حازم
11-25-2004, 04:47 PM
علـى قيام الدولة العلمانية التركية نحو 77 عاماً، تلك الدولة التي أسسها مصطفى كمال عام 1923م، وبعد هذه الأعوام من الحكم العلماني تقف تركيا حائرة غير مستقرة لا تعرف لنفسها وجهة، ولا تثق بالأرض التي تقف عليها ولا المبادئ التي تنطلق منها؛ فالعلمانية التي تبنَّاها أتاتورك تحولت إلى أيديولوجية قمعية أقرب إلى الأيديولوجيات الفاشية والنازية والشيوعية، وكل من تسوِّل له نفسه الخروج على مبادئها فإن نصيبه السجن والتنكيل بل القتل، ولم تستطع العلمانية أن تحقق الاطمئنان للمواطن التركي؛ لأنها مزقته بين تاريخه وإسلامه وحضارته وبين قيم غريبة عنه مفروضة عليه، كما لم تحقق العلمانية لتركيا حلم الالتحاق بأوروبا (المسيحية)؛ إذ ظلت أوروبا تنظر لتركيا على أنها مسلمة، ولم تعبأ بتبني قيم التغريب والحداثة من قِبَل أتاتورك ومَنْ جاء بعده.
لقد فُرضت العلمانية بوصفها أيديولوجية صارمة وحادة وقمعية على المجتمع التركي، فهددت وحدته وتكامله برفض أي وجود للآخرين الذين يشاركون الأتراك العيش في وطنهم، ومن هنا كان الإنكار الصارم لوجود الأكراد، واعتبارهم أتراكاً يسكنون الجبال. ولا تزال المشاكل الكردية تمثل أكبر التحديات أمام العلمانية الكمالية.
وعلى مستوى الإنجاز الاقتصادي لم تستطع العلمانية أن تحقق للمواطن التركي مستوى للمعيشة ينشله من واقع البؤس والفقر، وعلى مستوى الطهارة الأخلاقية فإن التقارير تتحدث عن تحالف المافيا والفساد مع مؤسسات الدولة المختلفة بدءاً من المؤسسات الأمنية السيادية وحتى المؤسسات السياسية مثل مجالس الوزراء والنواب وغيرها. وفي العلاقات الخارجية لا تزال تركيا تمثل الأداة الأمريكية لملء الفراغ في المنطقة، وهي تتحالف في ذلك مع الكيان الصهيوني ضد الدول العربية والإسلامية، وكانت أزمة تركيا مع سوريا منذ عامين جزءاً من التوتر العلماني القلق في اكتشافه أن العلمانية التركية بعد هذا العمر لم تحقق لأصحابها طموحاتهم في سياستهم الخارجية. إن العلمانية الكمالية كأيديولوجية قد انهارت مع الأيديولوجيات الكبرى التي انهارت في هذا القرن، والبحث مطروح الآن بقوة عن مخرج للتخلص منها.
الكمالية تسقط في نظر العلمانية:
يقول الكاتب التركي المعروف أنيس باتور: « لقد انتهت الجمهورية الأولى بمدرستها ومستشفاها وسجنها ومحكمتها وبرلمانها»، أي أن الكاتب يرى أن التجربة الكمالية قد سقطت بمؤسساتها، ولا بد من البحث عن بديل لها. إن العلمانية الكمالية محمية بقوة الجيش، وإذا قُدِّر للجيش أن يُستبعد عن صناعة القرار في تركيا فإن ذلك سيكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الكمالية، والذين يتحدثون عن ضرورة وجود ما يطلقون عليه: (الجمهورية الثانية) هم علمانيون وليسوا إسلاميين؛ لكنهم يرون العلمانية الكمالية استبدادية وقمعية ومتخلفة، ولا تصلح أن تكون صيغة تتجاذب مع تحولات السياسة والمجتمع في تركيا المعاصرة. إن العلمانية الكمالية جعلت من نفسها صنماً مقدساً لا يجوز الخروج على مقرراته العقيمة؛ فالدولة في الأيديولوجية الكمالية أصبحت عنصراً للتحكم والهيمنة، كما أن الديمقراطية أصبحت تعبيراً عن الاستبداد والتسلط.
حتى التحولات العالمية المتصلة بالتحول نحو اقتصاد السوق وانتشار الأفكار الليبرالية ثم اعتبار حقوق الإنسان معياراً للانتماء إلى الدول المتحضرة ـ حتى هذه التحولات لا تستجيب العلمانية الكمالية لشروطها، ومن هنا كان حديث فريق آخر من العلمانيين عن ضرورة تجاوزها إلى ما يطلق عليه: «الجمهورية الثانية».
ويتحدث البروفيسور «خليل جين» عن إخفاق العلمانية ـ الكمالية في تحقيق الوفاق الاجتماعي فيقول: «الجمهورية التركية دولة علمانية ـ ديموقراطية حقوقية، وهي أيضاً نتاج التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. وعجز الكمالية عن حل مشكلة تعدد الأصول والأعراق في تركيا يؤكد عجزها عن التعبير عن التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. فالمشكلة الكردية متفاقمة وإصرار العلمانية الكمالية على نفي الوجود الكردي سيؤدي إلى تمزيق وحدة الدولة.
العلمانية تسقط في نظر الإسلاميين:
طرح فوز حزب الرفاه في الانتخابات البلدية والبرلمانية على بساط البحث الجدِّي مسألة العلمانية والديموقراطية التي دشنها الرجل الصنم «أتاتورك»؛ فالانتصار الإسلامي أكد إفلاس النظام السياسي في تركيا وعجزه عن مواجهة قضايا المواطنين، ويعبِّر رئيس فرع إسطنبول في حزب الرفاه عن إخفاق الأيديولوجية الكمالية قائلاً: «يمكن بمفهوم ما خارج الأيديولوجيا الرسمية إيجاد حل للأزمات الحالية في المجتمع التركي، إننا لا نجرؤ حتى على مجرد الحديث ومناقشة قضايانا الراهنة في ظل ضغط الأيديولوجيا الرسمية وتهديدها، إننا عندما نتحادث ونتناقش نكون وجهاً لوجه أمام خطر المعاقبة، وإن لم تحل هذه المسألة فمن المتعذر حـل المشــاكل الأخرى. انظـروا اليوم فإننـا لا نستطيع أن نناقش بصراحة كافية المسألة الكردية، لقد تشكل في تركيا مجتمع مغلق مستند على الخوف والقمع باسم الأيديولوجيا الرسمية التي تواصل الآن خصـوصية كونهــا طوطمـاً أي شيئاً محرَّماً ومقـدَّسـاً لا يجوز الاقتراب منه وإلا أصابتك لعنته».
ويؤكد بولانت أجاويد ـ رئيس الوزراء التركي الحالي ـ إخفاق العلمانية فيقول: «إن الأصوات التي حصدها الرفاه والإسلاميون هي أصوات «خيبة الأمل» في الأحزاب الأخرى سواء ما كان منها في السلطة أو المعارضة».
والمعضلة الأساسية التي توجدها العلمانية الكمالية هي أنها تحاول نبذ جزء أساسي من شخصية الشعب التركي وهو الدين؛ فمثلاً جنكيز شندار «أهم مفكر علماني تركي» يقول: «إن الإسلام في تركيا ليس ديناً فقط، بل هو شخصية وثقافة»، كما أن مسعود يلماظ الرئيس السابق للوزراء قال عام 1993م: «إن الدين محدد أساسي في الشخصية القومية لتركيا».
وبدا الفشل العلماني واضحاً في صعود نزعة إسلامية في تركيا منذ فترة «تورجوت أوزال» استمراراً لصعود هذه النزعة منذ (عدنان مندريس) في الخمسينيات؛ فقد تم رفع حظر الأذان باللغة العربية، وفتح معاهد تخريج الأئمة، وبعد انقلاب عام 1980م نصت المادة (24) من الدستور على اعتبار الدروس الدينية والأخلاقية مادة إجبارية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من التعليم، وكان أوزال يحرص على الصلاة في المساجد، وسقطت محرمات مثل التعرض لشخص أتاتورك بالنقد؛ فقد انتقده حسن مزارجي «نائب حزب الرفاه وسبَّه علناً، وطالب بوقف تقليد زيارة ضريحه في أنقرة، وطالب علمانيون ببناء جامع في حديقة القصر الجمهوري بأنقرة، وكانت تانسو تشيللر تحرص على استهلال خطبها بـ (الحمد لله)، وقبَّلت أمام آلاف من أنصارها نسخة من القرآن الكريم، وطالب «غفار ياكين» النائب المستقل عن محافظة أفيون التركية بتعطيل العمل في الدوائر الحكومية لتمكين الموظفين من صلاة الجمعة، وطالب بولانت أجاويد «رئيس حزب اليسار الديموقراطي» بالتعطيل ليس فقط وقت الجمعة وإنما أثناء صلاة الظهر في كل أنحاء تركيا، وطالب حزب الرفاه عام 1995م بفتح مسجد أيا صوفيا للصلاة بعد أن حُوِّل منذ أمدٍ بعيد إلى متحف، وأقر البرلمان توقيت ساعات العمل بحيث تنتهي مع مواقيت الإفطار في شهر رمضان، وتزايدت الدعوة للسماح للموظفين بأداء فريضة الحج بدون قطع رواتبهم.
وبالطبع فإن هذه المطالب أثارت نقاشاً كبيراً حول مفهوم العلمانية، كما انزعج الكماليون؛ بَيْدَ أن الحقيقة الأساسية هي أن الإسلام يضرب جذوره بعمق في النفسية التركية، ولا يمكن لأي أيديولوجية أن تطرح نفسها بديلاً عنه. إن هناك تحولات كبيرة في بنية المجتمع التركي، ولا تزال الدولة المقيدة بأغلال العلمانية عاجزة عن الاستجابة لهذه التحولات وهو ما يؤدي إلى خطر القلق في المجتمع التركي.
السقوط الأخلاقي والاقتصادي للعلمانية :
بالمعايير الاقتصادية لا تزال تركيا دولة نامية بعد 77 عاماً مـن العلمانية؛ فمتوسط دخــل الفـرد السـنوي لا يزال عند حد ثلاثة آلاف دولار، ولا تزال نسبة الصناعة تمثل 25% من الدخل القومي، والاقتصاد جنوب شرق البلاد في مناطق الأكراد لا يزال متخلفاً، ونسبة العجز في الميزان التجاري 20 مليار دولار، وارتبط نمو الاقتصاد التركي 5% سنوياً بتكلفة عالية؛ فمعدل التضخم وصل عام 1994م إلى 124%، وبلغ العام الماضي 99%، وقارب عجز ميزانية الدولة 8.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتفاقمت الديون الخارجية لتبلغ 95 مليار دولار أي بنسبة 48% من الناتج القومي العام الماضي، وتعبِّر خريطة الدخل عن اختلال واضح بنسبة الـ20% الأفقر من السكان التي لا يتجاوز نصيبها 3.5% من إجمالي الدخل في حين يبلغ نصيب فئة الـ20% الأغنى أكثر من 55% من إجمالي الدخل عام 1998م. فالعلمانية رغم محاولة إخفاء إخفاقها على مستوى الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالتركيز على الجانب الاقتصادي، إلا أنها لم تستطع أن تحقق إنجازاً ذا بال، ولا تزال البيروقراطية والمركزية تعوقان التحول ناحية اقتصاد السوق، كما ارتبط التخصيص في تركيا بالفساد الأخلاقي؛ فقد اتُّهم تورجوت أوزال «بإنشاء مجموعات اقتصادية احتكارية مثل «صاربنجي وكوج»، واتهمت «تانسـو تشيللر» بالحصول علـى تسهيلات ائتمانية حولتها للخارج، واتهم مسعود يلماظ «بتسهيل بيع البنك التجاري التركي للمافيا»، وتحولت تركيا إلى مركز عالمي لغسيل الأموال القذرة، ووفقاً لتقديرات رسمية فإن الأموال غير المشروعة التي تتدفق على تركيا تبلغ 50 مليار دولار.
ويزيد التنافس على تملك البنوك في تركيا؛ لأن أهم وسيلة لغسيل الأموال هي الاقتراض من البنوك ثم تسديد القروض بأموال قذرة. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن فرقة إعدامات تم تشكيلها ضمن الدولة قتلت ما بين 2500 ـ 5000 كردي في الفترة ما بين عام 1990م ـ 1996م، وفرقة الإعدامات هذه كانت ثمرة تحالف بين مؤسسات الدولة وبين محترفي الإجرام من تجار المخدرات والهيروين، واعتبار ذلك جزءاً من مواجهة المشكلة الكردية، وهناك تقرير رسمي اسمه تقرير (سافاس) يصل إلى 120 صفحة تم نشره في الصحف التركية يتحدث عن عمق العلاقة الفاسدة بين مؤسسات الدولة ورجال العصابات والمافيا التركية.
مستقبل تركيا:
الشيء المقطوع به أن العلمانية الكمالية قد سقطت في تركيا، وأن تركيا تقف الآن على مفرق طرق حائرة تبحث من جديد عن تحديد وجهتها؛ فإلى أين تتجه؟
هناك ثلاثة تيارات على الأقل تتقاذف تركيا لإعادة اكتشاف هويتها:
التيار الأول: يصر على الاستمرار في تبني العلمانية التي تجعل من تركيا دولة أوروبية؛ ويتبنى هذا التيار النخبة التركية، وقطاع واسع من التكنوقراط ورجال الأعمال وأصحاب المصالح مع الغرب.
والتيار الثاني: يتجه نحو العودة إلى الشرق الإسلامي وإعادة الأهلية للتراث الثقافي العثماني، والانفتاح أكثر على العالم الإسلامي؛ وهو تيار يتبناه قطاع واسع من سكان الريف والزراعيين والحرفيين وبعض الأكاديميين وطلبة الجامعات.
التيار الثالث: وهو تيار نشط بعد تحرر دول آسيا الوسطى التركية من القبضة الشيوعية، وانفتاح مجال حيوي جديد لتركيا باعتبار هذه المنطقة الحديثة فضاءاً سياسياً لتركيا للتوغل فيه.
وفي الواقع فإن رفض أوروبا القاطع بقبول تركيا دولة ضمن الوحدة الأوروبية النقدية والمالية صدم القطاع الذي كان يراهن على أن المبالغة في تبني قيم الحداثة والعلمانية الغربية ستؤدي إلى قبول أوروبا لتركيا عضواً على قدم المساواة في النادي الأوروبي، علماً بأن الذين يأملون في الرهان على أوروبا أقلية غير مذكورة؛ إذ لا تزال أوروبا تنظر إلى تركيا باعتبارها وريثة الدولة العثمانية التي أخذت بالسيف مناطق من أوروبا، واليونان لا تزال تنظر إلى الأراضي الأوروبية التي دخلت في الحوزة العثمانية باعتبارها أيضاً محتلة، ويقول الصحفي والكاتب التركي موسى عنتر: «عاداتنا وثقافتنا مختلفة وهم ـ الأوروبيون ـ لا يريدوننا».
أما التيار الثالث: وهو الذي دعا إليه «تورجوت أوزال» وأطلق عليه: «العثمانية الجديدة» ـ أي تنشيط الدور التركي في عالم تركيا الجديدة ـ فهذا الدور يثبت من الممارسة أن تركيا غير قادرة على تحمُّل أعبائه؛ إذ إن تركيا لا تزال عاجزة عن التأثير في المشكلة القبرصية، كما أنها عجزت عن التأثير في مشكلة البوسنة، أي أن مؤهلات تركيا لا تمنحها القدرة على أداء دور يجعل منها قوة إقليمية كبيرة في هذه المنطقة.
يبقى التيار الثاني: الذي يدعو إلى العودة إلى الإسلام والقيم الإسلامية والتواصل مع العالم العربي والإسلامي، وهو ما يتبناه حزب «الرفاه» والذي تحول اسمه إلى حزب «الفضيلة»، وهذا التيار يتصاعد بقوة، وهو الذي سيحسم المستقبل السياسي لتركيا. ونمو هذا التيار يؤكد عودة تركيا إلى جذورها الأولى. إن الإسلام قوة لا يمكن حذفها في أي بلد أغلبيته مسلمة، وإذا حاولت العلمانية الكمالية مرة أخرى استئصاله فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فإنها فقدت مسوِّغ بقائها ووجودها، وإن مزابل التاريخ تتوق شوقاً لضمها بين المخلفات التاريخية والأيديولوجية الأخرى التي سقطت في هذا القرن.
منقول
لقد فُرضت العلمانية بوصفها أيديولوجية صارمة وحادة وقمعية على المجتمع التركي، فهددت وحدته وتكامله برفض أي وجود للآخرين الذين يشاركون الأتراك العيش في وطنهم، ومن هنا كان الإنكار الصارم لوجود الأكراد، واعتبارهم أتراكاً يسكنون الجبال. ولا تزال المشاكل الكردية تمثل أكبر التحديات أمام العلمانية الكمالية.
وعلى مستوى الإنجاز الاقتصادي لم تستطع العلمانية أن تحقق للمواطن التركي مستوى للمعيشة ينشله من واقع البؤس والفقر، وعلى مستوى الطهارة الأخلاقية فإن التقارير تتحدث عن تحالف المافيا والفساد مع مؤسسات الدولة المختلفة بدءاً من المؤسسات الأمنية السيادية وحتى المؤسسات السياسية مثل مجالس الوزراء والنواب وغيرها. وفي العلاقات الخارجية لا تزال تركيا تمثل الأداة الأمريكية لملء الفراغ في المنطقة، وهي تتحالف في ذلك مع الكيان الصهيوني ضد الدول العربية والإسلامية، وكانت أزمة تركيا مع سوريا منذ عامين جزءاً من التوتر العلماني القلق في اكتشافه أن العلمانية التركية بعد هذا العمر لم تحقق لأصحابها طموحاتهم في سياستهم الخارجية. إن العلمانية الكمالية كأيديولوجية قد انهارت مع الأيديولوجيات الكبرى التي انهارت في هذا القرن، والبحث مطروح الآن بقوة عن مخرج للتخلص منها.
الكمالية تسقط في نظر العلمانية:
يقول الكاتب التركي المعروف أنيس باتور: « لقد انتهت الجمهورية الأولى بمدرستها ومستشفاها وسجنها ومحكمتها وبرلمانها»، أي أن الكاتب يرى أن التجربة الكمالية قد سقطت بمؤسساتها، ولا بد من البحث عن بديل لها. إن العلمانية الكمالية محمية بقوة الجيش، وإذا قُدِّر للجيش أن يُستبعد عن صناعة القرار في تركيا فإن ذلك سيكون بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على الكمالية، والذين يتحدثون عن ضرورة وجود ما يطلقون عليه: (الجمهورية الثانية) هم علمانيون وليسوا إسلاميين؛ لكنهم يرون العلمانية الكمالية استبدادية وقمعية ومتخلفة، ولا تصلح أن تكون صيغة تتجاذب مع تحولات السياسة والمجتمع في تركيا المعاصرة. إن العلمانية الكمالية جعلت من نفسها صنماً مقدساً لا يجوز الخروج على مقرراته العقيمة؛ فالدولة في الأيديولوجية الكمالية أصبحت عنصراً للتحكم والهيمنة، كما أن الديمقراطية أصبحت تعبيراً عن الاستبداد والتسلط.
حتى التحولات العالمية المتصلة بالتحول نحو اقتصاد السوق وانتشار الأفكار الليبرالية ثم اعتبار حقوق الإنسان معياراً للانتماء إلى الدول المتحضرة ـ حتى هذه التحولات لا تستجيب العلمانية الكمالية لشروطها، ومن هنا كان حديث فريق آخر من العلمانيين عن ضرورة تجاوزها إلى ما يطلق عليه: «الجمهورية الثانية».
ويتحدث البروفيسور «خليل جين» عن إخفاق العلمانية ـ الكمالية في تحقيق الوفاق الاجتماعي فيقول: «الجمهورية التركية دولة علمانية ـ ديموقراطية حقوقية، وهي أيضاً نتاج التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. وعجز الكمالية عن حل مشكلة تعدد الأصول والأعراق في تركيا يؤكد عجزها عن التعبير عن التوافق الشعبي في إطار الوحدة القومية. فالمشكلة الكردية متفاقمة وإصرار العلمانية الكمالية على نفي الوجود الكردي سيؤدي إلى تمزيق وحدة الدولة.
العلمانية تسقط في نظر الإسلاميين:
طرح فوز حزب الرفاه في الانتخابات البلدية والبرلمانية على بساط البحث الجدِّي مسألة العلمانية والديموقراطية التي دشنها الرجل الصنم «أتاتورك»؛ فالانتصار الإسلامي أكد إفلاس النظام السياسي في تركيا وعجزه عن مواجهة قضايا المواطنين، ويعبِّر رئيس فرع إسطنبول في حزب الرفاه عن إخفاق الأيديولوجية الكمالية قائلاً: «يمكن بمفهوم ما خارج الأيديولوجيا الرسمية إيجاد حل للأزمات الحالية في المجتمع التركي، إننا لا نجرؤ حتى على مجرد الحديث ومناقشة قضايانا الراهنة في ظل ضغط الأيديولوجيا الرسمية وتهديدها، إننا عندما نتحادث ونتناقش نكون وجهاً لوجه أمام خطر المعاقبة، وإن لم تحل هذه المسألة فمن المتعذر حـل المشــاكل الأخرى. انظـروا اليوم فإننـا لا نستطيع أن نناقش بصراحة كافية المسألة الكردية، لقد تشكل في تركيا مجتمع مغلق مستند على الخوف والقمع باسم الأيديولوجيا الرسمية التي تواصل الآن خصـوصية كونهــا طوطمـاً أي شيئاً محرَّماً ومقـدَّسـاً لا يجوز الاقتراب منه وإلا أصابتك لعنته».
ويؤكد بولانت أجاويد ـ رئيس الوزراء التركي الحالي ـ إخفاق العلمانية فيقول: «إن الأصوات التي حصدها الرفاه والإسلاميون هي أصوات «خيبة الأمل» في الأحزاب الأخرى سواء ما كان منها في السلطة أو المعارضة».
والمعضلة الأساسية التي توجدها العلمانية الكمالية هي أنها تحاول نبذ جزء أساسي من شخصية الشعب التركي وهو الدين؛ فمثلاً جنكيز شندار «أهم مفكر علماني تركي» يقول: «إن الإسلام في تركيا ليس ديناً فقط، بل هو شخصية وثقافة»، كما أن مسعود يلماظ الرئيس السابق للوزراء قال عام 1993م: «إن الدين محدد أساسي في الشخصية القومية لتركيا».
وبدا الفشل العلماني واضحاً في صعود نزعة إسلامية في تركيا منذ فترة «تورجوت أوزال» استمراراً لصعود هذه النزعة منذ (عدنان مندريس) في الخمسينيات؛ فقد تم رفع حظر الأذان باللغة العربية، وفتح معاهد تخريج الأئمة، وبعد انقلاب عام 1980م نصت المادة (24) من الدستور على اعتبار الدروس الدينية والأخلاقية مادة إجبارية في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة من التعليم، وكان أوزال يحرص على الصلاة في المساجد، وسقطت محرمات مثل التعرض لشخص أتاتورك بالنقد؛ فقد انتقده حسن مزارجي «نائب حزب الرفاه وسبَّه علناً، وطالب بوقف تقليد زيارة ضريحه في أنقرة، وطالب علمانيون ببناء جامع في حديقة القصر الجمهوري بأنقرة، وكانت تانسو تشيللر تحرص على استهلال خطبها بـ (الحمد لله)، وقبَّلت أمام آلاف من أنصارها نسخة من القرآن الكريم، وطالب «غفار ياكين» النائب المستقل عن محافظة أفيون التركية بتعطيل العمل في الدوائر الحكومية لتمكين الموظفين من صلاة الجمعة، وطالب بولانت أجاويد «رئيس حزب اليسار الديموقراطي» بالتعطيل ليس فقط وقت الجمعة وإنما أثناء صلاة الظهر في كل أنحاء تركيا، وطالب حزب الرفاه عام 1995م بفتح مسجد أيا صوفيا للصلاة بعد أن حُوِّل منذ أمدٍ بعيد إلى متحف، وأقر البرلمان توقيت ساعات العمل بحيث تنتهي مع مواقيت الإفطار في شهر رمضان، وتزايدت الدعوة للسماح للموظفين بأداء فريضة الحج بدون قطع رواتبهم.
وبالطبع فإن هذه المطالب أثارت نقاشاً كبيراً حول مفهوم العلمانية، كما انزعج الكماليون؛ بَيْدَ أن الحقيقة الأساسية هي أن الإسلام يضرب جذوره بعمق في النفسية التركية، ولا يمكن لأي أيديولوجية أن تطرح نفسها بديلاً عنه. إن هناك تحولات كبيرة في بنية المجتمع التركي، ولا تزال الدولة المقيدة بأغلال العلمانية عاجزة عن الاستجابة لهذه التحولات وهو ما يؤدي إلى خطر القلق في المجتمع التركي.
السقوط الأخلاقي والاقتصادي للعلمانية :
بالمعايير الاقتصادية لا تزال تركيا دولة نامية بعد 77 عاماً مـن العلمانية؛ فمتوسط دخــل الفـرد السـنوي لا يزال عند حد ثلاثة آلاف دولار، ولا تزال نسبة الصناعة تمثل 25% من الدخل القومي، والاقتصاد جنوب شرق البلاد في مناطق الأكراد لا يزال متخلفاً، ونسبة العجز في الميزان التجاري 20 مليار دولار، وارتبط نمو الاقتصاد التركي 5% سنوياً بتكلفة عالية؛ فمعدل التضخم وصل عام 1994م إلى 124%، وبلغ العام الماضي 99%، وقارب عجز ميزانية الدولة 8.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتفاقمت الديون الخارجية لتبلغ 95 مليار دولار أي بنسبة 48% من الناتج القومي العام الماضي، وتعبِّر خريطة الدخل عن اختلال واضح بنسبة الـ20% الأفقر من السكان التي لا يتجاوز نصيبها 3.5% من إجمالي الدخل في حين يبلغ نصيب فئة الـ20% الأغنى أكثر من 55% من إجمالي الدخل عام 1998م. فالعلمانية رغم محاولة إخفاء إخفاقها على مستوى الهوية والديمقراطية وحقوق الإنسان بالتركيز على الجانب الاقتصادي، إلا أنها لم تستطع أن تحقق إنجازاً ذا بال، ولا تزال البيروقراطية والمركزية تعوقان التحول ناحية اقتصاد السوق، كما ارتبط التخصيص في تركيا بالفساد الأخلاقي؛ فقد اتُّهم تورجوت أوزال «بإنشاء مجموعات اقتصادية احتكارية مثل «صاربنجي وكوج»، واتهمت «تانسـو تشيللر» بالحصول علـى تسهيلات ائتمانية حولتها للخارج، واتهم مسعود يلماظ «بتسهيل بيع البنك التجاري التركي للمافيا»، وتحولت تركيا إلى مركز عالمي لغسيل الأموال القذرة، ووفقاً لتقديرات رسمية فإن الأموال غير المشروعة التي تتدفق على تركيا تبلغ 50 مليار دولار.
ويزيد التنافس على تملك البنوك في تركيا؛ لأن أهم وسيلة لغسيل الأموال هي الاقتراض من البنوك ثم تسديد القروض بأموال قذرة. وتشير التقديرات الرسمية إلى أن فرقة إعدامات تم تشكيلها ضمن الدولة قتلت ما بين 2500 ـ 5000 كردي في الفترة ما بين عام 1990م ـ 1996م، وفرقة الإعدامات هذه كانت ثمرة تحالف بين مؤسسات الدولة وبين محترفي الإجرام من تجار المخدرات والهيروين، واعتبار ذلك جزءاً من مواجهة المشكلة الكردية، وهناك تقرير رسمي اسمه تقرير (سافاس) يصل إلى 120 صفحة تم نشره في الصحف التركية يتحدث عن عمق العلاقة الفاسدة بين مؤسسات الدولة ورجال العصابات والمافيا التركية.
مستقبل تركيا:
الشيء المقطوع به أن العلمانية الكمالية قد سقطت في تركيا، وأن تركيا تقف الآن على مفرق طرق حائرة تبحث من جديد عن تحديد وجهتها؛ فإلى أين تتجه؟
هناك ثلاثة تيارات على الأقل تتقاذف تركيا لإعادة اكتشاف هويتها:
التيار الأول: يصر على الاستمرار في تبني العلمانية التي تجعل من تركيا دولة أوروبية؛ ويتبنى هذا التيار النخبة التركية، وقطاع واسع من التكنوقراط ورجال الأعمال وأصحاب المصالح مع الغرب.
والتيار الثاني: يتجه نحو العودة إلى الشرق الإسلامي وإعادة الأهلية للتراث الثقافي العثماني، والانفتاح أكثر على العالم الإسلامي؛ وهو تيار يتبناه قطاع واسع من سكان الريف والزراعيين والحرفيين وبعض الأكاديميين وطلبة الجامعات.
التيار الثالث: وهو تيار نشط بعد تحرر دول آسيا الوسطى التركية من القبضة الشيوعية، وانفتاح مجال حيوي جديد لتركيا باعتبار هذه المنطقة الحديثة فضاءاً سياسياً لتركيا للتوغل فيه.
وفي الواقع فإن رفض أوروبا القاطع بقبول تركيا دولة ضمن الوحدة الأوروبية النقدية والمالية صدم القطاع الذي كان يراهن على أن المبالغة في تبني قيم الحداثة والعلمانية الغربية ستؤدي إلى قبول أوروبا لتركيا عضواً على قدم المساواة في النادي الأوروبي، علماً بأن الذين يأملون في الرهان على أوروبا أقلية غير مذكورة؛ إذ لا تزال أوروبا تنظر إلى تركيا باعتبارها وريثة الدولة العثمانية التي أخذت بالسيف مناطق من أوروبا، واليونان لا تزال تنظر إلى الأراضي الأوروبية التي دخلت في الحوزة العثمانية باعتبارها أيضاً محتلة، ويقول الصحفي والكاتب التركي موسى عنتر: «عاداتنا وثقافتنا مختلفة وهم ـ الأوروبيون ـ لا يريدوننا».
أما التيار الثالث: وهو الذي دعا إليه «تورجوت أوزال» وأطلق عليه: «العثمانية الجديدة» ـ أي تنشيط الدور التركي في عالم تركيا الجديدة ـ فهذا الدور يثبت من الممارسة أن تركيا غير قادرة على تحمُّل أعبائه؛ إذ إن تركيا لا تزال عاجزة عن التأثير في المشكلة القبرصية، كما أنها عجزت عن التأثير في مشكلة البوسنة، أي أن مؤهلات تركيا لا تمنحها القدرة على أداء دور يجعل منها قوة إقليمية كبيرة في هذه المنطقة.
يبقى التيار الثاني: الذي يدعو إلى العودة إلى الإسلام والقيم الإسلامية والتواصل مع العالم العربي والإسلامي، وهو ما يتبناه حزب «الرفاه» والذي تحول اسمه إلى حزب «الفضيلة»، وهذا التيار يتصاعد بقوة، وهو الذي سيحسم المستقبل السياسي لتركيا. ونمو هذا التيار يؤكد عودة تركيا إلى جذورها الأولى. إن الإسلام قوة لا يمكن حذفها في أي بلد أغلبيته مسلمة، وإذا حاولت العلمانية الكمالية مرة أخرى استئصاله فإنها ستخفق إخفاقاً ذريعاً؛ فإنها فقدت مسوِّغ بقائها ووجودها، وإن مزابل التاريخ تتوق شوقاً لضمها بين المخلفات التاريخية والأيديولوجية الأخرى التي سقطت في هذا القرن.
منقول