي الوقت نفسه، لم تر تلك القوى بأساً في أعمال العنف التي وقعت حول ميدان التحرير وفي شارع محمد محمود، وراحت تؤكد على أن ميدان التحرير هو المعبر عن الإرادة الشعبية. وهكذا عندما يكون الإسلاميون في الميدان وتمر أحداثه بسلام يصبح غير معبر، وعندما ينسحب منه الإسلاميون وتحدث أعمال عنف يصبح معبراً عن مصر كلها في نظر أحزاب اليسار وقواه المتشرذمة!!
ما يريده الخائفون من «هتاف الصامتين» هو قطع الطريق على عملية التحول الديمقراطي، وألا ترى مصر نور الحرية، وأن لا تتمكن «الأغلبية الصامتة» من التعبير عن نفسها بنفسها. ووسيلتهم في ذلك هي قطع الطريق على الانتخابات وعدم إجرائها في موعدها.
ليست الانتخابات هدفاً في حد ذاتها، وإنما هي الوسيلة السلمية الوحيدة لإدارة التنافس السياسي بين جميع الفرقاء، وليس سوى «صندوق الانتخابات» معياراً للتعرف على الإرادة الشعبية، من أجل الوصول بمصر إلى بر الأمان. وبدون ذلك لن تهدأ هستيريا الخائفين من «هتاف الصامتين».
http://www.assabeel.net/assabeel-essayists/64777-هستيريا-الخوف-من-«هتاف-الصامتين».html