المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إعلان شبهات تطبيق الشريعة اليوم - عرض كتاب



إلى حب الله
01-26-2012, 10:04 PM
شبهات تطبيق الشريعة اليوم ..

عرض كتاب < حول تطبيق الشريعة > لأستاذ الجيل الشيخ المفكر :
محمد قطب ..

أولا ً:
ذلك الكتاب هو أحد الكتب التي يجب أن يتم تسليط الضوء عليها الآن بقوة !!!..

ثانيا ً:
هذا المفكر الإسلامي الرباني - أحسبه والله حسيبه - :
لم يلق من الاهتمام وكتبه : ما يوازي قدره بعد ...!
ومن المُخجل أن احتفت به السعودية أيما احتفاء عندما أرادت النهوض بالوعي الديني المعاصر منذ ربع القرن الماضي < أي قبل محاولات المسخ العلماني والليبرالي الحالي في الإعلام والصحف > : فكتب لأبنائها خطة مناهج الوعي الديني آنذاك : في مختلف المراحل الدراسية وحتى الجامعة : في حين لم يزل الرجل مجهولا ًللملايين في مصر مسقط رأسه !!!..
ولا حول ولا قوة إلا بالله ..

ولا يسعني هنا إلا أن أ ُقدم أقل أقل القليل عنه ..
وهي نبذة الويكيبديا الأخيرة لشخصيته عام 2008م :
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF_%D9%82%D8%B7%D8%A8

لن أ ُطيل عليكم لأني سأعرض لكم مباحث كاملة ًمن كتابه دون تدخل مني ..
ولكني لن أعرضها بترتيبها في الكتاب لغرض ٍفي نفس يعقوب :): ..
ومباحث الكتاب الستة هي :

1)) هل تنفصل العقيدة عن الشريعة في دين الله ؟!!..

2)) هل لولي الأمر أن يتصرف في أحكام الشريعة بحسب الأحوال ؟!!..

3)) شبهة التطور وعدم ملاءمة الشريعة للأحوال المستجدة في حياة الناس ..

4)) شبهة تعارض أحكام الشريعة مع مقتضيات الحضارة الحديثة :
ووجوب الأخذ بمعايير الحضارة دون الشريعة ..!

5)) شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات غير المسلمة ..

6)) شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب "الدول العظمى" وضغطها على العالم الإسلامي ..

تعقيب ...

وأقول أنا أبو حب الله : وكأن الرجل كان ينظر بعين المستقبل لأحوالنا اليوم !!..
وهذا هو شأن عظماء أمتنا في كل القرون وجلاء بصيرتهم جزاهم الله عنا خيرا ً..

وقد انتقيت أن أبدأ بالمبحث الخامس أولا ً:
حيث ستلمسون فيه معي : شمولية وعبقرية الشيخ ما شاء الله في تناول مثل هذه الشبهات والقضايا المثارة : وكيف يأتي عليها من القواعد : فيهدمها بمعول المنطق نفسه هدما ً: قبل أن يتحدث عنها شرعا ً!!!..
وهذا أبلغ في إقامة الحُجة على المخالف لمَن يعلم ..

ولكن قبل عرض المبحث الخامس له .. وجب عليّ أن أنقل لكم مقدمته أولا ً:
والتي رغم كتابته لها منذ ما يقارب العشرين عاما ً(1411هـ - 1991م) إلا أنكم ستلاحظون معي :
وكأنه يتحدث إلينا بلسان اليوم !!!..

أعتذر عن الإطالة .. وأترككم مع كلام هذا الرجل الفذ ...
-------
----------

مقدمة الطبعة الثانية ..
< وبعد الإقبال الشديد على الطبعة الأولى ونفادها من الأسواق 1991م > ....

بسم الله الرحمن الرحيم ...
{الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله}.
منذ فترة وجيزة كنت أكتب مقدمة الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وها أنذا اليوم أقدّم للطبعة الثانية، وهذا فضل من الله واسع، أحمد الله عليه، وأطلب منه المزيد من العون، والمزيد من التوفيق.

إن الإقبال على قراءة هذا الكتاب وأمثاله له دلالة واضحة عندي، هي أن موضوع تطبيق الشريعة أصبح محل اهتمام متزايد لدى عدد متزايد من الناس – ومـن الشباب خاصة - وذلك دليل لا شك فيه.
ولا يغيب عن البال بطبيعة الحال أن التطبيق الفعلي للشريعة يستلزم تهيئة الأمة لهذا الأمر العظيم حتى تكون على مستواه، وتحمل تبعاته، وتؤدي دورها فيه، وأول خطوات هذه التهيئة هي بناء القاعدة الصلبة التي أشرت إليها في التعقيب الأخير في آخر الكتاب، وقلت أنها المهمة العاجلة للدعاة اليوم، وبينت في غير موضع من كتب سابقة أنها يجب أن تكون على مستوىً من القوة والصلابة والتجرد لله، والاستعداد للبذل في سبيل الله، ونفاذ البصيرة وسعة النظرة، بحيث تمثل الإسلام في نقائه، وتحمل التبعة الجسيمة وتتحرك بها بخطى ثابتة في خضم الأحداث...

ولكن مما لا شك فيه في ذات الوقت، أن تزايد الاهتمام بقضية الشريعة لدى العدد المتزايد من الناس - والشباب خاصة - هو علامة مضيئة على الطريق، توحي بأن الخير قادم، وأننا على الطريق...
والله المسئول أن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه...
محمد قطب ..
-----
---------

مقدمة الطبعة الأولى ...

كلما ذ ُكر تطبيق الشريعة تعالت من هنا ومن هناك صيحات منكرة، تستنكر الأمر وتستهوله، وكأنما تطبيق الشريعة كارثة ستحل بديار المسلمين، أو كأنما التفكير في هذا الأمر خبل لا يصدر عن عاقل!

الآن؟ في القرن العشرين؟ وبعد كل ما حدث في العالم من تطور؟ وبعد أن أصبح العالم بفعل وسائل الاتصال الحديثة كالقرية الصغيرة، لا مجال فيه لاتخاذ زي يخالف أزياء الآخرين؟!
تريدون أن نشذ وحدنا عن الناس؟! تريدون أن ترجعوا بنا إلى الوراء؟ أو توقفوا عجلة التطور؟!
أم تريدون أن نعتزل العالم كله ونتقوقع على أنفسنا؟ وفيم هذا العناء كله؟ وما الذي يلجئنا إلى هذا الطريق الوعر؟

ألكي نكون مسلمين؟ أولا يكفي نطق "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، ليجعلنا مسلمين؟!

إنكم تبتدعون في دين الله ما ليس فيه :): ! فالإسلام يَثْبُتُ بنطق الشهادتين، أما قضية الشريعة فهي من الأمور المتغيرة التي يتصرف فيها ولي الأمر بحسب رؤيته لمقتضى الأحوال! والأحوال الآن لا تسمح كما هو واضح لكل ذي عينين!
وهل نسيتم الأقليات؟ كيف نطبق الشريعة وفي بلادنا أقليات لا تدين بالإسلام؟

وهل نسيتم الدول "العظمى!" وموقفها من الإسلام؟ وبالذات موقفها من تطبيق الشريعة؟ هل بنا طاقة - ونحن المستضعفين في الأرض - نواجه بها الدول "العظمى"؟!

إن التفكير في تطبيق الشريعة في الوقت الحاضر تفكير "غير مسئول"! ينادي به قوم لا يعيشون بعقولهم في الواقع التاريخي المحيط بهم! أما "العقلاء" "المسئولون" فإنهم يستنكفون أن يفكروا على هذا النحو، ويجابهون الواقع بحكمة وروية، ونظرة "واقعية" إلى الأمور!

فكذلك تتعالى الصيحات كلما ذكر تطبيق الشريعة!
وإنها لصيحات المنهزمين في دخيلة أنفسهم، والذين أكل الغزو الفكري عقولهم وأرواحهم، وجعلهم مسخا مشوها لا يصلح لشيء!
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.

وقد شرحنا في غير هذا الكتاب : الأسباب التي أدت بالمسلمين إلى تقبل الغزو الفكري، وجعلت هذا الغزو ينتشر في أفكار "المثقفين" خاصة، الذين ربيت عقولهم ونفوسهم ليكونوا أتباعا للغرب، يرددون أفكاره، ويتحدثون بلسانه، ويرون الأمور بمنظاره، ويكونون هم خليفته في الأرض الإسلامية حين تضطره الظروف أن يسحب عساكره التي أخضع بها من قبل بلاد المسلمين، فتستمر التبعية دون أن يرى الناس العساكر الخفية التي تخضع بلادهم للنفوذ الغربي!

ولن نتعرض في هذه العجالة للأسباب التي أنتجت ذلك المسخ المشوه في الأرض الإسلامية، ومسئولية الأمة الإسلامية نفسها عما أصابها على يد أعدائها، حين نسيت رسالتها ونكلت عن أدائها، إنما نتناول هنا في إيجاز شديد - وموضوعية كذلك - أهم الأفكار التي يشوشون بها على الناس، ليوحوا إليهم أن تطبيق الشريعة أمر لا يمكن تحقيقه اليوم ! بل لا يجوز تحقيقه حتى إن كان في حيز الإمكان! فضلا عن كونه أمرا لا ضرورة له ولا موجب، طالما أن إسلامنا متحقق بنطق "لا إله إلا الله"!

وقد ناقشت بادئ ذي بدء قضية العقيدة والشريعة، وهل هما منفصلتان في دين الله ؟!.. بحيث نستطيع أن نكون مسلمين بمعزل عن تطبيق الشريعة؟ وقضية حرية ولي الأمر في تعطيل شريعة الله أو تعديلها أو إبدالها. ثم ناقشت شبهة تعارض تطبيق الشريعة مع مقتضى التطور، وتعارض أحكام الشريعة ذاتها مع مقتضيات الحضارة الحديثة، وشبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات في العالم الإسلامي، وعدم إمكان تطبيقها بسبب موقف الدول "العظمى" من الإسلام.

وأرجو من الله أن يكون في هذه العجالة غناء، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ويرضاه.
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
محمَّد قطبْ ...

يُـتبع إن شاء الله بعد قليل بالمبحث الخامس الذي اخترته وهو :
5)) شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات غير المسلمة ..

إلى حب الله
01-26-2012, 10:50 PM
المبحث الخامس :
5))
شبهة عدم إمكان تطبيق الشريعة بسبب وجود الأقليات غير المسلمة ..

معنى هذه الشبهة بعبارة صريحة أن الأقلية تملك منع الأغلبية من ممارسة دينها!
فمتى كانت هذه في التاريخ كله ؟!!... وعلى أي أساس تقوم ؟!

متى كان من حق أي أقلية في التاريخ البشري كله أن تتحكم في الأغلبية، وتقول لها لا تمارسي دينك الذي تؤمنين به لأن في ذلك عدوانا على كياننا، أو عدوانا على حقوقنا؟!
ولنأخذ حال الأقليات المسلمة في بلاد الأرض في واقعنا المعاصر.

إن أقلية واحدة من الأقليات المسلمة في الأرض لم تقم - بداهة - بمطالبة الأكثرية الحاكمة بالكف عن ممارسة دينها، مجاملة لوجودها بين ظهرانيها...!
ولكنا نريد أن نفترض هذا المستحيل! فكيف يكون رد الفعل لدى الأكثريات الحاكمة في العالم، لو تقدمت أقلية مسلمة بمثل هذا الطلب العجيب؟!

إني أتصور رد الفعل الفوري في آسيا وأفريقيا مذابح للمسلمين تسيل فيها الدماء كالأنهار، وأتصور رد الفعل في العالم "الحرّ!" مظاهرات صاخبة تطالب بإخراج المسلمين من البلاد!

وليس هذا التصور خيالا بلا حقيقة.

< أقول أنا أبو حب الله : بل هو أقل من الحقيقة !!.. إذا العداء قائم أصلا ًلمجرد وجود المسلمين بين أظهر العالم ( الحر ! ) : حتى ولو لم يطالبوا بهذا المطلب العجيب للتحكم في الأغلبية !! .. وهذا ما سيذكر لنا الكاتب طرفا ًمنه الآن : >

ففي الهند تقوم المذابح بالفعل للمسلمين الهنود، لا لأنهم - معاذ الله - تقدموا بطلب جنوني مثل هذا الطلب، إنما فقط لأنهم مسلمون! فمجرد أنهم مسلمون يثير عليهم حفيظة الوثنيين الهنود عباد البقر، فيهجمون عليهم، فيقتلون مَن يقتلون منهم، ويحرقون عليهم دورهم، ثم ينصرفون آمنين لا ينالهم عقاب!

وفي الفلبين جاء النصارى فأخرجوا المسلمين من أرضهم الغنية، واضطروهم إلى أرض جدبة مجهدة، ثم لم يكفوا حتى هذه اللحظة عن مضايقتهم ليخرجوهم مما بقي في أيديهم من الأرض، وتُوَجَّه القوات النظامية لقتالهم بوصفهم "متمردين"... متمردين بدينهم! أي بكونهم مسلمين !

وفي العالم الشيوعي - في روسيا والصين - جرت المذابح الجماعية في أبشع صورها، وقـُتل الملايين من الناس جهرة لمجرد أنهم مسلمون، وسميت تلك المذابح الجماعية "حركات تطهير"!

أما إفريقيا فلا يقل حالها سوءا عن ذلك.
ولنأخذ نموذجا من الحبشة:
يظن كثير من الناس أن المسلمين أقلية في الحبشة، وهذا الظن ذاته له دلالة! فلولا الخسف الذي يحيط بالمسلمين هناك، والذل الذي يرهقهم، ما كان توهم أحد أنهم أقلية، في حين أنهم يبلغون خمسة وستين في المائة من مجموع السكان - وذلك حتى قبل ضم أريتريا إلى الحبشة وأغلبيتها الساحقة من المسلمين! - ثم سعت الحبشة التي يحكمها النصارى رغم أغلبيتها المسلمة، سعت إلى ضم أريتريا المسلمة لإذلال المسلمين، وإجلائهم عن دينهم وعقيدتهم، فقتلت منهم مئات الألوف، وما زالت تقتل، وشردت الملايين... لمجرد كونهم مسلمين!

< أقول أنا أبو حب الله :
فهل علمتم الآن لماذا شـُرع الجهاد لحماية نشر دين الله عز وجل في الأرض !
" ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ. وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ " محمد 4 ..
فشياطين الإنس والجن لن يدعوا سبيلا ًأبدا ًلنشر نور التوحيد بغير حرب !! >

وأما في الحبشة ذاتها فـ "الأغلبية" المسلمة محرومة من حقوقها السياسية حرماناً كاملاً، فمن حقها أن تكون هي الحاكمة بحكم أنها هي الأغلبية، ولكن : لا تـُمكّن من ذلك، ثم لا يكون منها وزير في الحكم، ولا رجل في منصب حيوي، ولا يُدرس لأبنائهم الإسلام في مدارس الدولة التي يشرف عليها النصارى، ولا يُتاح لهم أن يفتحوا مدارس لتعليم أبنائهم القرآن والدين، إلا "الكتاتيب" التي تظل الدولة ترهقها بالضرائب حتى تغلقها، ويحرّم على الأحباش المسلمين تلقي المعونات المالية من الخارج للقيام بفتح المدارس الإسلامية لتعليم المسلمين وتثقيفهم ثقافة إسلامية.!
كل ذلك وهم أغلبية !!... فكيف لو كانوا أقلية ؟!!... وكيف لو نادوا - وهم أغلبية - بمنع الأقلية النصرانية الحاكمة من ممارسة دينها؟ كيف تكون المذابح هناك؟!

وكانت زنجبار دولة مسلمة في أفريقيا، فضاق النصارى بوجودهم، لمجرد كونهم مسلمين، فهجموا عليهم ذات يوم من الأيام السود، فذبحوا ثلث السكان ذبحاً، وضموا من بقى حياً - مع الهوان والذل - في دولة حكمها في يد النصارى، سميت "تنزانيا" بعد أن كان اسمها "تنجانيقا" !!.. حيث إثباتا لذكرى اغتيال زنجبار، قاموا بإبقاء حرفين من اسمها في اسم الدولة الجديدة! .

كما أن أفريقيا مملوءة بالدول ذوات الأغلبية المسلمة، التي يحكمها النصارى - وهم الأقلية - ظلما وعدوانا على مسمع من "العالم الحر!" بل بتحريض وسند من ذلك العالم "الحر!".

وأما العالم الحر ذاته فاسمع عنه الأعاجيب!

تقوم في فرنسا اليوم دعوة متزايدة يتزعمها "لوبان" أحد المرشحين لتولي الحكم في فرنسا، تنادي بطرد المسلمين من فرنسا، وارتكبت تلك الحركة أعمالا وحشية، فألقت بخمسة من المسلمين من قطار "المترو" أحياء، أثناء سير القطار، فقتلوا على التو، وتهاجم مظاهراتهم المسلمين - والنساء المحجبات خاصة - في طرقات باريس، مدينة النور، وإحدى كبريات عواصم "العالم الحر"! هذا والمسلمون في فرنسا هم الأغلبية الثانية بعد النصارى، ويبلغ عددهم خمسة ملايين.

وفي بريطانيا تقوم الدولة بحماية الأفّاق الذي كتب كتاب "آيات شيطانية" يسب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وأهل بيته سبا ًمقذعا ليس فيه شيء من تهذيب "الفن" ولا أدب "العلم" ولا لياقة "الذوق"... وحين يحتج المسلمون على نشر الكتاب تقول لهم الدولة بعبارة صريحة: تلك قوانيننا "الديمقراطية" فمَن لم تعجبه أحوالنا فليخرج من بلادنا... هذا والمسلمون هم الأغلبية بعد النصارى ولا يقل عددهم عن ثلاثة ملايين، وفيهم عدد غير قليل من البريطانيين الذين دخلوا - طواعية - في دين الإسلام.
كيف إذن لو قامت أقلية إسلامية تنادي بذلك المنكر، وهو :
منع الأكثرية الحاكمة من ممارسة دينها لوجود الأقلية المسلمة بين ظهرانيها؟!

* * *

إنها دعوى منكرة لا سابقة لها في التاريخ!
وقد ظلت الأقليات غير المسلمة تعيش في كنف الدولة المسلمة المطبقة لشريعة الله ثلاثة عشر قرناً كاملة، لا تشكو، ولا تفكر في الشكوى، ولا تجد مبررا للشكوى... حتى وصل المسلمون إلى حضيض ذلتهم، فبرزت تلك الدعوى إلى الوجود!

والأقليات غير المسلمة لا تضع الدعوى في صورتها الصريحة بطبيعة الحال - وهي منع الأكثرية المسلمة من ممارسة دينها - لأنها لن تجرؤ على ذلك في البلاد "الإسلامية" مهما وصل استضعاف المسلمين!

إنما ظاهر دعواهم هو تعطيل تطبيق الشريعة فقط، مع بقاء المسلمين مسلمين! يمارسون "دينهم" كما يشاءون!
ولعل الدعوى التي ناقشناها في المبحث الأول قد برزت حقيقتها الآن، وبرزت خلفيتها!
إنه لمثل هذا قيل للمسلمين؛ أنتم مسلمون ولو لم تطبقوا شريعة الله! فما دمتم تصلون وتصومون... إو ما دمتم تقولون "لا إله إلا الله" فأنتم مسلمون!
والحق إنه : لا إسلام بغير شريعة الله!

وقد ناقشنا هذه القضية في المبحث الأول بما أعتقد أنه يبين وجه الحق في القضية، ويكفي قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، وقوله تعالى: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ...}.

لا إسلام بغير شريعة الله!
وإن الدين الذي هو عقيدة فقط، أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في الأرض، لهو دين جاهلي مزيف لم يتنزل من عند الله...!

وما من رسالة سماوية كانت عقيدة فقط، أو عقيدة وشعائر تعبدية، دون شريعة تحكم تصرفات الناس في الأرض، {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}.

فالرسالة التي حملها إلى مدينَ أخوهم شعيب هي عبادةُ الله وحده بما يتضمنه ذلك من عقيدة وشعائر تعبدية، وأمرٌ لهم ألا يتصرفوا في أموالهم حسب أهوائهم، بل يتقيدوا بشريعة الله المنزلة إليهم، وهذا الذي فهمه قوم شعيب واستنكروه منه لكفرهم وجاهليتهم فدمر الله عليهم، {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}.

وقصد كلامهم أي يا شعيب : هل من مقتضيات دينك الذي تدعونا إليه أن نترك عبادة آلهتنا التي ورثنا عبادتها عن آبائنا، وأن تقيد تصرفنا في أموالنا فلا نستطيع أن نتصرف فيها إلا بمقتضى التعاليم التي تحملها؟! ثم يقولون له في سخرية ظاهرة: من أين لك أيها الحليم الرشيد أن تقيدنا بهذه القيود؟!

وحين قالوا ذلك؛ أي رفضوا العقيدة والشريعة كانوا كفاراً ومشركين: {وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ}.

ونجد في سورة الشعراء سجلاً لمجوعة متتابعة من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، كل نبي يأمر قومه أن يعبدوا الله ويطيعوا رسوله، ثم يذكر لهم رسولهم ما هم واقعون فيه من انحراف في تصرفاتهم الدنيوية، ويطلب منهم تصحيحها بما يناسب مقتضى إيمانهم بالله، أي بمقتضى الشريعة المنزلة إليهم من عند ربهم:

{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َوَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ...}.

{كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً فَارِهِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}.

{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ}.

{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ...}.

فإذا جئنا إلى الرسالات الثلاث الأخيرة نجد عنها حديثا مفصلا في كتاب الله:
{إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

كلا! لا يوجد دين هو عقيدة فقط، أو عقيدة وشعائر تعبدية بلا شريعة!

وإنما جاء المفهوم الغربي "العلماني" للدين، على أنه علاقة خاصة بين العبد والرب، محلها القلب، ولا علاقة لها بواقع الحياة... جاء من مفهوم كنسي محرف، شعاره؛ "أدّ ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ومن واقع ما عانته النصرانية خلال قرونها الثلاثة الأولى، حين كانت مضطهدة ومطادرة من قبل الإمبراطورية الرومانية الوثنية، فلم تتكمن من تطبيق شريعتها، واكتفت بالعقيدة والشعائر التعبدية فقط - اضطراراً - واعتبرت ذلك هو "الدين"، وإن كانت لم تتجه إلى استكمال الدين حين صار للبابوية سلطان قاهر على الأباطرة والملوك، فظل دينها محرفا لا يمثل الدين السماوي المنزل، فلما جاءت العلمانية في العصر الحديث وجدت الطريق ممهداً في أوروبا ، ولم تجد كبير عناء في فصل "الدين" عن "الدولة"، وتثبيت "الدين" على صورته الهزيلة التي آل إليها في الغرب، والذي قال الله فيمَن يمارسه على هذا النحو:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، وهي صفات ثلاث تلحق بكل مَن ينحي شريعة الله عن الحكم، ويحكم بشرائع الجاهلية.

أما الذين يطبقون بعض الشريعة ويعرضون عن سائرها فقد قال الله فيهم:
{أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.

وهذا هو الوضع الذي تريد الأقليات غير المسلمة أن تضع فيه المسلمين في كل الأرض، أو الوضع الذي ينادي به بعض أفراد الأمة الإسلامية ليضعوا المسلمين فيه، بحجة وجود الأقليات غير المسلمة في العالم الإسلامي!

أي هوان هذا الذي وصل إليه "المسلمون" حين تهاونوا في دين الله؟! حين قبلوا شعار العلمانية:
الدين لله والوطن للجميع! بينما الله يقول:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ...}، ويقول: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ}، والدين كله يعني العقيدة والشعيرة والشريعة كلها سواء!

* * *

ولقد عاشت الأقليات غير المسلمة كما أسلفنا في ظل الدولة الإسلامية المطبقة لشريعة الله ثلاثة عشر قرناً متوالية، لا تشكو، ولا تفكر أن تشكو، ولا تجد مبرراً للشكوى، لأنها تجد من التسامح الديني ما لا تجده أقلية أخرى في الأرض كلها في جميع التاريخ.

واقرأ إن شئت كتابا كاملا في وصف هذا التسامح لمستشرق نصراني هو "ت، و، إرنولد" [T. W. Arnold] بعنوان "الدعوة إلى الإسلام" [The Preaching of Islam] كان مما جاء فيه [ص51]:
(ومن هذه الأمثلة التي قدمناها آنفاً عن ذلك التسامح الذي بسطه المسلمون الظافرون على العرب المسيحيين في القرن الأول من الهجرة، واستمر في الأجيال المتعاقبة، نستطيع أن نستخلص بحق أن هذه القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام، إنما فعلت ذلك عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح) .

إن الله قد أعد هذه الأمة إعداداً خاصا لتحكم رقعة واسعة من الأرض بمن فيها من الأقليات غير المسلمة، والتي علم الله أنها ستكون ضمن رعايا الدولة الإسلامية الحاكمة في الأرض.
فكل أمة سابقة أ ُرسل بعدها رسول، آمنت بالرسول الذي أ ُرسل إليها وكفرت بمَن بعده، وصار في قلبها غلُّ نحو الذين آمنوا بالرسول الجديد ولو كانوا من قومها الأقربين، واضطهدتهم اضطهادا شديدا بسبب الخلاف في العقيدة.

أما هذه الأمة فقد قدر الله لها أن يكون رسولها هو الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم، والذي لا نبي بعده ولا رسول، فلم يجعل في قلبها غِلاًّ لأحد، لا لمَن قبلها، لأن رسولها هو سيد البشر جميعاً وسيد المرسلين، ولا لأحد يأتي بعدها، لأنه لن تأتي بعدها أمة جديدة، ثم جعل الإيمان بالرسل السابقين جزءا من عقيدتها، فلم تضطهد أتباعهم، ولم تظلمهم بسبب الخلاف في العقيدة:
{الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

ووصى الله الأمة المسلمة بالعدل مع أهل الكتاب، والقسط لهم، وإقامة الروابط الطيبة يبنها وبينهم:
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ...}، {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}.

وجعل الأمة المسلمة مسئولة عن حماية كنائسهم ومعابدهم، وإتاحة الفرصة لهم لأداء عبادتهم فيها، وتركت لهم أمورهم الشخصية تحكمها شريعتهم. لذلك عاشوا في ظل الدولة الإسلامية أهنأ عيش تحلم به أقلية في الأرض.

وقديماً قال أهل الشام لأبي عبيدة بن الجراح:
(أنتم - ولستم على ديننا - أرأف بنا من أهل ديننا) !!..

وحين كانت أوربا تضطهد اليهود في العصور الوسطى وتطاردهم على أساس اعتقادهم أنهم صلبوا المسيح عليه السلام، لم يجدوا صدراً رحباً يؤويهم إلا الدولة الإسلامية في الأندلس !!.. فلما أ ُخرج المسلمون من الأندلس بعد المذابح البشعة التي ارتكبتها محاكم التفتيش في حقهم هاجر اليهود معهم إلى المغرب، لينعموا بالعيش الهانئ في ظل الدولة الإسلامية هناك.

وعاشت الأقليات المختلفة في ظل الدولة العثمانية أربعة قرون تنعم بالطمأنينة والحماية، وتمارس نشاطها كله بلا تحريج عليها، حتى جاءت روسيا وفرنسا وبريطانيا تثير الأقليات ضد الدولة لتفجرها من داخلها.

قارن هذه الحياة الهادئة المطمئنة للأقليات في ظل الدولة الإسلامية بأحوال الأغلبية المسلمة المقهورة في الحبشة فضلاً عن الأقلية المسلمة في الهند، والأقلية المسلمة في الفلبين، وغيرها من الأقليات المسلمة في أرجاء الأرض.!

أفبعد ذلك يقول قائل إن من حق الأقليات غير المسلمة أن تمنع الأكثرية المسلمة من ممارسة دينها كما أمرها الله؟!

وأي مصيبة تلك التي أصابت "المسلمين" فجعلت أفراداً منهم، يحملون أسماء مسلمة، ينادون بعدم تطبيق الشريعة الإسلامية من أجل وجود أقلية غير مسلمة بين ظهرانيهم، فكأنهم يقولون :

اكفروا بدينكم أيها المسملون، لكي تمارس الأقليات غير المسلمة دينها على التمام!

يُـتبع إذا تيسر إن شاء الله ..

إلى حب الله
01-27-2012, 11:14 AM
هوامش المبحث الخامس ...

>>
كانت الفلبين منذ قرون طويلة أرضاً إسلامية، ثم طمعت الصليبية في ضمها إليها، وعرض "ماجلان" على البابا أن يقود حملة تتولى ضم الفلبين إلى ملك النصارى، فعارض البابا في ذلك ثلاث مرات، لعدم ثقته بإمكان ذلك، لقوة شكيمة المسلمين وتمكنهم في الفلبين، فلما ألح "ماجلان"، وزعم قدرته على تنفيذ مقترحه وافقه البابا في المرة الرابعة، فصحب حملته الصليبية التي ندرسها نحن لأبنائنا - بتأثير الغزو الفكري - أنها كانت رحلة علمية استكشافية، ونزل "ماجلان" على إحدى الجزر الفليبينية المسلمة وتجرأ فرفع على أرضها شارة الصليب، فقتله المسلمون، وندرس نحن لأبنائنا - بتأثير الغزو الفكري كذلك - أن "المتبربرين" في الفلبين قتلوه لأنهم لم يقدروا رحلته العلمية الاستكشافية!

>>
التاء والنون في اسم الدولة الجديدة "تنزانيا"؛ يرمزان إلى تنجانيقا، والزاي والنون يرمزان إلى زنجبار، وبقية الأحرف وهي الياء والألف الأخيرتان؛ هما من دواعي "توليف" الاسم الجديد، ولكنهما مشتقان من أصل "تنجانيقا" ولا صلة لهما بزنجبار.

نور الدين الدمشقي
01-27-2012, 05:51 PM
بارك الله فيك. ما احوجنا الى هذا الموضوع والنقل في هذا الوقت. اسأل الله ان يرزقك الحكمة ويرزقك حبه يا ابا حب الله.

إلى حب الله
01-27-2012, 07:01 PM
جزاك الله خيرا ًأخي الحبيب نور الدين ...

إلى حب الله
02-03-2012, 11:11 AM
نواصل إخواني على بركة الله ..
مع التنويه أن هذا الفصل الرابع : قد سبقه فصل ٌثالث سأعرضه عليكم بعد :
تحدث فيه الكاتب عن تأثر الفكر الغربي عموما ًبفرضية التطور الداروينية المزعومة !!..
-----

المبحث الرابع :
4))
شبهة تعارض أحكام الشريعة مع مقتضيات الحضارة الحديثة :
ووجوب الأخذ بمعايير الحضارة دون الشريعة ..!

ألمحنا في المبحث الثالث إلى بعض جوانب هذه القضية: قضية تعارض أحكام الشريعة مع مقتضيات الحضارة الحديثة. فهي في صميمها فرع عن قضية التطور التي تفترض أن كل جديد هو بالضرورة خير من كل قديم، لمجرد أن هذا جديد وذاك قديم، لا لمزية موضوعية في هذا ليست موجودة في ذاك ! وإذ كانت الحضارة القائمة اليوم " حديثة " فهي بهذا الاعتبار خير من كل قديم سبق.. ولو كان منزلاً من عند الله!

وقد نشأ هذا الوهم في أوربا من مجموعة من العوامل بعضها حق وكثير منها باطل. ولكنه وَهْمٌ ركب الناس وهم فارّون من شبح الكنيسة المزعج {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } ! ولو لم يكونوا في حالة فرار، ولو لم يكن قسورة وراءهم، فلربما كانوا يتعقلون في هذا الأمر - وفي أمور كثيرة غيره - فلا يتصرفون بلا وعي كما يتصرفون الآن، ثم يبثون أوهامهم - بسيطرتهم العسكرية والاقتصادية والسياسية والعلمية - على بقية الأرض.

حقيقة ً: إن العصر الذي ساد فيه الدين الكنسي المحرّف كان عهد ظلام في أوربا، وكما يصفون هم بحق عصورهم الوسطى المظلمة. وإن العصر الذي تلا ذلك، وانحسر فيه سلطان الكنيسة وسلطان ذلك الدين كان عهد نور وتفتح، وعهد تقدم في كل ميادين الحياة، وعهد قوة وسيطرة بالنسبة لأوربا خاصة.

وقد فهمت أوربا من ذلك أن " الدين " هو سبب التأخر، وأن الحضارة التي لا تقوم على الدين هي سرُّ الفلاح في الدنيا، وهي التي تحوز للإنسان كل أسباب القوة والتقدم والرقي.

وقد نحاول أن نلتمس الأعذار لأوربا في طغيان الكنيسة الجائر الذي مارسته على الناس في كل مجالات الحياة، فكان منه طغيان روحي وطغيان مالي وطغيان سياسي وطغيان عقلي وطغيان علمي.. وكان يُحصى على الناس حتى خطرات نفوسهم التي لا يبوحون بها، ويعذبهم على يد محاكم التفتيش عند أول شبهة تقوم حول ولائهم للكنيسة ومعتقداتها..

وقد نحاول أن نلتمس لها الأعذار مرة أخرى في أن النموذج الإسلامي - والذي كان قمينا أن يصلح الحياة في أوربا لو اعتنقت الإسلام - قد شوهت الكنيسة صورته في نفوس الأوربيين ببشاعة حين خشيت من تأثير التوغل الإسلامي في شرق أوربا، كما خشيت من تأثير " الغزو الفكري " الإسلامي، العائد من المبتعثين الأوربيين إلى بلاد الإسلام ومعاهد العلم الإسلامية. يقول المؤرخ الإنجليزي ويلز في كتابه " معالم تاريخ الإنسانية ":
" ولو تهيأ لرجل ذي بصيرة نفاذة أن ينظر إلى العالم في مفتتح القرن السادس عشر، فلعله كان يستنتج أنه لن تمضي إلا بضع أجيال قليلة لا يلبث بعدها العالم أجمع أن يصبح مغوليا - وربما أصبح إسلاميا "! .

ولكن أوربا على أي حال قد أخطأت في تصورها من جانبين في آن واحد. الجانب الأول هو تصورها للدين الكنسي المحرف على أنه هو " الدين كله ". وأن الخيار الوحيد أمامها هو إما البقاء في ذلك الدين مع الظلم والظلام والتأخر، وإما الحياة بلا دين (وذلك بعد أن عجزت حركات " الإصلاح الديني " عن إحداث تغيير جوهري في جوهر المشكلة). والجانب الآخر هو تصورها - وبعد ما خرجت من الدين - أن التمكين في الأرض هو الغاية القصوى التي خلق الإنسان من أجلها، وأنه إذا حققها بأي وسيلة فقد فاز! وذلك تصور جاهلي من جميع أبعاده. فلا التمكين في الأرض - بأية وسيلة - هو غاية الوجود البشري، ولا تحقيقه - وحده - علامة على " التفوق " بالمعيار الإنساني اللائق بالإنسان!

إن الله يعطي التمكين في الدنيا للكافر وللمؤمن معاً إذا توفرت من جانبه أسباب التمكين:
{كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} .
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ}.

بل إن الله - إذا شاء سبحانه - قد يعطي التمكين في الدنيا للكافر كلما أوغل في الكفر، استدراجا له ليزداد كفرا وليحمل أوزاره كاملة يوم القيامة!
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ..}.
{لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ}.

فليست العبرة بالتمكين في ذاته، ولا في انفتاح أبواب كل شيء للإنسان في الحياة الدنيا وحدها. إنما خُلق الإنسان ليقوم بدور الخلافة الراشدة في الأرض، وليعمر الأرض بمقتضى المنهج الرباني. وهذا هو تمكين الرضا الذي يترتب عليه الفلاح في الدنيا، وحسن المآل في الآخرة. كما تحفه البركة والطمأنينة، ولا يتحقق إلا بالإيمان وتقوى الله:
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.

أما التمكين في الأرض - وحده - وعلى غير المنهج الرباني، فعلاوة على أنه موقوت بفترة معينة وسنّة معينة، فهو مبتوت عن الآخرة:
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.

وفضلا عن ذلك : فلا بركة في حياتهم ولا طمأنينة.. فهم " يتمتعون ".. ولكن..
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ}.

فكل هذه المعاني كانت غائبة عن الناس في أوربا وهم ينطلقون {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ}. فكلها معان لا يدركها الإنسان الجاهلي، الذي قال أقرانه من قبل:
{نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِين}.
{وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}.

* * *

ثم وقعت أوربا في وَهْمٍ جاهلي آخر..
ذلك أنها حين خرجت من أسر الكنيسة الجائر أخذت تتعلم.. وكان العلم في ذاته صراعا هائلا مع الكنيسة التي حرّقت العلماء وعذبتهم لأنهم قالوا بكروية الأرض، وخالفوا بعلمهم " معلومات " الكنيسة، أو بالأحرى خرافاتها التي كانت تحرص عليها جهالة ًمنها، وتبثها باسم الدين . ونشأ من هذا الصراع افتراق طريق العلم عن طريق الدين بغير موجب " موضوعي "، ووقوف العلم والدين في حس الأوربيين موقف التضاد والتقابل، فمَن أراد العلم أهمل الدين (أو عاداه) ومَن أراد الدين أهمل العلم، وانفصلت بذلك في نفس الغربي نزعتان توأمتان: نزعة العبادة لله، وهي فطرة:
{فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} !!
ونزعة المعرفة وهي كذلك فطرة أودعها الله في الإنسان ليقوم بدور الخلافة في الأرض:
{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}
{عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.

وأفسد هذا الصراع طمأنينة النفس إلى خالقها وهي تتدبر آيات الله في الكون، وتتعرف على خواص الكائنات لتحقق التسخير الرباني لما في السموات والأرض ليكون في متناول الإنسان:
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}.

وتقدم العلم في أوربا بما تعلمته في مدارس المسلمين أولا ً، وكان أبرز ما تعلمته هو المنهج التجريبي في البحث العلمي. ثم تقدم ثانيا بما بذل الأوربيون من جهد جبار في ميدان التجربة والبحث، مع الجلد والمثابرة وعبقرية التنظيم.. ولكنه في كل خطواته كان معاديا للدين بسبب حماقة الكنيسة الكبرى في معاداة العلم والعلماء.

وألقى العلم ثماره الجنية على الساحة الأوربية فتقدمت العمارة المادية للأرض تقدما هائلا، وارتقت أحوال الناس المادية وانتعشت، واكتسبت أوربا قوة مادية فتحت بها الأرض وسيطرت عليها، فعاد عليها ذلك بمزيد من الثروة ومزيد من الرفاهية والتقدم المادي.
وكان هذا الوضع " الحديث " أفضل ولا شك من أوضاع أوربا في عهود "الظلام".

ولما كان هذا كله قد تم بعد إقصاء أوربا لدينها والانفلات منه، فقد وَقَرَ في وهمها مرة أخرى أن " الدين " هو المعوق عن الحضارة، وأن الحضارة يجب أن تكون معادية للدين لكي يقطف الناس ثمارها ويستمتعوا بها، وأن المعيار الذي يعيّر به الرقي البشري هو " الحضارة " وليس " الدين ".

وهنا وَهْمٌ مزدوج وقعت فيه أوربا وهي تفرّ من غول الكنيسة بلا وعي ولا انضباط.
أحد طرفي الوهم تصورها أن " الدين " من حيث هو، كان هو المعوق عن الحضارة. بينما كان المعوق عن الحضارة في الحقيقة هو دين الكنيسة المحرف، ثم سلوك الكنيسة بذلك الدين المحرف الذي ابتدعته من عندها ولم يتنزل من عند الله بهذه الصورة المحرفة.

والطرف الآخر من الوهم هو تصور أوربا أن الحياة بلا دين أفضل في جميع الأحوال وفي جميع المجالات من الحياة بالدين..
وسنسلم بأن حياة أوربا في ظل دينها كانت سيئة، وكان لا بد لها من التمرد على ذلك الدين لكي تحسن أحوالها السيئة وتخرج من الظلام الدامس الذي كان يكتنف قرونها الوسطى المظلمة.

ولكنا لن نسلم بأن الحياة بلا دين أفضل لأوربا - وللبشرية كافة - من الحياة بالدين الصحيح الذي ينبغي للبشرية كلها أن تدين به.

فقد تقدم العلم، نعم، وتقدمت الحياة المادية في جميع مجالاتها، نعم، ولكن انظر نظرة فاحصة إلى " الخلاصة " من هذا كله..
وانظر إلى " الإنسان " هل ارتقى في مجموعه أم انتكس انتكاسة ربما لم ينتكسها في تاريخه الطويل كله...؟!!

لقد سيطر الإنسان على " البيئة " كما يقول جوليان هكسلي في كتابه " الإنسان في العالم الحديث " الذي سبقت الإشارة إليه في المبحث الثالث، وأخذ - في ظنه - يسيطر على الفضاء !!.. ولكنه لم يستطع أن يسيطر على شهواته، بل فتح لها المجال بكل عنفوانها، سواء في ذلك شهوة الجنس، أو شهوة " الاستمتاع " عن أي طريق حلال أو حرام، أو شهوة السيطرة والتسلط والطغيان..

إن الاستعمار بكل جرائمه وبشاعاته هو ثمرة طبيعية لقيام حضارة جاهلية بلا دين. إنه ليس انحرافا عارضا كان يمكن لهذه الحضارة أن تتجنبه لتحسين سمعتها كما يتوهم بعض المفتونين بهذه الحضارة. إنه نتاج أصيل لها. فحيثما ملك الإنسان القوة ولم يكن يؤمن بالله ورسله ورسالاته فهذا ديدنه خلال التاريخ كله..

يطغى. لأن السلطة تُطْغِي إن لم تردعها وتضبطها مخافة الله وتقواه. ولقد بررت أوربا استعباد الأمم الضعيفة وامتصاص دمائها على نفس النحو الذي كانت الإمبراطورية الرومانية تبرر لنفسها ذلك الامر.. تشابهت قلوبهمر! والسبب دائما واحد.. قوة لا يصحبها دين. وضع إن شئت مقارنة سريعة بين حركة التوسع الإسلامي في الأرض، وحركة التوسع الروماني في القديم والتوسع الغربي في الحديث ليتبين لك الفرق.

إن التوسع الإسلامي كان يحرر المستعبدين في الأرض كما قال ربعي بن عامر في عبارته البليغة البارعة التي رد فيها على رستم قائد الفرس حين سأله:
"ما الذي جاء بكم إلى بلادنا " ؟ قال:
" إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة " !!..

بينما التوسع الروماني في القديم والتوسع الغربي في الحديث يستعبد الأحرار:
{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ}.

وإن الفساد الأخلاقي، وما تبعه من انتشار الخمر والمخدرات والشذوذ والجريمة، هو ثمرة طبيعية لقيام حضارة جاهلية بلا دين، إنه ليس انحرافا عارضا كان يمكن لهذه الحضارة أن تتجنبه لوقاية نفسها من الدمار، كما يتوهم المعجبين بها، الخائفين عليها! إنما هو نتاج أصيل لها. فحيثما وجدت فرص متاحة للاستمتاع دون ضابط من دين ينظم ذلك الاستمتاع، كانت النتيجة واحدة.. الإغراق في الشهوات، ثم الانحراف.

وإن ألوان الجنون التي طغت اليوم على المجتمع الغربي: جنون الجنس، وجنون الأزياء، وجنون الزينة، وجنون العري، وجنون السينما، وجنون التليفزيون، وجنون الفيديو، وجنون الكرة، وغيرها من ألوان الجنون المخزية، كلها ثمرة لقيام حضارة بلا دين..

فإن كانت قد جاءت متأخرة عن بداية قيام هذه الحضارة، فتلك سنّة طبيعية من سنن الله: التدرج في كل شيء. لا شيء يأتي فجأة في أحوال الناس في الأرض (إلا العقاب الصاعق من عند الله حين يقدره سبحانه) إنما يتم كل شيء بالتدريج، ولكن على ذات الخط الذي أراده الناس لأنفسهم من البداية. فإن أرادوا الاستقامة على طريق الله يسّر الله لهم الطريق، وإن أرادوا الانحراف زادهم مما يريدون!

ولا أحد يقول إن هذه الحضارة سوداء كلها بلا بياض! وما كانت هناك قط جاهلية من جاهليات التاريخ سوداء كلها بلا بياض!
نعم! فيها نقط بيضاء كثيرة متناثرة هنا وهناك، فيها التقدم العلمي، فيها التقدم التكنولوجي الذي أزاح عن كاهل الإنسان أعباء كثيرة وحمّلها للآلة. فيها الجلد على العمل والصبر والمثابرة. فيها عبقرية التنظيم. فيها الروح العلمية والعملية في تناول المشكلات. فيها " أخلاقيات " نفعية، نعم، ولكنها تجعل التعامل اليومي بين الناس بعضهم وبعض مريحا سهلا خاليا من التعقيد..

كلها نقط بيضاء في هذه الجاهلية، ولكنها لا ترفع عنها صفة الجاهلية لأنها لا تعرف الله حق معرفته، ولا تعبده حق عبادته . ثم إنها لن تنقذها من الدمار - في موعده المقدر عند الله - لأنه سنّة حتمية من سنن الله، تصيب الذين يصرون على تنكب طريقه.. إلا أن يغيّروا ما بأنفسهم فيغير الله لهم:
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ}.
{وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ}.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين}.

ومن جهة أخرى فلم يكن من الحتم على هذه الحضارة أن تنبذ الدين لكي تتوصل إلى القوة والتقدم العلمي والتكنولوجي، فقد كان هذا كله ممكنا - كما أمكن للمسلمين من قبل - لو أن أوربا اعتنقت الإسلام.

* * *

ونخلص من ذلك كله إلى نتائج واضحة:
أولا:
أن ظروفا معينة في أوربا هي التي جعلتها تنبذ الدين، وتقيم عداء بين الدين والحضارة وبين الدين والعلم، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والاقتصاد... الخ.
ثانيا:
أن أوربا توهمت أن دينها هو " الدين كله ".. ومن ثم توهمت أن " كل الدين " هو الذي ينبغي أن يُنْبَذَ، وأن الحضارة ينبغي أن تقام بلا دين.
ثالثا:
أن أوربا حين انفلتت من دينها الفاسد، وانفلتت في الوقت ذاته من الضوابط التي تحفظ للإنسان إنسانيته، واتبعت أهواءها. ثم أقامت على هذا الهوى " حضارة " أعجبتها لأنها تساير أهواءها ثم جعلتها هي الأصل الذي يُقاس عليه كل شيء، ثم قاست الدين على هذا الأصل المعتمد عندها فوجدته مخالفا للأصل المعتمد، فنبذته، وجعلت نبذه مقياساً للتقدم والحضارة والرقي!.
رابعا:
أن هذا كله خلل في التصور وخلل في السلوك أنشأته ظروف معينة في أوربا، وليس قانوناً من قوانين الوجود البشري يسري على كل البشر بالضرورة!

* * *

ثم ننتقل بالحديث إلى الإسلام.
إن مفهوم " الحضارة " في الإسلام يختلف اختلافا بيّنا عن المفهوم الغربي، وإن التقى معه إلتقاء عارضاً في ضرورة السعي إلى عمارة الأرض.
الحضارة في المفهوم الإسلامي هي النشاط الذي يقوم به الإنسان في شتى مجالات حياته ليحقق غاية وجوده.
ومن ثم ينبغي أن نعلم بادئ ذي بدء غاية الوجود البشري لنحدد بعد ذلك كنه " الحضارة " التي تناسب تلك الغاية وتحققها.
يقول شاعر جاهلي معاصر (وهو إيليا أبو ماضي) :

جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت!
ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت!

وهكذا انتهت حياته إلى " العبثية " لأنه جهل غاية وجوده. وهو يمثل في الحقيقة أزمة الجاهلية المعاصرة، التي تقود تلك الجاهلية إلى الجنون كلما أوغلت في الطريق.
والإسلام يحدد تحديداً واضحاً غاية الوجود البشري، فيضع أمام الإنسان كل شيء في مكانه الصحيح:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}.
{إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}.
{هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}.
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ}.
{وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}.

ونفهم من مجموع هذه الآيات وأمثالها أن الإنسان خُلق ليعبد الله وأنه خُلق ليكون خليفة في الأرض، وأنه خُلق للابتلاء، وأنه خُلق لقدر من المتاع يناله في الحياة الدنيا، وأنه خُلق ليعمر الأرض بالسعي في مناكبها والأكل من رزق الله، وبالسعي إلى تسخير طاقات السموات والأرض..

ولا تعارض بين هذه الأهداف جميعا، فكلها في النهاية تلتقي في مفهوم العبادة في الإسلام.
لقد خلق الله الإنسان ليكون هو المهيمن المسيطر المنشئ الباني المعمر في الأرض، وعلم الله أن هذه المهمة تستلزم أن تكون في كيان الإنسان مجموعة من الدوافع القوية تدفعه للقيام بهذا النشاط، حتى لا تقعد به العقبات عن القيام بمهمته: لا البحار ولا الأنهار ولا الجبال ولا البرد ولا الحر ولا الأمراض.. ولكن الله يعلم كذلك أن هذه الدوافع (أو سَمِّها الشهوات) مع لزومها له، لا تصلح أن يستجيب لها الإنسان إلى آخر المدى لأنها عندئذ تدمره بدلا من أن تعينه على أداء مهمته، فرسم للاستمتاع بها حدوداً معينة وقال:
{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} و {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}.

وجعل موضع الابتلاء هو هذا: هل يستجيب الإنسان للأمر الرباني، فيلتزم في تناوله للمتاع بالحدود التي حددها الله؟ أم يتجاوز الحدود رغبة منه في مزيد من المتاع؟ وجعل ذلك كله هو " العبادة " التي خلقه من أجلها على سبيل الحصر، المعبر عنه في الآية الكريمة بالنفي والاستثناء:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} .

وهما أقوى أدوات الحصر في اللغة العربية. ثم قدر سبحانه أنه مَن استجاب لهذه العبادة - بمعناها الواسع الشامل - فإن له الجنة خالدا فيها، ومن اعرض وعصى واتبع هواه فإن له جهنم خالدا فيها.
تلك هي قصة الإنسان من مبدئه إلى منتهاه.. وهي التي تحدد له كل شيء في حياته منذ يبلغ سن التكليف إلى أن يلقى الله.
وهي التي تحدد له كذلك مفهوم " الحضارة " التي ينبغي أن يسعى إلى إقامتها.

إنها ليست مقصورة على العمارة المادية للأرض - وإن كانت تشملها - إنما هي على وجه التحديد: عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني. وعندئذ فقط تصبح محققة لغاية الوجود البشري، لأنها عندئذ تدخل في مفهوم العبادة الواسع الذي تشمله الآية الكريمة:
{قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ...}.
والمنهج الرباني هو هذا الدين!
{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ}.
{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.

ومن ثم فالدين هو الحضارة.. والحضارة هي الإسلام!

وهذا هو الذي فهمه المسلمون وهم يقيمون أروع حضارة في تاريخ البشرية.. الحضارة التي حررت " الإنسان " من العبودية لغير الله. من الجهل والخرافة. من الأنانية والتسلط. من العبودية للهوى والشهوات. من الظلم في جميع أشكاله: السياسية والإِقتصادية والاجتماعية.. ظلم النفس وظلم الآخرين. والتي حررت المرأة وحررت العبيد، ورفعت الناس إلى المستوى اللائق بالإنسان.
وهي فوق ذلك التي حوت العلم النافع، وظلت تعلمه للبشرية عدة قرون، سواء في مجال العلوم الشرعية أو العلوم الدنيوية التي برعت فيها الأمة الإِسلامية يوم كانت تتمسك بدين الله.

* * *

فالمعيار إذن هو الدين! هو الإسلام! لأنه هو الذي يحدد غاية الوجود البشري، ويحدد من ثم شكل النشاط الذي يحقق تلك الغاية على أحسن وجه.. وتلك هي الحضارة الحقة اللائقة بالإنسان..
فما بال بعض " المسلمين " إذن يزوون وجوههم وقلوبهم وأفكارهم عن الحضارة الحقة والمعيار الحق، ليتخذوا المعيار المختل الذي ابتليت به أوربا لظروفها الخاصة هناك؟!

ولكي نحسن الظن بهم نقول إن واقع المسلمين اليوم، السيئ غاية السوء، هو الذي لوى أعناق هؤلاء عن المفهوم الصحيح للحضارة، فاتخذوا بدلا منه معيار أوربا، والذي يصور الدين معوقاً عن الحضارة، وينادي بنبذ الدين لكي تتقدم الحياة.

ولكنا مهما أحسنّا الظن بهم لا نستطيع أن نعتذر عنهم!
وكيف نعتذر عن قوم يسمعون كلام الله فيزورون عنه، ويقولون: سنتخذ المعيار الغربي بدلا من كلام الله؟!

واقع المسلمين اليوم سيئ لا بسبب تمسكهم بالدين، بل بسبب بعدهم عن الدين. ولهذا فهم غير متحضرين. ويوم كانوا يعرفون دينهم المعرفة الحقة، ويتمسكون به على بصيرة كانوا هم الأمة المتحضرة في الأرض. وسبيلهم إلى الحضارة اليوم هو أن يعودوا إلى دينهم، فيجدوا فيه كل مقومات الحضارة، وأولها معرفة الله وعبادته، واتباع ما أنزل الله.

إن التخلف العلمي والمادي والحربي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، الذي يشكل في مجموعه " التخلف الحضاري " ليس هو الداء الأصيل في هذه الأمة، وكما يتصور الذين يفهمون أن نقل حضارة الغرب إلى الشرق هو الذي سيخلص الأمة من تخلفها، وينشئها نشاة جديدة!
لا ..
إن هذا التخلف بكل فروعه وأشكاله إنما هو نتيجة لتخلف العقيدة في نفوس المسلمين. لأن هذه العقيدة هي التي منحت المسلمين التقدم العلمي والمادي والحربي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي.. يوم كانوا مؤمنين حقا بهذا الدين.!
فالذين يتخذون واقع المسلمين السيئ ذريعة لتنحية الشريعة الإسلامية، هم فوق هزيمتهم الروحية والفكرية أمام الغرب، جاهلون بحقائق التاريخ، بالإضافة إلى جهلهم بالسنن الربانية التي تحكم حياة البشر على الأرض.

* * *

ويقال فيما يقال إن الحدود في الشريعة الإسلامية مظهر " غير حضاري "! وإن كان يناسب البيئة البدوية التي نزل فيها القرآن، فهو لا يناسب البيئة المتحضرة التي يعيش فيها سكان العالم الحديث!
فما أفظع أن تُقطع يد السارق! ما أفظع أن يُرجم الزاني! إنما السجن هو العقوبة المهذبة اللائقة بالحضارة! أو إن شئتم.. فلا عقاب!

ويقال كذلك فيما يقال: إن الشريعة الإسلامية تظلم المرأة وتأبى عليها ما منحته إياها الحضارة الحديثة من الحريات والحقوق!

وما لنا أن نعيد كلاما قلناه من قبل ونحن نستعرض قضية التطور في الفصل الثالث السابق.
إنما نقول إن هذه الشريعة هي التشريع الوحيد في الأرض، الذي أخذ موضوع الجريمة والعقاب من كل زواياه في آن واحد.

إن الإسلام لا يبدأ بتقرير العقوبة ولا بتوقيع العقوبة.
إنما يبدأ بوقاية المجتمع من الجريمة، بالإحاطة بمنابعها قبل أن تنبع.

وأول إحاطة هي بالقلب البشري ذاته، منبع الخير في الإنسان إذا صلح، ومنبع الشر فيه إن فسد:
" ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " صدق رسول الله .

ويوجه الإسلام لهذا القلب جهده الأول والأكبر، لينقيه ويصفيه ويربطه بالله جل شأنه من خيطي الخوف والرجاء:
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ}.

والأسماء والصفات التي وردت في كتاب الله، وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، نزلت لتربية هذا القلب وربطه بالله، فهي تحيط بالقلب البشري في جميع أحواله وجميع تصرفاته. إن تَطَلَّعَ إلى شيء فكل شيء بيد الله. وإن خاف من شيء فكل شيء بيد الله. هو الرزاق. هو المهيمن. هو المدبر. هو الذي بيده مقاليد كل شيء. وهو الغفور الرحيم. وهو الجبار المتكبر. وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده. منه المنشأ وإليه المصير.

وحين يتربى القلب على هذه الصورة فهو لا يتجه أصلا إلى الجريمة، لأنه يخاف مقام ربه فينهى النفس عن الهوى. ولأنه يشعر بالقناعة بما بين يديه من فضل الله، فإذا رغب في الزيادة فعند الله المزيد.

ولا نقول إن التربية الإِسلامية تحول الناس إلى ملائكة، وتنزع نوازع الشر من نفوسهم فلا يعود في قلوبهم غل ولا حقد ولا غضب ولا سخيمة..
فذلك لا يتحقق إلا في الجنة:
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

إنما نقول على يقين: إن المجتمع الإسلامي - حيثما وجد مجتمع إسلامي حق - هو أقل مجتمعات الأرض جريمة. وإن العامل الأول في ذلك هو هذه التربية التي تربط القلب بالله، يحبه ويخشاه.

والإسلام مع ذلك نظام واقعي، لا يفترض في الناس المناعة والجو موبوء بالجراثيم. إنما يكافح الجرثومة في ذات الوقت الذي يربي فيه مناعة القلوب.

فأما السرقة فجرثومتها الجوع والفقر. ويسعى النظام الإِسلامي إلى مكافحة الجوع والفقر بتشريعاته وتنظيماته وتوجيهاته جميعا حتى لا يوجد في الأرض جائع يضطر إلى السرقة بسبب الجوع.

وأما الزنا فجرثومته الفتنة والإثارة والتبرج والخلاعة، والفراغ من القيم الجادة التي تستوعب مشاعر الناس وطاقاتهم، والترف والترهل.. والإسلام يمنع ذلك كله ويحاربه، وفي ذات الوقت يدعو إلى التعجيل بالإحصان - بالزواج - ويدعو إلى تيسيره، لكي تأخذ الأمور منطلقها الطبيعي ولا يحتاج أحد إلى الجريمة.

وكذلك في بقية الحدود.. يسعى النظام الإسلامي إلى الإحاطة بمنبع الجريمة قبل أن يلوث الجو بالجراثيم.

ومع ذلك ينظر الإسلام في كل حالة مفردة: هل ارتكب الجريمة مرتكبها وهو معذور؟! فإن قامت الشبهة فإن الإسلام يدرأ الحد بالشبهة. ولا يوقع الحد إلا عند التيقن من أن مرتكب الجريمة كان غير معذور. وهذا هو تصرف عمر رضي الله عنه حين أوقف حد السرقة في عام الرمادة، عام الجوع. وحين جيء له بغلمان سرقوا ناقة فلم يقم عليهم الحد، بل ألزم سيدهم أن يعوض صاحب الناقة بضعف ثمنها عقوبة له على تجويع غلمانه. وقال له:
" والله لولا أني أعلم أنكم تستعملونهم فتجيعونهم، حتى إن أحدهم لو أكل ما حرم الله عليه لحل له، لقطعت أيديهم. فإذ لم أفعل فلأغرمنك غرامة توجعك "! ثم التفت إلى صاحب الناقة فقال:
" بكم أريدت منك ناقتك" ؟ قال: " بأربعمائة" فقال لابن حاطب، صاحب الغلمان :
"اذهب فأعطه ثمانمائة " !

والحد في ذاته أداة للوقاية من الجريمة. فإن شدته الملحوظة قد قصد بها تخويف من تحدثه نفسه بارتكاب الجريمة - وهو غير معذور - فيفكر مرات ومرات قبل أن يقدم على التنفيذ.

ثم إن الإِسلام حين يوقع الحد على مرتكب الجريمة - غير المعذور - لا ينبذه من أجل جريمته. إنما الحد كفارة للتطهير:
".. فمَن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة " صدق رسول الله .

لذلك يرد له الإسلام صفحته بيضاء نقية، فلا يلمز ولا يغمز ولا يغتاب، ولا توصد في وجهه الأبواب حتى لا يعود إلى الجريمة من جديد..

فأي تشريع في الأرض كلها - قديمها وحديثها - أحاط بموضوع الجريمة والعقاب هذه الإحاطة، فشمله من كل جوانبه، ووضع له التشريع الأمثل كما فعلت شريعة الله؟ ومع ذلك يعدلون عنها؟!
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.

أيهما خير؟ مجتمع نظيف لا تحدث فيه الجريمة إلا شذوذا يُستنكر، أم مجتمع يعج بالجريمة، تعمل كل الأجهزة على منعها أو حصرها فتزداد كل يوم؟!

وأيهما هو المجتمع المتحضر؟ المجتمع الذي ينادي فيه رئيس الدولة شعبه فيقول: لا يخرج أحدكم وحده بعد الغروب، ولا يحملن في جيبه أكثر من ثلاثين دولاراً لكي لا يتعرض للمجرمين وقطاع الطريق !!.. وهو نداء من الرئيس الأمريكي ريجن لشعبه بعد توليته !!!..
أم ذلك المجتمع الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه " !

* * *

وحديث المرأة والحضارة حديث يطول (انظر إن شئت " مذاهب فكرية معاصرة " فصل : دور اليهود) ..
ولكنا نختصره في كلمات فنقول .
لقد كانت المرأة مهينة حقًّا في المجتمع الغربي، ولا تعامل على أنها إنسانة، وتُحرم من كثير من الحقوق. ويتجادل بعض الفلاسفة في شأنها: هل لها روح أم ليس لها روح؟ وإن كان لها روح فهل هي روح إنسانية أم حيوانية؟ وإن كانت روحاً إنسانية فهل هي من نفس مستوى روح الرجل أم أقل!

وكانت للرهبانية التي ابتدعتها الكنيسة أثرها في نظرة المجتمع إلى المرأة على أنها أحبولة الشيطان، التي ينبغي أن يحجر عليها كل الحجر، لتضييق منافذ الشيطان، ويُزْرَى بها كل زراية لكي ينخنس الشيطان في داخلها، ولا يخرج إلى قلوب الرجال في الطريق.

وثارت المرأة - أو أثيرت لأمر يراد - وتحررت - أو تحللت - من جميع القيود.. فخرجت الفتنة هائجة في الطريق، كما هو مشهود في الغرب. مما لا يحتاج إلى بيان.

ولكن عبرة الحديث هي أن المرأة في الغرب قد بدأت تتنبه أخيرا إلى أن الرجل قد أطلقها ليعبث بها وبكرامتها وإنسانيتها، ويستغلها تجارة رابحة عن طريق إثارة الغرائز وتهييج الشهوات. كما أطلقها ليتخفف من شطر من تبعاته وتكاليفه، ويحمّلها للمرأة " المتحررة "! فبدأت بعض " العاقلات " يدعون المرأة إلى الرجوع إلى مملكتها التي هجرتها - إلى بيتها - وإلى مهمتها الكبرى التي أهملتها وهي شاردة تبحث عن وسائل البهجة والمتاع، وهي رعاية النشء الذي تشرد وضاع حين فقد البيت المستقر، الأم المتفرغة..

وقد تبين ذلك من خلال لقاءات قام بها التليفزيون الفرنسي على مدى عام كامل مع فريق من النساء العاملات، اللواتي يحتل معظمهن مراكز مرموقة في المجتمع، فرد أكثرهن بأن أمنيتهن الكبرى أن يعدن إلى البيت ويتركن ما حُمِّلْنَه من أعباء! كما قامت مظاهرة نسائية في أمريكا احتجاجا على عرض ملابس المرأة الداخلية في واجهات المحلات على أجساد " المانيكان " لأن فيه إهانة للمرأة وتدنيساً لكرامتها.

< وأقول أنا أبو حب الله : فينك يا شيخنا من مثل هذه المحلات وقد صارت شيئا ًعاديا ًفي مصر وغيرها من البلاد الإسلامية الآن وإلى الله المشتكى بل : هي من أكثر المحلات انتشارا ًاليوم لسفاهة المسلمين والمسلمات الذين ما قاطعوها عند أول ظهورها لتعودهم على مشاهد العري والمجون في التلفاز والفضائيات !!.. فاللهم استر على السعودية لأنا بتنا نرى في بعض محال المدن الرئيسية عرض فساتين السواريه العارية على المانيكانات في واجهات المحال وإلى الله المشتكى >

والإسلام هو الذي أعطى المرأة كرامتها الإنسانية، وحررها من ظلم الجاهلية وصانها في الوقت ذاته من التبذل الذي سيقت إليه المرأة الغربية ثمنا للحصول على حريتها. وما تزال المرأة في بعض بلاد الغرب " المتحضر " لا تستطيع أن تتعامل تعاملاً مباشراً في شئون من شئون الحياة أعطاها الإسلام حق التعامل المباشر فيها، ولا تزال تفقد اسمها حين تتزوج ويصبح اسمها " مدام فلان "! والتي يقال إن أصلها التاريخي هو الملكية التامة وحرية التصرف (My Domain) !

أما الإسلام فيقرر مساواة الرجل والمرأة في الإنسانية، وفي الجزاء في الآخرة:
{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

ولا ينظر الإسلام إلى المرأة المؤمنة على أنها شيطان، وإنما هي شريكة في بناء المجتمع على أسسه القويمة:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.

والذي يريده " الحضاريون التطوريون " في الحقيقة ليس هو تحرير المرأة، ولا الحفاظ على كرامتها، إنما هو إشاعة الفاحشة في المجتمع، لينتهبوا من اللذات ما يشاءون بلا حاجز ولا رقيب. وأولئك هم الشياطين!:
{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.

< وأقول أنا أبو حب الله : كنت يوما ًفي أحد المكاتب الهندسية في مصر .. والذي تعمل فيه سكرتيرة .. هي التي تستقبل وتتصل وتنظف المكان أيضا ً.. ولما كانت زيارتي للمكتب مبكرة لشأن ٍما : فقد رأيتها - بلا أدنى ذرة حياء لاعتيادها هذا الأمر - وهي تنحني وتنثني وتطلع وتهبط لتنظيف المكان من الأتربة وكنسه إلخ : وكأن كل الرجال الذين حولها ملائكة !!.. فقلت : اللهم احفظ لنا زوجاتنا درات مكنونات وكل مسلمة عفيفة حيية مستورة لا تخرج للعمل إلا للحاجة الماسة منها أو لها : وبسترها وحيائها .. اللهم آميـن >

أما ما يشيع في المجتمع المسلم اليوم من مظاهر جاهلية تجاه المرأة فعلاجه العودة إلى المنهج الرباني الصحيح، وليس علاجه الانفلات مع الحضاريين التطوريين، والذين يسعون في الأرض فسادا والله لا يحب الفساد.

-------
بعض الهوامش التي لم أذكرها في خلال النقل :

>>
الكلام المنقول لويلز هو من كتابه :
معالم تاريخ الإنسانية - ترجمة عبد العزيز توفيق جاويد - القاهرة، ط3 1967 م، ج3 ص966

>>
كان من أهم أسباب وقوف الكنيسة في وجه العلم في العصور الوسطى أنه كان علماً إسلامياً في مصدره، وكان يهدد بتحول أوربا إلى الإسلام كما أشرنا من قبل، وهذا السبب تخفيه المراجع الأوربية وهي تتحدث عن الصراع بين الكنيسة والعلم، لأنها لا تحب أن تعترف بفضل الإسلام والمسلمين.

>>
هذا هو المعنى القرآني للجاهلية كما وردت في مواضع متعددة في القرآن الكريم: الجهل بحقيقة الألوهية، وعدم اتباع ما أنزل الله ..

>>
يكرر " ألكسيس كاريل " في كتابه " الإنسان ذلك المجهول " والذي سبقت الإشارة إليه أن الإنسان المعاصر قد صنع لنفسه حضارة خاطئة بدافع شهوته، ولكنها لا تناسب تكوينه، ولذلك فهي في طريقها للانهيار.

>>
يلاحظ أنه حين تكون الشهوة عنيفة يرد قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [سورة البقرة: 187] لأن القرب لا يُؤمن معه الزلل أما الدوافع التي يُؤمن الزلل فيها فيجيء في شأنها : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا [سورة البقرة: 229].

>>
تقول بعض المعاجم اللغوية الأوربية إن الأصل في كلمة " مدام " Madame هو My Domain أي ممتلكات الإنسان التي يملك السلطة الكاملة عليها! ولا نملك نحن إثبات هذا المعنى ولا نفيه، وإن كان واقع الحياة الأوربية في العصور الوسطى يظاهره!

يُـتبع إذا تيسر إن شاء الله ..

مسلمة للأبد
12-04-2012, 01:42 PM
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ...}.
السلام عليكم

فضيلة الشيخ ارجو تصحيح الآية :
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َوتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َوإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ...}.
و جزاكم الله خيرا

مسلمة للأبد
12-04-2012, 04:02 PM
كان من أهم أسباب وقوف الكنيسة في وجه العلم في العصور الوسطى أنه كان علماً إسلامياً في مصدره، وكان يهدد بتحول أوربا إلى الإسلام كما أشرنا من قبل، وهذا السبب تخفيه المراجع الأوربية وهي تتحدث عن الصراع بين الكنيسة والعلم، لأنها لا تحب أن تعترف بفضل الإسلام والمسلمين.


http://www.youtube.com/watch?

v=oTS3_isphhs&list=FL06cfpI8OjqWRuqbhH_BMuQ&index=36&feature=plpp_video

هذا الفيديو يمثل ما فعله الغربيون و خصوصا الكنيسة بالتراث العلمي الاسلامي

إلى حب الله
12-04-2012, 05:19 PM
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ...}.
السلام عليكم

فضيلة الشيخ ارجو تصحيح الآية :
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ َتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ َوإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ اتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ...}.
و جزاكم الله خيرا

شكرا على التنبيه أختنا الفاضلة ...
والخطأ كان نسيان واو العطف قبل : تتخذون مصانع ..
ويا ليت الإشراف يعدلها أيضا في كتابتك الثانية للآية لكي يتضح الفرق : لأنك كتبتيها كما هي في المرتين ..

وجزاك الله خيرا على الفيديو الطيب ..

وبالنسبة للشرع الإسلامي - والإسلام عموما ً- وما يشاع حولهما من أكاذيب للتنفير منه :
فتتحطم كلها على صخرة الحقائق التاريخية الصادقة ...
ولعل المتأمل لما كتبه فولتير بالفرنسية من (رسالة في التسامح) عام 1763م :
وما ذكره فيها من مأساة عائلة جان كالاس ... ومقارنته لغياب التسامح الأوروبي : في مقابل مثلا ًالخلافة الإسلامية !
يدرك مدى التحريف الماضي والحاضر لتشويه الإسلام من دعاة العلمانية والليبرالية والمدنية المناوئين لشررع الله !

وهذا رابط لتنزيل الكتاب :
http://www.4shared.com/get/6ctJqPRd/___-_.html

وكان أهدانيه أخونا طارق منينة منذ فترة طويلة .. وقال عنه :


لو قُرأ هذا الكتاب بعناية وبفكر واع او تفكير عميق مع ربط ماقاله فولتير نفسه-في نفس الكتاب-عن الخلافة الاسلامية وتسامحها مع غير المسلمين في وقت يدين فيه فولتير الانغلاق العقدي والفكري عند بقايا المسيحية الغربية ، لو قُرأ هذا بعناية لظهر فرقان عجيب للناقد المسلم، يمكنه ان يرد به على حتى مابعد الحداثة وافكارها المستوردة!
لذلك فالكتاب مهم من هذه الناحية
وحتى ادفع الى التفكير المقارن من خلال الكتاب فيمكنني ان اقول سريعا ان عليك ان تتذكر وانت تقرأ قصة العائلة التي دار حولها الكتاب وماحدث لهم عليك ان تتذكر قصة كيفية تناول الوحي الرباني لمسألة سرقة بعض المسلمين لبعض الامور ومحاولة الصاقها ببعض اليهود وكيف نجا المجتمع كله وبالقرآن من فتنة كالتي حدثت عند قتل احد اولاد صاحب قصة قولتير التاريخية التي دار عليها الكتاب!
هذا على السريع وبارك الله فيكم

وعلى ذكر أخينا طارق وفقه الله .. فهذا رابط تنزيل كتاب آخر كان قد أهدانيه أيضا ًباسم :
صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى - ريتشارد سوذرن :
http://www.4shared.com/get/ryVaTDWj/_______-___-___.html

والكتاب يؤكد ما قالته أختنا الفاضلة مسلمة للأبد جزاها الله خيرا ً..

والله المستعان ...

إلى حب الله
09-05-2013, 04:51 PM
سأحاول استكمال باقي مباحث الكتاب الهامة في الأيام والأسابيع المقبلة بإذن الله ..
والله المستعان ...