أبو الفداء
12-27-2011, 04:03 PM
المقدمة
الحمد لله وحده.
أما بعد:
فهذه ورقة بحثية موجزة في فلسفة الأديان، في بيان المنطق الشكلي لطريقتين لقلب الحجة على المخالف، رأيت أن أعرض لكيفية استعمالهما في نقض دعوى أهل الملل المخالفة (بما فيها الإلحاد بألوانه) أن من شرائع الإسلام ما يعد دليلا على بطلانه وعلى أنه ليس دين الله عز وجل. وهي شبهة مشتهرة مبثوثة في فضاء الشبكة العنكبوتية، لها أصلها في أعمال المستشرقين والمنصرين، وهي اليوم – على اختلاف صورها وموادها من أفراد شرائع وأحكام الإسلام – تعد المستند الوحيد الذي يستند إليه المعترضون على دين الله تعالى في الغرب، فترى ديدنهم الكلام في أحكام الإسلام في المرأة، وأحكامه في الرق وملك اليمين، وأحكامه فيما يسمى بحقوق الإنسان وحرية الفكر، وأحكامه في نحو ذلك مما لا يرضى أكثر أهل الغرب في زماننا هذا بأن يكون لخالقهم فيه حكما يخالفهم أهواءهم فيه، أو يحملهم على تغيير "نمط حياتهم" وما اعتادوا عليه في إطار ما بات هو تعريف الكثيرين منهم "للحضارة الغربية" المعاصرة نفسها!
ومع أنه ينبغي أن يكون غنيا عن الذكر والتقرير أن مجرد إثبات أن هذه الشريعة التي بين أيدينا مصدرها الخالق العليم جل وعلا يكفي لتصحيح أحكامها أخلاقيا ورفع تلك الأحكام فوق كل ما يخالفها مما أفرزته قرائح الفلاسفة في زماننا هذا وفي كل زمان أخذا بالظن والترجيح المنقطع عن وحي السماء، وعلى الرغم من أن سباكة الحجج في صورة مقدمات ونتائج على الطريقة الشكلية المشهورة لدى الفلاسفة كثيرا ما تكون سببا في إطالة الطريق إلى المطلوب، وفي فتح باب الجدل في المسلمات والبدهيات العقلية الأولى، إلا أنه قد تترجح المصلحة في استعمالها أحيانا، كما هو الحال فيما اعتزمته في هذا المبحث.
فقد رأيت أن عامة الملاحدة من كتاب المنتديات العربية في زماننا يتعلقون بتلك الدعوى الواهية السخيفة التي مفادها أن في دين الإسلام "شرا" و"وحشية" و"تخلفا" فيما جاء به من تشريع على المستوى الأخلاقي والجنائي (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)، ويحسبون – تبعا لبعض الفلاسفة المعاصرين الذين صنفوا فيما يسمى بمشكلة الشر – أن في مزاعمهم المرسلة من هذا الصنف ما يكفي لإقامة حجة عقلية على بطلان دين الإسلام وانقطاعه عن خالق السماوات والأرض، ومن ثم تسويغ وقوفهم على موقف "اللا-دينية" و"اللا-أدرية" ونحوه من أسماء ودرجات الإلحاد المعاصر. وكذلك الحال مع النصارى من كتاب المنتديات ولا فرق. فلعله يكون من المفيد بيان قوة منطق قلب الحجة في هدم ما يتمسكون به من وهم الحجاج، بما لا يترك متسعا لمتفلسف منهم بعدُ لأن يتطلع إلى التعلق بذاك الاعتراض السخيف، يتخذه تكأة لرفض الحق المنزل من رب العالمين. وذلك من خلال تحليل مستندهم العقلي في قالبه الشكلي formal، وبيان الطريق إلى إظهار ما فيه من مغالطة عقلية من جنسين على الأقل:
• المحاججة بالدعوى المجردة Fallacy of Assertion
• الاستناد إلى ما سنته وارتضته الكثرة argumentum ad populum
ولما كان منطق قلب الحجة على المخالفين – من حيث الأصل العقلي - طريقا معتبرا في إبطال حججهم وبيان افتقارها إلى المقدمات الكافية للوصول إلى المطلوب، وقد استعمله الرب جل وعلا في غير موضع من كتابه الكريم[1]، فقد رأيت أن أضع بين أيدي الباحثين في فلسفة الأديان والإلحاد من طلبة العلم المعاصرين طريقة يسيرة لصياغة تلك الحجج على الطريقة الشكلية، مع تطبيقها على تلك الشبهة سالفة الذكر، والله الموفق المعين على كل خير.
1- المنطق الشكلي لقلب الحجة على الخصم:
يقصد "بقلب الحجة": استخراج الدليل على بطلان حجة الخصم من منطوقها المجرد، من طريق عكس المقدمات المشتمل عليها في ذلك المنطوق على المخالف وبيان أن النتيجة التي يفضي إليها ذلك العكس (وهي مقلوب دعوى المخالف) هي الصواب في الحقيقة، وليس ما يزعمه المخالف. هذا البيان يأتي غالبا من بيان افتقار المخالف إلى مقدمة كافية أو خالية من التناقض لبناء دعواه، مع قيام مقلوب حجته على مقدمات كافية صحيحة.
ومن أمثلة قلب الحجة في القرءان، ما حكاه الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام من محاججته لقومه في قوله: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأنعام 81).
فكأن حجة أو دعوى المشركين من قوم إبراهيم تنتظم في مقدمتين ونتيجة بيانها كالتالي:
1- الجماعة (م) تخاف الآلهة (الباطلة) ولا تخاف الله.
2- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة).
3- إذن: (م) في أمن من أمرهم و(ع) على خطر عظيم.
حيث الجماعة (م): المشركون، والجماعة (ع): إبراهيم عليه السلام ومن وافقوه.
فعليه يكون مقلوب حجتهم "ق" كالتالي:
4- الجماعة (م) تخاف آلهتها (الباطلة) ولا تخاف الله........ ( 1)
5- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة)...... ( 2)
6- إذن: (م) في خطر عظيم و(ع) في أمن من أمرهم. .......... (مقلوب 3)
وتأتي الغلبة والظهور للحجة "ق" (4، 5، 6) مما هو مستصحب ومعهود في الذهن من مقدمة أولى "أ" مفادها:
• إن الخالق (الله تعالى) لا يخاف من مخلوقاته (التي منها تلك الآلهة الباطلة)، وإنما يجب في العقل أن تخافه تلك المخلوقات جميعا.
فعلي أي شيء يقيم المشركون دعواهم في مقابل هذه المقدمة "أ"؟ لا شك أنه مقلوبها، وهو باطل كما لا يخفى.
فمن هنا، إذا جاءت دعوى المخالف في صيغة (1،2،3)، فإن أبسط مقلوب لها يكون (1، 2، مقلوب 3)، مع استصحاب المقدمة الأولى التي لا يملك المخالف نقضها.
هذه واحدة من صور قلب الحجج على المخالفين، التي تتفق كلها في منطق قلب المقدمات (و/أو) النتائج، والوصول إلى نقيض دعوى المخالف بناء على استحضار مقدمة ضرورية أهملها المخالف في بناء كلامه.
وفيما يلي نعرض لصورتين من تلك الصور، وكيفية تطبيقهما على الشبهة التي بين أيدينا. وللتفريق بين الصورتين في هذا المبحث، سأسمي إحداهما بمقلوب الحجة (ق)، والأخرى بعكس الحجة (ع).
2- الصياغة الشكلية العامة لشبهة المعترضين على الشريعة:
تجري تلك الشبهة (ش) في عامة صورها عند القائلين بها في مقدمتين ونتيجة، بيانها كالتالي:
1- جلد (أو رجم) الزناة / قطع يد السارق، الجهاد .. الخ = باطل أخلاقيا.
2- القرءان يحتوي هذا الحكم.
3- إذن: القرءان ليس كتابا منزلا!
أو كالتالي:
4- الأحكام المذكورة في (1) ونحوها باطلة أخلاقيا.
5- الإسلام يأمر بهذه الأحكام.
6- الإسلام دين باطل.
وسواء الصيغة (1، 2، 3) أو الصيغة (4، 5، 6) فالنتيجة واحدة = إبطال ملة الإسلام بناء على مقدمة واحدة: التقرير المرسل لدعوى أن تلك الأحكام باطلة أو فاسدة أخلاقيا!
2.1 مقلوب الشبهة (ق):
على المنطق الذي تقدم عرضه لقلب الحجة، فإن الحجة (ق) التي هي مقلوب الصياغة السابقة تكون كالتالي:
7- الأحكام (كذا وكذا) صحيحة أخلاقيا وما يخالفها باطل أخلاقيا.
8- الملة "م" (أي ملة باطلة بما في ذلك الإلحاد) تجيز مخالفة تلك الأحكام.
9- الملة "م" باطلة.
فيكون المنطق الشكلي للحجة (ق) التي هي مقلوب (ش) = (نقيض 1/4، نقيض 2/5، نقيض 3/6)، وتكون الغلبة للحجة (ق) على (ش) متحصلة من تقرير مقدمة أولى مستصحبة لدينا لزوما، يستصحب المخالف ضدها لزوما.
هذه المقدمة هي في الحقيقة محل نزاع أتباع الملل فيما بينها، فلا يصح في العقل لأي من الفريقين أن ينتصر لملته (كما هي غاية تلك الحجة أو الشبهة) بالتأسيس عليها وإلا وقع الدور المنطقي! بمعنى أن المخالف لو كان نصرانيا مثلا، ثم جاءنا يقول لنا إن أخلاقيات وأحكام شريعة الإسلام تدل على بطلان ملة الإسلام، لأن النصرانية لا تأمر بها أو تأمر بخلافها، فقد احتج بمحل النزاع بيننا وبينه، ألا وهو النزاع بين القضيتين الكليتين: "الإسلام دين الله الحق"، و"النصرانية دين الله الحق"! وكذلك الحال فيمن يقول إن فلسفة فلان التي أطبقت عليها أمم بأسرها اليوم، تخالف تلك الشرائع عندكم. فنحن إنما نستصحب مقدمة مفادها أن الإسلام دين الخالق، ومن ثم فشريعته هي الحق الأخلاقي المطلق ولابد، فما خالفها فهو باطل أخلاقيا مهما شاع وانتشر، بينما يستصحب المخالف ضد ذلك ليؤسس زعمه بأن هذه الأحكام باطلة أو فاسدة! فسواء كان زعمه مستندا إلى تصحيح ملة مخالفة يدين بها، أو نظرية فلسفية أخلاقية مخالفة يتمسك بها، فهو يستصحب ذلك المستند لا محالة كمقدمة أولى يؤسس عليها حكمه ببطلان تلك الأحكام الأخلاقية عندنا، ليحاكم الملة كلها إلى ذلك كما هو بناء تلك الشبهة عند أصحابها.
فإذا كانت المقدمة الأولى عندنا:
• القرءان كتاب منزل من الخالق قد ثبت له ذلك من طرق قطعية شتى، فكل ما فيه من أحكام وشرائع فهو حق ولابد، وكل ما يخالفه فهو باطل ولابد.
فإن المقدمة الأولى لدى المخالف تكون:
• النظرية الأخلاقية (خ) (سواء جاء بها من ملة يدين بصحتها أو من نظرية فلسفية تعجبه) هي الحق والصواب الأخلاقي المطلق، فما خالفها من ملة أو كتاب فهو باطل ولابد.
فكان مجرد ذكر تلك المقدمة عندنا ومقابلتها بتلك التي عند مخالفنا، دليلا على بطلان دعواه في هذه الشبهة وعلى أنها استدلال بمحل النزاع. فإذا ما زدنا في البيان وقررنا حججنا على أن القرءان كتاب منزل من خالق السماوات والأرض، وألزمنا المخالف بإثبات مقدمته الأولى في مقابل ذلك، فسيتبين بجلاء أنه إنما يتمسك بنظرية من نظريات الأخلاق لا لشيء إلا لأنها أصبحت فكرا سائدا بين أقرانه أو في مجتمعه أو في المجتمع الذي يراه مثاليا واجب التقليد في ذلك! فيكون بتقريره تلك الشبهة قد وقع في مغالطات عقلية بعضها فوق بعض:
• الدور المنطقي Circular Logic
• المحاججة بالتقرير المجرد على نمط "ما تكرر تقرر" Proof By Assertion
• المحاججة من اتباع سنن الآباء وما عليه الكثرة في زماننا Argumentum Ad Populum
وطالما كان الغرض من قلب الحجة إنما هو بيان بطلانها في نفسها وبيان أنها شبهة واهية لا أساس لها ولا تفضي مقدماتها إلى نتائجها المزعومة، فسيكون المقلوب (ق) كافيا لتحقيق ذلك الغرض كفاية تامة. فإذا ما انتهى المخالف إلى أن يقول: "أثبتوا إذن أن الإسلام هو دين الله الحق حتى نسلم لكم بأن الأخلاقيات التي جاء بها في تعاليمها والشرائع التي أمر بها كلها حق أخلاقي وصواب محض"، فقد تحقق لنا غاية ما نريد من الرد، وهو إلزام الخصم بأن الانطلاق بتصحيح أو إبطال جملة من الأحكام الأخلاقية المنسوبة إلى الإسلام إنما يأتي تبعا لإثبات صحة أو بطلان نسبة الإسلام نفسه إلى خالق السماوات والأرض، وليس العكس كما كانت دعواه!
2.2 معكوس الشبهة (ع):
أما الصورة الثانية التي نعرضها في هذا البحث لقلب الحجة، فتصرح في صياغتها باتخاذها نقيض نتيجة الخصم كمقدمة من مقدماتها، وذلك لبيان أن دعواه المجردة لا تخدمه فيما يريد بحال من الأحوال. هذه الصورة الثانية أسميتها بالحجة المعاكسة، على غرار ما يسميه بعض الفلاسفة المعاصرين Argument Shift، كما سماه اللا-لاهوتي الأمريكي ويليام روه بمعكوس مور G. E. Moore's Shift على اعتبار هذا الأخير أول من صاغه في صياغة شكلية واستعمله استعمالا مستفيضا في نقض دعاوى فلاسفة الشك المعرفي Skeptics أمثال هيوم وغيره.
وللتمثيل على ذلك المعكوس كما استمعله مور، فلنفترض أن رجلا متشككا وضع يده أمام وجهه، ثم جاءنا بهذه الدعوى (Murray, Rea2008, pp. 165):
• لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.
• موقف الشك المطلق حق.
• إذن لا يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.
فيكون جوابه بمعكوس الأمور كالتالي:
• لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.
• موقف الشك المطلق باطل.
• إذن يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.
فإذا كانت الدعوى تتكون من (1 ، 2، 3) فالجواب يكون: (1 ، نقيض 2، نقيض 3). فالمقدمة الأولى التي تكلمنا عنها فيما عرضناه آنفا من نسق للمحاججة، التي هي نقيض ما يريد صاحب الدعوى أن يصل إليه، قد أظهرها مور ههنا بجعلها المقدمة الثانية في صياغته (وهي تقرير أن موقف الشك المطلق باطل)، ليصل من ذلك إلى تحويل ما أراد المخالف الاحتجاج به إلى قضية تابعة تتفرع عن إثبات أو نفي الأصل الذي يريد المخالف نفيه! فيبطل بذلك استدلال المخالف وتسقط حجته رأسا، ويرجع الأمر إلى البحث في المقدمة الأولى (وهي المسألة: هل الشك المعرفي المطلق حق أم باطل؟) بعيدا عن تلك الشبهة الاستدلالية الواهية.
ولعله قد استغل مور البطلان البدهي الجلي للنتيجة التي ينتهي إليها المتشكك في صياغته لدعواه (ألا وهي زعمه أن هذا الذي أمامه ليس يدا!!)، ليقابله بمعقولية النتيجة التي ينتهي هو إليها من معكوس تلك الدعوى، فيتحقق له إبطال دعوى المخالف من هذا الطريق[2].
ولمعكوس مور أيضا ترتيب آخر يتخذ من نقيض نتيجة الدعوى المردود عليها مقدمة أولى، وصياغته الشكلية كالتالي (Rowe 1979, pp. 339):
ح: (1، 2، 3)
ع: (نقيض 3، 2، نقيض 1)
حيث "ح": الحجة المدعاة، و"ع": الحجة من معكوس "ح".
ويجري هذا الترتيب إذا ما طبقناه على دعوى المتشكك التي أوردناها في المثال السابق كالتالي:
دعوى المتشكك:
• مبادئ الشك صحيحة (أو على الأقل بعضها).
• لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• إذن: أنا لا أدري ما إذا كانت هذه التي أمامي هي يدي.
معكوس الدعوى:
• أنا أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• إذن: مبادئ الشك باطلة (أو على الأقل بعضها).
ومما لا شك فيه أن دعوى المتشكك كانت ولا تزال – في أيما قالب أو ترتيب عرضناها - من الهبوط والوهاء بما يغني مجرد ذكره عن تكلف رده، وإنما كان القصد من ذلك العرض بيان صور المنطق الشكلي لقلب الاستدلال وعكسه على صاحبه لإسقاط دعواه، أيا ما كانت نحلته الفلسفية وعلى أيما طريقة اختار أن يصوغ تلك الشبهة.
وعلى هذه الصورة وهذا الترتيب الأخير، اخترنا أن نكتب حجتنا المعاكسة (ع) لشبهة القوم واعتراضهم على أحكام الشريعة والأخلاق في القرءان، ليكون نظمها كالتالي:
1- القرءان كلام الله المنزل.
2- القرءان فيه الحكم بقطع يد السارق وجلد الزاني، والسنة الصحيحة فيها رجم الزناة وعليه الإجماع.
3- إذن: هذه الأحكام صحيحة أخلاقيا وهي عين العدالة في العقوبة (فما جاوزها فهو الإفراط وما قصر عنها فهو التفريط، على التعريف الصحيح).
فإذا استصحب المخالف أن فلسفته الأخلاقية هي الصواب الأخلاقي المطلق الذي استند إليه في الحكم على القرءان، قابلنا نحن ذلك بأن القرءان هو الكتاب الحق المنزل من الخالق، بما لا يكاد يحصى من الأدلة والبراهين القطعية، فلا شيء من كتب البشر يصح أن يكون حاكما عليه، وإنما يكون هو الحاكم على سائر كتب البشر ولابد.
ولعل هذه الصياغة (صورة معكوس الشبهة) تكون أقرب إلى الذهن في شبهتنا هذه من صورة مقلوب الشبهة، على اعتبار أنها تتحقق فيها خصلتان لا تتحققان في صورة المقلوب:
• أنها تصرح بالمقدمة الكلية التي تكتفي صيغة المقلوب باستصحابها وحسب دون ذكرها.
• أنها تتخذ تلك المقدمة على رأس مقدمات الحجة، لا كمقدمة ثانية أو ثالثة، بما يظهر معه أنها أساسها وقاعدتها التي تقوم عليها، كما هي حقيقة الأمر.
-----------------
مراجع:
• Murray, M. J. & Rea, M. C. (2008): An introduction to the philosophy of Religion, U.K: Cambridge University Press.
• Rowe, W. L. (1979) "The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism.". American Philosophical Quarterly 16: 33541
------------------------------------------------------
[1] للفائدة ينظر في رسالة الماجستير للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي تحت عنوان «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»، وقد قدمها في سنة 1430 هـ لنيل درجة الماجستير من قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وفي حدود علمي فإن الرسالة حتى تاريخه لم تطبع ككتاب منشور.
[2] تقدم معنا أن إغراق الفلاسفة في ضرب الصياغات الشكلية قد أدى بهم – لا محالة – إلى تطويل الطريق إلى الحق، وفتح الباب أمام المسَلَّمات العقلية والبدهيات الأولى لأن تكون محلا للاشتباه والنظر! فلا يفوتني أن أنبه القارئ الكريم إلى أن هذه الحجة التي رد بها مور على هيوم في مثالنا هذا، إنما هي مثال واضح لهذا التطويل والتماس المعنى الأبعد للوصول إلى الأقرب (بحسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله)، الذي تورثه تلك الخصلة عند الفلاسفة في الحقيقة. فمع أن الأمر من الجلاء بما يكفي معه أن يقال للعاقل إنك لا يستقيم لك عقل ولا لغة لو أنك شككت يوما ما في أن هذا الذي أمامك هو يدك على الحقيقة، إلا أن أمثال هيوم لما وضعوا من الحجج السوفسطائية (الشبهات العقلية) ما يضرب في أصول البدهيات العقلية الأولى في قوالب مصوغة بأمثال تلك الصياغات الشكلية، خرج أقرانهم من مخالفيهم ليردوا عليها بمثلها، واستفاض الأمر حتى أصبح من الطبيعي أن نمر في كتب الفلسفة بحجج طويلة ينتهي منها صاحبها إلى إثبات ما يبدأ منه العقلاء بالضرورة المحضة والبداهة الأولى في كل نظر عقلي! فترى رجلا يكتب حجة منمقة طويلة، لينتهي منها إلى إثبات أن هذه التي يكتب بها هي يده، وإلى الله المشتكى!
لهذا جاء في الأثر عن بعض السلف أن العلم قطرة كثرها الجهلاء! ولهذا نقول إن من السفاهة بمكان أن يقال لطريقة السلف رضوان الله عليهم في فهم صفات خالقهم إنها "أسلم" في مقابل وصف طريقة من جاء بعدهم من المتأثرين بتلك المسالك بأنها "أحكم"، أو يقال إن العلم بالفلسفة والكلام ضرورة للعقلاء حتى يتمكنوا من معرفة الحق فيما جاء به المرسلون! لا والله إنما طريقة المرسلين ومن تبعهم هي الأسلم والأوفى والأجمع لخصال الحكمة لمن تأمل، وفيها الكفاية لكل عاقل صادق! فالحكمة إنما تكون في قصد السبيل، واحتواء المعنى الجزيل في اللفظ القليل، والتماس أقرب الطرق وأقصرها لبيان الدليل، والسعي إلى تقريب المعنى البعيد بالمعاني القريبة إلى الذهن لا العكس من ذلك، وتغليق الأبواب أمام دعاة السفسطة والتشكيك في المسلمات والبدهيات الأولى، فيا ليت الفلاسفة يتعلمون من طريقة القرءان ومن جوامع الكلم فيما جاء به النبي العدنان، صلوات ربي عليه وآله وسلم، ويا ليتهم يعقلون!
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/37087/#ixzz1hk4Y25oq
الحمد لله وحده.
أما بعد:
فهذه ورقة بحثية موجزة في فلسفة الأديان، في بيان المنطق الشكلي لطريقتين لقلب الحجة على المخالف، رأيت أن أعرض لكيفية استعمالهما في نقض دعوى أهل الملل المخالفة (بما فيها الإلحاد بألوانه) أن من شرائع الإسلام ما يعد دليلا على بطلانه وعلى أنه ليس دين الله عز وجل. وهي شبهة مشتهرة مبثوثة في فضاء الشبكة العنكبوتية، لها أصلها في أعمال المستشرقين والمنصرين، وهي اليوم – على اختلاف صورها وموادها من أفراد شرائع وأحكام الإسلام – تعد المستند الوحيد الذي يستند إليه المعترضون على دين الله تعالى في الغرب، فترى ديدنهم الكلام في أحكام الإسلام في المرأة، وأحكامه في الرق وملك اليمين، وأحكامه فيما يسمى بحقوق الإنسان وحرية الفكر، وأحكامه في نحو ذلك مما لا يرضى أكثر أهل الغرب في زماننا هذا بأن يكون لخالقهم فيه حكما يخالفهم أهواءهم فيه، أو يحملهم على تغيير "نمط حياتهم" وما اعتادوا عليه في إطار ما بات هو تعريف الكثيرين منهم "للحضارة الغربية" المعاصرة نفسها!
ومع أنه ينبغي أن يكون غنيا عن الذكر والتقرير أن مجرد إثبات أن هذه الشريعة التي بين أيدينا مصدرها الخالق العليم جل وعلا يكفي لتصحيح أحكامها أخلاقيا ورفع تلك الأحكام فوق كل ما يخالفها مما أفرزته قرائح الفلاسفة في زماننا هذا وفي كل زمان أخذا بالظن والترجيح المنقطع عن وحي السماء، وعلى الرغم من أن سباكة الحجج في صورة مقدمات ونتائج على الطريقة الشكلية المشهورة لدى الفلاسفة كثيرا ما تكون سببا في إطالة الطريق إلى المطلوب، وفي فتح باب الجدل في المسلمات والبدهيات العقلية الأولى، إلا أنه قد تترجح المصلحة في استعمالها أحيانا، كما هو الحال فيما اعتزمته في هذا المبحث.
فقد رأيت أن عامة الملاحدة من كتاب المنتديات العربية في زماننا يتعلقون بتلك الدعوى الواهية السخيفة التي مفادها أن في دين الإسلام "شرا" و"وحشية" و"تخلفا" فيما جاء به من تشريع على المستوى الأخلاقي والجنائي (تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا)، ويحسبون – تبعا لبعض الفلاسفة المعاصرين الذين صنفوا فيما يسمى بمشكلة الشر – أن في مزاعمهم المرسلة من هذا الصنف ما يكفي لإقامة حجة عقلية على بطلان دين الإسلام وانقطاعه عن خالق السماوات والأرض، ومن ثم تسويغ وقوفهم على موقف "اللا-دينية" و"اللا-أدرية" ونحوه من أسماء ودرجات الإلحاد المعاصر. وكذلك الحال مع النصارى من كتاب المنتديات ولا فرق. فلعله يكون من المفيد بيان قوة منطق قلب الحجة في هدم ما يتمسكون به من وهم الحجاج، بما لا يترك متسعا لمتفلسف منهم بعدُ لأن يتطلع إلى التعلق بذاك الاعتراض السخيف، يتخذه تكأة لرفض الحق المنزل من رب العالمين. وذلك من خلال تحليل مستندهم العقلي في قالبه الشكلي formal، وبيان الطريق إلى إظهار ما فيه من مغالطة عقلية من جنسين على الأقل:
• المحاججة بالدعوى المجردة Fallacy of Assertion
• الاستناد إلى ما سنته وارتضته الكثرة argumentum ad populum
ولما كان منطق قلب الحجة على المخالفين – من حيث الأصل العقلي - طريقا معتبرا في إبطال حججهم وبيان افتقارها إلى المقدمات الكافية للوصول إلى المطلوب، وقد استعمله الرب جل وعلا في غير موضع من كتابه الكريم[1]، فقد رأيت أن أضع بين أيدي الباحثين في فلسفة الأديان والإلحاد من طلبة العلم المعاصرين طريقة يسيرة لصياغة تلك الحجج على الطريقة الشكلية، مع تطبيقها على تلك الشبهة سالفة الذكر، والله الموفق المعين على كل خير.
1- المنطق الشكلي لقلب الحجة على الخصم:
يقصد "بقلب الحجة": استخراج الدليل على بطلان حجة الخصم من منطوقها المجرد، من طريق عكس المقدمات المشتمل عليها في ذلك المنطوق على المخالف وبيان أن النتيجة التي يفضي إليها ذلك العكس (وهي مقلوب دعوى المخالف) هي الصواب في الحقيقة، وليس ما يزعمه المخالف. هذا البيان يأتي غالبا من بيان افتقار المخالف إلى مقدمة كافية أو خالية من التناقض لبناء دعواه، مع قيام مقلوب حجته على مقدمات كافية صحيحة.
ومن أمثلة قلب الحجة في القرءان، ما حكاه الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام من محاججته لقومه في قوله: ﴿ وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ (الأنعام 81).
فكأن حجة أو دعوى المشركين من قوم إبراهيم تنتظم في مقدمتين ونتيجة بيانها كالتالي:
1- الجماعة (م) تخاف الآلهة (الباطلة) ولا تخاف الله.
2- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة).
3- إذن: (م) في أمن من أمرهم و(ع) على خطر عظيم.
حيث الجماعة (م): المشركون، والجماعة (ع): إبراهيم عليه السلام ومن وافقوه.
فعليه يكون مقلوب حجتهم "ق" كالتالي:
4- الجماعة (م) تخاف آلهتها (الباطلة) ولا تخاف الله........ ( 1)
5- الجماعة (ع) تخاف الله ولا تخاف الآلهة (الباطلة)...... ( 2)
6- إذن: (م) في خطر عظيم و(ع) في أمن من أمرهم. .......... (مقلوب 3)
وتأتي الغلبة والظهور للحجة "ق" (4، 5، 6) مما هو مستصحب ومعهود في الذهن من مقدمة أولى "أ" مفادها:
• إن الخالق (الله تعالى) لا يخاف من مخلوقاته (التي منها تلك الآلهة الباطلة)، وإنما يجب في العقل أن تخافه تلك المخلوقات جميعا.
فعلي أي شيء يقيم المشركون دعواهم في مقابل هذه المقدمة "أ"؟ لا شك أنه مقلوبها، وهو باطل كما لا يخفى.
فمن هنا، إذا جاءت دعوى المخالف في صيغة (1،2،3)، فإن أبسط مقلوب لها يكون (1، 2، مقلوب 3)، مع استصحاب المقدمة الأولى التي لا يملك المخالف نقضها.
هذه واحدة من صور قلب الحجج على المخالفين، التي تتفق كلها في منطق قلب المقدمات (و/أو) النتائج، والوصول إلى نقيض دعوى المخالف بناء على استحضار مقدمة ضرورية أهملها المخالف في بناء كلامه.
وفيما يلي نعرض لصورتين من تلك الصور، وكيفية تطبيقهما على الشبهة التي بين أيدينا. وللتفريق بين الصورتين في هذا المبحث، سأسمي إحداهما بمقلوب الحجة (ق)، والأخرى بعكس الحجة (ع).
2- الصياغة الشكلية العامة لشبهة المعترضين على الشريعة:
تجري تلك الشبهة (ش) في عامة صورها عند القائلين بها في مقدمتين ونتيجة، بيانها كالتالي:
1- جلد (أو رجم) الزناة / قطع يد السارق، الجهاد .. الخ = باطل أخلاقيا.
2- القرءان يحتوي هذا الحكم.
3- إذن: القرءان ليس كتابا منزلا!
أو كالتالي:
4- الأحكام المذكورة في (1) ونحوها باطلة أخلاقيا.
5- الإسلام يأمر بهذه الأحكام.
6- الإسلام دين باطل.
وسواء الصيغة (1، 2، 3) أو الصيغة (4، 5، 6) فالنتيجة واحدة = إبطال ملة الإسلام بناء على مقدمة واحدة: التقرير المرسل لدعوى أن تلك الأحكام باطلة أو فاسدة أخلاقيا!
2.1 مقلوب الشبهة (ق):
على المنطق الذي تقدم عرضه لقلب الحجة، فإن الحجة (ق) التي هي مقلوب الصياغة السابقة تكون كالتالي:
7- الأحكام (كذا وكذا) صحيحة أخلاقيا وما يخالفها باطل أخلاقيا.
8- الملة "م" (أي ملة باطلة بما في ذلك الإلحاد) تجيز مخالفة تلك الأحكام.
9- الملة "م" باطلة.
فيكون المنطق الشكلي للحجة (ق) التي هي مقلوب (ش) = (نقيض 1/4، نقيض 2/5، نقيض 3/6)، وتكون الغلبة للحجة (ق) على (ش) متحصلة من تقرير مقدمة أولى مستصحبة لدينا لزوما، يستصحب المخالف ضدها لزوما.
هذه المقدمة هي في الحقيقة محل نزاع أتباع الملل فيما بينها، فلا يصح في العقل لأي من الفريقين أن ينتصر لملته (كما هي غاية تلك الحجة أو الشبهة) بالتأسيس عليها وإلا وقع الدور المنطقي! بمعنى أن المخالف لو كان نصرانيا مثلا، ثم جاءنا يقول لنا إن أخلاقيات وأحكام شريعة الإسلام تدل على بطلان ملة الإسلام، لأن النصرانية لا تأمر بها أو تأمر بخلافها، فقد احتج بمحل النزاع بيننا وبينه، ألا وهو النزاع بين القضيتين الكليتين: "الإسلام دين الله الحق"، و"النصرانية دين الله الحق"! وكذلك الحال فيمن يقول إن فلسفة فلان التي أطبقت عليها أمم بأسرها اليوم، تخالف تلك الشرائع عندكم. فنحن إنما نستصحب مقدمة مفادها أن الإسلام دين الخالق، ومن ثم فشريعته هي الحق الأخلاقي المطلق ولابد، فما خالفها فهو باطل أخلاقيا مهما شاع وانتشر، بينما يستصحب المخالف ضد ذلك ليؤسس زعمه بأن هذه الأحكام باطلة أو فاسدة! فسواء كان زعمه مستندا إلى تصحيح ملة مخالفة يدين بها، أو نظرية فلسفية أخلاقية مخالفة يتمسك بها، فهو يستصحب ذلك المستند لا محالة كمقدمة أولى يؤسس عليها حكمه ببطلان تلك الأحكام الأخلاقية عندنا، ليحاكم الملة كلها إلى ذلك كما هو بناء تلك الشبهة عند أصحابها.
فإذا كانت المقدمة الأولى عندنا:
• القرءان كتاب منزل من الخالق قد ثبت له ذلك من طرق قطعية شتى، فكل ما فيه من أحكام وشرائع فهو حق ولابد، وكل ما يخالفه فهو باطل ولابد.
فإن المقدمة الأولى لدى المخالف تكون:
• النظرية الأخلاقية (خ) (سواء جاء بها من ملة يدين بصحتها أو من نظرية فلسفية تعجبه) هي الحق والصواب الأخلاقي المطلق، فما خالفها من ملة أو كتاب فهو باطل ولابد.
فكان مجرد ذكر تلك المقدمة عندنا ومقابلتها بتلك التي عند مخالفنا، دليلا على بطلان دعواه في هذه الشبهة وعلى أنها استدلال بمحل النزاع. فإذا ما زدنا في البيان وقررنا حججنا على أن القرءان كتاب منزل من خالق السماوات والأرض، وألزمنا المخالف بإثبات مقدمته الأولى في مقابل ذلك، فسيتبين بجلاء أنه إنما يتمسك بنظرية من نظريات الأخلاق لا لشيء إلا لأنها أصبحت فكرا سائدا بين أقرانه أو في مجتمعه أو في المجتمع الذي يراه مثاليا واجب التقليد في ذلك! فيكون بتقريره تلك الشبهة قد وقع في مغالطات عقلية بعضها فوق بعض:
• الدور المنطقي Circular Logic
• المحاججة بالتقرير المجرد على نمط "ما تكرر تقرر" Proof By Assertion
• المحاججة من اتباع سنن الآباء وما عليه الكثرة في زماننا Argumentum Ad Populum
وطالما كان الغرض من قلب الحجة إنما هو بيان بطلانها في نفسها وبيان أنها شبهة واهية لا أساس لها ولا تفضي مقدماتها إلى نتائجها المزعومة، فسيكون المقلوب (ق) كافيا لتحقيق ذلك الغرض كفاية تامة. فإذا ما انتهى المخالف إلى أن يقول: "أثبتوا إذن أن الإسلام هو دين الله الحق حتى نسلم لكم بأن الأخلاقيات التي جاء بها في تعاليمها والشرائع التي أمر بها كلها حق أخلاقي وصواب محض"، فقد تحقق لنا غاية ما نريد من الرد، وهو إلزام الخصم بأن الانطلاق بتصحيح أو إبطال جملة من الأحكام الأخلاقية المنسوبة إلى الإسلام إنما يأتي تبعا لإثبات صحة أو بطلان نسبة الإسلام نفسه إلى خالق السماوات والأرض، وليس العكس كما كانت دعواه!
2.2 معكوس الشبهة (ع):
أما الصورة الثانية التي نعرضها في هذا البحث لقلب الحجة، فتصرح في صياغتها باتخاذها نقيض نتيجة الخصم كمقدمة من مقدماتها، وذلك لبيان أن دعواه المجردة لا تخدمه فيما يريد بحال من الأحوال. هذه الصورة الثانية أسميتها بالحجة المعاكسة، على غرار ما يسميه بعض الفلاسفة المعاصرين Argument Shift، كما سماه اللا-لاهوتي الأمريكي ويليام روه بمعكوس مور G. E. Moore's Shift على اعتبار هذا الأخير أول من صاغه في صياغة شكلية واستعمله استعمالا مستفيضا في نقض دعاوى فلاسفة الشك المعرفي Skeptics أمثال هيوم وغيره.
وللتمثيل على ذلك المعكوس كما استمعله مور، فلنفترض أن رجلا متشككا وضع يده أمام وجهه، ثم جاءنا بهذه الدعوى (Murray, Rea2008, pp. 165):
• لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.
• موقف الشك المطلق حق.
• إذن لا يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.
فيكون جوابه بمعكوس الأمور كالتالي:
• لو كان موقف الشك المطلق حقا، لما أمكنني معرفة أن هناك يدا أمام وجهي.
• موقف الشك المطلق باطل.
• إذن يمكنني أن أعرف أن هناك يدا أمام وجهي.
فإذا كانت الدعوى تتكون من (1 ، 2، 3) فالجواب يكون: (1 ، نقيض 2، نقيض 3). فالمقدمة الأولى التي تكلمنا عنها فيما عرضناه آنفا من نسق للمحاججة، التي هي نقيض ما يريد صاحب الدعوى أن يصل إليه، قد أظهرها مور ههنا بجعلها المقدمة الثانية في صياغته (وهي تقرير أن موقف الشك المطلق باطل)، ليصل من ذلك إلى تحويل ما أراد المخالف الاحتجاج به إلى قضية تابعة تتفرع عن إثبات أو نفي الأصل الذي يريد المخالف نفيه! فيبطل بذلك استدلال المخالف وتسقط حجته رأسا، ويرجع الأمر إلى البحث في المقدمة الأولى (وهي المسألة: هل الشك المعرفي المطلق حق أم باطل؟) بعيدا عن تلك الشبهة الاستدلالية الواهية.
ولعله قد استغل مور البطلان البدهي الجلي للنتيجة التي ينتهي إليها المتشكك في صياغته لدعواه (ألا وهي زعمه أن هذا الذي أمامه ليس يدا!!)، ليقابله بمعقولية النتيجة التي ينتهي هو إليها من معكوس تلك الدعوى، فيتحقق له إبطال دعوى المخالف من هذا الطريق[2].
ولمعكوس مور أيضا ترتيب آخر يتخذ من نقيض نتيجة الدعوى المردود عليها مقدمة أولى، وصياغته الشكلية كالتالي (Rowe 1979, pp. 339):
ح: (1، 2، 3)
ع: (نقيض 3، 2، نقيض 1)
حيث "ح": الحجة المدعاة، و"ع": الحجة من معكوس "ح".
ويجري هذا الترتيب إذا ما طبقناه على دعوى المتشكك التي أوردناها في المثال السابق كالتالي:
دعوى المتشكك:
• مبادئ الشك صحيحة (أو على الأقل بعضها).
• لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• إذن: أنا لا أدري ما إذا كانت هذه التي أمامي هي يدي.
معكوس الدعوى:
• أنا أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• لو كانت مبادئ الشك صحيحة، ما أمكنني أن أدري أن هذه التي أمامي هي يدي.
• إذن: مبادئ الشك باطلة (أو على الأقل بعضها).
ومما لا شك فيه أن دعوى المتشكك كانت ولا تزال – في أيما قالب أو ترتيب عرضناها - من الهبوط والوهاء بما يغني مجرد ذكره عن تكلف رده، وإنما كان القصد من ذلك العرض بيان صور المنطق الشكلي لقلب الاستدلال وعكسه على صاحبه لإسقاط دعواه، أيا ما كانت نحلته الفلسفية وعلى أيما طريقة اختار أن يصوغ تلك الشبهة.
وعلى هذه الصورة وهذا الترتيب الأخير، اخترنا أن نكتب حجتنا المعاكسة (ع) لشبهة القوم واعتراضهم على أحكام الشريعة والأخلاق في القرءان، ليكون نظمها كالتالي:
1- القرءان كلام الله المنزل.
2- القرءان فيه الحكم بقطع يد السارق وجلد الزاني، والسنة الصحيحة فيها رجم الزناة وعليه الإجماع.
3- إذن: هذه الأحكام صحيحة أخلاقيا وهي عين العدالة في العقوبة (فما جاوزها فهو الإفراط وما قصر عنها فهو التفريط، على التعريف الصحيح).
فإذا استصحب المخالف أن فلسفته الأخلاقية هي الصواب الأخلاقي المطلق الذي استند إليه في الحكم على القرءان، قابلنا نحن ذلك بأن القرءان هو الكتاب الحق المنزل من الخالق، بما لا يكاد يحصى من الأدلة والبراهين القطعية، فلا شيء من كتب البشر يصح أن يكون حاكما عليه، وإنما يكون هو الحاكم على سائر كتب البشر ولابد.
ولعل هذه الصياغة (صورة معكوس الشبهة) تكون أقرب إلى الذهن في شبهتنا هذه من صورة مقلوب الشبهة، على اعتبار أنها تتحقق فيها خصلتان لا تتحققان في صورة المقلوب:
• أنها تصرح بالمقدمة الكلية التي تكتفي صيغة المقلوب باستصحابها وحسب دون ذكرها.
• أنها تتخذ تلك المقدمة على رأس مقدمات الحجة، لا كمقدمة ثانية أو ثالثة، بما يظهر معه أنها أساسها وقاعدتها التي تقوم عليها، كما هي حقيقة الأمر.
-----------------
مراجع:
• Murray, M. J. & Rea, M. C. (2008): An introduction to the philosophy of Religion, U.K: Cambridge University Press.
• Rowe, W. L. (1979) "The Problem of Evil and Some Varieties of Atheism.". American Philosophical Quarterly 16: 33541
------------------------------------------------------
[1] للفائدة ينظر في رسالة الماجستير للشيخ تميم بن عبد العزيز القاضي تحت عنوان «قلب الأدلة على الطوائف المخالفة في توحيد المعرفة والإثبات»، وقد قدمها في سنة 1430 هـ لنيل درجة الماجستير من قسم العقيدة بجامعة الإمام محمد بن سعود، وفي حدود علمي فإن الرسالة حتى تاريخه لم تطبع ككتاب منشور.
[2] تقدم معنا أن إغراق الفلاسفة في ضرب الصياغات الشكلية قد أدى بهم – لا محالة – إلى تطويل الطريق إلى الحق، وفتح الباب أمام المسَلَّمات العقلية والبدهيات الأولى لأن تكون محلا للاشتباه والنظر! فلا يفوتني أن أنبه القارئ الكريم إلى أن هذه الحجة التي رد بها مور على هيوم في مثالنا هذا، إنما هي مثال واضح لهذا التطويل والتماس المعنى الأبعد للوصول إلى الأقرب (بحسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله)، الذي تورثه تلك الخصلة عند الفلاسفة في الحقيقة. فمع أن الأمر من الجلاء بما يكفي معه أن يقال للعاقل إنك لا يستقيم لك عقل ولا لغة لو أنك شككت يوما ما في أن هذا الذي أمامك هو يدك على الحقيقة، إلا أن أمثال هيوم لما وضعوا من الحجج السوفسطائية (الشبهات العقلية) ما يضرب في أصول البدهيات العقلية الأولى في قوالب مصوغة بأمثال تلك الصياغات الشكلية، خرج أقرانهم من مخالفيهم ليردوا عليها بمثلها، واستفاض الأمر حتى أصبح من الطبيعي أن نمر في كتب الفلسفة بحجج طويلة ينتهي منها صاحبها إلى إثبات ما يبدأ منه العقلاء بالضرورة المحضة والبداهة الأولى في كل نظر عقلي! فترى رجلا يكتب حجة منمقة طويلة، لينتهي منها إلى إثبات أن هذه التي يكتب بها هي يده، وإلى الله المشتكى!
لهذا جاء في الأثر عن بعض السلف أن العلم قطرة كثرها الجهلاء! ولهذا نقول إن من السفاهة بمكان أن يقال لطريقة السلف رضوان الله عليهم في فهم صفات خالقهم إنها "أسلم" في مقابل وصف طريقة من جاء بعدهم من المتأثرين بتلك المسالك بأنها "أحكم"، أو يقال إن العلم بالفلسفة والكلام ضرورة للعقلاء حتى يتمكنوا من معرفة الحق فيما جاء به المرسلون! لا والله إنما طريقة المرسلين ومن تبعهم هي الأسلم والأوفى والأجمع لخصال الحكمة لمن تأمل، وفيها الكفاية لكل عاقل صادق! فالحكمة إنما تكون في قصد السبيل، واحتواء المعنى الجزيل في اللفظ القليل، والتماس أقرب الطرق وأقصرها لبيان الدليل، والسعي إلى تقريب المعنى البعيد بالمعاني القريبة إلى الذهن لا العكس من ذلك، وتغليق الأبواب أمام دعاة السفسطة والتشكيك في المسلمات والبدهيات الأولى، فيا ليت الفلاسفة يتعلمون من طريقة القرءان ومن جوامع الكلم فيما جاء به النبي العدنان، صلوات ربي عليه وآله وسلم، ويا ليتهم يعقلون!
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/37087/#ixzz1hk4Y25oq