المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعلان طرق وعرة ومزالق هاوية !!!



كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-10-2012, 06:30 PM
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد . فهذه أهم فوائد كتاب كيف نكتب التاريخ للشيخ محمد قطب أضعها بين أيديكم وهي تنبيه للطالب المبتدئ وتذكير للباحث والذي لا يأمن أن يحصل له الزلل من قراءة كتب التاريخ ويصنع أفكارا مغلوطة بفهمه تكون عاقبتها قبيحة

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-10-2012, 06:35 PM
يقول الطبري رحمه الله في مقدمة كتابه: "فما يكن في كتابي هذا من خير ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قِبَلِنا، وإنما أُتِيَ من قِبَل ناقليه إلينا، وأننا إنما أدينا ذلك على تحو ما أدّي إلينا".
ولئن كان في هذه الطريقة من مزية فهي أنها قد حفظت لنا الوقائع كلها، وما ورد فيها من أقوال، فهي من هذه الناحية مصادر ثمينة للباحث المدقق الذي يأخذ على عاتقه مهمة التمحيص. ولكن عيبها بالنسبة للقارئ العادي، وطالب العلم غير المتمرس، أنها تغرقه في خضم من الروايات والوقائع المتضاربة أو المتناقضة أحياناً، لا يعرف لنفسه طريقاً للخلوص منها بنتيجة محددة، ومن ثم لا تحقق له بغيته من قراءة التاريخ ودراسته، فلا هو يملك الصبر ولا المقدرة الفنية التي يستطيع بها أن يمحص الروايات المختلفة ويرجح بعضها على بعض.
وإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى معظم المراجع الحديثة المتأثرة بالمنهج الاستشراقي، نجدها مكتوبة في صورة جذابة مغرية بالقراءة! فهي –من ناحية الشكل- مناسبة كل المناسبة للقارئ المعاصر، مبوبة مفهرسة، مثبتة فيها مراجعها. ثم هي من ناحية أخرى توصل القارئ إلى نتيجة محددة، ولا تتركه يغرق في الروايات المتعارضة يضرب فيها بلا دليل.
ولكن عيبها –من الناحية المنهجية- أن أغلبها بعيد عن الأمانة العلمية الواجبة، ملون تلويناً خاصاً لتحقيق هدف معين، تكنّه صدور لا تحب الخير لهذا الدين!
وسواء كانت هذه المراجع من تأليف المستشرقين مباشرة، أو من تأليف تلاميذهم الذين ينقلون عنهم، ويتأثرون بروحهم، ويتبنون دعاواهم، ثم ينتحلونها لأنفسهم ويضعون عليها أسماءهم.. فهي في الحالين صادرة عن أناس لم يتحروا الحقيقة المجردة، بل تجاوزوا ذلك –في حالة المستشرقين- إلى التشويه المتعمد، الذي يتزيّا بالزي العلمي تمويهاً وزيادة في الكيد؛ أما في حالة الناقلين عنهم، فهي الغفلة التي لا تدرك الأهداف الحقيقية للكيد الاستشراقي، ويسوقها الانبهار إلى حالة من عدم الوعي لا يميزون فيها بين الحق والباطل.
يقول تعالى في شأن أهل الكتاب الذين منهم المستشرقون الذين نأخذ عنهم تاريخنا:
(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ).
ويقول تعالى مخاطباً المسلمين في شأن الركون إلى هؤلاء، والأخذ عنهم، والاستماع إليهم:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ، هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ..).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ).
(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ).
وكونهم لبسوا مسوح العلم، وتظاهروا بالموضوعية والنزاهة العلمية، لا يجوز أن يخدعنا عن حقيقتهم، فالبضاعة التي يتداولونها، ويظلون يُبدئون ويعيدون فيها، هي ذات البضاعة التي تداولها أسلافهم، الذين كلفتهم الكنيسة بالكتابة ضد الإسلام في العصور الوسطى، وشجعتهم عليها، لتشويه صورة الإسلام في نفوس الأوروبيين وتنفيرهم منه، لصد ما يمكن أن نطلق عليه "الغزو الفكري الإسلامي" الذي كان يتوغل في أوروبا قادماً من الأندلس والشمال الأفريقي وصقلية الإسلامية والمشرق العربي وغيرها من البلاد التي يذهب إليها المبتعثون الأوروبيون لطلب العلم في المعاهد الإسلامية، فيعودون وقد ملأهم الإعجاب والتقدير للإسلام والمسلمين، مما أزعج الكنيسة إزعاجاً شديداً فقامت بحملة تشويه ضخمة لإبعاد الإسلام عن أوروبا، أو بالأحرى إبعاد أوروبا عن الإسلام.
فإن كان شيء قد تغير في هذه البضاعة القديمة المعادة، فهو أنها اليوم تستخدم لفتنة المسلمين عن دينهم بعد أن نجحت أول مرة في صد أوروبا عن الإسلام، وربما اقتضى ذلك أن تختفي الشتائم المقذعة التي استخدمت في الجولة الأولى أو تخفف شيئاً ما، مع التظاهر بالموضوية ومنهجية البحث، بل ربما اقتضى الأمر ما هو أخبث من ذلك من دس شيء من الإطراء للإسلام والمسلمين بين الحين والحين، لتخدير القارئ المسلم، وجعله يثق بما يقوله هؤلاء "العلماء النزيهون" "المنهجيون"، فيتناول السم مدسوساً في العسل دون أن يلتفت إليه، بل يتناوله شغوفاً به منبهراً بحلاوته!
والخدعة قديمة أنبأنا بها رب العالمين في كتابه المنزل:
(وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ..).

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-10-2012, 09:50 PM
ولنفترض جدلاً أن كل ما نسب إلى المنحرفين في المجال السياسي صحيح، ولم تدخل فيه المبالغات الناشئة عن العداوات الحزبية والمذهبية التي يشنّع فيها كل فريق على خصمه بما يشاء، ولا المبالغات الروائية التي جعلت من هارون الرشيد –الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً- بطلاً من أبطال ألف ليلة وليلة! فخلاصة الأمر أن نسلم –جدلاً- بأن التاريخ السياسي للمسلمين كان خطاً أسود! فليكن كذلك! ولكنه خط أسود في صفحة يغلب عليها البياض! فإذا أنت غطيت على بياض الصفحة كله، وأبرزت الخط الأسود وحده، أتكون قد قلت الحقيقة؟ أتكون قد أعطيت صورة صحيحة لهذا التاريخ؟!
وما الأثر الذي يتركه هذا العمل في نفس القارئ؟
أيمكن أن يكون هو ذات الأثر لو أنه اطلع على الصفحة بكاملها، بياضها كله وسوادها كله؟ أم يختلف التأثير حتماً بين هذه الصورة وتلك؟
تلك هي القضية.. وهي قضية خطيرة سواء من الناحية العلمية البحتة، أو من ناحية تأثيرها في النفوس.
فمن الناحية العلمية يصبح هذا التاريخ مزوراً ولو صحت كل كلمة كتبت فيه! لأنه يعطي الأمة حجماً أصغر بكثير من حجمها الحقيقي، ويضع قزماً ضئيلاً في مكان العملاق!
وأما من ناحية التأثير في النفوس فشتان بين أن ترى أمامك كائناً حياً متماسكاً يتحرك حركة الأحياء الأقوياء، وإن كان يتعثر في حركته أحياناً، ويقع أحياناً، ويدمي جسده من أثر الوقوع أحياناً، ولكنه يعود فيقوم ويتحرك، وبين أن ترى مسخاً كسيحاً يختاج في حركته، وكلما مشى خطوات انتكس ووقع على الأرض! الأول تتفاعل معه، وتحب حركته، وتقدر له لحظات ضعفه، ولو أنّبته عليها وزجرته، والثاني تعافه نفسك وتنفر منه!
والتأثير الثاني هو المقصود!

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-10-2012, 09:54 PM
سأنقل لكم قريباً عن المنهج الدنلوبي في مصر كما وصفه الشيخ متعه الله بالصحة والعافية ...

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-12-2012, 10:53 PM
لا زلت أذكر المنهج الدنلوبي في مصر!
حين اشتكى المنصرون من "اللورد كرومر" –المعتمد البريطاني في مصر- زاعمين أنه يضيق عليهم في عملية التنصير، جمعهم وقال لهم: هل تتصورون أنني يمكن أن أقف في طريقكم؟! ولكنكم تستخدمون وسائل خاطئة فتخطفون الرجال والأطفال وتنصرونهم قسراً، فينشأ عن ذلك ردود فعل عند المسلمين يزيدهم تمسكاً بالإسلام! ولكني اتفقت مع شاب تخرج حديثاً في كلية اللاهوت بلندن (Trinity College) ليتولىى وضع منهج تعليمي سيحقق لكم كل رغباتكم!
وكان هذا هو المستر "دنلوب"، الذي عينه كرومر مستشاراً لوزارة المعارف المصرية، فوضع مناهجه الخبيثة التي ما تزال روحها تعمل حتى هذه اللحظة. وكان من أخبث ما اشتملت عليه، مناهج التاريخ (إلى جانب ما فعل بدرس اللغة العربية ودرس الدين) ، وكان السم الذي وضعه في تلك المناهج هو التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين –بعد فترة البعثة وصدر الإسلام- وتجريد التاريخ الإسلامي من محتواه الشامل، وحصره في النزاعات السياسية، وسعي كل حاكم إلى التوسع على حساب جيرانه، وما صحب ذلك من مؤامرات القتل والاغتيال ودس السم والفتك بالأعداء السياسيين.. وحين ينتهي المنهج بالطالب عند هذه الصورة الكئيبة، يُفْتح له تاريخ أوروبا صفحة مشرقة حافلة بالنشاط الحضاري والتقدم العلمي والمادي، فيحدث من جراء ذلك إيحاءان مسمومان –مقصودان- الأول إيهام الطالب أن الإسلام قد انتهى بعد فترة الخلفاء الراشدين، وتحول إلى صراعات سياسية على الحكم، لا غناء فيها للبشرية، ولا تمثل شيئاً يحسن الحرص عليه! والثاني أن التاريخ الذي يستحق الحفاوة والإعجاب حقاً هو تاريخ أوروبا! فيتم بذلك صرف المسلمين عن التمسك بالإسلام، وليّ أعناقهم إلى أوروبا، وهو هو الهدف التنصيري الذي عبّر عنه القس زويمر في خطبته الشهيرة في مؤتمر التنصير الذي عقد بالقدس عام 1935م ، والذي كان كرومر قد وعد المنصرين بأن دنلوب سيحققه من خلال مناهج التعليم .
والآن فلننظر أين يقع الخطأ –والخطر كذلك- في هذا المنهج الخبيث الذي تضافرت على إرسائه جهود المستشرقين وجهود المستعمرين على حد سواء.
ونسأل أولاً: هل كان في كتب المؤرخين المسلمين الأوائل ما يرشح لهذا التقسيم الذي نتخذه اليوم في مناهجنا، وهو تقسيم التاريخ الإسلامي –بعد عصر البعثة وصدر الإسلام- بحسب الأسر الحاكمة: العصر الأموي –العصر العباسي- العصر المملوكي- العصر العثماني.. إلخ؟
إن الذي يحسه القارئ في كتب المؤرخين الأوائل أنهم كانوا يكتبون عن تاريخ "الأمة الإسلامية" منذ نشأت على يد رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في مكة أولاً ثم في المدينة بعد ذلك، وأنهم في أثناء تتبع تاريخها يتحدثون –حديثاً طبيعياً- عن الحكام الذين تولوا، وعن أحوال الأمة في عهدهم، في مجالات الحياة المختلفة، من سياسة داخلية، وسياسة خارجية، وفتوح ومعارك، وحركة علمية، وحركة حضارية، وأحوال اجتماعية، وأحوال فكرية وأخلاقية وعمرانية.. إلخ.. إلخ.. وهذا هو الوضع الصحيح للتاريخ.
أما تقسيم التاريخ إلى مراحل سياسية، والحديث عن كل مرحلة كأن هناك حدوداً فاصلة في مجرى التاريخ تفصل بين عهد وعهد، وتجعل كل عهد شيئاً قائماً بذاته، فأول ما يلفت النظر من عيوبه –وأخطاره كذلك- أنه يقطع التواصل التاريخي بين أجيال هذه الأمة، كأنما لم تكن أمة واحدة متصلة، وكأنما لم تكن بالذات هي "الأمة الإسلامية".

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-13-2012, 09:58 PM
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) .
ولكن خيريتها ليست ذاتية، ولا عرقية، ولا قومية..
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) .
وكذلك وضعها الخاص بين الأمم مستمد من ذات الأمر:
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) .
ومن ثم تتحقق لها صفة الخيرية طالما كانت قائمة برسالتها، وتزول الصفة عنها كلما فرطت في أداء الرسالة..
وتاريخها هو هذا: أمجادها، وارتفاعاتها، وقممها، وقوتها، هي التي تكون فيها مؤدية لرسالتها، وبالقدر الذي تكون فيه مؤدية للرسالة. وانتكاساتها، وانخفاضاتها، ووهداتها وفترات ضعفها، هي التي تكون فيها ناكلة عن رسالتها، وبالقدر الذي تكون فيه ناكلة عن الرسالة.
وهذا هو الذي يحدد لها معالم تاريخها منذ اللحظة الأولى، وهو الذي يفسر تاريخها كذلك.
إنه ليس تاريخ الدولة الأموية، أو الدولة العباسية، أو دولة المماليك، أو الدولة العثمانية.. إنما هو دائماً تاريخ "الأمة الإسلامية". ومعياره الدائم –في أي حقبة من حقبه- هو هذا المعيار: هل كانت الأمة قائمة برسالتها، وعلى أي نحو كان ذلك، وعلى أي مستوى؟ أم كانت مجافية لرسالتها، متقاعسة عنها، ناكلة عن مقتضياتها، وعلى أي نحو كان ذلك، وعلى أي مستوى!
وحين ندرس تاريخ الأمة على هذا النحو، تتضح لنا جوانب كثيرة من الصورة، تغيب عنا حين لا تتخذ هذا المنهج.. وبالذات حين نتبع المنهج الذي يقسم التاريخ إلى تاريخ الأسر الحاكمة..
فمن ناحية ندرك سر اختلاف درجات الإضاءة في صفحة التاريخ الإسلامي، ما بين الإشراق الشديد أحياناً، والعتامة المظلمة أحياناً أخرى. إنه ليس مجرد ظروف أحاطت بالأمة في وقت معين: ظروف سياسية أو حربية أو اقتصادية.. أو ما شابه ذلك مما يفسر به التاريخ!
إن منبع النور واحد.. العقيدة الصحيحة: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. وتختلف درجات الإضاءة في صفحة التاريخ بمقدار استمداد أهل كل فترة من فتراته من ذلك المنبع الأصيل، ومدى قيامهم بما تقتضيه العقيدة الصحيحة من تكاليف في عالم الواقع. فتشتد الإضاءة حتى تتوهج حين يكون استمدادهم على أتمه، وتخبو حين يضعف الاستمداد، وتظلم الصفحة تماماً حين تنقطع صلة الناس بمصدر النور.
ورؤية تاريخ الأمة على هذا النحو يصحح كثيراً من المفاهيم المغلوطة التي تُتَداول في التاريخ.

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-13-2012, 10:00 PM
فقد تعودنا خلال دراستنا للتاريخ أن نرد الأمر كله إلى الظروف السياسية والحربية والاقتصادية.. إلخ، كأنه أمر بشري بحت، وأرضي بحت، لا دخل فيه للسنن الربانية التي يجري من خلالها قدر الله في هذا الكون. كما تعودنا –بفعل الغزو الفكري- أن نغفل الخصوصية التي قدّرها الله لهذه الأمة بالذات.
فإذا كانت الظروف السياسية والحربية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية.. إلخ هي التي تقرر مصاير الأمم في الأرض، فليس ذلك لأن هذه الظروف لها –في ذاتها- قوة الحسم والفصل، كما تُخَيَّلُ إلينا مناهج التأريخ الجاهلية، ولكن لأن سنة الله في الأمم الجاهلية أن يكلها إلى الأسباب التي تتخذها، وتجعلها أنداداً من دون الله:
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ) .
أي ينالون من النتائج بقدر ما يبذلون من الجهد.
بل قد يزيدهم الله نجاحاً وتمكيناً كلما أمعنوا في البعد عنه، والركون إلى الأسباب الأرضية:
(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ..) .
وكل ذلك إلى حين، وعلى حساب نصيبهم في الآخرة:
(فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) .
أما قدر الله للأمة المسلمة فمختلف. ولهذه الأمة خصوصية في قدر الله..
وليست الخصوصية أن ينصرها الله ويمكن لها في الأرض دون أن تتخذ الأسباب كما توهمت الأمة في عهودها الأخيرة!
كلا! فهذا مخالف للسنن العامة التي أجراها الله في حياة البشر جميعاً، مؤمنهم وكافرهم على السواء.. وفي كتاب الله نصوص صريحة تلزم هذه الأمة باتخاذ الأسباب:
(وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ..) .
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) .
(هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ، وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ...) .
ولكن الخصوصية هي أن الله لا ينصر هذه الأمة إلا حين تتخذ الأسباب من خلال توكلها على الله، أي من خلال العقيدة الصحيحة.. أي من خلال توجهها إلى الله واستمساكها بدينه. وهي خصوصية متناسبة مع التكليف الضخم الذي كلفته هذه الأمة، وأنها أمة خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
(فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ) .
(وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) .
فالأسباب الأرضية وحدها –التي يكل الله الجاهليين إليها، وينصرهم بها ويمكن لهم في الأرض بمقدار ما يجتهدون فيها –لا تصلح وحدها سنداً لهذه الأمة، وأداة للتمكين والنصر ما لم يوثقوا صلتهم بالله؛ وأبرز دليل على ذلك هزيمة المسلمين يوم حنين، بينما الأسباب الأرضية كانت في جانبهم، حين غفلوا لحظة عن التوكل الحق على الله، وقالوا: لن نغلب اليوم من قلة! ثم عودة النصر إليهم في نفس المعركة حين عدّلوا موقفهم النفسي ورجعوا إلى الله:
(وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ، ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) .
بينما يبارك الله في الأسباب ويضاعف ثمارها حين يصدق التوكل على الله:
(قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ) .
(..وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
(وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) .
وأبرز دليل على ذلك في تاريخنا المعاصر انتصار المجاهدين الأفغان على أضعاف أضعافهم من العدد والعدة والأسباب الأرضية، التي كان يجب أن تؤدي –في حسابات البشر الأرضية- إلى انتصار الروس!

كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل
01-13-2012, 10:06 PM
إن التخلف المادي والعلمي والسياسي والحربي والاقتصادي.. إلخ، الذي هو سمة المسلمين في واقعهم المعاصر، ليس هو السبب الأصيل في انتكاستهم المعاصرة، إنما هذه كلها هي أعراض للمرض الأصلي، الذي هو فراغ المسلمين من حقيقة الإسلام، وبعدهم عن الله، وبعدهم عن مقتضيات رسالتهم التي أخرجهم الله من أجلها..
والعمل على علاج التخلف المادي والعلمي والسياسي والحربي والاقتصادي.. إلخ.. –وحده- لن يوصل هذه الأمة إلى شيء، إذا لم تصلح حالها مع الله، وترجع إليه، وتفيء إلى مقتضيات رسالتها..
وتلك حقيقة ضخمة تغيب عنا حين ندرس تاريخ هذه الأمة بعيداً عن إدراك تلك الخصوصية التي قدرها لها الله، وكذلك حين نركز على التاريخ السياسي للمسلمين غافلين عن تاريخهم الإيماني الذي هو مرجع الأمر كله في القديم أو في الحديث سواء.
إن التخلف العلمي والمادي والسياسي والحربي والاقتصادي.. الخ، لم يكن هو الأصل في هذه الأمة، ولم يكن هو سِمَتَها حين كانت مستمسكة بما أمرها الله ورسوله أن تستمسك به:
(فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ..) .
"تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا،: كتاب الله وسنتي.." .
وإنما حدث هذا التخلف –بجميع أنواعه- مصاحباً للتخلف العقيدي في حياة الأمة، وناشئاً عنه . ولا يزوال –بإذن الله- حتى تزول أسبابه التي أوجدته:
"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ" .
وذلك درس تربوي عظيم لهذه الأمة، تفقده حين تفقد دراسة تاريخها على منهج صحيح ..