المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من الأسماء والأحكام



د. هشام عزمي
02-21-2012, 02:16 AM
من الأسماء والأحكام
بقلم الأخ مهاجر

يقول ابن الجوزي رحمه الله : "في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كانت كلمة مؤمن ومسلم ، ثم نشأت كلمة زاهد وعابد ، ثم نشأ أقوام وتعلقوا بالزهد والتعبد واتخذوا في ذلك طريقة تفردوا بها ، هكذا كان أوائل القوم ولبَّس عليهم إبليس أشياء ثم على من بعدهم إلى أن تمكن من المتأخرين غاية التمكن" . اهــ


فمسألة الأسماء والأحكام مما قد وقع فيه التباين والاختلاف تبعا لحدوث أسماء جديدة لم تكن معهودة في زمن النبوة ، فظهرت أسماء من قبيل : الزاهد والسالك والعارف والمريد والعابد ......... إلخ ، وإن كانت اسم : "العابد" مما قد ورد في التنزيل ، فـــ : (جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ) ، ولكنه لم يخص بما خص به العابد في اصطلاح المتصوفة فكان العابد في عرف الشارع ، جل وعلا ، وهو المقدم في تأويل آي الكتاب العزيز فالحقيقة الشرعية السابقة تقدم على الحقيقة العرفية اللاحقة ، والحقيقة اللغوية المطلقة من باب أولى ، فحقيقة العابد في اصطلاح التنزيل تقدم على حقيقته في اصطلاح أهل الطريق ، فالعابد في التنزيل هو العابد الاختياري الذي حقق المراد الشرعي ، ففيه قدر زائد على العبد ، وقد يكون مختارا ، وهو مع ذلك ، محل الذم ، فهو عابد مختار ، خاضع منقاد ولكن لغير الإله الحق ، تبارك وتعالى ، كما في قول قوم إبراهيم عليه السلام : (وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ) ، وأما العبد فإنه قد يكون مختارا فيكون محل الرضا والمدح فــ : (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) ، ، وقد يكون مضطرا فلا يتعلق به المدح أو الذم فهو ما يستوي فيه البر والفاجر ، فـــ : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) ، فذلك عموم لفظي فــ : "كل" و : "من" من صيغ العموم فضلا عن ورودهما في سياق القصر بأقوى أساليبه فهو قصر حقيقي يعم أفراد المقصور فلا يستثنى منها أحدا ، فذلك من العموم المحفوظ فلا يتصور وقوع التخصيص فيه فيعم بلفظه وسياقه : المؤمن والكافر ، البر والفاجر ، الذكر والأنثى ............ إلخ ، فليس في لفظ العبودية في هذا السياق ما يدل على مدح أو ذم ، فاللفظ محتمل فقد يكون العبد ممدوحا إن كان مؤمنا ، وقد يكون مذموما إن كان كافرا فاجرا .

والشاهد أن لفظ : "العابد" لم يخص بما خص به في لسان أهل الطريق ، فقد صار مئنة من هيئة حادثة لرياضة غالية في قول أو فعل يرتقي صاحبها في سلك التصوف إرادة نيل الرتب المنيفة في الإرادة والذكر ....... إلخ من أعمال النصوف ، فلكل نوع منها درجاته وطبقاته .

وهذا أمر قد ظهر ، أيضا ، في اصطلاحات من تكلم في الإلهيات بطرائق الفلاسفة والمتكلمين الحادثة فظهر في كلامه ألفاظ مجملة تحتمل الحق والباطل معا ، كلفظ الجسم والجهة والتحيز ............. إلخ ، فظاهرها يوهم ، فهي تحتمل أكثر من معنى ، فتحتمل حقا كلفظ : "الجسم" إن أريد به الذات فللرب ، جل وعلا ، ذات قدسية تليق بجلاله ، وله من الصفات العلية ما يليق بقدسية الذات ، فالصفات فرع عليها ، فما ثبت للذات القدسية من الكمال المطلق أصلا ثبت للصفات العلية فرعا ، فهذا معنى صحيح أساء صاحبه في البيان فاستعمل لفظا مجملا موهما فمثله لا يحصل به بيان المعنى ، ولو حقا خالصا ، بل ولو حكما واجبا لا تماري العقول في وجوبه إلا إذا كانت على حد الجحود فحقها التأديب أو السفسطة فحقها العلاج ، فلا يحصل البيان ولو للحق الخالص بلفظ موهم مجمل ، فالحق قد يعتريه سوء تعبير ، فـــ :
تقول هذا جنى النحل تمدحه ******* وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير
مدحا وذما وما جاوزت وصفهما ******* والحق قد يعتريه سوء تعبير
فــ : "أشد ما حاول أعداء الرسول من التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به وضرب الأمثال القبيحة له والتعبير عن تلك المعاني التي لا أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين فوصلت إلى قلوبهم فنفرت منها وهذا شأن كل مبطل وكل من يكيد الحق وأهله هذه طريقه ومسلكه وأكثر العقول كما عهدت تقبل القول بعبارة وترده بعينه بعبارة أخرى" . اهــ من : "الصواعق المرسلة" لابن القيم رحمه الله .
و : "إذا أردت الاطلاع على كنه المعنى هل هو حق أو باطل فجرده من لباس العبارة وجرد قلبك عن النفرة والميل ثم أعط النظر حقه ناظرا بعين الإنصاف ولا تكن ممن ينظر في مقالة أصحابه ومن يحسن ظنه نظرا تاما بكل قلبه ثم ينظر في مقالة خصومه وممن يسيء ظنه به كنظر الشزر والملاحظة فالناظر بعين العداوة يرى المحاسن مساوئ والناظر بعين المحبة عكسه وما سلم من هذا إلا من أراد الله كرامته وارتضاه لقبول الحق" . اهــ من : "مفتاح دار السعادة" لابن القيم رحمه الله .


فيكون المعنى صحيحا واللفظ فاسدا أو موهما الصحة أو الفساد فلا يحصل به ، كما تقدم ، البيان ، فقد يراد به على وجه آخر معنى باطل ، كما لو أراد صاحبه الجسمية التي يفتقر فيها الجسم إلى أجزائه فهو منها يتركب ، فذلك معنى منتف بداهة في حق الرب ، جل وعلا ، فهو الغني الذي لا يفتقر إلى سواه ، فلا يفتقر إلى صفاته الذاتية الخبرية كاليد والعين افتقار جسم الكائن الحادث ليده وعينه فهي أجزاء منها يتركب ، والتركيب ، كما تقدم ، مئنة من افتقار المركب إلى أجزائه ، والرب ، جل وعلا ، قد ثبت له الغنى والكمال المطلق فلا تثبت له صفات اليد والعين ......... إلخ كما تثبت للمخلوق الحادث فذلك من القياس الفاسد الذي يقاس فيه الغائب على الشاهد والخالق الكامل ، جل وعلا ، على المخلوق الناقص ، وإنما تثبت له على الوجه اللائق بجلاله ، ويكتفى في هذا الباب التوقيفي بلفظ النص الشرعي فلا يزاد عليه ولا ينقص منه ففيه غنية عن الألفاظ الحادثة ، فهي ، كما تقدم ، موهمة محتملة ، فلا يثبت مراد قائلها ولا ينفى إلا بعد الاستفصال عنه فإن أراد حقا أثبت المعنى الصحيح ورد اللفظ المجمل الموهم ، وإن أراد باطلا رد المعنى واللفظ من باب أولى ، فاللفظ مردود في كل حال ، فليس مما جاء به التنزيل وليس ما يليق بمقام ربنا الجليل ، تبارك وتعالى ، لاحتماله وإيهامه ، كما تقدم ، وهذا أصل قرره أهل العلم في مسألة الألفاظ الحادثة في الإلهيات وسائر الغيبيات .

وذلك أمر يعم سائر المدركات الفكرية ، فن قال على سبيل المثال : إن الإسلام دين الحرية ، فإن قوله وإن كان صحيحا في الجملة فالإسلام قد حرر البشر من عبودية البشر والشجر والحجر إلى عبودية الرب تبارك وتعالى ، فهي معدن الحرية ، لو تدبر أدعياؤها في زماننا لا سيما الليبراليين : عباد الهوى والشهوة ، فإن قوله وإن كان صحيحا في الجملة إلا أنه في زماننا قد صار مجملا محتملا لا سيما مع تباين حال المتكلم ، فهو قرينة تحتف بلفظه فترجح معنى دون غيره فإن قالها معظم للشريعة فالواجب حملها على المعنى الصحيح للحرية ، وهو الحرية التي أقرها الشرع ، حتى مع الكافر المخالف ، فـ : (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) فهي في حق الكافرين الأصليين لا الزنادقة والمرتدين ، فالشرع قد جاء برسم الحرية فحرر العقول من رق الكهنوت والخرافة ، وحرر القلوب من ذل التأله لغير الرب ، جل وعلا ، رجاء وخشية ، وحرر الأبدان من رق التنكيل والتقتيل فأعاد للمستضعفين حقوقهم المسلوبة وكرامتهم المهدرة ، وحرر الفرد في تصوراته وشعائره ، فلا يخضع لسلطان روحي طاغ لفلان أو فلان من كهنة الأديان ، وحرر الجماعة في شرائعها فلا تخضع إلا لشريعة الملك ، تبارك وتعالى ، فلا يخضع البشر لشرائع حادثة وضعتها عقول قاصرة ، لا تدرك من المصالح إلا العاجل الطارئ ، فلا علم لها ولا حكمة لتدرك المصلحة الحقة في دار التكليف أو دار الجزاء ، فليس لها من ذلك إلا التخرص والظن ، فتقضي به على غيرها تحكما ، فهل رق أعظم من هذا الرق الفكري الذي يفوق في ألمه ألم الرق البدني ، فما الذي فضل عقل فلان من أصحاب الشرائع الحادثة ليضع هو الشريعة الحاكمة ، مع نقصان عقله وقلة علمه بالمغيبات في هذه الدار وفي دار الجزاء من باب أولى ، فلا علم له ولو بالمستقبل القريب فشرائعه الحادثة تفتقر دوما إلى التعديل وربما التبديل .

والشاهد أن ما تقدم من قول المعظم للشريعة معنى صحيح للحرية ، وقد تدل القرينة المحتفة بالقائل على معنى فاسد ، فيكون صاحبها من أدعياء الحرية فلا يريد إلا الانفلات ولا يروم إلا عبادة هواه العقلي ، فإليه يتوجه الإنكار في قوله تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) ، فتوجه الإنكار بالاستفهام لمن أضله الرب ، جل وعلا ، عدلا ، مع قيام الحجة في حقه ، فهو عالم بها قد حصلت له هداية البيان والإرشاد ، ولم يحصل له مع ذلك الخضوع والانقياد ، فمنافذ الهدى قد سدت ، فختم على السمع والقلب ، فذلك من الختم الكوني النافذ ، وغشارة على البصر فذلك ، أيضا ، من الجعل الكوني النافذ ، فهو من القضاء الإلهي المبرم فلا راد له ولا دافع ، ثم جاء النفي بالاستفهام الإنكاري فمن يهديه ، فالهداية المنفية : هداية الإلهام والتوفيق فلا تكون إلا من الرب الكريم ، تبارك وتعالى ، فإن شاء هداه فضلا وإن شاء أضله عدلا ، فجواب الاستفام النفي : فلا أحد يهديه من بعد الله ، جل وعلا ، فالقلوب بيده يقلبها كيف شاء فما شاء منها أقامه فضلا وما شاء منها أزاغه عدلا ، فلا يروم إلا هواه العقلي أو شهواته المحسوسة ، فــ : "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الدِّينَارِ ، وَتَعِسَ عَبْدُ الْحُلَّةِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وَانْتَكَسَ وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ" ، فيزعم الحرية المطلقة ولو بالانفلات المطلق ، وحقيقة أمره أنه قد تخلص من قيد العبودية الحقة وهي ، كما تقدم ، معدن الحرية الأعلى ليقع في قيد العبودية الأدنى : عبودية الهوى والشهوة ، فهو عبد شاء أو أبى بما جبل عليه من تأله وخضوع ، فإن لم يخضع للإله الحق خضع لآلهة الباطل وما أكثرها معقولة كانت أو محسوسة فلكل إلهه الذي يعبده ، وليس ثم معبود بحق إلا الإله الواحد ، تبارك وتعالى ، فـــ : (إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) ، فصدر المقال بإثبات التفرد له ، جل وعلا ، بمنصب الألوهية ، ثم ذيل بالاحتراز ، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين ، فلا إله إلا هو مطلقا ، فليس إلهكم إلها واحدا ، وإله غيركم إلها آخر ، ولو واحدا ، أيضا ، وإنما إله الجميع : إله واحد ، الإله الحق ، فــ : (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ) ، فحصل الطباق بالإيجاب إمعانا في تقرير المعنى ، فحق يقابله باطل ، وجاء الحق مؤكدا بالناسخ المؤكد وتعريف الجزأين ، فضلا عن دلالة ضمير الفصل على الحصر والتوكيد ، وجاء الباطل في المقابل مؤكدا بالناسخ المؤكد وتعريف الجزأين ، فالمسند إليه : "ما" : نص في العموم يشل كل ما يدعى من دون الله ، جل وعلا ، فدلالة : "ما" : دلالة الوصف بغض النظر عن عين المعبود أو كنهه ، فتجري مجرى "ما" في قوله تعالى : (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، فالمراد : الوصف لا أعيان النساء المنكوحات ، والشاهد أن مناط الحكم هو : حصول الوصف فيه ، فالمناط هو العلة التي يثبت الحكم بثبوتها ، فيدعى من دون الله ، جل وعلا ، فيسند إليه حكم البطلان ، فالدعاء مما لا يصح إلا لله ، جل وعلا ، فلا معبود بحق سواه ، والدعاء هو العبادة فهو من أظهر صورها .

والشاهد أن مسألة الأسماء والأحكام مما قد وقع فيه التباين والاختلاف تبعا لحدوث أسماء جديدة لم تكن معهودة في زمن النبوة ، وتبعا من وجه آخر لقصر ألفاظ شرعية كانت معهودة في زمن الرسالة فقد جاء بها التنزيل على معان بعينها ، فلفظ "الفقير" ، على سبيل المثال ، له في الشرع حقيقة اصطلاحية خاصة فهو لقب لأحد أنواع المستحقين للزكاة الواجبة فصار بعد ذلك في اصطلاح المتصوفة مئنة من رتبة مخصوصة بل وصار علما على جمهور الطائفة فيقال : طائفة الفقراء .
ولفظ "المؤمن" في اصطلاح الشرع : وصف لمن قام به وصف الإيمان سواء أكان مطلق إيمان يثبت لصاحبه عقد الإسلام ، أم إيمانا مطلقا قد استوفى صاحبه الأركان والواجبات ، أم إيمانا أكمل قد زاد صاحبه على القدر الواجب منه : النفل والمستحب ، فتلك أعلى رتبه ، وأما في اصطلاح الإمامية ، على سبيل المثال ، فإنه مما خص به أتباع الطائفة تحكما محضا فيخصون أنفسهم بلقب الإيمان ، ويستعملون التقية مع غيرهم بإطلاق وصف الإسلام ، ولا يلزم منه استواء الباطن والظاهر فقد يكون صاحبه مسلما في الظاهرا كافرا في الباطن وذلك حد أهل السنة في كلامهم ، فهم منكرون لركن الولاية بمفهومه الباطل المحدث في كلام الإمامية ، فلا يصح إيمان إلا به ، فمن أنكره فهو كافر وإنما يطلق عليه وصف المسلم تقية ! ، فخص اللفظ بتحكم حادث لا مستند له من نقل صحيح أو عقل صريح ، وإنما هو كسائر المحدثات : قول لا دليل عليه إلا هوى أو ذوق قائله ، أو تعصبه المقيت فهو مئنة من جهله العظيم ، فالتعصب والجهل قرينان لا ينفكان في العادة ، وذلك أمر ظاهر في أقوال وأفعال أصحاب الملل الباطلة والنحل الحادثة فلكل حظه من الجهل والتعصب .

والله أعلى وأعلم .