المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلم التجريبي الوضعي يقوم على ما يكره.



عبدالله الشهري
02-15-2012, 12:51 AM
العلم التجريبي الوضعي لا يعترف بمقولة تستعصي أو تمتنع على البرهنة تجريبياً. كما تعلمون هذا اتجاه سائد جدّاً اليوم في فروع العلم الطبيعي الحديث. المشكلة أن العلم التجريبي كلّه قائم على قضايا لا يمكن البرهنة عليها تجريبياً.
تأملوا معي الآتي. لكي يكون لأي نشاط تجريبي معنى لا بد من افتراض الآتي:
1- أنه توجد هناك أشياء تُسمّى حقائق.
2- أن هذه الحقائق تهمّنا.
3- أن هناك شيء يميز الفهم البشري لهذه الحقائق.
هذه قضايا قبلية (a priori) لا قيمة ولا قوام لأي ممارسة تجريبية بدونها.
بيت القصيد هنا أن كل هذه الثلاث لا يوجد عليها أي برهان تجريبي ولا يمكن البرهنة عليها تجريبياً.

عبدالله الشهري
02-15-2012, 01:25 AM
...والأدهى والأمرّ أن هذه المشكلة تتحول إلى "لعنة" إذا أضفنا مقولات أخرى من مثل:
- التطور زودنا بتلك القضايا لنتمكن من فهم (أو نتكيّف مع) العالم الذي نعيش فيه. [هذا فرض موجود في كثير من الكتب والأبحاث ومع ذلك لا يمكن البرهنة عليه تجريبياً].
- الصدفة هي الأصل الأول لظهور هذه القضايا. [لا يمكن البرهنة على هذا تجريبياً لسبب بسيط جداً: من أخص خصائص الصدفة أنها كينونة "اعتباطية" والاعتباطي لا يُبرهن].

hidden truth
02-15-2012, 01:47 AM
بالضبط .

وهذا ما جعلني أفقد الثقة تماماً بما يسمى "العلم الحديث" ، وأبعده تماماً عن تقرير قراري المصيري .

.. هناك كأس زجاجي اسطواني وضعته أنت على مكتبك في غرفتك ، ثم خرجت من الغرفة لعدة دقائق ..وعدت ووجدت الكأس مكسور على أرضية الغرفة بجانب المكتب.
أقصى حدود العلم التجريبي هنا هو وصف الحالات التي مر بها الكأس :
1- دُفع الكأس بقوّة مقدارها كذا.
2- سَقط الكأس من ارتفاع مقداره كذا .
3- نتيجة سقوطه واصطدامه على الأرض هيَ تكسّره .

إنسان من دفع هذا الكأس ؟ أو قطة جارك أبو أحمد ؟ أو الهواء من الشرفة ؟ أو جنّي أزرق خفي؟ أم هي مجرد صدفة مجنونة !!! .. مادامت معدومة الأدلة المادية الملموسة لهذا التفسير فبالتأكيد التفسير باطل حسب العلم التجريبي .. فلا يحقّ لك حينها أن تقول أنّه جني أزرق مثلاً أو قطّة الجّار أبو أحمد ، .. لانعدام أي دليل ملموس على هذا التفسير .

فالعالم عندما يتقيد بالعلم التجريبي في كل نظرياته ... وأخيراً يختم بإسناد كلّ ما قاله للصدفة العمياء حينها يخرق قانون أساسي من قوانين العلم التجريبي ويقحم أيدلوجيته الخاصة في هذا التفسير العلمي ليتجرد من الحيادية .

هل تتفقون معي؟

أسلمت لله 5
02-15-2012, 02:16 AM
بل ويقبـلون الإلحـاد على أنه علمـا تجريبيا كشف الحجاب عن ماهية الوجود لهم .. ولا يعلم المساكين أنهم لا يتبعون إلا الظن وأن الإلحاد لا ادرية كبرى ..

د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:16 AM
أحسنت يا hidden truth .. أتفق معك تمامًا في عجز العلم التجريبي ومحدوديته ..

أبو عثمان
02-15-2012, 12:22 PM
بارك الله فيك ونفع بك , فهمت كلامك اجمالا
فهلّا فصّلت تصيلا ولو بسيطاً حول :
1- أنه توجد هناك أشياء تُسمّى حقائق.
2- أن هذه الحقائق تهمّنا.
3- أن هناك شيء يميز الفهم البشري لهذه الحقائق.

عبدالله الشهري
02-18-2012, 09:57 PM
بارك الله فيك ونفع بك , فهمت كلامك اجمالا
فهلّا فصّلت تصيلا ولو بسيطاً حول :
وفيك أخي الفاضل.

1- أنه توجد هناك أشياء تُسمّى حقائق.

هذه فرضية عميقة توجّه العالِم - أياً كان - في اتجاه محدد. فداخلنا لا يمكن إلا أن نقول أن هناك حقائق تنتظر اكتشافنا لها أو علمنا بها، هذا هو الوقود الأول لكل خطوة نمشيها في رحلة التعلّم. هذه مقولة مهمة ولا نملك أن نعتقد فيها إلا أنها حق...لكن بناء على ماذا ؟ على برهان تجريبي وضعي ! كلا. إذاً فهذه مقولة يقوم عليها العلم التجريبي وهو لا يملك على صحتها برهان تجريبي ولا حتى هي قابلة للنفي falsifiable بالمنهجية التجريبية.


2- أن هذه الحقائق تهمّنا.
أيضاً هنا: لماذا عليّ أن اعتقد/أؤمن أنها تهمّنا؟..بناء على ماذا؟ على برهان تجريبي قضى بهذا الإيمان ؟ كلاّ. إذاً هو مجرّد إيمان بلا دليل- على أصول هؤلاء القوم - وهذا هو التحدّي الذي قام المنهج التجريبي كله من أجل مواجهته...من أجل تفادي الإيمان بشيء لا يمكن البرهنة عليه تجريبياً.


3- أن هناك شيء يميز الفهم البشري لهذه الحقائق.
وهنا أيضاً: علي أي أساس تجريبي علي أن أتصرّف وكأن الفهم البشري "مميز" في فهمه لهذه الحقائق؟ أين البرهان التجريبي - نفياً أو اثباتاً - على أنه يجب علي أن أؤمن بتميز فهمي للكون الذي أعيش فيه ليكون لما أتعلمه معانٍ ذات مغزى؟
هذا على وجه الإيجاز وأرجو أن أكون قد لبيت رغبتك.

أبو عثمان
02-19-2012, 04:25 PM
لبّيت وكفّيت .

هشام بن الزبير
02-19-2012, 04:34 PM
أستاذ عبد الله,
هل يطرح الفكر المادي اليوم السؤال التالي: - لماذا نفترض أن العالم قابل للفهم, وأنه يخضع لنظام ما؟

عبدالله الشهري
02-19-2012, 07:09 PM
قطعاً هذا سؤال في صلب فلسفة العلم وهذا هو السؤال الذي قامت عليه فرضيتان كبيرتان الأولى: مركزية الإنسان في نماذج التفسير anthropocentric ، والثانية فرضية كون الكون "صديقاً للخبرة البشرية" بحيث لو كان الكون على غير الهيئة التي هو عليها الآن لما كُنّا أنا وأنت هنا لنلاحظه ونتساءل عنه، وهو يأتي في سياق الحديث عن ما يُسمى بــالمبدأ الإنساني أو Anthropic Principle.
هذا والقرآن واضح جداً بخصوص هذه القضية فإن الله يخبرنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، والحق اسم جامع لأشياء كثيرة: أن يكون وضع الكون متعلقاً بموضوع التكليف بحيث يكون التفكر والنظر في الكون من أسباب ترجمة التكليف، أنه مخلوق بنظام ويتجه لغاية ولا مكان للعبث في وجوده على الهيئة التي هو عليها، أنه متوافق مع وضعية الرصد والملاحظة المنبثقة من إدراك الإنسان فالإنسان لا يسعه إلا أنه يفهم الكون - وإن كان لا يستقل بالضرورة بفهم غايته - ولا يسع الكون أن يكون على غير ما هو عليه ليفهمه الإنسان، إلى غير ذلك من معاني الحق.

عمار سليمان
02-19-2012, 09:32 PM
قطعاً هذا سؤال في صلب فلسفة العلم وهذا هو السؤال الذي قامت عليه فرضيتان كبيرتان الأولى: مركزية الإنسان في نماذج التفسير anthropocentric ، والثانية فرضية كون الكون "صديقاً للخبرة البشرية" بحيث لو كان الكون على غير الهيئة التي هو عليها الآن لما كُنّا أنا وأنت هنا لنلاحظه ونتساءل عنه، وهو يأتي في سياق الحديث عن ما يُسمى بــالمبدأ الإنساني أو anthropic principle.
هذا والقرآن واضح جداً بخصوص هذه القضية فإن الله يخبرنا أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق، والحق اسم جامع لأشياء كثيرة: أن يكون وضع الكون متعلقاً بموضوع التكليف بحيث يكون التفكر والنظر في الكون من أسباب ترجمة التكليف، أنه مخلوق بنظام ويتجه لغاية ولا مكان للعبث في وجوده على الهيئة التي هو عليها، أنه متوافق مع وضعية الرصد والملاحظة المنبثقة من إدراك الإنسان فالإنسان لا يسعه إلا أنه يفهم الكون - وإن كان لا يستقل بالضرورة بفهم غايته - ولا يسع الكون أن يكون على غير ما هو عليه ليفهمه الإنسان، إلى غير ذلك من معاني الحق.

شيخنا الحبيب بارك الله في جواهرك و ما تقدمه لنا ,,

النظرتان اليس بهذه الصياغة يكون لهما نقطة تجاوز (للمادية) اي اعتبر الانسان كمركز للكون و هي فكرة ميتافيزيقيا لان الطبيعة (المادة) على مذهبهم سابقة له و التكلم بها يجعلنا نتحدث عن (ثنائيات) كـَ (الانسان/ و الطبيعة) و بهذا المفهوم يكون الانسان مصدر مستقل و هذا عندنا لا عيب فيه اليست هذه النقطة و التشدق بالانسانية هي مقتل من مقاتل المادية شيخنا الحبيب ,,,و هنا أعتراف ضمني بما فوق المادة و الله اعلم ,,,

أبو الفداء
02-20-2012, 01:24 AM
جزاك الله خيرا أبا ضياء ونفع بك.
والواقع أن العلم التجريبي في حد ذاته بريء مما ينتحله حملة الفلسفة المادية materialism وربيبتيها الوضعية positivism والمبدإ الطبيعي naturalism وغيرها من العقائد والنحل الفلسفية، فلا ينبغي أن نحمل العلم التجريبي نفسه أوزار تلك المذاهب الفلسفية. ثمة تفريق ضروري يجب أن ننتبه إليه - كدارسين للفلسفة المعاصرة - بين العلم الطبيعي Science والنحلة الفلسفية المسماة باسم Scientism (ولم أقف لها على ترجمة عربية ملائمة إلى الآن)، وهي تلك النحلة التي يرى منتحلوها أن العلم الطبيعي أو الإمبريقي هو المصدر الوحيد المعتبر لتحقيق المعرفة، وأنه يصلح ويكفي لتحصيل إجابة كافة صنوف الأسئلة البشرية بلا استثناء. وهذا غلو و"تطرف" ودوغمائية عمياء لا ذنب للعلم التجريبي نفسه فيها. التجريب أداة مثلها كمثل الأدوات الإدراكية الحسية عند الإنسان، بل إنها على التعريف الأقرب، طريقتنا معاشر البشر في استعمال أدواتنا الإدراكية الحسية استعمالا يوصل منه إلى بناء المعرفة الدقيقة بالواقع المشاهد المحسوس.
لذا لا يعجبني في الحقيقة هذا الإطلاق الذي أراه في كلام أخي hidden truth في قوله بأن العلم الطبيعي لا يوثق فيه.
يقول أخي الفاضل:

وهذا ما جعلني أفقد الثقة تماماً بما يسمى "العلم الحديث" ، وأبعده تماماً عن تقرير قراري المصيري .
فليسمح لي بتعقب كلامه هذا بأنه يعبر عن موقف لا يصح بهذا الإطلاق، وظاهره الجنوح من غلو إلى غلو مقابل. نعم يصح لك ولا ريب أن تفقد الثقة فيما يتكلم به كثير من الطبيعيين بوصفه من "حقائق" العلم الحديث، على أساس من معرفتك بخلفيتهم الاعتقادية، وعلمك بما تحملهم عليه تلك الخلفية من تلبيس بعض النظريات بعينها لبوس الحقائق القطعية، ومن استدلالات باطلة ببعض الأدوات البحثية الإحصائية والنتائج المعملية لخدمة عقائد أو مزاعم قد تكون في بنائها الفلسفي مصادمة لبدهيات العقل الأولى، وغير ذلك من انحرافات فلسفية في تطبيق أدوات العلم الطبيعي. فمن السهولة بمكان أن تدخل إلى المعمل بغرض العمل على خدمة واستكمال تصور فلسفي فاسد في أصله، كما هو دأب الدراونة على سبيل المثال، فتكون المشاهدة المرصودة في المعمل أو العلاقة المستخرجة منه صحيحة في نفسها، باطلة فيما يزعم الباحث دلالتها عليه. ولكن كل هذا لا يسوع لنا أن نقول إن ما يسمى "بالعلم الحديث" لا ثقة لنا فيه! وأما عن القرار المصيري، فلا أظن أننا نحتاج إلى بيان أنه إن جاز لنا افتراض أن قرار إجراء عملية جراحية في القلب - مثلا - يعد قرارا مصيريا، فإننا مضطرون قبل اتخاذه إلى ترسيم الثقة في جملة كبيرة من العلوم الطبيعية والتجريبية التي يستعملها الأطباء في كل مكان. والفرق بيننا - عقلاء المسلمين - وبين الملاحدة المعاصرين وعامة أصحاب تلك النحل الفلسفية المنحرفة، أننا مع إثباتنا هذه الحقيقة الواضحة في أهمية العلم التجريبي في حياة الناس، إلا أننا مع ذلك لا نرفعه فوق قدره، ولا ننزله في غير محله، ولا نخضعه لفلسفات باطلة متهافتة كما يصنعون.

وعلى ذكر المثال الذي تفضلت به، وفي سياق مقارنتنا بين موقف عقلاء المسلمين من الأدلة التجريبية الحسية، وموقف الماديين وأتباع النحلة الطبيعية، دعني أضرب لك مثالا أرجو أن يكون أبلغ في إيصال الفكرة التي أحسبك تريد أن توصلها منه.
هب أنك تسكن في بيت وقد علمت - بيقين - أن جارك في البيت المجاور لبيتك قد أغلق بيته وأحكم إغلاقه وهجره لسنوات. ثم إذا بك في يوم من الأيام تسمع صوت طرق على الجدار. أحسب أن أول فرضية تفسيرية ستنقدح في ذهنك لهذا الطرق = أن ثمة جني قد سكن البيت من طول هجره. فأنت تعلم بيقين أن البيت مغلق مهجور لا يمكن أن يكون فيه أحد من البشر. هذه الفرضية إذا سمعها المادي الملحد، فإنه سيسخر منها ولا شك وسيسفهها أشد التسفيه، ليس لمجرد أنه يكفر بالجن وبالكتاب الذي تحقق لدينا القطع بوجودهم من طريقه، ولكن لأنه قد اتخذ لنفسه نحلة فلسفية في بناء الفرضيات المعرفية التفسيرية تختزل التفسيرات التي يصح أن يقال لها "علمية" بل و"منطقية" في التفسير بالمحسوسات والماديات وحدها، وهو المذهب الذي يطلق عليه اسم naturalism. فهل يزعم الواحد منهم أن العقل فيه ما يمنع من صحة تفسير كهذا؟ كلا ولا يمكنه ذلك. فلماذا اختار أن يتخذ من هذه الاختزالية المعرفية الفجة reductionism منهجا؟ لأنه بكل بساطة قد استقرت نفسه على الإيمان ببطلان سائر الغيبيات التي جاءت بها الأديان، ومن ثمّ اعتقاد أن تلك الأديان لا تأتي بمعرفة أصلا، وإنما أساطير وخرافات.

ففي الوقت الذي يعمل فيه العقل المسلم المستنير عملا مرتبا صحيحا لتفسير تلك الواقعة، بوضع سائر الفرضيات الظنية الممكنة عقلا تحت التصرف الترجيحي، مستندا في ذلك إلى سائر مصادر المعرفة التي تحقق لديه العلم بصحتها بصرف النظر عن نوعية تلك المصادر أو التصنيف الإبستمي الذي تندرج تحته، فإنك ترى العقل المادي المبتلى بتلك النحلة الاختزالية، يختزل المصادر المعرفية لبناء الفرضية التفسيرية في مصدر واحد فقط لا غير، بلا أي مستند عقلي أو فلسفي خلا ذلك الموقف المتعصب الأعمى تجاه المصدر الآخر، أو تجاه جملة من المصادر الأخرى. فنحن إذا ما أردنا أن نفسر ذلك الطرق على الجدار، فسنبدأ أولا بالنظر في إمكانية أن يكون أصحاب البيت قد رجعوا إليه في غفلة منا. هذا هو التفسير الظني الأقرب إلى الذهن، لأن العادة أدلّ عليه من افتراض أن جنيا قد جاء ليعبث بالبيت. أو على اصطلاح الرياضيات الإحصائية، نقول إن الاحتمالية الأرجحية لهذا التفسير أعلى مما سواها Higher Probability. فما دليلنا على هذا التفريق الاحتمالي نفسه؟ دليلنا أن تعرضنا معاشر البشر لحالات سكنى الجن في الديار المهجورة وسط المدينة = نادر وقليل للغاية، بالمقارنة بتعرضنا لحالات الرجوع المفاجئ لأصحاب البيت المهجور إليه في الجوار على حين غفلة منا! وأكثر الحالات المشابهة التي وقفتُ عليها أنا نفسي من مثل ذلك، تبين في النهاية أن مصدر الصوت فيها لم يكن جنيا أو نحوه. هذه أول فرضية تفسيرية يضعها المسلم في مثالنا هذا.

فلنفترض الآن أنك اتبعت هذه الفرضية وأردت اختبارها، فماذا تصنع؟ ستتصل على جارك بالهاتف لترى هل هو في البيت أم لا. فإن لم يجب؟ لعلك تخرج إلى باب البيت لترى ما إذا كان قد جاء إليه أحد. فلنفترض أنك رأيت الباب محكم الإغلاق وعليه القفل من الخارج "مثلا" أو غير ذلك من علامات أو شواهد تدل على أنه لم يفتحه أحد من سنوات خلت، فماذا سيبقى لك من سند للتعلق بتلك الفرضية؟ ستضطر إذن للتسليم بأن البيت لم يأته أحد من بابه على الأقل! فهل دخله أحد من الشرفة أو من النافذة أو نحو ذلك؟ هكذا يعمل العقل بصورة تلقائية في استقراء القرائن الحسية Forensic Evidence منتقلا من فرضية إلى أخرى، بداية بالفرضيات الأقرب احتمالا (الأعلى في الأرجحية الاحتمالية) وانتقالا إلى الأبعد. والسؤال الآن: متى نصل إلى افتراض أن جنيا قد دخل إلى البيت وهو الآن يعبث به؟ تأسيسا على علمنا معاشر المسلمين بوجود الجن (من طرق ثبتت بالقطع اليقيني) وعلمنا بسلوكهم (من طرق ظنية قوية الثبوت)، فإنه يصبح من الممكنات الواردة عندنا على هذا المحل البحثي أن يكون تفسير ذلك الصوت هو عمل بعض تلك المخلوقات الخفية، التي لا يحجبها باب ولا نافذة! وتظهر المفارقة بيننا وبين الماديين في إنكارهم هذا النوع من التفاسير جملة واحدة، والإصرار على تكذيبه وإن رأوا تأويله بأعينهم! فنحن في مرحلة ما، قد وصلنا إلى جمع ما يكفي من القرائن الحسية والمشاهدة للتدليل على أن هذا البيت لم يفتح ولا يمكن أن يكون أحد من البشر قد دخله البتة. فلم يبق لنا إلا الانتقال إلى هذا الافتراض. فما بال الملحد والمادي، كيف يصنع عند هذه المرحلة نفسها في العمل الترجيحي؟ هنا تفاجأ بافتراضات بعيدة شديدة البعد، يضعها هؤلاء لا لشيء إلا لاجتناب تفسير "غيبي" supernatural كهذا الذي يفترضه المسلم، فيقول قائلهم - مثلا - "لعل هذا السامع يتوهم أو يعاني من الهلوسات السمعية"! فأيهما أقرب احتمالا عند العقلاء المنصفين؟ أن يكون هذا الرجل قد سمع ما سمع حقيقة، وهو الذي لم يتعرض لأي سبب يفضي إلى الهلوسة، وأن يكون سبب ذلك الصوت أن مخلوقا خفيا يمكنه أن يتحرك عبر الجدران قد دخل إلى البيت المجاور وصنع فيه ما صنع؟ أم أن يكون الرجل قد أصيب - هكذا بلا مقدمات ولا أسباب - بهلوسة سمعية؟

بل أكثر من هذا، أن تكون تلك الأصوات قد اتُفق أن سمعها معه جميع أهل بيته في نفس الوقت، ودونما توقع سابق، ومع ذلك ترى بعض الماديين يصر على فرضية الهلوسة، فيقول بأنها كانت هلوسة جماعية (1) أو ما يسمى في علم النفس group/mass hallucinations.
والقصد من هذا المثال، بيان أن الماديين والطبيعيين يصرون على نفي واستبعاد التفسير الغيبي لا على أساس أنه قليل الأرجحية احتماليا في بعض الحالات أو في جميعها، وإنما على أساس أنه تفسير غيبي لا غير! وأعني بالتفسير الغيبي كل ما كانت فرضيته الأساسية قائمة على التعليل بأمر غير مشاهد.




------------------
(1) ومن ذلك، تلك "الظهورات" الشيطانية من أنوار وصور للمعبدوات الوثنية ونحوها التي تظهر لأهل الملل الشركية في ملإ كبير منهم في بعض الأحيان، كتلك التي يفسرها النصارى تبعا لعقيدتهم الباطلة على أنها العذراء جاءت لزيارتهم وكذا، فيفسرها الطبيعيون والماديون في المقابل على أنها هلوسات جماعية، ويتمسكون بذلك التفسير - إن ثبت استحالة أن يكون ثمة من صنع خدعة بصرية في ذلك الملإ بشكل ما أو بآخر - وإن كان الملأ من مئات بل آلاف الناس! فكيف يُتصور أن يجتمع كل هذا العدد على الهلوسة (أو حتى على الإدراك بالإيحاء Suggestion)؟ هذا احتمال بعيد للغاية! بل لابد وأنهم رأوا شيئا ما في ذلك المكان، خارقا للمعتاد، تظهر فيه على الأقل تلك الصفات التي اتفقت روايتهم عليها، بصرف النظر عن حقيقته وعن تأويلهم له. أما المسلم في المقابل فيدري أن الجني يملك القدرة على التصور والتشكل ويمكنه أن يظهر في صورة أنوار ونحوها، وأن للشياطين مغنما عظيما في مخادعة جهلاء المشركين ومداعبة أهوائهم وإيهامهم بأن هذا الذي يرونه هو ذلك الميت الذي عبدوه من البشر واتخذوه إلها، قد جاء إليهم من السماء ليسمع دعاءهم أو ليصلي عليهم أو نحو ذلك! وعليه فإن احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح لواقعة كهذه هو الأقوى والأرجح، أو - على الأقل - أقرب من افتراض أن هؤلاء القوم بهذه الأعداد الحاشدة كانوا يعانون جميعا في تلك اللحظة من هلوسات جماعية!

إلى حب الله
02-20-2012, 11:51 AM
كلام عميق لأستاذنا عبد الله الشهري ما شاء الله ..
وشرح وتفصيل ماتع من أستاذنا أبي الفداء جزاه الله خيرا ً..

والعجيب أن أحد الإخوة الأحباب في المنتدى كان قد سألني منذ فترة عن سؤال :
يقارب كثيرا ًمثال أستاذنا أبي الفداء - وسوف أدله على مشاركته لأنها في صميم سؤاله -
حيث قال لي :
لو أني في بيت أحد الإخوة : وكان يحدث أشياء غريبة في هذا البيت (يُقال أنه مسكون) ..
ثم انغلق الباب فجأة لوحده وبدون سبب ظاهر .. هل من الصواب أن أنسب ذلك للجن ؟
فقلت له : إذا كان أمر هذا البيت هو كما أخبرت : فنعم .. ليس بمستبعد ..
فسألني :
ولكن : ماذا سيقول الملحد لو أنه في نفس مكاني ؟.. هل سيقول صدفة ؟!!..
فقلت له :
الملحد رغم أنه يؤمن بالصدفة الخارقة : إلا أنه لا ينسب لها فعليا ًأي شيء على أرض الواقع !
وإنما في حالتك هذه : سيعود بالأسباب لأي شيء مادي : إلا الغيب في الإسلام وهو الجن !!..
فربما قال أنها ريح هي التي أغلقت الباب !!.. أو فأر صدم الباب إلخ
ولكنه أبدا ً- في مثل هذه الحالة - سيقول الجن .. اللهم إلا مع مشاهدات أكبر من هذه :
فساعتها لن يستطيع الإنكار بل : في الغالب تكون سببا ًفي زعزعة إلحاده وانتقاله إلى اللا دينية
أو اللا أدرية أو الإيمان !!..

وحفظ الله أستاذينا الكريمين الشهري وأبا الفداء ..

مواطن
02-20-2012, 01:00 PM
بالضبط .

وهذا ما جعلني أفقد الثقة تماماً بما يسمى "العلم الحديث" ، وأبعده تماماً عن تقرير قراري المصيري .

.. هناك كأس زجاجي اسطواني وضعته أنت على مكتبك في غرفتك ، ثم خرجت من الغرفة لعدة دقائق ..وعدت ووجدت الكأس مكسور على أرضية الغرفة بجانب المكتب.
أقصى حدود العلم التجريبي هنا هو وصف الحالات التي مر بها الكأس :
1- دُفع الكأس بقوّة مقدارها كذا.
2- سَقط الكأس من ارتفاع مقداره كذا .
3- نتيجة سقوطه واصطدامه على الأرض هيَ تكسّره .

إنسان من دفع هذا الكأس ؟ أو قطة جارك أبو أحمد ؟ أو الهواء من الشرفة ؟ أو جنّي أزرق خفي؟ أم هي مجرد صدفة مجنونة !!! .. مادامت معدومة الأدلة المادية الملموسة لهذا التفسير فبالتأكيد التفسير باطل حسب العلم التجريبي .. فلا يحقّ لك حينها أن تقول أنّه جني أزرق مثلاً أو قطّة الجّار أبو أحمد ، .. لانعدام أي دليل ملموس على هذا التفسير .

فالعالم عندما يتقيد بالعلم التجريبي في كل نظرياته ... وأخيراً يختم بإسناد كلّ ما قاله للصدفة العمياء حينها يخرق قانون أساسي من قوانين العلم التجريبي ويقحم أيدلوجيته الخاصة في هذا التفسير العلمي ليتجرد من الحيادية .

هل تتفقون معي؟

المشكلة يا زميل الفاضل
وعلى ما اعتقد
هم اعتمدوا على ميكانيكا الكم
التي برهنت لهم بعدم وجود السببية
لا بعدم معرفة نوع السبب


والله أعلم

عبدالله الشهري
02-22-2012, 10:36 PM
جزاك الله خيرا أبا ضياء ونفع بك.
والواقع أن العلم التجريبي في حد ذاته بريء مما ينتحله حملة الفلسفة المادية materialism وربيبتيها الوضعية positivism والمبدإ الطبيعي naturalism وغيرها من العقائد والنحل الفلسفية، فلا ينبغي أن نحمل العلم التجريبي نفسه أوزار تلك المذاهب الفلسفية. ثمة تفريق ضروري يجب أن ننتبه إليه - كدارسين للفلسفة المعاصرة - بين العلم الطبيعي science والنحلة الفلسفية المسماة باسم scientism (ولم أقف لها على ترجمة عربية ملائمة إلى الآن)، وهي تلك النحلة التي يرى منتحلوها أن العلم الطبيعي أو الإمبريقي هو المصدر الوحيد المعتبر لتحقيق المعرفة، وأنه يصلح ويكفي لتحصيل إجابة كافة صنوف الأسئلة البشرية بلا استثناء. وهذا غلو و"تطرف" ودوغمائية عمياء لا ذنب للعلم التجريبي نفسه فيها. التجريب أداة مثلها كمثل الأدوات الإدراكية الحسية عند الإنسان، بل إنها على التعريف الأقرب، طريقتنا معاشر البشر في استعمال أدواتنا الإدراكية الحسية استعمالا يوصل منه إلى بناء المعرفة الدقيقة بالواقع المشاهد المحسوس.
لذا لا يعجبني في الحقيقة هذا الإطلاق الذي أراه في كلام أخي hidden truth في قوله بأن العلم الطبيعي لا يوثق فيه.
يقول أخي الفاضل:

فليسمح لي بتعقب كلامه هذا بأنه يعبر عن موقف لا يصح بهذا الإطلاق، وظاهره الجنوح من غلو إلى غلو مقابل. نعم يصح لك ولا ريب أن تفقد الثقة فيما يتكلم به كثير من الطبيعيين بوصفه من "حقائق" العلم الحديث، على أساس من معرفتك بخلفيتهم الاعتقادية، وعلمك بما تحملهم عليه تلك الخلفية من تلبيس بعض النظريات بعينها لبوس الحقائق القطعية، ومن استدلالات باطلة ببعض الأدوات البحثية الإحصائية والنتائج المعملية لخدمة عقائد أو مزاعم قد تكون في بنائها الفلسفي مصادمة لبدهيات العقل الأولى، وغير ذلك من انحرافات فلسفية في تطبيق أدوات العلم الطبيعي. فمن السهولة بمكان أن تدخل إلى المعمل بغرض العمل على خدمة واستكمال تصور فلسفي فاسد في أصله، كما هو دأب الدراونة على سبيل المثال، فتكون المشاهدة المرصودة في المعمل أو العلاقة المستخرجة منه صحيحة في نفسها، باطلة فيما يزعم الباحث دلالتها عليه. ولكن كل هذا لا يسوع لنا أن نقول إن ما يسمى "بالعلم الحديث" لا ثقة لنا فيه! وأما عن القرار المصيري، فلا أظن أننا نحتاج إلى بيان أنه إن جاز لنا افتراض أن قرار إجراء عملية جراحية في القلب - مثلا - يعد قرارا مصيريا، فإننا مضطرون قبل اتخاذه إلى ترسيم الثقة في جملة كبيرة من العلوم الطبيعية والتجريبية التي يستعملها الأطباء في كل مكان. والفرق بيننا - عقلاء المسلمين - وبين الملاحدة المعاصرين وعامة أصحاب تلك النحل الفلسفية المنحرفة، أننا مع إثباتنا هذه الحقيقة الواضحة في أهمية العلم التجريبي في حياة الناس، إلا أننا مع ذلك لا نرفعه فوق قدره، ولا ننزله في غير محله، ولا نخضعه لفلسفات باطلة متهافتة كما يصنعون.

وعلى ذكر المثال الذي تفضلت به، وفي سياق مقارنتنا بين موقف عقلاء المسلمين من الأدلة التجريبية الحسية، وموقف الماديين وأتباع النحلة الطبيعية، دعني أضرب لك مثالا أرجو أن يكون أبلغ في إيصال الفكرة التي أحسبك تريد أن توصلها منه.
هب أنك تسكن في بيت وقد علمت - بيقين - أن جارك في البيت المجاور لبيتك قد أغلق بيته وأحكم إغلاقه وهجره لسنوات. ثم إذا بك في يوم من الأيام تسمع صوت طرق على الجدار. أحسب أن أول فرضية تفسيرية ستنقدح في ذهنك لهذا الطرق = أن ثمة جني قد سكن البيت من طول هجره. فأنت تعلم بيقين أن البيت مغلق مهجور لا يمكن أن يكون فيه أحد من البشر. هذه الفرضية إذا سمعها المادي الملحد، فإنه سيسخر منها ولا شك وسيسفهها أشد التسفيه، ليس لمجرد أنه يكفر بالجن وبالكتاب الذي تحقق لدينا القطع بوجودهم من طريقه، ولكن لأنه قد اتخذ لنفسه نحلة فلسفية في بناء الفرضيات المعرفية التفسيرية تختزل التفسيرات التي يصح أن يقال لها "علمية" بل و"منطقية" في التفسير بالمحسوسات والماديات وحدها، وهو المذهب الذي يطلق عليه اسم naturalism. فهل يزعم الواحد منهم أن العقل فيه ما يمنع من صحة تفسير كهذا؟ كلا ولا يمكنه ذلك. فلماذا اختار أن يتخذ من هذه الاختزالية المعرفية الفجة reductionism منهجا؟ لأنه بكل بساطة قد استقرت نفسه على الإيمان ببطلان سائر الغيبيات التي جاءت بها الأديان، ومن ثمّ اعتقاد أن تلك الأديان لا تأتي بمعرفة أصلا، وإنما أساطير وخرافات.

ففي الوقت الذي يعمل فيه العقل المسلم المستنير عملا مرتبا صحيحا لتفسير تلك الواقعة، بوضع سائر الفرضيات الظنية الممكنة عقلا تحت التصرف الترجيحي، مستندا في ذلك إلى سائر مصادر المعرفة التي تحقق لديه العلم بصحتها بصرف النظر عن نوعية تلك المصادر أو التصنيف الإبستمي الذي تندرج تحته، فإنك ترى العقل المادي المبتلى بتلك النحلة الاختزالية، يختزل المصادر المعرفية لبناء الفرضية التفسيرية في مصدر واحد فقط لا غير، بلا أي مستند عقلي أو فلسفي خلا ذلك الموقف المتعصب الأعمى تجاه المصدر الآخر، أو تجاه جملة من المصادر الأخرى. فنحن إذا ما أردنا أن نفسر ذلك الطرق على الجدار، فسنبدأ أولا بالنظر في إمكانية أن يكون أصحاب البيت قد رجعوا إليه في غفلة منا. هذا هو التفسير الظني الأقرب إلى الذهن، لأن العادة أدلّ عليه من افتراض أن جنيا قد جاء ليعبث بالبيت. أو على اصطلاح الرياضيات الإحصائية، نقول إن الاحتمالية الأرجحية لهذا التفسير أعلى مما سواها higher probability. فما دليلنا على هذا التفريق الاحتمالي نفسه؟ دليلنا أن تعرضنا معاشر البشر لحالات سكنى الجن في الديار المهجورة وسط المدينة = نادر وقليل للغاية، بالمقارنة بتعرضنا لحالات الرجوع المفاجئ لأصحاب البيت المهجور إليه في الجوار على حين غفلة منا! وأكثر الحالات المشابهة التي وقفتُ عليها أنا نفسي من مثل ذلك، تبين في النهاية أن مصدر الصوت فيها لم يكن جنيا أو نحوه. هذه أول فرضية تفسيرية يضعها المسلم في مثالنا هذا.

فلنفترض الآن أنك اتبعت هذه الفرضية وأردت اختبارها، فماذا تصنع؟ ستتصل على جارك بالهاتف لترى هل هو في البيت أم لا. فإن لم يجب؟ لعلك تخرج إلى باب البيت لترى ما إذا كان قد جاء إليه أحد. فلنفترض أنك رأيت الباب محكم الإغلاق وعليه القفل من الخارج "مثلا" أو غير ذلك من علامات أو شواهد تدل على أنه لم يفتحه أحد من سنوات خلت، فماذا سيبقى لك من سند للتعلق بتلك الفرضية؟ ستضطر إذن للتسليم بأن البيت لم يأته أحد من بابه على الأقل! فهل دخله أحد من الشرفة أو من النافذة أو نحو ذلك؟ هكذا يعمل العقل بصورة تلقائية في استقراء القرائن الحسية forensic evidence منتقلا من فرضية إلى أخرى، بداية بالفرضيات الأقرب احتمالا (الأعلى في الأرجحية الاحتمالية) وانتقالا إلى الأبعد. والسؤال الآن: متى نصل إلى افتراض أن جنيا قد دخل إلى البيت وهو الآن يعبث به؟ تأسيسا على علمنا معاشر المسلمين بوجود الجن (من طرق ثبتت بالقطع اليقيني) وعلمنا بسلوكهم (من طرق ظنية قوية الثبوت)، فإنه يصبح من الممكنات الواردة عندنا على هذا المحل البحثي أن يكون تفسير ذلك الصوت هو عمل بعض تلك المخلوقات الخفية، التي لا يحجبها باب ولا نافذة! وتظهر المفارقة بيننا وبين الماديين في إنكارهم هذا النوع من التفاسير جملة واحدة، والإصرار على تكذيبه وإن رأوا تأويله بأعينهم! فنحن في مرحلة ما، قد وصلنا إلى جمع ما يكفي من القرائن الحسية والمشاهدة للتدليل على أن هذا البيت لم يفتح ولا يمكن أن يكون أحد من البشر قد دخله البتة. فلم يبق لنا إلا الانتقال إلى هذا الافتراض. فما بال الملحد والمادي، كيف يصنع عند هذه المرحلة نفسها في العمل الترجيحي؟ هنا تفاجأ بافتراضات بعيدة شديدة البعد، يضعها هؤلاء لا لشيء إلا لاجتناب تفسير "غيبي" supernatural كهذا الذي يفترضه المسلم، فيقول قائلهم - مثلا - "لعل هذا السامع يتوهم أو يعاني من الهلوسات السمعية"! فأيهما أقرب احتمالا عند العقلاء المنصفين؟ أن يكون هذا الرجل قد سمع ما سمع حقيقة، وهو الذي لم يتعرض لأي سبب يفضي إلى الهلوسة، وأن يكون سبب ذلك الصوت أن مخلوقا خفيا يمكنه أن يتحرك عبر الجدران قد دخل إلى البيت المجاور وصنع فيه ما صنع؟ أم أن يكون الرجل قد أصيب - هكذا بلا مقدمات ولا أسباب - بهلوسة سمعية؟

بل أكثر من هذا، أن تكون تلك الأصوات قد اتُفق أن سمعها معه جميع أهل بيته في نفس الوقت، ودونما توقع سابق، ومع ذلك ترى بعض الماديين يصر على فرضية الهلوسة، فيقول بأنها كانت هلوسة جماعية (1) أو ما يسمى في علم النفس group/mass hallucinations.
والقصد من هذا المثال، بيان أن الماديين والطبيعيين يصرون على نفي واستبعاد التفسير الغيبي لا على أساس أنه قليل الأرجحية احتماليا في بعض الحالات أو في جميعها، وإنما على أساس أنه تفسير غيبي لا غير! وأعني بالتفسير الغيبي كل ما كانت فرضيته الأساسية قائمة على التعليل بأمر غير مشاهد.




------------------
(1) ومن ذلك، تلك "الظهورات" الشيطانية من أنوار وصور للمعبدوات الوثنية ونحوها التي تظهر لأهل الملل الشركية في ملإ كبير منهم في بعض الأحيان، كتلك التي يفسرها النصارى تبعا لعقيدتهم الباطلة على أنها العذراء جاءت لزيارتهم وكذا، فيفسرها الطبيعيون والماديون في المقابل على أنها هلوسات جماعية، ويتمسكون بذلك التفسير - إن ثبت استحالة أن يكون ثمة من صنع خدعة بصرية في ذلك الملإ بشكل ما أو بآخر - وإن كان الملأ من مئات بل آلاف الناس! فكيف يُتصور أن يجتمع كل هذا العدد على الهلوسة (أو حتى على الإدراك بالإيحاء suggestion)؟ هذا احتمال بعيد للغاية! بل لابد وأنهم رأوا شيئا ما في ذلك المكان، خارقا للمعتاد، تظهر فيه على الأقل تلك الصفات التي اتفقت روايتهم عليها، بصرف النظر عن حقيقته وعن تأويلهم له. أما المسلم في المقابل فيدري أن الجني يملك القدرة على التصور والتشكل ويمكنه أن يظهر في صورة أنوار ونحوها، وأن للشياطين مغنما عظيما في مخادعة جهلاء المشركين ومداعبة أهوائهم وإيهامهم بأن هذا الذي يرونه هو ذلك الميت الذي عبدوه من البشر واتخذوه إلها، قد جاء إليهم من السماء ليسمع دعاءهم أو ليصلي عليهم أو نحو ذلك! وعليه فإن احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح لواقعة كهذه هو الأقوى والأرجح، أو - على الأقل - أقرب من افتراض أن هؤلاء القوم بهذه الأعداد الحاشدة كانوا يعانون جميعا في تلك اللحظة من هلوسات جماعية!

جزاك الله خيرا على هذا الإثراء المميّز أبا الفداء. أنت كالسدّ يجتمع خلفه الماء لفترة ثم يجتاح ما أمامه.
والأمر كما ذكرت وهو لا غبار عليه، ولعلك لم يفوتك أن كلامي موجه لمن يشترط البرهنة التجريبية على كل شيء، والعلم التجريبي قاصر ذاتياً عن هذا. والباعث على كتابة الموضوع من أصله هو شرط الدكتور إبراهيم الذي يحاور الإخوين نقد وعبدالواحد الذي صرّح فيه بأنه لن يعترف بفرضية لاتقبل البرهنة تجريبياً. والآن أضعه هو وشرطه أمام الأمر الواقع.

عبدالله الشهري
02-22-2012, 10:39 PM
شيخنا الحبيب بارك الله في جواهرك و ما تقدمه لنا ,,

النظرتان اليس بهذه الصياغة يكون لهما نقطة تجاوز (للمادية) اي اعتبر الانسان كمركز للكون و هي فكرة ميتافيزيقيا لان الطبيعة (المادة) على مذهبهم سابقة له و التكلم بها يجعلنا نتحدث عن (ثنائيات) كـَ (الانسان/ و الطبيعة) و بهذا المفهوم يكون الانسان مصدر مستقل و هذا عندنا لا عيب فيه اليست هذه النقطة و التشدق بالانسانية هي مقتل من مقاتل المادية شيخنا الحبيب ,,,و هنا أعتراف ضمني بما فوق المادة و الله اعلم ,,,

هذه لفتة ذكية جميلة بارك الله فيكم.

عبدالله الشهري
02-22-2012, 10:41 PM
كلام عميق لأستاذنا عبد الله الشهري ما شاء الله ..
وشرح وتفصيل ماتع من أستاذنا أبي الفداء جزاه الله خيرا ً..

والعجيب أن أحد الإخوة الأحباب في المنتدى كان قد سألني منذ فترة عن سؤال :
يقارب كثيرا ًمثال أستاذنا أبي الفداء - وسوف أدله على مشاركته لأنها في صميم سؤاله -
حيث قال لي :
لو أني في بيت أحد الإخوة : وكان يحدث أشياء غريبة في هذا البيت (يُقال أنه مسكون) ..
ثم انغلق الباب فجأة لوحده وبدون سبب ظاهر .. هل من الصواب أن أنسب ذلك للجن ؟
فقلت له : إذا كان أمر هذا البيت هو كما أخبرت : فنعم .. ليس بمستبعد ..
فسألني :
ولكن : ماذا سيقول الملحد لو أنه في نفس مكاني ؟.. هل سيقول صدفة ؟!!..
فقلت له :
الملحد رغم أنه يؤمن بالصدفة الخارقة : إلا أنه لا ينسب لها فعليا ًأي شيء على أرض الواقع !
وإنما في حالتك هذه : سيعود بالأسباب لأي شيء مادي : إلا الغيب في الإسلام وهو الجن !!..
فربما قال أنها ريح هي التي أغلقت الباب !!.. أو فأر صدم الباب إلخ
ولكنه أبدا ً- في مثل هذه الحالة - سيقول الجن .. اللهم إلا مع مشاهدات أكبر من هذه :
فساعتها لن يستطيع الإنكار بل : في الغالب تكون سببا ًفي زعزعة إلحاده وانتقاله إلى اللا دينية
أو اللا أدرية أو الإيمان !!..

وحفظ الله أستاذينا الكريمين الشهري وأبا الفداء ..

وإياك حفظ وبك نفع ولكم الأيادي الطولى في المنتدى جعل الله ما نعمل خالصاً لوجهه.

عبدالله الشهري
02-22-2012, 10:53 PM
المشكلة يا زميل الفاضل
وعلى ما اعتقد
هم اعتمدوا على ميكانيكا الكم
التي برهنت لهم بعدم وجود السببية
لا بعدم معرفة نوع السبب
والله أعلم

حياك الله.
المشكلة من قبل فيزياء الكم. المشكلة جذورها قديمة.
وأيضاً فيزياء الكم لا تبرهن على انعدام السببية، لأن البرهنة نفسها تفتقر إلى أسباب لتتم ولا معنى لها بل هي غير متصورة مع انعدام السببية. والذين خالفوا من علماء فيزياء الكم هم تلك الطائفة التي تبنّت تفسير كوبنهاجن لا كل علماء فيزياء الكم، فهذا ديفيد بوم - وهو من كبارهم - يعتقد اعتقاداً جازماً أن هناك نظام ضمني مغيّب عن مشاهداتنا الحالية، ويقول لولاه لما تمكنّا من الإدراك، فهو يربطه بالإدراك وله نظرية مشهورة في هذا تعرف بالنظام المستبطن أو الضمني أو الباطني - إن صحت الترجمة - أو implicate order.

المَاسَّةُ قُرطبة ©™
06-01-2012, 02:08 AM
الحمدلله رب العالمين ومنار الجنة سبيلاً للمهتدين المتقين:

حقيقة موضوع رائع غير ان لي تساؤل حقيقة.

لا ادري ربما لان الأمر منحصر على المصطلحات المستخدمة.

اولاً لابد ان نعرف ان العلم كعلم يؤمن بالقانون ئلي هو:
there is NO UNIVERSAL TRUTH

اي بمعني انه ليس هنالك حقيقة يتفق عليها العالم وهذا يخص في الرتبة الاولى وهي العلوم اليقينية.

اما العلوم التجريبية فهي في ما تخص الفيزياء الطب الكيمياء الفلك ومن هذا القبيل فهي لا تبداء بإفتراضات ابداً بل تبداء بتجربة ومن ثم يبنى عليها توقعات.

وحينما نتكلم عن افتراضات التي يبنى عليها شيء فهذا داخل للمرتبة الثالثة في العلم وهي العلوم الظنية وهي التي تختص بالفلسفة وعلم النفس ومن هذا القبيل.
فأعتقد لابد من التقسيم والتجزئية وهذا يبين لنا امور كثيرة ربما تختلط على البعض!!

انتظر ردكم الكريم في هذا الخصوص.

المَاسَّةُ قُرطبة ©™
06-01-2012, 02:44 AM
جزاك الله خيرا أبا ضياء ونفع بك.
والواقع أن العلم التجريبي في حد ذاته بريء مما ينتحله حملة الفلسفة المادية materialism وربيبتيها الوضعية positivism والمبدإ الطبيعي naturalism وغيرها من العقائد والنحل الفلسفية، فلا ينبغي أن نحمل العلم التجريبي نفسه أوزار تلك المذاهب الفلسفية. ثمة تفريق ضروري يجب أن ننتبه إليه - كدارسين للفلسفة المعاصرة - بين العلم الطبيعي Science والنحلة الفلسفية المسماة باسم Scientism (ولم أقف لها على ترجمة عربية ملائمة إلى الآن)، وهي تلك النحلة التي يرى منتحلوها أن العلم الطبيعي أو الإمبريقي هو المصدر الوحيد المعتبر لتحقيق المعرفة، وأنه يصلح ويكفي لتحصيل إجابة كافة صنوف الأسئلة البشرية بلا استثناء. وهذا غلو و"تطرف" ودوغمائية عمياء لا ذنب للعلم التجريبي نفسه فيها. التجريب أداة مثلها كمثل الأدوات الإدراكية الحسية عند الإنسان، بل إنها على التعريف الأقرب، طريقتنا معاشر البشر في استعمال أدواتنا الإدراكية الحسية استعمالا يوصل منه إلى بناء المعرفة الدقيقة بالواقع المشاهد المحسوس.
لذا لا يعجبني في الحقيقة هذا الإطلاق الذي أراه في كلام أخي hidden truth في قوله بأن العلم الطبيعي لا يوثق فيه.
يقول أخي الفاضل:

فليسمح لي بتعقب كلامه هذا بأنه يعبر عن موقف لا يصح بهذا الإطلاق، وظاهره الجنوح من غلو إلى غلو مقابل. نعم يصح لك ولا ريب أن تفقد الثقة فيما يتكلم به كثير من الطبيعيين بوصفه من "حقائق" العلم الحديث، على أساس من معرفتك بخلفيتهم الاعتقادية، وعلمك بما تحملهم عليه تلك الخلفية من تلبيس بعض النظريات بعينها لبوس الحقائق القطعية، ومن استدلالات باطلة ببعض الأدوات البحثية الإحصائية والنتائج المعملية لخدمة عقائد أو مزاعم قد تكون في بنائها الفلسفي مصادمة لبدهيات العقل الأولى، وغير ذلك من انحرافات فلسفية في تطبيق أدوات العلم الطبيعي. فمن السهولة بمكان أن تدخل إلى المعمل بغرض العمل على خدمة واستكمال تصور فلسفي فاسد في أصله، كما هو دأب الدراونة على سبيل المثال، فتكون المشاهدة المرصودة في المعمل أو العلاقة المستخرجة منه صحيحة في نفسها، باطلة فيما يزعم الباحث دلالتها عليه. ولكن كل هذا لا يسوع لنا أن نقول إن ما يسمى "بالعلم الحديث" لا ثقة لنا فيه! وأما عن القرار المصيري، فلا أظن أننا نحتاج إلى بيان أنه إن جاز لنا افتراض أن قرار إجراء عملية جراحية في القلب - مثلا - يعد قرارا مصيريا، فإننا مضطرون قبل اتخاذه إلى ترسيم الثقة في جملة كبيرة من العلوم الطبيعية والتجريبية التي يستعملها الأطباء في كل مكان. والفرق بيننا - عقلاء المسلمين - وبين الملاحدة المعاصرين وعامة أصحاب تلك النحل الفلسفية المنحرفة، أننا مع إثباتنا هذه الحقيقة الواضحة في أهمية العلم التجريبي في حياة الناس، إلا أننا مع ذلك لا نرفعه فوق قدره، ولا ننزله في غير محله، ولا نخضعه لفلسفات باطلة متهافتة كما يصنعون.

وعلى ذكر المثال الذي تفضلت به، وفي سياق مقارنتنا بين موقف عقلاء المسلمين من الأدلة التجريبية الحسية، وموقف الماديين وأتباع النحلة الطبيعية، دعني أضرب لك مثالا أرجو أن يكون أبلغ في إيصال الفكرة التي أحسبك تريد أن توصلها منه.
هب أنك تسكن في بيت وقد علمت - بيقين - أن جارك في البيت المجاور لبيتك قد أغلق بيته وأحكم إغلاقه وهجره لسنوات. ثم إذا بك في يوم من الأيام تسمع صوت طرق على الجدار. أحسب أن أول فرضية تفسيرية ستنقدح في ذهنك لهذا الطرق = أن ثمة جني قد سكن البيت من طول هجره. فأنت تعلم بيقين أن البيت مغلق مهجور لا يمكن أن يكون فيه أحد من البشر. هذه الفرضية إذا سمعها المادي الملحد، فإنه سيسخر منها ولا شك وسيسفهها أشد التسفيه، ليس لمجرد أنه يكفر بالجن وبالكتاب الذي تحقق لدينا القطع بوجودهم من طريقه، ولكن لأنه قد اتخذ لنفسه نحلة فلسفية في بناء الفرضيات المعرفية التفسيرية تختزل التفسيرات التي يصح أن يقال لها "علمية" بل و"منطقية" في التفسير بالمحسوسات والماديات وحدها، وهو المذهب الذي يطلق عليه اسم naturalism. فهل يزعم الواحد منهم أن العقل فيه ما يمنع من صحة تفسير كهذا؟ كلا ولا يمكنه ذلك. فلماذا اختار أن يتخذ من هذه الاختزالية المعرفية الفجة reductionism منهجا؟ لأنه بكل بساطة قد استقرت نفسه على الإيمان ببطلان سائر الغيبيات التي جاءت بها الأديان، ومن ثمّ اعتقاد أن تلك الأديان لا تأتي بمعرفة أصلا، وإنما أساطير وخرافات.

ففي الوقت الذي يعمل فيه العقل المسلم المستنير عملا مرتبا صحيحا لتفسير تلك الواقعة، بوضع سائر الفرضيات الظنية الممكنة عقلا تحت التصرف الترجيحي، مستندا في ذلك إلى سائر مصادر المعرفة التي تحقق لديه العلم بصحتها بصرف النظر عن نوعية تلك المصادر أو التصنيف الإبستمي الذي تندرج تحته، فإنك ترى العقل المادي المبتلى بتلك النحلة الاختزالية، يختزل المصادر المعرفية لبناء الفرضية التفسيرية في مصدر واحد فقط لا غير، بلا أي مستند عقلي أو فلسفي خلا ذلك الموقف المتعصب الأعمى تجاه المصدر الآخر، أو تجاه جملة من المصادر الأخرى. فنحن إذا ما أردنا أن نفسر ذلك الطرق على الجدار، فسنبدأ أولا بالنظر في إمكانية أن يكون أصحاب البيت قد رجعوا إليه في غفلة منا. هذا هو التفسير الظني الأقرب إلى الذهن، لأن العادة أدلّ عليه من افتراض أن جنيا قد جاء ليعبث بالبيت. أو على اصطلاح الرياضيات الإحصائية، نقول إن الاحتمالية الأرجحية لهذا التفسير أعلى مما سواها Higher Probability. فما دليلنا على هذا التفريق الاحتمالي نفسه؟ دليلنا أن تعرضنا معاشر البشر لحالات سكنى الجن في الديار المهجورة وسط المدينة = نادر وقليل للغاية، بالمقارنة بتعرضنا لحالات الرجوع المفاجئ لأصحاب البيت المهجور إليه في الجوار على حين غفلة منا! وأكثر الحالات المشابهة التي وقفتُ عليها أنا نفسي من مثل ذلك، تبين في النهاية أن مصدر الصوت فيها لم يكن جنيا أو نحوه. هذه أول فرضية تفسيرية يضعها المسلم في مثالنا هذا.

فلنفترض الآن أنك اتبعت هذه الفرضية وأردت اختبارها، فماذا تصنع؟ ستتصل على جارك بالهاتف لترى هل هو في البيت أم لا. فإن لم يجب؟ لعلك تخرج إلى باب البيت لترى ما إذا كان قد جاء إليه أحد. فلنفترض أنك رأيت الباب محكم الإغلاق وعليه القفل من الخارج "مثلا" أو غير ذلك من علامات أو شواهد تدل على أنه لم يفتحه أحد من سنوات خلت، فماذا سيبقى لك من سند للتعلق بتلك الفرضية؟ ستضطر إذن للتسليم بأن البيت لم يأته أحد من بابه على الأقل! فهل دخله أحد من الشرفة أو من النافذة أو نحو ذلك؟ هكذا يعمل العقل بصورة تلقائية في استقراء القرائن الحسية Forensic Evidence منتقلا من فرضية إلى أخرى، بداية بالفرضيات الأقرب احتمالا (الأعلى في الأرجحية الاحتمالية) وانتقالا إلى الأبعد. والسؤال الآن: متى نصل إلى افتراض أن جنيا قد دخل إلى البيت وهو الآن يعبث به؟ تأسيسا على علمنا معاشر المسلمين بوجود الجن (من طرق ثبتت بالقطع اليقيني) وعلمنا بسلوكهم (من طرق ظنية قوية الثبوت)، فإنه يصبح من الممكنات الواردة عندنا على هذا المحل البحثي أن يكون تفسير ذلك الصوت هو عمل بعض تلك المخلوقات الخفية، التي لا يحجبها باب ولا نافذة! وتظهر المفارقة بيننا وبين الماديين في إنكارهم هذا النوع من التفاسير جملة واحدة، والإصرار على تكذيبه وإن رأوا تأويله بأعينهم! فنحن في مرحلة ما، قد وصلنا إلى جمع ما يكفي من القرائن الحسية والمشاهدة للتدليل على أن هذا البيت لم يفتح ولا يمكن أن يكون أحد من البشر قد دخله البتة. فلم يبق لنا إلا الانتقال إلى هذا الافتراض. فما بال الملحد والمادي، كيف يصنع عند هذه المرحلة نفسها في العمل الترجيحي؟ هنا تفاجأ بافتراضات بعيدة شديدة البعد، يضعها هؤلاء لا لشيء إلا لاجتناب تفسير "غيبي" supernatural كهذا الذي يفترضه المسلم، فيقول قائلهم - مثلا - "لعل هذا السامع يتوهم أو يعاني من الهلوسات السمعية"! فأيهما أقرب احتمالا عند العقلاء المنصفين؟ أن يكون هذا الرجل قد سمع ما سمع حقيقة، وهو الذي لم يتعرض لأي سبب يفضي إلى الهلوسة، وأن يكون سبب ذلك الصوت أن مخلوقا خفيا يمكنه أن يتحرك عبر الجدران قد دخل إلى البيت المجاور وصنع فيه ما صنع؟ أم أن يكون الرجل قد أصيب - هكذا بلا مقدمات ولا أسباب - بهلوسة سمعية؟

بل أكثر من هذا، أن تكون تلك الأصوات قد اتُفق أن سمعها معه جميع أهل بيته في نفس الوقت، ودونما توقع سابق، ومع ذلك ترى بعض الماديين يصر على فرضية الهلوسة، فيقول بأنها كانت هلوسة جماعية (1) أو ما يسمى في علم النفس group/mass hallucinations.
والقصد من هذا المثال، بيان أن الماديين والطبيعيين يصرون على نفي واستبعاد التفسير الغيبي لا على أساس أنه قليل الأرجحية احتماليا في بعض الحالات أو في جميعها، وإنما على أساس أنه تفسير غيبي لا غير! وأعني بالتفسير الغيبي كل ما كانت فرضيته الأساسية قائمة على التعليل بأمر غير مشاهد.




------------------
(1) ومن ذلك، تلك "الظهورات" الشيطانية من أنوار وصور للمعبدوات الوثنية ونحوها التي تظهر لأهل الملل الشركية في ملإ كبير منهم في بعض الأحيان، كتلك التي يفسرها النصارى تبعا لعقيدتهم الباطلة على أنها العذراء جاءت لزيارتهم وكذا، فيفسرها الطبيعيون والماديون في المقابل على أنها هلوسات جماعية، ويتمسكون بذلك التفسير - إن ثبت استحالة أن يكون ثمة من صنع خدعة بصرية في ذلك الملإ بشكل ما أو بآخر - وإن كان الملأ من مئات بل آلاف الناس! فكيف يُتصور أن يجتمع كل هذا العدد على الهلوسة (أو حتى على الإدراك بالإيحاء Suggestion)؟ هذا احتمال بعيد للغاية! بل لابد وأنهم رأوا شيئا ما في ذلك المكان، خارقا للمعتاد، تظهر فيه على الأقل تلك الصفات التي اتفقت روايتهم عليها، بصرف النظر عن حقيقته وعن تأويلهم له. أما المسلم في المقابل فيدري أن الجني يملك القدرة على التصور والتشكل ويمكنه أن يظهر في صورة أنوار ونحوها، وأن للشياطين مغنما عظيما في مخادعة جهلاء المشركين ومداعبة أهوائهم وإيهامهم بأن هذا الذي يرونه هو ذلك الميت الذي عبدوه من البشر واتخذوه إلها، قد جاء إليهم من السماء ليسمع دعاءهم أو ليصلي عليهم أو نحو ذلك! وعليه فإن احتمال أن يكون ذلك هو التفسير الصحيح لواقعة كهذه هو الأقوى والأرجح، أو - على الأقل - أقرب من افتراض أن هؤلاء القوم بهذه الأعداد الحاشدة كانوا يعانون جميعا في تلك اللحظة من هلوسات جماعية!

كلام كليم استاذنا المفضال وفعلاً شذرات مهمة جداً ولنعلم ان العلم التجريبي ليس وضعي بمعنى انشائي
واكثر ما اعجبني في الموضوع تأصيلك لمسألة المذاهب الفلسفية التي تعد من العلوم الظنية وكل قديم منها ينسف كل جديد والعكس صحيح وهي تلك فقط التي لا نجب ان نعطي لها اي اعتبار.
والشاهد في الموضوع هو
homeopathy
وهي تدور حول المفهوم
like cures like

وهذه فهلوة من المذاهب الفلسفية التي خلطت بين الطب والكيمياء وانتجت لنا هذه النظرية
وبين العلم التجريبي والعلم الظني حرب ضروس
وهذا فقط شاهد على ان العلم التجريبي منه نستطيع ان ننسف المتقوقعون الذي يتقوقعون في العلم الظني ويريدون ان يشيرون الا انه هو العلم
ومن لا يعرف سوف يريد ان ينسف العلم التجريبي ككل وهذا ما لا يجب ان يكون البتة.
فالخلاصة ان الملحدون وغيرهم يتقوقعون في الامور الانشائية التي تناقض بعضها بعض وعلى لسان حالهم!!

خالد الفيل
10-13-2012, 11:43 PM
جزاك الله خيرا وبارك فيك أستاذنا عبد الله الشهري علي هذه اللفتة الرائعة والعميقة

عبدالله الشهري
10-20-2012, 12:20 PM
أكرمك الله وبارك فيك أخي خالد ..