مجرّد إنسان
12-28-2011, 04:37 PM
رائعة الأستاذ أحمد فهمي....وحديثه عن المشروع الإسلامي القادم:
إنه تحدٍّ كبيرٌ يواجه التيارات الإسلامية في مصر، تحدٍّ يمكن اختصاره في جملة واحدة هي: «النموذج الخامس»؛ فما هي قصة هذا النموذج؟
من يتابع الكتابات الغربية عن الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وكذا كتابات من يتوافق معهم من أصحاب التوجهات العَلمانية، يمكن له بيسر أن يحصر أربعة نماذج للحكم، يبرزها هؤلاء بوصفها منظومة معيارية لتوقع مسار أي محاولة إسلامية للوصول إلى الحكم.
النماذج الأربعة تمثل أربعة تيارات مختلفة تنتمي إلى أربعة بلدان، واحدة منهم فقط عربية، وهذه هي حسب ترتيب ظهورها الزمني:
- نموذج ولاية الفقيه في إيران.
- نموذج جبهة الإنقاذ في السودان.
- نموذج طالبان في أفغانستان.
- نموذج حزب العدالة في تركيا.
يتناول الغربيون هذه النماذج وكأنها صارت «حتمية تاريخية» لا تملك أيُّ قوى إسلامية جديدة أن تخرج عن إطارها، والحتمية بحسب التعريف: هي افتراض أن كل ما يحدث في تاريخ الإنسان يخضع لتسلسل منطقي سببي ضمن سلسلة غير منتظمة (ظاهرياً) من حوادث متعاقبة، وأن كل ما يبدو في الظاهر عشوائياً، هو في حقيقة الأمر خاضع لقوانين مُحْكَمَة لا يمكن الخروج عنها.
وهكذا تصبح هذه النماذج الأربعة وكأنها «حتمية» لا تقبل الجدل، ويصبح التساؤل محصوراً في: أي هذه النماذج يمكن أن تسلُكها التجارب الإسلامية الناشئة في دول الثورات العربية؟ فلا مجال إذن للحديث عن نموذج خامس يتجاوز سلبيات النماذج الأربعة، أو حتى يضيف إليها.
لست معنياً في هذا المقال بمناقشة ذلك الطرح الغربي الأعوج، إنما أريد فقط تحليل هذه المنظومة الرباعية وبيان كيفية استخدامها في توقُّع المسارات التي ستسلكها التجارب الإسلامية الجديدة.
توجد ثلاثة مكوِّنات أساسية تتحكم في تقويم هذه النماذج ويكشف تحليلُها ما إذا كان النموذج (محلُّ البحثِ) يمكن تصنيفه على أنه «نموذج إيجابي» أم «نموذج سلبي»، وهي مكونات مستنبَطة من خلال الدراسة التاريخية للنماذج الأربعة ومساراتها التاريخية، كما أنه بالإمكان استخدامها من قِبَل أي جهة سواء كانت موالية أو معادية. فهي تتسم بالحيادية الموضوعية، والخلفية الفكرية للباحث هي التي تحدد كيفية استخلاص النتائج من هذه المكونات. وهذا تعريف مبسط لها.
أولاً: المشروع السياسي: ويقصد به البرنامج السياسي الذي تتبناه القوة الإسلامية وتسعى لتطبيقه في البلد الذي تتسلم مقاليد حكمه، ومدى نجاحها أو إخفاقها في تطبيق هذا البرنامج، ومدى التزامها بالحريات السياسية وتداول السلطة.
ثانياً: التوافق الداخلي: ويقصد به مستوى التقارب أو التنافر بين الحزب الإسلامي الحاكم وأقرانه (أو شركائه) الإسلاميين، وبينه وبين بقية القوى السياسية في المجتمع.
ثالثاً: المحتوى الديني: ويقصَد به مستوى التطبيق لمبادئ وأحكام الإسلام الذي يتبناه الحزب الحاكم، والآلية التي يعتمدها في التطبيق.
بحسب وجهة النظر الغربية، لو طبقنا هذه المكونات الثلاثة على النماذج الأربعة، فسنجدها كالتالي:
أولاً: النموذج الإيراني:
لديه مشروع سياسي قوي، وتمكَّن من إقامة نظام مؤسَّسي، ولكنه تخلى عن وعوده بحرية تداول السلطة، وقلَّص الحريات السياسية؛ فمحصلة هذا المكون سلبية.
على مستوى التوافق الداخلي، فقد تخلَّت القوى الدينية عن رفاق الثورة وأبعدتهم، وانقسمت الساحة لاحقاً إلى محافظين وإصلاحيين، وهم بدورهم منقسمون إلى تيارات شتى، والجميع يتصارع بدرجة تؤثر سلباً على الأداء السياسي للنظام ككل.
أما المحتوى الديني: فيعدُّه الغربيون محتوىً متطرفاً بالنظر إلى مستوى تطبيق الإسلام وآلياته.
بهذا الشكل ينظر الغربيون إلى تلك التجربة على أنها نموذج سلبي في المجمل.
ثانياً: التجربة السودانية:
قدمت مشروعاً سياسياً متماسكاً من الناحية النظرية، لكنها أخفقت في تطبيقه، ولم تسمح إلا بقدر شكلي من تداول السلطة، ومستوى الحريات السياسية غير مُرْضٍ، كما أن الفساد السياسي متفشٍّ في أوساط النخبة الحاكمة؛ فالتجربة في عمومها سلبية.
أما التوافق الداخلي: فالعلاقة بين الحزب الحاكم والقوى الإسلامية الأخرى غير مستقر، وأما مع بقية القوى السياسية فالعلاقة متوترة للغاية.
وأما المحتوى الديني: فعلى الرغم من أن «منظِّر» التجربة السودانية (د. حسن الترابي) يعدُّه الغرب في مصافِّ الأستاذ راشد الغنوشي؛ من حيث أطروحاتُه المتعارضةُ مع المنهج السلفي - وهذا تصنيف إيجابي - إلا أن المحتوى الديني لا يزال متطرفاً في نظرهم؛ سواء من حيث الطرحُ النظريُّ أو التطبيقُ العملي.
ثالثاً: تجربة طالبان:
لا يوجد مشروع سياسي واضح، فالوصول إلى الحكم حدث باستخدام القوة العسكرية، ولم تفلح الحركة في «مأسسة» الدولة، ولم تسمح بتداول السلطة، أو بالحريات السياسية.
أما التوافق الداخلي: فالحركة تعمل في إطار عرقي قَبَلي محكوم بصراعات تاريخية تشكل خريطة الولاءات داخل الدولة، كما أن علاقاتها مع الأقران الإسلاميين سيئة إلى درجة التقاتل.
وبالنسبة للمحتوى الديني الذي تبنَّته طالبان، فيعده الغرب الأكثرَ تطرفاً في النماذج الأربعة، وهذا سبب كافٍ لوضع التجربة في أسفل المنظومة الرباعية.
رابعاً: التجربة التركية:
لديها مشروع سياسي قوي ومتميز، ملتزمة بتداول السلطة، محافظة على مناخ الحرية السياسية.
أما التوافق الداخلي: فقد أثبت حزب العدالة التزامه بعلاقات متوازنة مع منافسيه، كما أن الساحة التركية خالية من أي منافسة إسلامية.
المحتوى الديني في التجربة التركية، هو نقطة قوَّتها من الوجهة الغربية، ونقطة ضعفها من الناحية الإسلامية؛ فبالكاد يمكن تلمُّس ملامح دينية باهتة في الأداء السياسي للحزب، فضلاً عن كون قادته أقروا علانية ودون مواربة بتمسكهم بالنهج العَلماني للدولة، لكن دون تطرف.
هذه هي النماذج الأربعة لحكم الإسلاميين كما يراها الغربيون، ومن الجلي أنهم يصنفونها: ثلاثة سلبية، وواحدة إيجابية، وهذا التصنيف (الغربي) ينطلق من ترتيب عكسي للمكونات السابقة (المحتوى الديني - التوافق - المشروع السياسي).
فزيادة المحتوى الديني، من أهم أسباب الضعف والفشل حسب الرؤية الغربية، ثم يأتي التوافق. وهم هنا يهتمون أكثر بعلاقة الإسلاميين مع القوى العَلمانية الأخرى وليس الإسلامية؛ فتضييق الإسلاميين على المعارضة العَلمانية سببٌ آخر للفشل، وأخيراً يأتي المشروع السياسي.
هكذا يصبح نموذج طالبان هو الأكثر إخفاقاً؛ لأنه الأكثر «تطرفاً» من الناحية الدينية بحسب الرؤية الغربية، والأكثر إبعاداً لقوى المعارضة. يليه النموذج الإيراني، ثم النموذج السوداني، ثم يتحول المؤشر إلى المنطقة الإيجابية حيث النموذج التركي صاحب التجربة الأضعف من حيث محتواها الديني، والتجربة الأقوى من حيث التزامه بقواعد اللعبة في تعامله مع المعارضة العَلمانية.
التحليل السابق يفسر لماذا بادرت دول غربية إلى الترحيب بفوز حركة النهضة التونسية بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة، فالحزب يؤكد على أمرين:
الأول: التزامه بعدم تغيير مكتسبات عَلمانية تحققت في الفترة الماضية، ومن ثَمَّ تخفيف المحتوى الديني.
والثاني: حرصه على تحقيق توافق وتحالف مع قوى عَلمانية، وهذا يعني أن الترحيب الغربي ينطلق من تقويم أوَّلي بأن النهضة تتجه ناحية النموذج التركي، وهذا هو المطلوب.
إننا لو نظرنا إلى الساحة الليبية، فسنجد تيارات إسلامية ناشئة متفرقة، ليس لديها رؤية سياسية واضحة أو مشروع متكامل بسبب الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها، وهذا ينقلنا مباشرة إلى الساحة المصرية؛ حيث تنعم التيارات الإسلامية بحالة أكثر استقراراً، كما أنها تمتلك إمكانات أكثر رحابة، وتجربة عريقة في المجال السياسي (الإخوان المسلمون) وشعبية كبيرة تضعهم في مقدمة القوى السياسية.
بعض الكتابات الغربية تتوقع أن تنطلق تجربة الإسلاميين في مصر صوب النموذجين (الإيراني أو السوداني)؛ لأن نموذج طالبان مقترن بقوة عسكرية غير موجودة، ونموذج تركيا ينطلق من خلفية علمانية حاكمة تتعارض مع الظرف السياسي المصري.
إن التحدي الذي تواجهه تلك التيارات في هذه الحالة المعقدة: هو أنها مطالَبة بتقديم نموذج خامس يكسر «الحتمية الرباعية» المعتسفة التي يروج لها الغرب وأذيالُه، هذا النموذج يجب أن يعيد ترتيب المكوِّنات الثلاثة السابِق ذِكرُها على النحو التالي:
المحتوى الديني المكثف والمتدرج في الوقت نفسه.
التوافق الداخلي بين الشركاء الإسلاميين، ومع القوى السياسية الأخرى، وتجنب مناخ الصراع.
تقديم مشروع سياسي متكامل يحافظ على ما سبق الإقرار به قبل الدخول إلى الساحة السياسية: من قَبُول بمبدأ تداول السلطة وإتاحة الحريات السياسية، مع وضع ذلك كله في إطار إسلامي صحيح.
إذا نجح الإسلاميون في مصر في تقديم هذا النموذج المتكامل، فإنهم سيُحْدِثون بذلك شرخاً هائلاً في النظريات السياسية الغربية المفسِّرة للحركات الإسلامية، وسوف يكون فعلهم هذا بمثابة الثورة الثانية والربيع العربي الحقيقي.
إنه تحدٍّ كبيرٌ يواجه التيارات الإسلامية في مصر، تحدٍّ يمكن اختصاره في جملة واحدة هي: «النموذج الخامس»؛ فما هي قصة هذا النموذج؟
من يتابع الكتابات الغربية عن الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي، وكذا كتابات من يتوافق معهم من أصحاب التوجهات العَلمانية، يمكن له بيسر أن يحصر أربعة نماذج للحكم، يبرزها هؤلاء بوصفها منظومة معيارية لتوقع مسار أي محاولة إسلامية للوصول إلى الحكم.
النماذج الأربعة تمثل أربعة تيارات مختلفة تنتمي إلى أربعة بلدان، واحدة منهم فقط عربية، وهذه هي حسب ترتيب ظهورها الزمني:
- نموذج ولاية الفقيه في إيران.
- نموذج جبهة الإنقاذ في السودان.
- نموذج طالبان في أفغانستان.
- نموذج حزب العدالة في تركيا.
يتناول الغربيون هذه النماذج وكأنها صارت «حتمية تاريخية» لا تملك أيُّ قوى إسلامية جديدة أن تخرج عن إطارها، والحتمية بحسب التعريف: هي افتراض أن كل ما يحدث في تاريخ الإنسان يخضع لتسلسل منطقي سببي ضمن سلسلة غير منتظمة (ظاهرياً) من حوادث متعاقبة، وأن كل ما يبدو في الظاهر عشوائياً، هو في حقيقة الأمر خاضع لقوانين مُحْكَمَة لا يمكن الخروج عنها.
وهكذا تصبح هذه النماذج الأربعة وكأنها «حتمية» لا تقبل الجدل، ويصبح التساؤل محصوراً في: أي هذه النماذج يمكن أن تسلُكها التجارب الإسلامية الناشئة في دول الثورات العربية؟ فلا مجال إذن للحديث عن نموذج خامس يتجاوز سلبيات النماذج الأربعة، أو حتى يضيف إليها.
لست معنياً في هذا المقال بمناقشة ذلك الطرح الغربي الأعوج، إنما أريد فقط تحليل هذه المنظومة الرباعية وبيان كيفية استخدامها في توقُّع المسارات التي ستسلكها التجارب الإسلامية الجديدة.
توجد ثلاثة مكوِّنات أساسية تتحكم في تقويم هذه النماذج ويكشف تحليلُها ما إذا كان النموذج (محلُّ البحثِ) يمكن تصنيفه على أنه «نموذج إيجابي» أم «نموذج سلبي»، وهي مكونات مستنبَطة من خلال الدراسة التاريخية للنماذج الأربعة ومساراتها التاريخية، كما أنه بالإمكان استخدامها من قِبَل أي جهة سواء كانت موالية أو معادية. فهي تتسم بالحيادية الموضوعية، والخلفية الفكرية للباحث هي التي تحدد كيفية استخلاص النتائج من هذه المكونات. وهذا تعريف مبسط لها.
أولاً: المشروع السياسي: ويقصد به البرنامج السياسي الذي تتبناه القوة الإسلامية وتسعى لتطبيقه في البلد الذي تتسلم مقاليد حكمه، ومدى نجاحها أو إخفاقها في تطبيق هذا البرنامج، ومدى التزامها بالحريات السياسية وتداول السلطة.
ثانياً: التوافق الداخلي: ويقصد به مستوى التقارب أو التنافر بين الحزب الإسلامي الحاكم وأقرانه (أو شركائه) الإسلاميين، وبينه وبين بقية القوى السياسية في المجتمع.
ثالثاً: المحتوى الديني: ويقصَد به مستوى التطبيق لمبادئ وأحكام الإسلام الذي يتبناه الحزب الحاكم، والآلية التي يعتمدها في التطبيق.
بحسب وجهة النظر الغربية، لو طبقنا هذه المكونات الثلاثة على النماذج الأربعة، فسنجدها كالتالي:
أولاً: النموذج الإيراني:
لديه مشروع سياسي قوي، وتمكَّن من إقامة نظام مؤسَّسي، ولكنه تخلى عن وعوده بحرية تداول السلطة، وقلَّص الحريات السياسية؛ فمحصلة هذا المكون سلبية.
على مستوى التوافق الداخلي، فقد تخلَّت القوى الدينية عن رفاق الثورة وأبعدتهم، وانقسمت الساحة لاحقاً إلى محافظين وإصلاحيين، وهم بدورهم منقسمون إلى تيارات شتى، والجميع يتصارع بدرجة تؤثر سلباً على الأداء السياسي للنظام ككل.
أما المحتوى الديني: فيعدُّه الغربيون محتوىً متطرفاً بالنظر إلى مستوى تطبيق الإسلام وآلياته.
بهذا الشكل ينظر الغربيون إلى تلك التجربة على أنها نموذج سلبي في المجمل.
ثانياً: التجربة السودانية:
قدمت مشروعاً سياسياً متماسكاً من الناحية النظرية، لكنها أخفقت في تطبيقه، ولم تسمح إلا بقدر شكلي من تداول السلطة، ومستوى الحريات السياسية غير مُرْضٍ، كما أن الفساد السياسي متفشٍّ في أوساط النخبة الحاكمة؛ فالتجربة في عمومها سلبية.
أما التوافق الداخلي: فالعلاقة بين الحزب الحاكم والقوى الإسلامية الأخرى غير مستقر، وأما مع بقية القوى السياسية فالعلاقة متوترة للغاية.
وأما المحتوى الديني: فعلى الرغم من أن «منظِّر» التجربة السودانية (د. حسن الترابي) يعدُّه الغرب في مصافِّ الأستاذ راشد الغنوشي؛ من حيث أطروحاتُه المتعارضةُ مع المنهج السلفي - وهذا تصنيف إيجابي - إلا أن المحتوى الديني لا يزال متطرفاً في نظرهم؛ سواء من حيث الطرحُ النظريُّ أو التطبيقُ العملي.
ثالثاً: تجربة طالبان:
لا يوجد مشروع سياسي واضح، فالوصول إلى الحكم حدث باستخدام القوة العسكرية، ولم تفلح الحركة في «مأسسة» الدولة، ولم تسمح بتداول السلطة، أو بالحريات السياسية.
أما التوافق الداخلي: فالحركة تعمل في إطار عرقي قَبَلي محكوم بصراعات تاريخية تشكل خريطة الولاءات داخل الدولة، كما أن علاقاتها مع الأقران الإسلاميين سيئة إلى درجة التقاتل.
وبالنسبة للمحتوى الديني الذي تبنَّته طالبان، فيعده الغرب الأكثرَ تطرفاً في النماذج الأربعة، وهذا سبب كافٍ لوضع التجربة في أسفل المنظومة الرباعية.
رابعاً: التجربة التركية:
لديها مشروع سياسي قوي ومتميز، ملتزمة بتداول السلطة، محافظة على مناخ الحرية السياسية.
أما التوافق الداخلي: فقد أثبت حزب العدالة التزامه بعلاقات متوازنة مع منافسيه، كما أن الساحة التركية خالية من أي منافسة إسلامية.
المحتوى الديني في التجربة التركية، هو نقطة قوَّتها من الوجهة الغربية، ونقطة ضعفها من الناحية الإسلامية؛ فبالكاد يمكن تلمُّس ملامح دينية باهتة في الأداء السياسي للحزب، فضلاً عن كون قادته أقروا علانية ودون مواربة بتمسكهم بالنهج العَلماني للدولة، لكن دون تطرف.
هذه هي النماذج الأربعة لحكم الإسلاميين كما يراها الغربيون، ومن الجلي أنهم يصنفونها: ثلاثة سلبية، وواحدة إيجابية، وهذا التصنيف (الغربي) ينطلق من ترتيب عكسي للمكونات السابقة (المحتوى الديني - التوافق - المشروع السياسي).
فزيادة المحتوى الديني، من أهم أسباب الضعف والفشل حسب الرؤية الغربية، ثم يأتي التوافق. وهم هنا يهتمون أكثر بعلاقة الإسلاميين مع القوى العَلمانية الأخرى وليس الإسلامية؛ فتضييق الإسلاميين على المعارضة العَلمانية سببٌ آخر للفشل، وأخيراً يأتي المشروع السياسي.
هكذا يصبح نموذج طالبان هو الأكثر إخفاقاً؛ لأنه الأكثر «تطرفاً» من الناحية الدينية بحسب الرؤية الغربية، والأكثر إبعاداً لقوى المعارضة. يليه النموذج الإيراني، ثم النموذج السوداني، ثم يتحول المؤشر إلى المنطقة الإيجابية حيث النموذج التركي صاحب التجربة الأضعف من حيث محتواها الديني، والتجربة الأقوى من حيث التزامه بقواعد اللعبة في تعامله مع المعارضة العَلمانية.
التحليل السابق يفسر لماذا بادرت دول غربية إلى الترحيب بفوز حركة النهضة التونسية بالأغلبية في الانتخابات الأخيرة، فالحزب يؤكد على أمرين:
الأول: التزامه بعدم تغيير مكتسبات عَلمانية تحققت في الفترة الماضية، ومن ثَمَّ تخفيف المحتوى الديني.
والثاني: حرصه على تحقيق توافق وتحالف مع قوى عَلمانية، وهذا يعني أن الترحيب الغربي ينطلق من تقويم أوَّلي بأن النهضة تتجه ناحية النموذج التركي، وهذا هو المطلوب.
إننا لو نظرنا إلى الساحة الليبية، فسنجد تيارات إسلامية ناشئة متفرقة، ليس لديها رؤية سياسية واضحة أو مشروع متكامل بسبب الظروف التاريخية الصعبة التي مرت بها، وهذا ينقلنا مباشرة إلى الساحة المصرية؛ حيث تنعم التيارات الإسلامية بحالة أكثر استقراراً، كما أنها تمتلك إمكانات أكثر رحابة، وتجربة عريقة في المجال السياسي (الإخوان المسلمون) وشعبية كبيرة تضعهم في مقدمة القوى السياسية.
بعض الكتابات الغربية تتوقع أن تنطلق تجربة الإسلاميين في مصر صوب النموذجين (الإيراني أو السوداني)؛ لأن نموذج طالبان مقترن بقوة عسكرية غير موجودة، ونموذج تركيا ينطلق من خلفية علمانية حاكمة تتعارض مع الظرف السياسي المصري.
إن التحدي الذي تواجهه تلك التيارات في هذه الحالة المعقدة: هو أنها مطالَبة بتقديم نموذج خامس يكسر «الحتمية الرباعية» المعتسفة التي يروج لها الغرب وأذيالُه، هذا النموذج يجب أن يعيد ترتيب المكوِّنات الثلاثة السابِق ذِكرُها على النحو التالي:
المحتوى الديني المكثف والمتدرج في الوقت نفسه.
التوافق الداخلي بين الشركاء الإسلاميين، ومع القوى السياسية الأخرى، وتجنب مناخ الصراع.
تقديم مشروع سياسي متكامل يحافظ على ما سبق الإقرار به قبل الدخول إلى الساحة السياسية: من قَبُول بمبدأ تداول السلطة وإتاحة الحريات السياسية، مع وضع ذلك كله في إطار إسلامي صحيح.
إذا نجح الإسلاميون في مصر في تقديم هذا النموذج المتكامل، فإنهم سيُحْدِثون بذلك شرخاً هائلاً في النظريات السياسية الغربية المفسِّرة للحركات الإسلامية، وسوف يكون فعلهم هذا بمثابة الثورة الثانية والربيع العربي الحقيقي.