المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مقتطفات من كتاب (( الروح و الجسد )) للدكتور مصطفى محمود



فكر
11-19-2005, 01:45 AM
عن الروح و الجسد

سر من أسرار السعادة هو انسجام الظاهر و الباطن في وحدة متناسقة متناغمة.

إن غروب الشمس و انسدال العتمة في حنان و النظام المحكم الذي يمسك بالنجوم في أفلاكها و إطلالة القمر من خلف السحاب و انسياب الشراع على النهر و صوت السواقي على البعد و حداء فلاح لبقراته و نسمات الحديقة تلف الشجرات التي فضضها القمر كوشاح من حرير.. إذا اقترنت هذه الصورة الجميلة من النظام و التناسق بنفس تعزف داخلها السكينة و المحبة و النية الخيرة.. فهي السعادة بعينها.

أما إذا اقترنت هذه الصورة من الجمال الخارجي بنفس يعتصرها الغل و التوتر و تعشش فيها الكراهية و تنفجر داخلها قنابل الثأر و الحسد و الحقد و نوايا الانتقام.. فنحن أمام خصومة و تمزق و انفصام. نحن أمام هتلر لا حل له إلا أن يخلق حربا خارجية تناسب الحرب الداخلية التي يعيش فيها.. نحن أمام شقاء لن يهدأ إلا بأن يخلق شقاء حوله.

إن السعادة في معناها الوحيد الممكن هي حالة الصلح بين الظاهر و الباطن بين الإنسان و نفسه و الآخرين و بين الإنسان و بين الله. فينسكب كل من ظاهره و باطنه في الآخر كأنهما وحدة، و يصبح الفرد منا و كأنه الكل.. و كأنما كل الطيور تغني له و تتكلم لغته.

أما الصورة الدارجة للسعادة التي تتداولها الألسن عن شلة الأنس التي تكرع الخمر في عوامة و حولها باقة من النساء الباهرات العاريات و أجساد تتخاصر و شفاه تتلاثم في شهوة مشتعلة و أفواه تتنفس الحشيش في خدر و تلذذ.

هذه الصورة هي حالة شقاء و ليست حالة سعادة فنحن مع نفوس تركت قيادها للحيوان الذي يسكنها و كرست حياتها لإرضاء خنزير كل همه أن يأكل و يضاجع.

هي حالة عبودية.. حالة غرق للإنسانية في مخاط الحيوانية اللزج.

و مثلها حالة السعداء الآخرين الذين يتسلقون على بعضهم بعضا جريا وراء المناصب و الآخرين الذين يكدسون المال و الطين و العقار و يلتمسون السلطة و القوة بكل السبل.
فالسعادة لا يمكن أن تكون في المال أو القوة أو السلطة بل هي في (( ماذا نفعل بالمال و القوة و السلطة)).

في النفس التي تستخدم المال و القوة و السلطة.

السعادة ليست في البيت المفروش بالسجاجيد العجمي و الشينوا و الكريستال و لكن في النفس التي تسكنه.

و (( الخارج)) لا يستطيع أن يقدم لنا شيئا إذا كنا نحن من (( الداخل)).. من نفوسنا.. غير معدين للانتفاع بهذه المنحة الخارجية السخية.. و إذا لم نكن في صلح مع هذا الخارج و في تكييف معه.

و في قصة لتولستوي يقول الإقطاعي للفلاح الطامع في أرضه سوف أعطيك ما تشاء من أرضي. تريد عشرة فدادين.. مائة فدان.. ألفا.. لك أن تنطلق من الآن جريا في دائرة تعود بعدها إلى مكانك قبل أن تغرب الشمس فتكون لك الدائرة التي رسمتها بكل ما اشتملت عليه من أرض.. شريطة أن تعود إلى نقطة البدء قبل غروب الشمس، أما إذا غربت الشمس و لم تعد فقد ضاعت عليك الصفقة.. و يفكر الفلاح الطماع في دائرة كبيرة تشمل كل أرض الإقطاعي.. و هو مطمع يحتاج منه إلى همة و سرعة قصوى في الجري حتى يحيط بها كلها في الساعات القليلة الباقية على الغروب.

و يبدأ في الجري و كلما تقدم الوقت كلما وسع من دائرته اغترارا بقوته و طمعا في المزيد و تكون النتيجة أن تتقطع أنفاسه و يسقط ميتا قبل ثوان من بلوغ هدفه.. ثم لا يحصل من الأرض إلا على متر في متر يدفن فيه.. و هذه هي حاجة الإنسان الحقيقية من الأرض بضعة أشبار يرقد فيها.. و هو ينسى هذه الحقيقة فيعيش عبدا لأهواء و أطماع و أوهام تضيع عليه حياته.

و قد فطن تولستوي إلى هذه الحقيقة فوزع أرضه على الفلاحين و هرب من بيته الأنيق الدافئ و سكن في كوخ حقير مع الفقراء المعدمين.

و كذلك فعل غاندي الذي عاش على عنزة يحلب لبنها و يغزل صوفها.

و كذلك فعل المسيح الذي عاش بلا بيت و بلا زوجة و بلا ولد.. لا يملك إلا ثوبه.

و هؤلاء هم السعداء العظام الذين جاءوا ليعلموا الناس كيف تكون السعادة.

قال لنا بوذا إن السعادة في قمع الرغبة و ردع النفس و كبح الشهوة بذلك وحده يكون العتق الحقيقي للروح و تحررها من سجن الجسد.

و قال لنا المسيح: (( من أهلك نفسه في سبيلي وجدها )).

و قال طالوت لجنوده في القرآن: (( إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني )).

و كلها إشارات و رموز إلى الحقيقة.

فنحن لم نوهب الشهوة لنشبعها أكلا و شربا و مضاجعة و تكديسا للمطامع و الثروات.. و إنما وهبنا الشهوة لنقمعها و نكبحها و نصعد عليها كما نصعد على درج السلم.

فالجسد هو الضد الذي تؤكد الروح وجودها بقمعه و كبحه و ردعه و التسلق عليه.

و بقمع الجسد و ردعه و كبحه تسترد الروح هويتها كأميرة حاكمة و تعبر عن وجودها و تثبت نفسها و تستخلص ذاتها من قبضة الطين و تصبح جديرة بجنتها و ميراثها.. و ميراثها السماء كلها، و مقعد الصدق إلى جوار الله.. و هذه هي السعادة الحقة.

أما إذا غلب حكم الطين و انتصرت الجبلة الحيوانية و قرن الإنسان ذاته الشريفة بالمادة الطبيعية فقد هبط بنفسه إلى سجن الضرورات و إلى غلظة الآلية و إلى نار الطبيعة التي تأكل بعضها بعضا و أصبح منها و فيها و لها.. و تلك هاوية التعاسة و التمزق و الشتات.

و طريق الإنسان هو هذا الكدح خارجا من قبضة مادته إلى نورانية روحه.
(( يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه )).
و هو في مكابدة دائمة من لحظة ميلاده يتأرجح بين قطبي جسده و روحه في قلق لا يهدأ و صراع لا يتوقف.. يصعد ثم يسقط ثم يعاود الصعود ثم يعاود السقوط.

و كل منا له معراج إلى الكمال.
و كل منا يصعد على قدر عزمه و إيمانه.
و لا صعود دون ربط الأحزمة على البطون و كبح الشهوات.

و الكامل حقا لا يرى في الحرمان حرمانا فموضوعات اللذة المادية لم تعد بذات قيمة في نظره فهو قد وصل بإدراكه العالي إلى تذوق المتع الروحية و اللذات المجردة.. فأصبحت الماديات بعد ذلك شيئا غليظا لا يسيغه.. و هو ارتقاء أذواق و ليس فقط ارتقاء همم و عزائم.

و الصوفية يسمون هذا المعراج النفسي بالخروج.. الخروج من الصفات البشرية إلى الصفات الإلهية.

و الله يطوي الصفات البشرية عن أحبابه كما يطوي لهم الأرض و يجذبهم إليه.. و هي الجذبة الصوفية.. و هي إذا جاءت لصاحبها على غير استعداد جعلت منه مجذوبا خارجا عن صوابه، و هي رتبة دون الكمال.. لأن الكمال هو الصلاح بوعي.. و ليس الصلاح بفقد الوعي.
و الأنبياء في هذا الموضوع هم القدوة.
و لم نعرف نبيا واحدا كان مجذوبا أو هائما على وجهه بلا عقل.
و هذه إحدى مزالق الطريق الصوفي.. أن يتعجل السالك الطريق برياضات الخلوة الحادة و مجاهداتها المضنية فيفقد حيوانيته و عقله معا.

و القرآن كان هو المنهج الأمثل لهذه التزكية النفسية فاختار طريق الوسط.. طريق الاعتدال، بين الإفراط و التفريط.
(( كلوا و اشربوا و لا تسرفوا )).. فنصح بضبط النفس على جادة الاعتدال.. لا رهبانية و صيام الدهر.. و لا إطلاق لعنان الشهوات.. و إنما ضبط السلوك على دستور الشريعة و الوصايا.. و هو منهج يؤدي إلى العروج الروحي دون تعسف و دون جذب.

و لا يهتم المسلم السالك بأن تجري على يديه الكرامات و خوارق العادات و إنما هو يقول.. أعظم كرامة هي الاستقامة.

و الاستقامة هي سمة الإنسان حقا.

و هي تلك الحالة التي وصفناها في بداية المقال بأنها انسجام الظاهر و الباطن في وحدة متناسقة متناغمة.. و أنها حالة الصلح بين الإنسان و نفسه و بينه و بين الناس و بينه و بين الله.

فكر
11-19-2005, 01:46 AM
الأصنام

نحن نقول إننا في عصر العلم و إننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها و أوثانها.. و لم يعد هناك من يعبد اللات و العزى و هبل و لا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة.

و لكني أقول بل نحن عبدة أوثان نسجد و نركع و نحرق البخور و نرتل التسابيح و الابتهالات في كل لحظة لأصنام لا حصر لها.

نحن في الجاهلية بعينها و لو تكلمنا بلغة الإلكترونات.. و لو مشينا على تراب القمر.

إنما اختلفت أسماء الأصنام.. و اختلفت صورها و نوعياتها.. و تسترت تحت ثياب الألفة.. و لكنها هي الأصنام بعينها.

ماذا يكون جسد المرأة العاري اليوم.. و هل هو إلا صنم رفعناه إلى مرتبة الإله المعبود المعشوق المرتجى.

لقد أصبحت صورة الجسم العاري ماركة مسجلة نروج بها أي بضاعة.
صورة المرأة العارية هي تعويذة التاجر التي يرسمها على إعلانات السجائر و إعلانات الخمور و الصابون و البيرة و الكاميرات و الساعات و الحراير و الأقمشة حتى أدوية الزكام و شفرات الحلاقة و معاجين الأسنان.

و هي عامل مشترك في كل أفيشات السينما و المسرح.
و هي على أغلفة المجلات و على كروت المعايدة و في جميع الفاترينات بمناسبة و بدون مناسبة.
و هي على علب الشيكولاته و علب البونبون و زجاجات العطر و نجدها بدون سبب في إعلان لتروس الماكينات.

و نفاجأ بها في إعلان سيارات تفتح لنا الباب و في طائرات س م ع تقدم لنا طبقا من الجاتوه مع ابتسامة.. و إلى جانب مطحنة بن تقدم لنا فنجانا من القهوة.. بل و في إعلان عن أسياخ الحديد الصلب تدعونا لنبني بيتا جديدا.. و هي دائما عارية أو نصف عارية أو بالمايوه.

و كأنما لا وسيلة لجذب الانتباه إلا باستخدام هذا المعبود الجديد.. و لا طريقة لشد العين إلا بالتلويح بهذا الوثن.

إنه الذكر و الابتهال و التسبيح العصري تسفح فيه الدموع و تنشد الأشعار و ترتل المزامير و الأغاني و الرباعيات و السبعايات و تؤلف المسلسلات و الحلقات كل حلقة تشحذ الذهن و تثير شهية المستمع و المتفرج.

أما الصنم الثاني أو لعله المعبد أو الكاتدرائية العظمى أو جبل الأولمب الذي يتجمع فيه حشد الآلهة العصرية فهو فاترينة البضائع الإستهلاكية التي تتحلق حولها العيون مشدوهة مبهورة مسبحة تكاد تركع للثلاجة و الريكوردر و التليفيزيون و الساعة الذهبية و السوار الماسي. و الابن يقتل أباه و الأخ يسرق أخاه و الموظف يختلس و الصانع يغش و الصراف يزور و المزيف يزيف في سبيل هذه الفاترينة الوهاجة.. فاترينة الأحلام.. الكل يتهجدون و يسهرون الليل يصلون لها.. و كل شيء يفنى ما عدا وجهها ذي الجلال و الإكرام المضاء دائما بالنيون و الفلورسنت في حي المال و التجارة من كل مدينة.

أما الصنم الثالث فهو الهيكل.. هيكل الفكرة المجردة و النظرية و المذهب السياسي الذي يركع فيه المريد المتعصب. لا يرى حقا إلا ما تقوله بنود نظريته و لا يرى صدقا إلا ما يأمر به مذهبه فإذا سمع من يتكلم عن مذهب آخر فهو خائن مارق فاسق يستحق أن يحرق حيا.. و هو يعيش بفكر مقلوب و منطق معكوس فالإنسان عنده يجب أن يوضع في خدمة النظرية لا النظرية في خدمة الإنسان.

و هذا هو عابد الصنم الأجوف المجرد و عابد قصاصات الورق و الشعارات الطنانة الكاذبة.. و هو أحد مجانين هذا الزمان.

و صنم آخر شائع هو الدكتاتور و الحاكم المطلق و الطاغية المستبد الجالس على عرش السلطة و من حوله بلاط الهتافين و المصفقين و حملة المباخر و المجامر و المسبحين بالحمد و المنافقين و الكذابين و قارعي الطبول و نافخي الأبواق. تزفه الأناشيد و الأهازيج في كل مكان.. و يلقن الاطفال في مدارسهم.. إنه الرزاق و المنقذ و المعين الذي يطعمهم من جوع و يؤمنهم من خوف و يكسوهم من عري و أن عليهم أن يتوجهوا إليه بالتسبيح و التحميد كل صباح.. و أن عليهم أن يحفظوا كلماته و يعوا وصاياه و يلتمسوا رضاه.

و ربما كانت أشيع أصنام هذا العصر و أكثرها انتشارا هو صنم (( الذات)).. عبادة النفس.. و اتباع الهوى.

المرأة التي تعبد جمالها.. و الرجل الذي يعبد أناقته.. و الممثل الذي يفتتن بشهرته.. و الفنان العابد لفنه.. و البطل المبهور ببطولته.. و المتحدث اللبق الذكي المعجب بنفسه و بذكائه.. و نجم السهرة المزهو بشخصيته.. و صاحب الملايين الفرحان بملايينه.

و المال في أكثر الأحوال و في هذا العصر المادي صنم في ذاته تقدم له القرابين من دم الجميع.

و قد يختفي صنم (( الذات )) وراء صنم أكبر هو (( العصبية )) للعائلة أو القبيلة أو الطائفة أو العرق أو العنصر أو الملة و كلها أصنام.. و كلها عبوديات.. و كلها شرك.

و عابد الله لا يكون عبدا لله إلا إذا تحرر منها جميعا و أسلم قلبه و وجهه خالصا من جميع الشواغل و العلائق و التبعيات و المنازعات.

القلب لله (( بلا منازع )).. هذا هو الدين.

أما ما نحن فيه فهو جاهلية.. جاهلية العلم التي جاءت بأصنامها الجديدة و نصبت أوثانها العصرية و أقامتها مكان اللات و العزى و هبل و بعل و أقامت لها الهياكل و وظفت لها السدنة و الكهان و قدرت لها النذور و القرابين.

و لو أننا جلسنا إلى أنفسنا و صارحنا أنفسنا في لحظة صدق لوجد أكثرنا نفسه في إحدى خانات عباد الأصنام يسبح دون أن يدري لوثن من تلك الأثان الخفية التي أقامها عصر المادة في قلوب الناس.

(بتصرف)

فكر
11-19-2005, 01:47 AM
ساخطون بلا مناقشة

السخط و الرفض و التذمر و الاحتجاج على كل شيء أصبح موضة اليوم بين الشباب.
أحيانا يكون الاحتجاج على الآباء.
و أحيانا على الحكام.
و أحيانا على النظام الإجتماعي.
و أحيانا على الكون كله.
و أحيانا على الله سبحانه.

كلمة لا.. بدون تمييز.. بقضية و بلا قضية بهدف و بلا هدف..
و أحيانا لا.. للنظافة.. و لا للقيم و الأخلاق.. و لا.. للعمل.. و لا.. للواجب و المسئولية و النظام.

و النموذج الجديد لهذه اللائية المتطرفة هو مجتمع الهيبيين الذين يتناكحون على الأرصفة و يمارسون الشذوذ الجنسي و يتسولون ثمن زجاجة بيرة و يشتركون في كل إضراب و يهتفون في كل مظاهرة و يبصقون على كل شيء.. و يتصورون أنهم طلائع الحرية و أنهم أول من خرج من أقفاص الإنسانية.. و الحق أنهم خرجوا فعلا من أقفاص الإنسانية و لكن ليدخلوا في أقفاص القرود.

و كلمة لا.. كانت من أشرف الكلمات حين قالها محمد – صلى الله عليه و سلم- لجاهلية زمانه لأنها كانت كلمة تحمل معها النور و الحق و العدل و الخير.
كانت لا.. أشادت أمة من عدم.
كانت لا.. معها رؤية جديدة و كتاب و طريق.
لم تكن معولا يهدم و إنما كانت يدا تبني و شعاعا يهدي.

و نحن جميعا مندوبون لنقول لا.. للظلم.. و لا للباطل.. أما لا على وجه الإطلاق.. الثورة للثورة و السخط للسخط.. الخروج من ظلم إلى ما هو أظلم.. الخروج من خطأ بنشدان الفوضى.. تهديم كل شيء بدون رؤية.. هذه الصرخة الجديدة التي تردد الآن في جنبات العالم هي دسيسة دست على شبابه.. و من ورائها عقول ماكرة تعمل في خفاء و ذكاء لإفساد كل شيء.

في الفن في الفكر في الفلسفة في السياسة في الرواية في الموضة في السينما يمكن أن تلمس هذه الأيدي الخفية.. و هذه التيارات الخبيثة للتهديم.

غياب الصورة الإلهية من الرواية و القصة.

تلك الروايات التي نراها على الشاشة أو نقرأها و كأنها الكوابيس.. و نعيش فيها ساعات ثقيلة مظلمة و كأننا في عالم بلا إله.. و نخرج بحالة من الشك و الضياع و التوهان و نحن نلعن كل شيء.

دوران الأفكار الروائية في فلك واحد حول الجنس و الخيانة و اللامبالاة و الانحلال و طلب اللذة بأي ثمن بهدف تحطيم روابط الأسرة.

إشاعة الإباحية باسم تحرير العواطف.

إفساد الفطرة بالتركيز على الجريمة و الشذوذ.

تملق الغوغاء و تحريض الطبقات باسم الثورة و التقدمية.

استخدام الأسلوب الجميل و الطرافة و الإمتاع كغلاف من السليوفان الجذاب لترويج أسوأ المضامين و أردأ البضائع الفكرية.

فكر سارتر الذي يحمل معه كل من يعتنقه إلى حالة من الغثيان و القيء و العبثية و الإحساس بعدم الجدوى و بأن الإنسان قذف به في الكون و ترك وحده بلا عناية و بلا رعاية.

فكر فرويد الذي يحمل قارئه على الإعتقاد بأن الإنسان مجرد غرائز جنسية هائجة تبحث عن الإشباع في النوم و اليقظة و في الطفولة و الشباب و الشيخوخة.. و بأن أشرف ما أبدع الإنسان من فنون و آداب قد خرج من أعضائه التناسلية و بأنه حيوان يغلف شهواته بالمبررات الكاذبة. و لكنه حيوان من مولده إلى موته.. التخريب فيه غريزة و التهديم غريزة و الموت غريزة.

و على نهج فرويد في تفسير سلوك الإنسان بالحوافز الجنسية سار الفكر الماركسي في تفسير سلوك التاريخ بالحوافز المادية.

ثم جاء هربت ماركوز ليستفز الشباب إلى حالة رفض مطلق و ثورة مستمرة لتفجير المجتمع بعد أن تكاسلت البروليتاريا عن تلبية نداء الفكر الماركسي لتهديم البنيان الاجتماعي و أخلدت إلى الترف و إلى رشوة الراحة و البقشيش السخي الذي قدمته إليها الرأسمالية الغربية.

و ليست مصادفة أن رواد تلك الأفكار المادية كانوا جميعا من اليهود..

ثم سؤال على الهامش.
هل صحيح أن النظر المنصف إلى الوجود و تأمل الحياة في موضوعية يؤدي بالإنسان إلى حالة من الغثيان و القيء و العبثية و الإحساس بعدم الجدوى و يخلف إحساسا بأن الإنسان قذف به في الكون و ترك وحده بلا عناية؟..

و هل صحيح أن الإنسان يدور في فلك أعضائه التناسلية؟

و هل من الممكن تفسير جميع مراحل التاريخ بالصراع الطبقي.. و ماذا نقول في الصراع بين روسيا و الصين و كلاهما بروليتاريا.. و صراعهما مع ذلك يشكل التاريخ.

و ماذا نقول في فدائي يموت في فيتنام أو القدس هل هو يدور في فلك أعضائه التناسلية.. و هو الذي يضحي بجسده كله في سبيل حق مجرد و مثاليات صرفة.

أما خرافة الغثيان و القيء و العبثية.. فهي عبثية عند سارتر وحده و قيء خارج من مناخ نفسي و حالة باطنية يعانيها هو.. أما الكون فهو بريء من العبثية منضبط أكثر من ساعة إلكترونية سواء نظرنا إلى الذرة و هي أصغر ما فيه أو إلى المجرة و هي أكبر عوالمه.

في الذرة لا يستطيع إلكترون أن ينتقل من مدار إلى مدار إلا إذا أخذ أو أعطى شحنة تساوي حركته من النواة أو إليها.
و هذا هو حال الإلكترون الذي لا يعرف له جرم من فرط صغره.

و في المجرة العظيمة تولد الشموس و تشب و تشيخ و تموت و تتحرك في أفلاك و تدور حولها الكوكبات كل هذا يجري في دقة و نظام وفقا لهندسة مقدرة و قوانين ثابتة لا تخرق.

أما الإنسان فلم يقذف به إلى الكون بلا عناية. بل العكس هو الصحيح.. فالعناية الإلهية حفت به من لحظة ميلاده.. بل من لحظة تكوينه في رحم أمه.. فالعناية سلحته بجميع وسائل الدفاع التي يحتاجها.. سلحته بالسمع و البصر و اليد و العضل و الحيلة و الذكاء و العقل.

و في المخ وحده عشرة آلاف مليون خط عصبي تنقل الإشعارات و ردود الأفعال طول الوقت بلا خطأ و بلا عطل.

و في الكليتين و الرئتين و الكبد زيادة وافية في النسيج العامل تبلغ سبعة أضعاف الحاجة.. و هذه الزيادة هي الاحتياطي (( الاستبن )) الذي وهبته العناية الإلهية لمواجهة الأعطال و الطوارئ المحتملة.

و يموت في الساعة من جسم الإنسان ستون مليون خلية تتجدد في نفس الوقت في تلقائية و دقة و نظام بديع..
و في الخلية الواحدة التي تبلغ في صغر حجمها واحدا من ألف من الملليمتر.. في داخل هذه الخلية الدقيقة نرى بالمجهر الإلكتروني مصانع و مخازن و جهازا لتوليد الطاقة ( و أرشيف ) و مخا آليا لتنظيم هذه الأنشطة المختلفة.. كل هذا داخل صندوق هو جزء من ألف من الملليمتر.

إن لم يكن هذا هو منتهى العناية من الخالق فماذا يكون.. و ماذا يكون كلام سارتر عن العبثية في الوجود و عن الإنسان الذي قذف به في الوجود بلا عناية.. إلا الجرأة على الحق بعينها و إذا كان مراد سارتر بالعبثية هو ما يجري على الإنسان من مرض و شيخوخة ثم موت و ما يجري على الحياة من كوارث و أوبئة و زلازل و براكين و طوفانات و حروب مهلكة فهذه كلها أمور عارضة و نحن نمرض و نصح و بدون المرض لا نعرف الصحة.. و المرض هو الاستثناء و الصحة هي القاعدة و الزلازل و البراكين و الطوفانات حوادث استثنائية و كل منها له وجه خير و منافع و فوائد. و بالزلازل و البراكين تستعيد الكرة الأرضية توازنها كل عدد من السنين و لولا هذا التفريج و التنفيس المؤقت لانفجرت الأرض بالضغوط الهائلة في داخلها.

و الآلام و المشقات تربي الجلد و التحمل، و المحن تشحذ العزائم كما تربي الأمراض الوقاية و الحصانة.

و الشر في الكون كالظل في الصورة يبدو من قريب عيبا فإذا ابتعدت بعينيك و نظرت إلى الصورة نظرة كلية اكتشفت أن هذا العيب هو ظل، و أنه جزء مكمل للصورة.

و في هذا يقول ابن عربي أن نقص العالم هو عين كماله كما أن اعوجاج القوس هو عين صلاحيتها و لو أنها استقامت لانكسرت و لما رمت.. ثم إن عالم الدنيا كله عارض زائل و لذلك كان شره عارضا و زائلا و قد جعله الله مقدمة لخير باق في الآخرة.

و الموت ليس نهاية و إنما بداية لفصل آخر، و حياة أخرى.. و الحكم على رواية بقراءة سطر واحد منها لا يكون حكما صحيحا.. و إنما يجب الانتظار إلى أن تتم الرواية فصولا قبل أن نحكم عليها.

ثم هل يجب على الله أن يحقق السعادة للجميع و لماذا.. و كيف نوجب على الله ما نجهل.. و كيف نلزمه بطرق تفكيرنا و وجهات نظرنا.

و هؤلاء الذين يريدونها جنة هل يستحقونها جنة.. و هم ينفثون فيها الشر و الحقد و السم في كل لحظة.

و يقول الغزالي في ذلك و يؤيده في رأيه ابن عربي أن الإنسان لا يجري عليه قضاء إلا من جنس استحقاقه.
(( لا يظهر فيك و لا منك إلا عينك ))
بمعنى أنه لا يجري عليك من الحوادث إلا من جنس قلبك و نيتك و ضميرك.

و يقول ميتر لنك في هذا المعنى: (( جرعتك من الماء دائما تساوي سعة فمك.. أنت لا تقابل إلا نفسك في الطريق.. إذا كنت لصا أسرعت إليك حوادث السرقة و إذا كنت قاتلا قدمت إليك الظروف الفرصة تلو الفرصة لتقتل )).

إن الله صاغ العالم على مقتضى العدل و اختار بحكمته دائما أفضل الممكنات.
و تأمل الكون و الحياة لا يكشف للباحث إلا الجمال و الإبداع و النظام و العدل و القانون و لا توجد الفوضى إلا في نظمنا نحن.

و لكن العيون التي فيها قذى و القلوب التي مالت عن الحق لا ترى إلا العبث و الغثيان.. و لا تعمل إلا للإفساد و التهديم.

هؤلاء هم فرسان الشر و طلائعه.

فلنقرأ كل ما يصل إلى أيدينا بحذر و بعقل ناقد فما أكثر ما يدس لنا من سموم يراد بها هلاكنا.

و لنثق دائما بأن الله كله خير و بأن مشيئته كلها رحمة و من يشك في كلامي فليقرأ المقال مرة أخرى من الأول.

فكر
11-19-2005, 01:48 AM
شق في الحائط

النملة التي تسكن شق الحائط و تتجول في عالم صغير لا يزيد عن دائرة قطرها نصف متر و تعمل طول الحياة عملا واحدا لا يتغير هو نقل فتافيت الخبز من الأرض إلى بيتها تتصور أن الكون كله هو هذا الشق الصغير و أن الحياة لا غاية لها إلا هذه الفتفوتة من الخبز ثم لا شيء وراء ذلك.. و هي معذورة في هذا التصور فهذا أقصى مدى تذهب إليه حواسها.

أما الإنسان فيعلم أن الشق هو مجرد شرخ في حائط و الحائط لإحدى الغرف و الغرفة في إحدى الشقق و الشقة هي واحدة من عشرات مثلها في عمارة و العمارة واحدة من عمارات في حي و الحي واحد من عدة أحياء بالقاهرة و القاهرة عاصمة جمهورية و هذه بدورها مجرد قطر من عدة أقطار في قارة كبيرة اسمها أفريقيا و مثلها أربع قارات أخرى على كرة سابحة في الفضاء اسمها الكرة الأرضية.. و الكرة الأرضية بدورها واحدة من تسعة كواكب تدور حول الشمس في مجموعة كوكبية.. و المجموعة كلها بشمسها تدور هي الأخرى في الفضاء حول مجرة من مائة ألف مليون شمس.

و غيرها مائة ألف مليون مجرة أخرى تسبح بشموسها في فضاء لا أحد يعرف له شكلا.. و كل هذا يؤلف ما يعرف بالسماء الأولى أو السماء الدنيا و هي مجرد واحدة من سبع سماوات لم تطلع عليها عين و لم تطأها قدم و من فوقها يستوي الإله الخالق على عرشه يدبر كل هذه الأكوان و يهيمن عليها من أكبر مجرة إلى أصغر ذرة.

كل هذا يعلمه الإنسان على وجه الحقيقة.. و مع ذلك فما أكثر الناس أشباه النمل الذين يعيشون سجناء محصورين كل واحد منغلق داخل شق نفسه يتحرك داخل دائرة محدودة من عدة أمتار و يدور داخل حلقة مفرغة من الهموم الذاتية تبدأ و تنتهي عند الحصول على كسرة خبز و مضاجعة امرأة ثم لا شيء وراء ذلك.. رغم ما وهب الله ذلك الإنسان من علم و خيال و اختراع و أدوات و حيلة و ذكاء و رغم ما كشف له من غوامض ذلك الكون الفسيح المذهل.

أكثر الناس بالرغم من ذلك قواقع و سلاحف و نمل كل واحد يغلق على نفسه قوقعته أو درقته أو يختبئ داخل جحر مظلم ضيق من الأحقاد و الأضغان و الأطماع و المآرب.

نرى الذي يموت من الغيرة و قد نسي أن العالم مليء بالنساء و نسي أن هناك غير النساء عشرات اللذات و الأهداف الأخرى الجميلة.. و لكنه سجن نفسه بجهله و غبائه داخل امرأة واحدة و داخل جحر نملة واحدة التصق بها كما يلتصق بقطرة عسل لا يعرف لنفسه فكاكا.

و نرى آخر مغلولا داخل رغبة أكالة في الانتقام و الثأر يصحو و ينام و يقوم في قمقم من الكوابيس لا يعرف لنفسه خلاصا و لا يفكر إلا في الكيفية التي ينقض بها على غريمه لينهش لحمه و يشرب دمه.

و نرى آخر قد تكوم تحت الأغطية و غاب في محاولة حيوانية لاستدرار اللذة مثل قرد الجبلاية الذي يمارس العادة السرية أمام أنثاه.

و نرى آخر قد غرق في دوامة من الأفكار السوداوية و أغلق على نفسه زنزانة من الكآبة و اليأس و الخمول.

و نرى آخر قد أسر نفسه داخل موقف الرفض و السخط و التبرم و الضيق بكل شيء.

و لكن العالم واسع فسيح.

و إمكانيات العمل و السعادة لا حد لها و فرص الاكتشاف لكل ما هو جديد و مذهل و مدهش تتجدد كل لحظة بلا نهاية.

و قد مشى الإنسان على تراب القمر.
و نزلت السفن على كوكب الزهرة.
و ارتحلت الكاميرات التليفزيونية إلى المريخ.

فلماذا يسجن الإنسان نفسه داخل شق في الحائط مثل النملة و يعض على أسنانه من الغيظ أو يحك جلده بحثا عن لذة أو يطوي ضلوعه على ثأر.

و لماذا يسرق الناس بعضهم بعضا و لماذا تغتصب الأمم بعضها بعضا و الخيرات حولها بلا حدود و الأرزاق مطمورة في الأرض تحت أقدام من يبحث عنها.

و لماذا اليأس و صورة الكون البديع بما فيها من جمال و نظام و حكمة و تخطيط موزون توحي بإله عادل لا يخطئ ميزانه.. كريم لا يكف عن العطاء.

لماذا لا نخرج من جحورنا.. و نكسر قوقعاتنا و نطل برؤوسنا لنتفرج على الدنيا و نتأمل.

لماذا لا نخرج من همومنا الذاتية لنحمل هموم الوطن الأكبر ثم نتخطى الوطن إلى الإنسانية الكبرى.. ثم نتخطى الإنسانية إلى الطبيعة و ما وراءها ثم إلى الله الذي جئنا من غيبه المغيب و مصيرنا إلى غيبه المغيب.

لماذا ننسى أن لنا أجنحة فنجرب أن نطير و نكتفي بأن نلتصق بالجحور في جبن و نغوص في الوحل و نغرق في الطين و نسلم قيادتنا للخنزير في داخلنا.

لماذا نسلم أنفسنا للعادة و الآلية و الروتين المكرر و ننسى أننا أحرار فعلا.

لماذا أكثرنا نمل و صراصير..

عَرَبِيّة
12-26-2010, 07:43 AM
فِكر : آخر نشاط: 06-28-2006
ويبقى الدهر ماكتبت يداه .. جزاه الله خيراً
أتمنى أن يكون الأخ/الأخت "فكر" بخير .
يُرفع للفائدة .