تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عن التأويل



د. هشام عزمي
02-21-2012, 08:33 PM
عن التأويل
بقلم الأخ مهاجر

لفظ التأويل من الألفاظ التي تعددت معانيها بسبب تعدد الاصطلاحات ، فــ :
"لَفْظَ "التَّأْوِيلِ" قَدْ صَارَ بِسَبَبِ تَعَدُّدِ الِاصْطِلَاحَاتِ لَهُ ثَلَاثُةُ مَعَانٍ :
أَحَدُهَا : أَنْ يُرَادَ بِالتَّأْوِيلِ حَقِيقَةُ مَا يَئُولُ إلَيْهِ الْكَلَامُ وَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرَهُ. وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} وَمِنْهُ {قَوْلُ عَائِشَةَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ} ، (أي : يعمل به فذلك ما يؤول إليه الأمر فإنه نص في الإيجاب ، والإيجاب لا يتأول إلا بفعل الواجب ، كما أن التحريم لا يتأول إلا بترك المحرم ، والإباحة لا تتأول إلا بالفعل أو الترك تخييرا ، والندب لا يتأول إلا بالفعل ترجيحا ، والمكروه لا يتأول إلا بالترك ترجيحا ..... إلخ من الأحكام الشرعية ، والأمر يعم الأحكام الكونية فتأويل معنى طلوع الشمس في الذهن أن تطلع في الخارج ..... إلخ) .

وَالثَّانِي يُرَادُ بِلَفْظِ التَّأْوِيلِ : "التَّفْسِيرُ" وَهُوَ اصْطِلَاحُ كَثِيرٍ مِنْ الْمُفَسِّرِينَ وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ - إمَامُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ : إنَّ "الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ" يَعْلَمُونَ تَأْوِيلَ الْمُتَشَابِهِ فَإِنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَفْسِيرَهُ وَبَيَانَ مَعَانِيهِ وَهَذَا مِمَّا يَعْلَمُهُ الرَّاسِخُونَ ، (خلافا لحقيقته في الخارج فلا يعلمها إلا الرب جل وعلا) .
وَالثَّالِثُ أَنْ يُرَادَ بِلَفْظِ "التَّأْوِيلِ" : صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ لِدَلِيلِ مُنْفَصِلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ . وَهَذَا التَّأْوِيلُ لَا يَكُونُ إلَّا مُخَالِفًا لِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ وَيُبَيِّنُهُ .
وَتَسْمِيَةُ هَذَا تَأْوِيلًا لَمْ يَكُنْ فِي عُرْفِ السَّلَفِ وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا وَحْدَهُ تَأْوِيلًا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْخَائِضِينَ فِي الْفِقْهِ وَأُصُولِهِ وَالْكَلَامِ وَظَنَّ هَؤُلَاءِ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إلَّا اللَّهُ} يُرَادُ بِهِ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ صَارُوا فِي هَذَا التَّأْوِيلِ عَلَى طَرِيقَيْنِ : قَوْمٌ يَقُولُونَ : إنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ . وَقَوْمٌ يَقُولُونَ : إنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَهُ وَكِلْتَا الطَّائِفَتَيْنِ مُخْطِئَةٌ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/68 ، 69) .
فالمعنى يتغير تبعا للوقف ، فالوقف على : "وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ" : يجعل التأويل هو الحقيقة في الخارج فلا يعلمها إلا الرب الخالق ، جل وعلا ، فلا يعلم متشابه حقائق الغيب إلا الرب ، جل وعلا ، وإن كانت معانيه محكمة ، والوقف على : "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ" : يجعل التأويل هو التفسير والكشف عن المعنى في الذهن وذلك يعلمه الراسخون بما لهم من نظر في الأدلة ودرك لوجوه الكلام في لسان العرب .

فلفظ : "التأويل" : يدل بأصل الوضع على رجوع الشيء إلى أوله ، وعليه يحمل تأويل اللفظ بمعنى تفسيره فإنه رجوع به إلى معناه في الذهن ، سواء أكان المتبادر فتلك دلالة اللفظ المعجمية المطلقة ، أم غير المتبادر إن دلت قرينة صحيحة عليه فتلك دلالة اللفظ السياقية المقيدة وقد يكون القيد بقرينة عقلية صحيحة وذلك ما لا يكون بداهة في أخبار الغيب فالعقل لا يدرك حقائقها في الخارج وإن أدرك معانيها ، وإنما يكون ذلك في أحكام الشرع التي يدرك العقل مناطها فَيُلْحَقُ الفرع بأصله إذا تحققت العلة فيه تحققها في الأصل فتلك حقيقة القياس في الشرعيات ، فتفسير اللفظ يعم : ترجمة اللفظ بالمرادف فبها تبين دلالته الإفرادية ، ثم بيان معناه في سياق الكلام الذي ورد فيه فذلك قدر زائد به تبين دلالته التركيبية ، ثم الاستدلال على ذلك المعنى فحمل اللفظ على وجه دون آخر دعوى تفتقر إلى البينة ، فــ : "التَّرْجَمَةُ وَالتَّفْسِيرُ ثَلَاثُ طَبَقَاتٍ :
أَحَدُهَا : تَرْجَمَةُ مُجَرَّدِ اللَّفْظِ مِثْلُ نَقْلِ اللَّفْظِ بِلَفْظِ مُرَادِفٍ فَفِي هَذِهِ التَّرْجَمَةِ تُرِيدُ أَنْ تَعْرِفَ أَنَّ الَّذِي يَعْنِي بِهَذَا اللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ هُوَ بِعَيْنِهِ الَّذِي يَعْنِي بِاللَّفْظِ عِنْدَ هَؤُلَاءِ . فَهَذَا عِلْمٌ نَافِعٌ . إذْ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ يُقَيِّدُ الْمَعْنَى بِاللَّفْظِ فَلَا يُجَرِّدُهُ عَنْ اللَّفْظَيْنِ جَمِيعًا .
وَالثَّانِي : تَرْجَمَةُ الْمَعْنَى وَبَيَانُهُ بِأَنْ يُصَوِّرَ الْمَعْنَى لِلْمُخَاطَبِ فَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى لَهُ وَتَفْهِيمُهُ إيَّاهُ قَدْرٌ زَائِدٌ عَلَى تَرْجَمَةِ اللَّفْظِ كَمَا يَشْرَحُ لِلْعَرَبِيِّ كِتَابًا عَرَبِيًّا قَدْ سَمِعَ أَلْفَاظَهُ الْعَرَبِيَّةَ لَكِنَّهُ لَمْ يَتَصَوَّرْ مَعَانِيَهُ وَلَا فَهِمَهَا وَتَصْوِيرُ الْمَعْنَى يَكُونُ بِذِكْرِ عَيْنِهِ أَوْ نَظِيرِهِ إذْ هُوَ تَرْكِيبُ صِفَاتٍ مِنْ مُفْرَدَاتٍ يَفْهَمُهَا الْمُخَاطَبُ يَكُونُ ذَلِكَ الْمُرَكَّبُ صُوَرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى : إمَّا تَحْدِيدًا وَإِمَّا تَقْرِيبًا ، (فهو تأليف معاني الألفاظ المفردة في سياق مركب يفيد العلم بالشيء ، فكأن بيان معاني الألفاظ المفردة وحدات يتألف منها المعنى الإجمالي) .
الدَّرَجَةُ الثَّالِثَةُ : بَيَانُ صِحَّةِ ذَلِكَ وَتَحْقِيقُهُ بِذِكْرِ اللَّيْلِ وَالْقِيَاسِ الَّذِي يُحَقِّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى إمَّا بِدَلِيلِ مُجَرَّدٍ وَإِمَّا بِدَلِيلِ يُبَيِّنُ عِلَّةَ وُجُودِهِ. وَهُنَا قَدْ يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِ أَمْثِلَةٍ وَمَقَايِيسَ تُفِيدُهُ التَّصْدِيقَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى كَمَا يَحْتَاجُ فِي "الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ" إلَى أَمْثِلَةٍ تُصَوِّرُ لَهُ ذَلِكَ الْمَعْنَى. وَقَدْ يَكُونُ نَفْسُ تَصَوُّرِهِ مُفِيدًا لِلْعِلْمِ بِصِدْقِهِ. وَإِذَا كَفَى تَصَوُّرُ مَعْنَاهُ فِي التَّصْدِيقِ بِهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى قِيَاسٍ وَمَثَلٍ وَدَلِيلٍ آخَرَ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/115 ، 116) .

وعليه ، أيضا ، يحمل تأويل الأمر بمعنى امتثاله ، فإن امتثال الأمر يستلزم : وقوع المأمور في الخارج ، فيرجع الأمر إلى غايته وهي فعل المأمور كما شاء الرب الشارع ، جل وعلا ، فمناط الأمر في هذا الوجه : شرعي ، كما أن تأويل الشيء المقدور هو : وقوع المخبر به في الخارج ، كما شاء الرب القادر ، جل وعلا ، فمناط الأمر في هذا الوجه : كوني ، فالرب قدير على كل شيء ، ومن التأويل ما صح وهو التفسير الصحيح المنقول عن السلف المعهود في لسان العرب ، ومنه ما بطل وهو التأويل المذموم فيتأول المتكلمون أخبار الإلهيات ، ويتأول الفلاسفة الأخبار بل والأحكام ! ، فتأويلهم أفسد وجرمهم أعظم ، فمن التأويل ما يعذر صاحبه في الجملة ، وإن كان لازم تأويله جحدا لخبر أو تعطيلا لحكم ، فمعه حجة ، ولو مرجوحة لا تعتبر فخلافه غير معتبر ، وثم في المقابل من التأويل ما لا يعذر صاحبه ، كسائر تأويلات الباطنية من الفلاسفة والنصيرية والإسماعيلية ، فأولئك كفار نوعا وعينا ، فليس لمقالهم وجه ، ولو مرجوحا ، فهو نقض صريح لأصل الدين الصحيح ، فليس ثم شبهة تأويل ترفع الحكم ، بل يثبت في حقهم حكم التكفير وإثم التأويل ، من باب أولى ، خلافا لتأويلات المتكلمين فإن منها :
ما يرفع الحكم والإثم معا ، فصاحبها من الأكابر الأفاضل الذين نصروا الملة وأظهروا السنة ، وإنما وقع له التأويل فلتة ، فوافق المتكلمين في موضع أو مواضع قلة ، وقد يوافقهم في أصل أو يوافقهم في مواضع عدة تنزل منزلة الأصل فيكون على أصل من أصول المتكلمين في باب أو عدة أبواب ، وهو مع ذلك ، معذور ، فلم يتعمد خلاف الحق ، وإن وقع له التقصير في الاستدلال ، فلم يتقصد ذلك ، وإنما قد بذل جهده واستفرغ وسعه في درك الحق فلم ينله ، فــ : "إِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ الْإِيمَانِ النَّصَّ إنَّمَا يَكُونُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَا عَارَضَهُ لَكِنْ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ السُّنَّةِ وَعَظُمَ أَمْرُهُ يَقَعُ بِتَفْرِيطِ مِنْ الْمُخَالِفِ وَعُدْوَانٍ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ الذَّمِّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي النَّصِّ الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ فِيمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ؛ يَعْظُمُ فِيهِ أَمْرُ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/15) .

فثم تفاوت في هذا الباب بين ما ظهر فالعذر فيه أضيق ، وما خفي من دقائق المسائل العلمية أو العملية ، فالعذر فيه أوسع .

فهو معذور بل ومثاب على ما وافق فيه الحق ، وبذلك حُمِدَ أمثال الإمام أبي الحسن الأشعري ، رحمه الله ، مع ما له من تقريرات في الإلهيات وافق فيها المعتزلة وعليها زاد المتكلمون فغلوا في التأويل ، وقالوا في الإلهيات بما لم يقل به الإمام ، وإن انتسبوا إليه في الجملة ، فــ : "كُلُّ مَنْ أَحَبَّهُ وَانْتَصَرَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِذَلِكَ . ، (أي : بما وافق فيه السنة) ، فَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِهِ الدَّافِعُ لِلطَّعْنِ وَاللَّعْنِ عَنْهُ - كالبيهقي ؛ والقشيري أَبِي الْقَاسِمِ ؛ وَابْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ - إنَّمَا يَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَوْ بِمَا رَدَّهُ مِنْ أَقْوَالِ مُخَالِفِيهِمْ لَا يَحْتَجُّونَ لَهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَقْرَبِ بَنِي جِنْسِهِ إلَى ذَلِكَ لَأَلْحَقُوهُ بِطَبَقَتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَشَيْخِهِ الْأَوَّلِ " أَبِي عَلِيٍّ "؛ وَوَلَدِهِ " أَبِي هَاشِمٍ ". لَكِنْ كَانَ لَهُ مِنْ مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الصِّفَاتِ؛ وَالْقَدَرِ وَالْإِمَامَةِ؛ وَالْفَضَائِلِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَلَهُ مِنْ الرُّدُودِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ: مَا أَوْجَبَ أَنْ يَمْتَازَ بِذَلِكَ عَنْ أُولَئِكَ؛ وَيُعْرَفَ لَهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وَبِمَا وَافَقَ فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ صَارَ لَهُ مِنْ الْقَبُولِ وَالْأَتْبَاعِ مَا صَارَ. لَكِنَّ الْمُوَافَقَةَ الَّتِي فِيهَا قَهْرُ الْمُخَالِفِ وَإِظْهَارُ فَسَادِ قَوْلِهِ: هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الْمُنْتَصِرِ.
فَالرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ حَتَّى كَانَ " يَحْيَى بْنُ يَحْيَى " يَقُولُ: " الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ " وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} " وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُغْزَى مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَالْجِهَادُ عَمَلٌ مَشْكُورٌ لِصَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ مَشْكُورٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَوَجْهُ شُكْرِهِ: نَصْرُهُ لِلسُّنَّةِ وَالدِّينِ فَهَكَذَا الْمُنْتَصِرُ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ يُشْكَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَحَمْدُ الرِّجَالِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا وَافَقُوا فِيهِ دِينَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَشَرْعَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ؛ إذْ الْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْحَسَنَاتِ. وَالْحَسَنَاتُ: هِيَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ. فَالْخَيْرُ كُلُّهُ - بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ - هُوَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/12_14) .

وبذلك ، أيضا ، حُمِدت فئام من هذه الأمة : خالفت أهل السنة في أصول كلية ، وكان لها ، مع ذلك ، حسنات توجب العدل في الحكم والإحسان في الظن ، والدعاء بالمغفرة ، وإن لم يجز الدعاء لطائفة بعينها بالمغفرة والرحمة ، وإنما يجوز ذلك في حق آحاد الأفاضل ممن نسب إليها سواء أكانت النسبة كلية كنسبة أمثال الجويني والرازي ، رحمهما الله ، إلى مذهب المتكلمين ، أم جزئية كنسبة أمثال القرطبي وابن حجر ...... إلخ ، رحم الله الجميع ، إلى مذهب المتكلمين على تفصيل في ذلك فتلك مراتب تتفاوت فتقوى النسبة بقدر ما وافق فيه الإمام الطائفة من أصول ، وتضعف بقدر ما خالفها ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ، فلكل حال ما يلائمها من الحكم ، فــ : "كَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ إنَّمَا قُبِلُوا وَاتُّبِعُوا واستحمدوا إلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ بِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ وَكَذَلِكَ استحمدوا بِمَا رَدُّوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَحَسَنَاتُهُمْ نَوْعَانِ: إمَّا مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَإِمَّا الرَّدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ بِبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/12) .

وذلك أمر ، عند التدبر والنظر ، يعم سائر الرجال فإن الناظر في كتب التراجم ، أيا كانت ، اعتزالية أو صوفية ..... إلخ يجد المصنف في الغالب ، كما يقول بعض الفضلاء ، يحرص على ذكر ما امتدح به صاحب الترجمة مما وافق فيه السنة علما وعملا ويجتهد في إخفاء زلاته ، فلا يُمْدَحُ فلان مثلا بأنه كان من نفاة الصفات ! ، وإنما يمدح بالصدق والزهد والورع .... إلخ فذلك ما تصدر به الترجمة لكونه مما أجمع على استحسانه أهل الملة قاطبة .


وقد يبلغ الأمر حد الذم ، فصاحب التأويل قد غلا فاستحق الذم فغاية تأويله أن يرفع الحكم ولا يرفع الإثم ، كتأويلات غلاة الفرق من الخوارج والجهمية والإمامية ، فمقالهم : كفر بالقول أو اللازم ، وأعيانهم متوعدون فهم آثمون ، ولا يلزم من ذلك تكفيرهم إلا من قامت عليه الحجة الرسالية ، فتأويلهم يرفع الحكم في الجملة ولا يرفع الإثم ، خلافا لأسوأ الفرق في هذا الباب وهم الغلاة من الفلاسفة والباطنية فتأويلهم يوجب الكفر النوعي والعيني فلا يرفع الإثم ولا الحكم ، فصارت المراتب ثلاثا :


تأويل قد سلم صاحبه من الحكم والإثم معا فقد اجتهد في درك الحق فلم يبلغه ، وذلك أمر يعم سائر المسائل العلمية والعملية فمتى بذل الناظر جهده واستفرغ وسعه في درك الحق فقد سلم من الإثم وإن لم يدرك الحق ، فهو صحيح النية ، أهل للنظر إن كان مجتهدا ، أو أهل للاتباع إن كان مقلدا ، فتحرى الأعلم والأورع ليفتيه فيما يعرض له من نوازل علمية أو عملية ، فَتَرِد الشبهة لتثير الشك فيحسن النظر ، وإن لم يحسن ، بادي الرأي ، كما قال المتكلمة ، فالنظر أو القصد إليه ، عندهم ، أول واجب على المكلف ، وذلك ، بداهة ، إنكار لما استقر في النفوس من فطرة التوحيد ، أو إزراء به فلا يجزئ لثبوت الإيمان وحصول النجاة ، فالتوحيد أظهر من أن ينوه به ، فهو العلة الغائية الأولى التي بعث الرسل ، عليهم السلام ، للتذكير بها وبيان ما درس من آثارها وتقويم ما اعوج منها وبيان ما أجمل منها ، فلم يبعثوا للنظر في حقيقتها ، فهي أظهر من أن تخفى على أحد ، فكل إنسان يجدها في نفسه ضرورة ، وإنما بعثوا بالآي الشرعي المذكر بها ، والآي الكوني الشاهد لها ، فجرت على أيديهم الآيات في مقام التحدي والإعجاز ، ونوهت الرسالات بالآي الكوني الباهر في معرض النظر والتدبر لتقرير لازمه العقلي الضروري من التوحيد العلمي والعملي ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فذلك الآي الكوني في الخلق ، و : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : فذلك المراد الشرعي من الخلق ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
فــ : "من الحقائق التي تتطابق عليها الأديان وتتضافر على الإيمان بها العقول والفطر السليمة أن للوجود الإنساني على الأرض غاية مقصودة أرادها الخالق واقتضتها حكمته النافذة ومهما اختلفت الآراء والمذاهب في ماهية هذه الغاية وتصورها ، فإن حقيقتها العامة لا تقبل الجدل .
وهذه الحقيقة درجت الأجيال البشرية المتعاقبة على الإيمان بها ليس لأنها منبثقة عن فكرة الخلق المستقل – كما يتوهم دعاة التطور – بل لأن الفكرتين كلتيهما عميقتان في التصور الإنساني مركوزتان في الفطرة البشرية .

لذلك نجد أن الرسالات السماوية لم تأت لإثبات هذه الغاية بل للتذكير بها وإيضاح حقيقتها . وكذلك نلاحظ أن المباحث الفلسفية كانت تركز جهدها على الخوض في العلل الغائية للأشياء لتبني عليها نظرياتها عن الكون والحياة ولا تبالي كثيراً بالعلل الصورية . فكان الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث حول الغاية من خلق الإنسان ووظيفته المباشرة" . اهــ من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" .


وذلك ما خالفت فيه المناهج الأرضية المادية : المناهج الفكرية عموما ، والرسالات السماوية خصوصا ، فقد شغلت بالبحث في العلل الصورية ، فعنيت برصد آثار ونتائج البحث التجريبي ، فنظرت في السنن الكوني ، وذلك قدر مشترك بينها وبين الرسالات ، فالجميع يحث الناظر على التدبر في سنن الخالق ، جل وعلا ، بالقول أو الفعل ، فنظرت في الآي الكوني لا كالنظر الذي حثت عليه الرسالات ، فالرسالات قد حثت على النظر فيه في معرض الاستدلال على الآي الشرعي الحاكم ، فإن التصور الصحيح لمعاني الربوبية ينتج في الخارج حكما صحيحا بإفراد الرب ، جل وعلا ، بأجناس العبودية الباطنة والظاهرة ، فيتعبد الباطن بالتوحيد ، ويتعبد الظاهر بالتشريع ، وأما المناهج الأرضية فغايتها أن تقصر النظر على العلل الصورية برصد الآثار والنتائج ، كما تقدم ، لتنتفع بها في أمور المعاش وذلك حق لم تنه عنه الرسالات بل قد أمرت به ، فـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، دون التفات إلى أمور المعاد ، وذلك باطل ، وبه امتازت الرسالات عن سائر المقالات فهي صلاح للدين بالنظر في آي الكون استدلالا ، وصلاح للدنيا بالنظر في آي الكون انتفاعا .

فقصر العلل على العلل الصورية النفعية الدنيا دون العلل الغائية العليا : "عاد ... بأسوأ الأثر على الأخلاق والقيم الإنسانية التي ظل بنو الإنسان محتفظين بها منذ وجدوا على الأرض وخرجت في أوروبا أجيال آمنت بالعبثية والعدمية والفوضوية والوجودية وأضرابها من أشكال الفلسفات العابثة التائهة وعمت موجة غريبة طاغية من التبرم والضيق بالحياة ومحاولة الهروب من السير في جادتها وأصبح التخلص من التفكير في ذلك هو الغاية الكبرى لكثير من الناس . لا سيما ذوو الإحساس المرهف .

وتنغصت حياة الناس بقلق وذعر لا يكادون يستبينون مصدريهما وأخذت تعصف بهم دوامة من الحيرة والضياع تزداد سعاراً كلما تذكروا أن وجودهم في هذه الدنيا لا يزيد هدفاً وحكمة عن وجود أدنى الديدان وأحط الحشرات .

ونتج عن ذلك – مما نتج – أن استهان الفرد بنفسه وفقدت حياه معناها وقيمتها فأصبح الانتحار بوسائله المتعددة أمراً مألوفاً . بل أصبحت المسابقات والمباريات الفردية والجماعية تعتمد بالدرجة الأولى على المخاطرة والزج بالنفس في الأهوال واستأثرت مناظر العنف باهتمام الناس سواء أكانت على الطبيعة أم في وسائل الإعلام" . اهــ من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" .

ولعل ما نراه الآن من صور الفوضوية في حياة كثير من الشباب الذي خرج عن أمر الشريعة فردها تلميحا أو تصريحا فقد نقض كل قيمة عليا وصارت حياته عبثا ، وليس ثم من يرشد ، فالبيوت قد خربت وإن كان ظاهرها العمران ، فعدمت فيها آثار النبوات علما أو عملا ، فلعل ذلك نمط آخر يروم الغرب حمل الشرق المسلم عليه اختيارا أو اضطرارا على ما اطرد من ثقافة العنف التي يعالج الغرب بها أغلب إشكالاته ! .


وتأويل قد سلم صاحبه من الحكم وإن لم يسلم من الإثم ، فهو متوعد إذ قد قصر في طلب الحق وغلا في مخالفة السنة كما هي حال غلاة المتكلمين والمعتزلة والجهمية ، على خلاف في الجهمية ، فبعض أهل العلم لا يكفر آحادهم فقوله في التأثيم دون التكفير للأعيان قد اطرد ولكنه لا يجري ذلك على الرءوس فقد حكم عليهم بالكفر : عينا ونوعا من باب أولى .

والتفريق بين الرأس المتبوع والمقلد التابع في هذه المرتبة أمر يحسم كثيرا من موارد النزاع في باب الأسماء والأحكام ، فالرأس ينظر ويستدل ويناجز وينافح عن مقاله ، فيلحقه الذم والإثم من هذا الوجه وإن انتفع بالعذر في حقه في الجملة ، خلافا للمقلد فإنه يتبع بلا نظر فلا أهلية له لينظر بنفسه فلا يلحقه ما يلحق الرأس من الذم ، فقد يذم على عدم تحريه لمفتيه ، فاستفتى رأسا في الضلالة ، وذلك أمر يقع فيه الاشتباه فقد يكون في بلد قد ظهرت فيها أعلام البدعة ودرست فيها آثار السنة فصارت الرياسة لأهل الأهواء فهم الرءوس المستفتون فيحسن المستفتي بهم الظن فهم عنده أهل العلم والفتوى فيسألهم فيفتونه بالباطل المحض فيظنه الحق المحض ! ، فلا يذم من هذا الوجه فقد اجتهد في اختيار من يشار إليه بالفتوى فهو عنده من أهل العلم والورع والتقوى ، وإن كان من أهل الجهل والفجور في نفس الأمر ! كما هي الحال الغالبة على رءوس الضلالة ، فلا يذم ، في الجملة ، إلا إن فرط في اختيار من يحسن الظن به في الفتوى إلا إن كان القول ظاهر الفساد فلا يحتمل ففيه نقض صريح لأصل من أصول الدين ، فلا إفراط في هذا الباب ولا تفريط ، فليس المتَّبَعون كالمتَّبَعين ، فحقيقة المتَّبِعين أنهم : "مُتَّبِعُونَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ لِأَنَّهُ فَرْضُهُمْ، فَلَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى يَخُوضُوا بِأَنْظَارِهِمْ فِيهَا وَيُحَسِّنُوا بِنَظَرِهِمْ وَيُقَبِّحُوا.

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ لِلَفْظِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" وَ "أَهْلِ الْبِدَعِ" مَدْلُولٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ مَنِ انْتَصَبَ لِلِابْتِدَاعِ وَلِتَرْجِيحِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَالسَّالِكُونَ سُبُلَ رُؤَسَائِهِمْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ; فَلَا.
فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ.
فَالْمُقْتَدِي بِهِ; كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ.
وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ" . اهــ من : "الاعتصام" .

فلا : "يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى ............ فــ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ. كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ وَكَانَ يَقْرَأُ {بَلْ عَجِبْتَ} . وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَقَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُنَازِعِينَ لَهَا: إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ. وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ آلَ الشَّرُّ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى الِاقْتِتَالِ. مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّة عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا مُؤْمِنَتَانِ، وَأَنَّ الِاقْتِتَالَ لَا يَمْنَعُ الْعَدَالَةَ الثَّابِتَةَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ وَالتَّأْوِيلُ يَمْنَعُ الْفُسُوقَ ...... فما : نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (3/229 ، 230) .


وقد يلتحق بأولئك ، ولو من وجه ، وإن كان العذر في حقهم أضعف ، وإن عذروا في الجملة لا سيما من لم يلتزم لازم القول ، فهو نقض صريح لأصل الشرع الحنيف ، قد يلتحق بهم أصحاب الطرح العلماني وما تفرع عليه من الطرح الليبرالي ، على تفاوت في ذلك ، فليسوا سواء ، فإن منهم أراذل قد جهروا بلازم المذهب فكفوا الناظر المؤنة ! ، ومنهم في المقابل : أفاضل قد التبس عليهم القول فاغتروا بزخرف قوله وغفلوا عن لازمه ، وغاية أمرهم في أغلب أحوالهم أن يلتزموا آليات القول دون أصله ، بل لو أوقفوا على لازمه من نقض أصل الدين لأنكروه واستقبحوه فلا يستوي أولئك ومن أوقف على اللازم فالتزمه فجهر صراحة بالمروق من الديانة ، فليسوا سواء ، فالعدل يقضي بالتفريق بينهما في الحكم إذ الحال قد تباينت ، ولكل حال حكم يلائمها ، فليست الأعيان سواء ، وليست الأفهام سواء ، وليست الأحوال سواء ، وليست الدور سواء ، فعارض الجهل يعم أصول الدين وفروعه ، على تفصيل في ذلك ، فلا إفراط بعذر من جهر بالكفر أو التزم لازمه بلا شبهة دليل ، ولو ضعيفا ، ولا تفريط بعدم العذر وقد قامت أسبابه لا سيما في الدور التي خفيت فيها آثار النبوة أو درست .

وتأويل لا يسلم صاحبه ابتداء لا من الحكم ولا من الإثم ، من باب أولى ، فهو كافر عينا ونوعا ، من باب أولى ، كما هي حال الفلاسفة وسائر الباطنية كالإسماعيلية والنصيرية ، فحاصل أمرهم ، كما تقدم ، إبطال الدين برمته : عقدا فقد تسلطوا على الأخبار الإلهية بالتأويل ، وشرعا فلم تسلم الأحكام الشرعية من تأويلاتهم الباطنية ، فـــ : "أهل التخييل : هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف .
فإنهم يقولون : إن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بَيَّنَ به الحق ، ولا هدى به الخلق ، ولا أوضح الحقائق .
ثم هم على قسمين :
منهم من يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقائق على ما هي عليه .
ويقولون : إن من الفلاسفة الإلهية من علمها ، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية : باطنية الشيعة ، وباطنية الصوفية .
ومن منهم من يقول : بل الرسول عَلِمَها لكن لم يُبيِّنها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فَهْمَ ما يناقضها، لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق .
ويقول هؤلاء : يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر .
وأما الأعمال : فمنهم من يقرها ، ومنهم من يجريها هذا المجرى ، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، وهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم" . اهــ من : "الفتوى الحموية" .

وفي كل ذلك من هتك أستار النبوات ما لا يخفى ، وفيه من الإزراء ببيان الرسالات ما لا يحكى ، فــ : "إِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَقُولُ: إنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيَانِ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ إظْهَارَهَا يُفْسِدُ النَّاسَ وَلَا تَحْتَمِلُ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَرَفُوهَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَعْرِفُوهَا. أَوْ أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُمْ ثُمَّ يُبَيِّنُونَهَا هُمْ بِالطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/90) .
فــ : "هَذَا الْقَدْرُ بِعَيْنِهِ هُوَ عَيْنُ الطَّعْنِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَعْظِيمِهِمْ وَكَمَالِهِمْ: إقْرَارَ مَنْ لَا يَتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمًا فَيَكُونُ الرَّسُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ خَلِيفَةٍ: يُعْطِي السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ رَسْمًا وَلَفْظًا كِتَابَةً وَقَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مُطَاعٌ. فَلَهُ صُورَةُ الْإِمَامَةِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَتُهَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/89) .
فصيروا النبوة اسما بلا مسمى ، ورياسة بلا سياسة ! ، فهي للتبرك المحض بنصوص معطلة ! . وذلك ، أيضا ، مما يروموه فلاسفة زماننا من منظري ومعتنقي المذاهب الأرضية المعاصرة فالنبوة عندهم محض أخبار وقصص ! ، لا أحكام وشرائع ملزمة .

فــ : "تَلْخِيصُ النُّكْتَةِ: أَنَّ الرُّسُلَ إمَّا أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْحَقَائِقَ الْخَبَرِيَّةَ وَالطَّلَبِيَّةَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِذَا عَلِمُوهَا: فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ الْبَيَانُ: فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ لِلْعَامَّةِ وَلِلْخَاصَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ فَقَطْ. فَإِنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا مِنْهُمْ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ ............. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الرُّسُلَ مَقْصِدُهُمْ صَلَاحُ عُمُومِ الْخَلْقِ وَعُمُومُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَاطِنَةِ فَخَاطَبُوهُمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَأَظْهَرُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ فِي الْقَوَالِبِ الْحِسِّيَّةِ؛ فَتَضَمَّنَ خِطَابُهُمْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ: مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ لِلْمَعْقُولِ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْمَعَادِ. وَذَلِكَ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَا يَحُضُّ النُّفُوسَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَيَنَالُونَ السَّعَادَةَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ؛ إذْ هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ الرُّسُلُ هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي كَشْفِ الْحَقَائِقِ لِعُمُومِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَمَقْصُودُ الرُّسُلِ: حِفْظُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، (فصيروا النبوة كأي شريعة محدثة وضعت لحفظ الحقوق وسياسة البشر ، فليس ثم قدر زائد من وحي نازل ، وذلك جار على أصلهم في جعل النبوة صناعة تكتسب ، فليست هبة من الرب ، جل وعلا ، لمن اصطفى من عباده ، والصحيح أن النبوة : وحي وسياسة فالدين قد أنزل ليحفظ وتحكم الدنيا به فتتأول أحكامه وشرائعه فلأجل لذلك شرعت الإمامة نيابة عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنفيذ أحكامها وحفظ حدودها)" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/98 ، 99) .

فإما أنهم جهلوا ، وتلك مقالة أهل التجهيل ، فقد زعموا بأن الأنبياء عليهم السلام لم يعلموا الحق ، وإن نقلوا اللفظ ، فلم يفقهوا المعنى ! ، ويلتحق بأولئك أهل التفويض في الإلهيات فيفوضون الحقيقة والمعنى ، والصحيح تفويض الحقيقة في الخارج فلا يعلمها إلا الرب ، جل وعلا ، وأما المعنى فهو مما يدركه العقل ، وبه يكون التكليف في العلميات ، فلا يرد الوحي بمحال تأباه العقول الصريحات وإنما يرد بمحارات يجوزها العقل فيتصورها الذهن ، وإن لم يدرك حقيقتها في الخارج فيكون الابتلاء بالإيمان بالمعاني الجائزة وإن لم يدرك العقل الحقائق في الخارج ، فذلك حد الإيمان بالغيب في الوحي فليس إيمانا بمعدوم أو محال ترده العقول فيحصل الابتلاء للعقول بنقض قياسها الصريح كما يزعم أصحاب المقالات المحالة كالتثليث ونحوه ، فكمال التسليم والانقياد لا يكون بتعطيل العقل الصريح ، وإنما يكون بموافقة قياسه للنقل الصحيح ، فالتعارض بينهما محال ، فمرد الأمر إلى إثبات صحة الخبر نقلا ، ودرك معناه عقلا ، فيدرأ الناظر ما قد يتوهم ابتداء من تعارض العقل والنقل ، فذلك أمر لا يتصور ، فإن وقع فإما أنه وهم ، وإما أن النقل باطل ، أو العقل فاسد ، ومتى صح النقل وجب اتهام العقل ، فإن النقل ، كما تقدم ، يأتي بالمحار لا المحال ، والنقل إذا صح فهو ثابت لا يتطرق إليه الخطأ ، والعقل في المقابل متغير يتطرق إليه عارض النقص من الخطأ والجهل والنسيان والمرض ......... إلخ ، فقياس العقل الصريح قاض برد متشابه العقول إلى محكم النصوص .

فإما أنهم جهلوا وإما أنهم علموا وكتموا ! ، أو علموا وصوروا الأمر في أمثال محسوسة ، وتلك مقالة أهل التخييل كالفارابي وهو من غلاة المتفلسفة الذين فضلوا الفيلسوف على النبي ، فيقول : "إنَّ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ ، أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .
وابن سينا ، وإن كان أعقل منه في الجملة ، فلم يفضل الفيلسوف على النبي ، فــ : "كل كُلُّ عُقَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ ، (أي : النبي) ، أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَأَنَّ جِنْسَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَاهِيرِ ثُمَّ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ حُكَمَاءُ كِبَارُ وَأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْحُكَمَاءَ أَنْبِيَاءُ صِغَارٌ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُمْ صِنْفَيْنِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

فمع تفضيله النبي على الفيلسوف إلا أنه : "يَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَيَقُولُ : مَا كَانَ يُمْكِنُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مَعَ أُولَئِكَ الْعِبْرَانِيِّينَ وَلَا يُمْكِنُ مُحَمَّدًا مَعَ أُولَئِكَ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ فَهْمِ ذَلِكَ وَإِنْ فَهِمُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ عزماتهم عَنْ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .
فلم يكن خطاب الكليم عليه السلام بأخبار التوراة وأحكامها ، وخطاب الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأخبار التنزيل وأحكامه إلا خدعة ! .

ولذلك تجد متفلسفة زماننا يعظمون هذا الطرح الشائه فهو ذريعتهم إلى إبطال الشرائع ، فثم فلاسفة عظام في دين الإسلام نقضوا أصوله وأحكامه ! ، فالتأويل بحر لا ساحل له ، فلم يسلم منه خبر أو حكم ، فكل النصوص تخضع لأهواء العقول وأذواق النفوس ، ولها في ذلك مذاهب تتعدد بتعدد الأهواء والأذواق فلأيها يرد الأمر إذا وقع النزاع ؟! .


وقد وقع ذلك في كلام بعض الأفاضل ممن غلوا في تقرير الدلالة العقلية القياسية ، كالرازي رحمه الله ، أو الذوقية الوجدانية ، كالغزالي رحمه الله ، فــ : "هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ: طَائِفَةٌ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِ الْإِحْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الرَّازِي" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .

ووقع في كلام الأراذل من الاتحادية ومن وافقهم من المتكلمين ، وإن كانوا أحسن منهم حالا ومآلا فهم مؤمنون في الجملة وإن تعدوا في الإلهيات بتأويل محكم أخبار الصفات ، فــ : "أَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: فَعَلَيْهِ مَدَارُهُمْ وَمَبْنَى كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ جَمِيعًا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99 ، 100) .

وذلك نوع سفسطة في التصور فلا ينفع مع صاحبها مناظرة أو محاجة ، فــ : "الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاجَّةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَإِلَّا فَالظَّالِمُ يَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُهُ: وَهُوَ الْمُسَفْسِطُ وَالْمُقَرْمِطُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ: وَهُوَ الْمُعْرِضُ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِحْسَاسَ الظَّاهِرَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ وَلَا يَقُومُ لِلْجَاحِدِ فَكَذَلِكَ الشُّهُودُ الْبَاطِنُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ عَنْ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/109) .

فالظالم قد نقض أصول الاستدلال ، فأنكر العلوم الضرورية التي أجمع عليها العقلاء ، وذلك أمر ظاهر ، قديما وحديثا ، في الطرائق الفوضوية ، فأصحابها ، كما تقدم ، يرومون الانخلاع من كل دين وتكليف ، فمن قيد التكليف الذي يرتفع بصاحبه إلى درجات العبودية الرفيعة إلى فضاء الفوضى التي تنحط بصاحبها إلى دركات الحيوانية الوضيعة ، بل قد ينزل صاحبها إلى دركة أسفل ، فلا منتهى لغواية بني آدم إذا ضلوا عن منهاج الوحي فهو العاصم للعقل من الشطط ، وهو العاصم للنفس من الخطأ ، فإذا ضل الإنسان عن الذكر ، أو تركه فلم يحفل به ، فأعرض ونأى بجانبه عنه ، فهو في ضلال علمي مبين وغي عملي عظيم ، فتفسد قوته العلمية فقد تصور اللذة فيما يفسد النفس ، بل وينقض بدائه الحس فيأتي من الأقوال ما ينقض العقل ، ويأتي من الأفعال ما ينقض الفطرة ، وقد رأينا في زماننا في بلاد الشرق المسلم ، وهي مهبط الوحي ومجمع النبوة فإليها تأرز العقائد الصادقة والشرائع العادلة التي تغتذي بها النفوس تصورا وحكما فتغتذي بخبرها الصادق فذلك مدد الجنان وتغتذي بحكمها العادل فذلك مدد الأركان فليس ثم حاجة إلى مدد آخر من مقالات علمية باطلة أو طرائق عملية فاسدة تكاد تصل إلى حد الجنون فصاحبها قد زال عقله التوفيقي فضل في القول والعمل وإن لم يزل عقله التكليفي فهو مخاطب بالعقد والشرع ، رأينا في زماننا في بلاد الشرق : أقوالا عجيبة وأحوالا غريبة ، بلغت حد التحلل من كل قيمة ، ولو أخلاقية بدهية أو عرفية اجتماعية فضلا عن أن تكون شرعية ! ، وهي تندرج في حد الفوضوية تارة ، وتأرز من وجه آخر إلى الطرح الليبرالي ، فلازمه الفوضى الدينية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية ....... إلخ ، فتلك الفوضى الخلاقة التي بشر بها ساسة الغرب ، فأصغى لها بعض الشبيبة في الشرق المسلم فظهرت ديانات جديدة ! ، طقوسها إمعان في نقض الفطر وإبطال الشرائع ، وظهرت أخلاق جديدة تلتذ بنقض الناموس الشرعي ، وهو أعدل ناموس بإقرار أعظم مخالفيه من الفلاسفة الذين أبطلوا رسمه العملي لمن بلغ رتبة الكمال العلمي ، فقد : "اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ الْمُحَمَّدِيِّ" . اهــ من كلام ابن سينا نقلا عن : "مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

فإذا كانت تلك شهادة من أبطل الناموس ! ، فهو شاهد بعدله وفضله ، فقد جاء بأصدق تكليفي خبري وأعدل تكليف حكمي ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا ، فكيف صح في الأذهان أن يرضى عاقل بنقض الشرائع ؟! ، فيتحلل من عقدها العلمي أو حكمها العملي ، وغالبا ما يقترنان ، فليس في دين الإسلام ذلك الفصام النكد بين العلم والعمل ، فكلاهما يشهد للآخر ، فالعلم سبب في وجود العمل ، فــ : (اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، فذلك العلم ، و : (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فذلك العمل ، والعمل من وجه آخر سبب في رسوخ العلم ، فالباطن ينتج الظاهر ، صح أو فسد ، والظاهر يشهد للباطن صدَّق أو كذَّب ، فــ : (لَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) ، فاقترن فساد الباطن بالتكذيب لخبر الشارع ، جل وعلا ، بفساد الظاهر فصاحبه قد هجر حكم التكليف الآمر ، فــ : (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، فكذب فهو لازم عدم التصديق ، وتولى فهو لازم نقض التشريع ، ففسد العلم الباطن والعمل الظاهر ، على ما تقرر مرارا ، من التلازم الوثيق بينهما ، فذلك أصل المسألة ، فإن أولئك قد فسد تصورهم لمعنى اللذة ، فصارت عندهم ذريعة إلى الفوضى ، فيرمون تحصيل أي لذة ولو أعقبها من الألم ما ينسي حلاوتها ، فلما فسد التصور إذ لم يغتذ صاحبه بالخبر الصادق الذي أبان عن حقيقة اللذة في دار الابتلاء ، فهي عارضة فلا تدوم ، فــ : "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" ، وأشرف أجناسها فهو الباقي : ذكر الرب الهادي ، تبارك وتعالى ، فليس ثم طمأنينة للقلب إلا به ، فــ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، واسأل من خاض في بحور الشبهات فتنقل بين المقالات أوجد ضالته إلا في التوحيد ؟! ، فلسان مقال الجويني ، رحمه الله ، حال الاحتضار : "لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ. وَالْآنَ: إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجُوَيْنِي وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ -: عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ" . اهــ
نقلا عن : "مجموع الفتاوى" ، (4/73) .


واسأل من خاض في بحور الشهوات أوجد لذته إلا في الطاعة ؟! ، وذلك أمر أقر به من هدي إلى الحق ، فعجبا لمن ورث الحق فلم يقدره حق قدره إذ لم يجهد في تحصيله ولم يبذل لنيله ، فجاءه بلا كلفة ، فزهد فيه بل وبذله ثمنا للضلالة والغواية ، ففسدت حاله علما وعملا ، وأتى بما يزري بالعقلاء ، فضلا عن المؤمنين الشرفاء ، و : (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، فــ :
"سُبْحَانَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ؛ فَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/357) .

والشاهد أن كل من ضل في هذا الباب إنما أُتِي من قبل عقله أو ذوقه ، فرضي بالباطل والتذ بالفاسد ، فظن السعادة مما يدرك بإجابة داعي الهوى والشهوة ، ففساد في العقل باتباع الأهواء ، فذلك سبب الضلال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) ، وفساد في النفس باتباع الشهوات وهجر الطاعات فهما متلازمان ، فــ : (خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) ، فأضاعوا الصلاة فضلوا عن الحق ، واتبعوا الباطل ، لزوما لا انفكاك عنه في العقل والطبع ، فاتبعوا الشهوات ، فحالهم في الدنيا ضنك إذ قد أعرضوا عن الذكر ، ومآلهم في الآخرة أنهم : (سَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، وبعض آخر ظن السعادة واللذة إنما تنال بالعلم المجرد دون العمل المصدِّق ، فــ : "لَا يُنْكِرُونَ الْعَمَلِيَّاتِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَكِنْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا لِعُمُومِ النَّاسِ لَا لِخُصُوصِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ. وَمَدَارُ كَلَامِهِمْ: عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَلَا. وَعَلَى هَذَا يَدُورُ كَلَامُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي مُتَفَقِّهَتِهِمْ ومتصوفتهم وَعُقَلَاءِ فَلَاسِفَتِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

ففي قياسهم غنية عن بيان الوحي ! ، فيقدم الظني من قياس العقول في الأخبار فالقياس فيها ممتنع ومآله التمثيل والتعطيل معا فيقيس الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق فذلك من قياس التمثيل المحظور في الإلهيات وهو من قياس الغائب على الشاهد ففيه قدر فارق يبطل القياس فإذا أنتج حكما فاسدا بتشبيه الخالق ، جل وعلا ، بالخلق فذلك تعطيل له عن كماله من وجه وهو ذريعة إلى نفي تلك الصورة الشائهة من وجه آخر وغالبا ما يتعدى النافي في نفيه فينفي الباطل وينفي الحق معه فيقع في النفي للحق فرعا على الإثبات للباطل ابتداء ، فمن قال بأن إثبات الوصف للخالق ، جل وعلا ، معنى مطلقا في الذهن يستلزم تشبيهه بالخلق فالتشبيه إنما يكون في الحقائق في الخارج لا في المعاني في الذهن ، أو الأحكام فيعتبر العقل بهواه : مصلحة لم يعتبرها الشارع ، جل وعلا ، بل قد ألغاها ، فنص على خلافها فلم يتركها مرسلة لتتفاوت فيها الأنظار فيسوغ فيها الخلاف قبولا أو ردا ، فيقدم الظني منهما على القطعي من نص الوحي فقد أبان عن معاني الأخبار الإلهية وحدود الأحكام الشرعية ، فمنها التعبدي المحض فلا يقاس عليه كالأخبار فمناطه غير معلوم وإن كان غير معدوم ، ومنها ما يعلم مناطه من الأحكام العملية فيقاس عليه من الفروع الحادثة ما تحقق فيه المناط فيلحق بالأصل في الحكم فرعا على التحاقه به في العلة .

فالمتفلسف قديما وحديثا يقدم قياسه أو ذوقه على خبر الوحي أو حكمه ، فالأمر يعم سائر العلميات الخبرية والعمليات الشرعية ، فحال أولئك المتفلسفة : فسادٌ في الرواية أو الدراية فــ : "الْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا رَيْبٌ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي الْمَتْنِ: إمَّا لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَجْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا الْعِلْمَ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْلُومًا وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْلُومِ لِمَا فِي الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عُمْدَةُ كُلِّ زِنْدِيقٍ وَمُنَافِقٍ يَبْطُلُ الْعِلْمُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. تَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَتَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَمَتَى انْتَفَى الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ أَوْ بِمَعْنَاهُ: لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمٌ فَيَتَمَكَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا يَقُولُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَقَدْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَارَضَ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ ثَغْرَهَا بِذَيْنِك الدامحين الدَّافِعَيْنِ لِجُنُودِ الرَّسُولِ عَنْهُ الطَّاعِنَيْنِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (3/89) .
فحالهم دائرة بين القدح في نقل الوحي روايةً ، وفهم الرسالة درايةً ، فــ : "الزَّنَادِقَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَغَيْرِهِمْ: يَقْدَحُونَ تَارَةً فِي النَّقْلِ: وَهُوَ قَوْلُ جُهَّالِهِمْ. وَتَارَةً يَقْدَحُونَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَّاقِهِمْ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/102 ، 103) .

فعنايتهم من الشريعة بــ : "أحد ثَلَاثَة أوجه إِمَّا بِأَلْفَاظ ينقلون ظَاهرهَا وَلَا يعْرفُونَ مَعَانِيهَا وَلَا يهتمون بفهمها وَإِمَّا بمسائل من الْأَحْكَام لَا يشتغلون بها وَإِنَّمَا حسبهم مِنْهَا مَا أَقَامُوا بِهِ جاههم وحالهم وَإما بخرافات منقولة عَن كل ضَعِيف وَكَذَّاب وساقط لم يهتموا قطّ بِمَعْرِِفَة صَحِيح مِنْهَا من سقيم وَلَا مُرْسل من مُسْند وَلَا مَا نقل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِمَّا نقل عَن كَعْب الْأَحْبَار أَو وهب بن مُنَبّه عَن أهل الْكتاب" . اهــ من ""

فثم تقصير في الرواية فينقلون المكذوب ، والدراية فلا يفهمون ما ينقلون ، والإرادة فيرومون به حظ النفس من الجاه والرياسة ، فاجتمع لهم فساد العلم والعمل معا ، وتلك سمة رئيسة في كل منهاج حادث يضاهي به صاحبه منهاج الوحي النازل .



وقد بلغ بهم الأمر : تأويل ما قد أجمعت الرسالات على نقله من أخبار الغيب الذي لا يدرك بالحس وإن أدركت النفس آثاره : كونية كانت أو شرعية ، فليس ثم حركة في الكون إلا ولها مَلَك يعمل بأمر الملِك ، جل وعلا ، فــ : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) .
فحركة الكون أثر فعل المَلَك ، فــ : "اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُدَبِّرُ أَمْرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَلَائِكَتِهِ الَّتِي هِيَ السُّفَرَاءُ فِي أَمْرِهِ وَلَفْظُ : "الْمَلَكِ" يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. وَبِذَلِكَ أَخْبَرَتْ الْأَنْبِيَاءُ وَقَدْ شَهِدَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا لَا يَتَّسِعُ هَذَا الْمَوْضِعُ لِذِكْرِهِ كَمَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَلَائِكَةِ تَخْلِيقِ الْجَنِينِ وَغَيْرِهِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/35) "

وحركة النفس في معاني الوحي أثر لمة المَلَك ، فــ : "الْعِلْمُ يَحْصُلُ فِي النَّفْسِ كَمَا تَحْصُلُ سَائِرُ الْإِدْرَاكَاتِ وَالْحَرَكَاتِ بِمَا يَجْعَلُهُ اللَّهُ مِنْ الْأَسْبَابِ وَعَامَّةِ ذَلِكَ بِمَلَائِكَةِ اللَّهِ تَعَالَى . فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُنْزِلُ بِهَا عَلَى قُلُوبِ عِبَادِهِ مِنْ الْعِلْمِ وَالْقُوَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا يَشَاءُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/31) .

فتأول الفلاسفة الحقيقة المَلَكية ، وإن وافقوا التنزيل في لفظه ، فيقال لهم في هذا الموضع :
"أَمَّا إثْبَاتُكُمْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ أَرْوَاحًا : فَهَذَا يُشْبِهُ مَا فِي الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ ؛ وَلَكِنْ لَيْسَتْ هِيَ "الْمَلَائِكَةُ" كَمَا يَقُولُ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ مِنْكُمْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ عَلَى الرَّسُولِ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ .
وَيَقُولُونَ: مَا أَرَدْنَا إلَّا الْإِحْسَانَ وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ وَالْفَلْسَفَةِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْعُقُولُ وَالنُّفُوسُ عِنْدَ الْفَلَاسِفَةِ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ لَكِنْ تُشْبِهُهَا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/119) .

فقد ألبسوا معانيهم الباطلة ثوب الحق فاستعاروا لها كلمات الوحي ، فاستعير لفظ الملائكة التي هي جند الرب ، جل وعلا ، النوراني اللطيف ، استعير لمعنى العقول التي تتولد من بعضها ، ومن آخرها يتولد العالم تولد المعلول من علته فيقترن به ، فهو الذي أوجبه بذاته لا بوصفه ، فوجد العالم اضطرارا لا اختيارا من الرب ، جل وعلا ، ووجد قديما قدم الذات الإلهية فقد لزم القوم القول بقدم العالم فالتزموه فوقعوا في الشرك إذ أشركوا بالرب ، جل وعلا ، العالم بأسره في وصف من وصفه وهو وصف الأولية ، والصحيح أنه ، جل وعلا ، الأول بالذات والوصف وأنه الخالق بالفعل لا بالذات فعلة خلق الكون ليست تولدا من عقل ، وليست ذاتا مجردة توجب بذاتها ، وإنما علة خلق العالم كلمات ربنا التكوينية النافذة فهي آثار صفات ربنا ، جل وعلا ، الفاعلة ، فبها يوجب الرب ، جل وعلا ، ما شاء من الممكنات ، فتصير واجبة ، وآحاد الكلمات حادثة وإن كان النوع أزليا ، فهو قديم قدات الذات القدسية ، وأما العالم فهو حادث ، أيضا ، ولكنه حادث مخلوق فمن الحادث ما هو مخلوق ومنه ما ليس كذلك .
فألبس القوم ذلك المعنى الباطل ثوب الشريعة باستعارة لفظ الملائكة دون معناه ، فأي خروج عن قانون القرآن واللسان بل والعقل أعظم من ذلك ؟! ، فصنيعهم كما يقول ابن تيمية رحمه الله : "لَحْمُ خِنْزِيرٍ فِي طَبَقٍ صِينِيٍّ" .

فيسقون الناس الكفر في آنية النبوة بتلك التأويلات المتكلفة تماما كما يصنع بعض أصحاب المذاهب الأرضية المعاصرة فإنهم يروجون لأفكارهم بإلباسها ثوب الشريعة ليغتر الناس بكلامهم فيصدقوا دعواهم وما أرادوا حقيقة اللفظ الشرعية وإنما أرادوا المعنى الذي ألبسوه إياها ليروج فإن الباطل لا يروج إذا صرح به صاحبه فلا بد أن يزخرفه بكلام مزوق منمق ولا بد أن يكون فيه نوع حق ليلتبس على الخلق ، فقيل عن الطرح الشيوعي الملحد يوما بأنه : مساواة من جنس مساواة النبوة التي صارت ثورة بلشفية على طبقة الإقطاع القرشي ، وقيل عن الطرح العلماني اللاديني بأنه ثورة على الكهنوت الديني من جنس ثورة النبوة على كهنوت قريش فهي ثورة على الخرافة ، فصار الإسلام كالنصرانية المبدلة ، بل وصار كالوثنية ، فهو تقليد بال حجر على العقول المستنيرة فالتمسك به رجعية وتخلف صاحبها يميني ! ، وأما الثورة عليه فهي تقدمية يسارية من جنس أكذوبة اليسار الإسلامي كما قال بعض الفضلاء الراحلين ممن سبروا المذاهب المعاصرة .



فالذي أثبته الفلاسفة في هذا الباب الخبري الذي لا ينال إلا بتوقيف إلهي بمقال رسالي ، هو : "بَعْضُ الصِّفَاتِ لِبَعْضِ الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَائِكَةِ وَصِفَاتِهِمْ وَأَقْدَارِهِمْ وَأَعْدَادِهِمْ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ أَقَلُّ مِمَّا يُؤْمِنُ بِهِ السَّامِرَةُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَنْبِيَاءِ؛ إذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِنَبِيِّ بَعْدَ مُوسَى وَيُوشَعَ. كَيْفَ؟ وَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمَلَائِكَةِ مِنْ الصِّفَةِ إلَّا مُجَرَّدُ مَا عَلِمُوهُ مِنْ نُفُوسِهِمْ مُجَرَّدَ الْعِلْمِ لِلْعُقُولِ وَالْحَرَكَةِ الْإِرَادِيَّةِ لِلنُّفُوسِ. وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَهُمْ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا ذُو الْجَلَالِ وَوَصْفُهُمْ فِي الْقُرْآنِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْعِبَادَةِ لِلَّهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُذْكَرَ هُنَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/120 ، 121) .

وزعموا أن الملائكة بنات الله ، جل وعلا وتقدس عما تصف ألسنتهم ، فقالوا بالتولد الذاتي ، فالملائكة عندهم معلول قد صدر عن العلة الأولى التي توجب بذاتها فليس ثم وصف أو فعل وإنما ثم وجود مطلق ، وذلك ، عند التدبر والنظر : عدم محض ، فمآل مقالهم إنكار وجود الرب ، جل وعلا ، الذي أجمع سائر العقلاء على إثباته ، فمقالهم سفسطة ظاهرة ينكر صاحبها البدهيات الضرورية ، فــ : "زَعْمُهُمْ أَنَّ الْعُقُولَ وَالنُّفُوسَ - الَّتِي جَعَلُوهَا الْمَلَائِكَةَ وَزَعَمُوا أَنَّهَا مَعْلُولَةٌ عَنْ اللَّهِ صَادِرَةٌ عَنْ ذَاتِهِ صُدُورَ الْمَعْلُولِ عَنْ عِلَّتِهِ - هُوَ قَوْلٌ بِتَوَلُّدِهَا عَنْ اللَّهِ. وَأَنَّ اللَّهَ وَلَدَ الْمَلَائِكَةَ. وَهَذَا مِمَّا رَدَّهُ اللَّهُ وَنَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْهُ وَكَذَّبَ قَائِلَهُ وَبَيَّنَ كَذِبَهُ بِقَوْلِهِ: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ......... وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا} {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا} {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} {إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} .
فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ مُعَبَّدُونَ ، أَيْ مُذَلَّلُونَ مصرفون مَدِينُونَ مَقْهُورُونَ لَيْسُوا كَالْمَعْلُولِ الْمُتَوَلِّدِ تَوَلُّدًا لَازِمًا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَتَغَيَّرَ عَنْ ذَلِكَ . وَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ لَا يُشَبَّهُونَ بِهِ كَمَا يُشَبَّهُ الْمَعْلُولُ بِالْعِلَّةِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ كَمَا يَزْعُمُهُ هَؤُلَاءِ الصَّابِئُونَ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/127 ، 128) .

فالولد يشبه والده فقد تولد عنه ، وذلك منتف بداهة في حق الرب ، جل وعلا ، فــ : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ، والولد من جهة أخرى جزء من أبيه ، قد انفصل عنه ، سواء أكان انفصال نطفة كما يتناسل البشر أم انفصال عضو ، كما يتناسل الشجر ، وذلك ، أيضا ، مما افتراه المشركون ، فــ : (جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، فالأئمة : "مُتَّفِقُونَ عَلَى تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ وَمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ هُوَ خَلْقَهُ وَلَا جُزْءًا مِنْ خَلْقِهِ وَلَا صِفَةً لِخَلْقِهِ بَلْ هُوَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بَائِنٌ بِذَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْكُتُبُ الْأَرْبَعَةُ الْإِلَهِيَّةُ؛ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ فَطَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْعُقُولُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/475 ، 476) .

فذلك ، كما تقدم ، مما أجمعت عليه الشرائع والعقول ، فهي تثبت ، بداهة ، واجب الوجود المتصف بالكمال ذاتا ووصفا ، فهو الرب الخالق المدبر ، جل وعلا ، وهو مع ذلك ، لزوما ، الإله المشرع ، كما تقدم مرارا ، من التلازم الوثيق بين فعل الرب ، جل وعلا ، بالخلق ، وأمره بالشرع ، فالعقل يثبت واجب الوجود قبل أن يرد به الشرع ، وهو ، مع ذلك ، لا ينفك عن حاجة ضرورية إلى المقالة الرسالية فبها بيان ما يدركه العقل من مجملات الغيب ، وبيان ما تجده النفس من مجملات الشرع .

والتولد من وجه آخر لا يكون إلا عن أصلين ، وذلك ما انتفى بداهة في حق الرب ، جل وعلا ، فهو الواحد في ذاته ، الأحد في وصفه ، فــ : (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) ، فتنزه عن الصاحبة والولد ، فهو : (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .

فـ : "نَفْيُهُ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يَلِدَ شَيْئًا اقْتَضَى أَنْ لَا يَتَوَلَّدَ عَنْهُ شَيْءٌ وَنَفْيُهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِشَيْءِ مِنْ خَلْقِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّكْرِيمِ وَأَنَّ الْعِبَادَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَتَّخِذَ شَيْئًا مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ . وَهَذَا يُبْطِلُ دَعْوَى مَنْ يَدَّعِي مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْمَسِيحِ وَغَيْرِهِ وَمَنْ يَقُولُ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} وَمَنْ يَقُولُ: الْفَلْسَفَةُ هِيَ التَّشَبُّهُ بِالْإِلَهِ. فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مِنْ جِنْسِ وَالِدِهِ وَيَكُونُ نَظِيرًا لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لَهُ . وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ الْقَائِلُونَ بِهَذِهِ الْمَعَانِي مِنْ أَعْظَمِ الْخَلْقِ قَوْلًا بِالتَّشْبِيهِ وَالتَّمْثِيلِ وَجَعْلِ الْأَنْدَادِ لَهُ وَالْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ. وَلِهَذَا كَانَتْ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ بِصُدُورِ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ عَنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّوَلُّدِ وَالتَّعْلِيلِ يَجْعَلُونَهَا لَهُ أَنْدَادًا وَيَتَّخِذُونَهَا آلِهَةً وَأَرْبَابًا بَلْ قَدْ لَا يَعْبُدُونَ إلَّا إيَّاهَا وَلَا يَدْعُونَ سِوَاهَا وَيَجْعَلُونَهَا هِيَ الْمُبْدِعَةُ لِمَا سِوَاهَا مِمَّا تَحْتَهَا. فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ. وَ {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/134 ، 135) .


ففي ذلك إبطال لمقال النصارى فمقالهم من جنس مقال الفلاسفة ، وإن خصوا التولد بالمسيح ، عليه السلام ، وذلك ، أثر فلسفي ظاهر في المقال النصراني الباطل ، فقالوا بتولد المسيح ، عليه السلام ، من ذات الرب ، جل وعلا ، تولد الكلمة من القائل ، وذلك أمر منتف بداهة ، فالكلمة لا تفارق قائلها ، وإن مضى زمان التكلم بها ، فهي وصف يلازمه ، فلا تبين الكلمة من القائل لتتجسد في الخارج في ناسوت حادث يعرض له من النقص ما تنزه عنه الرب ، جل وعلا ، وبينونتها وتجسدها وهي معنى لطيف في ناسوت كثيف أمر منتف ابتداء ، وأفحش من ذلك مقالا : مقال من زعم تجسد ذات الرب ، جل وعلا ، في ناسوت المسيح عليه السلام فذلك أفحش في القول وأبطل في العقل ، وأفحش منه مقال الاتحادية بتجسد الرب ، جل وعلا ، في جميع الخلائق فقد اتحد بالكون فصارت الخلائق صورا له ، وذلك مما تنزه عنه جل وعلا ضرورة أعظم وبداهة أظهر .


والصحيح أن علة وجود الأشياء هي كلمة التكوين ، فهي أثر وصف الرب الحميد المجيد ، تبارك وتعالى ، فـــ : (إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، فــ : "أَخْبَرَ أَنَّهُ يَقْتَضِي كُلَّ شَيْءٍ بِقَوْلِهِ " كُنْ " لَا بِتَوَلُّدِ الْمَعْلُولِ عَنْهُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/128) .

فأسباب الشهادة ترجع إلى سبب أول ، فكلها يفتقر إلى سبب يعضد في عالم الشهادة ، فتتعاضد الأسباب وتنتفي الموانع ليتولد عنها المسبَّب ، بإذن الرب المسبِّب ، جل وعلا ، فإذنه الكوني هو السبب الذي تأرز إليه جميع الأسباب المشهودة والمغيبة ، فتأرز إليه أسباب الشهادة ، فــ : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ) ، فالماء سبب خروج النبت ونمو الزرع ، وتأرز إليه أسباب الغيب ، فــ : (لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) .

فهو سبب أول لا سبب يتقدمه ، فهو من كلم الرب ، جل وعلا ، وكلمه ، تبارك وتعالى من وصفه ، ووصفه الأول ، فهو الأول بالذات والوصف ، فكلمه الكوني أثر وصفه الفعلي ، فبكلمة الخلق كان الخلق ، وبكلمة الرَّزْق كان الرِّزق ..... إلخ ، فلا سبب يتقدمه ، ولا سبب يعضده كالأسباب المخلوقة ، فإن المسبَّب المشهود يتولد عن أصلين أو جملة أسباب فالعلة المخلوقة تفتقر إلى ما تتم به ، وأما العلة الأولى ، وهي كلمة التكوين ، فلا علة تتقدمها ، ولا علة تتمها ، فهي علة كاملة ، وبذلك افترق السبب الأول عن سائر الأسباب فهو غني عن سائر الأسباب ، كما أن الرب المسبِّب الأول ، جل وعلا ، غني عن سائر الأشياء ، فهو : "{بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، فَأَخْبَرَ أَنَّ التَّوَلُّدَ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ كَمَا تَكُونُ النَّتِيجَةُ عَنْ مُقَدِّمَتَيْنِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَعْلُولَاتِ الْمَعْلُومَةُ لَا يَحْدُثُ الْمَعْلُولُ إلَّا بِاقْتِرَانِ مَا تَتِمُّ بِهِ الْعِلَّةُ. فَأَمَّا الشَّيْءُ الْوَاحِدُ وَحْدَهُ فَلَا يَكُونُ عِلَّةً وَلَا وَالِدًا قَطُّ لَا يَكُونُ شَيْءٌ فِي هَذَا الْعَالَمِ إلَّا عَنْ أَصْلَيْنِ وَلَوْ أَنَّهُمَا الْفَاعِلُ وَالْقَابِلُ كَالنَّارِ وَالْحَطَبِ وَالشَّمْسِ وَالْأَرْضِ فَأَمَّا الْوَاحِدُ وَحْدَهُ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَوَلَّدُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/128 ، 129) .

فالواحد المشهود لا يصدر عنه واحد ، كما زعم الفلاسفة ، فإن الواحد التام الذي لا يفتقر إلى غيره هو السبب الأول الذي يقضي الرب ، جل وعلا ، به ما أراد ، فــ : (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وأما سائر العلل المشهودة فهي تفتقر إلى ما يتمها ، ولا تنتج المعلول في الخارج إلا بانتفاء المانع .

فــ : "هَؤُلَاءِ الصَّابِئَةُ قَدْ أَتَوْا بِمَثَلٍ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: " الْوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ وَيَتَوَلَّدُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ وَالرَّبُّ وَاحِدٌ فَلَا يَصْدُرُ عَنْهُ إلَّا وَاحِدٌ يَتَوَلَّدُ عَنْهُ " فَأَتَى اللَّهُ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا وَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَصْدُرُ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَتَوَلَّدُ عَنْهُ شَيْءٌ أَصْلًا وَأَنَّهُ لَمْ يَتَوَلَّدْ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ شَيْءٌ وَلَكِنْ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ خَلْقًا وَأَنَّهُ خَلَقَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ. وَلِهَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ - وَذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ - فِي الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ: " أَنَّ الشَّفْعَ هُوَ الْخَلْقُ فَكُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ نَظِيرٌ وَالْوِتْرُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا شَبِيهَ لَهُ " فَقَالَ: {أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} . وَذَلِكَ أَنَّ الْآثَارَ الصَّادِرَةَ عَنْ الْعِلَلِ والمتولدات فِي الْمَوْجُودَاتِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شَيْئَيْنِ :
أَحَدُهُمَا : يَكُونُ كَالْأَبِ .
وَالْآخَرُ : يَكُونُ كَالْأُمِّ الْقَابِلَةِ . وَقَدْ يُسَمُّونَ ذَلِكَ الْفَاعِلَ وَالْقَابِلَ كَالشَّمْسِ مَعَ الْأَرْضِ وَالنَّارِ مَعَ الْحَطَبِ فَأَمَّا صُدُورُ شَيْءٍ وَاحِدٍ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَهَذَا لَا وُجُودَ لَهُ فِي الْوُجُودِ أَصْلًا. وَأَمَّا تَشْبِيهُهُمْ ذَلِكَ بِالشُّعَاعِ مَعَ الشَّمْسِ وَبِالصَّوْتِ - كَالطَّنِينِ - مَعَ الْحَرَكَةِ وَالنَّقْرِ فَهُوَ أَيْضًا حُجَّةٌ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ. وَذَلِكَ: أَنَّ الشُّعَاعَ إنْ أُرِيدَ بِهِ نَفْسُ مَا يَقُومُ بِالشَّمْسِ: فَذَلِكَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهَا وَصِفَاتُ الْخَالِقِ لَيْسَتْ مَخْلُوقَةً وَلَا هِيَ مِنْ الْعَالَمِ الَّذِي فِيهِ الْكَلَامُ. وَإِنْ أُرِيدَ بِالشُّعَاعِ مَا يَنْعَكِسُ عَلَى الْأَرْضِ: فَذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شَيْئَيْنِ وَهُمَا الشَّمْسُ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأَبِ الْفَاعِلِ وَالْأَرْضِ الَّتِي تَجْرِي مَجْرَى الْأُمِّ الْقَابِلَةِ. وَهِيَ الصَّاحِبَةُ لِلشَّمْسِ. وَكَذَلِكَ الصَّوْتُ لَا يَتَوَلَّدُ إلَّا عَنْ جِسْمَيْنِ يَقْرَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يُقْلِعُ عَنْهُ فَيَتَوَلَّدُ الصَّوْتُ الْمَوْجُودُ فِي أَجْسَامِ الْعَالَمِ عَنْ أَصْلَيْنِ يَقْرَعُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ أَوْ يُقْلِعُ عَنْهُ. فَمَهْمَا احْتَجُّوا بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ فَاَلَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ هُوَ الْحَقُّ وَأَحْسَنُ تَفْسِيرًا وَأَحْسَنُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ وَكَشْفًا لَهُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/130 ، 131) .

فحاصل الأمر أن الرب ، جل وعلا ، موجب بكلماته فهي أثر صفاته الفاعلة فليس موجبا بذاته الكاملة ، فالموجب بالذات لا إرادة له ، فهو فاعل بالاضطرار ، لا بالاختيار ، فعمله من جنس عمل النار فهي تحرق بلا إرادة ، وذلك منتف ، بداهة ، في حق الرب القدير الحكيم تبارك وتعالى ، فهو الفعال لما يريد .

فحصل لهم النقص في هذا الباب إذ قد ضلوا فيه عن ألفاظ الوحي ومعانيه .

وتلك حالهم في سائر ما أثبتوه من الشرائع والسياسات والأخلاق ، فــ : "عُمْدَةُ أَمْرِهِمْ : الْكَلَامُ عَلَى قُوَى النَّفْسِ الشَّهَوِيَّةِ.وَالْغَضَبِيَّةِ ، وَقُوَّةِ الْعِلْمِ وَالْعَدْلِ ، كَأُمُورٍ مِنْ جِنْسِ آدَابِ الْعُقَلَاءِ ، لَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ ، وَمِنْ عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ شَيْءٌ لَهُ قَدْرٌ وَالَّذِي عِنْدَهُمْ مِنَ الْعُلُومِ الطَّبِيعِيَّةِ وَالْحِسَابِيَّةِ، لَيْسَ مِمَّا يَنْفَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَّا أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ عَلَى مَا يَنْفَعُ بَعْدَ الْمَوْتِ. وَالَّذِي عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ قَلِيلٌ جِدًّا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَأِ الْكَثِيرِ.
وَكُلُّ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمٍ نَافِعٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ، فَهُوَ جُزْءٌ مِمَّا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ - فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ هَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ بِالْحُكَمَاءِ وَأَتْبَاعُهُمْ عَلَى حَقٍّ فِي الِاعْتِقَادِ، وَصِدْقٍ فِي الْأَقْوَالِ وَخَيْرٍ فِي الْأَعْمَالِ كَمَا هُوَ غَايَةُ مَطْلُوبِهِمْ. وَالْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ لَيْسُوا كَذَلِكَ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/83) .

فهم في الجملة : "مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَمْرِ النُّبُوَّةِ ، إِذْ كَانُوا لَمْ يَأْخُذُوهَا مِنَ الْعِلْمِ بِصِدْقِ الْأَنْبِيَاءِ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ وَالْعِلْمِ بِصِفَاتِهِمْ، وَإِنَّمَا أَخَذُوهَا مِنَ الْقِيَاسِ عَلَى الْمَنَامَاتِ، فَجَوَّزُوا فِيهَا مِثْلَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّائِمِ مِنَ الْأَحْلَامِ وَالتَّخَيُّلِ، وَمَا يُصِيبُ أَهْلَ الْمَرَّةِ السَّوْدَاءِ مِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/552) .

فــ : "مِنْ الْمَعْلُومِ : أَنَّ الْمُعَظِّمِينَ لِلْفَلْسَفَةِ وَالْكَلَامِ الْمُعْتَقِدِينَ لِمَضْمُونِهِمَا هُمْ أَبْعَدُ عَنْ مَعْرِفَةِ الْحَدِيثِ وَأَبْعَدُ عَنْ اتِّبَاعِهِ مِنْ هَؤُلَاءِ. هَذَا أَمْرٌ مَحْسُوسٌ بَلْ إذَا كَشَفْت أَحْوَالَهُمْ وَجَدْتهمْ مِنْ أَجْهَلِ النَّاسِ بِأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْوَالِهِ وَبَوَاطِنِ أُمُورِهِ وَظَوَاهِرِهَا حَتَّى لَتَجِدُ كَثِيرًا مِنْ الْعَامَّةِ أَعْلَمَ بِذَلِكَ مِنْهُمْ وَلَتَجِدَهُمْ لَا يُمَيِّزُونَ بَيْنَ مَا قَالَهُ الرَّسُولُ وَمَا لَمْ يَقُلْهُ بَلْ قَدْ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ حَدِيثٍ مُتَوَاتِرٍ عَنْهُ وَحَدِيثٍ مَكْذُوبٍ مَوْضُوعٍ عَلَيْهِ. وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُونَ فِي مُوَافَقَتِهِ عَلَى مَا يُوَافِقُ قَوْلَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَوْضُوعًا أَوْ غَيْرَ مَوْضُوعٍ فَيَعْدِلُونَ إلَى أَحَادِيثَ يَعْلَمُ خَاصَّةُ الرَّسُولِ بِالضَّرُورَةِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّهَا مَكْذُوبَةٌ عَلَيْهِ عَنْ أَحَادِيثَ يَعْلَمُ خَاصَّتُهُ بِالضَّرُورَةِ الْيَقِينِيَّةِ أَنَّهَا قَوْلُهُ وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مُرَادَهُ بَلْ غَالِبُ هَؤُلَاءِ لَا يَعْلَمُونَ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ فَضْلًا عَنْ الْحَدِيثِ بَلْ كَثِيرٌ مِنْهُمْ لَا يَحْفَظُونَ الْقُرْآنَ أَصْلًا. فَمَنْ لَا يَحْفَظُ الْقُرْآنَ وَلَا يَعْرِفُ مَعَانِيَهُ وَلَا يَعْرِفُ الْحَدِيثَ وَلَا مَعَانِيَهُ مِنْ أَيْنَ يَكُونُ عَارِفًا بِالْحَقَائِقِ الْمَأْخُوذَةِ عَنْ الرَّسُولِ وَإِذَا تَدَبَّرَ الْعَاقِلُ وَجَدَ الطَّوَائِفَ كُلَّهَا كُلَّمَا كَانَتْ الطَّائِفَةُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَقْرَبَ كَانَتْ بِالْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ أَعْرَفَ وَأَعْظَمَ عِنَايَةً وَإِذَا كَانَتْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ أَبْعَدَ كَانَتْ عَنْهُمَا أَنْأَى حَتَّى تَجِدَ فِي أَئِمَّةِ عُلَمَاءِ هَؤُلَاءِ مَنْ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهِ بَلْ رُبَّمَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ آيَةٌ فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ صِحَّةَ الْحَدِيثِ وَرُبَّمَا قَالَ: لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَا وَتَكُونُ آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/95 ، 96) .

وذلك ، أيضا ، من جنس حال الفلاسفة في زماننا من أصحاب الطرح العلماني المعاصر ، فليس ثم إلا تشدق بالكلمات ودعوى عريضة بالفهم في الدين ، وربما الاجتهاد ، وأحدهم لا يحسن يتوضأ ولا يحسن يقرأ الفاتحة ومع ذلك فهو يدعي التحقيق بل والاجتهاد في النوازل الدقيقة التي تخفى على الراسخين في العلم ، ممن أفنوا أعمارهم في تحصيل مسائل الشرع بأدلتها من الوحي : كتابا وسنة فهم أعلم الناس بأقوال المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأحواله .


فليس في مقال الفلاسفة إلا جملة من الآداب التي تهذب بها الشهوات ، وذلك أمر يحصل من غير طريق النبوة ، وإن كان طريقها الأكمل والأعدل فليس فيه إفراط الطرق الأبيقورية التي جعلت اللذة غاية عظمى ، وعلى منوالها نسج الطرح الإنساني المعاصر ، لا سيما الطرح الوجودي فقد تحير في البحث عن الإله ، فثم تيه وضياع ، وذلك ما يؤرق النفس التي لا تطمئن إلا بعقد إيماني تسكن إليه ، وليس ثم أكمل من عقد المرسلين ، عليهم السلام ، فــ : (مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، وذلك الضياع يلجئ صاحبه إلا مقارفة الشهوات ومعاقرة الملذات ، حلت أو حرمت ليتلهى بها عن حيرة نفسه وضيق صدره ، فــ : (مَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) ، ففساد ظاهره العملي : تأويلٌ صحيح ولازم وثيق لفساد باطنه العلمي ، فما عبث الظاهر فحشا إلا تأويلٌ لعبث الباطن كفرا ، فالعبثية ، كطرح فكري فليست خروجا محضا عن الشرائع والآداب العامة بل قد زادت على ذلك خروجا عن أصل الدين فذلك حدها القياسي وإن تفاوت تأويله في الخارج فإن لكل عاص ولو لم يكفر : حظا من الغفلة عن اليوم الآخر ، وإن كانت عارضة في حق المؤمن العاصي فينقص إيمانه بقدر عصيانه ، فــ :
الْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ ******* لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ
لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي ******* إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ

ودائمة في حق الكافر الذي فسد عقده فظهر فحشه وفجره ، لا سيما إن نَهَجَ العبثية عقدا فليست ، كما تقدم ، خروجا محضا عن الأمر ، فالخطب في الضلال العملي أيسر ، وإن عَظُمَ من جهة اجتراء صاحبه على مخالفة الشرع فلم يخالفه إلا جهلا وغفلة ، فــ : "كل من عصى الله فهو جاهل" ، كما أثر عن أبي العالية رحمه الله ، فتعرض له الغفلة فيعصي الأمر وتعرض له التوبة فيقلع عن الذنب وهو بين الغفلة واليقظة يتردد ، وعقده لم يتبدل ، فمعه أصل الدين ، وإن لم يبلغ كماله الواجب ، فالعبثية ، كطرح فكري ، تُنْكِرُ في حدها القياسي : يومَ البعث الآخر ، الذي جاء به الشرع ودل عليه العقل فهو ضرورة شرعية عقلية ، فتنكره ، ولو في الجملة ، فإنها قد نفت الغاية من الخَلْق ، فاشتغلت بتحصيل لذاتها ، فهي الغاية العظمى ، وذلك ، كما تقدم في مواضع سابقة ، أصل من أصول الطرح الليبرالي ، فهو ، في الجملة ، عبثي ، بالقول أو اللازم ، فعبثية في الأديان تسوغ الإلحاد ، وعبثية في الأخلاق تسوغ الانحلال ، بل وتتقصدهما قصدا إمعانا في النكاية في الأديان بل وفي سائر القوانين والأعراف ، فالحرية المطلقة بلا قيد من دين أو قانون أو عُرْف ، قد صارت الغاية العظمى ، فظن أولئك أن الخَلْق عبث ، فقد أوجده الخالق لعبا ثم تركه هملا ! ، فــ : (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ، و : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) .

فليس في طريق النبوة : إفراطُ الطرق الأبيقورية التي جعلت اللذة غاية عظمى ، وليس فيها تفريط الطرق الرواقية التي غلت في تقرير الزهد فهجرت اللذات مطلقا ، فذلك رد الفعل لإفراط الأبيقورية في تحصيلها ، فطريق النبوة : القصد والعدل ، فهو الحق بين باطلين ، وهو الوسط بين طرفين .

فليس في مقال الفلاسفة ما ينتفع به إلا مسائل في الطبيعيات ، فإن نقل الناقل عنهم : "مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ مِثْلَ مَسَائِلِ " الطِّبِّ " وَ " الْحِسَابِ " الْمَحْضِ الَّتِي يَذْكُرُونَ فِيهَا ذَلِكَ وَكَتَبَ مَنْ أَخَذَ عَنْهُمْ مِثْلُ: مُحَمَّدِ بْنِ زَكَرِيَّا الرَّازِي وَابْنُ سِينَا وَنَحْوِهِمَا مِنْ الزَّنَادِقَةِ الْأَطِبَّاءِ مَا غَايَتُهُ: انْتِفَاعٌ بِآثَارِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا فَهَذَا جَائِزٌ. كَمَا يَجُوزُ السُّكْنَى فِي دِيَارِهِمْ وَلُبْسُ ثِيَابِهِمْ وَسِلَاحِهِمْ وَكَمَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُمْ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا عَامَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَكَمَا اسْتَأْجَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ لَمَّا خَرَجَا مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَيْنِ " ابْنَ أريقط " - رَجُلًا مِنْ بَنِي الديل - هَادِيًا خِرِّيتًا وَالْخِرِّيتُ الْمَاهِرُ بِالْهِدَايَةِ وَائْتَمَنَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَدَوَابِّهِمَا وَوَاعَدَاهُ غَارَ ثَوْرِ صُبْحَ ثَالِثَةٍ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمُهُمْ وَكَافِرُهُمْ وَكَانَ يَقْبَلُ نُصْحَهُمْ. وَكُلُّ هَذَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَكَانَ أَبُو طَالِبٍ يَنْصُرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَذُبُّ عَنْهُ مَعَ شِرْكِهِ وَهَذَا كَثِيرٌ. فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ فِيهِمْ الْمُؤْتَمَنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إلَيْكَ إلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} وَلِهَذَا جَازَ ائْتِمَانُ أَحَدِهِمْ عَلَى الْمَالِ وَجَازَ أَنْ يَسْتَطِبَّ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأَئِمَّةُ كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ إذْ ذَلِكَ مِنْ قَبُولِ خَبَرِهِمْ فِيمَا يَعْلَمُونَهُ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَائْتِمَانٌ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ جَائِزٌ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَفْسَدَةٌ رَاجِحَةٌ مِثْلُ وِلَايَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ وَنَحْوِ ذَلِكَ. فَأُخِذَ عِلْمُ الطِّبِّ مِنْ كُتُبِهِمْ مِثْلُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْكَافِرِ عَلَى الطَّرِيقِ وَاسْتِطْبَابُهُ بَلْ هَذَا أَحْسَنُ. لِأَنَّ كُتُبَهُمْ لَمْ يَكْتُبُوهَا لِمُعَيَّنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى تَدْخُلَ فِيهَا الْخِيَانَةُ لَيْسَ هُنَاكَ حَاجَةٌ إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ بَلْ هِيَ مُجَرَّدُ انْتِفَاعٍ بِآثَارِهِمْ كَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَزَارِعِ وَالسِّلَاحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/114 ، 115)
وأما : "إِنْ ذَكَرُوا مَا يَتَعَلَّقُ "بِالدِّينِ" فَإِنْ نَقَلُوهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا فِيهِ كَأَهْلِ الْكِتَابِ وَأَسْوَأِ حَالًا وَإِنْ أَحَالُوا مَعْرِفَتَهُ عَلَى الْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ فَإِنْ وَافَقَ مَا فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ حَقٌّ وَإِنْ خَالَفَهُ فَفِي الْقُرْآنِ بَيَانُ بُطْلَانِهِ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} فَفِي الْقُرْآنِ الْحَقُّ وَالْقِيَاسُ الْبَيِّنُ الَّذِي يُبَيِّنُ بُطْلَانَ مَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الْقِيَاسِ وَإِنْ كَانَ مَا يَذْكُرُونَهُ مُجْمَلًا فِيهِ الْحَقُّ - وَهُوَ الْغَالِبُ عَلَى الصَّابِئَةِ الْمُبَدِّلِينَ مِثْلُ " أَرِسْطُو " وَأَتْبَاعِهِ وَعَلَى مَنْ اتَّبَعَهُمْ مِنْ الْآخَرِينَ - قَبْلَ الْحَقِّ وَرَدِّ الْبَاطِلِ وَالْحَقُّ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بَيَانُ صِفَةِ الْحَقِّ فِيهِ كَبَيَانِ صِفَةِ الْحَقِّ فِي الْقُرْآنِ. فَالْأَمْرُ فِي هَذَا مَوْقُوفٌ عَلَى مَعْرِفَةِ الْقُرْآنِ وَمَعَانِيهِ وَتَفْسِيرِهِ وَتَرْجَمَتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/115) .


وفي مقال النبوة عن مقالهم غنية ، فــ : إذَا تَدَبَّرَ الْمُؤْمِنُ الْعَلِيمُ سَائِرَ مَقَالَاتِ الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأُمَمِ الَّتِي فِيهَا ضَلَالٌ وَكُفْرٌ وَجَدَ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ كَاشِفََين لِأَحْوَالِهِمْ مُبَيِّنَينَ لِحَقِّهِمْ مُمَيِّزَينَ بَيْنَ حَقِّ ذَلِكَ وَبَاطِلِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/137) .

وذلك أمر يعم مقال الصحابة ، رضي الله عنهم ، فــ : "الصَّحَابَةُ كَانُوا أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِذَلِكَ كَمَا كَانُوا أَقْوَمَ الْخَلْقِ بِجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ كَمَا قَالَ فِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: " مَنْ كَانَ مِنْكُمْ مُسْتَنًّا فَلْيَسْتَنَّ بِمَنْ قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْحَيَّ لَا تُؤْمَنُ عَلَيْهِ الْفِتْنَةُ. أُولَئِكَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ: كَانُوا أَبَرَّ هَذِهِ الْأُمَّةِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهَا عِلْمًا وَأَقَلَّهَا تَكَلُّفًا قَوْمٌ اخْتَارَهُمْ اللَّهُ لِصُحْبَةِ نَبِيِّهِ وَإِقَامَةِ دِينِهِ فَاعْرِفُوا لَهُمْ حَقَّهُمْ وَتَمَسَّكُوا بِهَدْيِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْهُدَى الْمُسْتَقِيمِ ". فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِكَمَالِ بِرِّ الْقُلُوبِ مَعَ كَمَالِ عُمْقِ الْعِلْمِ . وَهَذَا قَلِيلٌ فِي الْمُتَأَخِّرِينَ كَمَا يُقَالُ: " مِنْ الْعَجَائِبِ فَقِيهٌ صُوفِيٌّ وَعَالِمٌ زَاهِدٌ " وَنَحْوُ ذَلِكَ. فَإِنَّ أَهْلَ بِرِّ الْقُلُوبِ وَحُسْنِ الْإِرَادَةِ وَصَلَاحِ الْمَقَاصِدِ يُحْمَدُونَ عَلَى سَلَامَةِ قُلُوبِهِمْ مِنْ الْإِرَادَاتِ الْمَذْمُومَةِ وَيَقْتَرِنُ بِهِمْ كَثِيرًا عَدَمُ الْمَعْرِفَةِ وَإِدْرَاكُ حَقَائِقِ أَحْوَالِ الْخَلْقِ الَّتِي تُوجِبُ الذَّمَّ لِلشَّرِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَهْلُ التَّعَمُّقِ فِي الْعُلُومِ قَدْ يُدْرِكُونَ مِنْ مَعْرِفَةِ الشُّرُورِ وَالشُّبُهَاتِ مَا يُوقِعُهُمْ فِي أَنْوَاعِ الْغَيِّ وَالضَّلَالَاتِ وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا أَبَرَّ الْخَلْقِ قُلُوبًا وَأَعْمَقَهُمْ عِلْمًا . ثُمَّ إنَّ أَكْثَرَ الْمُتَعَمِّقِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ يَقْتَرِنُ بِتَعَمُّقِهِمْ التَّكَلُّفُ الْمَذْمُومُ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتعبدين: وَهُوَ الْقَوْلُ وَالْعَمَلُ بِلَا عِلْمٍ وَطَلَبٍ مَا لَا يُدْرَكُ. وَأَصْحَابُ مُحَمَّدٍ كَانُوا - مَعَ أَنَّهُمْ أَكْمَلَ النَّاسِ عِلْمًا نَافِعًا وَعَمَلًا صَالِحًا - أَقَلَّ النَّاسِ تَكَلُّفًا يَصْدُرُ عَنْ أَحَدِهِمْ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَتَانِ مِنْ الْحِكْمَةِ أَوْ مِنْ الْمَعَارِفِ مَا يَهْدِي اللَّهُ بِهَا أُمَّةً وَهَذَا مِنْ مِنَنِ اللَّهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/137 ، 138) .

ويعم حملة إرث النبوة من أهل الحديث رواية ودراية ، فليس المراد من حمل اللفظ دون فقه لمعناه ، بل الحال الكاملة إنما تثبت بالحفظ والفهم ، والعلم والعمل ، فحفظ للمبنى دون فقه للمعنى لا ينفع صاحبه ، وعلم بما عمل لا ينفع حامله ، فـ : "نَحْنُ لَا نَعْنِي بِأَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى سَمَاعِهِ أَوْ كِتَابَتِهِ أَوْ رِوَايَتِهِ بَلْ نَعْنِي بِهِمْ: كُلَّ مَنْ كَانَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَفَهْمِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَاتِّبَاعِهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْقُرْآنِ. وَأَدْنَى خَصْلَةٍ فِي هَؤُلَاءِ: مَحَبَّةُ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ وَالْبَحْثِ عَنْهُمَا وَعَنْ مَعَانِيهِمَا وَالْعَمَلِ بِمَا عَلِمُوهُ مِنْ مُوجِبِهِمَا. فَفُقَهَاءُ الْحَدِيثِ أَخْبَرُ بِالرَّسُولِ مِنْ فُقَهَاءِ غَيْرِهِمْ وَصُوفِيَّتُهُمْ أَتَبَعُ لِلرَّسُولِ مِنْ صُوفِيَّةِ غَيْرِهِمْ وَأُمَرَاؤُهُمْ أَحَقُّ بِالسِّيَاسَةِ النَّبَوِيَّةِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَعَامَّتُهُمْ أَحَقُّ بِمُوَالَاةِ الرَّسُولِ مِنْ غَيْرِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/95) .


فــ : "الْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ زَعَمَ بِلِسَانِ حَالِهِ أَوْ مَقَالِهِ : أَنَّ طَائِفَةً غَيْرَ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَدْرَكُوا مِنْ حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْبَاطِنَةِ الْغَيْبِيَّةِ فِي أَمْرِ الْخَلْقِ وَالْبَعْثِ وَالْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَأَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتَعَرُّفِ وَاجِبِ الْوُجُودِ وَالنَّفْسِ النَّاطِقَةِ وَالْعُلُومِ وَالْأَخْلَاقِ الَّتِي تَزْكُو بِهَا النُّفُوسُ وَتَصْلُحُ وَتَكْمُلُ دُونَ أَهْلِ الْحَدِيثِ فَهُوَ - إنْ كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالرُّسُلِ - فَهُوَ جَاهِلٌ فِيهِ شُعْبَةٌ قَوِيَّةٌ مِنْ شُعَبِ النِّفَاقِ وَإِلَّا فَهُوَ مُنَافِقٌ خَالِصٌ مِنْ الَّذِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} وَقَدْ يَكُونُ مِنْ {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} وَمِنْ {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} . وَقَدْ يَبِينُ ذَلِكَ بِالْقِيَاسِ الْعَقْلِيِّ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا بِالْفِطْرَةِ لِكُلِّ سَلِيمِ الْفِطْرَةِ - فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ الرَّسُولُ أَكْمَلَ الْخَلْقِ وَأَعْلَمَهُمْ بِالْحَقَائِقِ وَأَقْوَمَهُمْ قَوْلًا وَحَالًا: لَزِمَ أَنْ يَكُونَ أَعْلَمُ النَّاسِ بِهِ أَعْلَمَ الْخَلْقِ بِذَلِكَ وَأَنْ يَكُونَ أَعْظَمُهُمْ مُوَافَقَةً لَهُ وَاقْتِدَاءً بِهِ أَفْضَلَ الْخَلْقِ ............... فـ : الْمَقْصُودُ : ذِكْرُ نَفْسِ الطَّرِيقَةِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ الَّتِي تُعْرَفُ بِحَقَائِقِ الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ النَّظَرِيَّةِ وَتُوَصِّلُ إلَى حَقَائِقِ الْأُمُورِ الْإِرَادِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ. فَمَتَى كَانَ غَيْرُ الرَّسُولِ قَادِرًا عَلَى عِلْمٍ بِذَلِكَ أَوْ بَيَانٍ لَهُ أَوْ مَحَبَّةٍ لِإِفَادَةِ ذَلِكَ؟ فَالرَّسُولُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ وَأَحْرَصُ عَلَى الْهُدَى وَأَقْدَرُ عَلَى بَيَانِهِ مِنْهُ. وَكَذَلِكَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ وَأَتْبَاعُهُمْ ....... و : إِذَا كَانَ الرَّسُولُ أَعْلَمُ الْخَلْقِ بِالْحَقَائِقِ الْخَبَرِيَّةِ وَالطَّلَبِيَّةِ وَأَحَبَّ الْخَلْقِ لِلتَّعْلِيمِ وَالْهِدَايَةِ وَالْإِفَادَةِ وَأَقْدَرَ الْخَلْقِ عَلَى الْبَيَانِ وَالْعِبَارَةِ: امْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ مَنْ هُوَ دُونَهُ أَفَادَ خَوَاصَّهُ مَعْرِفَةَ الْحَقَائِقِ أَعْظَمَ مِمَّا أَفَادَهَا الرَّسُولُ لِخَوَاصِّهِ؛ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الطَّوَائِفِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ مَا لَيْسَ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْحَدِيثِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/140_142) .


فوجب على مريد النجاة أن يسأل الرب ، جل وعلا ، الهداية ، كما يسأله الرزق ، فــ : "اسْتِهْدَاءُ اللَّهِ طَلَبُ أَنْ يَهْدِيَنَا وَاسْتِطْعَامُهُ طَلَبُ أَنْ يُطْعِمَنَا هَذَا قُوتُ الْقُلُوبِ وَهَذَا قُوتُ الْأَجْسَامِ وَكَذَلِكَ اسْتِخَارَتُهُ بِعِلْمِهِ وَاسْتِقْدَارُهُ بِقُدْرَتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/142) .

فيسأله العاقل رزق الأديان أعظم مما يسأله رزق الأبدان .


والشاهد أن الفلاسفة قد وقع لهم الفساد في النقل فهم ، كما تقدم ، من أجهل الناس بألفاظ الوحي ، والعقل ، فهم من أبعد الناس عن فقه معانيه ، فقد تأولوا الخبريات بل والحكميات ! ، وتلك ، أيضا ، حال أصحاب المذاهب المعاصرة ممن راموا نقض الشريعة بالهوى والذوق فلن يتوصلوا إلى ذلك إلا بالطعن في النقل فهو باطل ، فيوصدون الباب ابتداء ! ، ومن اضطر منهم إلى دخوله فإنه يطعن في الفهم فهو فاسد ، كما يقع الآن من أصحاب فكر الحداثة ، فلبعضهم عناية بالتراث ! ، فليس وحيا وإنما هو إرث فكري يخضع لمعايير النقد العقلي والذوقي ، فما استحسن منه قبل ، وما استقبح منه رد ، فصار العقل هو الحكم ، وصار الوحي ، كأي نص ، محكوما يخضع لمعايير متغيرة ، فلكل عقل وذوق في النقد ، فكيف يرد الأمر إلى معيار متغير مضطرب ، وإنما تكون السلامة برد الأمر إلى المعيار الثابت المطرد ، فــ : (مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، والمعيار الذي أجمع عليه العقلاء من أصول الرواية والدراية قد شهد ، بإقرار المخالف فضلا عن الموافق ، بأن هذا الناموس ، كما تقدم ، هو أصح النواميس نقلا وأعدلها حكما ، فــ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فصدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام كما أثر عن بعض أهل العلم .


ولازم الطعن في النقل أو الفهم : الطعن في الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، فإن فحوى الرسالة : أخبار وأحكام بفهم خير الأنام بعد الرسل الكرام ، عليهم السلام ، فــ : "الصَّحَابَةُ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَفِيمَا جَاءَ بِهِ بَيَانُ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِقِيَاسِ صَحِيحٍ أَحَقُّ وَأَحْسَنُ بَيَانًا مِنْ مَقَايِيسِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَأْتُونَهُ بِقِيَاسِ عَقْلِيٍّ لِبَاطِلِهِمْ إلَّا جَاءَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَجَاءَهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالدَّلِيلِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ تَفْسِيرًا وَكَشْفًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ مِنْ قِيَاسِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/106) .

فلن يُسَلِّمَ متفلسف قديم أو حديث ، بل وأي طاعن في الدين ، بعدالة الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، وإن عدلهم رب العالمين ، جل وعلا ، في محكم تنزيله ، وعدلهم رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في محكم مقاله ، فــ : "كَذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ: يَذْكُرُ مِنْ التَّنَقُّصِ بِالصَّحَابَةِ مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَشِيعَتِهِ الْقَرَامِطَةِ؛ حَتَّى تَجِدَهُمْ إذَا ذَكَرُوا فِي آخِرِ الْفَلْسَفَةِ حَاجَةَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى الْإِمَامَةِ عَرَّضُوا بِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُصَرِّحُونَ مِنْ السَّبِّ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ هَؤُلَاءِ .
وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ " الرَّافِضَةِ " " وَالْقَرَامِطَةِ " " والاتحادية " اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا. يَجْمَعُهُمْ أُمُورٌ. مِنْهَا: الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَيَدَعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا رَأَيْت وَسَمِعْت مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/103 ، 104) .

فتعديلهم يستلزم جرحه وإبطال مقاله ، فإنه ما أقام بنيانه إلا على أنقاضهم ، فنقض قولهم ابتداء ثم أسس بنيانه على شفا جرف هار من قياس فاسد أو ذوق باطل يستحسن ما لم يستحسنه الشرع ويستقبح ما لم يستقبحه ، فانهار به في دركات الشبهات العلمية والشهوات الإرادية ، ففسدت حاله ابتداء فقد أسس بنيانه : (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) ، وفسد مآله انتهاء فقد : (انْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .



فلسان حالهم وربما مقال الغلاة منهم أنهم قد بلغوا ما لم يبلغه الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، من أسباب العلم والعمل ، فــ : "هَذِهِ الْمَقَالَاتُ لَا تَجِدُهَا إلَّا عِنْدَ أَجْهَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ وَأَظْلَمِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَشَيِّعَةِ والاتحادية فِي " الصَّحَابَةِ " مِثْلُ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: أَنَا أَشْجَعُ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا مِثْلَ الْعَدُوِّ الَّذِي قَاتَلْنَاهُ وَلَا بَاشَرُوا الْحُرُوبَ مُبَاشَرَتَنَا وَلَا سَاسُوا سِيَاسَتَنَا وَهَذَا لَا تَجِدُهُ إلَّا فِي أَجْهَلِ الْمُلُوكِ وَأَظْلَمِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/105) .


وحاصل الأمر أن تأويل الأخبار على وجه لا تحتمله فلا قرينة من سياق ، ولا قرينة من عقل ابتداء ، فالعقل ، كما تقدم ، لا يستقل بدرك حقائق الغيب وإن أدرك معانيها ، وتأويل الأحكام ، كما صنع الفلاسفة قديما وحديثا ، فتلك ذريعتهم إلى إبطال الناموس وتعطيل الوحي عن تأويله في الخارج بامتثال حكم الرب الشارع ، جل وعلا ، في العقد ، فقد عارضوه بعبثية الديانات المبدلة والمقالات المحدثة قديمة كانت أو حديثة ، وعارضوه بعبثية الطرح الليبرالي الذي يسوغ التدين بأي دين ، ولو صار الإنسان بلا دين ! فتدين بالإلحاد الصريح ، فالمسألة محل نظر ! وهي من الخلاف السائغ فلا إنكار فيه على المخالف ! ومثله عبثية الطرح الاتحادي فمآله تصحيح جميع الأديان فعن مشكاة واحدة قد صدرت ، فكل يتعبد بما يهوى ، فكلها طرائق إلى الرب الأعلى ! ، فتعدد الحق في مسألة لا يكون الحق فيها إلا واحدا ، فهو واحد في الفروع فكيف بالأصول الكلية ؟! ، فــ : "لَيْسَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي هِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَذَلِكَ هُوَ الْأَمْرُ فِي نَظَائِرِهَا، وَهِيَ مَسَائِلُ الْأُصُولِ الَّتِي الْحَقُّ فِيهَا فِي طَرَفٍ وَاحِدٍ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ فِي تَعْدِيدِ وُجُودِ ذَاتٍ كَيْفَ هِيَ، وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَسَائِلِ الْفُرُوعِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً)" . اهــ من : "الجامع لأحكام القرآن" .

وذلك عند التدبر والنظر ، أفحش من الطرح الليبرالي فهو قد يسوغ انتحال الباطل وذلك لا يستلزم تصحيحه ، بل غاية الأمر أن يضعف بل ويبطل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد جعل المسألة مما يحتمل ، ولا إنكار في الخلاف المحتمل ، كما تقدم ، خلافا لمن يصحح ذلك فيجعله طريقا صحيحة إلى رب الخليقة تبارك وتعالى ، فمقاله أفحش وإفساده للأديان والأخلاق أعظم فغالبا ما يقترن القول باتحاد الأديان بالقول باتحاد الأعيان فالذوات كلها واحدة فالرب ، جل وعلا ، قد اتحد بجميعها ، فلم يعد ثم طاهر ونجس ، ولم يعد ثم محرم من مطعوم أو مشروب أو منكوح ، فاستبيحت المحارم كلها ، وذلك عند التدبر والنظر ، لازم الطرح الليبرالي الأخلاقي ، فإنه يبيح ما أجمع العقلاء ، فضلا عن المؤمنين الشرفاء ، على تحريمه ، فمرامه تحصيل اللذة والمتعة فتلك الغاية العظمى التي استبدلت بغاية العبودية والتأله ، فقد انتفت الغاية الصحيحة في حقه ، فاشتغل لزوما بتحصيل غاية أخرى ، فلا سكون للنفس بل هي دوما تتحرك بالإرادة فإن لم ترد الحق أرادت ضده ، فاشتغلت بتحصيل اللذة فهي ، كما تقدم ، الغاية العظمى ، وإذا حققت النظر وجدت كل أولئك من شوم التنكب عن طريق النبوة ، فعدل المتنكب عن خبرها وحكمها إلى ما تأوله منها بهواه وذوقه دون رجوع إلى مستند مرضي من نقل خبري صحيح أو قياس عقلي صريح وإنما محض تخرص وظن ، بل هو عين الباطل فبطلانه قد ظهر لكل ناظر .

والتأويل يجري في العقود والمواثيق فوجب التحري عند إنشائها أو إمضائها كما نرى الآن في زماننا في صوغ دساتير الأمم ، فثم ألفاظ مجملة كالدولة المدنية وكمبادئ الشريعة دون أحكامها ، وذلك مما قد يغفل عنه أهل الفضل فهو محتمل يحمل على أسوأ معانيه عند التأويل ! ، فالمتأول يحمله على الوجه الذي يشهد له فتنقلب المدنية : لادينية ، وتنقلب مبادئ الشريعة : كليات عامة قد أجمعت عليها سائر الأمم فتضيع الحقيقة إذ لم يتحر صاحبها ويدقق ، فلا بد من صوغ العبارة على وجه قاطع بنص جازم لا يحتمل لئلا يتذرع الخصم بوجه محتمل يفسر به اللفظ بما يشهد له .

والتأويل ، كما يقول بعض المحققين ، شر مستطير ، فبه حرف وحي رب العالمين ، وبه استبيحت دماء الصالحين ، وبه نقضت العهود والمواثيق .

والله أعلى وأعلم .