المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بين النبوة والفلسفة



د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:36 PM
بين النبوة والفلسفة
بقلم الأخ مهاجر

من المسائل الفارقة في باب النبوات ، ولها أثر ظاهر في زماننا في المعركة المحتدمة الآن بين الوحي الظاهر أبدا بحجته وبرهانه ، والعقل والذوق ، فبهما تفسد قوى العلم والعمل ، فيعارض العقل إن فسد قياسه علم النبوات النافع ، ويعارض الذوق إن فسد وجدانه عمل النبوات الصالح ، فتتسلط الشبهات على قوى التصور العلمي ، وتتسلط الشهوات على قوى الحكم العملي ، فتفسد حال المكلف باطنا بالشبهة وظاهرا بالشهوة ، وذلك من شؤم النكول عن منهاج النبوة إلى غيره من مناهج حادثة في العلم والعمل ، من تلك المسائل التي نجد لها أثرا في صراع التيار الإسلامي فسلاحه الوحي الصحيح والعقل الصريح المواطئ له الشاهد بصدق ألفاظه وصحة معانيه ، والتيار العلماني في الطرف المقابل فسلاحه العقل الفاسد الذي يعارض نص الوحي النازل ، بل ويزدريه وربما كفر به صراحة ، من تلك المسائل :

مسألة النبوة في مقابل الفلسفة :
فإن قوى النبوة عند الفلاسفة ثلاث :
القوى النفسانية العلمية ، والقوى النفسانية التخييلية والقوى النفسانية التأثيرية في هيولى العالم ، وتلك قوى قد تحصل للساحر أو الكاهن ، فالفرق بين جنس النبوة وجنس الكهانة عند أولئك : أن النبي يقصد الخير ، والساحر يقصد الشر ، مع تساويهما في القوى والملكات المكتسبة ، فجوزوا اكتساب النبوة ، فــ : "إن كان واضع الناموس مختصا بقوة قدسية ينال بها العلم بسهولة وقوة نفسية يتصرف فيها تصرفات خارجة عن العادة ويكون له قوة تخييلية تمثل له في نفسه أشكالا نورانية وأصواتا يسمعها في داخل نفسه فإن هذه الخواص الثلاثة هي التي يقول ابن سينا وأمثاله من المتفلسفة إنها خواص النبي ومن قامت به كان نبيا والنبوة مكتسبة عندهم ولكن لما كانت هذه موجودة لكثير من الخلق ولم يصل بها إلى قريب من درجة الصديقين أتباع الأنبياء كالخلفاء الراشدين وحواريي عيسى وأصحاب موسى جعلناها من هذا القسم ، (أي قسم الملك العادل ، فالأقسام ثلاثة : نبوة صادقة ، وملك عادل برسم الإسلام ، ودعوى كاذبة كدعوى المتنبئ الكذاب) ، إذ صاحب هذا قد يكون فيه عدل وسياسة بحسب ما معه من العلم والعدل" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/302) .

وقد اصطلح أهل العلم على تسميتهم بأهل التخييل فمقالتهم لا تعدو أن تكون قدحا بل وهضما لمقالة النبوة ، فليس لها حقيقة وإنما هي محض تخييل على رسم ضرب المثال العلمي تقريبا للمعنى إلى الذهن ، أو تأليفا لأصحاب الطبائع الكثيفة والنفوس الغليظة التي لا تستصلح إلا بوعود ، ولو زائفة ، بما يشبع غرائزها الطينية وشهواتها السفلية ! .
فــ : "أهل التخييل : من الملاحدة المتفلسفة والباطنية الذين يقولون إن الرسل أخبروا من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر بما يخالف الحق في نفس الأمر ليخيلوا إلى الجمهور ما ينتفعون به ويعدون هذا من فضائل الرسل !" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/565) .

فصار الأنبياء عليهم السلام من جنس ساسة الأعصار المتأخرة فتقاس حنكتهم بمدى براعتهم في الكذب لا سيما في الحملات الانتخابية ! ، فالسياسي البارع هو الكاذب المخادع ، الانتهازي الميكيافيللي الذي لا يعنيه إلا تحقيق غرضه ، فدائرة المصلحة عنده ضيقة لا تتعدى حدود المصلحة العاجلة ، وذلك أمر ظاهر في سياسة الدول في زماننا فأقصى طموح كل ملك أو أمير أو رئيس أو قائد ! : استقرار مصره ولو اشتعلت بقية الأمصار ! ، فلا يعنيه إلا سلامة ملكه ! ، ولا يؤرقه إراقة الدماء وانتهاك الحرمات في دول الجوار طالما كان مصره ساكنا ، ولو في الظاهر ، فذلك مما يحل عرى الولاء والبراء في القلب فلا يعنى المسلم بشان إخوانه ، فليس له هم إلا في تحصيل أمور معاشه ، ولو فضول مباحات يشبع بها غرائزه ، فيصالح الملوك بعضهم بعضا وإن شئت الدقة فقل يتصالحون على قاعدة : الشيطان الأخرس ! ، فيسكت كل ملك عن مظالم ومفاسد غيره لئلا يفتضح أمره فالمنكر على شاكلة المنكر عليه وكل يعمل على شاكلته ! ، فهل ذلك المسلك النفعي الانتهازي مما يليق بصفوة الخلق من رسل الرب ، جل وعلا ، وأي قدح في النبوة أعظم من ذلك ، وذلك ، كما تقدم في مواضع سابقة ، مئنة من جهل عظيم ، بمقالة النبوة ، ومقالة الفلاسفة عمدة في هذا الباب فليس لهم من علوم النبوات حظ ، فليس لهم إلا جملة نافعة من علوم الطبيعيات ، فجل علومهم في الإلهيات محض كهانة وتخرص وقول بلا عمل فرعا على قياس بلا فقه ، فقد أجروا سنن الطبيعيات على حقائق الإلهيات فقاسوا علوم الغيب على علوم الشهادة ، وذلك من القياس الفاسد ، للقدر الفارق بين الأصل والفرع ، فكيف تقاس حقائق لا يدركها العقل على أخرى يباشرها الحس ! ، وذلك مناط انحراف كل من سلك غير جادة النبوة في علم أو عمل ، في شرع أو حكم ، فهل وقع العلمانيون في زماننا ، وهم ورثة أصحاب المذاهب العقلية التي اندثرت وبقيت مقالاتها مبثوثة في كلام كل من ازدرى الوحي وعارض النقل بالعقل الفاسد ، فالعقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح ، كما قرر ذلك المحققون من أهل العلم ، وإنما يعارضه عقل قد فسد قياسه فظن السعادة والنجاة في غير سبيل الوحي ، فانتقص من قدر النبوة ، فهل وقع العلمانيون في زماننا فيما وقعوا فيه من ازدراء حكم الشرع وتعظيم حكم العقل بتقديم الشرائع الحادثة على الشرائع النازلة فذلك ملمح رئيس في طريقتهم الغالية في عزل الوحي وتولية العقل ، فلا دور للدين في الحياة : تقنينا وتنظيما وإنما دوره فقط : شعائر مختزلة في دور أعدت لها فلا يتعدى أثره جدرانها ، فمناط الفساد عند الجميع : هجر الوحي الأعلى وانتحال بديل أدنى ، فعليهم يصدق إنكار وتوبيخ الكليم عليه السلام : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) .

ويزيد ابن تيمية ، رحمه الله ، المقال بيانا في موضع آخر بقوله : "أَهْلُ التَّخْيِيلِ : هُمْ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ مُتَكَلِّمٍ وَمُتَصَوِّفٍ وَمُتَفَقِّهٍ . فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : إنَّ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إنَّمَا هُوَ تَخْيِيلٌ لِلْحَقَائِقِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْجُمْهُورُ لَا أَنَّهُ بَيَّنَ بِهِ الْحَقَّ وَلَا هَدَى بِهِ الْخَلْقَ وَلَا أَوْضَحَ بِهِ الْحَقَائِقَ . ثُمَّ هُمْ عَلَى قِسْمَيْنِ : مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الرَّسُولَ لَمْ يَعْلَمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ . وَيَقُولُونَ : إنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ الْإِلَهِيَّةِ مَنْ عَلِمَهَا وَكَذَلِكَ مِنْ الْأَشْخَاصِ لَّذِينَ يُسَمُّونَهُمْ الْأَوْلِيَاءَ مَنْ عَلِمَهَا وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْأَوْلِيَاءِ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ مِنْ الْمُرْسَلِينَ . وَهَذِهِ مَقَالَةُ غُلَاةِ الْمُلْحِدِينَ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ : بَاطِنِيَّةِ الشِّيعَةِ وَبَاطِنِيَّةِ الصُّوفِيَّةِ ، (وتلك أيضا من جنس مقالة العلمانيين في زماننا فلسان حالهم بل ولسان مقال كثير منهم أن النبوات لم تدرك من حقائق الكون والشرع التي تستقيم بها أمور الحياة ما أدركته عقولهم وما أحدثته فهومهم من الشرائع الحادثة والمناهج الباطلة التي يرد فيها الأمر إلى الهوى والذوق برسم الإصلاح فلسان حالهم لسان مقال المنافقين زمن الرسالة : "إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا") . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ الرَّسُولُ عَلِمَهَا لَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْهَا وَإِنَّمَا تَكَلَّمَ بِمَا يُنَاقِضُهَا وَأَرَادَ مِنْ الْخَلْقِ فَهْمَ مَا يُنَاقِضُهَا ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَا تُطَابِقُ الْحَقَّ . وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ : يَجِبُ عَلَى الرَّسُولِ أَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِ التَّجْسِيمِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَإِلَى اعْتِقَادِ مَعَادِ الْأَبْدَانِ مَعَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَيُخْبِرُهُمْ بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ . قَالُوا : لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ دَعْوَةُ الْخَلْقِ إلَّا بِهَذِهِ الطَّرِيقِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الْكَذِبَ لِمَصْلَحَةِ الْعِبَادِ" . اهــ بتصرف من : "مجموع الفتاوى" .


فتلك القوى عندهم ، قوى كسبية لا وهبية ، فتحصل للنبي وغيره ، والفرق بينهما ، كما تقدم ، قصد المكتسِب ، فإن أراد خيرا فهو نبي ، وإن أراد شرا فهو ساحر ، فتنال بأجناس التهذيب لأخلاق النفوس ، لتصير محلا قابلا لآثار العلم الذي صيروه غاية مطلقة ، وإن لم يقترن بالعمل الذي يصدقه ، فالمقصود بالعبادات عندهم : "تهذيب أخلاق النفوس وتعديلها لتستعد بذلك للعلم وليست هي مقصودة في نفسها ويجعلونها من قسم الأخلاق وهذا قول متفلسفة اليونان وقول من اتبعهم من الملاحدة والإسماعيلية وغيرهم من المتفلسفة الإسلاميين كالفارابي وابن سينا وغيرهما ومن سلك طريقهم من متكلم ومتصوف ومتفقه كما يوجد مثل ذلك في كتب أبي حامد والسهروردي المقتول وابن رشد الحفيد وابن عربي وابن سبعين لكن أبو حامد يختلف كلامه تارة يوافقهم وتارة يخالفهم وهذا القدر فعله ابن سينا وأمثاله ممن رام الجمع بين ما جاءت به الأنبياء وبين فلسفة المشائين أرسطو وأمثاله ولهذا تكلموا في الآيات وخوارق العادات وجعلوا لها ثلاثة أسباب : القوى الفلكية والقوى النفسانية والطبيعية إذ كانت هذه هي المؤثرات في هذا العالم عندهم وجعلوا ما للأنبياء وغير الأنبياء من المعجزات والكرامات وما للسحرة من العجائب هو من قوى النفس لكن الفرق بينهما أن ذلك قصده الخير وهذا قصده الشر وهذا المذهب من أفسد مذاهب العقلاء ....... فإنه مبني على إنكار الملائكة وإنكار الجن وعلى أن الله لا يعلم الجزئيات ولا يخلق بمشيئته وقدرته ولا يقدر على تغيير العالم" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/290) .
فلم يذكر الفلاسفة إلا مجملات يحصل بها نوع صلاح للنفس ولكنه ليس الصلاح الكامل ، فلا يتلقى ذلك إلا من دين الأنبياء الجامع وشرعهم الكامل ، ففي دينهم كمال الحكمة العلمية تصورا ، وفي شرعهم كمال الحكمة العملية حكما ، فــ : "ما ذكره المتفلسفة من الحكمة العملية ليس فيها من الأعمال ما تسعد به النفوس وتنجو من العذاب كما أن ما ذكروه من الحكمة النظرية ليس فيها الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فليس عندهم من العلم ما تهتدي به النفوس ولا من الأخلاق ما هو دين حق ولهذا لم يكونوا داخلين في أهل السعادة في الآخرة المذكورين في قوله تعالى : (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصائبين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، وهذه الفضائل الأربع التي ذكرها المتفلسفة ، (وهي : العفة في المطعم ، والعفة في المنكح ، والشجاعة فذلك من تهذيب القوى الشهوانية الغضبية ، والحكمة فهي من تهذيب القوى العلمية) ، لا بد منها في كمال النفس وصلاحها وتزكيتها .
والمتفلسفة لم يحدوا ما يحتاج إليه بحد يبين مقدار ما تحصل به النجاة والسعادة ولكن الأنبياء بينوا ذلك ....... فالقوة العملية تستلزم أن يكون للإنسان مراد وذلك المراد لنفسه هو علة فاعلة للعلة الفاعلة ولهذا قيل : العامة تقول : "قيمة كل امرىء ما يحسنه" ، والعارفون يقولون : "قيمة كل امرىء ما يطلب" وفي بعض الكتب المتقدمة : "إني لا أنظر إلى كلام الحكيم وإنما أنظر إلى همته" .

وهؤلاء المتفلسفة لم يذكروا هذا في كمال النفس وإنما جعلوا كمالها العملي في تعديل الشهوة والغضب بالعفة والحلم وهذا غايته ترك الإسراف في الشهوة والغضب والشهوة هي جلب ما ينفع البدن ويبقي النوع . والغضب : دفع ما يضر البدن ولم يتعرضوا لمراد الروح الذي يحبه لذاته مع أنهم إنما تكلموا فيما يعود إلى البدن وجعلوا ذلك إصلاحا للبدن الذي هو آلة للنفس وجعلوا كمال النفس في مجرد العلم ........ (وهذا غلط بين فــ : إن النفس لها كمال في العمل والإرادة كما أن لها كمالا في العلم وإن العلم المجرد ليس كمالا لها ولا صلاحا ولو كان كمالا لم يكن ما عندهم من العلم ما هو كمال النفس و : (به يظهر) غلط الجهمية الذين قالوا الإيمان هو مجرد العلم ، (فذلك وجه شبه ظاهر بين مقالة الفلاسفة ومقالة الجهمية فقد تشابهت مقالتهما ، أيضا ، في نفي صفات الرب المعبود ، جل وعلا ، وإن كان الفلاسفة في ذلك أعرق فمقالتهم في الإلهيات أفحش فليس لهم من النبوات حظ ، فكلما اقتربت المقالة من النبوات صار لها من الحق حظ ، ولو ضئيلا ، فالباطل دركات كما الحق درجات ، فبقدر الاعتصام بحبل النبوة العاصم من الزلل في العلم والعمل تعلو درجة المستمسك ، وبقدر النكول عن منهاج النبوة تسفل دركة الناكل ، وهذا أمر ظاهر في كل عقد أو عمل ، في كل مقال أو حال ، فالعلمانية في زماننا على سبيل المثال قد اشتركت في أصل فاسد هو تنحية الوحي وتولية العقل والذوق فجمعت ، كما تقدم فساد العلم والإرادة والعمل ، ولكنها مع ذلك تتفاوت فمنها المهادن ، ولو في الظاهر ، للدين بإظهار رسوم التعظيم والتبجيل ! ، ومنها السافر الكاشف عن عداوته ! ، بل ومنها العريق في الانحراف العلمي برسم الإلحاد ، والعريق في الانحراف العملي برسم الليبرالية المطلقة التي تفضي بصاحبها إلى ارتكاب الفواحش ، أو على أقل التقدير : الرضا بها بترك الإنكار على فاعلها فذلك رسم الحرية التي يروج لها الليبراليون في زماننا) ... فــ : الصواب قول السلف والأئمة : إن الإيمان قول وعمل أصله قول القلب وعمل القلب المتضمن علم القلب وإرادته وإذا كان لا بد للنفس من مراد محبوب لذاته لا تصلح إلا به ولا تكمل إلا به وذلك هو إلهها فليس لها إله يكون به صلاحا إلا الله ولهذا قال الله تعالى : (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) ، وليس ذلك للإنسان فقط بل للملائكة والجن فإنهم كلهم أحياء عقلاء ناطقون لهم علم وعمل اختياري ولا صلاح لهم إلا بمرادهم المحبوب لذاته وهو معبودهم ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله فلو كان في السماوات والأرض إله إلاالله لفسدتا فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لاشريك له وهؤلاء المتفلسفة لا يعرفون ذلك فليس عندهم من صلاح النفس وكمالها في العلم والعمل ما تنجو به من الشقاء فضلا عما تسعد به" . اهــ
بتصرف واسع من : "الجواب الصحيح" ، (3/294_297) .

فلا يحصل بمقالتهم إلا نوع هدى جزئي في رياضة النفوس وسياسة الأمم بما وضعوه من طرائق في الرياضة والسياسة ، فذلك من قبيل ما وضعه المتشرعون في زماننا من دساتير وقوانين فما كان فيها من صلاح فمرده ، عند التدبر والنظر ، إلى ما وافقوا فيه النبوات ولو عرضا ! ، فلم يريدوا السير على جادتها ابتداء فلو أرادوا ذلك ما عارضوها بقياس العقل الحائر وحكمه الجائر الذي يضاهي أصحابه به حكم النبوة العادل ، فذلك ، كما تقدم ، من اتخاذ البشر أربابا تشرع فلازمه اتخاذهم آلهة تعبد ، على ما تقرر مرارا ، من التلازم الوثيق بين الربوبية إيجادا وتدبيرا ، ومن أجناسه : التدبير الحكمي بشرع ملزم يبيح ويحظر ، يأمر وينهى ، ولا يكون ذلك لمن هدي ووفق ، لا يكون ذلك إلا من مشكاة الوحي المنزل ، فــ : (مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، فكل حكم سوى حكمه فهو حكم جاهلية مذموم ، والشاهد أن التلازم بين الربوبية : تدبيرا وتشريعا ، والألوهية : تعبدا وتأويلا للحكم امتثالا بفعل المأمور وترك المحظور ، تلازم وثيق ، فما وضعه الفلاسفة من رياضات وسياسات ، هو من جنس ما وضعه المتشرعون في زماننا من قوانين وأحكام ، فما في طرائق كليهما من هدى فقد جاءت به النبوات بل وزادت عليه ما لم يعلموه ، فعقولهم قاصرة عن درك أسباب الكمال تفصيلا ، فليس ذلك إلا للرسالات التي جاءت ببيان مجمل ما استقر في النفوس من معاني التوحيد والعدل ، فعلوم الفلاسفة مجملة ناقصة تفتقر إلى البيان ، وفيها من الباطل ما تزل به الأقدام وتضل فيه الأفهام ، فالإلهيات والسمعيات ودقائق الحكميات مما لا يتلقى إلا من مشكاة النبوات ، لا سيما التي لا يدرك العقل وجه المصلحة فيها ، فهي من أحكام التعبد المحض الذي يدرك المكلف أثره النافع دون أن يعلم وجه الحكمة فيه ، فقد ابتلي بالتصديق والامتثال وإن لم يعلم وجه الحكمة ، وذلك لا يكون بداهة إلا في الفروع ، علوما أو أعمالا ، فلا يكون في الأصول ، فالحكمة فيها ظاهرة ، فذلك من نعمة الرب ، جل وعلا ، السابغة ، ورحمته البالغة ، أن هيأ لنا معرفة التوحيد : أصل السعادة والنجاة ، بخبر الصدق الصحيح ، وقياس العقل الصريح ، فواطأ خبر النبوات : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) : قياس العقل الصريح ، فــ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فدلالة التمانع ، كما تقدم ، تقضي بامتناع تعدد الآلهة المعبودة فرعا على امتناع تعدد الأرباب الخالقة المدبرة .

وقل مثله في رسوم العلمانية في زماننا ، فلسان حال أصحابها كما تقدم : (إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا) ، فقد يحصل بالفعل نوع صلاح في فعلهم ، ولكنه صلاح ناقص لا يخلو من فساد ظاهر ، ولو سلم بخلوصه من المفسدة ، فلا يعدل صلاح النبوة الكامل السالم من شوب الانحراف العلمي والعملي فبه تحصل السعادة في الدنيا ، فــ : (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ، فيحصل الأمن النفساني فــ : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، والأمن الاجتماعي ، وشاهد الحال على عدل الشريعة الخاتمة فهي لسياسة الدنيا صالحة ، بل ومقدمة على كل شرع محدث بشهادة من أنصف من أرباب القوانين والدساتير المعاصرة فالمجامع القانونية بذلك قد أقرت ولما يقر العلمانيون الذين ينتسبون إلى الإسلام بعد ! ، ومجتمعات المسلمين وإن نحي الشرع في أكثرها ، لا تزال في الجملة خيرا من مجتمعات الكفار الأصليين ، فمعدل الجرائم لا سيما الأخلاقية فيها أدنى ، بل هي في نفسها تتفاوت فكلما كانت بالشرع ألصق ، بتطبيق جملة من أحكامه ، أو اتخاذه دستورا عاما ، أو حتى النص على ذلك في دساتيرها من باب ذر الرماد في العيون ، كلما كانت كذلك كانت آمن وأسعد ، والشريعة الخاتمة مع كل ذلك معدن النجاة في الآخرة ، فهي صلاح للدين والدنيا معا وذلك مما فارقت به الشرائع المحدثة فغاية الأخيرة أن تحدث نوع صلاح في أمر الدنيا بدرء مفسدة طارئة ، فلا تعدو أن تكون رد فعل يفتقر على الدوام إلى تعديل وربما استبدال ! ، كما نرى في قوانين ودساتير الدول في زماننا ! ، فواضعوها قد قصرت عقولهم وعلومهم عن درك المصلحة المطلقة ، فلا يدركون إلا المصلحة العاجلة ، فأين ذلك من شرع العليم اللطيف الخبير : (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، فيعلم من حالهم الباطنة والظاهرة ما يشرع لهم به ما يلائم حالهم العاجلة والآجلة .

ومما يؤسف في هذه الآونة وقد راجت دعاية الديمقراطية الزائفة ، مما يؤسف أنها بما لها من بريق خداع ولسان عليم بفنون الجدال ، فيحسن المناورة ، وينتقي من الألفاظ ما يثير كوامن الإعجاب بمنطق عذب وإن كانت حقائقه مرة ، فيثير في النفوس كوامن الإعجاب فليس لها من حقائق التنزيل قدر يعصم ، فلو عُرِف الحق لزهق الباطل ، وإنما حل الباطل في كؤوس شاغرة ، ، ومما يؤسف أكثر ، أن ينخدع بهذه الدعاية فضلاء لهم قدر من الديانة ، بل ومنهم من يحمل آي التنزيل في صدره ، فهو من حفاظ الوحي بل ومن معلميه للناس ومقرئيه ، فقد أصابه ما أصاب كثيرا منا من عزوف وانصراف عن أهل العلم فخطابهم لما تتنوع أساليب الجذب فيه بعد ، فغالبا ما يأتي متأخرا ، وإن كان ذلك في أحوال كثيرة ، مئنة من التأني فلا عجلة ، فلا يعني الإنسان أن يصلح غيره ولو بإفساد نفسه ، فالكلمة أمانة فلا يتلفظ بها العاقل إلا بعد أن يزنها بميزان الشرع الصحيح والعقل الصريح ، ولكن عجلة الأحداث تدور بسرعة ، وليس عند كثير من النظار من الورع ما عند أهل العلم فيبادرون إلى الكلام ، لفتا للأنظار ، وإثارة للاهتمام ، ولو بكلمات مفتعلة وأخبار مصطنعة ، فقلة الورع في هذا الباب : مظنة الكذب والتلفيق إرادةَ النشر والترويج ، فلما كانت الحال كذلك وقع من وقع من الفضلاء في شرك الديمقراطية فراح ينافح عنها ، وينتصر لها ، ولو كان الخصم هو الإسلام ، وإن لم تكن الخصومة في ذهنه قد تمحضت فهو يروم الجمع بينهما ، فذلك من جنس ما رامه الفلاسفة من الجمع بين الحكمة البشرية والحكمة الإلهية ، أو الفلسفات الحادثة والنبوات النازلة ، والحكم على الشيء فرع على تصوره ، فقبل الحكم على الديمقراطية لا بد من تصورها تصورا كاملا لا تصورا مبتورا ناقصا بتسليط الضوء على ما فيها من حق ، فلا تخلو مقالة حادثة رائجة من حق وإلا لو كانت باطلا محضا ما التبست على أحد ، كما يقول بعض أهل التحقيق ، ففي الديمقراطية بؤر لامعة ونقاط مضيئة ، ولكنها لا تعدل ما فيها من مساحات مظلمة ، فنقاط ضوء في بحور ظلام دامس ، فقبل الحكم عليها بقبول أو رد ، لا بد من تصورها تصورا صحيحا باستقراء موادها استقراء كاملا ، ومعرفة أوجه الاشتراك بينها وبين الإسلام ، فإنها ، كما تقدم ، لا تخلو من حق واطأت فيه النبوة ، فتتقاطع دائرتها مع دائرة الوحي في قدر ، وتفترق في آخر ، فيلزم قبل كل ذلك : تعيين المنطلق الفكري والمرجعية للتصور والحكم في هذا الباب ، هل هي لنص الوحي النازل أو لقياس العقل الحادث ، ولو قياسا فاسد الاعتبار يخالف ما قد نص عليه الوحي المعصوم وأجمع عليه الأنبياء عليهم السلام وورثتهم من أهل العلم الشرعي المنقول ، ويلزم النظر في مقرراتها : هل في الإسلام مثلها ، ففيه غنية عنها ، فإن الدين الخاتم قد حفظ برسم العصمة فسلم مقاله من الكذب والخطأ ، خلافا لمقالات البشر ، فإنها وإن صلحت في جملة منها لم يؤمن الكذب والخطأ فيها ، ولو احتمالا ، فهي عن العصمة قد حجبت ، فالنظر في دلائل النبوة الكلية أولى من النظر في أحكامها الجزئية ، فإذا ثبت الأصل برسم التواتر ، سلم العقل للفروع فلم يجادل ، وعلم أن فيها غنية عن كل مقالة بشرية فما كان في كلام البشر من صدق وما كان في أحكامهم من عدل فالنبوة قد استغرقته بل وزادت عليه ، علم ذلك من علمه وجهله من جهله ، فأدلة النبوة قد بلغت من التواتر مبلغه فأفادت العلم الضروري الجازم بصدق دعوى النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فما تقاطعت فيه الديمقراطية مع الإسلام من نقاط صدق وعدل لا تخلو منها مقالة ، وإلا ما اشتبهت على أحد ، كما تقدم ، فما تقاطعت فيه الديمقراطية مع الإسلام من ذلك ، ففي الإسلام غنية عنه بل وزيادة ، ومن استقرأ تاريخ أمة الإسلام الديني والسياسي والعسكري ........ إلخ ، علم يقينا سنة الرب ، جل وعلا ، فيها فهي أمة لا تحصل لها الريادة في الدين والدنيا ، في السلم والحرب ، في علوم الشريعة وعلوم الطبيعة ........ إلخ ، لا تحصل لها الريادة في ذلك إلا في ظل النبوة المحفوظة ، فإن دين الإسلام قد سلمت مقالته مما لم تسلم منه بقية الرسالات ، ومما لا تسلم منه جميع المقالات من الكذب والخطأ والدس والتحريف ، فلئن تسلط بعض رءوس الضلالة كابن سبأ فأفسد على فئام من الغلاة دينهم فإنه لم يتسلط على جوهر الديانة كما تسلط بولس على جوهر دين المسيح التوحيدي السماوي فصيره تثليثيا أرضيا ، فقد استعار له جملة من المقالات والفلسفات والرياضات صيرته مزيجا من الوثنيات القديمة ! ، فجرف سيل التشريك والتثليث آثار التوحيد في دين المسيح عليه السلام ، فصيره على الضد مما بعثت به الرسل وأنزلت الكتب ، فــ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) وذلك مما سلم منه المسلمون ، فقد سلم دينهم من التبديل ولم تمر أمتهم بنفس الظرف الكوني القاهر الذي مرت به أوروبا في عصورها المظلمة لما كان الشعب أسيرا في قيد الدين المحرف والسياسة الملكية الجائرة فقامت الثورة على دين محرف وسياسة جائرة ، فهل كان دين الإسلام كذلك ، وإن انحرف أتباعه في الأعصار المتأخرة عن منهاجه ، وهل انحرافهم عنه يسوغ طرحه ونبذه دون النظر في مقرراته بعرضها على ميزان النقل الصحيح والعقل الصريح ، فهل كان في الإسلام الصحيح المحفوظ : إقطاع وعبيد أرض وحق للسيد على عبده في الليلة الأولى مع زوجه يشتريها الزوج البائس ، فيفتدي عرضه بماله ! ، هل كان في الإسلام شيء من ذلك لتصير الديمقراطية هي طوق النجاة من استبداده وظلمه كما كانت كذلك للأوروبيين الذين انتفضوا وثاروا على ظلم الكنيسة في أمر الدين وظلم الإمبراطور في أمر الدنيا برسم التآمر مع رجال الدين المحرف ، فكان يكتسب شرعية جوره من إقرارهم له عليه في مقابل ما يمنحهم من امتيازات صيرتهم من جملة الإقطاعيين بل ومن أكابرهم مع أنهم رجال دين التزهد والرهبانية ! ، فهل الظرف واحد لتقتبس التجربة الديمقراطية برمتها دون نظر في مقرراتها التفصيلية ، وهل تقاطعها مع الإسلام في بعض النقاط المضيئة ، مع أن الإسلام إليها أسبق ، هل تقاطعها معه في هذه النقاط يسوغ قبولها مطلقا فيغض الطرف عن مساوئها التي سلم منها الإسلام ، فهو دين منزل برسم الحفظ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، والعصمة ، فــ : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) .

والله أعلى وأعلم .

يتبع إن شاء الله .

د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:36 PM
فكمال النفس في صلاح القوى العلمية التصورية ، وذلك ما لا يكون إلا من مشكاة النبوة ، تصديقا بأخبار المرسلين ، إلهيات عن رب العالمين ، جل وعلا ، وسمعيات عن دار الخلود في النعيم السرمدي أو الجحيم الأبدي ، أو ما بينهما من نار عصاة الموحدين فرسمها الفناء بعد خروج أهلها إلى دار النعيم برسم التطهير ، فــ : "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ" ، فيشفع فيهم النبيون ، عليهم السلام ، وأعظمهم شفاعة في هذا الجنس من المكلفين الذي خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا ، فمعهم أصل الإيمان دون كماله المطلق ، فمطلق الإيمان ينجي انتهاء بعد حصول التطهير بكير نار العصاة ، وربما أنجى ابتداء بشفاعة أو بمحض فضل من الرب ، جل وعلا ، فعصاة الموحدين تحت المشيئة ، فإن شاء ، جل وعلا ، عفا عنهم فضلا ، وإن شاء عذبهم عدلا ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فله القدرة النافذة والحكمة البالغة ، فأعظم الناس شفاعة في هذا الجنس : النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، خلافا لمن أنكر ذلك من الخوارج والمعتزلة ، فتلك من جملة الشفاعات المنفية عندهم ، فقد استدلوا بعموم قوله تعالى : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) ، وهي مما نزل في الكفار ، فقرينة السياق بذلك تشهد : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) ، فلم ينظروا في سياق الآي ، وإنما استدلوا بالعموم ابتداء دون نظر في مخصصاته ، وذلك مظنة الزلل ، فاستقراء الأدلة جزئي ناقص ، وذلك لحكم الوحي ناقض ، فدلالة الاستثناء في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، وهو عموم يشمل جميع أجناس الشفاعات المثبتة ، فاشترط لها : الإذن للشافع والرضا عن المشفوع فيه ، فدلالة الاستثناء في هذه الآية : مخصص ، ودلالة الأخبار التي بلغت حد التواتر المعنوي في إثبات الشفاعة : مخصص ثان ، والخاص قطعي الدلالة فيقضي على العام فهو ظني الدلالة ، والظني لا يصمد بداهة للقطعي ، فالقطعي : نص جازم في محل النزاع ، والظني : نص محتمل للتأويل بتخصيص أو تقييد أو قياس ....... إلخ من صور صرف العموم عن عمومه لقرينة صحيحة صريحة ، فلا يعمل بالعمومات مطلقا ، وإنما يعمل بها ابتداء دون اشتراط الاستقراء الذي يحصل به اليقين أو غلبة الظن بانتفاء المخصص فذلك قد يفضي إلى تعطيل كثير من العمومات طلبا للمخصص ، فيعمل بها ابتداء إلى أن يرد المخصص فتخرج صورة التخصيص من العموم ويصير العام المخصوص حجة فيما عدا صورة التخصيص ، كما قرر ذلك أهل التحقيق من أهل الأصول .

والشاهد أن كمال النفس في صلاح القوى العلمية التصورية ، وصلاح القوى العملية الإرادية الحكمية ، فتصلح إرادات القلب وتصلح حركات الظاهر قولا وفعلا ، نطقا وحكما ، فالتلازم بين قوى الباطن والظاهر : تلازم وثيق ، ولا يكون صلاح لها إلا إذا كان الرب جل وعلا : "معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو وذلك يتضمن كمال الحب والذل والإجلال والإكرام والتوكل والعبادة فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها ومن حيث هو ربها وخالقها فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه ، (فأقر بالربوبية علما) ، ولم يعبد إلا الله وحده بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأخشى عنده من كل ما سواه وأعظم عنده من كل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه ، (فلم يقر بلازم الربوبية من الألوهية عملا باطنا وظاهرا بأجناس التأله) ، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ويخشاه مثل ما يخشى الله ويرجوه مثل ما يرجو الله ويدعوه مثل ما يدعوه فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه وكان حكيما شجاعا" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/293 ، 294) .

فالفلسفة غايتها أن تهذب قوى النفس الغضبية والشهوانية بصنوف الإرادات والرياضات ، وذلك قدر يحصل للمؤمن والكافر ، فمن الكفار من هو عفيف النفس والبطن والفرج ، مع أن في تهذيب النبوات برسم الاعتدال غنية عن تهذيبها وتهذيب النصرانية والصوفية ........ إلخ فرسمها الغلو في قمع شهوات النفس ، وهو مما أفضى إلى تعطيل قوى الإنسان الفاعلة وأفضى بكثير من المتزهدة إلى السآمة والملل فانقلبت حالهم من زهد مفرِط إلى شهوانية مفرِطة لم تتورع عن اقتراف أبشع الفواحش والمنكرات ، فتلك طبائع الأشياء فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه فتلك سنة في الأجرام الكثيفة والنفوس اللطيفة .


ولا يحصل ذلك بداهة إلا برسم الافتقار إلى الرب ، جل وعلا ، فعين صلاح المكلف أن يعتقد جزما أنه فقير إلى إلهه في كل شأنه : الديني الشرعي ، والدنيوي الكوني ، فهو مفتقر إليه شرعا ليمده بأسباب صلاح قلبه من هدى النبوات وبيناتها ، وعلومها وأعمالها ، فلن يحصل ذلك إلا من طريقها ، وكل من جوز حصول هداية شرعية من غير طريق الرسالات السماوية فقد خرق الناموس الإلهي ، فهو طاغوت قد ظن أنه استغنى عن مدد السماء فرام حصول السعادة والنجاة من غير طريق النبوات ، وهيهات ! ، فلا تنال سعادة في الأولى ولا نجاة في الآخرة إلا من طريقها ففيها الغذاء النافع للقلب الفاعل الحساس المتحرك بالإرادة فلا بد له من مدد يتأوله فإن كان المدد سماويا محفوظا تأوله برسم : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، وإن كان مبدلا أو أرضيا حادثا تأوله برسم : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، فلا بد له من حركة شاء أو أبى ، فإن لم يتحرك برسم الوحي الرباني ، تحرك برسم الوحي الشيطاني فــ : (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، فالعلم لا يكفي وحده لحصول النجاة ، كما زعم الفلاسفة ، فهو مدد القلب ، ولا بد له من تأويل بإرادة في القلب ، ونطق في اللسان ، وعمل في الأركان لتكتمل قسمة الإيمان الثلاثية التي استغرقت عموم قوى المكلف العلمية والعملية ، فصار قلبا وقالبا للرب ، جل وعلا ، برسم : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، فمن ظن أن العلم وحده هو سبيل النجاة فقد أشبه المغضوب عليهم من اليهود فعندهم من العلم ما لم ينفع ، إذ لم يتأوله أصحابه بالإرادة والعمل ، فصار حجة عليهم ، ومن ظن أن العمل وحده هو سبيل النجاة فهو في طريق البدعة لا محالة سائر فقد أشبه الضالين من النصارى الذين تألهوا بلا علم ، فردوا الأمر إلى الذوق والكشف ، فما استحسنوه جعلوه شرعا ملزما ، وما رآه الرهبان والقساوسة فهو كشف رحماني وإن جاء على خلاف بل ونقيض الوحي الإلهي ، فــ : "الذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء .
ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غيره عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين" . اهــ
"بدائع الفوائد" ، (2/186) .

فلكليهما من وصف الآخر نصيب ، فالمغضوب عليه لجحده الحق ضال باتباع غيره فهو سائر على غير منهاجه ، فالمحل الإرادي لا ينفك عن إرادة ، فإن لم يتلبس بإرادة خير وسنة ، تلبس لزوما بضدها من إرادة الشر والبدعة ، فالمحل لا يبقى شاغرا ، بل لا بد له من وارد يستغرقه ، فإن لم يكن وارد خير على منهاج النبوة ، فوارد شر على منهاج الباطل من العلم والعمل الحادث ، والضال في المقابل إن علم الحق فنكل عن اتباعه فقد صار له من خلق المغضوب عليه ما استحق به الذم ، فقد اجتمع في حقه : معرفة الحق فهدي إلى البيان ، فتلك هداية العموم ، ولم يهد للامتثال ، فتلك هداية الخصوص ، فاجتمع في حقه معرفة الحق بلا إقرار ، وبلا إرادة له ، فهي لازم الإقرار ، بل هو كاره له مبغض ، مع قيام الدليل القاطع والبرهان الساطع على صحته في نفس الأمر ، فهو دليل صحيح في نقله قد سلم من المعارضة بالقدح في إسناده ، بل قد نقل برسم التواتر الذي سلم به المخالف قبل الموافق ، وفيه ، مع ذلك ، من الأخبار الإلهية والسمعية ما لا يعلم إلا بتوقيف الوحي الصحيح المحفوظ ، وسلم من القدح في استدلاله فأدلته صريحة لا تنقض قياس العقل الصريح ، بل قد جاءت مواطئة له مصدقة به ، فخبر الوحي الصحيح لا يعارض قياس العقل الصريح ، وليس ذلك إلا للوحي المحفوظ ، فما دخله التبديل والتحريف لا بد أن يتعارض في أخباره وأحكامه ، فيثبت الشيء في موضع ، ويثبت ضده في موضع آخر فهو يستلزم نفي الأول ، ويحل في موضع ويحرم في آخر ، ولا مستند صحيح لنسخ شرعي ، بل تضارب في الأقوال فمن عند غير الرب الحكيم الخبير قد صدرت ، فمرد النسخ في الشرائع المبدلة أذواق ومواجيد أربابها ، فرسم أتباعهم : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فسلم الدليل من القدح نقلا وعقلا ، فخبره أصدق خبر فــ : "معلوم بالتواتر أن محمدا ذكر أنه رسول كإبراهيم وموسى وعيسى بل أخبر أنه سيد ولد آدم وأن آدم فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة وأنه لما أسري به وعرج إلى ربه علا على الأنبياء كلهم على إبراهيم وموسى وهارون ويحيى وعيسى وغيرهم وأخبر أنه لا نبي بعده وأن أمته هم الآخرون في الخلق السابقون يوم القيامة وأن الكتاب الذي أنزل إليه أحسن الحديث وأنه مهيمن على ما بين يديه من الكتب مع تصديقه لذلك ......... ومن كان جاهلا مع هذه الدعوى العظيمة التي لم يدع بشر مثلها ومع كثرة ما يخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة ويأمر به وينهى عنه من الأمور الكلية والسنن العامة والشرائع والنواميس فلا بد أن يكون فيها من الضلال والغي ما يبين لأكثر الخلق فإذا كانت أخباره عن الماضي والمستقبل يصدق بعضها بعضا والذي يأمر به هو الطريق الأقوم والكتاب الذي جاء به كتاب متشابه مثاني يشبه بعضه بعضا في الصدق قال تعالى : (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، فإنه لو كان من عند غير الله لوجب أن يكون فيه تناقض لامتناع قدرة البشر على أن تخبر بهذه الأخبار وما فيها من الغيوب ويأمر بهذه الأوامر مع سلامة ذلك من التناقض ولهذا لا يوجد بشر غير نبي يسلم من ذلك وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد علم بالاضطرار من سيرته أنه كان يتحرى الصدق والعدل وأنه ما جربت عليه كذبة قط وعلم أنه كان جازما بما يخبر به مع عظم الأخبار وكثرتها وهو وحده قام يدعو الناس إلى ما جاء به ومن عادة طالب الملك والرياسة ولو كان عادلا أن يستعين بمن يعينه كأقاربه وأصدقائه ونحوهم وأن يبذل للنفوس من العاجل ما يرغبها به كالمال والرياسة ويرهب من خالفه ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس وحده وهو بمكة فآمن به المهاجرون فتعين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى ثم آمن به أهل البحرين ولم يعط أحدا منهم درهما ولا كان معه ما يخيفهم به لا سيف ولا غيره بل مكث بمكة بضع عشرة سنة هو والمؤمنون به مستضعفين لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به .........." . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/304) .

من كلام طويل أسهب فيه ابن تيمية ، رحمه الله ، في ذكر أطراف من دلائل النبوة فاستدل بالدعوى واستدل بحال صاحبها ، واستدل بحال أصحابه كأبي بكر ، رضي الله عنه ، فما قبل دعوته وسارع إليها إلا أعقل الناس وذلك أمر مطرد ففي زماننا لا يقبل هذه المقالة ويسارع إلى انتحالها إلا أعقل الناس ، فما عرضت بإزاء بقية المقالات على طالب حق متجرد إلا فضلها فذلك مقتضى العقل الصريح والفطرة السليمة ، لا سيما إن كان بحاثة عن الحق قد سبر المقالات وعلم حقائقها يقينا بمعزل عن زخرف أقوال الدعاة إليها ، فمقالة الإسلام ظاهرة أبدا بحجج دامغة وبراهين قاطعة .



وشرعه أعدل الشرائع ، وعباداته أنفع العبادات ، فــ : "أما انتفاع العباد بها فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم وعدلهم يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال والاعتدال كالطهارة والاصطفاف والركوع والسجود واستقبال بيت إبراهيم الذي هو إمام الخلائق والإمساك فيها عن الكلام وما فيها من الخشوع وتلاوة القرآن واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم .

وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذ لم يكن لهم شرع يحكم به الناس وليس في الإنجيل حكم عام بل عامته وإنما فيه الأمر بالزهد ومكارم الأخلاق وهو مما يأمر به المسلمون أيضا" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/301) .

وهذا بطبيعة الحال خلافا لحال النصارى في عصرنا ومصرنا تحديدا فإنهم إمعانا في النكاية في المسلمين يقبلون بأي شرع ، لو أرضيا محدثا إلا شرع الإسلام مع كماله ، ولو كقانون حاكم يفصل بينهم في المنازعات ، فإنهم ، كما يقول بعض الفضلاء ، يفتقرون إلى أية شريعة تفصل بينهم ، فلم لا يقبلون الشريعة التي أجمعت العقول والمجامع القانونية على كمالها ، ولو لم يؤمن أصحاب تلك المجامع بأنها شريعة منزلة ، فيأبون ، مع كل ذلك الثناء على الشرعة الخاتمة ، نكاية في المسلمين ! ، كما يقول بعضهم : إن تركت النصرانية ، فهو غير مقتنع بها ، فسأتركها إلى أي دين آخر إلا دين الإسلام ! ، و : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، فليس أمر هداية التوفيق والإلهام لبشر ولو كان النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكيف بمن دونه ؟! .


والشاهد أن الضال إن علم الحق فأبغضه ونكل عنه ، فاجتمع في حقه فساد العلم تصورا ، وفساد العمل حكما ، فقد أشبه المغضوب عليهم ، فتخصيص النصارى بوصف الضالين لا يقتضي امتناع وصف المغضوب عليهم في حقهم ، والعكس صحيح ، فــ : "هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع" . اهــ من : "بدائع الفوائد" ، (2/185) .

فاليهود قد اجتمع لهم ، أيضا ، فساد القوى العلمية ، فذلك الأصل ، وعليه تفرع لزوما فساد القوة العملية ، فالظاهر العملي ، كما تقدم مرارا ، مرآة الباطن العلمي ، فــ : "مِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ "جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ" وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ قَالُوا : وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

وهذا أمر يخالف العقل والحس ، فإنه لا يتصور في العادة أن يثبت عقد إيمان يوجب الولاء والمحبة لمن يبغضه صاحب الدعوى بل ويسبه ، بل ويقتله إن كان نبيا أو وليا أو مؤمنا من آحاد المؤمنين يبغضه لأجل إيمانه لا لذاته ، فلا يتصور في العقل والحس أن يقع هذا الفصام بين الباطن والظاهر فيكون مؤمنا في الباطن بل وكامل الإيمان ، فقد أتى بحد الإيمان وهو محض التصديق المجرد ، وتلك لوثة أصابت أصحاب هذه المقالة من الفلسفة التجريدية التي تفنن نظارها في تجريد الحقائق في الذهن وإن لم يكن لها وجود في الخارج فشغلوا بحد الحقائق حتى جردوها من لوازمها بل ومن أجزائها ، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان بل وأخرج بعضهم القول ، وتلك أجزاء رئيسة من حقيقة الإيمان على تفصيل في زوال حقيقة الإيمان بزوالها ، أو بزوال بعضها مما قد وردت النصوص بنقض عقد تاركه ، أو زوال كماله الواجب دون أصله إذ ترك المكلف بعض أعماله أو أقواله ......... إلخ ، فجاء أصحاب هذه المقالة ليسيروا على خطى الفلاسفة فيحدوا الإيمان بمحض التصديق المجرد ، وتأتي إشارة إلى طرف من ذلك فيما يلي إن شاء الله جل وعلا .

والشاهد أنه لا يتصور وقوع هذا الفصام ، فيكون مؤمنا كامل الإيمان في الباطن وهو قد تلبس في الظاهر بجملة من نواقض الإيمان من أعمال الكفر مختارا غير مكرَه .


و : "وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا : رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ ؛ يَقُولُونَ : هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ " . اهـ من : "مجموع الفتاوى" .

فالتلازم بين فساد العلم وفساد العمل أمر ظاهر لا ينكره إلا جاحد أو مسفسط ينكر البدهيات الضرورية التي ركزها الرب ، جل وعلا ، في الفطرة الآدمية ، فالعمل حكم ، والعلم تصور ، والحكم على التصور فرع ، فهو لازمه ومسبَّبه ، فالتلازم بين العلم المنشئ والعمل الناشئ ، والسبب المنتج والمسبب الناتج : تلازم ضروري وثيق ، فتلك سنة الرب ، جل وعلا ، في الشرع والكون ، فقد وضع جملة من الأسباب الشرعية والكونية يتوصل بها إلى مسبَّباتها ، فوضع النصاب سببا لوجوب الزكاة شرعا ، ووضع الغذاء لحصول الشبع كونا ، فالكون قد قام على جملة من السنن الرباني المحكم : شرعا وكونا ، فمن رام خرق ناموسه الشرعي أو الكوني ، أو ظن أن ذلك مما يسعه فقد مرق من الدين ، فعطل أحكام التنزيل فهي قاضية بخضوع الكون وخشوعه لربه ، جل وعلا ، اختيارا فذلك الخضوع الشرعي الخاص ، وهو محل المدح والثناء فلا يكون إلا لمن اصطفى الرب ، جل وعلا ، من عباده المخلصين ، أو اضطرار فذلك الخضوع الكوني العام فليس محلا لمدح أو ذم ، فهو مما يشترك فيه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، فــ : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) ، فتلك العبودية العامة ، فالفقر الكوني قد ثبت لكل آدمي بل ولكل مخلوق حادث ، وإن علا قدره وشرف جنسه ، فالملائك مع استغنائها عن أسباب البقاء المحسوسة من مطعوم ومشروب ومنكوح لا تنفك عن افتقار إلى رب الأرض والسماء فلا تبقى إلا بمشيئته ، جل وعلا ، فإذا شاء أجرى عليها سنة الموت بنفخة الصعق ، فــ : (نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) ، وأما العبودية الخاصة ، فهي عبودية : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، عبودية المسيح عليه السلام ، عبودية : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ، عبودية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قام يدعو إلى ربه ، جل وعلا ، فينذر ويتلو آي الذكر المنزل ، عبودية : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) ، عبودية الكريم عليه السلام فهو العبد المخلَص : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، عبودية الرهط الكريم من الأنبياء عليهم السلام ، فــ : (اذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ....... إلخ فتلك العبودية المرضية التي يحصل بها كمال القوى العلمية والعملية ، فلا يصلح سير إلى الرب ، جل وعلا ، إلا برسم الافتقار إليه في الشرع والكون ، ولا تحصل سعادة ونجاة إلا بتحقيق العبودية الكاملة فحقيقتها تتضمن : "كمال الذل بكمال الحب" كما تقدم من كلام ابن تيمية رحمه الله .

فالنفوس تحتاج إلى مدده الكوني رزقا ، فــ : "الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ "مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ" مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

والنفوس تحتاج بل وتفتقر إلى مدده الشرعي وحيا محفوظا لتسير على منهاجه فتحقق مراد الرب ، جل وعلا ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فــ : "إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .




فيكون الرب ، جل وعلا ، المراد المحبوب لنفسه ، فــ : "إن الإرادة لا بد لها من مراد والمراد يكون إما مرادا لنفسه وإما لغيره والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير فلا بد أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه أو منتهى إلى مراد لنفسه وإلا لزم التسلسل في العلل الغائية وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل واتفاق العقلاء" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/297) .

فالتسلسل في العلل الغائية ممتنع كالتسلسل في العلل الفاعلية ، فلا بد أن تنتهي المرادات لغيرها إلى مراد لذاته فتمتنع الشركة في إرادته فيخلص الحب له ، فكل حب لسواه فهو فيه ، وذلك المراد هو رب العباد ، جل وعلا ، تألها ، فلبيك حقا حقا ، تعبدا ورقا ، فتلك حلاوة العبودية الخالصة من شوب المقالات الباطلة والرياضات الحادثة ، فيراد الرب ، جل وعلا ، إرادة العبد لمعبوده ، لا العاشق لمعشوقه ، أو المحل لما يحل فيه أو يتحد به أو يفنى في ذاته ...... إلخ من مقالات الاتحادية والحلولية من النصارى ومن سار على طريقتهم من غلاة الفلاسفة والمتصوفة ، فلم يريدوا الرب ، جل وعلا ، برسم العبودية ، فذلك مراده ، جل وعلا ، من العباد ، وإنما أرادوا الرب ، جل وعلا ، بمرادهم هم ووجدانهم وذوقهم ، وإن فسد بل وإن نقض أصل التوحيد ، دين جميع الرسل عليهم السلام ، فلا صلاح للمكلفين إلا بــ : "مرادهم المحبوب لذاته وهو معبودهم ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله فلو كان في السماوات والأرض إله إلاالله لفسدتا فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لاشريك له" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/296) .

فيمتنع أن يكون ثم إله يراد ويحب معه ، إذ ليس ثم رب يخلق ويرزق ويدبر معه ، فالتمانع في الربوبية مئنة من التمانع في الألوهية ، فــ : "كما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان " . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/297) .


فتلك حقيقة التوحيد الذي جاء به المرسلون ، عليهم السلام ، فــ : "محبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلا صلاح للنفس ولا كمال لها إلا في ذلك وبدون ذلك تكون فاسدة لا صلاح لها ........... ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل قال الله تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ......... فالغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة قول القائل لا إله إلا الله ولهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا كما قال تعالى : (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) ، أي : لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد والإيمان وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .............. وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس فعبادة الله وحده لا شريك له وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى" . اهــ
بتصرف من "الجواب الصحيح" ، (3/291 ، 293) .

فتوحيد الأنبياء توحيد تغتذي به القلوب علما نافعا وعملا صالحا ، فله أثر في حركة الحياة خلافا لتوحيد الفلاسفة التجريدي فهو محض تعطيل للرب ، جل وعلا ، بتجريده من صفات كماله فلا يتصور الفلاسفة إلا وجودا مطلقا سلبوا عنه وصف الكمال الذاتي والفعلي فجعلوا عين الذات القدسية هي علة صدور هذا الكون وأداهم ذلك إلى جملة من اللوازم الباطلة فقالوا بقدم العالم ، فهو معلول يقترن بعلته وهي الذات البسيطة المجردة من الوصف ، والصحيح أن علة صدور هذا الكون هي الصفات الربانية الفاعلة من خلق وإبداع ........ إلخ ، والكلمات الكونية النافذة ، فــ : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ولكن أنى لأولئك تلك الحقائق الشريفة وهم من أجهل الناس بالنبوات ؟! .

والله أعلى وأعلم .

يتبع إن شاء الله .

د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:36 PM
فكمال النفس في صلاح القوى العلمية التصورية ، وذلك ما لا يكون إلا من مشكاة النبوة ، تصديقا بأخبار المرسلين ، إلهيات عن رب العالمين ، جل وعلا ، وسمعيات عن دار الخلود في النعيم السرمدي أو الجحيم الأبدي ، أو ما بينهما من نار عصاة الموحدين فرسمها الفناء بعد خروج أهلها إلى دار النعيم برسم التطهير ، فــ : "يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ" ، فيشفع فيهم النبيون ، عليهم السلام ، وأعظمهم شفاعة في هذا الجنس من المكلفين الذي خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا ، فمعهم أصل الإيمان دون كماله المطلق ، فمطلق الإيمان ينجي انتهاء بعد حصول التطهير بكير نار العصاة ، وربما أنجى ابتداء بشفاعة أو بمحض فضل من الرب ، جل وعلا ، فعصاة الموحدين تحت المشيئة ، فإن شاء ، جل وعلا ، عفا عنهم فضلا ، وإن شاء عذبهم عدلا ، فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فله القدرة النافذة والحكمة البالغة ، فأعظم الناس شفاعة في هذا الجنس : النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، خلافا لمن أنكر ذلك من الخوارج والمعتزلة ، فتلك من جملة الشفاعات المنفية عندهم ، فقد استدلوا بعموم قوله تعالى : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) ، وهي مما نزل في الكفار ، فقرينة السياق بذلك تشهد : (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ) ، فلم ينظروا في سياق الآي ، وإنما استدلوا بالعموم ابتداء دون نظر في مخصصاته ، وذلك مظنة الزلل ، فاستقراء الأدلة جزئي ناقص ، وذلك لحكم الوحي ناقض ، فدلالة الاستثناء في قوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) ، وهو عموم يشمل جميع أجناس الشفاعات المثبتة ، فاشترط لها : الإذن للشافع والرضا عن المشفوع فيه ، فدلالة الاستثناء في هذه الآية : مخصص ، ودلالة الأخبار التي بلغت حد التواتر المعنوي في إثبات الشفاعة : مخصص ثان ، والخاص قطعي الدلالة فيقضي على العام فهو ظني الدلالة ، والظني لا يصمد بداهة للقطعي ، فالقطعي : نص جازم في محل النزاع ، والظني : نص محتمل للتأويل بتخصيص أو تقييد أو قياس ....... إلخ من صور صرف العموم عن عمومه لقرينة صحيحة صريحة ، فلا يعمل بالعمومات مطلقا ، وإنما يعمل بها ابتداء دون اشتراط الاستقراء الذي يحصل به اليقين أو غلبة الظن بانتفاء المخصص فذلك قد يفضي إلى تعطيل كثير من العمومات طلبا للمخصص ، فيعمل بها ابتداء إلى أن يرد المخصص فتخرج صورة التخصيص من العموم ويصير العام المخصوص حجة فيما عدا صورة التخصيص ، كما قرر ذلك أهل التحقيق من أهل الأصول .

والشاهد أن كمال النفس في صلاح القوى العلمية التصورية ، وصلاح القوى العملية الإرادية الحكمية ، فتصلح إرادات القلب وتصلح حركات الظاهر قولا وفعلا ، نطقا وحكما ، فالتلازم بين قوى الباطن والظاهر : تلازم وثيق ، ولا يكون صلاح لها إلا إذا كان الرب جل وعلا : "معبودها ومحبوبها الذي لا أحب إليها منه ولهذا كثر في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده ولفظ العبادة يتضمن كمال الذل بكمال الحب فلا بد أن يكون العابد محبا للإله المعبود كمال الحب ولا بد أن يكون ذليلا له كمال الذل فمن أحب شيئا ولم يذل له لم يعبده ومن خضع له ولم يحبه لم يعبده وكمال الحب والذل لا يصلح إلا لله وحده فهو الإله المستحق للعبادة التي لا يستحقها إلا هو وذلك يتضمن كمال الحب والذل والإجلال والإكرام والتوكل والعبادة فالنفوس محتاجة إلى الله من حيث هو معبودها ومنتهى مرادها وبغيتها ومن حيث هو ربها وخالقها فمن آمن بالله رب كل شيء وخالقه ، (فأقر بالربوبية علما) ، ولم يعبد إلا الله وحده بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه وأخشى عنده من كل ما سواه وأعظم عنده من كل ما سواه وأرجى عنده من كل ما سواه ، (فلم يقر بلازم الربوبية من الألوهية عملا باطنا وظاهرا بأجناس التأله) ، بل من سوى بين الله وبين بعض المخلوقات في الحب بحيث يحبه مثل ما يحب الله ويخشاه مثل ما يخشى الله ويرجوه مثل ما يرجو الله ويدعوه مثل ما يدعوه فهو مشرك الشرك الذي لا يغفره الله ولو كان مع ذلك عفيفا في طعامه ونكاحه وكان حكيما شجاعا" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/293 ، 294) .

فالفلسفة غايتها أن تهذب قوى النفس الغضبية والشهوانية بصنوف الإرادات والرياضات ، وذلك قدر يحصل للمؤمن والكافر ، فمن الكفار من هو عفيف النفس والبطن والفرج ، مع أن في تهذيب النبوات برسم الاعتدال غنية عن تهذيبها وتهذيب النصرانية والصوفية ........ إلخ فرسمها الغلو في قمع شهوات النفس ، وهو مما أفضى إلى تعطيل قوى الإنسان الفاعلة وأفضى بكثير من المتزهدة إلى السآمة والملل فانقلبت حالهم من زهد مفرِط إلى شهوانية مفرِطة لم تتورع عن اقتراف أبشع الفواحش والمنكرات ، فتلك طبائع الأشياء فلكل فعل رد فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه فتلك سنة في الأجرام الكثيفة والنفوس اللطيفة .


ولا يحصل ذلك بداهة إلا برسم الافتقار إلى الرب ، جل وعلا ، فعين صلاح المكلف أن يعتقد جزما أنه فقير إلى إلهه في كل شأنه : الديني الشرعي ، والدنيوي الكوني ، فهو مفتقر إليه شرعا ليمده بأسباب صلاح قلبه من هدى النبوات وبيناتها ، وعلومها وأعمالها ، فلن يحصل ذلك إلا من طريقها ، وكل من جوز حصول هداية شرعية من غير طريق الرسالات السماوية فقد خرق الناموس الإلهي ، فهو طاغوت قد ظن أنه استغنى عن مدد السماء فرام حصول السعادة والنجاة من غير طريق النبوات ، وهيهات ! ، فلا تنال سعادة في الأولى ولا نجاة في الآخرة إلا من طريقها ففيها الغذاء النافع للقلب الفاعل الحساس المتحرك بالإرادة فلا بد له من مدد يتأوله فإن كان المدد سماويا محفوظا تأوله برسم : (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، وإن كان مبدلا أو أرضيا حادثا تأوله برسم : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، فلا بد له من حركة شاء أو أبى ، فإن لم يتحرك برسم الوحي الرباني ، تحرك برسم الوحي الشيطاني فــ : (إِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) ، فالعلم لا يكفي وحده لحصول النجاة ، كما زعم الفلاسفة ، فهو مدد القلب ، ولا بد له من تأويل بإرادة في القلب ، ونطق في اللسان ، وعمل في الأركان لتكتمل قسمة الإيمان الثلاثية التي استغرقت عموم قوى المكلف العلمية والعملية ، فصار قلبا وقالبا للرب ، جل وعلا ، برسم : (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، فمن ظن أن العلم وحده هو سبيل النجاة فقد أشبه المغضوب عليهم من اليهود فعندهم من العلم ما لم ينفع ، إذ لم يتأوله أصحابه بالإرادة والعمل ، فصار حجة عليهم ، ومن ظن أن العمل وحده هو سبيل النجاة فهو في طريق البدعة لا محالة سائر فقد أشبه الضالين من النصارى الذين تألهوا بلا علم ، فردوا الأمر إلى الذوق والكشف ، فما استحسنوه جعلوه شرعا ملزما ، وما رآه الرهبان والقساوسة فهو كشف رحماني وإن جاء على خلاف بل ونقيض الوحي الإلهي ، فــ : "الذي يحقق ذلك أن اليهود إنما أتوا من فساد الإرادة والحسد وإيثار ما كان لهم على قومهم من السحت والرياسة فخافوا أن يذهب بالإسلام فلم يؤتوا من عدم العلم بالحق فإنهم كانوا يعرفون أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم ولهذا لم يوبخهم الله تعالى ويقرعهم إلا بإراداتهم الفاسدة من الكبر والحسد وإيثار السحت والبغي وقتل الأنبياء .
ووبخ النصارى بالضلال والجهل الذي هو عدم العلم بالحق فالشقاء والكفر ينشأ من عدم معرفة الحق تارة ومن عدم إرادته والعمل بها أخرى يتركب منها فكفر اليهود نشأ من عدم إرادة الحق والعمل به وإيثار غيره عليه بعد معرفته فلم يكن ضلالا محضا وكفر النصارى نشأ من جهلهم بالحق وضلالهم فيه فإذا تبين لهم وآثروا الباطل عليه أشبهوا الأمة الغضبية وبقوا مغضوبا عليهم ضالين" . اهــ
"بدائع الفوائد" ، (2/186) .

فلكليهما من وصف الآخر نصيب ، فالمغضوب عليه لجحده الحق ضال باتباع غيره فهو سائر على غير منهاجه ، فالمحل الإرادي لا ينفك عن إرادة ، فإن لم يتلبس بإرادة خير وسنة ، تلبس لزوما بضدها من إرادة الشر والبدعة ، فالمحل لا يبقى شاغرا ، بل لا بد له من وارد يستغرقه ، فإن لم يكن وارد خير على منهاج النبوة ، فوارد شر على منهاج الباطل من العلم والعمل الحادث ، والضال في المقابل إن علم الحق فنكل عن اتباعه فقد صار له من خلق المغضوب عليه ما استحق به الذم ، فقد اجتمع في حقه : معرفة الحق فهدي إلى البيان ، فتلك هداية العموم ، ولم يهد للامتثال ، فتلك هداية الخصوص ، فاجتمع في حقه معرفة الحق بلا إقرار ، وبلا إرادة له ، فهي لازم الإقرار ، بل هو كاره له مبغض ، مع قيام الدليل القاطع والبرهان الساطع على صحته في نفس الأمر ، فهو دليل صحيح في نقله قد سلم من المعارضة بالقدح في إسناده ، بل قد نقل برسم التواتر الذي سلم به المخالف قبل الموافق ، وفيه ، مع ذلك ، من الأخبار الإلهية والسمعية ما لا يعلم إلا بتوقيف الوحي الصحيح المحفوظ ، وسلم من القدح في استدلاله فأدلته صريحة لا تنقض قياس العقل الصريح ، بل قد جاءت مواطئة له مصدقة به ، فخبر الوحي الصحيح لا يعارض قياس العقل الصريح ، وليس ذلك إلا للوحي المحفوظ ، فما دخله التبديل والتحريف لا بد أن يتعارض في أخباره وأحكامه ، فيثبت الشيء في موضع ، ويثبت ضده في موضع آخر فهو يستلزم نفي الأول ، ويحل في موضع ويحرم في آخر ، ولا مستند صحيح لنسخ شرعي ، بل تضارب في الأقوال فمن عند غير الرب الحكيم الخبير قد صدرت ، فمرد النسخ في الشرائع المبدلة أذواق ومواجيد أربابها ، فرسم أتباعهم : (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) ، فسلم الدليل من القدح نقلا وعقلا ، فخبره أصدق خبر فــ : "معلوم بالتواتر أن محمدا ذكر أنه رسول كإبراهيم وموسى وعيسى بل أخبر أنه سيد ولد آدم وأن آدم فمن دونه تحت لوائه يوم القيامة وأنه لما أسري به وعرج إلى ربه علا على الأنبياء كلهم على إبراهيم وموسى وهارون ويحيى وعيسى وغيرهم وأخبر أنه لا نبي بعده وأن أمته هم الآخرون في الخلق السابقون يوم القيامة وأن الكتاب الذي أنزل إليه أحسن الحديث وأنه مهيمن على ما بين يديه من الكتب مع تصديقه لذلك ......... ومن كان جاهلا مع هذه الدعوى العظيمة التي لم يدع بشر مثلها ومع كثرة ما يخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة ويأمر به وينهى عنه من الأمور الكلية والسنن العامة والشرائع والنواميس فلا بد أن يكون فيها من الضلال والغي ما يبين لأكثر الخلق فإذا كانت أخباره عن الماضي والمستقبل يصدق بعضها بعضا والذي يأمر به هو الطريق الأقوم والكتاب الذي جاء به كتاب متشابه مثاني يشبه بعضه بعضا في الصدق قال تعالى : (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) ، فإنه لو كان من عند غير الله لوجب أن يكون فيه تناقض لامتناع قدرة البشر على أن تخبر بهذه الأخبار وما فيها من الغيوب ويأمر بهذه الأوامر مع سلامة ذلك من التناقض ولهذا لا يوجد بشر غير نبي يسلم من ذلك وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد علم بالاضطرار من سيرته أنه كان يتحرى الصدق والعدل وأنه ما جربت عليه كذبة قط وعلم أنه كان جازما بما يخبر به مع عظم الأخبار وكثرتها وهو وحده قام يدعو الناس إلى ما جاء به ومن عادة طالب الملك والرياسة ولو كان عادلا أن يستعين بمن يعينه كأقاربه وأصدقائه ونحوهم وأن يبذل للنفوس من العاجل ما يرغبها به كالمال والرياسة ويرهب من خالفه ومحمد صلى الله عليه وسلم دعا الناس وحده وهو بمكة فآمن به المهاجرون فتعين أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم خير من النصارى ثم آمن به أهل البحرين ولم يعط أحدا منهم درهما ولا كان معه ما يخيفهم به لا سيف ولا غيره بل مكث بمكة بضع عشرة سنة هو والمؤمنون به مستضعفين لم يكن له مال يبذله لهم ولا سيف يخيفهم به .........." . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (3/304) .

من كلام طويل أسهب فيه ابن تيمية ، رحمه الله ، في ذكر أطراف من دلائل النبوة فاستدل بالدعوى واستدل بحال صاحبها ، واستدل بحال أصحابه كأبي بكر ، رضي الله عنه ، فما قبل دعوته وسارع إليها إلا أعقل الناس وذلك أمر مطرد ففي زماننا لا يقبل هذه المقالة ويسارع إلى انتحالها إلا أعقل الناس ، فما عرضت بإزاء بقية المقالات على طالب حق متجرد إلا فضلها فذلك مقتضى العقل الصريح والفطرة السليمة ، لا سيما إن كان بحاثة عن الحق قد سبر المقالات وعلم حقائقها يقينا بمعزل عن زخرف أقوال الدعاة إليها ، فمقالة الإسلام ظاهرة أبدا بحجج دامغة وبراهين قاطعة .



وشرعه أعدل الشرائع ، وعباداته أنفع العبادات ، فــ : "أما انتفاع العباد بها فهذا يعرف بثمراتها ونتائجها وفوائدها ومن ذلك آثارها في صلاح القلوب فليتدبر الإنسان عقول المسلمين وأخلاقهم وعدلهم يظهر له الفرق بينهم وبين غيرهم ثم صفات عباداتهم فيها من الكمال والاعتدال كالطهارة والاصطفاف والركوع والسجود واستقبال بيت إبراهيم الذي هو إمام الخلائق والإمساك فيها عن الكلام وما فيها من الخشوع وتلاوة القرآن واستماعه الذي يظهر الفرق بينه وبين غيره من الكتب لكل متدبر منصف إلى أمثال ذلك من الأمور التي يظهر بها فضل عبادات المسلمين على عبادات غيرهم .

وأما حكم المسلمين في الحدود والحقوق فلا يخفى على عاقل فضله حتى إن النصارى في طائفة من بلادهم ينصبون لهم من يقضي بينهم بشرع المسلمين إذ لم يكن لهم شرع يحكم به الناس وليس في الإنجيل حكم عام بل عامته وإنما فيه الأمر بالزهد ومكارم الأخلاق وهو مما يأمر به المسلمون أيضا" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/301) .

وهذا بطبيعة الحال خلافا لحال النصارى في عصرنا ومصرنا تحديدا فإنهم إمعانا في النكاية في المسلمين يقبلون بأي شرع ، لو أرضيا محدثا إلا شرع الإسلام مع كماله ، ولو كقانون حاكم يفصل بينهم في المنازعات ، فإنهم ، كما يقول بعض الفضلاء ، يفتقرون إلى أية شريعة تفصل بينهم ، فلم لا يقبلون الشريعة التي أجمعت العقول والمجامع القانونية على كمالها ، ولو لم يؤمن أصحاب تلك المجامع بأنها شريعة منزلة ، فيأبون ، مع كل ذلك الثناء على الشرعة الخاتمة ، نكاية في المسلمين ! ، كما يقول بعضهم : إن تركت النصرانية ، فهو غير مقتنع بها ، فسأتركها إلى أي دين آخر إلا دين الإسلام ! ، و : (إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، فليس أمر هداية التوفيق والإلهام لبشر ولو كان النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فكيف بمن دونه ؟! .


والشاهد أن الضال إن علم الحق فأبغضه ونكل عنه ، فاجتمع في حقه فساد العلم تصورا ، وفساد العمل حكما ، فقد أشبه المغضوب عليهم ، فتخصيص النصارى بوصف الضالين لا يقتضي امتناع وصف المغضوب عليهم في حقهم ، والعكس صحيح ، فــ : "هذا ليس بتخصيص يقتضي نفي كل صفة عن أصحاب الصفة الأخرى فإن كل مغضوب عليه ضال وكل ضال مغضوب عليه لكن ذكر كل طائفة بأشهر وصفيها وأحقها به وألصقه بها وأن ذلك هو الوصف الغالب عليهما وهذا مطابق لوصف الله اليهود بالغضب في القرآن والنصارى بالضلال فهو تفسير للآية بالصفة التي وصفهم بها في ذلك الموضع" . اهــ من : "بدائع الفوائد" ، (2/185) .

فاليهود قد اجتمع لهم ، أيضا ، فساد القوى العلمية ، فذلك الأصل ، وعليه تفرع لزوما فساد القوة العملية ، فالظاهر العملي ، كما تقدم مرارا ، مرآة الباطن العلمي ، فــ : "مِنْ هُنَا يَظْهَرُ خَطَأُ قَوْلِ "جَهْمِ بْنِ صَفْوَانَ" وَمَنْ اتَّبَعَهُ حَيْثُ ظَنُّوا أَنَّ الْإِيمَانَ مُجَرَّدُ تَصْدِيقِ الْقَلْبِ وَعِلْمِهِ لَمْ يَجْعَلُوا أَعْمَالَ الْقَلْبِ مِنْ الْإِيمَانِ وَظَنُّوا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْإِنْسَانُ مُؤْمِنًا كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَلْبِهِ وَهُوَ مَعَ هَذَا يَسُبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُعَادِي أَوْلِيَاءَ اللَّهِ وَيُوَالِي أَعْدَاءَ اللَّهِ وَيَقْتُلُ الْأَنْبِيَاءَ وَيَهْدِمُ الْمَسَاجِدَ وَيُهِينُ الْمَصَاحِفَ وَيُكْرِمُ الْكُفَّارَ غَايَةَ الْكَرَامَةِ وَيُهِينُ الْمُؤْمِنِينَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ قَالُوا : وَهَذِهِ كُلُّهَا مَعَاصٍ لَا تُنَافِي الْإِيمَانَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ بَلْ يَفْعَلُ هَذَا وَهُوَ فِي الْبَاطِنِ عِنْدَ اللَّهِ مُؤْمِنٌ قَالُوا : وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ أَمَارَةٌ عَلَى الْكُفْرِ لِيُحْكَمَ بِالظَّاهِرِ كَمَا يُحْكَمُ بِالْإِقْرَارِ وَالشُّهُودِ وَإِنْ كَانَ الْبَاطِنُ قَدْ يَكُونُ بِخِلَافِ مَا أَقَرَّ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا أَوْرَدَ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ كَافِرٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مُعَذَّبٌ فِي الْآخِرَةِ قَالُوا : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ التَّصْدِيقِ وَالْعِلْمِ مِنْ قَلْبِهِ فَالْكُفْرُ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْجَهْلُ وَالْإِيمَانُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعِلْمُ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

وهذا أمر يخالف العقل والحس ، فإنه لا يتصور في العادة أن يثبت عقد إيمان يوجب الولاء والمحبة لمن يبغضه صاحب الدعوى بل ويسبه ، بل ويقتله إن كان نبيا أو وليا أو مؤمنا من آحاد المؤمنين يبغضه لأجل إيمانه لا لذاته ، فلا يتصور في العقل والحس أن يقع هذا الفصام بين الباطن والظاهر فيكون مؤمنا في الباطن بل وكامل الإيمان ، فقد أتى بحد الإيمان وهو محض التصديق المجرد ، وتلك لوثة أصابت أصحاب هذه المقالة من الفلسفة التجريدية التي تفنن نظارها في تجريد الحقائق في الذهن وإن لم يكن لها وجود في الخارج فشغلوا بحد الحقائق حتى جردوها من لوازمها بل ومن أجزائها ، فأخرجوا العمل من مسمى الإيمان بل وأخرج بعضهم القول ، وتلك أجزاء رئيسة من حقيقة الإيمان على تفصيل في زوال حقيقة الإيمان بزوالها ، أو بزوال بعضها مما قد وردت النصوص بنقض عقد تاركه ، أو زوال كماله الواجب دون أصله إذ ترك المكلف بعض أعماله أو أقواله ......... إلخ ، فجاء أصحاب هذه المقالة ليسيروا على خطى الفلاسفة فيحدوا الإيمان بمحض التصديق المجرد ، وتأتي إشارة إلى طرف من ذلك فيما يلي إن شاء الله جل وعلا .

والشاهد أنه لا يتصور وقوع هذا الفصام ، فيكون مؤمنا كامل الإيمان في الباطن وهو قد تلبس في الظاهر بجملة من نواقض الإيمان من أعمال الكفر مختارا غير مكرَه .


و : "وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ إيمَانَ الْقَلْبِ التَّامِّ يَسْتَلْزِمُ الْعَمَلَ الظَّاهِرَ بِحَسَبِهِ لَا مَحَالَةَ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَقُومَ بِالْقَلْبِ إيمَانٌ تَامٌّ بِدُونِ عَمَلٍ ظَاهِرٍ ؛ وَلِهَذَا صَارُوا يُقَدِّرُونَ مَسَائِلَ يَمْتَنِعُ وُقُوعُهَا لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الِارْتِبَاطِ الَّذِي بَيْنَ الْبَدَنِ وَالْقَلْبِ مِثْلَ أَنْ يَقُولُوا : رَجُلٌ فِي قَلْبِهِ مِنْ الْإِيمَانِ مِثْلَ مَا فِي قَلْبِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَهُوَ لَا يَسْجُدُ لِلَّهِ سَجْدَةً وَلَا يَصُومُ رَمَضَانَ وَيَزْنِي بِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ نَهَارَ رَمَضَانَ ؛ يَقُولُونَ : هَذَا مُؤْمِنٌ تَامُّ الْإِيمَانِ فَيَبْقَى سَائِرُ الْمُؤْمِنِينَ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ " . اهـ من : "مجموع الفتاوى" .

فالتلازم بين فساد العلم وفساد العمل أمر ظاهر لا ينكره إلا جاحد أو مسفسط ينكر البدهيات الضرورية التي ركزها الرب ، جل وعلا ، في الفطرة الآدمية ، فالعمل حكم ، والعلم تصور ، والحكم على التصور فرع ، فهو لازمه ومسبَّبه ، فالتلازم بين العلم المنشئ والعمل الناشئ ، والسبب المنتج والمسبب الناتج : تلازم ضروري وثيق ، فتلك سنة الرب ، جل وعلا ، في الشرع والكون ، فقد وضع جملة من الأسباب الشرعية والكونية يتوصل بها إلى مسبَّباتها ، فوضع النصاب سببا لوجوب الزكاة شرعا ، ووضع الغذاء لحصول الشبع كونا ، فالكون قد قام على جملة من السنن الرباني المحكم : شرعا وكونا ، فمن رام خرق ناموسه الشرعي أو الكوني ، أو ظن أن ذلك مما يسعه فقد مرق من الدين ، فعطل أحكام التنزيل فهي قاضية بخضوع الكون وخشوعه لربه ، جل وعلا ، اختيارا فذلك الخضوع الشرعي الخاص ، وهو محل المدح والثناء فلا يكون إلا لمن اصطفى الرب ، جل وعلا ، من عباده المخلصين ، أو اضطرار فذلك الخضوع الكوني العام فليس محلا لمدح أو ذم ، فهو مما يشترك فيه المؤمن والكافر ، والبر والفاجر ، فــ : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) ، فتلك العبودية العامة ، فالفقر الكوني قد ثبت لكل آدمي بل ولكل مخلوق حادث ، وإن علا قدره وشرف جنسه ، فالملائك مع استغنائها عن أسباب البقاء المحسوسة من مطعوم ومشروب ومنكوح لا تنفك عن افتقار إلى رب الأرض والسماء فلا تبقى إلا بمشيئته ، جل وعلا ، فإذا شاء أجرى عليها سنة الموت بنفخة الصعق ، فــ : (نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ) ، وأما العبودية الخاصة ، فهي عبودية : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، عبودية المسيح عليه السلام ، عبودية : (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) ، عبودية النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ قام يدعو إلى ربه ، جل وعلا ، فينذر ويتلو آي الذكر المنزل ، عبودية : (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) ، عبودية الكريم عليه السلام فهو العبد المخلَص : (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) ، عبودية الرهط الكريم من الأنبياء عليهم السلام ، فــ : (اذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ) ....... إلخ فتلك العبودية المرضية التي يحصل بها كمال القوى العلمية والعملية ، فلا يصلح سير إلى الرب ، جل وعلا ، إلا برسم الافتقار إليه في الشرع والكون ، ولا تحصل سعادة ونجاة إلا بتحقيق العبودية الكاملة فحقيقتها تتضمن : "كمال الذل بكمال الحب" كما تقدم من كلام ابن تيمية رحمه الله .

فالنفوس تحتاج إلى مدده الكوني رزقا ، فــ : "الْعَبْدُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ رِزْقٍ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَإِذَا طَلَبَ رِزْقَهُ مِنْ اللَّهِ صَارَ عَبْدًا لِلَّهِ فَقِيرًا إلَيْهِ وَإِنْ طَلَبَهُ مِنْ مَخْلُوقٍ صَارَ عَبْدًا لِذَلِكَ الْمَخْلُوقِ فَقِيرًا إلَيْهِ . وَلِهَذَا كَانَتْ "مَسْأَلَةُ الْمَخْلُوقِ" مُحَرَّمَةً فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا أُبِيحَتْ لِلضَّرُورَةِ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

والنفوس تحتاج بل وتفتقر إلى مدده الشرعي وحيا محفوظا لتسير على منهاجه فتحقق مراد الرب ، جل وعلا ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فــ : "إذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَكَمَالُ الْمَخْلُوقِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ لِلَّهِ وَكُلَّمَا ازْدَادَ الْعَبْدُ تَحْقِيقًا لِلْعُبُودِيَّةِ ازْدَادَ كَمَالِهِ وَعَلَتْ دَرَجَتُهُ وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَخْرُجُ عَنْ الْعُبُودِيَّةِ بِوَجْهِ مِنْ الْوُجُوهِ . أَوْ أَنَّ الْخُرُوجَ عَنْهَا أَكْمَلُ فَهُوَ مِنْ أَجْهَلِ الْخَلْقِ وَأَضَلِّهِمْ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .




فيكون الرب ، جل وعلا ، المراد المحبوب لنفسه ، فــ : "إن الإرادة لا بد لها من مراد والمراد يكون إما مرادا لنفسه وإما لغيره والمراد لغيره إنما يراد لذلك الغير فلا بد أن يكون ذلك الغير مرادا لنفسه أو منتهى إلى مراد لنفسه وإلا لزم التسلسل في العلل الغائية وذلك باطل كبطلان التسلسل في العلل الفاعلية بصريح العقل واتفاق العقلاء" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/297) .

فالتسلسل في العلل الغائية ممتنع كالتسلسل في العلل الفاعلية ، فلا بد أن تنتهي المرادات لغيرها إلى مراد لذاته فتمتنع الشركة في إرادته فيخلص الحب له ، فكل حب لسواه فهو فيه ، وذلك المراد هو رب العباد ، جل وعلا ، تألها ، فلبيك حقا حقا ، تعبدا ورقا ، فتلك حلاوة العبودية الخالصة من شوب المقالات الباطلة والرياضات الحادثة ، فيراد الرب ، جل وعلا ، إرادة العبد لمعبوده ، لا العاشق لمعشوقه ، أو المحل لما يحل فيه أو يتحد به أو يفنى في ذاته ...... إلخ من مقالات الاتحادية والحلولية من النصارى ومن سار على طريقتهم من غلاة الفلاسفة والمتصوفة ، فلم يريدوا الرب ، جل وعلا ، برسم العبودية ، فذلك مراده ، جل وعلا ، من العباد ، وإنما أرادوا الرب ، جل وعلا ، بمرادهم هم ووجدانهم وذوقهم ، وإن فسد بل وإن نقض أصل التوحيد ، دين جميع الرسل عليهم السلام ، فلا صلاح للمكلفين إلا بــ : "مرادهم المحبوب لذاته وهو معبودهم ولا يجوز أن يكون معبودا محبوبا لنفسه إلا الله فلو كان في السماوات والأرض إله إلاالله لفسدتا فلهذا كان دين جميع الرسل عبادة الله وحده لاشريك له" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/296) .

فيمتنع أن يكون ثم إله يراد ويحب معه ، إذ ليس ثم رب يخلق ويرزق ويدبر معه ، فالتمانع في الربوبية مئنة من التمانع في الألوهية ، فــ : "كما يمتنع أن يكون للعالم ربان قادران يمتنع أن يكون للعالم إلهان معبودان " . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/297) .


فتلك حقيقة التوحيد الذي جاء به المرسلون ، عليهم السلام ، فــ : "محبة الله وتوحيده هو الغاية التي فيها صلاح للنفس وهو عبادة الله وحده لا شريك له فلا صلاح للنفس ولا كمال لها إلا في ذلك وبدون ذلك تكون فاسدة لا صلاح لها ........... ولهذا كان هذا هو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل قال الله تعالى : (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) ......... فالغاية الحميدة التي بها يحصل كمال بني آدم وسعادتهم ونجاتهم عبادة الله وحده وهي حقيقة قول القائل لا إله إلا الله ولهذا بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب ولا تصلح النفس وتزكو وتكمل إلا بهذا كما قال تعالى : (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة) ، أي : لا يؤتون ما تزكو به نفوسهم من التوحيد والإيمان وكل من لم يحصل له هذا الإخلاص لم يكن من أهل النجاة والسعادة كما قال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) .............. وقد شهد المسيح عليه السلام أن هذا هو أعظم وصية في الناموس فعبادة الله وحده لا شريك له وأن يكون الله أحب إلى العبد من كل ما سواه هو أعظم وصية وكلمة جاء بها المرسلون كموسى والمسيح ومحمد صلوات الله عليهم أجمعين وضد هذا هو الشرك الذي لا يغفره الله تعالى" . اهــ
بتصرف من "الجواب الصحيح" ، (3/291 ، 293) .

فتوحيد الأنبياء توحيد تغتذي به القلوب علما نافعا وعملا صالحا ، فله أثر في حركة الحياة خلافا لتوحيد الفلاسفة التجريدي فهو محض تعطيل للرب ، جل وعلا ، بتجريده من صفات كماله فلا يتصور الفلاسفة إلا وجودا مطلقا سلبوا عنه وصف الكمال الذاتي والفعلي فجعلوا عين الذات القدسية هي علة صدور هذا الكون وأداهم ذلك إلى جملة من اللوازم الباطلة فقالوا بقدم العالم ، فهو معلول يقترن بعلته وهي الذات البسيطة المجردة من الوصف ، والصحيح أن علة صدور هذا الكون هي الصفات الربانية الفاعلة من خلق وإبداع ........ إلخ ، والكلمات الكونية النافذة ، فــ : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، ولكن أنى لأولئك تلك الحقائق الشريفة وهم من أجهل الناس بالنبوات ؟! .

والله أعلى وأعلم .

يتبع إن شاء الله .

د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:37 PM
والشاهد أن السنة مطردة في كل أمة ، وكذلك الشأن في مكمن الداء عند الفريقين : الفلاسفة والمتكلمين قديما ، والعلمانيين حديثا ، فكلاهما قد عارض الوحي المنزل بقياس عقله أو وجدان ذوقه ، فله من فساد التصور العلمي وفساد الحكم الإرادي حظ وافر ، فالتلازم بينهما ، كما تقدم ، وثيق ، فلا يخلو فساد في التصور عن لازمه من الفساد في الحكم ، فالعلم منشأ الإرادة والعمل ، فإذا صح السبب صح المسبَّب الناشئ عنه ، وإذا فسد الأصل فسد الفرع تبعا ، فذلك جار على ما تقدم من اطراد القياس بدوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، فكل من خاض في الإلهيات بقياس يعارض خبر الوحي الصادق فإنه لا محالة هالك في أودية الضلال فيفسد تصوره العلمي لوصف الرب العلي ، جل وعلا ، فذلك من الغيب الذي لا ينال برسم الصحة إلا من مشكاة النبوة ، فخبرها في الإلهيات أصدق خبر ، والعقل لا يستقل بداهة بدركه ، ولو أدرك مجملاته فلا غنى له عن بيان النبوات ، وفي المقابل : كل من خاض في الحكميات بقياس يعارض حكم الوحي العادل ، كما قد وقع من أصحاب الشرائع الحادثة ، الذين استحسنوا بهوى العقل ووجدان الذوق أحكاما صيروها شرائع ملزمة ، ولو كانت لأحكام الرسالات ناقضة ، فقدموا قياسهم وذوقهم في الحكميات العملية على حكم الوحي العادل ، كما قدم الأولون قياسهم وذوقهم في الإلهيات الخبرية على خبر الوحي الصادق ، فمكمن الداء ، كما تقدم واحد ، فكل من تنكب طريق النبوات في علم أو عمل فهو ضال في التصور أو الحكم ، فلا تنال العصمة في العلوم الإلهية والشرائع الحكمية والسياسية والأخلاقية إلا من مشكاة النبوة ، وذلك ما يقض مضاجع العلمانيين في زماننا ، فرد الأمر إلى الوحي ينزع منهم سلطان التشريع بالأمر والنهي ، فإن الحكم إلا لله ، يقابلها إن الحكم إلا للشعب ، ولو رضي بما لم يرض به الرب ، جل وعلا ، فأي الفريقين أحق بالأمن ، وهل يصح في الأذهان الجمع بين النقيضين كمن يروم الجمع بين الفلسفة والنبوة ، كما صنع ابن سينا قديما ، ومن يروم الجمع بين الإسلام والعلمانية حديثا ، ولو كان حسن النية صادق الإرادة ، فلا يشفع له ذلك في الجمع بين النقيضين فذلك في الشرع باطل ، وفي العقل محال ، فلا بد من تحرير المرجعية ابتداء هل هي : للنبوة أو للعقل ، فإذا سلم المخالف بمرجعية النبوة ، فالأولى به أن يشتغل بتحصيل أدلتها التي بلغت حد التواتر ، كما تقدم ، فإذا صح الأصل وثبت بالدليل الجازم والبرهان القاطع فما بعده من الفروع له تبع ، فقد كفي المستدل مؤنته ، فأتباع الأنبياء عليهم السلام في أمان من الانحراف العلمي في العقائد ، والانحراف العملي في الشرائع .

ومقالة الفلاسفة ، من وجه آخر ، عند التدبر والنظر ، من جنس مقالة غلاة الصوفية كابن عربي وابن سبعين ، وكل من أسقط التكليف ببلوغ رتبة اليقين ! ، فما تلك إلا رتبة علمية منيفة لا تنال عندهم إلا بجملة من الرياضات العنيفة ! ، هي مما أحدثوه في باب الإرادات والأعمال ، فلم تأت بها شريعة ، فالمشقة البالغة تجلب التيسير ، فكيف بمن أدخلها على نفسه ابتداء ، فليست المشقة وسيلة أو غاية في شرائع الأنبياء عليهم السلام ، وإنما هي عارض يطرأ ، يبيح المحظور مع قيام الدليل الحاظر رخصة ، فيسقط التكليف أو بعضه إلى أن تزول المشقة فهي سبب الرخصة ، فترتفع الرخصة بارتفاعها ، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فذلك من يسر الشريعة التي حجر القوم واسعها ، فوقعوا في جملة من المحدثات العلمية والعملية ، التصورية والحكمية ، صيرتهم مضرب المثل في التنطع والتكلف ، ثم المروق من الديانة وهتك ستر الفضيلة بمباشرة الأفعال الشنيعة التي يتنزه عنها آحاد البشر فكيف بمن يزعم لنفسه الولاية والرشد ؟! ، فمن غلو بالإفراط في مباشرة الإرادات والأحوال إلى غلو في التفريط في الواجبات والأركان ، فالمتكلف مآله إلى السآمة والملل وإن كان ذا صبر وجلد ، فقد خرج عن ناموس الجبلة البشرية وقانون الفطرة الآدمية فرام الانخلاع من طور البشرية إلى طور الملائكية ، مع افتقار الملائكة إلى ربها ، جل وعلا ، وإن جبلت على التنزه عن الشهوات الآدمية ، فالقفر وصف ذاتي لكل الخلائق ، ولو ملائكة مقربين وحورا عينا في جنات النعيم ، فبقاؤها بإبقاء الرب ، جل وعلا ، لها ، فليس ذاتيا ، كبقائه ، جل وعلا ، فهو ، وحده جل وعلا ، المستغني عن الأسباب ، بل هي من جملة خلقه فكيف يفتقر إليها ؟! ، فكل العلل عن العلة الأولى وهي كلمته التكوينية النافذة ، أثر صفاته الإلهية الفاعلة ، كل العلل عن كلمته التكوينة النافذة قد صدرت ، فالفقر إلى العلل وصف المخلوق ، فهو يفتقر إلى الطعام والشراب والنوم والنكاح ....... إلخ ، فهي من جملة أسباب بقاء ذاته وصلاح آلاته ، ويفتقر إلى النبوة فهي السبب الرئيس في حفظ روحه ، فهي الروح الذي يحفظ للقلب حياته ، كما يحفظ سريان الروح اللطيف وامتزاجها بالبدن الحياة للبدن الكثيف ، فالمخلوق مفتقر إلى الخالق ، جل وعلا ، ليحفظ له الجسد بمدد الكون ، والقلب بمدد الشرع ، فالفرقان بين الغني لذاته جل وعلا ، والفقير لذاته : فرقان ظاهر لا يروم إبطاله بالانخلاع من طور البشرية إلا من تأثر بالمقالات الفلسفية الباطلة والطرائق الرياضية الغالية فعندهم أن الإنسان إذا : "زهد في الدنيا وأعرض عن ملذاتها ، وانقطع للعبادة والذكر على طريقتهم ، فإن الله ، عز وجل ، يوصله إلى حضرته وبالتالي فإنه يصبح في إمكانه خرق العادات ، وإظهار الكرامات ، فقد كان الهدف الأسمى ، والغاية القصوى التي يتسابق المتصوفة إلى تحقيقها هي الوصول إلى الحضرة الإلهية ، وكان الطريق إلى ذلك ، هو ما تمثل في نظرتهم إلى الحياة من استهانة بها وإعراض عن ملذاتها ، واحتقار للسعي فيها" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/458) .

فيزعم أصحاب هذه الرياضات الغالية أن فيها تهذيبا للنفوس لتتلقى العلوم الإلهية ، بلا معلم ، وذلك ما اصطلح الصوفية في طبقاتهم المتأخرة على تسميته بالحقيقة في مقابل الشريعة ، فصارت العلوم عندهم : علوم شريعة ظاهرة هي الأدنى ، وعلوم حقيقة هي الأعلى ، فالأولى علوم التقليد المحض لمن مات من أهل الشرع الظاهر فهي عندهم مئنة من غلظ النفس وكثافة الطبع ! ، والثانية علوم الاجتهاد في تحصيل العلم الإلهي بلا واسطة ، وأي تعد على مقام النبوة أعظم من ذلك ؟! .
فقد : "تساوت في نظرهم شتى العلوم المعروفة في عهدهم ، من دينية ولسانية وعقلية وغربية ، فاعتبروا الاشتغال بها انصرافا عن أقدس واجب يقف عليه الإنسان حياته وهو العبادة والذكر والتهجد فهاجموها علما علما" . اهــ
بتصرف يسير من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/471) .

فانقسمت العلوم عندهم إلى قسمين : "علم الظاهر أو علم الشريعة ، وعلم الباطن أو علم الحقيقة ، فأهملوا علوم الشريعة ، ولم يهتموا بها ، لأنها عندهم من علوم الظاهر ، التي لا تؤدي بزعمهم إلى الوصول إلى الحضرة ، كما هو شأن علم الباطن . ويسمون العلماء بحملة الشريعة ويسمون أنفسهم بحملة الحقيقة .......... فلا يشترط في أخذ تلك الطرق ، (أي : الطرق الصوفية فجنس تحملهم لها من جنس تحمل العلوم اللدنية التي لا يشترط فيها ضبط أو عدالة ......... إلخ ، وإنما يشترط فيها فقط محض الولايبة بمفهومها الصوفي المنحرف الذي يصير المجروحين عدولا بل وأولياء تتلقى عنهم رسوم العلم والعمل !) ، فلا يشترط في أخذ تلك الطرق بأسانيدها : عدالة أو ضبط ، فالمتصوفة كلهم عدول ! ، بل إنهم لا ينظرون إلى مثل تلك الشروط التي اعتنى بها المحدثون من علماء الظاهر ، أما علم الباطن فالكشف والتجلي والوصول تغني فيه عن أي تعديل ، وتستر كل جرح ونقص" . اهــ
بتصرف من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/473 ، 483) .

فذلك الانحراف العلمي يوازي انحراف الفلاسفة العلمي فقد غلوا في العقل كمصدر من مصادر المعرفة اليقينية ، كما غلت الصوفية في الذوق والكشف كمصدر من مصادر المعرفة اليقينية ، فالفساد في التصور في مقال الفلاسفة أظهر ، والفساد في الإرادة في مقالة المتصوفة أظهر ، وإن لم تخل مقالة الفلاسفة من انحراف عملي ، ولم تخل في المقابل مقالة المتصوفة من انحراف علمي ، فلكليهما من فساد التصور والحكم قسط وافر ، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين قوى الباطن العلمية وقوى الظاهر العملية : صحة وفسادا ، فالأولى : منشأ الإرادات ، والثانية : تأويل التصورات ، فمتى صح التصور في الذهن صح الحكم في الخارج ، ومتى فسد الأول فسد الثاني لزوما .

وكان الذكر المحدث وسيلة تحصيل العلوم اللدنية والقوى الإرادية التي تخرق لأجلها نواميس الكون ، فلم يرع القوم لسنن الكون الربانية إلا ولا ذمة ! ، فــ : "قد اشتد المتصوفة في الغلو والاعتقاد في الذكر ، وقالوا : إن الذكر : (يسلم الذاكر إلى حضرة الله ، فيضحى الحق سمعه وبصره وكل قواه ، فينبثق العلم في نفسه ، ويزايله الشك في أمره ، ويصبح باتصاله بالله قويا بعد ضعف ، آمنا بعد خوف ، بل تتسع قدرته حتى تتجاوز قوانين الكون ونواميس الطبيعة ومنطق العقل ! هذه أوهام تمثلت في خواطر هؤلاء العجزة الذي أعوزهم العيش على ما يحبون ، وجهلوا "الاتصال العلمي" الذي يربط بين المعلولات وعللها ، فتصوروا نواميس الكون على الوجه الذي يشتهون)" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/496 ، 497) .

وذلك الانحراف العملي بالغلو في طرائق العبادة والرياضة يضارع انحراف الفلاسفة في هذا الباب ، فكانت الرياضات الغالية سمة رئيسة في طريقتهم في تحصيل العلم الذي جعلوه في حد ذاته غاية فيحصل للنفس كمالها بمجرد حصول العلم وإن لم يشفع بلازمه في الخارج من العمل بالشرع امتثالا للأمر والنهي فتجد غلاة الفريقين قد خرقوا ناموس الشرع ، الأولون : بزعم الوصول إلى رتبة اليقين المزعوم التي يرفع فيها التكليف عن الشيخ أو الولي الواصل ! ، والآخرون : بزعم الاستغناء عن التهذيب فنفوسهم قد حصل لها من الكمال ما استغنت به عن تهذيب الشرع برسم الأمر والنهي فذلك مما يلائم عامة المكلفين ممن لم يبلغوا رتبة التحقيق التي بلغها الفلاسفة ، فالتميز عن سائر المكلفين ، والتعالي على أحكام الشريعة بزعم أنها مما يليق بالعوام المقلدة ، لا خواص العارفين بحقائق الأمور وأسرار الشرائع ومعادن الكمال من العلوم التي جوزوا نيلها من غير طريق النبوة فإسنادهم لا ينتهي إليها ، وذلك مئنة من ضلال مبين ، فإن هذا الباب لا تنال فيه السعادة في الأولى ، ولا ترام فيه النجاة في الآخرة إلا من طريق النبوة التي حاد عنها كلا الفريقين ، فمنهم من قدم هواه ، ومنهم من قدم ذوقه ، ومنهم من غلا في قياس عقله ومنهم من غلا في وجدان نفسه ، فالانحراف ، كما تقدم ، مزيج من تصور فاسد في الذهن لم يستند فيه أصحابه إلى نص الوحي ، وحكم باطل لم يستند فيه أصحابه إلى حكم الشرع ، فضلوا في العلم والعمل ، في التصور والإرادة معا .

وكذلك الشأن في السماع فهو من الملامح الرئيسة في طريقة الفلاسفة والمتصوفة في تهذيب النفوس وترقيقها ، فبه يحصل للنفس نوع تهذيب يصيرها أهلا لتقلي العلوم ، فتلطف بموارد السماع وتخلص من الكثافة والبلادة لتصير محلا قابلا للفيض الإلهي عن طريق الدخول على الحضرة الإلهية ! ، أو التلقي عن العقل الكلي أو العقل الفعال ! ، فلكل ، كما تقدم ، طرائقه في تحصيل العلوم ، وكلها تباين النبوة فلا تنتهي إليها ، بل إنها تضارعها وتضاهيها شأنها في ذلك شأن كل مقالة أو رياضة حادثة ، فما هي إلا بدعة يضاهي أصحابها الطريقة المشروعة في القول أو العمل .


ولذلك كان القدح في النبوات تصريحا أو تلميحا : سمة رئيسة في مقالات الفلاسفة وغلاة الصوفية والباطنية فكل من جوز حصول النجاة بسلوك سبيل يباين سبيل النبوات فرارا من التقليد زعم ! ، فهو ضال في العلم والعمل ، وما تقليد النبوات المعصومة ، لو تدبر إلا عين الاجتهاد ، فالعصمة في اتباع المعصوم ، فلا يصدر المعتصم بحبل النبوة : حبل الله من الكتاب المنزل ، لا يصدر إلا عن خبرها تصديقا وحكمها امتثالا .

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب : وجه الشبه بين التجريد الفلسفي والتعطيل الجهمي والتأمل الصوفي ، والتنظير العلماني ، فكلها مئنة من ازدراء الوحي ، والعلماني تحديدا بوصفه العضو الأبرز في هذه العصابة في زماننا ! ، لا يملك حلولا فاعلة لأزمات المجتمعات ، لو سلم بأن تنظيره صحيح ، فكيف وتنظيره ابتداء باطل ، فقد جمع بين المفسدتين ، فقوته العلمية فاسدة بفساد مستمده ، وقوته العملية فاسدة بفساد تأويل تصوره في الخارج فهو فاسد ابتداء ، كما تقدم ، فكيف لأصل فاسد أن ينتج فرعا صالحا وثمرا نافعا ؟! ، فإنك لا تجني من الشوك العنبَ .

ومن ذلك أيضا : الاقتران بين الفلسفة والتصوف في مسالك المتأخرين على تفاوت بينهم في ذلك فليس جنوح فلاسفة الاتحادية كجنوح فلاسفة غيرهم من الصوفية :
فــ : "في هذ الفترة التي ندرسها ، (وهي القرنان : 13 و14 الهجريان اللذان عني صاحب : "الانحرافات العقدية والعلمية" بدراسة وجوه الانحراف فيهما في رسالته) ، ازداد الأمر سوءا بعكوف العلماء على مؤلفات هذه التيارات ، (أي : الفلسفية) ، لا لينتقدوها ، بل ليضعوا عليها الحواشي والشروح والتقريرات ، ويزيدوا في تعقيدها ونشرها بين المسلمين .
ولم يكن هناك بد للعلماء البارزين في ذلك العصر من الاحتفاء بعلوم الكلام والمنطق والفلسفة ، فبذلك يتصدر في الدروس والوظائف ، ويتفوق على الأقران ، ويكون الظهور والبروز" . اهــ
بتصرف من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/248) .

فاجتمع في المؤسسات الدينية التعليمية العريقة : رسوم الفلسفة والكلام في العقائد والتصورات ، ورسوم التقليد بل والتعصب المذهبي في الفقه ، ورسوم التصوف في الأحوال والإرادات ، فصار يقال في مصر : على عقد الأشعري رحمه الله في العقائد وهو الطور الكلامي في حياته والذي ينتسب إليه عموم المتكلمين في زماننا مع أنه قد ثبت رجوعه عنه أخيرا إلى مذهب السلف : أهل السنة الخلص ، وعلى فقه الشافعي ، وعلى طريقة فلان أو فلان من أئمة أهل الطريق ، وصار يقال في المغرب : على عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد ، رحم الله الجميع ، فتلك النسبة الثلاثية في العقائد والشرائع والأحوال قد استبدلت بطريقة السلف التي تميزت بالتلائم بين أجزائها فهي طريقة واحدة مستمدها واحد في العلم والعمل والحال الوجداني ، في التصور والحكم الشرعي والسياسي والمسلك الزهدي .

ومن مظاهر ذلك : لجوء الفلاسفة في تخريج مقالاتهم الباطلة إلى حقائق التصوف من شهود وفناء ....... إلخ : فحصل التناغم بين الفريقين : فالفلسفة لا تستغني عن الصوفية في تقريراتها الإرادية ومسالكها الزهدية ، والصوفية لا تستغني عن الفلسفة في نظراتها وتأملاتها التجريدية .

ومما تجد الإشارة إليه في هذا الباب أيضا :
علوم التأويل عند الفلاسفة والمتكلمين فهي مئنة من فساد قوة التصور ، وعلوم الذوق والكشف والتأثير عند الصوفية ، فهي عندهم في مقابل علوم الشريعة عند أهل الظاهر ، فيتفاوت التكليف بتفاوت الرتبة فلا يستوي المحجوب عن الحضرة فلما تَرِّق نفسه وتصف بعد لترتقي في درجات الولاية فتصير أهلا للدخول على الحضرة الإلهية وذلك ملمح رئيس من ملامح التجريد الفلسفي ، فللنظار باع طويل في الرياضات الصوفية بل هم أصل من أصول الرهبانية والتصوف ، فالرواقية الزهدية لم تظهر إلا في المجتمعات التي عنيت بعلوم الحكمة والفلسفة وأعرضت عن علوم الوحي النازل الذي تستصلح به القوى العلمية التصورية ، والشرع الحاكم الذي تستصلح به القوى العملية الإرادية ، فكانت رد فعل غال للأبيقورية الشهوانية التي أوغل فيها اليونان ومن بعدهم : الرومان ، وظهرت في مجتمعات أخرى فكان ظهور بوذا بمذهبه التأملي التجريدي مع اقتران ذلك بفنون غالية من الرياضة ، فإقلال من الطعام يكاد يهلك بدن صاحبه ، فلن ينطلق الروح اللطيف من قيد البدن الكثيف إلا بمباشرة أسباب هلاك البدن وتلفه فلا يجتمع بدن صحيح مع روح صحيح بل لا بد من إتلاف أحدهما استبقاء للآخر ! ، مع أن الرب ، جل وعلا ، قد جمع بينهما فسرت الروح مادة الحياة في جسد الطين برسم النفخ فدبت فيها الحياة بإذن الرب ، جل وعلا ، فهو الخالق للروح والجسد ، فاجتمع في المتأخرين رسوم التجريد الفلسفي والصوفي معا ، فجاءت العلمانية الحديثة رد فعل غال آخر ، وإن اقتبست من الفلسفة نظرتها التجريدية فلا حقيقة لها في الخارج فكثير من العلمانيين ، بل وربما أغلبيتهم الساحقة إلا من غرر به فلم يفقه حقيقة المقالة فظن جواز الجمع بينها وبين الوحي ، وذلك جمع بين نقيضين ، فهو من جنس اجتماع علوم الفلسفة والوحي ، أو علوم الشريعة والحقيقة التي زعمها المتصوفة حقيقة في الخارج ، وما هي إلا محض وساوس فهي فرع على تنزلات الشياطين على كل أفاك أثيم ، فكذلك لمة الشيطان من الخارج وهاتف الشر في قلب المكلف مع إعراضه عن طلب أسباب الهداية بل وأنفته وإزدرائه لذلك ، فــ : (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، فهي سبب لكل فساد في التصور والحكم كما قد وقع من العلمانيين وأصحاب المذاهب والمقالات الأرضية الحادثة ، فإفراط في تقديس العقل برسم الاعتزال فلهم منه حظ وافر ، وإن لم يتلبسوا بأصوله فقد اندثر أكثرها كمذهب محرر ففشا في مقالات الفرق المنحرفة والمذاهب المصطنعة ، وتفريط في المقابل ، بل وإزدراء ، لمقالة النبوة المؤيدة بالوحي الصحيح والقياس الصريح ، فنقلها مصدق جار على أصول الرواية الصحيحة ، وحكمها محقق جار على أصول الدراية الصريحة ، فذلك وجه شبه آخر بين الفلسفة والعلمانية ، فمعارضة النقل بالعقل والإيغال في مقالات التجريد التصوري دون أثر خارجي ، فالقوم قديما : منظرون مشائون ، وحديثا : منظرون قاعدون في الغرف المكيفة والقاعات المرطَّبة ، فلا يدركون من الشرع أو الواقع ما يحصل به الحكم الصحيح ، فلا غرو أن تصادم مقالاتهم الباطلة عقول وفطر عموم المكلفين ، فضلا عن خصوص الراسخين من الربانيين .

وتجريد الفلسفة لم يسلم منه الإيمان ، فقد تأثر أهل الإرجاء الذين حدوا الإيمان بمطلق التصديق ، تأثروا بطرائق الفلاسفة في التجريد ، فالإنسان يكاد : "يصدم من أول وهلة حين يطالع ما كتبه المرجئة من المتكلمين حول حقيقة الإيمان ، (وما من شك أن هذا الفكر كان في مبدئه عدوى من الفلسفة والمنطق البعيدين عن روح هذا الدين ، وأنه كان عند علماء المرجئة الأوائل مجرد "أفكار" تجريدية تدور في "الأبراج العاجية" ولا تتصل بالواقع)" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/123) .

والنظار معترفون بأنه لا يمكن التمييز بين المحدود وبقية الأنواع من كل وجه ، فالحد الصحيح ما يحصل به الفرقان بين المحدود وبقية الأفراد ، وإن لم يقع به تعيين حقيقة المعرف من كل وجه ، فغايته أن يقع به التمايز بين الماهيات في الخارج ، فالمبالغة في تجريد الحقائق مفض إلى التعطيل ، وذلك ما عيب على حدود المناطقة ومن تأثر بهم من أصحاب المقالات وأصحاب الفنون الذين استعملوا قواعد المنطق في تعريفاتهم ، فوقع لهم نوع مبالغة في حد الحقائق في الخارج ، ولو كانت واضحة يدركها العقل ضرورة ، فلم تزدها الحدود إلا إبهاما ، فإيضاح الواضحات من أعظم المشكلات ، فهو بمنزلة تحصيل الحاصل ، فتأثر بهم من تأثر من أصحاب المقالات ، فأهل الإرجاء قد تأثروا بهم في حد الإيمان بالتصديق المجرد وذلك أمر ، كما يقول بعض المنحققين ، يعسر الفصل بينه وبين المعرفة المحضة التي لا يثبت بها عقد إيمان أو إسلام ، فقد ثبتت لإبليس ، فهو من أعرف العارفين لرب العالمين ، جل وعلا ، فلم تغن عنه شيئا ، فكذلك التصديق المجرد فلا يقرنه صاحبه بالإقرار والإذعان والانقياد ، وما يلزم ذلك ضرورة من عمل القلب إرادة ، وعمل الظاهر ، فمنه القول باللسان ، ومنه الفعل بالأركان ، فالإيمان حقيقة مركبة من العقد والقول والفعل ، لا محض عقد مجرد كما حده أصحاب مقالة الإرجاء تأثرا بطرائق المناطقة في إيراد المعرفات الذهنية في حدود تجريدية ، يروم أصحابها تجريد الحقيقة من كل وجه ، فذلك ، كما تقدم ، مفض إلى التعطيل في مسائل الأسماء والصفات والإيمان ، بل وفي سائر مسائل العلوم ، فالمبالغة في التجريد لا تفي بالغرض ، فمراد المعرِّف تبيين حقيقة المعرَّف في الخارج ، فإذا بالغ في تجريدها انتفت من الخارج وصارت محض تصور ذهني ، بل وربما محض فرض عقلي فلا يحصل بمثل ذلك بيان لحقائق الأشياء في الخارج سواء أكانت ذوات أم أوصاف قائمة بها أم معان كالإيمان والعلم .......... إلخ .

وأما النبوة فهي بمعزل عن هذا الجدل العقيم فتقدم الحقائق في أبسط قالب لفظي ، وهو مع ذلك أعظم أثرا في القلب والوجدان من حدود لسان اليونان ، فلسان العرب أذكى في بيانه وإيجازه ، وأزكى في أثره في القلب ، فالإيمان في التنزيل قد بين بلازمه ومآله ، فــ : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، فعطف اللازم على الملزوم من جهة ترتيب الحقائق في الذهن فتصديق مشفوع بالإقرار أولا به يصح التصور فهو منشأ الحكم ، ثم عمل يصدقه في الخارج ، فهو تأويله ، وهو الحكم الذي يترتب عليه ضرورة ، فالحكم فرع على التصور ، كما تقدن ، وبيان لحقيقته بأثره النافع ، فــ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، و : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، ثم بيان له بمآله المحمود ، في الدنيا ، فــ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، وفي الآخرة ، فــ : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، فحدود التنزيل مثمرة تنتج في الباطن علما وإرادة ، وفي الظاهر قولا وفعلا ، فتكتمل حقيقة الإيمان التي اختزلها أهل الإرجاء في التصديق المجرد فلا أثر له في الخارج ، فذلك من الفصل الباهت بين الباطن بعلومه وإراداته والظاهر بأقواله وأفعاله .

والفلسفة بنظرتها التجريدية المثالية التي لا أثر لها في الخارج ، فهي محص تصورات ذهنية لكليات مجملة لا يحصل بدركها اكتمال لقوى العلم والعمل ، تلك الفلسفة لا جدوى من دراستها إلا على جهة النقد والنقض ، فلا يحصل بها تغيير ملموس في حياة الناس بل إنا لا تزيد الناظر فيها إلا حيرة فيضيع العمر والجهد في حل طلاسمها وتفسير غرائبها ، فــ : "لم تكن الفلسفة وعلم الكلام في يوم من الأيام دافعة إلى العمل الإيجابي المثمر ، (ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة ، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئا مما دفعتها العقيدة ، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمان ، وظلام الطريق . فــ : لا بد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة ، إذ إن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها ، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ............ ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها ، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها)" . اهــ
بتصرف نقلا عن : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/263) .

وهي ، أيضا ، مظنة تضييع العمر والجهد بالرد عليها بأصول المتكلمين فهي في حقيقتها ترجع إليها وتنتسب إليها ، ولو نسبة مجملة ، فــ : "إن مذهب السلف ذو علاقة بالأمة وبعقيدة المجتمع ، أما عقيدة المتكلمين من أهل السنة ، (بالمفهوم العام في مقابل التشيع ، فأهل السنة في مقابل الشيعة : مصطلح يعم كل طوائف المتكلمين بل ويدخل في حده المعتزلة مع مباينتهم لأهل السنة في أصولهم الكلية) ، فقد بقيت بين أسوار المدارس لا يعرف عنها المجتمع شيئا .......... فالمتكلمون في كتبهم المشهورة اشتغلوا بالرد على أفلاطون وأرسطو وآراء اليونان وآراء أخرى مذهبية فأضاعوا قومهم ......... وأبسط شيء للعوام أنهم يريدون ما وافق الكتاب والحديث ......... ولذا خسرت الأمة ، ولا سبب سوى إهمالها ، ففقدَ علماؤنا خصيصة تربية الأمة فأضاعوا المكانة وصاروا أجانب عنها ، أو أنهم غرباء لا يعرفونها ولا تعرفهم ومن زمن بعيد من يوم تكونت المدارس أهملنا عقيدة الأمة ، فصار لا يشترك فيها السواد الأعظم" . اهــ
بتصرف نقلا عن : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/268) .

فلا يحصل الرد الوافر ، والدحض الكامل لمقالة الفلاسفة إلا بأصول السلف الخالصة المحررة كما قد صنع المحققون من أمثال ابن تيمية رحمه الله .


وقد أدى التلبس بهذه المقالات الباطلة إلى ظهور المخالف بسيفه على أتباع الرسل عليهم فمناط الظهور لأتباع الأنبياء ، عليهم السلام ، تصديق خبر الوحي وامتثال حكمه ، فهما متلازمان لا ينفكان ، فعلم الباطن إذا صح فكان مقرونا بالتصديق والإقرار الجازم لا محض المعرفة التي تحصل لكثير من الجاحدين ، فــ : (جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) ، فلا يمكن أن يثبت الإيمان بمعرفة محضة أو تصديق مجرد ، فذلك مما ثبت لإبليس ، فهو من أعرف الناس بالله ، جل وعلا ، وإن لم يكن عالما ، فالعلم حقا : العلم المقرون بالخشية ، فيولد في القلب ضرورة : إرادة صحيحة ، برسم الرغبة فلازمها الفعل ومتعلقها وصف الجمال ، والرهبة فلازمها الكف ومتعلقها وصف الجلال ، وذلك نوع من أنواع الأدلة ، فمنها الذي يفيد العلم المجرد ، ومنها الذي يقترن بالحث والطلب والإرادة ، فيرد مقرونا بالترغيب حثا على الفعل ، والترهيب حضا على الترك ، فــ : "مما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان :
نوع يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه ، ونوع يحض مع ذلك على الرغبة فيه أو الرهبة منه .
فالأول : من جنس الخير المجرد .
والثاني : من جنس الحث والطلب والإرادة والأمر بالشيء والنهي عنه .
وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات أو حيوانات أو نبات ليس له فيها غرض لا حب ولا بغض فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني صديقه وولده ومحبوبه وماله وأهله وأهل دينه وفي المكان الفلاني عدوه ومبغضه ومن يقطع عليه الطريق ويقتله ويأخذ ماله" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/511) .

فالثاني يزيد على الأول : إرادة اقترنت بالعلم لتعلق قلبه بالمعلوم رغبة إن كان محبوبا ، ورهبة إن كان مكروها .

فإذا آمن أتباع الأنبياء ، عليهم السلام ، وحققوا لازم الإقرار والتصديق الجازم من الامتثال لحكم الرسالة ، فالظهور لهم بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان ، وإذا نكصوا فالظهور لعدوهم بالسيف والسنان دون حجة أو برهان ، فإنه لا برهان لأعداء الرسالات فهي مؤيدة بحجة النقل الصحيح الذي أنزله الرب ، جل وعلا ، والعقل الصريح الذي ركزه الرب ، جل وعلا ، في نفوس المكلفين ، فأنى لحجة داحضة من حجج الفلاسفة أو المتكلمين في الإلهيات ، أو المتشرعين أو العلمانيين الذين خاضوا في الحكميات نقضا بقياس عقولهم ، أنى لكل أولئك بحجة صحيحة صريحة سالمة من المعارضة تنقض حجة الرسالات الدامغة ، فالرسالة مؤيدة بالبرهان الخبري الصحيح ، الذي يفيد العلم المجرد والبرهان العقلي الصريح الذي يؤيد النقل الصحيح بالقياس الصريح ، والبرهان الحكمي العادل ، برسم الترغيب والترهيب ، فالحكم يتعلق بالإرادة فعلا وكفا ، والترغيب باعث الفعل ، والترهيب باعث الترك كما تقدم .

فإذا امتثل أتباع الأنبياء عليهم السلام ، سنن الرسالة ، فقاموا بها تصديقا وامتثالا ، فلهم الظهور والتمكين ، وإذا نكلوا ، فعليهم تدور الدوائر ، فــ : "ظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد فإن تابوا انتصروا على الكفار وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله وأظهرهم على المخالفين له فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/505) .

فظهر "بختنصر" على يهود ، فكان ذلك آية على صدق رسالة الكليم عليه السلام ، فإن يهود لما خالفت حكمه ، وغيرت عهده عوقبت بالسبي الأول على يد البابليين ، والثاني على يد الرومان ، فلو ظهروا على عدوهم مع مخالفتهم للحكم وتغييرهم للعهد ، لكان ذلك نقضا للقياس ، فالحكم قد وجد مع تخلف العلة ، فظهروا على عدوهم مع تخلف علة التصديق والامتثال ، فكيف يصح في الأذهان وجود اللازم الناشئ دون الملزوم المنشِئ ، فالقياس المطرد قاض بظهور البابليين والرومان على يهود ، وهو ما كان في السبي الأول والثاني ، وكذلك الشأن في الأمة الخاتمة ، فالسنة ، كما تقدم ، واحدة ، فهي مطردة في جميع النبوات ، ففي يوم أحد تخلفت العلة بمخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فتخلف الحكم ، فظهرت قريش على المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، فلم يشفع لهم تأويل ، ولم ينجهم وجدان النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين ظهرانيهم ، فتلك ، كما تقدم ، سنة جارية على جميع الأمم ، فلا تعارض سنة : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فهي في أهل مكة قد نزلت ، فكان العذاب يوم بدر لما أخرجوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يكن لهم من الاستغفار حظ ، فانتفت علل السلامة فكانت الهزيمة للجمع يوم بدر بعد الهجرة ، فذلك تأويل ما تقدم في مكة من خبر الوحي الصادق : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، فلما وجدت العلة يوم بدر فلم تكن ثم مخالفة للأمر بل طاعة برسم : "يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول: اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون" ، وجد الحكم فكان النصر الذي امتن به الرب ، جل وعلا ، فــ : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، ولما عدمت عدم لازمها فكانت المصيبة يوم أحد فجاء العتاب في محكم التنزيل : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فــ : "سنة الله التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله فإذا نقض الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/507) .



فكانت آية من آيات النبوة ، فلو نصروا مع المخالفة ، لكان ذلك نقضا لحجة الرسالة الخاتمة ، فاطرد القياس في حقهم كما اطرد في حق سائر الأمم ، فالسنة ، كما تقدم ، واحدة ، بل قد وقع تأويلها في الأعصار المتأخرة ، فظهر أعداء الرسالة الخاتمة على أتباعها ، وذلك ، أيضا ، مما قد أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فــ : "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" ، فبإدراك هذه السنة تزول الدهشة من حال أمة الإسلام في الماضي والحاضر ، فــ : "كيف تأتىّ للأمة التى ارتفعت إلى تلك القمم السامقة التى لم تسبقها إليها أمة فى التاريخ ولا أدركتها بعدها أمة فى التاريخ أن تتدنى إلى هذا الدرك من الضياع والذل والهوان والهبوط المسف الذى وصلت إليه اليوم والذى لا تكاد تدانيه أمة فى الواقع المعاصر" . اهــ من : "واقعنا المعاصر" ، والجواب هو : السنة المطردة التي يدور حكم العزة فيها مع علله وجودا وعدما كسائر الأحكام الشرعية والعقلية والعادية المطردة ، وفي حق هذه الأمة يطرد حكم العزة بحصول أسبابه ، ولا سبب لتقدم هذه الأمة وريادتها بل وسيادتها إلا التمسك بالوحي المنزل : تصديقا وامتثالا ، فبه ، وحده ، تتقدم في السياسة والحكم ، بل وفي العلم التجريبي المحض فالشريعة عليه تحض وبه تنوه ولأهله تكرم ، وتاريخ أمة الإسلام المضيء في مقابل واقعها المظلم خير شاهد على أن كل صلاح في الدين أو الدنيا ، في الحكم أو السياسة أو الاقتصاد ، في الحرب أو السلم ، لا يكون في حق هذه الأمة إلا بالسير على منهاج النبوة التي نازعتها المناهج الوضعية من فلسفات مترجمة ومقالات وشرائع ورياضات حادثة .

فاطردت السنة مرة ثالثة ورابعة ..... إلخ في كل واقعة بين أهل الحق وأهل الباطل ، فبقدر الاستمساك بالحق يكون الظهور على الخصم ، وبقدر النكول يكون ظهور الخصم ، فــ : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) ، فــ : "كذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا فإن أولئك لا يقول مطاعهم : إني نبي ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم وأيضا فلا عاقبة لهم بل الله يهلك الظالم بالظالم ثم يهلك الظالمين جميعا ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم ويبن ظهور بعض الكفار على المؤمنين أو ظهور بعضهم على بعض ......... فـ : ظهور محمد وأمته على أهل الكتاب اليهود والنصارى هو من جنس ظهورهم على المشركين عباد الأوثان وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل وظهور الكفار على المسلمين" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/506) .
فشتان ظهور النبوة الخاتمة بحجتها الدامغة وسيفها العادل ، وظهور بختنصر أو تيطس ..... إلخ من الطغاة الذين لا غرض لهم في هداية البشر ، وإنما سلطهم الرب ، جل وعلا ، على أتباع النبوات لما ضلوا السبيل ونكلوا عن محكم التنزيل ، بل ومنهم من كتم وبدل ، ولبس ودلس ، فــ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .


وكذلك الشأن في الإخبار بالمغيبات فإن النبوة تباين الفلسفة في هذا الباب ، فأخبار النبوة تتلقى من مشكاة الوحي ، فلا سبيل إلى دركها على حد اليقين الجازم إلا من طريق الرسول البشري الذي يتلقى الوحي كتابا وحكمة من الرسول الملكي ، فــ : "كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن" ، كما أثر عن حسان بن عطية ، رحمه الله ، فهي الصدق جزما والحق قطعا ، وأما أخبار الفلاسفة فهي كأخبار المتصوفة تتلقى من أوهام وخيالات ينتجها الغلو في الرياضات ، فيباشر أولئك العمل على جهة التهيئة للمحل ليتلقى الفيض من الرب ، جل وعلا ، أو من النفس الفلكية أو من العقل الفعال الذي خلق ما تحته من العوالم ! ......... إلخ ، فذلك مصدر تلقي النبوات ، وهذا مصدر تلقي الفلسفات ، وعلى العاقل أن يفاضل بينهما فيختار الأصح نقلا وعقلا ، لتحصل له السعادة والنجاة مطلوب كل العقلاء .

فــ : "كما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال ويقولون إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء ويقولون : النبوة مكتسبة لأن هذه صفتها ويقولون إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية وزعموا أنها اللوح المحفوظ ............. إلخ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/204) .

فالأولى : مقالة صح نقلها وارتضتها العقول الصريحة الكاملة ، والأخرى مقالة لا مستند لها من النبوة ، فأصحابها ، كما تقدم من أجهل الناس بالنبوات فليتهم لقحوا مقالتهم بمقالة النبوة ليحصل لها نوع تهذيب ، فهي مقالة مستعارة من لسان اليونان ألبسها بعض فلاسفة الإسلاميين ، كما يقول بعض المحققين ، كساء الشريعة ، فلم تغن عنها شيئا ، فالعبرة بالمعاني لا بالأسماء ، وهي ، مع ذلك ، مقالة تنقض أصول الاستدلال العقلي الصريح ، فاجتمع لها بطلان وإن شئت الدقة فقل عدم النقل وفساد العقل في مقابل ما للأولى من نقل صحيح وعقل صريح ، وهو ما تمتاز به مقالة الإسلام عند مقارنتها بأية مقالة أخرى علمية كانت كمقالة الفلاسفة والمتكلمين ، أو حكمية كمقالة العلمانيين ، أو رياضية كمقالة المتصوفة وأرباب الطريق .

والله أعلى وأعلم .

د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:37 PM
والشاهد أن السنة مطردة في كل أمة ، وكذلك الشأن في مكمن الداء عند الفريقين : الفلاسفة والمتكلمين قديما ، والعلمانيين حديثا ، فكلاهما قد عارض الوحي المنزل بقياس عقله أو وجدان ذوقه ، فله من فساد التصور العلمي وفساد الحكم الإرادي حظ وافر ، فالتلازم بينهما ، كما تقدم ، وثيق ، فلا يخلو فساد في التصور عن لازمه من الفساد في الحكم ، فالعلم منشأ الإرادة والعمل ، فإذا صح السبب صح المسبَّب الناشئ عنه ، وإذا فسد الأصل فسد الفرع تبعا ، فذلك جار على ما تقدم من اطراد القياس بدوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، فكل من خاض في الإلهيات بقياس يعارض خبر الوحي الصادق فإنه لا محالة هالك في أودية الضلال فيفسد تصوره العلمي لوصف الرب العلي ، جل وعلا ، فذلك من الغيب الذي لا ينال برسم الصحة إلا من مشكاة النبوة ، فخبرها في الإلهيات أصدق خبر ، والعقل لا يستقل بداهة بدركه ، ولو أدرك مجملاته فلا غنى له عن بيان النبوات ، وفي المقابل : كل من خاض في الحكميات بقياس يعارض حكم الوحي العادل ، كما قد وقع من أصحاب الشرائع الحادثة ، الذين استحسنوا بهوى العقل ووجدان الذوق أحكاما صيروها شرائع ملزمة ، ولو كانت لأحكام الرسالات ناقضة ، فقدموا قياسهم وذوقهم في الحكميات العملية على حكم الوحي العادل ، كما قدم الأولون قياسهم وذوقهم في الإلهيات الخبرية على خبر الوحي الصادق ، فمكمن الداء ، كما تقدم واحد ، فكل من تنكب طريق النبوات في علم أو عمل فهو ضال في التصور أو الحكم ، فلا تنال العصمة في العلوم الإلهية والشرائع الحكمية والسياسية والأخلاقية إلا من مشكاة النبوة ، وذلك ما يقض مضاجع العلمانيين في زماننا ، فرد الأمر إلى الوحي ينزع منهم سلطان التشريع بالأمر والنهي ، فإن الحكم إلا لله ، يقابلها إن الحكم إلا للشعب ، ولو رضي بما لم يرض به الرب ، جل وعلا ، فأي الفريقين أحق بالأمن ، وهل يصح في الأذهان الجمع بين النقيضين كمن يروم الجمع بين الفلسفة والنبوة ، كما صنع ابن سينا قديما ، ومن يروم الجمع بين الإسلام والعلمانية حديثا ، ولو كان حسن النية صادق الإرادة ، فلا يشفع له ذلك في الجمع بين النقيضين فذلك في الشرع باطل ، وفي العقل محال ، فلا بد من تحرير المرجعية ابتداء هل هي : للنبوة أو للعقل ، فإذا سلم المخالف بمرجعية النبوة ، فالأولى به أن يشتغل بتحصيل أدلتها التي بلغت حد التواتر ، كما تقدم ، فإذا صح الأصل وثبت بالدليل الجازم والبرهان القاطع فما بعده من الفروع له تبع ، فقد كفي المستدل مؤنته ، فأتباع الأنبياء عليهم السلام في أمان من الانحراف العلمي في العقائد ، والانحراف العملي في الشرائع .

ومقالة الفلاسفة ، من وجه آخر ، عند التدبر والنظر ، من جنس مقالة غلاة الصوفية كابن عربي وابن سبعين ، وكل من أسقط التكليف ببلوغ رتبة اليقين ! ، فما تلك إلا رتبة علمية منيفة لا تنال عندهم إلا بجملة من الرياضات العنيفة ! ، هي مما أحدثوه في باب الإرادات والأعمال ، فلم تأت بها شريعة ، فالمشقة البالغة تجلب التيسير ، فكيف بمن أدخلها على نفسه ابتداء ، فليست المشقة وسيلة أو غاية في شرائع الأنبياء عليهم السلام ، وإنما هي عارض يطرأ ، يبيح المحظور مع قيام الدليل الحاظر رخصة ، فيسقط التكليف أو بعضه إلى أن تزول المشقة فهي سبب الرخصة ، فترتفع الرخصة بارتفاعها ، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما ، فذلك من يسر الشريعة التي حجر القوم واسعها ، فوقعوا في جملة من المحدثات العلمية والعملية ، التصورية والحكمية ، صيرتهم مضرب المثل في التنطع والتكلف ، ثم المروق من الديانة وهتك ستر الفضيلة بمباشرة الأفعال الشنيعة التي يتنزه عنها آحاد البشر فكيف بمن يزعم لنفسه الولاية والرشد ؟! ، فمن غلو بالإفراط في مباشرة الإرادات والأحوال إلى غلو في التفريط في الواجبات والأركان ، فالمتكلف مآله إلى السآمة والملل وإن كان ذا صبر وجلد ، فقد خرج عن ناموس الجبلة البشرية وقانون الفطرة الآدمية فرام الانخلاع من طور البشرية إلى طور الملائكية ، مع افتقار الملائكة إلى ربها ، جل وعلا ، وإن جبلت على التنزه عن الشهوات الآدمية ، فالقفر وصف ذاتي لكل الخلائق ، ولو ملائكة مقربين وحورا عينا في جنات النعيم ، فبقاؤها بإبقاء الرب ، جل وعلا ، لها ، فليس ذاتيا ، كبقائه ، جل وعلا ، فهو ، وحده جل وعلا ، المستغني عن الأسباب ، بل هي من جملة خلقه فكيف يفتقر إليها ؟! ، فكل العلل عن العلة الأولى وهي كلمته التكوينية النافذة ، أثر صفاته الإلهية الفاعلة ، كل العلل عن كلمته التكوينة النافذة قد صدرت ، فالفقر إلى العلل وصف المخلوق ، فهو يفتقر إلى الطعام والشراب والنوم والنكاح ....... إلخ ، فهي من جملة أسباب بقاء ذاته وصلاح آلاته ، ويفتقر إلى النبوة فهي السبب الرئيس في حفظ روحه ، فهي الروح الذي يحفظ للقلب حياته ، كما يحفظ سريان الروح اللطيف وامتزاجها بالبدن الحياة للبدن الكثيف ، فالمخلوق مفتقر إلى الخالق ، جل وعلا ، ليحفظ له الجسد بمدد الكون ، والقلب بمدد الشرع ، فالفرقان بين الغني لذاته جل وعلا ، والفقير لذاته : فرقان ظاهر لا يروم إبطاله بالانخلاع من طور البشرية إلا من تأثر بالمقالات الفلسفية الباطلة والطرائق الرياضية الغالية فعندهم أن الإنسان إذا : "زهد في الدنيا وأعرض عن ملذاتها ، وانقطع للعبادة والذكر على طريقتهم ، فإن الله ، عز وجل ، يوصله إلى حضرته وبالتالي فإنه يصبح في إمكانه خرق العادات ، وإظهار الكرامات ، فقد كان الهدف الأسمى ، والغاية القصوى التي يتسابق المتصوفة إلى تحقيقها هي الوصول إلى الحضرة الإلهية ، وكان الطريق إلى ذلك ، هو ما تمثل في نظرتهم إلى الحياة من استهانة بها وإعراض عن ملذاتها ، واحتقار للسعي فيها" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/458) .

فيزعم أصحاب هذه الرياضات الغالية أن فيها تهذيبا للنفوس لتتلقى العلوم الإلهية ، بلا معلم ، وذلك ما اصطلح الصوفية في طبقاتهم المتأخرة على تسميته بالحقيقة في مقابل الشريعة ، فصارت العلوم عندهم : علوم شريعة ظاهرة هي الأدنى ، وعلوم حقيقة هي الأعلى ، فالأولى علوم التقليد المحض لمن مات من أهل الشرع الظاهر فهي عندهم مئنة من غلظ النفس وكثافة الطبع ! ، والثانية علوم الاجتهاد في تحصيل العلم الإلهي بلا واسطة ، وأي تعد على مقام النبوة أعظم من ذلك ؟! .
فقد : "تساوت في نظرهم شتى العلوم المعروفة في عهدهم ، من دينية ولسانية وعقلية وغربية ، فاعتبروا الاشتغال بها انصرافا عن أقدس واجب يقف عليه الإنسان حياته وهو العبادة والذكر والتهجد فهاجموها علما علما" . اهــ
بتصرف يسير من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/471) .

فانقسمت العلوم عندهم إلى قسمين : "علم الظاهر أو علم الشريعة ، وعلم الباطن أو علم الحقيقة ، فأهملوا علوم الشريعة ، ولم يهتموا بها ، لأنها عندهم من علوم الظاهر ، التي لا تؤدي بزعمهم إلى الوصول إلى الحضرة ، كما هو شأن علم الباطن . ويسمون العلماء بحملة الشريعة ويسمون أنفسهم بحملة الحقيقة .......... فلا يشترط في أخذ تلك الطرق ، (أي : الطرق الصوفية فجنس تحملهم لها من جنس تحمل العلوم اللدنية التي لا يشترط فيها ضبط أو عدالة ......... إلخ ، وإنما يشترط فيها فقط محض الولايبة بمفهومها الصوفي المنحرف الذي يصير المجروحين عدولا بل وأولياء تتلقى عنهم رسوم العلم والعمل !) ، فلا يشترط في أخذ تلك الطرق بأسانيدها : عدالة أو ضبط ، فالمتصوفة كلهم عدول ! ، بل إنهم لا ينظرون إلى مثل تلك الشروط التي اعتنى بها المحدثون من علماء الظاهر ، أما علم الباطن فالكشف والتجلي والوصول تغني فيه عن أي تعديل ، وتستر كل جرح ونقص" . اهــ
بتصرف من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/473 ، 483) .

فذلك الانحراف العلمي يوازي انحراف الفلاسفة العلمي فقد غلوا في العقل كمصدر من مصادر المعرفة اليقينية ، كما غلت الصوفية في الذوق والكشف كمصدر من مصادر المعرفة اليقينية ، فالفساد في التصور في مقال الفلاسفة أظهر ، والفساد في الإرادة في مقالة المتصوفة أظهر ، وإن لم تخل مقالة الفلاسفة من انحراف عملي ، ولم تخل في المقابل مقالة المتصوفة من انحراف علمي ، فلكليهما من فساد التصور والحكم قسط وافر ، على ما اطرد مرارا من التلازم الوثيق بين قوى الباطن العلمية وقوى الظاهر العملية : صحة وفسادا ، فالأولى : منشأ الإرادات ، والثانية : تأويل التصورات ، فمتى صح التصور في الذهن صح الحكم في الخارج ، ومتى فسد الأول فسد الثاني لزوما .

وكان الذكر المحدث وسيلة تحصيل العلوم اللدنية والقوى الإرادية التي تخرق لأجلها نواميس الكون ، فلم يرع القوم لسنن الكون الربانية إلا ولا ذمة ! ، فــ : "قد اشتد المتصوفة في الغلو والاعتقاد في الذكر ، وقالوا : إن الذكر : (يسلم الذاكر إلى حضرة الله ، فيضحى الحق سمعه وبصره وكل قواه ، فينبثق العلم في نفسه ، ويزايله الشك في أمره ، ويصبح باتصاله بالله قويا بعد ضعف ، آمنا بعد خوف ، بل تتسع قدرته حتى تتجاوز قوانين الكون ونواميس الطبيعة ومنطق العقل ! هذه أوهام تمثلت في خواطر هؤلاء العجزة الذي أعوزهم العيش على ما يحبون ، وجهلوا "الاتصال العلمي" الذي يربط بين المعلولات وعللها ، فتصوروا نواميس الكون على الوجه الذي يشتهون)" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/496 ، 497) .

وذلك الانحراف العملي بالغلو في طرائق العبادة والرياضة يضارع انحراف الفلاسفة في هذا الباب ، فكانت الرياضات الغالية سمة رئيسة في طريقتهم في تحصيل العلم الذي جعلوه في حد ذاته غاية فيحصل للنفس كمالها بمجرد حصول العلم وإن لم يشفع بلازمه في الخارج من العمل بالشرع امتثالا للأمر والنهي فتجد غلاة الفريقين قد خرقوا ناموس الشرع ، الأولون : بزعم الوصول إلى رتبة اليقين المزعوم التي يرفع فيها التكليف عن الشيخ أو الولي الواصل ! ، والآخرون : بزعم الاستغناء عن التهذيب فنفوسهم قد حصل لها من الكمال ما استغنت به عن تهذيب الشرع برسم الأمر والنهي فذلك مما يلائم عامة المكلفين ممن لم يبلغوا رتبة التحقيق التي بلغها الفلاسفة ، فالتميز عن سائر المكلفين ، والتعالي على أحكام الشريعة بزعم أنها مما يليق بالعوام المقلدة ، لا خواص العارفين بحقائق الأمور وأسرار الشرائع ومعادن الكمال من العلوم التي جوزوا نيلها من غير طريق النبوة فإسنادهم لا ينتهي إليها ، وذلك مئنة من ضلال مبين ، فإن هذا الباب لا تنال فيه السعادة في الأولى ، ولا ترام فيه النجاة في الآخرة إلا من طريق النبوة التي حاد عنها كلا الفريقين ، فمنهم من قدم هواه ، ومنهم من قدم ذوقه ، ومنهم من غلا في قياس عقله ومنهم من غلا في وجدان نفسه ، فالانحراف ، كما تقدم ، مزيج من تصور فاسد في الذهن لم يستند فيه أصحابه إلى نص الوحي ، وحكم باطل لم يستند فيه أصحابه إلى حكم الشرع ، فضلوا في العلم والعمل ، في التصور والإرادة معا .

وكذلك الشأن في السماع فهو من الملامح الرئيسة في طريقة الفلاسفة والمتصوفة في تهذيب النفوس وترقيقها ، فبه يحصل للنفس نوع تهذيب يصيرها أهلا لتقلي العلوم ، فتلطف بموارد السماع وتخلص من الكثافة والبلادة لتصير محلا قابلا للفيض الإلهي عن طريق الدخول على الحضرة الإلهية ! ، أو التلقي عن العقل الكلي أو العقل الفعال ! ، فلكل ، كما تقدم ، طرائقه في تحصيل العلوم ، وكلها تباين النبوة فلا تنتهي إليها ، بل إنها تضارعها وتضاهيها شأنها في ذلك شأن كل مقالة أو رياضة حادثة ، فما هي إلا بدعة يضاهي أصحابها الطريقة المشروعة في القول أو العمل .


ولذلك كان القدح في النبوات تصريحا أو تلميحا : سمة رئيسة في مقالات الفلاسفة وغلاة الصوفية والباطنية فكل من جوز حصول النجاة بسلوك سبيل يباين سبيل النبوات فرارا من التقليد زعم ! ، فهو ضال في العلم والعمل ، وما تقليد النبوات المعصومة ، لو تدبر إلا عين الاجتهاد ، فالعصمة في اتباع المعصوم ، فلا يصدر المعتصم بحبل النبوة : حبل الله من الكتاب المنزل ، لا يصدر إلا عن خبرها تصديقا وحكمها امتثالا .

ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الباب : وجه الشبه بين التجريد الفلسفي والتعطيل الجهمي والتأمل الصوفي ، والتنظير العلماني ، فكلها مئنة من ازدراء الوحي ، والعلماني تحديدا بوصفه العضو الأبرز في هذه العصابة في زماننا ! ، لا يملك حلولا فاعلة لأزمات المجتمعات ، لو سلم بأن تنظيره صحيح ، فكيف وتنظيره ابتداء باطل ، فقد جمع بين المفسدتين ، فقوته العلمية فاسدة بفساد مستمده ، وقوته العملية فاسدة بفساد تأويل تصوره في الخارج فهو فاسد ابتداء ، كما تقدم ، فكيف لأصل فاسد أن ينتج فرعا صالحا وثمرا نافعا ؟! ، فإنك لا تجني من الشوك العنبَ .

ومن ذلك أيضا : الاقتران بين الفلسفة والتصوف في مسالك المتأخرين على تفاوت بينهم في ذلك فليس جنوح فلاسفة الاتحادية كجنوح فلاسفة غيرهم من الصوفية :
فــ : "في هذ الفترة التي ندرسها ، (وهي القرنان : 13 و14 الهجريان اللذان عني صاحب : "الانحرافات العقدية والعلمية" بدراسة وجوه الانحراف فيهما في رسالته) ، ازداد الأمر سوءا بعكوف العلماء على مؤلفات هذه التيارات ، (أي : الفلسفية) ، لا لينتقدوها ، بل ليضعوا عليها الحواشي والشروح والتقريرات ، ويزيدوا في تعقيدها ونشرها بين المسلمين .
ولم يكن هناك بد للعلماء البارزين في ذلك العصر من الاحتفاء بعلوم الكلام والمنطق والفلسفة ، فبذلك يتصدر في الدروس والوظائف ، ويتفوق على الأقران ، ويكون الظهور والبروز" . اهــ
بتصرف من : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/248) .

فاجتمع في المؤسسات الدينية التعليمية العريقة : رسوم الفلسفة والكلام في العقائد والتصورات ، ورسوم التقليد بل والتعصب المذهبي في الفقه ، ورسوم التصوف في الأحوال والإرادات ، فصار يقال في مصر : على عقد الأشعري رحمه الله في العقائد وهو الطور الكلامي في حياته والذي ينتسب إليه عموم المتكلمين في زماننا مع أنه قد ثبت رجوعه عنه أخيرا إلى مذهب السلف : أهل السنة الخلص ، وعلى فقه الشافعي ، وعلى طريقة فلان أو فلان من أئمة أهل الطريق ، وصار يقال في المغرب : على عقد الأشعري وفقه مالك وطريقة الجنيد ، رحم الله الجميع ، فتلك النسبة الثلاثية في العقائد والشرائع والأحوال قد استبدلت بطريقة السلف التي تميزت بالتلائم بين أجزائها فهي طريقة واحدة مستمدها واحد في العلم والعمل والحال الوجداني ، في التصور والحكم الشرعي والسياسي والمسلك الزهدي .

ومن مظاهر ذلك : لجوء الفلاسفة في تخريج مقالاتهم الباطلة إلى حقائق التصوف من شهود وفناء ....... إلخ : فحصل التناغم بين الفريقين : فالفلسفة لا تستغني عن الصوفية في تقريراتها الإرادية ومسالكها الزهدية ، والصوفية لا تستغني عن الفلسفة في نظراتها وتأملاتها التجريدية .

ومما تجد الإشارة إليه في هذا الباب أيضا :
علوم التأويل عند الفلاسفة والمتكلمين فهي مئنة من فساد قوة التصور ، وعلوم الذوق والكشف والتأثير عند الصوفية ، فهي عندهم في مقابل علوم الشريعة عند أهل الظاهر ، فيتفاوت التكليف بتفاوت الرتبة فلا يستوي المحجوب عن الحضرة فلما تَرِّق نفسه وتصف بعد لترتقي في درجات الولاية فتصير أهلا للدخول على الحضرة الإلهية وذلك ملمح رئيس من ملامح التجريد الفلسفي ، فللنظار باع طويل في الرياضات الصوفية بل هم أصل من أصول الرهبانية والتصوف ، فالرواقية الزهدية لم تظهر إلا في المجتمعات التي عنيت بعلوم الحكمة والفلسفة وأعرضت عن علوم الوحي النازل الذي تستصلح به القوى العلمية التصورية ، والشرع الحاكم الذي تستصلح به القوى العملية الإرادية ، فكانت رد فعل غال للأبيقورية الشهوانية التي أوغل فيها اليونان ومن بعدهم : الرومان ، وظهرت في مجتمعات أخرى فكان ظهور بوذا بمذهبه التأملي التجريدي مع اقتران ذلك بفنون غالية من الرياضة ، فإقلال من الطعام يكاد يهلك بدن صاحبه ، فلن ينطلق الروح اللطيف من قيد البدن الكثيف إلا بمباشرة أسباب هلاك البدن وتلفه فلا يجتمع بدن صحيح مع روح صحيح بل لا بد من إتلاف أحدهما استبقاء للآخر ! ، مع أن الرب ، جل وعلا ، قد جمع بينهما فسرت الروح مادة الحياة في جسد الطين برسم النفخ فدبت فيها الحياة بإذن الرب ، جل وعلا ، فهو الخالق للروح والجسد ، فاجتمع في المتأخرين رسوم التجريد الفلسفي والصوفي معا ، فجاءت العلمانية الحديثة رد فعل غال آخر ، وإن اقتبست من الفلسفة نظرتها التجريدية فلا حقيقة لها في الخارج فكثير من العلمانيين ، بل وربما أغلبيتهم الساحقة إلا من غرر به فلم يفقه حقيقة المقالة فظن جواز الجمع بينها وبين الوحي ، وذلك جمع بين نقيضين ، فهو من جنس اجتماع علوم الفلسفة والوحي ، أو علوم الشريعة والحقيقة التي زعمها المتصوفة حقيقة في الخارج ، وما هي إلا محض وساوس فهي فرع على تنزلات الشياطين على كل أفاك أثيم ، فكذلك لمة الشيطان من الخارج وهاتف الشر في قلب المكلف مع إعراضه عن طلب أسباب الهداية بل وأنفته وإزدرائه لذلك ، فــ : (إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) ، فهي سبب لكل فساد في التصور والحكم كما قد وقع من العلمانيين وأصحاب المذاهب والمقالات الأرضية الحادثة ، فإفراط في تقديس العقل برسم الاعتزال فلهم منه حظ وافر ، وإن لم يتلبسوا بأصوله فقد اندثر أكثرها كمذهب محرر ففشا في مقالات الفرق المنحرفة والمذاهب المصطنعة ، وتفريط في المقابل ، بل وإزدراء ، لمقالة النبوة المؤيدة بالوحي الصحيح والقياس الصريح ، فنقلها مصدق جار على أصول الرواية الصحيحة ، وحكمها محقق جار على أصول الدراية الصريحة ، فذلك وجه شبه آخر بين الفلسفة والعلمانية ، فمعارضة النقل بالعقل والإيغال في مقالات التجريد التصوري دون أثر خارجي ، فالقوم قديما : منظرون مشائون ، وحديثا : منظرون قاعدون في الغرف المكيفة والقاعات المرطَّبة ، فلا يدركون من الشرع أو الواقع ما يحصل به الحكم الصحيح ، فلا غرو أن تصادم مقالاتهم الباطلة عقول وفطر عموم المكلفين ، فضلا عن خصوص الراسخين من الربانيين .

وتجريد الفلسفة لم يسلم منه الإيمان ، فقد تأثر أهل الإرجاء الذين حدوا الإيمان بمطلق التصديق ، تأثروا بطرائق الفلاسفة في التجريد ، فالإنسان يكاد : "يصدم من أول وهلة حين يطالع ما كتبه المرجئة من المتكلمين حول حقيقة الإيمان ، (وما من شك أن هذا الفكر كان في مبدئه عدوى من الفلسفة والمنطق البعيدين عن روح هذا الدين ، وأنه كان عند علماء المرجئة الأوائل مجرد "أفكار" تجريدية تدور في "الأبراج العاجية" ولا تتصل بالواقع)" . اهــ
"الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/123) .

والنظار معترفون بأنه لا يمكن التمييز بين المحدود وبقية الأنواع من كل وجه ، فالحد الصحيح ما يحصل به الفرقان بين المحدود وبقية الأفراد ، وإن لم يقع به تعيين حقيقة المعرف من كل وجه ، فغايته أن يقع به التمايز بين الماهيات في الخارج ، فالمبالغة في تجريد الحقائق مفض إلى التعطيل ، وذلك ما عيب على حدود المناطقة ومن تأثر بهم من أصحاب المقالات وأصحاب الفنون الذين استعملوا قواعد المنطق في تعريفاتهم ، فوقع لهم نوع مبالغة في حد الحقائق في الخارج ، ولو كانت واضحة يدركها العقل ضرورة ، فلم تزدها الحدود إلا إبهاما ، فإيضاح الواضحات من أعظم المشكلات ، فهو بمنزلة تحصيل الحاصل ، فتأثر بهم من تأثر من أصحاب المقالات ، فأهل الإرجاء قد تأثروا بهم في حد الإيمان بالتصديق المجرد وذلك أمر ، كما يقول بعض المنحققين ، يعسر الفصل بينه وبين المعرفة المحضة التي لا يثبت بها عقد إيمان أو إسلام ، فقد ثبتت لإبليس ، فهو من أعرف العارفين لرب العالمين ، جل وعلا ، فلم تغن عنه شيئا ، فكذلك التصديق المجرد فلا يقرنه صاحبه بالإقرار والإذعان والانقياد ، وما يلزم ذلك ضرورة من عمل القلب إرادة ، وعمل الظاهر ، فمنه القول باللسان ، ومنه الفعل بالأركان ، فالإيمان حقيقة مركبة من العقد والقول والفعل ، لا محض عقد مجرد كما حده أصحاب مقالة الإرجاء تأثرا بطرائق المناطقة في إيراد المعرفات الذهنية في حدود تجريدية ، يروم أصحابها تجريد الحقيقة من كل وجه ، فذلك ، كما تقدم ، مفض إلى التعطيل في مسائل الأسماء والصفات والإيمان ، بل وفي سائر مسائل العلوم ، فالمبالغة في التجريد لا تفي بالغرض ، فمراد المعرِّف تبيين حقيقة المعرَّف في الخارج ، فإذا بالغ في تجريدها انتفت من الخارج وصارت محض تصور ذهني ، بل وربما محض فرض عقلي فلا يحصل بمثل ذلك بيان لحقائق الأشياء في الخارج سواء أكانت ذوات أم أوصاف قائمة بها أم معان كالإيمان والعلم .......... إلخ .

وأما النبوة فهي بمعزل عن هذا الجدل العقيم فتقدم الحقائق في أبسط قالب لفظي ، وهو مع ذلك أعظم أثرا في القلب والوجدان من حدود لسان اليونان ، فلسان العرب أذكى في بيانه وإيجازه ، وأزكى في أثره في القلب ، فالإيمان في التنزيل قد بين بلازمه ومآله ، فــ : (إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) ، فعطف اللازم على الملزوم من جهة ترتيب الحقائق في الذهن فتصديق مشفوع بالإقرار أولا به يصح التصور فهو منشأ الحكم ، ثم عمل يصدقه في الخارج ، فهو تأويله ، وهو الحكم الذي يترتب عليه ضرورة ، فالحكم فرع على التصور ، كما تقدن ، وبيان لحقيقته بأثره النافع ، فــ : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ، و : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، ثم بيان له بمآله المحمود ، في الدنيا ، فــ : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) ، وفي الآخرة ، فــ : (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ، فحدود التنزيل مثمرة تنتج في الباطن علما وإرادة ، وفي الظاهر قولا وفعلا ، فتكتمل حقيقة الإيمان التي اختزلها أهل الإرجاء في التصديق المجرد فلا أثر له في الخارج ، فذلك من الفصل الباهت بين الباطن بعلومه وإراداته والظاهر بأقواله وأفعاله .

والفلسفة بنظرتها التجريدية المثالية التي لا أثر لها في الخارج ، فهي محص تصورات ذهنية لكليات مجملة لا يحصل بدركها اكتمال لقوى العلم والعمل ، تلك الفلسفة لا جدوى من دراستها إلا على جهة النقد والنقض ، فلا يحصل بها تغيير ملموس في حياة الناس بل إنا لا تزيد الناظر فيها إلا حيرة فيضيع العمر والجهد في حل طلاسمها وتفسير غرائبها ، فــ : "لم تكن الفلسفة وعلم الكلام في يوم من الأيام دافعة إلى العمل الإيجابي المثمر ، (ومن ثم لم يكن للفلسفة دور يذكر في الحياة البشرية العامة ، ولم تدفع بالبشرية إلى الأمام شيئا مما دفعتها العقيدة ، التي تقدمت البشرية على حدائها في تيه الزمان ، وظلام الطريق . فــ : لا بد أن تعرض العقيدة بأسلوب العقيدة ، إذ إن محاولة عرضها بأسلوب الفلسفة يقتلها ، ويطفئ إشعاعها وإيحاءها ............ ومن هنا يبدو التعقيد والجفاف والنقص والانحراف في كل المباحث التي تحاول عرض العقيدة بهذا الأسلوب الغريب على طبيعتها ، وفي هذا القالب الذي يضيق عنها)" . اهــ
بتصرف نقلا عن : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/263) .

وهي ، أيضا ، مظنة تضييع العمر والجهد بالرد عليها بأصول المتكلمين فهي في حقيقتها ترجع إليها وتنتسب إليها ، ولو نسبة مجملة ، فــ : "إن مذهب السلف ذو علاقة بالأمة وبعقيدة المجتمع ، أما عقيدة المتكلمين من أهل السنة ، (بالمفهوم العام في مقابل التشيع ، فأهل السنة في مقابل الشيعة : مصطلح يعم كل طوائف المتكلمين بل ويدخل في حده المعتزلة مع مباينتهم لأهل السنة في أصولهم الكلية) ، فقد بقيت بين أسوار المدارس لا يعرف عنها المجتمع شيئا .......... فالمتكلمون في كتبهم المشهورة اشتغلوا بالرد على أفلاطون وأرسطو وآراء اليونان وآراء أخرى مذهبية فأضاعوا قومهم ......... وأبسط شيء للعوام أنهم يريدون ما وافق الكتاب والحديث ......... ولذا خسرت الأمة ، ولا سبب سوى إهمالها ، ففقدَ علماؤنا خصيصة تربية الأمة فأضاعوا المكانة وصاروا أجانب عنها ، أو أنهم غرباء لا يعرفونها ولا تعرفهم ومن زمن بعيد من يوم تكونت المدارس أهملنا عقيدة الأمة ، فصار لا يشترك فيها السواد الأعظم" . اهــ
بتصرف نقلا عن : "الانحرافات العقدية والعلمية في القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين وآثارهما في حياة الأمة" ، (1/268) .

فلا يحصل الرد الوافر ، والدحض الكامل لمقالة الفلاسفة إلا بأصول السلف الخالصة المحررة كما قد صنع المحققون من أمثال ابن تيمية رحمه الله .


وقد أدى التلبس بهذه المقالات الباطلة إلى ظهور المخالف بسيفه على أتباع الرسل عليهم فمناط الظهور لأتباع الأنبياء ، عليهم السلام ، تصديق خبر الوحي وامتثال حكمه ، فهما متلازمان لا ينفكان ، فعلم الباطن إذا صح فكان مقرونا بالتصديق والإقرار الجازم لا محض المعرفة التي تحصل لكثير من الجاحدين ، فــ : (جَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) ، فلا يمكن أن يثبت الإيمان بمعرفة محضة أو تصديق مجرد ، فذلك مما ثبت لإبليس ، فهو من أعرف الناس بالله ، جل وعلا ، وإن لم يكن عالما ، فالعلم حقا : العلم المقرون بالخشية ، فيولد في القلب ضرورة : إرادة صحيحة ، برسم الرغبة فلازمها الفعل ومتعلقها وصف الجمال ، والرهبة فلازمها الكف ومتعلقها وصف الجلال ، وذلك نوع من أنواع الأدلة ، فمنها الذي يفيد العلم المجرد ، ومنها الذي يقترن بالحث والطلب والإرادة ، فيرد مقرونا بالترغيب حثا على الفعل ، والترهيب حضا على الترك ، فــ : "مما ينبغي أن يعرف أن الأدلة نوعان :
نوع يدل على مجرد العلم بالمدلول عليه ، ونوع يحض مع ذلك على الرغبة فيه أو الرهبة منه .
فالأول : من جنس الخير المجرد .
والثاني : من جنس الحث والطلب والإرادة والأمر بالشيء والنهي عنه .
وذلك كمن علم أن في المكان الفلاني جمادات أو حيوانات أو نبات ليس له فيها غرض لا حب ولا بغض فليس هو بمنزلة من علم أن في المكان الفلاني صديقه وولده ومحبوبه وماله وأهله وأهل دينه وفي المكان الفلاني عدوه ومبغضه ومن يقطع عليه الطريق ويقتله ويأخذ ماله" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/511) .

فالثاني يزيد على الأول : إرادة اقترنت بالعلم لتعلق قلبه بالمعلوم رغبة إن كان محبوبا ، ورهبة إن كان مكروها .

فإذا آمن أتباع الأنبياء ، عليهم السلام ، وحققوا لازم الإقرار والتصديق الجازم من الامتثال لحكم الرسالة ، فالظهور لهم بالحجة والبرهان ، والسيف والسنان ، وإذا نكصوا فالظهور لعدوهم بالسيف والسنان دون حجة أو برهان ، فإنه لا برهان لأعداء الرسالات فهي مؤيدة بحجة النقل الصحيح الذي أنزله الرب ، جل وعلا ، والعقل الصريح الذي ركزه الرب ، جل وعلا ، في نفوس المكلفين ، فأنى لحجة داحضة من حجج الفلاسفة أو المتكلمين في الإلهيات ، أو المتشرعين أو العلمانيين الذين خاضوا في الحكميات نقضا بقياس عقولهم ، أنى لكل أولئك بحجة صحيحة صريحة سالمة من المعارضة تنقض حجة الرسالات الدامغة ، فالرسالة مؤيدة بالبرهان الخبري الصحيح ، الذي يفيد العلم المجرد والبرهان العقلي الصريح الذي يؤيد النقل الصحيح بالقياس الصريح ، والبرهان الحكمي العادل ، برسم الترغيب والترهيب ، فالحكم يتعلق بالإرادة فعلا وكفا ، والترغيب باعث الفعل ، والترهيب باعث الترك كما تقدم .

فإذا امتثل أتباع الأنبياء عليهم السلام ، سنن الرسالة ، فقاموا بها تصديقا وامتثالا ، فلهم الظهور والتمكين ، وإذا نكلوا ، فعليهم تدور الدوائر ، فــ : "ظهور الكفار على المؤمنين أحيانا هو بسبب ذنوب المسلمين كيوم أحد فإن تابوا انتصروا على الكفار وكانت العاقبة لهم كما قد جرى مثل هذا للمسلمين في عامة ملاحمهم مع الكفار وهذا من آيات النبوة وأعلامها ودلائلها فإن النبي إذا قاموا بعهوده ووصاياه نصرهم الله وأظهرهم على المخالفين له فإذا ضيعوا عهوده ظهر أولئك عليهم فمدار النصر والظهور مع متابعة النبي وجودا وعدما من غير سبب يزاحم ذلك ودوران الحكم مع الوصف وجودا وعدما من غير مزاحمة وصف آخر موجب للعلم بأن المدار علة للدائر" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/505) .

فظهر "بختنصر" على يهود ، فكان ذلك آية على صدق رسالة الكليم عليه السلام ، فإن يهود لما خالفت حكمه ، وغيرت عهده عوقبت بالسبي الأول على يد البابليين ، والثاني على يد الرومان ، فلو ظهروا على عدوهم مع مخالفتهم للحكم وتغييرهم للعهد ، لكان ذلك نقضا للقياس ، فالحكم قد وجد مع تخلف العلة ، فظهروا على عدوهم مع تخلف علة التصديق والامتثال ، فكيف يصح في الأذهان وجود اللازم الناشئ دون الملزوم المنشِئ ، فالقياس المطرد قاض بظهور البابليين والرومان على يهود ، وهو ما كان في السبي الأول والثاني ، وكذلك الشأن في الأمة الخاتمة ، فالسنة ، كما تقدم ، واحدة ، فهي مطردة في جميع النبوات ، ففي يوم أحد تخلفت العلة بمخالفة الرماة أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فتخلف الحكم ، فظهرت قريش على المؤمنين من المهاجرين والأنصار ، فلم يشفع لهم تأويل ، ولم ينجهم وجدان النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين ظهرانيهم ، فتلك ، كما تقدم ، سنة جارية على جميع الأمم ، فلا تعارض سنة : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فهي في أهل مكة قد نزلت ، فكان العذاب يوم بدر لما أخرجوا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولم يكن لهم من الاستغفار حظ ، فانتفت علل السلامة فكانت الهزيمة للجمع يوم بدر بعد الهجرة ، فذلك تأويل ما تقدم في مكة من خبر الوحي الصادق : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) ، فلما وجدت العلة يوم بدر فلم تكن ثم مخالفة للأمر بل طاعة برسم : "يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ، ولكن نقول: اذهب ، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون" ، وجد الحكم فكان النصر الذي امتن به الرب ، جل وعلا ، فــ : (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ، ولما عدمت عدم لازمها فكانت المصيبة يوم أحد فجاء العتاب في محكم التنزيل : (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، فــ : "سنة الله التي لا تبديل لها نصر المؤمنين على الكافرين والإيمان المستلزم لذلك يتضمن طاعة الله ورسوله فإذا نقض الإيمان بالمعاصي كان الأمر بحسبه كما جرى يوم أحد" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/507) .



فكانت آية من آيات النبوة ، فلو نصروا مع المخالفة ، لكان ذلك نقضا لحجة الرسالة الخاتمة ، فاطرد القياس في حقهم كما اطرد في حق سائر الأمم ، فالسنة ، كما تقدم ، واحدة ، بل قد وقع تأويلها في الأعصار المتأخرة ، فظهر أعداء الرسالة الخاتمة على أتباعها ، وذلك ، أيضا ، مما قد أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فــ : "إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ" ، فبإدراك هذه السنة تزول الدهشة من حال أمة الإسلام في الماضي والحاضر ، فــ : "كيف تأتىّ للأمة التى ارتفعت إلى تلك القمم السامقة التى لم تسبقها إليها أمة فى التاريخ ولا أدركتها بعدها أمة فى التاريخ أن تتدنى إلى هذا الدرك من الضياع والذل والهوان والهبوط المسف الذى وصلت إليه اليوم والذى لا تكاد تدانيه أمة فى الواقع المعاصر" . اهــ من : "واقعنا المعاصر" ، والجواب هو : السنة المطردة التي يدور حكم العزة فيها مع علله وجودا وعدما كسائر الأحكام الشرعية والعقلية والعادية المطردة ، وفي حق هذه الأمة يطرد حكم العزة بحصول أسبابه ، ولا سبب لتقدم هذه الأمة وريادتها بل وسيادتها إلا التمسك بالوحي المنزل : تصديقا وامتثالا ، فبه ، وحده ، تتقدم في السياسة والحكم ، بل وفي العلم التجريبي المحض فالشريعة عليه تحض وبه تنوه ولأهله تكرم ، وتاريخ أمة الإسلام المضيء في مقابل واقعها المظلم خير شاهد على أن كل صلاح في الدين أو الدنيا ، في الحكم أو السياسة أو الاقتصاد ، في الحرب أو السلم ، لا يكون في حق هذه الأمة إلا بالسير على منهاج النبوة التي نازعتها المناهج الوضعية من فلسفات مترجمة ومقالات وشرائع ورياضات حادثة .

فاطردت السنة مرة ثالثة ورابعة ..... إلخ في كل واقعة بين أهل الحق وأهل الباطل ، فبقدر الاستمساك بالحق يكون الظهور على الخصم ، وبقدر النكول يكون ظهور الخصم ، فــ : (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) ، فــ : "كذلك انتصار المؤمنين مع محمد صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته مع خلفائه من أعلام نبوته ودلائلها وهذا بخلاف الكفار الذين ينتصرون على أهل الكتاب أحيانا فإن أولئك لا يقول مطاعهم : إني نبي ولا يقاتلون أتباع الأنبياء على دين ولا يطلبون من أولئك أن يتبعوهم على دينهم بل قد يصرحون بأنا إنما نصرنا عليكم بذنوبكم وأن لو اتبعتم دينكم لم ننصر عليكم وأيضا فلا عاقبة لهم بل الله يهلك الظالم بالظالم ثم يهلك الظالمين جميعا ولا قتيلهم يطلب بقتله سعادة بعد الموت ولا يختارون القتل ليسعدوا بعد الموت فهذا وأمثاله مما يظهر به الفرق بين انتصار الأنبياء وأتباعهم ويبن ظهور بعض الكفار على المؤمنين أو ظهور بعضهم على بعض ......... فـ : ظهور محمد وأمته على أهل الكتاب اليهود والنصارى هو من جنس ظهورهم على المشركين عباد الأوثان وذلك من أعلام نبوته ودلائل رسالته ليس هو كظهور بخت نصر على بني إسرائيل وظهور الكفار على المسلمين" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/506) .
فشتان ظهور النبوة الخاتمة بحجتها الدامغة وسيفها العادل ، وظهور بختنصر أو تيطس ..... إلخ من الطغاة الذين لا غرض لهم في هداية البشر ، وإنما سلطهم الرب ، جل وعلا ، على أتباع النبوات لما ضلوا السبيل ونكلوا عن محكم التنزيل ، بل ومنهم من كتم وبدل ، ولبس ودلس ، فــ : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) .


وكذلك الشأن في الإخبار بالمغيبات فإن النبوة تباين الفلسفة في هذا الباب ، فأخبار النبوة تتلقى من مشكاة الوحي ، فلا سبيل إلى دركها على حد اليقين الجازم إلا من طريق الرسول البشري الذي يتلقى الوحي كتابا وحكمة من الرسول الملكي ، فــ : "كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن" ، كما أثر عن حسان بن عطية ، رحمه الله ، فهي الصدق جزما والحق قطعا ، وأما أخبار الفلاسفة فهي كأخبار المتصوفة تتلقى من أوهام وخيالات ينتجها الغلو في الرياضات ، فيباشر أولئك العمل على جهة التهيئة للمحل ليتلقى الفيض من الرب ، جل وعلا ، أو من النفس الفلكية أو من العقل الفعال الذي خلق ما تحته من العوالم ! ......... إلخ ، فذلك مصدر تلقي النبوات ، وهذا مصدر تلقي الفلسفات ، وعلى العاقل أن يفاضل بينهما فيختار الأصح نقلا وعقلا ، لتحصل له السعادة والنجاة مطلوب كل العقلاء .

فــ : "كما أن إخباره عن أمور الغيب يدل على نبوته فإنه يدل على أن النبوة إنباء من الله ليس ذلك كما يقوله بعض المتفلسفة كابن سينا وأمثاله إنه فيض فاض عليه من النفس الفلكية أو العقل الفعال ويقولون إن النفس أو العقل هو اللوح المحفوظ وأن من اتصلت نفسه به علم ما علمته الأنبياء ويقولون : النبوة مكتسبة لأن هذه صفتها ويقولون إن سبب علمه بالغيب هو اتصال نفسه بالنفس الفلكية وزعموا أنها اللوح المحفوظ ............. إلخ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/204) .

فالأولى : مقالة صح نقلها وارتضتها العقول الصريحة الكاملة ، والأخرى مقالة لا مستند لها من النبوة ، فأصحابها ، كما تقدم من أجهل الناس بالنبوات فليتهم لقحوا مقالتهم بمقالة النبوة ليحصل لها نوع تهذيب ، فهي مقالة مستعارة من لسان اليونان ألبسها بعض فلاسفة الإسلاميين ، كما يقول بعض المحققين ، كساء الشريعة ، فلم تغن عنها شيئا ، فالعبرة بالمعاني لا بالأسماء ، وهي ، مع ذلك ، مقالة تنقض أصول الاستدلال العقلي الصريح ، فاجتمع لها بطلان وإن شئت الدقة فقل عدم النقل وفساد العقل في مقابل ما للأولى من نقل صحيح وعقل صريح ، وهو ما تمتاز به مقالة الإسلام عند مقارنتها بأية مقالة أخرى علمية كانت كمقالة الفلاسفة والمتكلمين ، أو حكمية كمقالة العلمانيين ، أو رياضية كمقالة المتصوفة وأرباب الطريق .

والله أعلى وأعلم .

خالد العتيبي
02-16-2012, 08:00 PM
جاري القراءة
جهد منك اخي هشام جزاك الله خيرا عنه.

اخت مسلمة
02-18-2012, 11:07 PM
جزاكم الله خيراً