المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : موازين البحث عند المستشرقين ..... د.مصطفى السباعي



الفرصة الأخيرة
11-25-2005, 12:02 AM
موازين البحث عند المستشرقين (http://www.islamweb.net.qa/seera/sera_studies/5.htm)



موازين البحث عند المستشرقين
د. مصطفى السباعي

يعتمد جمهرة المستشرقين في تحرير أبحاثهم عن الشريعة الاسلامية على ميزان غريب بالغ الغرابة في ميدان البحث العلمي ، فمن المعروف أن العالم المخلص يتجرد عن كل هوى وميل شخصي فيما يريد البحث عنه ويتابع النصوص والمراجع الموثوق بها ، فما أدت إليه بعد المقارنة والتمحيص كان هو النتيجة المحتمة التي ينبغي عليه اعتقادها .

ولكن أغلب هؤلاء المستشرقين يضعون في أذهانهم فكرة معينة يريدون تصيد الأدلة لإثباتها ، وحين يبحثون عن هذه الأدلة لا تهمهم صحتها بمقدار ما يهمهم إمكان الاستفادة منها لدعم آرائهم الشخصية ، وكثيراً ما يستنبطون الأمر الكلي من حادثة جزئية ، ومن هنا يقعون في مفارقات عجيبة لولا الهوى والغرض لربأوا بأنفسهم عنها ، وسنضرب لذلك بعض الامثلة :

1- في محاولة المستشرق جولد تسيهر لإثبات زعمه بأن الحديث في مجموعه من صنع القرون الثلاثة الأولى للهجرة وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم ادعى أن أحكام الشريعة لم تكن معروفة لجمهور المسلمين في الصدر الأول من الاسلام ، وأن الجهل بها وبتاريخ الرسول صلى الله عليه كان لاصقاً بكبار الأئمة ، وقد حشد لذلك بعض الروايات الساقطة المتهافتة ، من ذلك ما نقله عن كتاب الحيوان للدميري من أن أبا حنيفة رحمه الله لم يكن يعرف هل كانت معركة بدر بعد أُحد أم كانت أُحد قبلها !..

ولا شك في أن أقل الناس اطلاعاً على التاريخ يرد مثل هذه الرواية ، فأبو حنيفة وهو من أشهر أئمة الإسلام الذين تحدثوا عن أحكام الحرب في الاسلام حديثاً مستفيضاً في فقهه الذي أثر عنه وفي كتب تلامذته الذين نشروا علمه كأبي يوسف ومحمد ، يستحيل على العقل أن يصدق بأنه كان جاهلاً بوقائع سيرة الرسول ومغازيه وهي التي استمد منها فقهه في أحكام الحرب ، وحسبنا أن نذكر هنا كتابين في فقه في هذا الموضوع يعتبران من أهم الكتب المؤلفة في التشريع الدولي في الإسلام .

أولهما - كتاب الرد على سير الأوزاعي لأبي يوسف رحمه الله .

ثانيهما : كتاب السير الكبير لمحمد رحمه الله ، وقد شرحه السرخسي ، وهو من أقدم وأهم مراجع الفقه الإسلامي في العلاقات الدولية ، وقد طبع أخيراً تحت إشراف جامعة الدول العربية برغبة من جمعية محمد بن الحسن الشيباني للحقوق الدولية .

وفي هذين الكتابين يتضح إلمام تلامذة الإمام - وهم حاملو علمه - بتاريخ المعارك الاسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين .

وجولد تسيهر لا يخفى عليه أمر هذين الكتابين ، وكان بإمكانه لو أراد الحق أن يعرف ما إذا كان أبو حنيفة جاهلاً بالسيرة أو عالماً بها من غير أن يلجأ إلى رواية " الدميري " في " الحيوان " وهو ليس مؤرخاً وكتابه ليس كتاب فقه ولا تاريخ ، وإنما يحشر فيه كل ما يرى إيراده من حكايات ونوادر تتصل بموضوع كتابه من غير أن يعني نفسه البحث عـن صحتها.

ولا يخفى ما كان بين أبي حنيفة ومعاصريه ومقلديهم من بعدهم من عداء منهجي فكري ، وقد كان هذا العداء مادة دسمة لرواة الأخبار ومؤلفي كتب الحكايات والنوادر لنسبة حوادث وحكايات منها ما يرفع من شأن أبي حنيفة ، ومنها ما يضع من سمعته . وأكثرها ملفق موضوع للمسامرة والتندر من قبل محبيه أو كارهيه على السواء ، مما يجعلها عديمة القيمة العلمية في نظر العلماء والباحثين .

فجولد تسيهر أعرض عن كل ما دُوِّن من تاريخ أبي حنيفة تدويناً علمياً ثابتاً ، واعتمد رواية مكذوبة لا يتمالك طالب العلم المبتدئ في الدراسة من الضحك لسماعها ليدعم بذلك ما تخيله من أن السنَّة النبوية من صنع المسلمين في القرون الثلاثة الاولى .

2- ومثال آخر عن هذا المستشرق أيضاً : فقد أعرض عما أجمعت عليه كتب الجرح والتعديل وكتب التاريخ من صدق الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزهري رحمه الله ( 50 - 124 هـ ) وورعه وأمانته ودينه وزعم أن الزهري لم يكن كذلك بل كان يضع الحديث للأمويين ، وهو الذي وضع حديث " لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد إلخ .. " لعبد الملك بن مروان ، وكل حجته أن هذا الحديث من رواية الزهري ، وأن الزهري كان معاصراً لعبد الملك بن مروان ! .. وقد ناقشت هذا الزعم مناقشة مفصلة في كتابي " السنَّة ومكانتها في التشريع الاسلامي " ص 385 وما بعدها .

3- يحاول المستشرقون أن يؤكدوا تعالي العرب الفاتحين عن المسلمين الأعاجم وانتقاصهم من مكانتهم ، وفي ذلك يقول المستشرق " بروكلمان " في كتابه " تاريخ الشعوب الاسلامية " : " واذا كان العرب يؤلفون طبقة الحاكمين فقد كان الأعاجم من الجهة الثانية هم الرعية أي القطيع - وجمعها رعايا - كما يدعوهم تشبيه سامي قديم كان مألوفاً حتى عند الآشوريين " .

فهذا المستشرق قد أعرض عن جميع الوثائق التاريخية التي تؤكد عدالة الفاتحين المسلمين ومعاملتهم أفراد الشعب على السواء من غير تفرقة بين عربي وغيره ، وتعلق بلفظ " الرعية " تعلقاً لغوياً واستنتج منها أن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظر القطيع من الغنم ، ولو رجعنا إلى مادة " رعى " في قواميس اللغة وجدناها تقول كما في القاموس المحيط : والراعي كل ولي أمر قوم ، والقوم رعية ، وراعيته : لاحظته محسناً اليه ، وراعيت أمره : حفظته ، كرعاه .

فالراعي في اللغة يطلق على راعي الغنم وعلى رئيس القوم وولي امرهم ، والرعية تطلق على الماشية وتطلق على القوم ، ومن معاني الرعاية : الحفظ والإحسان .

فلما أطلقها الاسلام على القوم لم يخص بها الأعاجم ليشير إلى أنه يراهم كالقطيع من الغنم ، وإنما أطلقها على الشعب عامة ، والأحاديث في ذلك كثيرة معروفة ومنها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره : " كلكم راع ، وكلكم مسؤول عن رعيته ، فالإمام الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته ، والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته ، والمرأة راعية على أهل بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم ، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه ، ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته " . قال الحافظ ابن حجر ( فتح الباري 13/96) في شرح هذا الحديث " والراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما اؤتمن على حفظه فهو مطلوب بالعدل فيه والقيام بمصالحه " .

وقد جاء في حديث آخر إطلاق الرعية على المسلمين في الحديث الذي رواه البخاري وغيره " ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشٌّ لهم إلاَّ حرَّم الله عليـــــــه الجنة " .

فكيف أغمض برو كلمان عينيه عن هذا كله واستجاز لعلمه أن يدَّعي بأن المسلمين نظروا إلى الأعاجم نظرة القطيع وأنهم أطلقوا عليهم وحدهم لفظ " الرعية " ؟ ليس له سند إلا أن لفظ الرعية يطلق على الغنم أيضاً ، وقد علمت معانيها اللغوية ، أما تخصيص إطلاقها بالإعاجم فليس له سند ولا شبه يتعلق بها ، وإنما هو الهوى والغرض .

4- زعم المستشرق " مايور " كما نقله عنه " مرجليوث " أن أهل البدو كانوا كثيري الاهتمام بتعلم البلاغة وطلاقة اللسان فلا يبعد أن النبي ( عليه الصلاة والسلام ) مارس هذا الفن حتى نبغ فيه .

وهذا يعطينا صورة عن موازين البحث عن هؤلاء ، فالمسألة عنده تقوم على استنتاج وهمي من أمر لم يقع ، فلا العرب كانوا يتعلمون البلاغة ، ولا كانت لها مدارس وأساتذة يضعون قواعدها ، ولا النبي صلى الله عليه وسلم عرف عنه قبل النبوة فعل ذلك ، ولبس بين أيدينا نص واحد يثبته بل إن المؤكد أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينقل عنه أثر من نثر أو شعر قبل النبوة وقبل أن يتنزل عليه القرآن الكريم .

وأمر آخر يكشف لنا عن أساس ثالث من أسس النقد والبحث عند هؤلاء المستشرقين هو إفراطهم في اختراع العلل والاسباب والحوادث التي يدرسونها اختراعاً ليس له سند إلا التخيل والتحكم ، ويزيد في فساد أسلوبهم هذا انهم يتخيلون أحداث الشرق والغرب وعاداتهم وأخلاقهم بأوهامهم وخيالاتهم الغربية عن الشرق والغرب والمسلمين ، ولا يريدون أن يعترفوا بأن لكل بيئة مقاييسها وأذواقها وعاداتها .

وقد أحسن المستشرق الفرنسي المسلم " ناصر الدين دينيه " في حديثه عن أسلوب المستشرقين وموازينهم في الحكم على الأشياء مما جعلهم يتناقضون فيما بينهم تناقضاً واضحاً في الحكم على شيء واحد ، كل ذلك لأنهم حاولوا أن يحللوا السيرة المحمدية وتاريخ ظهور الاسلام بحسب العقلية الأوربية فضلُّوا بذلك ضلالاً بعيداً لأن هذا غير هذا ، ولأن المنطق الاوربي لا يمكن أن يأتي بنتائج صحيحة في تاريخ الأنبياء الشرقيين .

ثم قال إن هؤلاء المستشرقين الذين حاولوا نقد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأسلوب الأوروبي البحت لبثوا ثلاثة أرباع قرن يدققون ويمحصون بزعمهم ، حتى يهدموا ما اتفق عليه الجمهور من المسلمين من سيرة نبيهم ، وكان ينبغي لهم بعد هذه التدقيقات الطويلة العريضة العميقة أن يتمكنوا من هدم الآراء المقررة والروايات المشهورة من السيرة النبوية ، فهل تسنى لهم شيء من ذلك ؟

الجواب ، أنهم لم يتمكنوا من إثبات أقل شيء جديد ، بل إذا أمعنا النظر في الآراء الجديدة التي أتى بها هؤلاء المستشرقون ، من فرنسيين وإنجليز وألمان وبلجيكيين وهولانديين - إلخ - لا نجد إلا خلطاً ، وإنك لترى كل واحد منهم يقرر ما نقضه غيره من هؤلاء المدققين بزعمهم أو ينقض ما قرره .

ثم أخذ " دينيه " يورد الأمثال على هذه المتناقضات وختم كلامه بقوله :

وإن أردنا استقصاء هذه التناقضات التي نجدها بين تمحيصات هؤلاء الممحصين بزعمهم يطول بنا الأمر ، ولا نقدر أن نعرف أية حقيقة ، ولا يبقى أمامنا إلا أن نرجع إلى السير النبوية التي كتبها العرب ، فأما المؤلفون الذين زعموا أنهم يريدون ترجمة محمد بصورة علمية شديدة التدقيق فلم يتفقوا منها ولو على نقطة مهمة ، وبرغم جميع ما نقبوه ونقروه ، وحاولوا كشفه بزعمهم ، فلم يصلوا ولن يصلوا إلا إلى تمثيل أشخاص في تلك السيرة ليسوا أعرق في الحقيقة الواقعية من أبطال أقاصيص فالتر ســـــــكوت وإسكندر دوماس ، فهؤلاء القصاص تخيلوا أشخاصاً من أبناء جنسهم يقدرون أن يفهموهم ، ولم يلحظوا إلا اختلاف الأدوار بينهم ، أما أولئك المستشرقون فنسوا أنه كان عليهم قبل كل شيء أن يسدُّو الهوة السحيقة التي تفصل بين عقليتهم الغربية والأشخاص الشرقيين الذين يترجمونهم ، وأنهم بدون هذه الملاحظة جديرون بأن يقعوا في الوهم في كل نقطة .


د. مصطفى السباعي ، الاستشراق والمستشرقون ، بيروت المكتب الإسلامي ، ط 2 ، 1979 ص 34-50 .