المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن العبثية والفوضوية



د. هشام عزمي
02-15-2012, 03:39 PM
عن العبثية والفوضوية
بقلم الأخ مهاجر

من الأمور التي كانت خافية وإن كانت واقعة في الأعصار المتأخرة فهي أثر من آثار الهجمة الفكرية الغربية على الثوابت الفكرية الإسلامية ، من تلك الأمور : العبثية والفوضوية التي تمثل بصدق : ما يمكن أن يوقعه الطرح الليبرالي بأي مجتمع بشري ، فالفوضى سمة رئيسة فيه لا سيما في طرحه الديني الذي يجعل الردة والكفر : حرية رأي ! ، وطرحه الأخلاقي الذي يجعل الانحلال بالتعري والشذوذ ....... إلخ : حرية شخصية ، وطرحه السياسي الذي يجعل الثورة هدفا رئيسا ، فثورة إلى الأبد ! ، والثورة ما هي إلا قدر كوني فهي رد فعل لما يقع على الثائر من مظالم ، وهي من وجه آخر ، وسيلة لا غاية إن أحسن صاحبها استعمالها ولا يكون ذلك إلا بأطرها على الحق أطرا ، فلا بد من قيد ديني يلجم الحراك الثوري ليوصله إلى الغاية وإلا انقلب عبثا وفوضى ، وهو ما قد يحدث إذا استمر الوضع على ما هو عليه الآن فهو مرشح للازدياد إن لم يعف الرب ، جل وعلا ، عنا .

فالعبثية والفوضوية مذاهب أرضية معاصرة تفرعت على الطرح العلماني اللاديني ، فإذا غابت النبوة التي تصحح القياس والإرادة : ظهرت آثار الفوضى والعبثية في الدين ، فثم إلحاد وتنقل بين الأديان بل وتأليه للشيطان ، وعادة ما يصحب ذلك انحراف في السلوك يبلغ حد الانحلال والشذوذ ، وطقوس عبادة الهستيرية على ذلك خير شاهد ! ، فإن النفس قد خلقت حساسة متحركة بالإرادة ، فهي تحس بقوة العلم ، وتتحرك بقوة الإرادة ، فعلم وعمل ، وتصور وحكم ، فإن صح التصور ، وهو دين ينتحل ، فالدين منهاج حياة يعم العقائد والشعائر والشرائع والسياسات ، فليس الدين عقدا أو كلمة فذلك الأصل الذي يثبت به لا الكل الذي تحصل النجاة به فهل تحصل النجاة بتصور محض أو كلمة يرددها اللسان بلا فقه لمعناها ولا التزام لفحواها فهي الكلمة التي من أجلها خلق الكون وبعث الرسل عليهم السلام فهل بعثوا لتردد الألسن كلمة وهي تنقضها في اليوم أكثر من مرة ؟! ، فكم من قائل بالتوحيد وهو عامل بضده بل ومناجز لحزبه وهو مع ذلك مؤمن موحد ! ، بل وربما عد نفسه من السابقين الأولين فله السابقة العظمى في الدين ! ، فالعادة البشرية : اقتران الصورة العلمية التصورية بالصورة العملية الإرادية ، فعلى ذلك طبع رب البرية ، جل وعلا ، خلقه ، فلا يتصور في الخارج : فصل بين العلم والعمل ، فالعلم كما تقدم : تصور ، والعمل : حكم مصدِّق ، فـ : "النَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ" ، فيصدق فعل الجارحة تصور النفس ، فالنفس تشتهي ، ولو محرما ، فلا يسلم أحد من نوازع نفسه الأمارة فإن امتن عليه الرب ، جل وعلا ، فأمده بالهاتف الرحماني من لمة الملك فأطر نفسه على الشرع أطرا وعالجها بكلم الوحي فقد كذب النازع الباطل وصدق بالحق فسلم من الشر ، وإن استرسل فلم يستغفر صدقت الجارحة الشهوة إن تيسرت لها أسباب المعصية وربما ظنها صاحبها منحة ، وهي محنة توجب البكاء فلو علم شؤمها ما قر له قرار ، وإنما يؤتى الإنسان من قبل جهله فيفسد تصوره فيفسد حكمه على الأشياء تبعا فلا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، ولا يستحسن ما استحسنه الرب ، جل وعلا ، فركزه في العقول مجملا وأرسل رسله بالوحي مبينا ، فلا غنى عن الوحي لبيان تلك المجملات الشريفة بأوامر ونواهي الشريعة فهي التي تصدق العقود وهي التي تغتذي بها النفوس ، فالنبوة ، كما تقدم مرارا ، مناط الأمر فبها امتحن الخلق فمن مؤمن ومن كافر ، ومن بر ومن فاجر ، وربك يقضي بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون ، ولا يتصور في الشأن العام : الفصل بين الدين والدولة ، فشرائع الدولة الحكمية لا بد أن تصدر عن صورة علمية فلكل مصر دستور عام وشرع مفصل ، فلا غنى للبشر عن شرع يحكم فيفصل النزاع بين المتنازعين ، صح أو فسد ، كمل أو نقص ، فشرائع الدول ودساتيرها فرع على مستمداتها العلمية وما تحدثه في النفس من تصورات ، وما يتولد منها من إرادات تظهر آثارها في الخارج ، فهي تأويل العقد الفكري الجامع ، فالأمر ، كما تقدم ، يجري في شئون الأفراد الخاصة ، فلكلٍ عقده الفكري الذي تصدر عنه تصوراته وإراداته في الباطن ، وما تنتجه من أقوال وأعمال في الظاهر ، فكل إناء بما فيه ينضح ، فإذا صح المستمد الفكري فهو يصدر عن وحي إلهي ، فالنبوة هي معيار الحق المطلق في العقد والشرع ، ومستمد الخير في القول والفعل ، فبها تصحح العقود وبشرائعها تغتذي النفوس ، فإذا صح المستمد الفكري ، فتلك مقدمة ، فلا بد أن يصح التصور والإرادة ، فتلك نتيجة ضرورية ، فالاقتران بين العلم والعمل ، كما تقدم مرارا ، أصل كل حركة إنسانية ، ومقدمة كل تصور ، فالفصل بين العلم والعمل ، فلكلٍ مجال حركة لا تتعداه فليس ثم تداخل بين المستمد العقدي والناتج العملي التجريبي والفكري الأدبي والحكمي السياسي والزهدي الأخلاقي ........ إلخ ، فتلك الثنائية الباطلة لا تصح إلا في الأذهان تصورا ، وهو ما بشر به الطرح العلماني المتناقض الذي فصل بين الوحي والحياة ، فعلم الوحي في شق وحركة الحياة في شق آخر ، وذلك إنما يصح في الذهن مجردا ، فالذهن قد يجرد العلم فثم علم باطن لا أثر له في الظاهر ، فهو محض تصور علمي ، وليته صح فالمستمد في الغالب : قياس العقل الحائر فقد ضاهى خبر الوحي الصادق ، فــ : (مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا) ، فقد يجرده الذهن في الخارج ، ويجرد في المقابل : العمل ، فليس ثم حال التجريد : سبب وثيق بين العلم والعمل ، فالذهن ، كما تقدم ، قد يجرد العلم والعمل ، كما يجرد الذات والوصف ، فذلك إنما يصح في الأذهان ، وأما في الخارج ، فذلك ممتنع ، فالأعيان تأتلف من قوى التصور وقوى الإرادة فتلك قوى الباطن كما تقدم مرارا ، وقوى القول والعمل فتلك قوى الظاهر ، فهي ذوات تقوم بها الأوصاف الذاتية اللازمة والفعلية المتعدية فلكل حركة في الكون علة هي حركة ملك فاعل يصدر عن أمر الرب القادر الخالق للأعيان والأوصاف والأحوال في الخارج ، فــ : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) ، فمرد الأمر إلى كلمات التكوين النافذة ، فــ : (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وهي أثر صفات ربنا الفاعلة ، فأثر وصف الخلق : كلمة كونية خالقة ، وأثر وصف الرزق : كلمة كونية رازقة ........ إلخ ، فذلك تصور النبوة لخلق الكون وتدبيره ، فلم يزل ربنا ، جل وعلا ، خالقا قادرا ، رازقا فاعلا فلم يكن مجردا من الوصف معطلا عن الفعل ، بل هو الرب الموصوف بكمال الذات والوصف ، وكمال القدرة في الخلق ، فــ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ) ، وكمال الحكمة في الصنع ، فــ : (تَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ) ، وكمال العلم ، فــ : (هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فيعلم الممكن من فعله وخلقه ، ويعلم الواجب من كمال ذاته ووصفه ، بل ويعلم الممتنع ، فــ : (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ) ، وكمال السمع ، فــ : (مَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ، وكمال البصر بالأعيان القائمة بنفسها ، والأحوال والأعمال التي تقوم بها فلا تستقل بنفسها ، فــ : (اللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) ، فذلك وصف ربوبيته العامة فليست ربوبية إيجاد ثم فوضى ! ، فخلق الخلق ثم تركه هملا ، أو نسيه ، أو اشتغل عنه بغيره ! ، فذلك المستمد الفلسفي للطرح العلماني ، وهو مقال اليهودية المحرفة ، فالطرح التلمودي : طرح إنساني يعظم من شأن النوع الإنساني ويزري في المقابل بالوحي الإلهي ، فيجعل النوع الإنساني عموما ، والنوع اليهودي خصوصا : مصطفى فهو الجنس الأعلى ، وهو آخر حلقات تطور الإنسان ، وذلك ما تأثر به الطرح الفلسفي الغربي فلكل طرح شعب مصطفى ينازع الرب ، جل وعلا ، منصب التشريع ، فيضاهي الوحي بهوى العقل وذوق النفس ، فيضع لنفسه من التصورات العلمية والأحكام العملية ما يضاهي به الرسالة السماوية التي استغرقت موارد العلم والعمل ، فلم تُبْقِ لمتذرع ذريعة إلى الطعن في الربوبية ، فليست ، كما تقدم ، ربوبية خَلْقٍ وكفى ! ، بل هي : ربوبية خَلْقٍ وتدبير بكلمات الكون والشرع ، فثم تكوين رباني بكلمات الخَلْقِ وحركات المَلَكِ التي تصدر عن أمر الملِك ، جل وعلا ، وثم تشريع إلهي بكلمات الحكم ، فــ : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، فهي كلمات الشرع الحاكم ، وهو ما تقصر الفلسفات الأرضية لا سيما العبثية عن دركه ، وإن أدركته فلن ترضى به ، فهو ينقض طرحها نقضا ، برد الأمر إلى الرب ، جل وعلا ، فلا يشغله شأن عن آخر ، فلا يشغله تدبير حال عن أخرى ، فيدبر بكلمات التكوين حركات الكون ، ويدبر بكلمات الشرع حركات البشر إباحة أو حظرا ، إيجابا أو تحريما ، وذلك ما يقض مضاجع كل عابث فوضوي ، فالإيجاب يلزمه والتحريم يمنعه ، وهو ، بزعمه ، يروم الحرية فالطرح الليبرالي القياسي يلائمه ، فليس ثم قيد من شرع سماوي أو قانون أرضي أو عرف اجتماعي أو أثارة من أخلاق فطرية فضلا عن أن تكون شرعية فهي الأكمل ، فما الأخلاق الفطرية إلا آثار المواثيق الربانية ، فهي تأرز إلى مستمد صحيح في الكون والشرع معا ، فالرب ، جل وعلا ، قد برأها كونا فطبع النفوس عليها ، ثم قضى بها شرعا على ألسنة رسله ، عليهم السلام ، فواطأ الشرع المُنَزَّل الخلق المُصَوَّر ، فليس ثم تناقض بين الكون والشرع ، فمن دبر الكون بكلمات التكوين هو الذي أرسل الرسل ، عليهم السلام ، بكلمات التشريع ، فلم يكن ثم تعارض بين العلم الإلهي ، فمادته الشرع ، والعلم التجريبي ، فمادته الكون ، فليس ثم تعارض بين الشرع والكون ، فالوحي يصدق بأخباره حقائق العلم ، فلم يكن ثم تعارض بين العلم الإلهي والعلم التجريبي ، كما هي الحال في الشرائع المبدلة ، التي وضع كهنتها الأخبار الشرعية المكذوبة فهي تناقض ما قررته النبوات من التوحيد فذلك العقد المرضي والعدل فذلك الشرع الإلهي ، فــ : "هُوَ عَدْلُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ، وَنُورُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" ، (3/114) ، ووضعوا ، مع ذلك ، الأخبار الكونية المحالة التي نقض العلم التجريبي المعاصر نصوصها ، فكذبوا في الشرع والكون معا ! ، وذلك ما نتج عنه كفر الإنسان بالشرع المبدل ، وذلك حق ، ولكنه أساء فتعدى ، فَعَمَّ بالكفر كل دين وشرع ، فألحد في عقده ، وانحل في خُلُقِه ، فانتحل المقال العلماني اللاديني فرارا من ظلم المقال الكهنوتي الذي كَرَّس الفساد الديني والسياسي ، فأفسد العقائد والشرائع معا ، فتسلط على الأديان إضافة وحذفا ، وسوغ لساسة الجور التسلط على الأبدان رقا ، فتآمرت الكنيسة مع العرش لقهر الشعب وظلمه ، فأفسدوا الحياة الدينية والسياسية ، وذلك ، كما تقدم ، أمر يتلازم طرفاه ، فالاقتران بين شطريه : واجب في العقل ، واقع يدرك بالحس ، فلا ينفك الفساد السياسي أو الاجتماعي ..... إلخ عن فساد ديني هو أصله الذي يأرز إليه ، على ما تقدم مرار ، من رجوع العمل إلى العلم ، فمن التصور تتولد الإرادة فالحكم في الخارج بالقول والفعل الظاهر ، فإذا صح المستمد العلمي صح أثره العملي ، وإذا فسد الأول فسد الثاني تبعا ، فالقياس مطرد منعكس ، وذلك من جملة العلوم الضرورية التي أنكرها الطرح العلماني المسفسط فهو ينكر البدهيات ، سواء أكان ذلك في الشأن الخاص ، فرام فصل الدين عن الأخلاق ، فظهرت أنماط من الفكر العبثي الذي لا يلتزم أصحابه بأي شرع إلهي أو وضعي ! ، فحرية مطلقة ، فالإنسان راشد بنفسه لا يفتقر إلى إرشادٍ من غيره ، ولو كان الدليل المرشِد هو الوحي ، فلا قداسة لأي نص ، فالعقل هو الثابت الرئيس ، وما سواه فمتغير يخضع لحكمه ، وإن شئت الدقة فقل لهواه وذوقه ، فتتعدد الأحكام بتعدد الأهواء والأذواق ! ، فيظل الإنسان في ريبه يتردد ، فقد أعرض عن الوحي وضل عن الذكر ، فأنى له النجاة في الأولى أو الآخرة ؟! ، وأنى له التصور الصحيح لمآل هذه الحياة ، فقد اعتنق الطرح الليبرالي العبثي في تصوره وحكمه ، فإلحاد في التصور ، وانحلال في الحكم ، فلا عقد صحيح ولا خُلُق حسن ، فالخُلُق صورة الباطن ، والطرح العبثي الذي أنكر الرب ، العلي ، جل وعلا ، على أصحابه ، فقال : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) ، فلم يخلق الرب ، جل وعلا ، الخلق عبثا ، ولم يتركهم هملا وإنما أرسل إليهم الرسل الكرام ليعبدوه وبالإلهية يفردوه ، كما ذكر صاحب "السلم" رحمه الله ، وأما الطرح العبثي فإنه يروم الفوضى العقدية باسم الليبرالية الدينية ، والفوضى الأخلاقية باسم الليبرالية الأخلاقية ، وما ذلك إلا لفساد تصوره ، فقد ظن الخلق ، كما جاء في الآية ، عبثا ، فليس ثم غاية عظمى ، إلا نيل اللذات العاجلة ، كما زعم الفلاسفة من أصحاب الطرح الأبيقوري قديما وحديثا ، وهو طرح عبثي فوضوي يجعل اللذة ، كما تقدم ، قيمة عظمى ، وما ذلك إلا لفساد تصوره فمستمده ، كما تقدم ، قياس حائر وذوق فاسد ، فما ظن الخلق عبثا وفوضى ، إلا فرعا على مستمد علمي فاسد ، فذلك طرح فلسفي قديم أعادت المذاهب الأرضية المعاصرة إنتاجه في ثوب جديد ، فأوروبا قد فوجئت بنور الحضارة الإسلامية ، فـــ : "انبهرت به وأحست بواقعها المرير تحت ضغط الكنيسة التى جثمت على فكرها وشعورها وسلوكها وأفقدتها الإحساس بإنسانيتها.

وهذه اليقظة المفاجئة أوقعت النفسية الأوروبية فى مأزق حرج إذ تصادم فى داخلها دافع ومانع قويان : الأول دافع الاستمتاع بنور الإسلام والدخول فى فردوس حضارته حيث التوازن الفريد بين الدنيا والآخرة ، وبين الروح والجسد ، ففى ظله تنطلق إنسانيتهم لتعبر عن ذاتها بعيداً عن أغلال الرهبانية وشطط الكنيسة .

والآخر مانع التعصب والعداوة الحاقدة للإسلام وحضارته تلك التى عمقتها الحروب الصليبية وبلغت أقصى مداها فى المد الإسلامي الذي قام به المجاهدون الأتراك .
وكان المانع أقوى من الدافع فخرجت أوروبا من ذلك التناقض النفسي بالبحث عن وسيلة تتيح لها الخلاص من براثن السلطة الكهنوتية الطاغية دون أن تتخلى عن تعصبها وعداوتها للإسلام وأهله ولم تكن تلك الوسيلة سوى عملية "اجترار الماضي" ببعث تراثها الوثني الإغريقي والالتصاق به لاسيما جوانبه الشهوانية البهيمية !" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص453 .

فلم يكن ثم إلا اجترار التراث الوثني الإغريقي ، وهو ، كما تقدم ، تراث مادي يقدس اللذة ويمجد الإنسان ويزري في المقابل بالوحي ، فيزدري النبوات ، ففلاسفة اليونان من أجهل الناس بها ، وإن كان لهم ، كما تقدم في مواضع سابقة ، حظ من العلوم الطبيعية ، فيقبل قول الناقل عنهم ، فإذا : "ذَكَرَ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِثْلَ مَسَائِلِ " الطِّبِّ " وَ " الْحِسَابِ " الْمَحْضِ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَتَبَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَابْنُ سِينَا وَنَحْوِهِمَا مِنْ الزَّنَادِقَةِ الْأَطِبَّاءِ مَا غَايَتُهُ: انْتِفَاعٌ بِآثَارِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَهَذَا جَائِزٌ. كَمَا يَجُوزُ السُّكْنَى فِي دِيَارِهِمْ وَلُبْسُ ثِيَابِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَكَمَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَكَمَا اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَيْنِ " ابْنَ أريقط " - رَجُلًا مِنْ بَنِي الديل - هَادِيًا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَدَوَابِّهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرِ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ وَكَانَ يَقْبَلُ نُصْحَهُمْ. وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَعَ شِرْكِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمْ الْمُؤْتَمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} وَلِهَذَا جَازَ ائْتِمَانُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْمَالِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ إذْ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِمْ فِيمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَائْتِمَانٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلُ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأُخِذَ عِلْمُ الطِّبِّ مِنْ كُتُبِهِمْ مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكَافِرِ عَلَى الطَّرِيقِ وَاسْتِطْبَابُهُ بَلْ هَذَا أَحْسَنُ. لِأَنَّ كُتُبَهُمْ لَمْ يَكْتُبُوهَا لِمُعَيَّنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَدْخُلَ فِيهَا الْخِيَانَةُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ انْتِفَاعٍ بِآثَارِهِمْ كَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَزَارِعِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/114 ، 115) .

فالجهة منفكة ، وأما ما يتعلق بالدين ففي الوحي المنزل عن الفلسفة غنية ، فما أصابت فيه من الإلهيات فالتنزيل قد جاء به وزيادة ، وما أخطأت فيه فالتنزيل قد بين بطلانه ، فــ :
"إِنْ ذَكَرُوا مَا يَتَعَلَّقُ "بِالدِّينِ" فَإِنْ نَقَلُوهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا فِيهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسْوَأِ حَالًا وَإِنْ أَحَالُوا مَعْرِفَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فَإِنْ وَافَقَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ فَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ بُطْلَانِهِ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} فَفِي الْقُرْآنِ الْحَقُّ وَالْقِيَاسُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ مَا يَذْكُرُونَهُ مُجْمَلًا فِيهِ الْحَقُّ - وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلُ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعِهِ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْآخَرِينَ - قَبْلَ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ وَالْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيَانُ صِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ كَبَيَانِ صِفَةِ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ. فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/115) .

فلم يكن ثم إلا هذا التراث الوثني في تصوره ، فاختارته أوروبا ، فكان أثره في الفكر والأدب :
بعثا للتراث الوثني الإغريقي ، كما تقدم ، فــ : "هذه هي الخطوة الأولى نحو الانفلات من سلطة الكنيسة والانقضاض على فكر وتقاليد القرون الوسطى ، فعن طريق إحياء الآداب الإغريقية استطاع أدباء وفنانو النهضة النفاذ إلى عالم آخر خارج من مألوف عصرهم ولا أثر فيه لشيء من اللاهوتيات . لقد نفذوا أول الأمر من كوة صغيرة لكنها ظلت تتسع حتى انتفض بناء الكنيسة والتقاليد من أساسه ، وطلعوا على الفكر الأوروبي بمفهومات جديدة ومعايير سبقوا بها النهضة الفكرية العقلانية ، وذلك ما يعده الفكر الحديث أعظم مآثر النهضة" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص454 .

واهتماما بالحياة الدنيا والوجود الإنساني فيها ، فتلك ، كما تقدم ، هي الغاية العظمى ، فالإنسانية في مقابل العبودية ، فطرح الإنسانية يمجد الذات فيغريها بالانفلات ، فهو يقصر الاهتمام على : "شئون الإنسان فى الحياة الدنيا ، ونستطيع أن نتفهم خطورة هذا الجديد الذى يزاحم القديم إذا قارناه بالعقائد المسيطرة على أذهان الناس فى ذلك العصر عن الحياة والكون … ومؤداها أن الحياة الدنيا ليست إلا تمهيداً لاستقبال الحياة الأخرى ، وقد هيمن هذا الاعتقاد على الناس فى القرون الوسطى جيلاً بعد جيل تحت سطوة الكنيسة وسيطرتها العاتية على جميع نواحي النشاط الإنساني وجميع المؤسسات الاجتماعية بينما كان علم العلماء كله يدور حول المبادئ الدينية والعقائد الكنسية .

ثم جاء عقب ذلك عصر الاستنارة وهو أول تبديل جديد طرأ على الناس فى نظرتهم للحياة فاتجهوا إلى أحضان الطبيعة يسوحون منهما أسرار الكون ووضعوا ثقتهم المطلقة فى مقدرة العقل الإنساني . (وهو قد يسعفهم في الطبيعيات فيدرك من مناطها ما يصح به حكمه على الظواهر مشاهدة وتجربة ففرضا وبرهانا فالعلم التجريبي يدرك من حقائق الكون المشهود ما ينتفع به الإنسان في معاشه ، وإن كان مؤمنا صيره زاد لمعاده بالتفكر في آيه والاستدلال بها على خالقها ومجريها على سنن محكم ، تبارك وتعالى ، فذلك من جنس الاستدلال على واجب الألوهية بآثار ربوبية الحكمة والإتقان ، فقد يصح عمله في الطبيعيات ولكن أنى له بدرك الغيبيات من الإلهيات والسمعيات والنبوات التي تقدمت ...... إلخ إن لم يفزع إلى الوحي الذي فر منه فرارا إذ لم يعرف ، كما تقدم ، إلا المبدل فسوى بينه وبين المحكم ، فرد الحق فرارا من الباطل والتزم ما لا يلزم من التسوية بين أنواع الوحي دون نظر في فحواها فمنها الصحيح الذي قام الدليل المرضي على صحته فحكمه القبول ، ومنه المبدل فحكمه الرد والترك ، ولكن العداوة المستحكمة للحق قد أعمته عن دركه فرده دون أن ينظر فيه أو ربما نظر ولكن بعين القادح فأنى يهتدي إلى الحق من رام نقضه إلا أن يشاء ربه جل وعلا ؟!) .
وقد نادى بهذا نفر من عباقرة ذلك العصر ، … كان مجالهم الفكرى فى ناحية الاهتمام بشؤون الإنسان فى هذه الدنيا وترك الاهتمام بشؤون الآخرة" . اهــ
بتصرف من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص456 ، 457 .

والعودة إلى الإباحية الرومانية ، فذلك : "رد فعل للرهبانية والتزمت المغالي اللذين كانا يسيطران على الحياة الاجتماعية الأوروبية فى ظل الكنيسة فقام رواد النهضة بتجديد شباب الكلاسيكية وبعث المذهب الأبيقورى فى التمتع بضروب الملذات والانغماس في الشهوات الجسدية ، ومن هنا أهمل أولئك أو كادوا جانب الآلهة وأساطيرها وصراعها مع التراث الكلاسيكي الإغريقي والروماني وانصب اهتمامهم على الجانب الإباحي فليس مرد ذلك إلى قوة إيمانهم بالعقيدة المسيحية بقدر ما كان الرغبة فى إشباع نزواتهم المكبوتة وميولهم العاطفية قبل أى شيء آخر .
وهكذا كان عصر النهضة يتسم بطابع كلاسيكي خاص يقدس الجسد ويعبد اللذة فى وقت لا تزال الرهبانية فيه هى المثل الأعلى ، ووجه زعماء ذلك العصر أنظار الناس إلى مثالب الرهبانية بحجة منافاتها "للإنسانية" وهو الوصف الذى كانوا يتسترون به" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص458 .

وذلك طرح مبكر للمفهوم الليبرالي الذي يمجد اللذة وإن لم تكتمل أركانه بعد .

فتلك أصول الطرح الفكري في عصر النهضة الأوروبي .

وأما في العصر الحديث فالعقل لا زال في ريبه يتردد فمن الكلاسيكية المادية إلى الرومانسية التي تحلق في فضاء المثالية ، فكانت ثورة على العقلانية ، فإن نجاح العقل في إقصاء الكنيسة لم يحقق غاية الإنسان ، فلم تكن ثم طمأنينة بذكر الإله الجديد : العقل الرشيد ! الذي لا يفتقر إلى دليل يرشده من الخارج فقد حطم قيد الكنيسة التي حجرت عليه طيلة القرون الوسطى ، فــ : "قد وثق الهاربون من طغيان الكنيسة العلمي في مقدرة العقل وثوقاً أعمى ، وكان لكشف كوبرنيكس وقانوني جاليلو ونيوتن ومبادئ بيكون وديكارت العقلية أعظم الأثر فى تمجيد العقل بل عبادته ، ولما كان جل همهم إغاظة الكنيسة والانتقام من عبوديتها فقد اشتطوا وغلوا في ذلك إلى أبعد الحدود .

لكنهم ما كادوا يلتقطون أنفاسهم وتستقر أعصابهم من مطاردة الكنيسة حتى بدأ بعضهم يبحث عما إذا كان إله "العقل" جديراً بما أعطي من قيمة وتقديس أم لا ؟
وكانت النتيجة مُرَّةً وهي أن العقل عاجز حقاً عن تفسير الطبيعة وإذ كان كذلك فهو أعجز عن تفسير النفس الإنسانية وفهمها .

وتساءل أولئك أليس من طريق للثورة على الكنيسة والوصول إلى فهم الطبيعة والإنسانية إلا طريق العقل وحده ؟ .

واستطاعوا أن يكتشفوا طريقاً أخر أرحب من العقلانية بمنطقها الجامد وقوالبها المحددة ، وأقوى من العقل اختراقاً للأسرار وتبديداً للغموض ، ألا وهي "الشعور العاطفي" ذلك الشعور الذى يمتطى آفاق الخيال الواسعة فيسبر أغوار الذات الإنسانية العميقة ويستجلى جمال الطبيعة ، وهكذا أخذ الرومانسيون يرتفعون رويداً رويداً عن الأرض ويحلقون فى الفضاء السحيق ولكن إلى غير الله ومن غير طريق المسيحية" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص464 .

وأي طريق يلتمس سالكه الحق دون أن ينهج نهج الوحي فهو دور جديد من أدوار التيه العقلي والعاطفي الذي يتردد صاحبه في مذاهب الأقوال وطرائق الأعمال بحثا عن السعادة التي لا تنال إلا في ظلال الوحي .

وتلك سنة الرب ، جل وعلا ، في الطبائع والأحوال ، فالغلو في الشيء ينتج رد فعل مضاد له ، فيقع الغلو في الطرف الآخر ، فالغلو في الرومانسية الحالمة فرع على الغلو في الكلاسيكية المادية ، كما أن الغلو في الرواقية الزهدية ، وهي مستمد الرهبانية النصرانية ثم الصوفية ، فرع على الغلو في الأبيقورية المادية ، وكالعادة وقع الغلو في طرف فانتقل بصاحبه إلى الطرف الآخر ! ، فــ : "كعادة أوروبا – لا تعرف الطريق السوي ولا الموقف الوسط – سقطت سقوطاً مفاجئا من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط .
كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية فى مواجهة تحدى الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه ، فجاءت الواقعية لتصوره فى أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط فى لحظات الضعف القاتلة .
وكان يصارع الأقدار ويحاول إخضاع الطبيعة فإذا به ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة" . اهـ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص467 .

وقد عنيت الواقعية بالهجوم المباشر على حقائق الدين ، كما نرى الآن في كثير من صور الأدب المعاصر فإن لمز الدين وهمزه بل وسبه صراحة ووصفه بأقذع الألفاظ وإلصاق تهمة الرجعية والتخلف والجمود ........ إلخ به سمة رئيسة في كل طرح أدبي تجديدي تنويري لا سيما إن كان حداثيا يقدس العقل ويزدري الوحي ، فــ : "منذ بدء حركة النهضة نجد روح الكراهية للدين من قبل الأدباء والفنانين واضحة فى إنتاجهم الشعري والفنى ، إلا أن هذه الروح كانت تعبر عن نفسها من خلال الهجوم على رجال الدين وفى القليل تجرأت على الهجوم المباشر على حقائقه" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص470 .
وتلك خطوة أولى على طريق القدح في حقائق الدين ، فالهجوم على رجاله ثم التوسل بذلك إلى الهجوم على حقائقه ، فالبداية بتصيد مثالب العلماء لا سيما في زماننا الذي صارت فيه حال العلماء مزرية فتكالبٌ على الدنيا ومداهنة لأصحاب السلطان ، وذلك يجعلهم أهون على الناظر من طلاب الدنيا ابتداء الذين يتوسلون وربما يقتتلون على أسبابها فهم على كلمة سواء ، وإن كانت باطلا ، خلافا لمن يتوسل بالحق إلى درك الباطل ، فيتزلف إلى سلاطين الجور وذلك أعظم ما يزهد الناس في العلماء فلا تصير لهم في النفوس هيبة فليس لهم كلمة مطاعة بل ولا مسموعة ابتداء فالناس قد انصرفوا عنهم وانفضوا من حولهم ، لا سيما في عصور الجور التي تكثر فيها المظالم ويعدم فيها الناصح ، ويندر فيها من ينكر المنكر دون غلو أو شطط ، فإذا عدم من يثور على الباطل بالحق جاءت الثورة العامة وفيها يختلط الحق بالباطل فكلٌ قد ثار دفعا للظلم ، وذلك حق ، وبعض قد ثار طلبا لرياسة أو شهرة أو جاه ومال ، فذلك باطل ، فتتعدد المصادر وإن اتحد المورد فالكل في الظاهر ثائر ، وليس ثم رأس جامع من عالم تسمع له كلمة ، فالعلماء قد انصرفوا إلى تحصيل الدنيا كسائر أهلها ! ، فكل أولئك مما يتذرع به من يروم الطعن في الدين ، وكأن الدين قد جُسِّد في أقوال العلماء وأعمالهم ، وكأن الدين قد جاء بعصمة من حفظ مسائله فانتسب إلى العلماء ، بل لم يجئ بعصمة العلماء الربانيين فكيف بالمفتونين بالجاه والرياسة ؟! .

وذلك أمر حكى الغزالي ، رحمه الله ، طرفا منه ، فقد كان ذريعة إلى الصد عن سبيل الله ، في زمانه ، فكيف بزماننا ؟! ، فقال في معرض سبر طرائق الخلق :
"نظرت إلى أسباب فتور الخلق وضعف إيمانهم بها فإذا هو أربعة :
سبب من الخائضين في علم الفلسفة ، وسبب من الخائضين في طريق التصوف ، وسبب من المنتسبين إلى دعوى التعليم ، وسبب من معاملة المتوسمين من العلماء فيما بين الناس .
فإني تتبعت مدة أحاد الخلق أسأل من يقصر منهم في متابعة الشرع وأسأله شبهته وأبحث عن عقيدته وسره وأقول له مالك تقصر فيها ؟ فإن كنت تؤمن بالآخرة ولست تستعد لها وتبيعها بالدنيا فهذه حماقة فإنك لا تبيع الاثنين بواحد فكيف تبيع ما لا نهاية له بأيام معدودة ؟ .
وإن كنت لا تؤمن فأنت كافر فدبر لنفسك في طلب الإيمان وانظر ما سبب كفرك الخفي الذي هو مذهبك باطنا وهو سبب جراءتك ظاهرا وإن كنت لا تصرح به تجملا بالإيمان وتشرفا بذكر الشرع فقائل يقول : هذا أمر لو وجبت المحافظة عليه لكان العلماء أجدر بذلك وفلان من المشهورين من الفضلاء لا يصلي وفلان يشرب الخمر وفلان يأكل الأموال من الأوقاف وأموال اليتامى وفلان يأكل أدرار السلطان ولا يحترز من الحرام وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة وهلم جرا إلى أمثاله" . اهــ
نقلا عن : "شرح العقيدة الأصفهانية" ، ص287 ، 288 .

وما ذلك إلا فرع على ما لقيه العقل الأوروبي من عسف الطرح الكهنوتي وجوره ، فهو يثأر لنفسه بالهجوم على الدين ، ويلتذ بالكفر بثوابته والنقض لشرائعه ، ويبقى السؤال مرارا : هل كان ثم حاجة إلى ذلك في الشرق المسلم ، وإن وقع فيه من فساد العلماء وظلم الساسة ما تذرع به أصحاب الطرح الفوضوي ، ولكنه ، يقينا ، لم ينل أصول الدين ، فلم يزل ديننا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولم يزل ديننا يأخذ على يد الظالم وإن جبن العالم وداهن ، فما يحمله من العلم ينقض ما يلفظه من قول باطل يتملق به الحاكم الجائر ، ففساد العلماء الذين روجوا لطغيان الساسة هو الذي جرأ أولئك على حقائق الدين الخاتم ، فغفلوا جهلا أو تغافلوا قصدا عن براءة الدين من فساد العلماء والساسة ، فلا يستوي دين يكرس للظلم كالدين الكنسي ، وآخر جاء لرفع الظلم كالدين الإسلامي ، وإن فسد علماؤه ففسادهم ليس حجة عليه ، فالحجة في خبره الصادق وحكمه العادل وذلك ما لم يكن في دين الكنيسة أو أي دين أو مذهب آخر ، فكيف صح في الأذهان هذا القياس الجائر ؟! .

ثم انتقل العقل إلى اللامعقول الذي أزرى بالإنسان ، فذلك رد فعل الواقعية في لطمة جديدة للعقل الحائر قذفته إلى الشاطئ الآخر ، وكان لــ : "داروين وفرويد خاصة أعظم الأثر فى ذلك :
أما الداروينية فإن الفلسفة الحيوانية التى بنيت عليها ولدت فى النفسية الأوروبية شعورين عميقين لا يمكن للأدب الأوروبي مهما تعددت مدارسه ومناهجه إلا أن يكون تعبيراً عن أحدهما :
حيوانية الإنسان التى تلغى المشاعر الروحية تماماً وتجعل الكائن البشري كتلة من اللحم كأي حيوان أخر لا هم له إلا إرواء غرائزه البهيمية والحصول على أكبر قسط من المتاع الجسدي المحض ، (وذلك ، أيضا ، مما يعد تمهيدا مبكرا للطرح الليبرالي في طوره الأخلاقي وهو كأي رد فعل في الخارج : أثرُ تصور باطن فالإنسان قد اعتقد بتسليمه بتلك الفرضية الشائهة ، اعتقد أنه حيوان ! ، والحيوان غير مكلف بداهة فلا عليه أن ينحل من ربقة التكليف فيتعرى ويجاهر بكل فحش ولا عليه أن يكفر بكل وحي فالوحي لم يأت لهداية الحيوان ! ، فإذا كانت تلك حال التصور فلا تعجب أن ترى من صور الإلحاد والانحلال في الخارج ما يجعلك تصاب بالدهشة ابتداء فإذا علمت السبب فذك شؤم الإعراض عن النبوة بطل عجبك) .

والشعور بتفاهة الحياة وحقارتها ونفى أية غاية سامية لوجودها وهو الشعور الذى عبرت عنه مدارس الضياع المختلفة تحت أسماء وشعارات شتى ، (والجامع بينها : الإلحاد والانحلال فلا بد أن تُفْسِد عقد الباطن وفعل الظاهر فتلك ، كما تقدم مرارا ، عاقبة ازدراء الوحي والكفر بالنبوة) .

وأما الفرويدية فقد عمقت الاتجاه الحيواني موصلة إياه إلى الحضيض وصاغته فى فلسفة نظرية منمقة تجعل الوصال الجنسي هو الغاية والوسيلة وهو محور الحياة ومحور البحث ومناط التفكير وعلة العلل .

وعمقت كذلك الشعور بالضياع والحيرة فقد تركزت فلسفتها الجنسية حول الجوانب المجهولة – إن لم نقل المختلفة – كالعقل الباطن واللاوعي واللاشعوري والأنا المثالية … إلخ ، وكأنها بذلك قدمت العوض المعاكس للإيمان والإحساس الروحي ، (ولكنه إيمان ذو قيم ومثل عليا جنسية !) .

وهناك غير ما سبق عوامل ومؤثرات كثيرة :
فهناك الحربان العالميتان وهما الكارثة التى حطمت القيم والأعراف والقوانين ، وأذهلت بفظائعها المروعة عقول البشر ، ولا يزال التهديد الذري واحتمال نشوب حرب ثالثة يسيطر على مخيلة الناس ويؤرق شعورهم ، (وغالبا ما تلجأ النفوس المرهقة إلا أحد أمرين : إما التطرف في الدين فيكون رد الفعل للباطل تطرفا بالزيادة على الحق ، وإما التطرف في الانحلال فينكب صاحبه على الشهوات ليتلهى بها عن الواقع المرير والحال المزرية ، فلا يسلم الإنسان من السقوط في أحد الطرفين فَيَلْزَمَ التوسط والاعتدال إلا بالسير على منهاج النبوة حقا بلا تصلب وبلا تميع يجعل الدين الوسطي : مثالية جوفاء ، كما هي الحال في زماننا عند كثير من أصحاب الطرح الوسطي !) .

وهناك التفسخ الاجتماعي حيث الأسرة محطمة والمشاعر النبيلة مفقودة والتنافس الضاري على أشده مما جعل الإنسان يعيش فى دوامة رهيبة من القلق لا يجد موطئ قدم تسكن نفسه إليه منذ ولادته حتى مماته .
وهناك – أيضا – النظريات العلمية الجديدة لا سيما "النسبية" ودورها يتجلى فى أنها أفقدت الناس قيمة الأحكام المطلقة والإيمان والثقة فى أية أسس ثابتة وعامة ، ثم أنها تستعمل فى بحوثها عن الكون والإنسان أرقاماً مذهلة يعجز العقل عن تصورها وتتكلم بلغة محيرة مربكة تجعل المرء فريسة تناقض حاد بين إيمانه الوثيق بعلميتها وصدقها وبين عجزه عن إدراك مدلولاتها وتفسير معمياتها ، (وذلك ، أيضا ، كما يقرر بعض الفضلاء ، من ثوابت الطرح الليبرالي المعاصر فالنسبية فيه قد عمت كل شيء حتى العقود والأخلاق ، فالأديان قد تتعدد وكلها صحيح فالحق ليس مطلقا ! ، والأخلاق قد تتعدد فيصير الكذب فضيلة ، ويصير الفحش منقبة فصاحبه قد تحرر من قيد التقاليد البالية ، فليس ثم معيار ثابت للأديان أو الأخلاق فهي تتغير بتغير الأعصار والأمصار ! ، وفي ذلك ، أيضا ، إهدار للنبوات وإبطال لأحكامها) .

وهناك الوسائل الفنية الجديدة كالسينما والتليفزيون والصحافة المتطورة ودور النشر الكبيرة تلك التى جعلت تعميم المادة الأدبية وذيوعها أمراً ميسوراً للغاية وخلقت جواً من التنافس بين المؤلفين والمنتجين والرسامين .

بهذه المؤثرات جميعا تأثر الأدب المعاصر وانفصل بالتالي عن الدين انفصالا حاسما ، ومهما قيل في تعدد مدارسه ومذاهبه ، فإنه يتذبذب بين اتجاهين رئيسيين هما : الإباحية والضياع" . اهــ
بتصرف من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص473_475 .

وذلك ما أنتج في الواقع اتجاهين فكريين نرى أثرهما في زماننا بل قد ظهرا أخيرا في بلاد الشرق المسلم ! : الاتجاه الإباحي والاتجاه الضائع ! ، وذلك ، أيضا ، من صور الارتداد الفكري في أوروبا ، فــ : "الواقع أن الارتداد من الواقعية إلى اللامعقول يشبه الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية مع اختلاف صوري فقط ، على أن رباط الوثنية يظل هو الرباط المشترك بين الجميع" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص475 .

فضياع وحيرة فلم يطمئن الإنسان بذكر ، وذلك ما يحمله على مباشرة الشهوات والإفراط فيها ولو بمقارفة الفواحش فهمه الرئيس أن يتلهى بلذة عارضة عن محنته الدائمة ، فــ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، وعن الضياع صدرت مذاهب فكرية ذاع صيتها الآن مع دروس آثار النبوات ، فثم وجودية ، فــ : "ليست الوجودية – كما حددها سارتر في "الوجودية مذهب إنساني" سوى صورة من صور الضياع ، وحتى إن صدقنا زعمها أنها "ثورة الإنسانية ضد كل ما هو لا إنساني" فهى ليست إلا ثورة سلبية يائسة ، لم تستطيع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء وكل ما تستطيع أن تقول بصدق إنها قدمته للإنسانية هو عرض وإبراز بعض جوانب المأساة البشرية ، تلك المأساة التى تعبر عنها جملة واحدة "البحث عن الإله" فهى ترفض الإيمان بالله كما تصوره الأديان ولكنها لا تجد البديل ، والإنسان الذى تحاول تأليهه محصور مقهور أمام القدر الكوني وأمام سيطرة الآلة وأمام وضعه التاريخى المحدد ، وحول إيجاد مخرج من هذا التناقض تأتى الفلسفات الوجودية بشعارات شتى كالحرية عند سارتر والعبث عند ألبير كامو" . اهــ
"العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص486 .

فذلك تصريح بسبب ذيوع الطرح الليبرالي الذي يزعم أنه لا يتعارض مع الدين ، وهو الذي لم ينشأ إلا بعد أن احتار فضل عن حقيقة الألوهية ، فقد أعرض عن الوحي جملة وتفصيلا ، فبحث عن مخرج من تناقضه في طرح الليبرالية ، وكانت العبثية ، عند التدبر والنظر ، أحد روافده بل ولعلها تأويله في الخارج فالليبرالي المخلص ! : عبثي في تصوره لا يدرك لوجوده في هذا الكون غاية فهو ضائع حائر ، عبثي في حكمه ، فأقواله وأفعاله على غير جادة العقلاء فضلا عن المؤمنين ، وربما شابها نوع تكلف في المخالفة فهو يروم الصدام مع كل الأديان والأعراف لعله يشتهر ، ولو شهرةَ من أراد أن يذكر ولو باللعن فبال في زمزم ! ، فالأمر لا ينفك عن إحساس بالضآلة ورغبة في البحث عن الذات وإثبات الوجود ولو بنقض العقائد وحل عرى الشرائع ! .

وثم رمزية وثم سريالية أوغلت في اللامعقول وثم أدب التفسخ وأدب المستحيل والأدب العدمي وأدب الهروب والتكعيبية والمستقبلية والعبثية والفوضوية ........ إلخ ، فــ : (أَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) .

ولمزيد بيان لهذا الطرح الفكري الذي بدأ في التسلل إلى العقل المسلم فهو من جملة ما صدر إلى الشرق في ثنايا الطرح العلماني ، لمزيد بيان ينظر : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، للشيخ الدكتور سفرالحوالي ، حفظه الله وسدده وأتم شفاءه ، فصل : "علمانية الأدب والفن" ص451_491 ، وفيه رصد واف مع إيجاز غير مخل للطرح العلماني الأدبي .

والشاهد أنه إذا فسد التصور فسد الحكم سواء أكان ذلك في الشأن الخاص ، فرام فصل الدين عن الأخلاق ، كما تقدم ، أم في الشأن العام ، فَفُصِل الدين عن السياسة ، فصارت براجماتية انتهازية لا تروم إلا نيل المصلحة الخاصة كما أن النفس إذا عبثت فهجرت الوحي فكفرت باليوم الآخر وأبطلت أحكام الدين الشارع ، فإنها تصير انتهازية لا يعنيها إلا تحصيل لذاتها العاجلة ، فصار تمجيد المادة والمتعة واللذة والمال ، كما ينوه بذلك بعض الفضلاء في معرض سرد ثوابت الطرح الليبرالي فجل مستمداته فلسفية يونانية ويهودية تلمودية وهو ما سرى كما تقدم مرارا إلى طرح التجديد المعاصر سواء أكان دينيا كالطرح البروتستانتي الذي كان القنطرة بين الدين الكنسي والطرح الليبرالي فهو على النقيض لاديني محض فلا بد من وسيط ديني من وجه فهو يحتفظ بالتصور العلمي لاديني من وجه آخر ! فهو يبطل الحكم العملي في الجملة ، فصار تمجيد المادة والمتعة واللذة والمال : ثابتا رئيسا من ثوابت الطرح الليبرالي البديل ، فذلك نتاج الفساد في التصور ، فالثوابت الفكرية قد صارت أرضية وضعية تأرز إلى الهوى والذوق كمستمد رئيس ، وهما قد كفرا بالوحي وإن صدقا به في الجملة ! ، فليس له تعظيم في الباطن وليس له أثر في الظاهر ، فإيمان صاحبه قد ضاهى إيمان إبليس فثم معرفة مجملة بلا انقياد بل ليس إلا الإباء والاستكبار ، فلا ينقاد لشرع بل ولا يؤمن بعقد ، وإن أظهر الإيمان فمحض تقية ! ، فإن زال سببها زالت ، فهي معه تدور وجودا وعدما ! ، ففي المجتمعات الليبرالية القياسية لم يعد ثم من ينكر على ملحد أو منحل ، فالجميع أحرار ولو في الكفر والفجر ! ، فلا حاجة إلى التقية ، وفي المجتمعات التي تقيم للدين وزنا ، ولو في الجملة ، يحتاج الفوضوي إلى رداء تقية يستر عورته إلى أن تسنح الفرصة ! ، فيتجرد باطنا وظاهرا ! ، فالنسبية الأخلاقية ، وهي أيضا ، من أصول الليبرالية فهي انتهازية من هذا الوجه فالخُلُق الذي يحقق الغاية العظمى من لذة جسد أو مال ....... إلخ هو الخُلُق المرضي ولو نقض الحكم الشرعي بمقارفة ما نهى عنه الشرع بل وأنكره العقل من الفواحش المغلظة ، فالنسبية الأخلاقية تسوغ هذا اللون من التقية فإن لكل مجتمع أخلاقا تلائمه ، فثم ليبرالية تلائم كل جماعة إنسانية ، ولو محافظة إلى حين ! ، حتى تستقر المفاهيم الليبرالية في وجدانها فتصنع عقلا جديدا يستبدل أصول الطرح الليبرالي بأصول الوحي الإلهي ، فغزو العقول إنما يكون بالتدريج ، وغالبا ما تكون الغزوة مزدوجة فسلاح الشبهة يفسد قوى التصور ، وسلاح الشهوة ، فهي اللذة المحرمة التي يروم صاحبها نيلها ولو بهتك أستار الشرائع والأعراف ، ذلك السلاح يفسد قوى الحكم ، فالدنيا عنده قد عظمت فصارت هي الغاية ، كما تقدم ، وذلك ، أيضا ، من أصول الطرح الليبرالي ، ولذلك يقرن الفساد في هذا الطرح ، كما تقدم مرارا ، بين الباطن والظاهر .

فإذا فسد التصور فسد الحكم سواء أكان ذلك في الشأن الخاص ، فرام فصل الدين عن الأخلاق ، كما تقدم ، أم في الشأن العام ، فَفُصِل الدين عن السياسة أم في الشأن العلمي التجريبي ، ففصل الدين عن العلم ، وليس ذلك إلا من شؤم تبديل كلمات الوحي وتحريف معانيه ، فقد نجح المغرضون في تهوين أمر الدين في النفوس ، فتذرعوا إلى هدم الدين بذريعة فساد علوم الكنيسة ، فقد أتت بما تكذبه علوم الطبيعة ، فــ : "أيا ما كان الأمر فقد نجح المغرضون والهدامون – من الموتورين بطغيان الكنيسة وأعداء الجنس البشري المتربصين – في اختلاق هذا الخصام النكد وزحزحت حقائق وقيم الدين من ميدان العلم والبحث ، وظل العلم يمارس عمله متخبطا في دائرة مغلقة لا علاقة لها بدين أو خلق ولا تهدف إلى غاية أسمى ومثل أعلى فماذا كانت النتيجة ؟ .

إن بعض المنتسبين للعمل يعتقدون عن طيب خاطر ... أنهم قد أحسنوا صنعا بعزل العلم عن الدين وإن إشفاقه على الدين من مواجهة العلم هو الذي دفعهم إلى المناداة بالفصل التام بينهما ، وهي دعوى تجد أذانا مصغية لدى بعض المنتسبين إلى الدين كذلك . (وذلك أمر يظهر في مسلك بعض من حذق العلوم التجريبية في زماننا فبعضهم يزدري الدين فقد بلغ بعلمه التجريبي ما لم تبلغه الأوائل ! ، فيحرص كل الحرص على الظهور بمظهر الموضوعي الحيادي فلا تجد في كلماته أو تفسيراته أي بعد ديني فهو يتقصد انتقاء كلماته وتفسيراته لتكون لادينية محضة لئلا ينعت بالتخلف والرجعية ! ، فالعلم لا دين له ! ، والصحيح أنه ، كما يذكر بعض الفضلاء ، إسلامي محض ، وتلك شهادة العلم التجريبي الحديث للوحي الخاتم حتى صار الإعجاز العلمي فرعا رئيسا من فروع البحث في إعجاز الوحي بشطريه : الكتاب والسنة ، وبعض يخجل فهو يعظم الدين ولَكِنْ في نفسه فلا يجرؤ على البوح بذلك فحاله قد صارت كحال مؤمن آل فرعون ! ، وهو ، مع ذلك ، قد يتأول فعله بأنه صيانة للدين من الخوض في أمور الدنيا فينزه الدين عن أقذار الدنيا ! ، مع أن الدين ما جاء ، كما يقول بعض الفضلاء ، إلا لتطهير الدنيا من أقذار الكفر والظلم والجهل ، فجاء ليسوسها بحكم الشريعة المحكمة لا حكم الأهواء المتباينة ، فيقع هذا الفاضل في قصده وإن ضل في فعله ، يقع في علمانية من الشاطئ الآخر ، كما يتندر بعض الفضلاء ، فهو يفصل بين الدين والدنيا صيانة للدين منها خلافا للعلماني القياسي الذي يفصل بين الدين والدنيا صيانة للدنيا منه ! ، وإن شئت الدقة فقل صيانه لأهوائه وشهواته فلا عاقل يزعم أن الدين خطر على الدنيا إلا إن كان جاحدا بالوحي والنبوة) .


ولكن الواقع المحسوس في أوروبا يكذب هذه الدعوى فوق أنها في الأصل تنم عن الجهل بالدين أكثر مما تدل على الحرص عليه ................... إن أصحاب هذا الاتجاه قد ارتكبوا غلطة كبرى – وهي من الغلطات الرئيسية للجاهلية المعاصرة – وذلك بتوهمهم أن النفس البشرية تقبل التجزئة ويمكن أن يكون لكل جزء منها دائرته الخاصة . لقد كان أول ثمار هذا الفصل أن فشا الإلحاد بشكل لم يعرف التاريخ له مثيلا . وقوضت دعائم الدين واجتثت تصوراته وإيحاءاته الأخلاقية باسم العلم والمعرفة وطبقت أوروبا عمليا النصيحة التي أسداها هيكل وهي أن : "التعليم أعظم عمل يقوم به المجتمع الذي يرغب في التخلص من الأديان" . (فلكي تتخلص من الدين عليك أن تتعلم لتكون ملحدا مثقفا فلا تجتمع الثقافة مع الدين أبدا ! ، وذلك ، كما تقدم مرارا ، تأثر ظاهر بالطرح العلماني في مقابل الدين الكنسي فمحل النزاع غير متحقق في الشرق المسلم فليس ثم دين كنسي فيه وإنما دين إسلامي !) .

فكان أن جردت المناهج التعليمية وكذلك البحوث والدراسات العامة من كل معنى ديني وأصبحت علمانية بحتة . ووضع التناقض النفسي الشاب المثقف أمام خيار صعب بين الإيمان بالله مع وصمة الرجعية والجمود وبين الإلحاد المقرون بالتنور وحرية الفكر واختارت الأغلبية الساحقة الإلحاد فراراً من التهم الملصقة بالمؤمنين وتمشياً مع ما يسمى "التطور والعصرية" .................. والنتيجة التي حدثت في المجال العلمي التجريبي نفسها حدثت في مجال الفلسفة النظرية فقد وقع "ديكارت" في الغلطة نفسها باعتقاده أن الثنائية بين العلم والدين – كما حاول أن يحدد فلسفتها– ستحول دون انهيار المسيحية وتتيح لكل من الدين والعلم الحرية في مجاله الخاص ، ولكن آل الأمر إلى أن تقول الفلسفة الحديثة :
"يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني ... بأنه موقف تجرد ونظر خالص فهو يرى أن مسألة الله بأسرها من حيث وجوده ومن حيث طبيعته معا" هي مسألة مفتوحة تماماً .

فالفلسفة لا تعرف "أمورا مقدسة" لا يمكن الاقتراب منها والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان .

وأن من أول ما يتعلمه دارس الفلسفة أن نفس وجود ميدان الفلسفة هذا بوصفه نشاطاً عقلياً له دلالته ، يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة أو أي تصور أو أي قيمة أو قانون أو نشاط أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية أحياناً وكما يقال أحياناً على سبيل المزاح ، فحتى الله نفسه : (ينبغي أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدل مدرج الفلسفة) !" . اهــ
بتصرف من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص347_351 .

فليس ثم مقدس ، وذلك ، أيضا ، مما تسلل إلى الطرح الليبرالي وظهرت آثاره في الفوضى العقدية التي تتناول كل مقدس بأقذع الألفاظ وأبشع الأوصاف فلم يسلم الرب ، جل وعلا ، من أذى صاحبه ، فصبر عليه إمهالا فإذا أخذه فاستئصالا .

ويبقى السؤال دوما : ما حاجة الشرق المسلم إلى كل ذلك لولا أن خفيت عليه آثار الحق المنزل فضل هو الآخر في أودية الباطل ، فذلك سنن مطرد في جميع الأمم ، وهو ، أيضا ، تأويل قول المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم : "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ، وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ: اليَهُودَ، وَالنَّصَارَى قَالَ : «فَمَنْ»" .

وأخطر ما في الحراك الثوري الذي يقع الآن ، هو ظهور أنماط من العبثية العقدية والأخلاقية تحت ستار الليبرالية فقد توسع أصحابها ، كما يقول بعض الفضلاء ، في تقرير الحريات العامة فوجدوا الثورة فرصة لتكون ثورة على كل الثوابت العقدية والأخلاقية ! ، وإن كانت في الظاهر ثورة على الظلم والاستبداد ، وهو يظهر أول ما يظهر في مسالك الشبيبة ، فنفوسهم ثائرة دوما ! ، فتلك طبيعة نفوسهم سواء أمالت إلى الدين فتوغل فيه بحراراة ، أم مالت عنه فتوغل في الضد من الإلحاد والانحلال بحرارة أيضا ! ، وذلك من وجه آخر نتاج سنين من التغييب القهري لدور الدين في الحياة فهو ثمرة عقود من العلمانية الاستبدادية التي ولدت الآن أنماطا من الليبرالية الفوضوية .

فذلك ، والله أعلم ، أعظم ما خلفته الأنظمة البائدة فهو يفوق في خطره كل فساد سياسي أو اقتصادي فماذا بعد فساد الأديان والأخلاق ؟! .

والله أعلى وأعلم .

شافي
02-15-2012, 07:38 PM
جزاك الله خير اخي {د.هشام} ، كل ما سوى شرع الله فهو فوضى وعبث ولا شك ، أنت بين قطبين وبينهم طريق وعر ، قطب الحياة الفانية والآخر الخلود ، فأنت بحاجة الى ان تسير على نهج قويم حتى تصل الى الخلود الذي ترغبه نفسك وحتى يكون ذلك فلابد من المشي في هذا الطريق وفق قواعد تضبط مسيرك عن التعثر او اطالة المدة او تبديد الجهد ، وعلى هذا الطريق الشيطان الذي اقسم على اغواء ابناء عدوه آدم ، فحبب اليهم المتع الزائلة على هذا الطريق الوعر ، ومال بهم حتى ساروا في تخبط يمنة ويسرة في صورة فوضوية بددت جهدهم واطالت عليهم المسافة بل واعثرتهم عن الوصول الى خير الأمور