المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عن المحبة واللذة



د. هشام عزمي
02-22-2012, 08:23 PM
عن المحبة واللذة
بقلم الأخ مهاجر

المريض الذي فسد تصوره للغاية وهي المراد ، فأراد نيل لذته العاجلة من مطعوم أو مشروب وإن كان فيها هلاكه ، قد جمع بين فساد التصور وضعف الإرادة فلم يصبر على شهوة ساعة أورثته ألما قد يطول بل قد يكون فيه هلاكه ، فالعلم علم تصور للموجود ، فهو العلم الذي يسبق العمل ، فيتصور الواقع الموجود ، فذلك العلم الانفعالي الذي يؤثر في النفس حركة وإرادة ، فتتحرك طلبا للواجب المقصود ، فعلمها به :
علم الفعل فهو مؤثر في إيقاع المفعول على ما قد قدر الرب المعبود ، جل وعلا ، فــ : "الكلام هنا في فصلين : الواقع الموجود ، والواجب المقصود .
أما الأول : فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا ، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام" ، فالحارث : الكاسب العامل ، والهمام : صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد ...... فــ : طلبُ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره ، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه ، لا يكون مطلوبَ نفسه ........ فــ : المخلوق كما لا يكون فاعلاً ، لا يكون مطلوبًا ، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله ، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ ، وحظ ونصيب ، لا يمكن غير ذلك ، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين" . اهــ
بتصرف من : "جامع المسائل" ، (6/8) .

فلا يتصور عاقل أن يتحرك حي حساس مريد فضلا عن أن يكون عاقلا مكلفا ، لا يتصور أن يتحرك بلا هدف ! ، ولا يتصور أن يتحرك ذو عقل إلا لما يظن فيه لذته فيتحرك إليه تحرك المحب طلبا لمحبوبه ، وإن لم يكن كذلك بالفعل فقد يتحرك إلى ما فيه عين هلاكه فالبغض به أليق ولكنه لفساد تصوره قد ظن فيه صلاحه فأحبه جهلا بعاقبته الآجلة واغترار بلذته العاجلة كطالب شهوة محرمة من مطعوم أو منكوح ...... إلخ ! .

فموارد الحق كما تقدم : "الواقع الموجود ، والواجب المقصود" ، وذلك مراد الشارع ، جل وعلا ، فالعلم بالواقع على ما هو عليه : تصور صحيح ، وذلك مئنة من كمال القوة العلمية ولا ينال ذلك إلا بتلقي الخبر الديني من مشكاة النبوة ، وتلقي الخبر الطبيعي من موارد البحث التجريبي الذي كان لأهل الإسلام فيه ريادة ، فقد جمع الإسلام في إهابه : موارد العلم الإلهي ، والعلم الطبيعي فلم يجر عليه ما جرى على بقية المقالات دينية كانت أو علمانية ، فكلها قد وقع فيه من الفصام النكد بين موارد الدين وموارد الدنيا ما وقع ، فوقع التعارض في الطرح الكنسي : بين العلم الإلهي فهو مبدل ، والعلم الدنيوي في بواكير عصر النهضة ، فهذا طرح غلَّب جانب الدين فقهر العقل على قبول المحال وتكذيب العيان من نتائج البحث التجريبي في الطبيعيات لأن صاحبه قد خرج عن أمر الكنيسة فعارض علومها ولو كانت محض فروض لا أساس لها من الصحة فهي محض تخرض وظن لا يستند إلى دليل من وحي شرعي صحيح أو حس تجريبي سليم ، ومال إلى طرح الإسلاميين الذين نفذ شعاع حضارتهم الساطع لينير سماء القارة العجوز فكانت الجزيرة الأندلسية الحبيبة همزة وصل بين الشرق المنير ففي سمائه قد سطعت شمس النبوات فحظي بخاتم الرسالات ، والغرب المظلم الذي استفاد نوع تنوير من حضارة دين التوحيد فحمل العلم التجريبي الأدنى وأبى في تعصب وتحكم عجيب أن يحمل العلم الشرعي الأعلى فهو ، لو تدبروا ، معدن ما حملوه من خلاق الدنيا ، فتمسكوا بأهداب الفروع من علوم تأتي نافلة بعد فريضة العلم الديني الصحيح فالمنة به أعظم فهو الذي يصحح التصور والحكم ، فصاحبه أفطن الناس لموارد الحق في الإلهيات والطبيعيات معا ، فكان رد الفعل غلوا في الطرف الآخر بنبذ مقال الدين صح أو فسد ، وتعظيم مقال العلم التجريبي دون ضابط شرعي ، فلا ينتفع به إن ضل صاحبه عن موارد الوحي الصحيح كما وقع في الطرح العلماني المعاصر ، فقد غلب جانب العقل في مقابل تغليب الكنيسة جانب النقل ، فلم يحسم النزاع بين الموردين إلا الدين الخاتم بوحيه الصحيح المحفوظ فنقله صحيح سالم من المعارضة ، فلا يعارض ، بداهة ، موارد العقل الصريح ، فــ : "مَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ رَسُولٌ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا تُخْبِرُ بِمَا لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَالرُّسُلُ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/184) .

و : "الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لَا بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

فلا بد أن يعتاض الزاهد في الشريعة بطريقة تعارضها من هوى أو ذوق لا مستند لها فهي محض تخرص وظن يعارض به قطعي الوحي الصحيح الصريح السالم من المعارضة فأي نقض لقياس العقل الذي يقضي بتقديم القطعي على الظني ، فكيف بالوهمي ؟! ، أي نقض لقياس العقل أعظم من ذك ؟! .

فالنقل : أصل خالص ، والعقل : تابع ناصح يؤيد متبوعه بقياس صريح يشهد لنقل الوحي الصحيح فلا تعارض بينهما كما تقدم .

فهذا العلم الصحيح الذي يؤدي إلى تحصيل : الواجب المقصود ، فتكتمل موارد الحق ، علما وعملا ، فمورد العلم قد وافق الخبر ، ومورد العمل قد وافق الشرع ، فاكتملت قوى التكليف : تصورا وحكما ، بوارد الوحي : خبرا وشرعا ، فهو الحق الخالص بقسميه : الواقع العلمي الصادق والمقصود العملي النافع ، ونظيره من الباطل المنفي : المعدوم فيقابل الواقع الموجود ، وما لا ينفع من فاسد الإرادات والأحوال وما يلزم منها في الخارج من فاسد الأقوال والأعمال ، فالقسمة ثنائية تستغرق موارد التكليف : علما وعملا ، فــ : حق وباطل ، وكلاهما ينقسم في الخارج إلى : علم وعمل ، فــ :
"الْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمَوُجُودُ الثَّابِتُ .
وَالثَّانِي : الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : {الْوِتْرُ حَقٌّ} .
وَالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا :
أَحَدُهُمَا : الْمَعْدُومُ . وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ .
الثَّانِي : مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ : {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ : إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ : فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ" . اهــ
بتصرف يسير من : "مجموع الفتاوى" ، (2/415 ، 416) .

فلا يخلو حي من إرادة صحت أو فسدت ، فــ : "الْإِنْسَانُ لَا يحب الشَّيْء ويريده حَتَّى يكون لَهُ بِهِ شُعُور أَو إحساس أَو معرفَة وَنَحْو ذَلِك وَيكون مَعَ ذَلِك بِنَفسِهِ إِلَيْهِ ميل وفيهَا لَهُ حب وكل وَاحِد من هَاتين الْفرْقَتَيْنِ فِي فطرته وجبلته الْمعرفَة والمحبة وَلِهَذَا كَانَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فطْرَة الْإِسْلَام وَهِي عبَادَة الله وَحده وأصل ذَلِك مَعْرفَته ومحبته" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/398) .
فالشعور العلمي الذي يحدثه الوارد الخبري يولد في النفس ضرورة : حركة محبة تقضي بلازمها ضرورة من البغض ، فإن الإنسان لا ينفك عن محبة ما ينفعه ، وبغض ما يضره ، فهما متلازمان شرعا وعقلا ، فمحبة الشيء تقضي لزوما ببغض ضده ، فمن أحب الحق كره الباطل ، ومن آمن بالرحمن ، جل وعلا ، كفر بالشيطان ، ومن عظم الوحي حقر ما يعارضه من معقول باطل أو موجود فاسد ، فلا يعارض خبر ربه ، جل وعلا ، وحكمه ، بقياس عقله أو ذوق نفسه ، فذلك تأويل النهي الجازم في قول الرب الشارع جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فلا بد أن يولد الشعور العلمي في القلب : ميلا إلى الشيء فيحب ، وميلا عن ضده فيبغض ، فيتحرك القلب بما فيه حياته من حركات المحبة والبغض ، فتلك رسوم الحياة الباطنة فيتحرك القلب بأجناس المشاعر والإرادات فتلك علامة حياة الباطن ، كما يتحرك الظاهر بأجناس الأقوال والأفعال الاختيارية فتلك علامة حياة الظاهر ، فمن سوى بين الأشياء فأحب كل شيء ، كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد فقد أتى بما ينكره العقل بل والحس ضرورة فصاحبه مسفسط ينكر البدهيات ، فكيف يحب جميع الأشياء وفيها ما يضره بمقتضى العقل والفطرة فضلا عن الشرع ، فذلك معنى أجمع عليه العقلاء ، ولو قبل ورود الشرائع ، فالعقول تدرك ضرورة أن من الأشياء ما ينفعها كالمطعوم والمشروب فتحبه وتحكم بحسنه وإن لم تستقل ببيان حكمه ، وتدرك في المقابل أن من الأشياء ما يضرها كالسم والتردي من شاهق ...... إلخ ، فتبغضه وتحكم بقبحه وإن لم تستقل ، أيضا ، ببيان حكمه ، فلا حياة للإنسان إلا بمحبوب يباشره ، ومكروه يجانبه ، ولا ينكر ذلك عاقل فهو من ضرورات القياس وبداهات الإحساس ، فمن سوى بين الموردين فجعل الجميع مرادا محبوبا سواء ضر أو نفع فقد ناقض ناموس الشرع الصحيح الذي يأمر وينهى فإذا كان الجميع محبوبا فعلام الأمر والنهي والجميع مراد الرب ، جل وعلا ، ما حسن وما قبح ، وذلك ما يفتح باب زندقة وانحلال واسع ولج منه من سوى بين المتباينات الحكمية فصير جميع الأفعال مشروعة وتعدى بعد ذلك فولج باب الاتحاد فصير جميع الأعيان طاهرة محبوبة بل وجعلها واحدا في الشخص هو ذات الرب ، جل وعلا ، فاتحد بذات الإله كما يقول أصحاب الضلال من أرباب الملل الباطلة لا سيما التي تعنى برسوم الرياضة والرهبنة من بوذية وديانات هندية وثنية وما يتفرع عليها الآن من مقالات حادثة تقوم على التأمل العميق إرادة التأثير في الكون ! ، فضلا عن المقالات الأرضية كمقالة الرومانسية التي تعنى بالطرح الصوفي الذي يفنى في حب الطبيعة فهي الإله المعبود كما نوه بذلك بعض الفضلاء في معرض تناول الطرح الأوروبي الذي يتسم بقدر كبير من التناقض والتعارض بل والتضاد في ردود الأفعال فلم تعرف أوروبا اتزانا فكريا وإنما تأرجحت بين الأضداد على نحو يشي بفساد الأقوال والأحوال فمن أبيقورية شهوانية تغرق في الماديات إلى رواقية زهدية هي على الضد تزدري المحسوس وتغلو في تأمل المعقول على وزان الديانات الوضعية ذات الصبغة الفلسفية كالبوذية ، ومن كلاسيكية معاصرة إلى رومانسية تحلق في سماء المثالية الجوفاء حتى صار لقب "الرومانسي" مما يطلق في معرض التندر بحال الشخص الحالم الذي يفنى في محبوبه فتصدر منه أقوال وأفعال تثير التعجب وربما السخرية ! ، ومن ثم ارتد العقل الحالم إلى أرض الواقع فانتهج رسم الواقعية التي عنيت برصد حقائق الحياة على نحو فج تقصد أصحابه مضادة الأديان والأعراف فذلك من آثار المعركة الفكرية التي دارت بين الكنيسة والعقل في بواكير عصر النهضة فلا تعدو تلك الواقعية التي انحطت بصاحبها إلى دركات الإسفاف كما هي الحال الآن في الطرح الإعلامي المعاصر الذي يتذرع بالواقعية ليعرض سواءات المجتمعات على نحو فج فلا يروم الإصلاح وإنما يروم استباحة الفواحش والتهوين من شأن ذلك لتشيع الفاحشة في المجتمعات الإسلامية المحافظة فصاحبه من أهل الوعيد في قول الرب الجليل تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ، فمن ولج باب الاتحاد فإنه يسوي بين الأعيان فكلها من عين واحدة قد صدرت ، لا على جهة الخلق ، فذلك معنى يصح من وجه فالمخلوقات كلها قد صدرت من الخالق ، جل وعلا ، صدور المخلوق من خالقه ، فكونها بكلماته التكوينية النافذة ، فلم يرد الاتحادي ذلك ، وإنما أراد صدور المخلوق من الخالق على جهة الحقيقة : فحقيقة المخلوق جزء من حقيقة الخالق ! ، وهو مع ذلك يصير جميع الأديان صحيحة فيسوي بين التوحيد والتثليث وسائر رسوم الكفر والتشريك فالجميع من عين واحدة قد صدر ! ، فوحدة في الأعيان وأخرى في الأديان يحتفي بها الغرب الآن فهي لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ، والطرح الليبرالي المعاصر يسير على نفس المنهاج وإن لم يقل بمقال الاتحاد ، من كل وجه ، فيطلق الحريات برسم الإقرار لكل دين ومسلك ، وذلك مذهب يفسد الدين والدنيا معا ، فأوله إبطال للتكليف الشرعي بالتذرع بالجبر ، فلا اختيار للمكلف في فعله حسن أو قبح فعلام اللوم وهو مجبر لا إرادة له في إيقاع ما يقول ويفعل ؟! ، وذلك مذهب يكفي تصوره أو فرضه في الذهن ، يكفي مجرد ذلك لإبطاله فهو ينقض القياس والحس فضلا عن مناقضته لموارد الوحي الذي أثبت للمكلف اختيارا صحيحا فهو مورد التكليف الذي يثاب المكلف عليه ويعاقب ، فــ : (مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فأثبت المشيئتين ، فلا يقع الفعل إلا بمشيئة الرب ، جل وعلا ، قدرا كونيا ، ومشيئة العبد سببا من جملة الأسباب المؤثرة في إيقاع الفعل في الخارج فلا يقع إلا بجملة أسباب تثبت وجملة موانع في المقابل تنتفي ، فيفسد هذا المذهب أمر الدين بل وأمر الدنيا فهو حجة لكل من ظلم وتعدى فله أن يحتج بالجبر وبأن الجميع مراد الرب ، جل وعلا ، فهو مما يحب ويرضى ، ولو ظلما وفحشا ، فيسوي صاحبه بين المراد الكوني والمراد الشرعي ، ثم يلج بعد ذلك إلى مقالة الاتحاد الأفحش في قياس العقل الصريح الذي يقضي ، كما تقدم ، بالتسوية بين المتماثلات في الأحكام ، فللمؤمن حكم المؤمن في الأديان ، وللطاهر حكم الطاهر في الأعيان ، وإن تباينا في الخارج بداهة فعين زيد تباين عين عمرو ، فلكلٍ وجود وحكم في الخارج وإن اشتركا في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، ولله المثل الأعلى فبينونة ذاته القدسية من سائر الذوات الأرضية تثبت من باب أولى ، وإن وقع الاشتراك في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، كما تقدم ، فشتان وجود واجب الوجود الأول فليس قبله شيء ، الآخر ، فليس بعده شيء ، تبارك وتعالى ، ووجود المخلوق الحادث فهو بالعدم مسبوق وبالفناء ملحوق فضلا عما يعتريه من أعراض النقص فسنة ونوم ولغوب ومرض وهرم وموت وجوع وعطش ...... إلخ وكل أولئك مما تنزه عنه الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فهو السلام القدوس فتنزه عن كل نقص وسلم من كل عيب وقدح ، وهذا قدر فارق رئيس بين مقالة التوحيد : مقالة النبوة الجامعة التي نزهت الرب ، جل وعلا ، عن كل عيب ونقص ، وسائر المقالات سواء أكانت سماوية مبدلة أم أرضية محدثة فلا تنفك عن شوب قدح في ذات ووصف الرب ، جل وعلا ، والشاهد أن هذا مقال يعارض ناموس الدين بل وقانون الكون ، فأصحابه :
"أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ جَمِيعِ رُسُلِهِ بَلْ أَعْدَاءُ جَمِيعِ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَعْدَاءُ أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطْرُدَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ إذْ لَازَمَهُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ ظُلْمَ ظَالِمٍ وَلَا يُعَاقِبُ مُعْتَدٍّ وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيءٍ لَا بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَاءِ أَنْفُسِهِمْ لِرَفْعِ الْمَلَامِ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ لَهُمْ هَذَا مَعَ أَحَدٍ قَابَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ظَلَمَةٌ جُهَّالٌ مِثْلُ السَّبُعِ الْعَادِي يَفْعَلُونَ بِحُكْمِ الْأَهْوَاءِ الْمَحْضَةِ وَيَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْمَلَامَ وَالْعَذَلَ أَوْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ وَبِمُلَاحَظَةِ الْقَدْرِ النَّافِذِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَآذَاهُمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِهِمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ: فَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/410 ، 411) .

فلا تنفك النفس عن هذه الحركة القلبية التي تولد في النفس إرادة ، فترغب في المحبوب وترغب في المقابل عن المكروه ، وذلك تسلسل صحيح في الشرع والعقل فــ : علم يولد في القلب محبة تولد في النفس إرادة تولد في الخارج قولا وفعلا ، فتكتمل أجزاء الصورة التصورية الإرادية الباطنة ، القولية الفعلية الظاهرة ، فهي تأويل ما ركز الرب ، جل وعلا ، في النفس من قوى العلم النظري والعمل الإرادي ، ولذلك كان الإيمان المرضي مستغرقا لتلك الأجزاء فعقد باطن يستمد من الوحي ، يولد في القلب محبة للحق فيحب العبد الرب ، جل وعلا ، فتلك دعوى ، تصدقها الإرادة فتتولد في نفسه إرادة الطاعة ، فيقع لزوما : القول والفعل فهما شاهدا الصدق في الخارج ، فإذا لم يكن ثم مانع شرعي أو كوني ، وقع القول والفعل ضرورة فذلك تأويل الاستطاعة الكونية التي تقع بها الأفعال ففيها قدر زائد على الاستطاعة الشرعية : متعلق التكليف ، فتزيد عليها : إذن الرب القادر ، جل وعلا ، وتيسير الأسباب وانتفاء الموانع فتتولد في القلب الإرادة التي تتأولها الجوارح بما ركز فيها من قوى الفعل فيخلق الرب ، جل وعلا ، بها فعل الفاعل ، فهو خالق السبب من إرادة قلب وقوة جارحة فخلق في اليد قوة البطش وخلق في القدم قوة السير وخلق في اللسان قوة الكلام ...... إلخ ، وهو خالق المسبَّب من قول وفعل في الخارج .
فــ : "الْمُؤْمِنُ الَّذِي آمَنَ بِاَللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إيمَانُهُ يَجْمَعُ بَيْنَ عِلْمِ قَلْبِهِ وَحَالِ قَلْبِهِ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَيَجْمَعُ قَوْلَ لِسَانِهِ وَعَمَلَ جَوَارِحِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَالْإِسْلَامُ لَهُ هَذَا قَوْلُ قَلْبِهِ وَهَذَا عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ. وَالْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِدْرَاكُ قَبْلَ الْحَرَكَةِ وَالتَّصْدِيقُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمَعْرِفَةُ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانَا يَتَلَازَمَانِ؛ لَكِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ مُوجِبٌ لِعَمَلِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ وَعَمَلُهُ يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَهُ إذْ لَا تَكُونُ حَرَكَةً إرَادِيَّةً وَلَا مَحَبَّةً إلَّا عَنْ شُعُورٍ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِيهَا فَسَادٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الشُّعُورُ وَالْإِدْرَاكُ صَحِيحًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ " فَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ: فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ عِلْمٍ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَنْتَظِمُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا: عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُودَ الْفُرُوعِ الصَّحِيحَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْأُصُولِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/382) .

فالحاصل أن الإرادة من : الكليات المطلقة في الذهن ، فتقبل الانقسام في الخارج فمنها الكوني القدري ، ولا يلزم من وقوع متعلقها وقوع متعلق المحبة فهي لا تقبل الانقسام فموردها شرعي فقط ، فلا يعم ما شاء الرب ، جل وعلا ، وقوعه من الكفر والفجور ، فشاء الكفر بقدره الكوني ، ولم يأمر به بقدره الديني التكليفي ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ومن الإرادة : الإرادة الدينية الشرعية فمتعلقها هو متعلق المحبة من مراضي الرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وإن لم يشأ وقوعه بقدره الكوني ، فمتعلق الأولى : كلماته الكونيات ، ومتعلق الثانية : كلماته الشرعيات ، فـــ :
"قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ بَيْنَ مَنْ قَامَ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ وَبَيْنَ مَنْ اتَّبَعَ كَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّاتِ وَذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَإِذْنِهِ وَبَعْثِهِ وَإِرْسَالِهِ؛ فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكُوفِيِّ الْقَدَرِيِّ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .
وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .
وَبِهَذَا الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/411 ، 412) .

فليس كل ما يحبه يشاؤه ، وليس كل ما يشاؤه يحبه ، فثم قدر فارق بين خلق الحركة والإدراك بقدر التكوين فهذا رسم عام لجميع الأعيان والأحوال الباطنة إرادة والظاهرة قولا وفعلا ، فهذا رسم عام يكافئ هداية البيان والإرشاد ، فثم قدر فارق بينها وبين جريانها من وجه آخر على مقتضى التشريع فهذا رسم خاص يكافئ هداية التوفيق والإلهام ، فــ : "إِنَّ الْعَبْدَ بِحَسَبِ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ يَكُونُ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ بِالْحَقِّ؛ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيمَنْ يُحِبُّهُ وَفِيمَنْ لَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا لِلْمَحْبُوبِ الْحَقُّ مِنْ الْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْإِعَانَةِ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/391) .

والولي حقا من يتتبع موارد الإرادة الدينية الشرعية فيتأول لازمها من مراضي الرب ، جل وعلا ، فلا يحب إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، ولا يبغض إلا ما يبغض ، عز وجل ، فلا يحب كل شيء فذلك مما ينقض أصل الشرع والعقل ، كما تقدم ، فمن الأشياء ما يبغضها الرب ، جل وعلا ، وإن شاء وقوعها ، فكيف يحب العبد ما يبغض الرب ، جل وعلا ، وهو يزعم محبته ، فمن أحب أحدا : أحب ما أحب وأبغض ما أبغض ، فــ : "إِنَّهُ من لزم مَا يرضى الله من امْتِثَال أوامره وَاجْتنَاب نواهيه لَا سِيمَا إذ قَامَ بواجبها ومستحبها يرضى الله عَنهُ كَمَا أنه من لزم محبوبات الله أحبه الله كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب إلي عَبدِي بِمثل أداء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إلي بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته الحَدِيث" . اهــ من : "الاستقامة" .

و : "من كَانَ حبه لله وبغضه لله لَا يحب إلا لله وَلَا يبغض إلا لله ولا يعطي إلا لله وَلَا يمْنَع إلا لله فَهَذِهِ حَال السَّابِقين من أَوْلِيَاء الله .......... فــ : هَؤُلَاءِ الَّذين أَحبُّوا الله محبَّة كَامِلَة فتقربُوا بِمَا يُحِبهُ من النَّوَافِل بعد تقربهم بِمَا يُحِبهُ من الْفَرَائِض أحبهم الله محبَّة كَامِلَة حَتَّى بلغُوا مَا بلغوه وَصَارَ أحدهم يدْرك بِاللَّه ويتحرك بِاللَّه بِحَيْثُ أَن الله يجيب مَسْأَلته ويعيذه مِمَّا استعاذ مِنْهُ" . اهــ بتصرف من : "الزهد والورع والعبادة" .

فذلك قياس العقل الصريح طردا وعكسا في المحبة والبغض ، فــ : "إِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ يَبْقَى إدْرَاكُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ؛ فَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ؛ وَيَبْقَى فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مِنْ النُّورِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ {اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا} . فَوَلِيُّ اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ: مَا يَتَّحِدُ بِهِ الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَحْبُوبُ الْحَقِّ مَحْبُوبَهُ وَمَكْرُوهُ الْحَقِّ مَكْرُوهَهُ وَمَأْمُورُ الْحَقِّ مَأْمُورَهُ وَوَلِيُّ الْحَقِّ وَلَيَّهُ وَعَدُوُّ الْحَقِّ عَدُوَّهُ؛ بَلْ الْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ الْمَخْلُوقَ مَحَبَّةً تَامَّةً حَصَلَ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا حَتَّى قَدْ يَتَأَلَّمُ أَحَدُهُمَا بِتَأَلُّمِ الْآخَرِ وَيَلْتَذُّ بِلَذَّتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/373) .

فعنده من الفرقان الشرعي بين الحق والباطل ما يحصل به التصور الصريح وما يتأول به المكلف الحكم الشرعي المرضي فهو مراد الرب العلي ، تبارك وتعالى ، كما تقدم .

و : "إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا ، لقوله تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} .
وفي صحيح البخاري : الحديث المشهور ....... : يقول الله تبارك وتعالى فيه : «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلي بالفرائض ، فيكون من الأبرار أهل اليمين ، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل ، حتى يكون من السابقين المقربين ، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله ، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل : أنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم ، فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين ، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات ، لم يكن من أولياء الله" . اهــ من : "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" .

فتتفاوت رتب العباد بتفاوت أحوالهم قربا أو بعدا ، فمن قرب فله من الولاية بقدر قربه ، فالقرب في نفسه يتفاوت فذلك تفاوت ثان ، فــ : "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا أَنَابَ إلَى رَبِّهِ وَعَبَدَهُ وَوَافَقَهُ حَتَّى صَارَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ رَبُّهُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ رَبُّهُ وَيَرْضَى بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ رَبُّهُ وَيُعْطِي مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ وَيَمْنَعُ مَنْ مَنَعَ رَبُّهُ فَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَصَارَ هَذَا الْعَبْدُ دِينُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَتَى بِمَا خَلَقَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ. فَقَدْ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهُ وَأَسْبَابُهَا بِأَحْكَامِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْبَابِهَا. وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ؛ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَالْمُرْسَلُونَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأُولُو الْعَزْمِ أَعْظَمُ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْوَسِيلَةُ الْعُظْمَى فِي كُلِّ مَقَامٍ. فَهَذِهِ الْمُوَافَقَةُ هِيَ الِاتِّحَادُ السَّائِغُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/389) .

فالاتحاد معنى مجمل تتعدد موارده في الخارج ، فمنه الاتحاد المذموم ، وهو ما وقع فيه ولا يزال أرباب التصوف الغالي على اختلاف مللهم ونحلهم فبوذية تجعل الإنسان جزءا من الإله فتختل حاله إذا انفصل عنه ! ، فيمارس الإنسان ضروبا من الرياضات الشاقة ليحصل له التأمل المفضي إلى بلوغ الغاية العلمية والحقيقة الإلهية ، فقد اتحدت ذاته بالإله وانحلت روحه من عقال البدن فجالت في الملكوت ودخلت على الرب المعبود ، جل وعلا ! ولا يخفى ما بين هذا المقال الوثني والمقال الصوفي الاتحادي من تشابه وربما تماثل فهو يشي بأصول التصوف الغالي فمن مستمداته : الديانات الوثنية القديمة ، ونصرانية جعلت الاتحاد الخاص : قانون الملة ، وصوفية اتحادية جعلت الاتحاد في الأعيان فكلها إلهية ، والأديان ، فكلها مرضية ! ، جعلته غاية التحقيق ! .

ومنه في المقابل : الاتحاد المحمود بأن يتحد مراد العبد بمراد الرب ، جل وعلا ، الديني الشرعي لا الكوني القدري ، فمنه ما لا يرضي الرب العلي ، تبارك وتعالى ، وإن شاء حصوله لحكمة تزيد على مفسدة وقوعه ، فذلك أثر قدرته النافذة في خلق الأضداد ، وحكمته البالغة في تدافع الأسباب ، فالاتحاد المحمود يكون بموافقة مراد الرب الشرعي لازم محبته ، لا مراده القدري لازم مشيئته ، فمقام الجمع يقتضي إثبات إرادة التكوين ، فجميع الخلق تحت المشيئة النافذة في الدنيا والآخرة ، ومقام الفرق يقتضي امتثال إرادة التشريع فبها يفرق العبد بين مراضي الرب ، جل وعلا ، ليمتثلها ومساخطه ليجتنبها ، فيحصل له بذلك : الجمع فذلك إيمانه بالقدر ، والفرق فذلك امتثاله للشرع ، فيفنى عن عبادة السوى بالفرق بين الأمر والنهي فيمتثل مراضيه فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وينتهي عن مساخطه ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ويفنى عن شهود السوى بالجمع فــ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .

فيشهد العبد بقلبه مقام الربوبية فهو مقام الجمع فكل الكائنات الحادثة من الرب ، جل وعلا ، فابتداء غايتها منه ، ولكنها ليست جزءا منه كما ذهب إلى ذلك من ذهب من المشركين ، فــ : (جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ، فهي منه خلقا ، فابتداء غاية خلقها منه ، جل وعلا ، فبها تظهر آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى ، فذلك معنى صحيح لظهور الرب ، جل وعلا ، في خلقه ، فهو ظهور آثار صفاته العلية لا ظهور ذاته القدسية كما زعم أهل الحلول والاتحاد ، فقد اشتبه ذلك على من غلا في شهود مقام الربوبية ، فوقع في فناء الشهود فلم يشهد إلا فعل الرب المعبود ، جل وعلا ، في الكون ، فذلك مما وقع لبعض العارفين وليس من دين رب العالمين ، جل وعلا ، فتلك حال ناقصة يعتذر عن صاحبها إن كان من الأفاضل فما أراد إلا تعظيم الرب الخالق ، جل وعلا ، فغلا في تقرير مقام الجمع ربوبية ففني بالمسبِّب جل وعلا عن الأسباب في الخارج فلا يرى فيها إلا مجريها ، فتشتبه الحال الكاملة بظهور ألوهية الله ، جل وعلا ، في عبده ، بامتثاله لأمره ونهيه ، تشتبه بحال أخرى وهي : "مَا يُظْهِرُهُ الرَّبُّ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْضَ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مِمَّنْ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ كَفِرْعَوْنَ وجنكسخان وَنَحْوَهُمَا وَمَا يَهَبُهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَمَا يُقَسِّمُهُ مِنْ الْجَمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا يَهَبُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوْ يَهَبُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ أَوْ يُعْطِيهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا مِثْلَ الْأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَنَحْوَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَقُومُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَحْكَامِ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَمَا يَقُومُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ آثَارِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقِسْمَانِ فِي عَبْدٍ كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ: مِثْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/407 ، 408) .

فاجتمع في الأنبياء عليهم السلام بما هم عليه من حال شرعية كاملة وحال كونية خارقة : اجتمع فيهم تأويل إرادة التكوين تأييدا بالآيات المعجزة ، وتأويل إرادة التشريع فهم أطوع الخلق للخالق ، جل وعلا ، ففيهم ظهرت آثار الألوهية امتثالا وآثار الربوبية إعجازا .

والشاهد أن آثار وصف الرب ، جل وعلا ، تظهر في الكائنات خلقا ، فــ : "جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ: آيَاتٌ لَهُ شَاهِدَةٌ دَالَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى؛ وَعَنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ خَلَقَ الْكَائِنَاتِ. فَإِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ خَلَقَ الرَّحِمَ وَشَقَّ لَهَا مِنْ اسْمِهِ؛ وَهُوَ الرَّازِقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُوَ الْهَادِي النَّصِيرُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا هُوَ. فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْعَالَمُونَ مُمْتَلِئُونَ بِمَا فِيهِمْ مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمَنْ خَرَقَ اللَّهُ سَمْعَهُ سَمِعَ تَأْوِيبَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَعَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ. فَإِذَا فُسِّرَ ظُهُورُهُ وَتَجَلِّيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى: فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَفْظُ الظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي فِيهِ إجْمَالٌ ...... ، (فقد يريد به تجلي وصف الربوبية خلقا وتدبيرا فهذا معنى صحيح وقد يريد به ما أراده الاتحادية من تجلي الذات الإلهية القدسية في الذات الأرضية فذلك معنى باطل لما يلزم منه من حلول الكامل في الناقص فيلحقه وصف النقص لزوما وهذا مما تنزه عنه الرب جل وعلا بداهة) ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَالرَّبُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ آيَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَشَاهِدُهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ فِيهِ بِمَعْنَى ظُهُورِ آثَارِ الصَّانِعِ فِي صَنْعَتِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. بَلْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبَيِّنُ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/400 ، 401) .

فالكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا تظهر فيه آثار قدرته النافذة وحكمته البالغة ، فــ :
"فَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عُمُومُ خَلْقِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعُمُومُ إحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ : أَصْلَانِ عَظِيمَانِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/400) .

فجميع الكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا ، لا جزءا أو وصفا كما زعمت الغالية من المثلثة الذين جعلوا الأقانيم الحادثة من الرب ، جل وعلا ، وصفا في تحكم عجيب ينقض قياس العقل الصريح ، فالوصف لا يباين الموصوف فلا يستقل بذاته وإنما يقوم بموصوفه ، والوصف لا يتجسد في الخارج ، ولو سلم بذلك ، فرضا ، فتجسده في ناسوت أو أقنوم حادث يجوز بل ويوجب طروء النقص عليه بما يعتري الناسوت أو الأقنوم من أعراض النقص والفناء التي لا ينفك عنها كائن حادث ، وذلك معنى منتف بداهة في حق الرب السلام السبوح القدوس تبارك وتعالى .

والشاهد أن مقام الربوبية الجامعة ، مما يشهده القلب ، فذلك قدر علمي صحيح ، فهو أول درجات التكليف ، ولكنه لا يكفي حتى يشفع بلازمه من شهود مقام الألوهية فهو مقام الفرق بين المأمور والمحظور ، فــ :
"إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ إذَا أَقْبَلُوا عَلَى ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ: شَهِدُوا بِقُلُوبِهِمْ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الْجَامِعَةَ وَهَذِهِ الْإِحَاطَةَ الْعَامَّةَ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. هَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : "لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى .
فَقَدْ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ فِيهَا الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لَهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمُطَابَقَتِهِ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ صُنْعُهُ وَخَلْقُهُ ثُمَّ قَدْ يَرْتَقِي إلَى حِجَابٍ مِنْ حُجُبِهِ النُّورِيَّةِ أَوْ النَّارِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ ثُمَّ يَرْتَقِي إلَى نُورِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ صِفَاتِهِ؛ فَقَدْ يَقَعُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي نَحْوٍ مَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنْ تَدَارَكَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا هُدَى اللَّهِ: عَلِمُوا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ وَرُبَّمَا قَدْ يَقَعُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْفَنَاءِ أَوْ السُّكْرِ فَيَكُونُ مُخْطِئًا غالطا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَغْفُورًا لَهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ فِي الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ . (كما يقع لأهل فناء الشهود ممن لم يصلوا إلى فناء الوجود الذي يلزم منه الاتحاد الباطل بين الرب الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث) .

وَهُوَ كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَالَمَ الْمُحِيطَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ: فَكَذَلِكَ يَشْهَدُ إلَهِيَّتَهُ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} - الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَقْفِ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَفِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ الْمَعْنَى هُوَ فِي السَّمَوَاتِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْ هُوَ اللَّهُ غَيْرُهُ ........... فـ : بِذَلِكَ تَظْهَرُ أُلُوهِيَّةُ اللَّهِ فِي عَبْدِهِ وَتَظْهَرُ إنَابَةُ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَمُوَافَقَتُهُ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/402_404 ، 407) .

فالغلو في الأول قد يوقع صاحبه في الإفراط في المحبة فيحب كل شيء فهو من الرب ، جل وعلا ، وذلك صحيح بقيد التكوين الذي لا يستلزم المحبة ، فكل الكائنات منه خلقا ، كما تقدم ، ولكن مقام الألوهية الفارق قد باين بينها فمنها ما يحب الرب ، جل وعلا ، ومنها ما يبغض ، فمن لم يشفع المقام الأول بالثاني وقع في هذا الغلو فأحب كل شيء ، وإن لم يحبه الرب ، جل وعلا ، فإفراطه في محبة الكائنات يقطع قلبه عن حب خالقها ، جل وعلا ، فقد فني بها عنه ، فاشتغل قلبه بحب الصور الحادثة وظن ذلك مراد الرب ، جل وعلا ، فما خلق إلا ما يحب من الأعيان والأحوال ، فيسوي بينها جميعا فتستوي عنده الصورة المباحة والصورة المحرمة ، فلا عجب أن يقع من يقع في براثن العشق المحرم ، فالناظر في حاله قد يعجب ابتداء بل ويسخر من تعلقه بصورة أرضية حادثة قد شغلته بل وعبدته لها ، كما يقع في قصص العشاق سواء أكان عشقهم مباحا في أصله ثم زاد عليه صاحبه فأفرط في تعاطي المباح كعشق الزوجات أم كان محرما كعشق الأجنبيات بل والصبية والمردان فمنشأ الداء واحد وهو التعلق بصورة جميلة ، تعلقا يفسد إدراك صاحبه فيظن فيها كمالا من كل وجه فيفسد حكمه تبعا لفساد إدراكه فيفرط في حبها حتى يصير مضرب المثل في العشق والهيام وربما الجنون في دور تال كما هي حال كثير ممن ابتلي بالعشق سلمنا الرب جل وعلا من شره .

والنظر إلى صاحبه بعين القدر حتم لازم فهو مبتلى ، وإن لم يعذر بعين الشرع ، فلا يسخر منه عاقل خشية أن يبتلى بما هو فيه ، فلا يعرف ما به من ألم إلا من ابتلي ابتلاءه فــ :
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ******* وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا
لَا تَعْذِلِ الْمُشْتَاقَ فِي أَشْوَاقِهِ ******* حَتَّى تَكُونَ حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ

والمعشوق في الغالب ظلوم غشوم يروم تعبيد العاشق له فيستأثر بمداركه ، ولا يأبه في الغالب بعبرات العاشق :
أتراها لكثرة العشاقِ ******* تحسب الدمع خلقةً في المآقي

فلا حظ له منها عبرة شوق :
كيف ترثي التي ترى كل جفن ******* راءها غير جفنها غير راقي

فقد فتن بنفسه ، وتلك حال لا يبكي صاحبها في الغالب فقد عوفي من أسباب الشوق ! :
أنت منا فتنت نفسك لكنك ******* عوفيت من ضني واشتياق .

بل وقد يفسد الإدراك في دور تال ، وهو ما يقع لأهل الحلول والاتحاد فيظن أن هذه الصورة الحادثة هي الله ، تبارك وتعالى عن هذا الإفك العلمي والفساد الحكمي ، فهي مثال قد تجسد فيه ، تبارك وتعالى ، بوصف جلاله كصورة فرعون ، أو بوصف جماله كصورة امرأة أو أمرد حسن الصورة ! ، فيلتذ بالنظر فيها وهي صورة محرمة فالمحبة فاسدة واللذة طارئة يعقبها ألم الحرمان فتفسد مدارك المكلف بوقوعه ، كما تقدم ، في ضروب من العشق الذي يفسد العقل والحس معا كما هي حال مجانين العشاق ! ، والصحيح أن ذلك ، كما تقدم ، ظهور لأثر وصفه في خلقه ، فخلق الجميع بكلماته فأبان عن كمال وصفه الأعلى بخلق الأضداد : إيمانا وكفرا ، عدلا وظلما ، حسنا وقبحا ، وعلق بكلٍ أحكاما شرعية تكليفية من فاتته بذريعة الاشتغال عنها بمطالعة أحكام الربوبية فسدت حاله في الأولى وفسد مآله في الآخرة ، فيسوغ لنفسه النظر في الصور المحرمة تأملا في بديع صنع الإله ! كما يقول من يقول من الفساق أو من بعض من خلط في باب الإرادات فسوى بين المراد الكوني فهو متعلق الربوبية وما يلزم منه ضرورة من الحكم الشرعي ، فلكل حدث كوني : حكم شرعي تكليفي ، ولو بالإباحة ، فلا بد أن يقترن الشرع بالكون وإلا وقع الفساد العريض في التصور والحكم .

فليس الرب ، جل وعلا ، بحال أو متحد بصورة أرضية ، فذلك معنى باطل بداهة ، وإن حل في قلب عبده المؤمن : مثالا علميا لا وجودا عينيا ، فذلك معنى صحيح ، فالحلول يجري ، أيضا ، مجرى الكليات المطلقة في الذهن فيقبل الانقسام في الخارج فمنه الصحيح ومنه الباطل ، فــ
"يُطْلَقُ لَفْظُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ بَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِيمَا يُحِبَّانِ وَيُبْغِضَانِ، وَيُوَالِيَانِ وَيُعَادِيَانِ، فَلَمَّا اتَّحَدَ مُرَادُهُمَا وَمَقْصُودُهُمَا صَارَ يُقَالُ هُمَا مُتَّحِدَانِ، وَبَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، وَلَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَ هَذَا اتَّحَدَتْ بِذَاتِ الْآخَرِ، كَاتِّحَادِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ، وَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ، أَوِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحُلُولِ، وَالسُّكْنَى، وَالتَّخَلُّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .......... وَقَدْ يُقَالُ : فُلَانٌ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، يُرَادُ بِذَلِكَ: إِلَّا ذِكْرُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مَا فِي قَلْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، بَلْ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا عِنْدَهُ إِلَّا فُلَانٌ، إِذَا كَانَ يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ أَنَّ ذَاتَ فُلَانٍ لَمْ تَحُلَّ فِي هَذَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَّحِدَ بِهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ عَنِ الْمِرْآةِ إِذَا لَمْ تُقَابِلْ إِلَّا الشَّمْسَ: مَا فِيهَا إِلَّا الشَّمْسُ، أَيْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا غَيْرُ الشَّمْسِ.
وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُلُولِ يُرَادُ بِهِ حُلُولُ ذَاتِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَحُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمِثَالِهِ الْعِلْمِيِّ تَارَةً ...... وَعِنْدَهُمْ ، (أي : النصارى) ، فِي النُّبُوَّاتِ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ حَلَّتْ فِيهِ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ سَاكِنٌ فِي قَلْبِي وَحَالٌّ فِي قَلْبِي وَهُوَ فِي سِرِّي، وَسُوَيْدَاءِ قَلْبِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَلَّ فِيهِ مِثَالُهُ الْعِلْمِيُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَكَانَ إِذَا خَلَا مِمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَا حَلَّتْ فِيهِ عِبَادَتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، فَإِذَا صَارَ فِي الْمَكَانِ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ وَيَذْكُرُهُ ظَهَرَ فِيهِ ذِكْرُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَذِكْرُهُ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌّ فِيهِ.
كَمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَحَالٌّ فِيهِم، وَالْمُرَادُ بِهِ حُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ....... فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ نُورُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ حَالٌّ فِيهِمْ وَهُمْ حَالُّونَ فِي الْمَسْجِدِ - قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَالٌّ فِيهِ، بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، مَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (2/204_206) .

فله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فيحل بمثاله العلمي في قلب عبده : رجاء وخشية ، رغبة ورهبة ، محبة وعبادة ، فكل أولئك مثل علمية يصح حلولها في القلب خلافا لما زعمه أهل الحلول والاتحاد من حلول ذات الرب ، جل وعلا ، في القلب تمسكا بمتشابه من قول بعض العارفين ، فــ :
"هَذَا الْمَذْهَبُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَقُولُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنُورِهِ وَهُدَاهُ وَالرُّوحِ مِنْهُ، وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ ذَاتُ الرَّبِّ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِالِاسْمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ، أَوْ نَفْسَ الْخَطِّ هُوَ نَفْسُ اللَّفْظِ، وَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَاتَ الْمَحْبُوبِ حَلَّت فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، أَوْ نَفْسَ الْمَعْرُوفِ الْمَعْلُومِ حَلَّ فِي ذَاتِ الْعَالِمِ الْعَارِفِ بِهِ وَاتَّحَدَ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ أَنَّ نَفْسَ الْمَحْبُوبِ الْمَعْلُومِ بَايِنٌ عَنْ ذَاتِ الْمُحِبِّ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ، لَمْ يَحُلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] .
فَالْمُؤْمِنُونَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُحِبُّونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُقَالُ هُوَ فِي قُلُوبِهِم، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَعِبَادَتُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْعِلْمِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ ذَاتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي، وَمَا زِلْتَ فِي قَلْبِي وَبَيْنَ عَيْنَيَّ، وَيُقَالُ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ :
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ ******* غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَمِنْ عَجَبِي أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ ******* وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا ******* وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
وَقَالَ:
مِثَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي ******** وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَالْمَسَاجِدُ: هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] .
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] .
ثُمَّ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نُورَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِ، كَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/220 ، 221) .

وإلى هذا المعنى أشار من قال : "(مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ) . وَهُوَ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الصِّدِّيقُ {أَيُّهَا النَّاسُ: سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَلَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَه وَقَالَ رَقَبَةُ بْنُ مِصْقَلَةٍ لِلشَّعْبِيِّ: "رَزَقَك اللَّهُ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَيْهِ". وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ سيار، وحدثنا جعفر، عن عمران القصير قَالَ : {قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك؟ قَالَ: يَا مُوسَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ} . وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يُقَالَ: مَا فِي قَلْبِي إلَّا اللَّهُ مَا عِنْدِي إلَّا اللَّهُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} ، وَيُقَالُ :
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ:
مِثَالُك فِي عَيْنِي وذكراك فِي فَمِي ******* وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَهَذَا الْقَدْرُ يَقْوَى قُوَّةً عَظِيمَةً حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ بِالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَيَحْصُلُ مَعَهُ الْقُرْبُ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/385 ، 386) .

والعبد المؤمن قد اتحد مراده بمراد الشرع ، فلا يريد إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، فـــ : "هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ثَابِتَانِ بَلْ هُمَا حَقِيقَةُ الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ -: فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَدَّى وَاجِبَهُ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ وَإِنْ تَرَكَهُ كُلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ.

وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُسْخِطُهُ - فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ - الَّتِي يُحِبُّهَا وَلَمْ يَفْرِضْهَا - بَعْدَ الْفَرَائِضِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَفْرِضُهَا وَيُعَذِّبُ تَارِكَهَا. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْمَالِ: أَحَبَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَعَلُوا مَحْبُوبَهُ فَأَحَبَّهُمْ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ مُنَاسِبٌ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِعَيْنِ كُلِّ حَرَكَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ وَالْبَاطِنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ" وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} {وَقَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَقَالَ: {فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} فِي حَدِيثِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا عَمِلَ} فَإِنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَعْذُورَ الْجِسْمِ اسْتَوَيَا فِي الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/394 ، 395) .

فإرادة المريض لما يشتهيه وإن كان فيه هلاكه : داخلة في حد الإرادة الاختيارية ، ولكنها إرادة فاسدة ، وذلك أمر يعم المحسوسات والمعقولات ، فــ : "الْمَرِيض الَّذِي يَشْتَهِي مَا يضرّهُ لَيْسَ دواؤه إعطاءه المشتهي الضار بل دواؤه الحمية وَإِن آلمته وإعطاؤه مَا يَنْفَعهُ وتعويضه عَن ذَلِك الضار بِمَا أَمر مِمَّا لَا يضر
فَهَكَذَا أهل الشَّهَوَات الْفَاسِدَة وَإِن أضرمت قُلُوبهم نَار الشَّهْوَة لَيْسَ رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذَلِك أَو ترك عَذَابهمْ فَإِن ذَلِك يزِيد بلاءهم وعذابهم والحرارة الَّتِي فِي قُلُوبهم مثل حرارة المحموم متى مكن المحموم مِمَّا يضرّهُ ازْدَادَ مَرضه أَو انْتقل إِلَى مرض شَرّ مِنْهُ . (فلا تزيده مباشرة الشهوة المحرمة إلا ألما على ألمه ولو تصور في ذلك نفعا بلذة سرعان ما تتلاشى مع ديمومة الانكباب على الشهوة ، كما نوه بذلك بعض المحققين ، فتصير عادة تأسره فليس إلا مدمن لذة طارئة سرعان ما تنقضي ، كما تقدم ، لتعقبها آلام مبرحة) .

فَهَذِهِ حَال أهل الشَّهَوَات بل تدفع تِلْكَ الشَّهْوَة الحلوة بضدها وَالْمَنْع من موجباتها ومقابلتها بالضد من الْعَذَاب المؤلم وَنَحْوه الَّذِي يخرج الْمحبَّة من الْقلب كَمَا قيل
فَإِنِّي رَأَيْت الْحبّ فِي الْقلب والأذى ******* إِذا اجْتمعَا لم يلبث الْحبّ يذهب" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/392 ، 393) .

والله أعلى وأعلم .

د. هشام عزمي
02-22-2012, 08:26 PM
ومن العلم ما يثبت للعبد فموارده أيضا :
العلم الانفعالي : فيثبت في حق العبد فإنه يعلم من وصف الرب ، جل وعلا ، ما تنفعل به نفسه ، بقبول آثار المعلوم الرسالي ، ويعلم من موارد الحب والبغض ، ما يفعل به المراد الشرعي ، فهذا هو العلم الفعلي المؤثر في وقوع المفعول بإذن الرب المعبود ، جل وعلا ، فهو مراده تبارك وتعالى ، فــــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، فــ : "قال الله تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وقوله : (ما أريد منهم من رزق) : هو نكرة في سياق النفي ، تعم كل رزق ، فيعمُ اللفظ : مِن رزقٍ لي ، ومن رزقي لهم ، ومن رزقٍ من بعضهم لبعض ، لكن قوله بعد ذلك : (وما أريد ان يطعمون) والإطعام هو رزق له ، فقد يقال : هو تخصيص بعد تعميم ، وقد يقال : الأول رزق المخلوق والثاني يتعلق بالخالق ، فيكون المعنى : ما خلقتهم إلا ليعبدون ، لا ليطعمون ، ولا ليرزقوا أحداً ، فإن الله هو الرزاق الذي يرزق الخلق ، وهو ذو القوة المتين (فيرجح القول الأول بأن فيه إطنابا بالتوكيد وهو أقوى من جهة تقرير المعنى والدلالة عليه : مندرجا في العام فالرزق يعم ما قد ينسب إلى الرب ، جل وعلا ، من حاجة إلى الرزق ، وهو غني عنه بداهة ، فنفي في عموم ثم إفراد بالنفي في خصوص فما أريد أن يطعمون وفي ذلك مزيد تقرير لغناه ، جل وعلا ، فهو الغني عن كل رزق فلا يفتقر إلى مطعوم أو مشروب بل هو الخالق الرازق المدبر بكلمات الكون والشرع فرزق الأديان والأبدان منه ، فأنزل الشرع وأنزل الغيث وجعل من الماء كل شيء حي ، وجعل الوحي روح العالم ومادة صلاحه فلا بقاء له إلا بظهور آثار الرسالات فإن درست عم الفساد وطم فأقام ، جل وعلا ، الساعة ، فلا تقوم حتى لا يذكر في الأرض ، فهي على شرار الخلق ، وأما الوجه الثاني فيرجح من جهة ما تقرر في علوم الدلالات من حمل الكلام على التأسيس إذا دار بينه وبين التوكيد فيستقل كل شطر بجزء من المعنى فما أريد أن أن يرزقوا عبادي ، فذلك شطر ، وما أريد أن يطعمون فذلك آخر ، ثم قابله في الآية التالية : وصف الرزاق في مقابل نفي إرادته الرزق منهم ، فهو الرزاق لعباده فلا يفتقر إلى من يعاونه في ذلك ، فليس له من خلقه شريك أو مظاهر ، و : وصف القوة فهو مئنة من الغني فيقابل نفي افتقاره ، جل وعلا ، إلى من يطعم ، فهو الغني فلا يأكل ولا يشرب فذلك من وصف النقص المطلق وإن كان ثم كمال فيه فنسبيٌ في حق المخلوق فلا ينفك عن معنى الفقر والفاقة الذي تنزه عنه الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فيكون ذلك من قبيل اللف والنشر المرتب فمقابل نفي الرزق في الآية الأولى : وصف الرزاق إثباتا في الآية الثانية وبينهما من وجه آخر نوع طباق بالسلب فنفي ثم إثبات فليسوا الرازقين بل هو الرزاق جل وعلا ، ومقابل نفي أن يطعموه ، عز وجل ، إثبات وصف القوة والمتانة ، فذلك مئنة من الغنى ، فالغني لا يفتقر إلى الطعام والشراب فذلك لازم النفي في الآية الأولى فيكون ذلك من باب التلازم بين نفي الشيء واستلزام ضده ، فنفي وصف الحاجة إلى المطعوم عنه ، جل وعلا ، يستلزم إثبات وصف القوة والمتانة وهي أمارات غنى مطلق يثبت للرب الحميد المجيد بداهة فهو الغني وما سواه مفتقر إليه إيجادا وإعدادا وإمدادا بأسباب الشرع والكون) .
فبيَّن الله بهذه الاَية أنه خلقهم لعبادته التي أرادها منهم ، فهي مراده ومطلوبه ، لا يريد منهم أن يرزقوه ، ولا أن يطعموه ، لأنه لما نفى الإرادة عن الرزق وإطعامه ، دلَّ على إثباتها للعبادة ، وفي إثباتها للعبادة ونفي إرادة الرزق والإطعام دليلٌ على أن له حقاً عليهم يريده منهم ، وهو محبّ له ، راضٍ به" . اهـــ
"جامع المسائل" ، (6/45 ، 46) .

فذلك أمر ، عند التدبر والنظر ، يتعلق بمورد الأمر الكوني وقسيمه الشرعي ، فإن العلم بالأمر الكوني لا يؤثر في وقوعه فهو كعلم الانفعال يرد على النفس فلا تملك له دفعا ولا تحصل لها به فضيلة فالعلم بالمصيبة لا يتعلق به مدح ، وإنما يتعلق المدح بمن علم ما شرع حال النوازل من مدافعة بالأسباب واسترجاع ، فتلك حال الصابرين : (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ، فالعلم بالأمر الكوني لا يسوغ الخروج عن الأمر الشرعي ، فــ : "الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ لَيْسَ هُوَ أَمْرًا لِلْعَبْدِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ الْأَمْرَ بَلْ هُوَ أَمْرُ تَكْوِينٍ لِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي الْعَبْدِ أَوْ أَمْرُ تَكْوِينٍ لِكَوْنِ الْعَبْدِ عَلَى ذَلِكَ الْحَالِ . فَهُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ هَلُوعًا {إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمُسْلِمِينَ مُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ الْخَلِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} فَهُوَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْعِبَادَ عَلَى الْأَحْوَالِ الَّتِي خَلَقَهُمْ عَلَيْهَا وَأَمْرُهُ لَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرُ تَكْوِينٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ كُونُوا كَذَلِكَ فَيَكُونُونَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ لِلْجَمَادِ: كُنْ فَيَكُونُ. فَأَمْرُ التَّكْوِينِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْجَمَادِ وَالْحَيَوَانِ وَهُوَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى عِلْمِ الْمَأْمُورِ وَلَا إرَادَتِهِ وَلَا قُدْرَتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/322) .

وأما الأمر الشرعي فهو الأمر الفعلي المؤثر في حصول المراد الشرعي للرب ، جل وعلا ، فينزل منزلة الوسيلة الفضلى للغاية العظمى ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، وبذلك يزول إجمال الأمر في باب القدر ، فتلك شبهة أهل الجبر الذين سووا بين أمر الكون النافذ وأمر الشرع الحاكم ، فتذرعوا بشهود الأول على إبطال الثاني ! ، فــ : "إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِهِ قَالَ "كُلْ" ، (أي : لآدم عليه السلام فقد أكل بمقتضى الأمر الكوني النافذ لا الأمر الشرعي الحاكم) ، بَاطِنًا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي الْبَاطِنِ أَمْرَ تَشْرِيعٍ وَدِينٍ : فَهَذَا كَذِبٌ وَكُفْرٌ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ أَنَّهُ خَلَقَ ذَلِكَ وَقَدَّرَهُ وَكَوَّنَهُ: فَهَذَا قَدَرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ آدَمَ وَبَيْنَ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ فَإِنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَإِنْ قِيلَ : إنَّ آدَمَ شَهِدَ الْأَمْرَ الْكَوْنِيَّ الْقَدَرِيَّ وَكَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ بِامْتِثَالِهِ لَهُ . كَمَا يَقُولُ هَؤُلَاءِ : إنَّ الْعَارِفَ الشَّاهِدَ لِلْقَدَرِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمُلَامُ . فَهَذَا مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ بُطْلَانُهُ بِالضَّرُورَةِ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفْرٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ ......... فــ : أَمَّا الْقَدَرُ : فَإِنَّهُ لَا يَحْتَجُّ بِهِ أَحَدٌ إلَّا عِنْدَ اتِّبَاعِ هَوَاهُ فَإِذَا فَعَلَ فِعْلًا مُحَرَّمًا بِمُجَرَّدِ هَوَاهُ وَذَوْقِهِ وَوَجْدِهِ؛ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عِلْمٌ بِحُسْنِ الْفِعْلِ وَمَصْلَحَتِهِ اسْتَنَدَ إلَى الْقَدَرِ كَمَا قَالَ الْمُشْرِكُونَ: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إنْ تَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إلَّا تَخْرُصُونَ} {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} فَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ عِلْمٌ بِهَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ الدِّينِ وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ. وَالْقَوْمُ لَمْ يَكُونُوا مِمَّنْ يَسُوغُ لِكُلِّ أَحَدٍ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ فَإِنَّهُ لَوْ خَرَّبَ أَحَدٌ الْكَعْبَةَ؛ أَوْ شَتَمَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ أَوْ طَعَنَ فِي دِينِهِمْ لَعَادَوْهُ وَآذَوْهُ كَيْفَ وَقَدْ عَادَوْا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنْ الدِّينِ وَمَا فَعَلَهُ هُوَ أَيْضًا مِنْ الْمَقْدُورِ. فَلَوْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِالْقَدَرِ حُجَّةً لَكَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ. فَإِنْ كَانَ كُلُّ مَا يَحْدُثُ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ مُقَدَّرٌ فَالْمُحِقُّ وَالْمُبْطِلُ يَشْتَرِكَانِ فِي الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ إنْ كَانَ الِاحْتِجَاجُ بِهِ صَحِيحًا وَلَكِنْ كَانُوا يَتَعَمَّدُونَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُونَهُ مِنْ جِنْسِ دِينِهِمْ وَهُمْ فِي ذَلِكَ يَتَّبِعُونَ الظَّنَّ لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ بَلْ هُمْ يَخْرُصُونَ" . اهـــ
بتصرف : "مجموع الفتاوى" ، (2/321 ، 324 ، 325) .

فتلك حال مروق وزندقة تستباح بها الحرمات بحجة الرضا بقضاء رب الأرض والسماوات ، جل وعلا ، وذلك من الفساد في التصور والحس ، بل ومن النقص في العقل فلا يرتضيه أصحاب العقول الصريحة والفطر السليمة ، فصاحبه قد سوى بين علم الانفعال والفعل فنفى عن الفاعل علم الفعل المؤثر في وقوع الشيء فهو أبدا منفعل بالقدر الكوني لا إرادة له في إيقاع المأمور الشرعي ومدافعة المأمور الكوني بما شرع الرب ، جل وعلا ، من أسباب المدافعة المعقولة من دعاء ونحوه ، والمحسوسة من مجالدة ومدافعة لمن صال على الدين أو الأرض ، و : "هنا قد تغلط طائفة من المتصوفة فيقولون : ما المراد ؟ قد يستعملون ذلك فيما فيه ترك مستحبات ، وقد يتعدَّون إلى ما فيه ترك واجبات ، فيقال : ليس المراد منا الانقياد لكل حكم قاهر ، ولا الاستسلام لكل ذي سلطان قادر ، وإنما المطلوب منا الاستسلام لله ، وإخلاص الدين له ، وطاعة أمره ونهيه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) ، (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) . فإن الدين : الإيمان والبر والتقوى وطاعة الله ورسوله والإحسان والعمل الصالح ونحو ذلك هو المطلوب منا والمراد بنا في دين الله تعالى وكتابه" . اهـــ
"جامع المسائل" ، (6/10) .

فطرد الاحتجاج بالأمر الكوني في إبطال الأمر التكليفي مآله : إبطال الشرائع ، ولو أرضية ، فتفسد حال البرية بالاجتراء على المحرمات فلا محظور ، واستلاب الأموال والأعيان فلا مصون ، فكل قد استبيح وانتهب ، وذلك مما وقع فيه أصحاب مقال الاتحاد فسووا بين الأعيان فلا طاهر ولا نجس ، وسووا بين الأديان فلا صحيح ولا باطل ، فالكفر مراد للرب ، فعلام الإنكار على أهله ؟! ، وذلك ما يروم أصحاب الضلال والزيغ في هذه الأعصار تقريره ، فلكلٍ دين قد رضيه فلا يحتسب على كافر بدعوته إلى الحق في مقام الجمال فــ : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، وجهاده بالسيف في مقام الجلال ، فــ : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) ، وذلك إنما يكون في زمان القوة والمنعة فيكون للإسلام سيف ودولة فلا يشرع جهاد الطلب إلا تحت لواء معقود خلافا لجهاد الدفع فهو مشروع بل ومفروض على كل أحد إلا من لم يقدر من أصحاب الأعذار ، فــ : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، فلا دين إلا باحتساب بأمر ونهي ، وجهاد بقول وفعل ، وهو ما يروم المبطلون إبطاله ، وذلك تأويل الطرح الليبرالي الديني ، فحرية في الإلحاد عقدا ، وحرية في الانحلال فعلا ، سواء أكان ذلك بالمذهب كما في الطرح القياسي أم بلازمه كما في الطرح المعدل في بلاد الشرق لئلا تصدم المشاعر والفطر السوية بطرح كهذا تأباه النفوس الشريفة ، فمآله إلى القول بأن كلاً على خير فالخلاف في الأديان والأخلاق من الخلاف السائغ فلا ينكر على المخالف ! ، فمحل المفاصلة الأعم يثبت في حق أولئك إذ مقالهم ناقض لأصل الدين بتسويغ أديان المشركين والكفار الأصليين ، فــ : "الْأَعَمُّ ، (أي من موارد المفاصلة) : مَا عَلَيْهِ الْمُتَفَلْسِفَةُ وَمَنْ اتَّبَعَهُمْ - مِنْ ضَلَالِ الْمُتَكَلِّمَةِ وَالْمُتَصَوِّفَةِ وَالْمَمَالِكِ الْمُؤَسَّسَةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَلِكِ التُّرْكِ وَغَيْرِهِمْ. - فِي تَسْوِيغِ التَّدَيُّنِ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ عَظَّمَ مُحَمَّدًا وَجَعَلَ دِينَهُ أَفْضَلَ الْأَدْيَانِ وَكَذَلِكَ مَنْ سَوَّغَ النَّجَاةَ وَالسَّعَادَةَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ بِغَيْرِ شَرِيعَتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (3/342) .

وتلك مقالة قد سرت ، كما تقدم في مواضع سابقة ، من مذاهب الفلاسفة إلى المذاهب الليبرالية المعاصرة ، وهي ذريعة إلى فساد الدنيا والآخرة ، فــ : "إِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةُ أَحَدٍ لَا فِي دُنْيَاهُ وَلَا آخِرَتِهِ وَلَا يُمْكِنُ اثْنَانِ أَنْ يَتَعَاشَرَا سَاعَةً وَاحِدَةً؛ إنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُلْتَزِمًا مَعَ الْآخَرِ نَوْعًا مِنْ الشَّرْعِ فَالشَّرْعُ نُورُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَعَدْلُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ .
لَكِنَّ الشَّرَائِعَ تَتَنَوَّعُ: فَتَارَةً تَكُونُ مُنَزَّلَةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَتَارَةً لَا تَكُونُ كَذَلِكَ ثُمَّ الْمَنْزِلَةُ: تَارَةً تُبَدَّلُ وَتُغَيَّرُ - كَمَا غَيَّرَ أَهْلُ الْكِتَابِ شَرَائِعَهُمْ - وَتَارَةً لَا تُغَيَّرُ وَلَا تُبَدَّلُ وَتَارَةً يَدْخُلُ النَّسْخُ فِي بَعْضِهَا وَتَارَةً لَا يَدْخُلُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/323 ، 324) .

فهذا الطرح الليبرالي بنوعيه : الديني والأخلاقي ، تحديدا ، يصيب الأديان والشرائع في مقتل ، فتنحل عرى الإيمان بالرضا بالكفر ، وتنحل عرى الشريعة فيجترئ الناس على المحارم فلا أحد ينكر على الآخر ، ولا سلطان من دين أو حاكم يزع ، فالليبرالية تضيق على الشرائع السماوية بل والقوانين الأرضية فهي تقلص آثار السلطة الحاكمة لتصير سلطة تحفظ الكيان العام للدولة لا أكثر ، وإن نخر السوس أركانه ، فأفراده يتعاطون من الإثم ما تفسد به لبنات المجتمع فهو يقوم بأفراده ، ولكنهم ، مع ذلك ، لا ينفكون ، كبقية المجتمعات أقامت الشرائع أم عطلتها ، لا ينفكون عن قانون تصان به الحقوق ، ولو اقتسمت به الشهوات المحرمة ، فيكون العدل في الفحشاء والمنكر ! ، فيصان البناء العام بما تقيم الجماعة من رسوم العدل السياسي والقضائي والاجتماعي ، وإن فسدت حالها ، بل وإن فسد عقدها الإيماني ، فتجد المجتمعات الليبرالية المعاصرة : أجرأ المجتمعات على المحارم الدينية بل والفطرية فيرتكبون من أجناس الفواحش ما تمجه النفوس جبلة ، وإن كانت من رسم الدين والأخلاق منحلة ، فثم حد أدنى من الفطرة والمروءة فضلا عن بقية آثار من الرسالة لمن ينتسب إلى شريعة سماوية ، ولو في الجملة ، كحال الغرب عقيب الثورة الفرنسية ، فقد صارت الكاثوليكية : كنسية متحفية ، ومع ذلك ظل لها ، كأي عقد ديني أو فكري ، أثر ، ولو ضعيفا خفيا ، في النفوس يظهر في مواضع ، فيظهر حال مقارفة ما أجمعت الشرائع بل والعقول على قبحه من الممارسات الشاذة ، ويظهر حال حشد الجموع لحرب العدو ، فلم يزل الصليب شعار حملات التصارى على الشرق المسلم ، فالغرب الليبرالي لا ينفك عن أصل نصراني ، فله جذور نصرانية راسخة كما يصرح ساسته ، سواء أكانت بروتستانتية فاتفاقها مع الليبرالية ، وإن شئت الدقة فقل اقتسامها معها موارد الإنسان : أيسر بكثير ، لما تقدم مرارا ، من طبيعة البروتستانتية التجريدية ! التي لا تقيم للعمل وزنا ! ، فتستقل بالعقد الباطن والتصور العام لغايات الإنسان العظمى وهي ، في الغالب ، تكون في هذه الدار ، فإن ضعف الإيمان باليوم الآخر سمة رئيسة في المذهب البروتستانتي سرت إليه من اليهودية ذات الأثر البارز في الحركة التجديدية التي كان كثير من روادها يهودا انتحلوا صفة دينية ، أو آخرين انتهجوا نهج العلمانية لنقد الكاثوليكية من الداخل فأتوا بنيانها من القواعد وتستقل الليبرالية في المقابل بالسلوك العام ونمط الحياة لا سيما الحياة الشخصية ، فكل فرد حر أن يفعل ما يشاء ما لم يضر ، وهي معادلة ، كما تقدم مرارا ، مستحيلة الحل في كل المجاميع الإنسانية ، وشاهد حال المجتمعات الليبرالية يؤكد ذلك فلا بد أن يقع التعدي على حقوق الغير في مجتمع يقدس حرية الفرد فيجعلها قطب الرحى الرئيس ، والنفس بطبيعتها تميل إلى الظلم والعدوان ، فــ :
الظُّلمُ من شِيَم النُّفوسِ فَإِن تَجِدْ ******* ذَا عِفَّةٍ فلعِلَّة لَا يَظْلِم .

فإن لم يحجزها عن ذلك شريعة أو قانون ، وكلاهما من أعداء الليبرالية لا سيما الشريعة ، فالليبرالية ، حتى في الشرق المسلم ، تناصب الشريعة العداء المستحكم ، فإن لم يكن ثم قرآن أو سلطان فأنى للنفس أن تنزجر وتكف عن المحارم ؟! .

ولذلك كانت القوة والعنصرية ملمحا رئيسا في الطرح الليبرالي القياسي ، فحامل لوائه : الطرح الأمريكي المعاصر الذي رام حمل جميع الأمم على طرحه الفكري فبشر بحضارته بالقوة الناعمة تارة ، كما كانت الحال زمن الرئيس كلينتون ، كمثال معاصر ، فلم يلجأ إلى خيار القوة ، وإن نَوَّه بقيم حضارته وأوجب فرضها على جميع الأمم فهي الأرقى وهي آخر حلقات التاريخ الإنساني فليس ثم بعدها جديد ! ، فهي سقف الفكر الإنساني الذي عزل عن الوحي الإلهي إلا آثارا باهتة وهي ، مع ذلك ، فاعلة ، في الطرح البروتستانتي ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا ، فهو يأرز إلى عقيدة راسخة ترى جمع أشتات يهود في الأرض المقدسة ذريعة عظمى إلى نزول المخلص بالسيف ، فالقوة هي رسم العقد الألفي الذي يؤمن به كثير من نصارى الغرب والشرق ، فبها يقام الملكوت الأرضي فيحكم المسيح عليه السلام الأرض ألف عام ، فلا ينفك أي مقال صح أو فسد عن قوة تحرسه وتنشره ، فتذب عنه : دفعا ، وتروم نشره : طلبا ، فجهاد دفع لمن صال عليه ، وجهاد طلب لمن خالفه ، والجهاد ، كما تقدم ، تتفاوت صوره ، فجهاد بقوة فكرية ناعمة كجهاد كلينتون لنشر قيم حضارته ! ، وآخر بقوة عسكرية خشنة كجهاد جورج بوش : البروتستانتي المحافظ ، وجهاد وزراء حربه ، ومقالهم في التنويه بقيم الحضارة الأمريكية كمقال كلينتون وإن اختلفت الوسيلة ، فالغاية : واحدة ، وهي مدافعة سائر الحضارات ، لا سيما الحضارة الإسلامية ، فهي الأشد ممانعة ، فيروم القوم ظهور قيمهم الدينية والفكرية على الدين كله ! ، فقد ضجت جميع الأمم بها بما فيها الأمم النصرانية التي تخالفها في المذهب واللسان ، فلم يشفع لها الاتحاد في الدين ، فبين مذاهبه من الحروب الدينية ما سبق التنويه به مرارا ، فهو أصل يستصحب حال دراسة العقلية الأوروبية العنصرية التي ترى لنفسها السيادة فهي آخر حلقات التطور الإنساني : خَلْقا ، فالإنسان الأبيض أرقى من الملون والأسود ، وفكرا ، فالطرح الغربي سواء أكان نصرانيا قبل الثورة العلمانية ، أم علمانيا صريحا ثم ليبراليا ، أم بروتستانتيا تجديديا فهو الحلقة الوسطى بين الكاثوليكية والعلمانية وهو الشافع لليبرالية في النموذج الأمريكي ، كل أولئك ، عند أصحابه ، أرقى من سائر المقالات ، ولو كانت إلهية ، فالوحي قد أهمل ، فحرف دين المسيح عليه السلام ابتداء ثم عزل ، فله السلطة الروحية دون السلطة الزمانية في فصل متكلف بين العقيدة والشريعة ، فالعقيدة لرجال الكهنوت ، والشريعة لرجال السياسة ، ومن يرى لنفسه العزة والحرية ولغيره الذلة والعبودية ، فكل البشر دونه في الخَلق والخُلق ، وذلك ، أيضا ، مما تسلل إلى العقد البروتستانتي من الدين اليهودي في طوره التلمودي فالشعب المختار : جنس في التعريف ، تتعدد موارده في الخارج ، فهو يهودي في المقال اليهودي ، بروتستانتي في المقال البروتستانتي ...... إلخ ، من يرى لنفسه ذلك فهو أحق الناس بالسيادة فلا يجرؤ أحد أن ينازعه الرياسة ، فهو القطب الأوحد فليس ثم من يضارعه فليس ثم شريك أو ند ، وليس ثم حليف إلا الحليف التكتيكي التابع ، فهو لسيده خاضع وبأمره عامل فلا يجرؤ على المراجعة فضلا عن المنابذة ، فلا يملك إلا الانصياع للأمر ، فمن يرى نفسه كذلك ، كيف لا يقدس القوة ، فهي الحق المطلق ، فيروم الاستئثار بمواردها ، فهي السبيل الوحيدة إلى قهر من ينازعه السيادة ، وهي السبيل الوحيدة لفرض قيمه ومثله على بقية الأمم ، فيبذل لأجل ذلك من المال والدم والوقت والجهد والتخطيط المحكم والبحث والدراسة المتأنية لمصادر القوة والضعف في خصومه ، يبذل من كل ذلك ما يتأول به سنة المدافعة ، فهو يدافع غيره ليظهر دينه ، فالدين معنى عام يشمل الأخلاق ، فــ : "الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ" ، فيعم موارد العقد وموارد الشرع وموارد السياسة وموارد الاقتصاد ....... إلخ ، والليبرالية قد عمت بطرحها جميع ذلك ، فهي دين يضاهي دين الأنبياء ، عليهم السلام ، وإن لم تنص على ذلك ، فلسان الحال أبلغ من لسان المقال فقد ضارعت النبوة في كل مواردها فثم ليبرالية دينية وأخرى سياسية وثالثة اقتصادية ورابعة اجتماعية ، وتحتها أنماط فثم ليبرالية كلاسيكية ، ظهرت ، كما يذكر بعض الفضلاء ، زمن الرئيس الأمريكي ويلسون ، كما سبق الإشارة إلى ذلك في أكثر من موضع ، فهو مقرر الليبرالية الاقتصادية وناصر الرأسمالية الأمريكية لا سيما إبان الحرب العالمية الأولى التي دارت فيها عجلة الإنتاج في مصانع أمريكا فرعا على استنفاد موارد القارة العجوز في الحرب فلم يعد ثم إنتاج يكفي فتطوعت رءوس المال الأمريكية بالقروض الربوية والواردات الأمريكية فملكت أمريكا عصب اقتصاد الحلفاء فقد صار عسكريا وظفت فيه كل الموارد لخدمة الجيش فزاد الطلب على معدات الحرب ومؤنها وتلك صناعة قد ازدهرت في أمريكا ، فصناعة السلاح وبيعه مصدر رئيس للدخل في أمريكا فلا يخضع لإشراف الدولة بل تملكه شركات خاصة لها من النفوذ في صناعة القرار الأمريكي لا سيما قرار الحزب الجمهوري ما يجعلها مركز قوى رئيس يساهم بدور فاعل في صناعة السياسات العامة للدولة الأمريكية بما يخدم وجهته فيلائمه الطرح الليبرالي الاقتصادي ، فهو نمط اقتصادي لا يلقي بالا للفقراء فقوته المادية الغاشمة تكتسح الطبقات الدنيا من المجتمع فلا تزداد إلا فقرا في مقابل ازدياد الطبقات الراقية ! غنى وبذخا يستفز الفقراء وتلك ذرائع صحيحة في الجملة إلى وقوع الثورات فثم ظلم وليس ثم عدالة اجتماعية فضلا عن أن تكون شرعية فألجأ ذلك أصحاب الليبرالية الكلاسيكية إلى حزمة من الضمانات الاجتماعية سرعان ما بطلت رسومها تحت وطأة الطرح الليبرالي الكلاسيكي في دوره الثاني وهو الذي نرى الآن تأويله في واقعنا المعاصر ، والسنة الكونية واحدة فإن الثورات تقع الآن على الظلم الاجتماعي ، كما وقعت قديما ، والثورة : اسم جنس كسائر الأجناس فتتعدد موارده في الخارج فمن الثورات على الظلم ما كان في روسيا القيصرية فكان ثم حراك وثورة على الظلم ولكنها لم تشفع بدين صحيح بل كانت ثورة على الدين والعرش معا ! فنجحت في استثارة مشاعر الطبقات الكادحة ، ونجحت ، مع ذلك ، في استثارة أحقادها على طبقة الإقطاع فكان الحقد وسيلتها للتغيير ، كما ينوه بذلك تروتسكي أحد أبرز آباء الشيوعية ، فلم تنتج إلا وضعا أسوأ ، فالبلاشفة قد استولوا على الثروات بعد أن كانت بيد القياصرة فمن إقطاعي إلى آخر ، كما كانت الحال في الصور الثورية للشيوعية في أمصارنا ، وإن وقعت برسم الاشتراكية ، فمن إقطاع القصر وأصحاب الضياع ورءوس الأموال إلى إقطاع العسكر ! ، فليس كل حراك ، ولو كان أصله صحيحا ، فدفع الظلم مما أجمعت العقول على حسنه ، ليس كل حراك محمودا حتى يشفع بما يهذبه ويقومه من الوحي الذي يرشد العقل فلا يطغى في حكمه القياسي والنفس فلا تطغى في حكمها العملي فترد الظلم بظلم ، فثورة بلا دين : ثورة فاشلة كما أثبتت التجارب ، كما ينوه بذلك بعض الفضلاء ، ويكفيك تجربة يوليو 52 فكان ثم حراك ثوري نجح الجيش بمساندة دوائر الاستخبارات الأجنبية في اقتناص ثمرته فلم يكن ثم وعي شرعي أو سياسي فقفز العسكر على حين غفلة من أهل مصر ، بل أيدهم من غدروا به من الإسلاميين ، كما هي الحال الآن ، فالصورة تزداد وضوحا بمرور الأيام فثم خندقة وتعبئة لكل القوى ضد التيار الإسلامي الأقوى على الأرض فقط ! ، فليس له من قوة السلطان المدعوم بالقوة العسكرية ما للجيش وليس له من قوة النفوذ ما للتيار الليبرالي المدعوم من الخارج ولو بالتأييد السياسي وسنة التاريخ تتكرر ، والله أعلم ، فالثورة قد خرجت بأهداف مشروعة ولكنها لم تشفع برؤية شرعية متكاملة إلا من آحاد الثائرين فكان ثم حراك شعبي نواته الرئيسة بلا أي انتماء فكري أو سياسي فهم عموم المسلمين في مصر وكان ثم أصحاب الاتجاهات الفكرية التي تتجاذب هذه الكتلة الجماهيرية لتحشدها في صفها ضد من يخالفها الطرح فتلك القوة محل عناية كل مخلص ، بل وكل نفع انتهازي فكل يروم استقطابها وشتان نية كليهما وإن كانت صورة الفعل واحدة ، وثم ليبرالية نسوية فهي نمط اجتماعي ...... إلخ ، فتتعدد صورها بتعدد وجوه النشاط الإنساني ، فهي تقع فيما تنكره على الأديان ! ، فالدين لا ينبغي أن يتجاوز حدود المعابد ، فليس إلا طقوسا وشعائر ، وهي في المقابل تتمدد لتعم بطرحها ما تقلص من الوحي ، فثم تدافع بينها وبينه ، فبقدر ظهوره يكون كمونها ، والعكس ، فــ : "تَخْفَى آثَارُ الرِّسَالَةِ فِي بَعْضِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ حَتَّى لَا يَعْرِفُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إمَّا أَنْ لَا يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَإِمَّا أَنْ يَعْرِفُوا اللَّفْظَ وَلَا يَعْرِفُوا مَعْنَاهُ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُونَ فِي جَاهِلِيَّةٍ بِسَبَبِ عَدَمِ نُورِ النُّبُوَّةِ وَمِنْ هَهُنَا يَقَعُ الشِّرْكُ وَتَفْرِيقُ الدِّينِ شِيَعًا كَالْفِتَنِ الَّتِي تُحْدِثُ السَّيْفَ فَالْفِتَنُ الْقَوْلِيَّةُ وَالْعَمَلِيَّةُ هِيَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ بِسَبَبِ خَفَاءِ نُورِ النُّبُوَّةِ عَنْهُمْ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ : إذَا قَلَّ الْعِلْمُ ظَهَرَ الْجَفَاءُ وَإِذَا قَلَّتْ الْآثَارُ ظَهَرَتْ الْأَهْوَاءُ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" ، فذلك من شؤم دروس آثار النبوة أَنْ ظهر الجفاء بتعدد الأهواء والأذواق ، فجفا الناس الرسالة وسلكوا في المقابل سبل الضلال والغواية ، فإن من حاد عن جادة النبوة فإنه لا محالة ضال في علمه ، غوي في عمله ، فقد صار المحل المعزول عن الوحي بأخباره وأحكامه ، صار محلا قابلا لآثار الشبهات العلمية فبها يفسد التصور ، والشهوات العملية فبها يفسد الحكم ، فيقع الإنسان في صور من الجور والظلم لا ينفك عنها أي طرح يزدري الوحي ، وبقدر عزوفه عن الوحي يكون ظلمه في العلم والعمل ، فــ : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) ، فذلك الظلم في العلم ، فالشرك نقض لعقد التوحيد العلمي ، أوثق عرى التكليف الشرعي ، و : (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فذلك الظلم في العمل ، وهو لازم الظلم في العلم ، على ما تقدم مرارا ، من التلازم الوثيق بين العلم والعمل ، فصاحبه قد ظلم نفسه في العقد فأشرك بالله ما لم ينزل به سلطانا وذلك من أعظم الظلم في القياس إذ سوى بين الإله المعبود بحق ، تبارك وتعالى ، وإلهه العاجز ، فــ : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، وظلم نفسه في الشرع فحكم بما لم ينزل الرب ، جل وعلا ، وذلك ، أيضا ، من أعظم الظلم في القياس إذ سوى بين الشرع المنزل والشرع المحدث ، فسوى بين شرع أنزله من يعلم السر وأخفى فهو العليم بدقائق الأمور وما يجد من الخطوب ، فأنزل من الوحي ما يستغرقها بنصه أو قياسه الصحيح الذي ترد فيه الفروع إلى الأصول ، فسوى بينه وبين شرع أحدثه من لا يعلم العواقب إلا خرصا ، فلا يدرك المآل البعيد بعد الموت بل ولا المآل القريب ، فأحكامه تختلف باختلاف الأهواء والأذواق ، فلكلٍ عقل ووجد فلا يحسم النزاع بينهم إلا كتاب منزل ، وهي ، مع ذلك ، لا تفي بالغرض ، فصاحبها لا يعلم الغيب إلا ظنا ، فَيَجِدُّ من الأحوال ما ينقض حكمه ، فالمصلحة المطلقة لا تتحقق بالشرع الوضعي ، وإنما غايته أن يحقق نوع مصلحة في الحال قد تنقلب إلى مفسدة في المآل ، وقد تكون ذريعة إلى مفسدة أعظم ، فقد تعتبر مع أنها تعارض مفسدة أعظم فإهدارها دفعا للمفسدة الأعظم أولى ، فإلغاء عقوبة القتل على سبيل المثال : مصلحة في حق القاتل ، فبإلغائها يحقن دمه ، ولكنها تقابل مفسدة أعظم وهي تجرؤه وتجرؤ كل قاتل على سفك الدم الحرام فقد أمن العقوبة فأساء الأدب ، وتقابل من وجه آخر : مصلحة أعظم وهي رعاية حق الجماعة بصيانة الدماء ولو بإهدار دم فرد صال عليها فسفك الدم الحرام ، فقياس العقل الصريح : درء المفسدة العظمى ولو بفوات المصلحة الصغرى على الوجه الأول ، وتقديم المصلحة العظمى ولو بإهدار الصغرى على الوجه الثاني ، فالعقل الصريح كما تقدم مرارا لا يعارض النقل الصحيح ، وإعمال الشرائع إعمال للعقول خلافا لمن يزعم التعارض بين الوحي والعقل ، وذلك جوهر الصراع بين الحضارة الإسلامية وسائر الحضارات الإنسانية ، فكلها يزعم أن ثم تعارضا بين الوحي والعقل ، فالوحي لا يلائم هذه الأعصار ، فلكل عصر وحيه ! ، وإن شئت الدقة فقل : لكل وحي شياطينه الذين يوحون إلى أوليائهم بفاسد العقائد وباطل الشرائع ، فقد يتصور أن ثم تعارضا بين النقل والعقل ، ولكنه ، عند التدبر والنظر ، تعارض بين وحي مبدل كسائر الرسالات المبدلة وعقل صريح يمج ما تقرره من المحالات العقلية من تشريك وتثليث وقدح في ذات ووصف الرب الحميد المجيد تبارك وتعالى ....... إلخ من المحالات الذاتية ، فهي ممتنعة في نفسها ، أو تعارض بين وحي صحيح وهوى باطل أو ذوق فاسد فليس صاحبه بذي عقل صريح ليعتد بخلافه فقد فسد عقله بوارد الهوى وفسد وجده بوارد الشهوة ، ففسدت قواه العلمية والعملية فلا يعتد بخلافه ، كما تقدم ، فلا يجتمع العقل الذي مرق صاحبه من الديانة فرام نقضها بهواه وذوقه ، لا يجتمع مع الوحي الصحيح الذي ينزع السيادة من البشر ، فإنهم يأتمرون بأمر أهوائهم وأذواقهم ، فكل يستحسن ويستقبح تبعا لهواه وذوقه ، فتتباين الأحكام بتباين العقول والنفوس ، ويقع الاختلاف بل والتناقض بينها ، ضرورة ، فمستمداتها متباينة ، فلا يحسم النزاع بينها ، كما تقدم ، إلا الوحي الذي ينتزع السيادة منها ، فليست لها بأهل ، ليردها إلى رب البشر ، جل وعلا ، فهو الحكم العدل .

فلن ينفك طرح كالطرح الليبرالي عن ظلم في الحكم وجور في السياسة مشفوع بقوة غاشمة يتعدى بها على غيره ، وإن زعم أنه لا يتعدى على حقوق الآخرين وحرياتهم فشاهد حاله يكذب دعواه ، وكيف لا يظلم غيره وقد وقع ، كما تقدم ، في أعظم صور الظلم العلمي فأشرك في العقد ، وأعظم صور الظلم العملي فأشرك في الحكم فمن ظلم نفسه وجفا في حق ربه ، جل وعلا ، كيف لا يظلم غيره ويبخسه حقه ؟! .

وفساد علمه ، عند التدبر والنظر ، إنما هو لفساد مستمده العلمي : انفعالا ، فالصورة التي حصلت في القلب فاسدة سواء أكانت إلهية فلم يقدر الرب ، جل وعلا ، حق قدره ، ولم ينزهه عن النقائص ، أم شرعية فلم يعلم حكمه ولم يعظم أمره ونهيه ، فلما فسد العلم الوارد الذي تنفعل به النفوس ، فسد العلم الفعلي فلم ينتج في الخارج إلا تكذيبا بخبر الوحي ومروقا من حكمه ، فلما فسد التصور وهو متعلق علم الانفعال ، فسد الحكم وهو متعلق علم الفعل ، ولو صلح الأول لصلح الثاني ، فالأمر مطرد منعكس ، فذلك من جنس العلاقة بين القلب والجوارح فلو خشع القلب لخشعت الجوارح ، والعكس صحيح ، فالأمر ، أيضا ، مطرد منعكس ، فصورة القلب الباطنة تؤثر في صورة الجوارح الظاهرة ، صحة أو فسادا خشوعا أو ذهولا .

والله أعلى وأعلم .

د. هشام عزمي
02-22-2012, 08:28 PM
والشاهد أن كمال النفس لا يحصل بالعلم المحض ، فمحال الإنسان الفاعلة : تصور وإرادة ، وكل محل يقبل من الآثار ما يلائمه ، فالتصور يغتذي بالعلم النافع ، فــ : "حُصُولُ الْعِلْمِ فِي الْقَلْبِ كَحُصُولِ الطَّعَامِ فِي الْجِسْمِ فَالْجِسْمُ يُحِسُّ بِالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ؛ وَكَذَلِكَ الْقُلُوبُ تُحِسُّ بِمَا يَتَنَزَّلُ إلَيْهَا مِنْ الْعُلُومِ الَّتِي هِيَ طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ" " وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَسَقَى النَّاسُ وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلَأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/41) .

والإرادة تغتذي بالعمل الصالح ، فتكتمل قوى المكلف ، فعلم نافع يصح به العقد الباطن ، وعمل صالح يصح به الشرع الظاهر ، وهو أمر يعم سائر وجوه الشرع ، فمنه الشرع الخاص فلكل مكلفٍ من غذاء الشريعة ما يلائمه فلا تستوي أحوال المكلفين : علما أو جهلا ، قوة أو ضعفا ...... إلخ ، فلا تستوي أحوالهم لتستوي أحكامهم ، فالأحكام قد علقت بأوصاف فذلك من تعليق الأحكام بمناطها ، فهو الوصف المؤثر في وجودها أو عدمها ، فالحكم ، كما تقدم مرارا ، يدور مع علته وجودا أو عدما ، فحال العالم : مناط تناط به جملة أحكام تلزم العالم دون الجاهل ، وقل مثله في حال القوي ، فحاله أيضا : مناط تناط به جملة أحكام تلزم القوي دون الضعيف ، وإن كان ثم قدر مشترك من التكليف بالعقد الإيماني العام ، فلا يثبت الإيمان إلا بعقد الشهادة ، فذلك مما يستوي فيه عموم المكلفين ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ، فتوجه الأمر إلى الناس جميعا : مؤمنهم وكافرهم فالمؤمن ليثبت ويزداد ، والكافر ليصدق وينقاد ، وذلك مما قد يُسْتَأْنَسُ به في معرض الاستشهاد لقول من قال بخطاب الكفار بفروع الشريعة ، فمعنى العبادة وإن تبادر إلى الذهن منه التوحيد فهو الأصل إلا أنه يعم سائر موارد التشريع فهي الفرع ، ولا صحة للفروع بداهة إلا بصحة الأصل الجامع ، فيتوجه الأمر بها وبما لا تصح إلا به من أصل التوحيد ، فهو الأصل العام الذي تصدر عنه سائر الأقوال والأفعال فلا يتصور قول نافع أو عمل صالح إلا إن كان صادرا عن مشكاة التوحيد والنبوة فبه بَشَّرَت ، فــ : (مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) ، وبه أمرت ، فــ : (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وله انتصرت بالحجة والبرهان ، فــ : (لَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا) فجاهدهم بآي التنزيل في ميادين الحجاج العقلي ، فــ : (لَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا) ، وبالسيف والسنان ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) فجاهدهم بالسيف والحديد في ميادين القتال البدني ، ولخصومه تصدت ، فــ : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ) ، فذلك التوحيد : أول واجب على العبيد ، فلا يتصور في أصله المجمل : تفاوت ، فإما توحيد وإما شرك ، وإما إيمان وإما كفر ، وإن وقع التفاوت ففي فروعه المفصلة ، فثم مسائل علمية دقيقة في الإلهيات والسمعيات تتفاوت فيها الأنظار ، فيسوغ الخلاف فيها ، وإن كان الحق فيها واحدا ، وثم ما لا يسوغ الخلاف فيه من التأويلات المرجوحة ، فبطلانها ظاهر ، وهي مع ذلك لا تنقض الأصل ، وإن أتت عليه بالنقص ، وثم ما لا يسوغ الخلاف فيه من التأويلات المحالة ، فبطلانها أظهر ، وهي ، تنقض الأصل بالنص أو اللازم ، كتأويلات الفلاسفة فهي نقض محض لأصل التوحيد فصاحبها ينص على خلافه ، وكتأويلات غلاة النفاة فهي ، أيضا ، نقض محض لأصل التوحيد ، وإن لم ينص صاحبها على ذلك ، فهو لازم مقاله ، فيعتذر عنه في الجملة ، وإن كان قوله كفرا محضا ، فباب العذر بالجهل في حقه أوسع ، على تفصيل في ذلك ، والشاهد أن ثم من الشرع ما هو : خاص فلكل مكلف ما يلائمه من الأحكام ، كما تقدم ، ومنه ما هو عام ، فبه تنتظم أمور الجماعة من تشريعات عامة ، وبه تستقيم أمور الأمم من تشريعات أممية بين الدول ، فثم تشريع أممي خاص يفصل النزاع بين رعايا الأمم ، فيفصل الشرع في النزاع بين المسلم والكافر في دار الإسلام فشرعه هو الحاكم ، أو هكذا يفترض ! ، ويفصل النزاع ، أيضا ، بين الأمم حال السلم والحرب ، فذلك التشريع الأممي العام ، فالشرع العملي قد استغرق وجوه النشاط الإنساني : الفردي والجماعي ، الخاص والعام ، فلا بد أن يقترن بالعلم فهو لازمه فلا تحصل النجاة بعلم محض لا أثر له في الخارج في قول المكلف وفعله ، فذلك من جنس ظهور آثار العقد الباطن على القول والفعل الظاهر ، فالإيمان : قول وعمل ، فلا يثبت أصل الإيمان إلا بقول القلب عقدا ، وقول اللسان شهادة ، وعمل القلب تعظيما وخشية فذلك مورد جلال يقتضي الرهبة فتنكف النفس عن المنهيات ، وتحميدا ورجاء فذلك مورد جمال يقتضي الرغبة فتنكب النفس على المأمورات ، فلازم عمل القلب الباطن : الفعل والكف ، وذلك هو عمل الظاهر ، فجنسه شرط في صحة الإيمان ، وإن لم تُسْتَوْفَ آحاده ، فلا بد أن يظهر أثر الإيمان الباطن على الظاهر ، وإن لم يستوف المكلف آحاده ، فبقدر حصوله في القلب يكون ظهور آثاره في الخارج ، فيتفاوت الناس فيه أيما تفاوت ، فمن آت بالواجبات والمستحبات فقد بلغ رتبة الكمال المستحب فهو ناج وزيادة ، ومن مستوف للواجبات فقد بلغ رتبة الكمال الواجب فهو ناج ، ومن آت بجنس العلم دون كماله ، فقد نجا من الحكم بالكفر فثبت له أصل الإيمان دون كماله ، فلحقه المدح من هذا الوجه فهو مؤمن بما معه من الأصل ، ولحقه الذم من وجه آخر ، فهو ناقص الإيمان بما ترك من مأمورات أو فعل من محظورات ، ما لم يكن فعله أو تركه من نواقض الإيمان ، فالإيمان ينقض بالعقد والقول والعمل ، وهو ، من وجه آخر ينقض بالفعل كالسجود لصنم أو الحكم بغير ما شُرِع ، على تفصيل في ذلك ، أو بالترك ، كترك الصلاة على قول بعض أهل العلم على تفصيل في ذلك ، أيضا ، والشاهد أن المنفعة واللذة لا تكون بالعلم المحض حتى يشفع بلازمه من العمل ، فذلك ، كما تقدم ، من جنس ظهور آثار الإيمان الباطن على أعمال الظاهر ، فــ : "مَا يَقُومُ بِالْقَلْبِ مِنْ تَصْدِيقٍ، وَحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَعْظِيمٍ، لَا بُدَّ أَنْ يَظْهَرَ عَلَى الْجَوَارِحِ، وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ، وَلِهَذَا يُسْتَدَلُّ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ الظَّاهِرِ عَلَى انْتِفَاءِ الْمَلْزُومِ الْبَاطِنِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَلَا إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» . وَكَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَنْ رَآهُ يَعْبَثُ فِي الصَّلَاةِ : " لَوْ خَشَعَ قَلْبُ هَذَا لَخَشَعَتْ جَوَارِحُهُ ". وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22]
وَقَوْلُهُ:
{وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 81]
وَقَوْلُهُ: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً}" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/546 ، 547) .

فالأمور الباطنة والظاهرة : "بينها ارتباط ومناسبة ، فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أمورا ظاهرة ، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال ، يوجب للقلب شعورا وأحوالا" . اهــ بتصرف من : "اقتضاء الصراط المستقيم" .

فالتلازم بينها وثيق ، والتأثير بينها متبادل فالباطن يؤثر في الظاهر فهو سببه ، والظاهر يؤثر في الباطن فهو يقويه ويرسخه ، فبالطاعة الظاهرة من قول أو فعل يزيد الإيمان ، وبالمعصية ينقص ، فالإيمان يزيد وينقص ، فيزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، فــ : "إِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ فَكُلَّمَا فَعَلَ الْعَبْدُ الطَّاعَةَ مَحَبَّةً لِلَّهِ وَخَوْفًا مِنْهُ وَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ حُبًّا لَهُ وَخَوْفًا مِنْهُ قَوِيَ حُبُّهُ لَهُ وَخَوْفُهُ مِنْهُ فَيُزِيلُ مَا فِي الْقَلْبِ مِنْ مَحَبَّةِ غَيْرِهِ وَمَخَافَةِ غَيْرِهِ. وَهَكَذَا أَمْرَاضُ الْأَبْدَانِ: فَإِنَّ الصِّحَّةَ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَالْمَرَضُ يُدْفَعُ بِالضِّدِّ فَصِحَّةُ الْقَلْبِ بِالْإِيمَانِ تُحْفَظُ بِالْمِثْلِ وَهُوَ مَا يُورِثُ الْقَلْبَ إيمَانًا مِنْ الْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَتِلْكَ أَغْذِيَةٌ لَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا {إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَأَنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ هِيَ الْقُرْآنُ}" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

بل ويزيد بالسنن المشروعة وينقص بتركها ، وإن لم يلحق تارك النافلة الذمُ في الجملة إلا إن ترك جنسها فإليه يتوجه اللوم ، فيستحق التعزير بما يدل على انخرام مروءته فترد شهادته فحاله كحال تارك الوتر فهو رجل سوء لا ينبغي أن تقبل شهادته كما أثر عن أحمد رحمه الله وإن لم يكن تاركا لواجب فالوعيد لا يلحقه وإن لحقه الذم الذي يستلزم عقوبة تعزيرية في الدنيا فتجري مجرى الزجر والتأديب لا مجرى العقاب والوعيد ، فليس بمتوعد ، وإن ذمت حاله ، فمآله في الغالب : التفريط في الواجبات إذ قد فرط في سياجها الواقي من المندوبات ، أو استخف بها ، فقد يكفر من هذا الوجه ، فقد استهزأ بنافلة وهي من آي الرب ، جل وعلا ، الشرعية فيدخل من هذا الوجه في عموم قوله تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) ، وينقص في المقابل بما أحدث من رسوم التعبد مضاهاة للمشروع ، فالأمر مطرد منعكس ، فــ : "إِنَّ الْبِدَعَ هِيَ: مَبَادِئُ الْكُفْرِ وَمَظَانُّ الْكُفْرِ. كَمَا أَنَّ السُّنَنَ الْمَشْرُوعَةَ هِيَ: مَظَاهِرُ الْإِيمَانِ وَمُقَوِّيَةٌ لِلْإِيمَانِ؛ فَإِنَّهُ يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .

ومن ثم كان الهدي الظاهر أثرا للهدي الباطن ، فشرعت مخالفة الكافرين فيما اختصوا به من رسوم الهدي الظاهر وكان من وجه آخر سببا في رسوخ الهدي الباطن ، فبه تحصل المفاصلة فيزداد المؤمن تميزا ، دون ظلم أو تعدي ، فليس الأمر كبرا بالباطل وإنما هو عزة بالحق الناصح .

فالإنسان له قوة علم بها يشعر ويدرك ، فيروم ما به اللذة ، فذلك ، كما تقدم ، قدر مشترك أجمع عليه العقلاء وإن اختلفوا في طرائق تحصيله ، بل وفي حده لكونه من البدهيات الضرورية التي قد يعجز اللسان عن حدها فتوضيح الواضحات من أعظم المشكلات ! ، فــ : "المتفلسفة أخطأوا من وجه آخر حيث قالوا اللذة إدراك الملائم من حيث هو ملائم وهذا غلط فإن اللذة ليست هي الإدراك ولكن الإدراك سببها فهي حاصلة عنه كحصول الصوت عن الحركة والشبع عن الأكل وذلك أن الإنسان يشتهي الطعام فيأكله فيلتذ به . هنا ثلاثة أشياء : شهوة وإدراك ولذة فليست اللذة هي نفس الأكل والذوق وإنما هي أمر آخر يحصل بالأكل والذوق وهو أمر يجده الإنسان من نفسه فلا يعبر عنه بعبارة بمعنى أبين منه وكل حي يجد في نفسه اللذة والألم" . اهــ
"الصفدية" ، (2/235 ، 236) .

فاللذة قدر زائد على الإدراك فهي لازمه الذي يدور معه وجودا وعدما فبدرك الملاءمة ، فهو السبب ، تحصل اللذة ، فهي المسبَّب ، فيدرك الإنسان ابتداء طعم الشيء بحاسة ذوقه ، فإن لاءمه حصلت له اللذة ، وإن لم تحصل المنفعة فقد يلتذ بضار إذا فسدت فطرته ، فذلك أمر يتفاوت بتفاوت الأذواق ، فقد تفسد الفطر ، كما تقدم ، فتلتذ بالضار ، وتتألم بالنافع ، سواء أكان ذلك محسوسا كالمطعومات أم معقولا كأمور الديانات ، فمن الناس من فسدت فطرته المحسوسة فيلتذ بالضار كمن يلتذ بطعام مسموم فلذته طارئة يعقبها الألم وربما الهلكة ، ومن الناس من فسدت فطرته المعقولة ، وذلك أدهى وأمر ، فيستحسن في الإلهيات : الكفر من تشريك أو تثليث ..... إلخ ، ويستقبح في المقابل التوحيد الذي أجمعت عليه النفوس بما جبلت عليه من رسم الفطرة الأولى ، فـ : "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ البَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ" ، ويستحسن في الشرعيات : البدعة ويستقبح في المقابل السنة ، فــ : "ما أحدث قوم بدعة إلا رفع الله مثلها من السنة" ، ففساد الفطرة بعدم درك الملائم النافع يعم المحسوسات والمعقولات ، ويعم الإلهيات والشرعيات ، وغالبا ما يقترنان ، فمن فسد دركه للملائم المعنوي من العقد الإيماني فسد في الغالب دركه للملائم المادي من المطعوم أو المشروب ، ولذلك حرمت الشرائع المنزلة : الخمر والخنزير فهما مئنة من فساد الإدراك الظاهر ولا يكون ذلك ، عادة ، إلا فرعا على فساد الإدراك الباطن ، فالمثلثة قد استباحوها ، والموحدة على الأصل الرسالي الأول قد حظروها ، فدركهم للملائم صحيح في العقد والفعل ، في الباطن والظاهر ، في الحس والمعنى ، فهم على الطريقة المثلى ، فلذتهم هي الأعظم والأنفع ، وإن ظهر ، بادي الرأي ، ألم في التكليف فمآله اللذة في الأولى ، فــ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) ، والآخرة ، فــ : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) .

والشاهد أن الإنسان له قوة علم بها يشعر ويدرك وقوة عمل بها يريد ويفعل ، فــ : "الْعَبْدُ لَهُ قُوَّةُ الشُّعُورِ وَالْإِحْسَاسِ وَالْإِدْرَاكِ ، وَقُوَّةُ الْإِرَادَةِ وَالْحَرَكَةِ وَإِحْدَاهُمَا أَصْلُ الثَّانِيَةِ مُسْتَلْزِمَةٌ لَهَا. وَالثَّانِيَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلْأُولَى وَمُكَمِّلَةٌ لَهَا. فَهُوَ بِالْأُولَى يُصَدِّقُ بِالْحَقِّ وَيُكَذِّبُ بِالْبَاطِلِ وَبِالثَّانِيَةِ يُحِبُّ النَّافِعَ الْمُلَائِمَ لَهُ؛ وَيُبْغِضُ الضَّارَّ الْمُنَافِيَ لَهُ. وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلَقَ عِبَادَهُ عَلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي فِيهَا مَعْرِفَةُ الْحَقِّ وَالتَّصْدِيقُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ الْبَاطِلِ وَالتَّكْذِيبُ بِهِ وَمَعْرِفَةُ النَّافِعِ الْمُلَائِمِ وَالْمَحَبَّةُ لَهُ وَمَعْرِفَةُ الضَّارِّ الْمُنَافِي وَالْبُغْضُ لَهُ بِالْفِطْرَةِ. فَمَا كَانَ حَقًّا مَوْجُودًا صَدَّقَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ وَمَا كَانَ حَقًّا نَافِعًا عَرَفَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَحَبَّتْهُ وَاطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ وَمَا كَانَ بَاطِلًا مَعْدُومًا كَذَّبَتْ بِهِ الْفِطْرَةُ فَأَبْغَضَتْهُ الْفِطْرَةُ فَأَنْكَرَتْهُ. قَالَ تَعَالَى: {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ}" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/32) .

فلا يكتمل الانتفاع ، كما تقدم ، إلا باكتمال القوتين : العلمية فبها يتصور ، والعملية فبها يحكم .

فالقول بحصول الكمال بالعلم المحض أثر فلسفي سرى إلى الدين البروتستانتي الذي أزرى بالعمل ، فجعل اللذة والكمال في العلم المجرد فليس العمل غاية ، وإنما يجري مجرى الوسيلة إلى بلوغ رتبة الكشف الصوفي أو الوحي الفلسفي ، فكان التزام الشرع محض تأديب للنفس إلى حين بلوغها غاية اليقين الفلسفي فهو قسيم اليقين الصوفي الذي حُمِل عليه قول الرب العلي تبارك وتعالى : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) ، فــ :
"يزعمون أن الفيض دائم من العقل الفعال وإنما يحصل في القلوب بسبب استعداد الأشخاص فأي عبد كان استعداده أتم كان الفيض عليه أتم من غير أن يكون من الملأ الأعلى سبب يخص شخصا دون شخص بالخطاب والتكليم .

(فصارت النبوة عندهم صنعة تكتسب فليس ثم اصطفاء لشخص دون شخص ، فــ : (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) ، والرسل ، عليهم السلام ، مصطفون كما محكم التنزيل : (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) ، فــ : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) ، فمعنى الاصطفاء معنى وهبي لا يحصل برياضة أو كشف صوفي ، أو قياس فلسفي ، فقوة العلم والعمل عند الأنبياء عليهم السلام : طور فوق طور عموم المكلفين ، فعلوم النبيين ، عليهم السلام ، قد نزلت برسم العصمة ، فــ : "اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ إِلَّا حَقٌّ" ، وأعمالهم قد شرعت برسم العموم في جملة الأحكام ، فالأصل في التكليف : العموم ولكنهم مع ذلك اختصوا بعبادات لا يقدر عليها عامة المكلفين فكان قيام الليل واجبا على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دون سائر أمته على تفصيل في ذلك هل نسخ أو لا ، وكان الوصال في الصيام في حقه مشروعا ، فــ : "إني لست مثلكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" ، وليس ذلك لعموم المكلفين ، فثبت أن للنبوة قدرا زائدا فبه تظهر أمارات الاصطفاء وتبطل مقالات الاكتساب فالنبوة هبة ربانية يضعها رب البرية ، جل وعلا ، في المحال التي اصطفاها فهي محال عظيمة القدر ابتداء زادتها النبوة شرفا فلم تكن لتنالها ابتداء بكسب أو رياضة ، فــ : (كَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ، فذلك نور الرب ، جل وعلا ، يضعه حيث شاء فهو الحكيم فلا يضع الشيء إلا في موضعه الملائم فاصطفى من عباده أشرف خلقه لأشرف وظائف البشر من حمل أمانة التبليغ وسن شرائع العدل) .

وليس هذا ، (أي : اكتساب النبوة) ، مذهب المسلمين بل ولا اليهود ولا النصارى بل هؤلاء كلهم إلا من ألحد منهم متفقون على أن الله سبحانه خص موسى بالتكليم دون هارون وغيره وأنه يخص بالنبوة من يشاء من عباده لا أنه بمجرد استعداده يفيض عليه العلوم من غير تخصيص إلهي" . اهــ
بتصرف من : "شرح العقيدة الأصفهانية" ، ص304 ، 305 .

فالنبي ليس إلا ذكيا من الأذكياء ، له من قوة التخييل ما يسمع به الصوت ، فليس ثم وحي وإنما محض خيال يقع للنفوس الكاملة التي ارتاضت فبلغت من الرتب المنيفة ما صيرها أهلا للحقيقة فلم تقنع بالشريعة ، فتلك رتبة العوام الذين لما تزل نفوسهم في قيد التكليف مأسورة ، فهي عن الحقيقة محجوبة ، خلافا للخواص فالتكليف في حقهم نقص ، فقد جاوزا درجته فسقط ، وبلغوا رتبة اليقين فلا أمر ولا نهي ، وذلك ما لم يكن للأنبياء عليهم السلام ، فإنهم عبدوا الرب ، جل وعلا ، حتى فارقت أرواحهم الأبدان ، فظلوا لعهد الشريعة حافظين وبه مستمسكين ، فلسان مقال النبي الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم حال احتضاره : "«الصَّلَاةَ ، وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» فَمَا زَالَ يَقُولُهَا، حَتَّى مَا يَفِيضُ بِهَا لِسَانُهُ" ، فوقع للفلاسفة وغلاة أهل الطريق : النقص ، بل والمروق من الدين ، بإبطال شرائع المرسلين عليهم السلام ، فصار الدين مراتب : فعموم يلائمه التكليف ، وخصوص قد بلغ صاحبه درجة التحقيق ، فالأول لما يزل على الشريعة ، والثاني قد بلغ الحقيقة ! ، فتلك مناقضة صريحة لخبر الرسل عليهم السلام :
"أَهْلُ التَّخْيِيلِ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : إِنَّ الرُّسُلَ أَخْبَرُوا مِنْ أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ بِمَا يُخَالِفُ الْحَقَّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِيُخَيِّلُوا إِلَى الْجُمْهُورِ مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَيَعُدُّونَ هَذَا مِنْ فَضَائِلِ الرُّسُلِ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (3/565) .

فعدوا الكذب والتخييل من فضائل النبيين ، عليهم السلام ، وذلك مما يتنزه عنه آحاد المكلفين بمقتضى ظاهر الشريعة فردوا الأمر إلى باطن الشريعة الذي افتروه بلا قرينة من نقل أو عقل فليس لتأويلاتهم وجه مرضي في نص شرعي صحيح أو قياس عقلي صريح فقد حملوا الألفاظ على وجوه ممتنعة لا يشهد لها اللسان ، ولو من وجه بعيد مهجور ، فذلك مما غلب على تأويلات المتكلمين فإنهم يحملون النصوص على أوجه بعيدة متكلفة ، فلهم في ذلك شبهة يعذرون بها ، في الجملة ، فلا يكفرون بالتأويل وإن كان لازمه جحد الخبر الرسالي بتعطيل الوصف الإلهي ، فتأويلهم له شبهة دليل من اللسان ، ولو مهجورا ، فله وجه ، ولو مردودا ، فخلافهم غير سائغ ، فهو هدر غير معتبر ، وإنما ينتفع بالتأويل في عذر المخالف ، إن كان للتأويل ، وجه ، ولو ضعيفا ، كما تقدم ، وذلك أمر يعم العقد والشرع ، فالتأويل يكون في الأخبار والأحكام ، فيعارض النص في كليهما بقياس العقل الذي يستحسن ويقبح معان وأحكاما ، ولو على خلاف معاني الأخبار وأحكام الشرائع ، فلا يسوغ الخلاف من وجه ، ويعتذر عن المخالف بما معه من شبهة دليل من وجه آخر ، فــ : "من ذهب إِلَى القَوْل الْمَرْجُوح ينْتَفع بِهِ فِي عذر المتأولين فَإِن عَامَّة مَا حرمه الله مثل قتل النَّفس بِغَيْر حق وَمثل الزِّنَا وَالْخمر وَالْميسر وَالْأَمْوَال والأعراض قد اسْتحلَّ بعض أَنْوَاعه طوائف من الأمة بالتأويل وَفِي المستحلين قوم من صالحي الْأمة وَأهل الْعلم وَالْإِيمَان مِنْهُم .
لَكِن المستحل لذَلِك لَا يعْتَقد أَنه من الْمُحرمَات وَلَا أَنه دَاخل فِيمَا ذمه الله وَرَسُوله فالمقاتل فِي الْفِتْنَة متأولا لَا يعْتَقد أَنه قتل مُؤمنا بِغَيْر حق والمبيح للمتعة والحشوش وَنِكَاح الْمُحَلّل لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ زنا وسفاحا والمبيح للنبيذ المتأول فِيهِ ولبعض أَنْوَاع الْمُعَامَلَات الربوية وعقود المخاطرات لَا يعْتَقد أَنه أَبَاحَ الْخمر وَالْميسر والربا .
وَلَكِن وُقُوع مثل هَذَا التَّأْوِيل من الْأَئِمَّة المتبوعين أهل الْعلم وَالْإِيمَان صَار من أَسبَاب المحن والفتنة فَإِن الَّذين يعظمونهم قد يقتدون بهم فِي ذَلِك وَقد لَا يقفون عِنْد الْحَد الَّذِي انْتهى إِلَيْهِ أُولَئِكَ بل يتعدون ذَلِك وَيزِيدُونَ زيادات لم تصدر من أُولَئِكَ الْأَئِمَّة السَّادة وَالَّذين يعلمُونَ تَحْرِيم جنس ذَلِك الْفِعْل قد يعتدون على المتأولين بِنَوْع من الذَّم فِيمَا هُوَ مغْفُور لَهُم ويتبعهم آخَرُونَ فيزيدون فِي الذَّم مَا يسْتَحلُّونَ بِهِ من أَعْرَاض إخْوَانهمْ وَغير أعراضهم مَا حرمه الله وَرَسُوله فَهَذَا وَاقع كثير فِي موارد النزاع الَّذِي وَقع فِيهِ خطأ من بعض الْكِبَار" . اهــ من : "الاستقامة" .

فخلاف المتكلمين أهون من خلاف الفلاسفة فإن الفلاسفة ومن سار على طرائقهم قديما وحديثا ممن يتأول محكمات الشريعة باسم التجديد فيجحد المتواتر من الخبر الإلهي والحكم الشرعي ، والغالب على فلاسفة هذا الزمان ! من أصحاب المذاهب الأرضية المعاصرة : إنكار الوحي ابتداء فالقوم قد استقاموا على الطريقة صراحة فلم يتكلفوا لها زخرف تأويل باسم التنوير أو التجديد ....... إلخ مما ظاهره الرحمة وباطنه العذاب ! فالغالب عليهم الإنكار صراحة أو تكلف التأويلات الباردة وذلك في بلاد الشرق أظهر فلا زال للشرع هيبة وتعظيم في النفوس ولو في الجملة فيتأول أصحاب هذا القول أحكام الشريعة التي لم يتأولها قبلهم أحد ليتوسلوا بذلك إلى صوغ عقل جمعي جديد يبطل الشرع باسم الشرع ! فيتأول الشريعة على أنها حكم مؤقت قد نسخ ، فلا يصلح لما يجد من نوازل وقد شهد له من وجه : ما كانت عليه حال الفقهاء الردية من جمود وتقليد فصار الشرع الذي يحفظون متونه بلا فقه لأحكامه بالنظر في مناطها تنقيحا وتخريجا وقياس ما يجد عليها تحقيقا لمناطها فيما يجد من النوازل ، صار حجة لهم فهو كما يقولون : غير ملائم لهذه الأعصار ، ولكن من قال بأن هذا الشرع هو الشرع المنزل ؟! ، ومن قال بأن أولئك المقلدة الذين جمدوا على ألفاظ المتون هم العلماء الذين يحملون علم إرث النبوة ؟! ، فالدعوى باطلة فقد استدل القوم بحال فاسدة لتقرير مقالة باطلة ، فالمنازع ينازعهم في أصل الدعوى ، فيتسلط أولئك على الشريعة بتوسيع دائرة الاجتهاد والمصلحة المرسلة والاستدلال بمقال بعض من توسع في إعمال العقل في مقابل الوحي ، فجعل المصلحة العقلية المحضة حكما على النصوص الشرعية المحكمة فتذرع بذلك إلى نقض بعض الأحكام القطعية بحجة تحصيل المصلحة الشرعية ! ، وذلك أيضا مما ينازع قائله في الأصل فلا يتصور ابتداء أن يرد الشرع المحكم بما يعارض المصلحة المعتبرة وإنما قد يعارض بما يتصوره العقل مصلحة ، فهي مصلحة متوهمة لا حقيقة لها ، وإن ظن صاحبها أنها كذلك ، فالدعوى ، أيضا ، باطلة من أصلها ، ويتوسع أولئك بالاستدلال بحال مقلدة المذاهب وما هم عليه من جمود فلا بد من التجديد ولو بنقض أصول الشريعة نقضا ، فهم يتأولون المحكمات وغرضهم الرئيس معارضة نظرية التشريع السماوي فمصدره الوحي بنظرية التشريع الأرضي فمصدره العقل ، فحقيقة الصراع ، كما تقدم مرارا ، الصراع المحتدم بين : الوحي والعقل ، وذلك صراع قد سلم منه أتباع الرسالة الخاتمة ، فإنهم لا يجدون في نصوص شريعتهم غضاضة ، فقد جاءت بما يوجبه العقل مما يدرك مناطه فعلى سنن العدل قد شرع ، وبما يجوزه مما لا يدرك العقل حقيقته إن كان غيبا ، أو مناطه إن كان تعبدا محضا ، فلا يحيله وإنما غاية الأمر أن يحار في درك حقيقته في الخارج إن كان غيبا ، أو يحار في تعيين مناطه ليقيس عليه إن كان تعبدا محضا وإن أدرك الحكمة منه إجمالا فقد حجبت عنه الحكمة تفصيلا ليحصل معنى الابتلاء بالتصديق والامتثال لما يحار في كنهه وإن لم يحله بعقله ، فالعقل قد سلم من معارضة الوحي الصحيح فليس ثم ما يلجئه إلى ما وقع فيه أولئك من نقض للوحي بقياس العقل ، فذلك إنما يصح إذا كان الوحي مبدلا ، كوحي الكنيسة ، فقد بدل لفظه وحرفت معانيه فأوجب جملة من الممتنعات التي تأباها العقول الصريحات فوقع الصراع بينهما واحتدم حتى حسمه العقل في الجولة الأخيرة فأقصى الكنيسة وولي الأمر من بعدها برسم الإلحاد تصريحا أو تلميحا فما حاجة أتباع الوحي الصحيح إلى ذلك ؟! ، فتلك جملة تأويلات الفلاسفة قديما وحديثا ، وهي من البطلان بمكان ، فلا يعذر صاحبها في الجملة ، إلا إن كان مسلم النشأة قد لبس عليه الأمر فلم تبن له حقيقة المذهب فظنه كأي مذهب عقلي مرضي يعظم العقل ، وذلك حق ، ولكنه في المقابل ، ينقض الشرع ، فذلك الباطل الذي يخفى على كثير ممن تروج عليه هذه المقالة لا سيما من عموم المكلفين فليسوا رءوسا لهذا المقال الفاسد ، وإنما غرهم زخرفه الظاهر ، وأما تأويلات المتكلمين في الإلهيات ، فيعذر صاحبها في الجملة ، فدائرة العذر في حقه أوسع فلتأويلاته وجه ، ولو بعيدا ، وأما الخلاف في الفروع فأمره أيسر وأيسر ، فالخلاف فيه في الجملة سائغ ، وإن كان الحق فيه واحدا كسائر مسائل الديانة ، والتفريط يقع فيه بتعظيم قول الإمام ولو مرجوحا فيعارض به الحكم القطعي بل ويتأول الحكم لأجله ! ، والإفراط يقع برد القول وذلك حق ، ولكن ثم تعد بالقول والفعل على الإمام فيفسق ويبدع وربما نبز بالكفر والمروق من الديانة ! ، والخلاف في حقيقته : سائغ لا ينكر فيه على المخالف وإن حسن بيان وجه الخطأ في استدلاله .

والحق وسط بين طرفين ، وهو أمر نادر وربما عديم لا سيما في هذه الأعصار التي كثر فيها الشقاق والنزاع ، فــ : (تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) ، فثم موارد خلاف سائغ قد صيرها أصحابها معقد ولاء وبراء ، فعظموا قول أئمتهم ، وإن خالفت النص ، بل وعمدوا إلى النص ليتأولوه ، فقدم قول الإمام على نص الشارع ، جل وعلا ، وفي المقابل : غلا المخالف في نقض القول فتعدى بالقول والفعل ، فصارت الخصومة بينه وبين القائل لا بينه وبين القول ، فنال المخالف بالسب والقدح ، وربما الضرب والقتل ! ، فحصل التعدي في إقرار القول فكل من خالفه فهو مفرِّط في واجب ، مضيع لحكم الشارع ، جل وعلا ، وحصل التعدي في المقابل في إنكار القول ، فكل من وافقه فهو مفْرِط بالزيادة في الشريعة ، فقد زاد عليها ما ليس منها فهو محدث في الديانة ، عظيم الضلالة في العلم والغواية في العمل ، قد فسد علمه وبطل عمله ! ، فوجب التحذير منه ، بل والتحريض عليه ! ، فتعدى الطرفان في الإقرار والإنكار ، فطرف قد غلا في الإقرار ، وآخر قد غلا في الإنكار ، والحق ، كما تقدم ، وسط بين طرفين ، وتنزيل موارد الاجتهاد من المسائل الخلافية التي يسوغ فيها الخلاف منزلة القطعيات : تحجير لواسع ، لا سيما ما لم يرد به نص ، فهو مرسل تتفاوت فيه الأنظار ، كسائر أمور السياسة والحكم ، فأصولها الشرعية قد أحكمت وفروعها قد أرسلت رحمة بالعباد في موارد الاجتهاد ، فتتفاوت الأنظار ، كما تقدم ، في اعتبار المصلحة فهي راجحة ، أو إلغائها فهي مرجوحة ، وذلك حديث الناس في هذه الآونة ، فبين مفرط في تناولها حتى وقع في المحظور فقل أن يسلم من باشر السياسة في زماننا من شوب نقص فهي في الجملة : غير شرعية ، وإنما اضطر إليها أهل الديانة لئلا تترك لأهل الغواية فيزيد فسادهم ! ، ومفرط قد هجرها وشنع على من باشرها ، وإن أراد الإصلاح في الجملة ، فلن يسلم العمل في السياسة في زماننا من نقص ، كما ينوه بذلك بعض الفضلاء ، فهي مظنة الانتهازية ، وحظوظ النفس فيها عظيمة ، وموارد الخطأ فيها كثيرة ، فالشريعة المنزلة مغيَّبة ، والقوانين الحادثة في المقابل معظمة ، فوجب النظر بعين الشرع في الحكم على الأفعال ، ووجب مع ذلك ، النظر بعين الترجيح فقد يقع الإنسان في مفسدة صغرى ليتوسل بها إلى مصلحة عظمى ، أو يدرأ بها مفسدة أعظم ، فوجب بيان حكم الوسيلة ، ووجب مع ذلك النظر بعين الاعتبار إلى ما يترتب على فعلها أو تركها ، ففعلها ما لم تكن شركا أو ظلما أو فحشا ظاهرا ، كما يقيد الأمرَ بذلك بعض الفضلاء ، فذلك من المحرم لذاته ، ففعلها قد يكون ذريعة إلى تحصيل مصلحة أعظم أو درء مفسدة أعظم ، كمن يتناول الخمر أو الخنزير حال الضرورة ، فذلك مشروع بل وواجب ، فالرخصة فيه رخصة إسقاط قد أسقطت حكم الأصل بل وحكمت بضده فيأثم المضطر إذا تركها وأعرض عنها ، فالإعراض عن الرخص المندوبة مذموم في الجملة فكيف بالإعراض عن الرخص الواجبة ؟! ، فكذلك الشأن في تناول أمور السياسية في زمان قد درست فيه آثار السياسة الشرعية إلا رسوما باهتة ، فمن يتناولها ينزلها منزلة الضرورة فبها تنال مصلحة أعظم ، أو تدرء مفسدة أعظم ، فيزاحم أهل الحق أهلَ الباطل لئلا ينفردوا بالأمر فيزيد فسادهم ، كما تقدم ، فتلك ، في ذاتها ، غاية ، كما ينوه بذلك بعض أهل العلم ، فكيف بما زاد عليها من تحصيل مصالح عظمى قد شهدت لها أصول الشريعة فهي حقيقة لا وهم فليس كل مصلحة تعتبر ابتداء ، وإن ظهر ، بادي الرأي ، أن فيها نفعا أو لذة ، فقد يؤول نفعها إلى ضر أعظم ، وقد تؤول لذتها إلى ألم أشد ، كما تقدم من حال من يلتذ بطعام مسموم فمآله الألم أو التلف ، فكيف بما زاد عليها من تحصيل مصالح عظمى ، أو درء مفاسد عظمى ، فوجب النظر في هذا القدر بعين الاعتبار ، حال الترجيح بين الفعل والترك ، في أمر يسوغ فيه الخلاف فلا يوجب الذم والهجر ، كما هي الحال الآن ، فقد كثر اللغط ووقع التعدي في الإنكار ، والأمر ليس محل إجماع ، فلا ينكر على المخالف في الجملة ، وإن استدرك عليه بعين الشرع ما قد يقع فيه ولا بد من أخطاء فقد تأول ، كما تقدم ، فغلب جانب المصلحة الراجحة وإن كدرت صفوها : مفسدة مرجوحة ، فاجتهد فحكم برجحان المصلحة فليس اجتهاد مخالفه بترجيح المفسدة بأولى من اجتهاده ، فالمسألة ، كما تقدم ، مورد اجتهاد كسائر النوازل ، فليست محل إجماع قاطع لينكر فيها على المخالف ، فمع الإقرار له باجتهاده ، فلا يسلم له فيما اجتهد فيه وأخطأ ، فله الأجر ، وليس ذلك بموجب لاتباعه فلا يتبع إلا إذا أصاب فنال الأجرين ، وينظر ، أيضا ، بعين الشرع في مقام المفاضلة فالمصلحة الراجحة قد تنغمر في جانبها المفسدة المرجوحة ، وينظر بعين الشرع في مقام المناصحة فلا يكون همه إبطال قول خصمه للقدح فيه والتشنيع عليه ، وينظر بعين الكون في عذر المخالف فإنه لم يرد نقض الشرع ولم يرد الإفساد المحض وإنما وقع له الفساد عرضا فلم يتقصده ، وإن تقصده فقد اجتهد فنزله ، كما تقدم ، منزلة المفسدة الصغرى ، فذلك اجتهاد قد يصيب ، فليس ترجيح اجتهاد من ينكر عليه بأولى من اجتهاده ، كما تقدم ، وإنما يكون البغي بالتحكم المحض فيحكم الناظر لنفسه بالصحة المطلقة ويحكم على مخالفه بالفساد المطلق فيحجر واسعا ، فالأمر ، كما تقدم مرارا ، محل اجتهاد فيسوغ فيه الخلاف ، فعلام تحجير الواسع ، وعلام الشدة في الإنكار بالقول والهجر ، فضلا عن الحكم بالإحداث في الديانة ووجوب البراءة ممن فعل ذلك ، بل وربما صار سبه وشتمه ، بل والتحريض عليه ، قربة يتوسل بها صاحبها إلى نيل الثواب ! .

وهل ذلك إلا من فساد التصور والحكم ، فقد فسد تصور صاحبه فلم يدرك ما يمتنع فيه الإنكار من مسائل الخلاف السائغ ، وما يجب الإنكار فيه من مسائل الخلاف غير السائغ وهو الخلاف للنص أو الإجماع أو القياس الجلي أو ما كان الخلاف فيه ضعيفا غير معتبر ....... إلخ من وجوه الخلاف غير السائغ ، فلم يدرك النوعين تمام الإدراك ليحكم بالإنكار تارة وبعدمه أخرى فلكل حال ما يلائمها من الحكم ، ودائرة الخلاف تتسع في حق من قال بمقال كفري ولم يلتزم لازمه فقد ذهل عنه كحال من قال بمذهب أرضي ينقض أصل التشريع السماوي ، وكثير من الأفاضل في زماننا ، يقول بذلك وهو لا يشعر ، فقد ظهر الجهل بالشريعة وفشا ، ودرس العلم بالسنة وخفي ، فتراه معظما لأحكام الديانة عقدا وشعيرة وهو مع ذلك لا يرى غضاضة في التحاكم إلى غير ما أنزل الرب ، جل وعلا ، من الشرائع الوضعية ، فهي عنده بمنزلة التراتيب الإدارية والمصالح المرسلة فلم يخطر بباله لازم مقاله ولو أوقف عليه لبادر بإنكاره لما استقر في نفسه من تعظيم الشريعة ، فإذا اتسعت له دائرة العذر فكيف لا تتسع لمن هو معظم للشريعة ابتداء فيرى إيجاب التحاكم إليها في كل صغيرة وكبيرة ، وإنما غاية الأمر أنه قد خالف في فرع يسوغ الخلاف فيه بل ووجه قوله أقوى ، كما ينوه بذلك بعض الفضلاء ، فقد قال به جمهرة العلماء ، فكيف ينكر عليه بعد ذلك ودائرة العذر تعم من هو أسوأ منه حالا ، وذلك ، كما تقدم ، فساد في التصور شفعه صاحبه بلازمه من فساد الحكم فتعدى في الإنكار وربما فسد قصده دون أن يشعر فخالط إنكاره حظ نفس وحب رياسة خفي ، وربما قابله المخالف بغلو في الوجه الآخر ، فتوسع في الخلاف حتى أدخل في دائرته من لا يسوغ خلافه من أصحاب المذاهب الأرضية ، وربما حصل له هو الآخر حظ نفس وحب رياسة من جنس ما حصل للأول فاشتركا في فساد التصور والحكم ، والحق وسط بين طرفين ، كما تقدم ، وتحري العدل في هذه المواضع مما يعسر في الغالب ، وتقريره باللفظ يسير ، وتأويله في الحكم : جد عسير إلا على من يسره الرب ، جل وعلا ، عليه .

والله أعلى وأعلم .

د. هشام عزمي
02-22-2012, 08:30 PM
والشاهد أن ثم من التأويل ما يعذر صاحبه في الجملة ، وإن كان لازم تأويله جحدا لخبر أو تعطيلا لحكم ، فمعه حجة ، ولو مرجوحة لا تعتبر فخلافه ، كما تقدم ، غير معتبر ، وثم في المقابل من التأويل ما لا يعذر صاحبه ، كسائر تأويلات الباطنية من الفلاسفة والنصيرية والإسماعيلية ، فأولئك كفار نوعا وعينا ، فليس لمقالهم وجه ، ولو مرجوحا ، فهو نقض صريح لأصل الدين الصحيح ، فليس ثم شبهة تأويل ترفع الحكم ، بل يثبت في حقهم حكم التكفير وإثم التأويل ، من باب أولى ، خلافا لتأويلات المتكلمين فإن منها ما يرفع الحكم والإثم معا ، فصاحبها من الأكابر الأفاضل الذين نصروا الملة وأظهروا السنة ، وإنما وقع له التأويل فلتة ، فوافق المتكلمين في موضع أو مواضع قلة ، وقد يوافقهم في أصل أو يوافقهم في مواضع عدة تنزل منزلة الأصل فيكون على أصل من أصول المتكلمين في باب أو عدة أبواب ، وهو مع ذلك ، معذور ، فلم يتعمد خلاف الحق ، وإن وقع له التقصير في الاستدلال ، فلم يتقصد ذلك ، وإنما قد بذل جهده واستفرغ وسعه في درك الحق فلم ينله ، فــ : "إِنَّ مُخَالَفَةَ الْمُسْلِمِ الصَّحِيحِ الْإِيمَانِ النَّصَّ إنَّمَا يَكُونُ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِهِ أَوْ لِاعْتِقَادِهِ صِحَّةَ مَا عَارَضَهُ لَكِنْ هُوَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ السُّنَّةِ وَعَظُمَ أَمْرُهُ يَقَعُ بِتَفْرِيطِ مِنْ الْمُخَالِفِ وَعُدْوَانٍ فَيَسْتَحِقُّ مِنْ الذَّمِّ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ فِي النَّصِّ الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ فِيمَا يُوقِعُ الْفُرْقَةَ وَالِاخْتِلَافَ؛ يَعْظُمُ فِيهِ أَمْرُ الْمُخَالَفَةِ لِلسُّنَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/15) .

فثم تفاوت في هذا الباب بين ما ظهر فالعذر فيه أضيق ، وما خفي من دقائق المسائل العلمية أو العملية ، فالعذر فيه أوسع .

فهو معذور بل ومثاب على ما وافق فيه الحق ، وبذلك حُمِدَ أمثال الإمام أبي الحسن الأشعري ، رحمه الله ، مع ما له من تقريرات في الإلهيات وافق فيها المعتزلة وعليها زاد المتكلمون فغلوا في التأويل ، وقالوا في الإلهيات بما لم يقل به الإمام ، وإن انتسبوا إليه في الجملة ، فــ : "كُلُّ مَنْ أَحَبَّهُ وَانْتَصَرَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ فَإِنَّمَا يُحِبُّهُ وَيَنْتَصِرُ لَهُ بِذَلِكَ . ، (أي : بما وافق فيه السنة) ، فَالْمُصَنِّفُ فِي مَنَاقِبِهِ الدَّافِعُ لِلطَّعْنِ وَاللَّعْنِ عَنْهُ - كالبيهقي ؛ والقشيري أَبِي الْقَاسِمِ ؛ وَابْنِ عَسَاكِرَ الدِّمَشْقِيِّ - إنَّمَا يَحْتَجُّونَ لِذَلِكَ بِمَا يَقُولُهُ مِنْ أَقْوَالِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ أَوْ بِمَا رَدَّهُ مِنْ أَقْوَالِ مُخَالِفِيهِمْ لَا يَحْتَجُّونَ لَهُ عِنْدَ الْأُمَّةِ وَعُلَمَائِهَا وَأُمَرَائِهَا إلَّا بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ وَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَقْرَبِ بَنِي جِنْسِهِ إلَى ذَلِكَ لَأَلْحَقُوهُ بِطَبَقَتِهِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ كَشَيْخِهِ الْأَوَّلِ " أَبِي عَلِيٍّ "؛ وَوَلَدِهِ " أَبِي هَاشِمٍ ". لَكِنْ كَانَ لَهُ مِنْ مُوَافَقَةِ مَذْهَبِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ فِي الصِّفَاتِ؛ وَالْقَدَرِ وَالْإِمَامَةِ؛ وَالْفَضَائِلِ وَالشَّفَاعَةِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ وَلَهُ مِنْ الرُّدُودِ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْجَهْمِيَّة وَبَيَانِ تَنَاقُضِهِمْ: مَا أَوْجَبَ أَنْ يَمْتَازَ بِذَلِكَ عَنْ أُولَئِكَ؛ وَيُعْرَفَ لَهُ حَقُّهُ وَقَدْرُهُ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} وَبِمَا وَافَقَ فِيهِ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ صَارَ لَهُ مِنْ الْقَبُولِ وَالْأَتْبَاعِ مَا صَارَ. لَكِنَّ الْمُوَافَقَةَ الَّتِي فِيهَا قَهْرُ الْمُخَالِفِ وَإِظْهَارُ فَسَادِ قَوْلِهِ: هِيَ مِنْ جِنْسِ الْمُجَاهِدِ الْمُنْتَصِرِ.
فَالرَّادُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ مُجَاهِدٌ حَتَّى كَانَ " يَحْيَى بْنُ يَحْيَى " يَقُولُ: " الذَّبُّ عَنْ السُّنَّةِ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ " وَالْمُجَاهِدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا فِي سِيَاسَتِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ فُجُورٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " {إنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُ هَذَا الدِّينَ بِالرَّجُلِ الْفَاجِرِ وَبِأَقْوَامِ لَا خَلَاقَ لَهُمْ} " وَلِهَذَا مَضَتْ السُّنَّةُ بِأَنْ يُغْزَى مَعَ كُلِّ أَمِيرٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وَالْجِهَادُ عَمَلٌ مَشْكُورٌ لِصَاحِبِهِ فِي الظَّاهِرِ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ مَعَ النِّيَّةِ الْحَسَنَةِ مَشْكُورٌ بَاطِنًا وَظَاهِرًا وَوَجْهُ شُكْرِهِ: نَصْرُهُ لِلسُّنَّةِ وَالدِّينِ فَهَكَذَا الْمُنْتَصِرُ لِلْإِسْلَامِ وَالسُّنَّةِ يُشْكَرُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. فَحَمْدُ الرِّجَالِ عِنْدَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَبِ مَا وَافَقُوا فِيهِ دِينَ اللَّهِ وَسُنَّةَ رَسُولِهِ وَشَرْعَهُ مِنْ جَمِيعِ الْأَصْنَافِ؛ إذْ الْحَمْدُ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الْحَسَنَاتِ. وَالْحَسَنَاتُ: هِيَ مَا وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِخَبَرِ اللَّهِ وَالطَّاعَةِ لِأَمْرِهِ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ. فَالْخَيْرُ كُلُّهُ - بِاتِّفَاقِ الْأُمَّةِ - هُوَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/12_14) .

وبذلك ، أيضا ، حُمِدت فئام من هذه الأمة : خالفت أهل السنة في أصول كلية ، وكان لها ، مع ذلك ، حسنات توجب العدل في الحكم والإحسان في الظن ، والدعاء بالمغفرة ، وإن لم يجز الدعاء لطائفة بعينها بالمغفرة والرحمة ، وإنما يجوز ذلك في حق آحاد الأفاضل ممن نسب إليها سواء أكانت النسبة كلية كنسبة أمثال الجويني والرازي ، رحمهما الله ، إلى مذهب المتكلمين ، أم جزئية كنسبة أمثال القرطبي وابن حجر ...... إلخ ، رحم الله الجميع ، إلى مذهب المتكلمين على تفصيل في ذلك فتلك مراتب تتفاوت فتقوى النسبة بقدر ما وافق فيه الإمام الطائفة من أصول ، وتضعف بقدر ما خالفها ، وقد جعل الله لكل شيء قدرا ، فلكل حال ما يلائمها من الحكم ، فــ : "كَذَلِكَ مُتَكَلِّمَةُ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِثْلَ الْكُلَّابِيَة والكَرَّامِيَة وَالْأَشْعَرِيَّةِ إنَّمَا قُبِلُوا وَاتُّبِعُوا واستحمدوا إلَى عُمُومِ الْأُمَّةِ بِمَا أَثْبَتُوهُ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ مِنْ إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَصِفَاتِهِ وَإِثْبَاتِ النُّبُوَّةِ وَالرَّدِّ عَلَى الْكُفَّارِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ وَبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ وَكَذَلِكَ استحمدوا بِمَا رَدُّوهُ عَلَى الْجَهْمِيَّة وَالْمُعْتَزِلَةِ؛ وَالرَّافِضَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَقَالَاتِ الَّتِي يُخَالِفُونَ فِيهَا أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. فَحَسَنَاتُهُمْ نَوْعَانِ: إمَّا مُوَافَقَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ. وَإِمَّا الرَّدُّ عَلَى مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَالْحَدِيثَ بِبَيَانِ تَنَاقُضِ حُجَجِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/12) .

وذلك أمر ، عند التدبر والنظر ، يعم سائر الرجال فإن الناظر في كتب التراجم ، أيا كانت ، اعتزالية أو صوفية ..... إلخ يجد المصنف في الغالب ، كما يقول بعض الفضلاء ، يحرص على ذكر ما امتدح به صاحب الترجمة مما وافق فيه السنة علما وعملا ويجتهد في إخفاء زلاته ، فلا يُمْدَحُ فلان مثلا بأنه كان من نفاة الصفات ! ، وإنما يمدح بالصدق والزهد والورع .... إلخ فذلك ما تصدر به الترجمة لكونه مما أجمع على استحسانه أهل الملة قاطبة .

وقد يبلغ الأمر حد الذم ، فصاحب التأويل قد غلا فاستحق الذم فغاية تأويله أن يرفع الحكم ولا يرفع الإثم ، كتأويلات غلاة الفرق من الخوارج والجهمية والإمامية ، فمقالهم : كفر بالقول أو اللازم ، وأعيانهم متوعدون فهم آثمون ، ولا يلزم من ذلك تكفيرهم إلا من قامت عليه الحجة الرسالية ، فتأويلهم يرفع الحكم في الجملة ولا يرفع الإثم ، خلافا لأسوأ الفرق في هذا الباب وهم الغلاة من الفلاسفة والباطنية فتأويلهم يوجب الكفر النوعي والعيني فلا يرفع الإثم ولا الحكم ، فصارت المراتب ثلاثا :

تأويل قد سلم صاحبه من الحكم والإثم معا فقد اجتهد في درك الحق فلم يبلغه ، وذلك أمر يعم سائر المسائل العلمية والعملية فمتى بذل الناظر جهده واستفرغ وسعه في درك الحق فقد سلم من الإثم وإن لم يدرك الحق ، فهو صحيح النية ، أهل للنظر إن كان مجتهدا ، أو أهل للاتباع إن كان مقلدا ، فتحرى الأعلم والأورع ليفتيه فيما يعرض له من نوازل علمية أو عملية ، فَتَرِد الشبهة لتثير الشك فيحسن النظر ، وإن لم يحسن ، بادي الرأي ، كما قال المتكلمة ، فالنظر أو القصد إليه ، عندهم ، أول واجب على المكلف ، وذلك ، بداهة ، إنكار لما استقر في النفوس من فطرة التوحيد ، أو إزراء به فلا يجزئ لثبوت الإيمان وحصول النجاة ، فالتوحيد أظهر من أن ينوه به ، فهو العلة الغائية الأولى التي بعث الرسل ، عليهم السلام ، للتذكير بها وبيان ما درس من آثارها وتقويم ما اعوج منها وبيان ما أجمل منها ، فلم يبعثوا للنظر في حقيقتها ، فهي أظهر من أن تخفى على أحد ، فكل إنسان يجدها في نفسه ضرورة ، وإنما بعثوا بالآي الشرعي المذكر بها ، والآي الكوني الشاهد لها ، فجرت على أيديهم الآيات في مقام التحدي والإعجاز ، ونوهت الرسالات بالآي الكوني الباهر في معرض النظر والتدبر لتقرير لازمه العقلي الضروري من التوحيد العلمي والعملي ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فذلك الآي الكوني في الخلق ، و : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) : فذلك المراد الشرعي من الخلق ، فــ : (مَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
فــ : "من الحقائق التي تتطابق عليها الأديان وتتضافر على الإيمان بها العقول والفطر السليمة أن للوجود الإنساني على الأرض غاية مقصودة أرادها الخالق واقتضتها حكمته النافذة ومهما اختلفت الآراء والمذاهب في ماهية هذه الغاية وتصورها ، فإن حقيقتها العامة لا تقبل الجدل .
وهذه الحقيقة درجت الأجيال البشرية المتعاقبة على الإيمان بها ليس لأنها منبثقة عن فكرة الخلق المستقل – كما يتوهم دعاة التطور – بل لأن الفكرتين كلتيهما عميقتان في التصور الإنساني مركوزتان في الفطرة البشرية .

لذلك نجد أن الرسالات السماوية لم تأت لإثبات هذه الغاية بل للتذكير بها وإيضاح حقيقتها . وكذلك نلاحظ أن المباحث الفلسفية كانت تركز جهدها على الخوض في العلل الغائية للأشياء لتبني عليها نظرياتها عن الكون والحياة ولا تبالي كثيراً بالعلل الصورية . فكان الفلاسفة يجهدون أنفسهم في البحث حول الغاية من خلق الإنسان ووظيفته المباشرة" . اهــ من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" .

وذلك ما خالفت فيه المناهج الأرضية المادية : المناهج الفكرية عموما ، والرسالات السماوية خصوصا ، فقد شغلت بالبحث في العلل الصورية ، فعنيت برصد آثار ونتائج البحث التجريبي ، فنظرت في السنن الكوني ، وذلك قدر مشترك بينها وبين الرسالات ، فالجميع يحث الناظر على التدبر في سنن الخالق ، جل وعلا ، بالقول أو الفعل ، فنظرت في الآي الكوني لا كالنظر الذي حثت عليه الرسالات ، فالرسالات قد حثت على النظر فيه في معرض الاستدلال على الآي الشرعي الحاكم ، فإن التصور الصحيح لمعاني الربوبية ينتج في الخارج حكما صحيحا بإفراد الرب ، جل وعلا ، بأجناس العبودية الباطنة والظاهرة ، فيتعبد الباطن بالتوحيد ، ويتعبد الظاهر بالتشريع ، وأما المناهج الأرضية فغايتها أن تقصر النظر على العلل الصورية برصد الآثار والنتائج ، كما تقدم ، لتنتفع بها في أمور المعاش وذلك حق لم تنه عنه الرسالات بل قد أمرت به ، فـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) ، دون التفات إلى أمور المعاد ، وذلك باطل ، وبه امتازت الرسالات عن سائر المقالات فهي صلاح للدين بالنظر في آي الكون استدلالا ، وصلاح للدنيا بالنظر في آي الكون انتفاعا .

فقصر العلل على العلل الصورية النفعية الدنيا دون العلل الغائية العليا : "عاد ... بأسوأ الأثر على الأخلاق والقيم الإنسانية التي ظل بنو الإنسان محتفظين بها منذ وجدوا على الأرض وخرجت في أوروبا أجيال آمنت بالعبثية والعدمية والفوضوية والوجودية وأضرابها من أشكال الفلسفات العابثة التائهة وعمت موجة غريبة طاغية من التبرم والضيق بالحياة ومحاولة الهروب من السير في جادتها وأصبح التخلص من التفكير في ذلك هو الغاية الكبرى لكثير من الناس . لا سيما ذوو الإحساس المرهف .

وتنغصت حياة الناس بقلق وذعر لا يكادون يستبينون مصدريهما وأخذت تعصف بهم دوامة من الحيرة والضياع تزداد سعاراً كلما تذكروا أن وجودهم في هذه الدنيا لا يزيد هدفاً وحكمة عن وجود أدنى الديدان وأحط الحشرات .

ونتج عن ذلك – مما نتج – أن استهان الفرد بنفسه وفقدت حياه معناها وقيمتها فأصبح الانتحار بوسائله المتعددة أمراً مألوفاً . بل أصبحت المسابقات والمباريات الفردية والجماعية تعتمد بالدرجة الأولى على المخاطرة والزج بالنفس في الأهوال واستأثرت مناظر العنف باهتمام الناس سواء أكانت على الطبيعة أم في وسائل الإعلام" . اهــ من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" .

ولعل ما نراه الآن من صور الفوضوية في حياة كثير من الشباب الذي خرج عن أمر الشريعة فردها تلميحا أو تصريحا فقد نقض كل قيمة عليا وصارت حياته عبثا ، وليس ثم من يرشد ، فالبيوت قد خربت وإن كان ظاهرها العمران ، فعدمت فيها آثار النبوات علما أو عملا ، فلعل ذلك نمط آخر يروم الغرب حمل الشرق المسلم عليه اختيارا أو اضطرارا على ما اطرد من ثقافة العنف التي يعالج الغرب بها أغلب إشكالاته ! .

وتأويل قد سلم صاحبه من الحكم وإن لم يسلم من الإثم ، فهو متوعد إذ قد قصر في طلب الحق وغلا في مخالفة السنة كما هي حال غلاة المتكلمين والمعتزلة والجهمية ، على خلاف في الجهمية ، فبعض أهل العلم لا يكفر آحادهم فقوله في التأثيم دون التكفير للأعيان قد اطرد ولكنه لا يجري ذلك على الرءوس فقد حكم عليهم بالكفر : عينا ونوعا من باب أولى .

والتفريق بين الرأس المتبوع والمقلد التابع في هذه المرتبة أمر يحسم كثيرا من موارد النزاع في باب الأسماء والأحكام ، فالرأس ينظر ويستدل ويناجز وينافح عن مقاله ، فيلحقه الذم والإثم من هذا الوجه وإن انتفع بالعذر في حقه في الجملة ، خلافا للمقلد فإنه يتبع بلا نظر فلا أهلية له لينظر بنفسه فلا يلحقه ما يلحق الرأس من الذم ، فقد يذم على عدم تحريه لمفتيه ، فاستفتى رأسا في الضلالة ، وذلك أمر يقع فيه الاشتباه فقد يكون في بلد قد ظهرت فيها أعلام البدعة ودرست فيها آثار السنة فصارت الرياسة لأهل الأهواء فهم الرءوس المستفتون فيحسن المستفتي بهم الظن فهم عنده أهل العلم والفتوى فيسألهم فيفتونه بالباطل المحض فيظنه الحق المحض ! ، فلا يذم من هذا الوجه فقد اجتهد في اختيار من يشار إليه بالفتوى فهو عنده من أهل العلم والورع والتقوى ، وإن كان من أهل الجهل والفجور في نفس الأمر ! كما هي الحال الغالبة على رءوس الضلالة ، فلا يذم ، في الجملة ، إلا إن فرط في اختيار من يحسن الظن به في الفتوى إلا إن كان القول ظاهر الفساد فلا يحتمل ففيه نقض صريح لأصل من أصول الدين ، فلا إفراط في هذا الباب ولا تفريط ، فليس المتَّبَعون كالمتَّبَعين ، فحقيقة المتَّبِعين أنهم : "مُتَّبِعُونَ لِمَا تَقَرَّرَ عِنْدَ عُلَمَائِهِمْ لِأَنَّهُ فَرْضُهُمْ، فَلَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْمُتَشَابِهِ حَقِيقَةً، وَلَا هُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَإِنَّمَا يَتَّبِعُونَ مَا يُقَالُ لَهُمْ كَائِنًا مَا كَانَ، فَلَا يُطْلَقُ عَلَى الْعَوَامِّ لَفْظُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ حَتَّى يَخُوضُوا بِأَنْظَارِهِمْ فِيهَا وَيُحَسِّنُوا بِنَظَرِهِمْ وَيُقَبِّحُوا.

وَعِنْدَ ذَلِكَ يَتَعَيَّنُ لِلَفْظِ "أَهْلِ الْأَهْوَاءِ" وَ "أَهْلِ الْبِدَعِ" مَدْلُولٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ: أَنَّهُ مَنِ انْتَصَبَ لِلِابْتِدَاعِ وَلِتَرْجِيحِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ، وَالسَّالِكُونَ سُبُلَ رُؤَسَائِهِمْ بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ; فَلَا.
فَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا تَحْتَوِي عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْتَدِعٍ وَمُقْتَدٍ بِهِ.
فَالْمُقْتَدِي بِهِ; كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْعِبَارَةِ بِمُجَرَّدِ الِاقْتِدَاءِ; لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُتَّبِعِ.
وَالْمُبْتَدِعُ هُوَ الْمُخْتَرِعُ، أَوِ الْمُسْتَدِلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ الِاخْتِرَاعِ" . اهــ من : "الاعتصام" .

فلا : "يُنْسَبَ مُعَيَّنٌ إلَى تَكْفِيرٍ وَتَفْسِيقٍ وَمَعْصِيَةٍ، إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الرسالية الَّتِي مَنْ خَالَفَهَا كَانَ كَافِرًا تَارَةً وَفَاسِقًا أُخْرَى وَعَاصِيًا أُخْرَى ............ فــ : إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ خَطَأَهَا: وَذَلِكَ يَعُمُّ الْخَطَأَ فِي الْمَسَائِلِ الْخَبَرِيَّةِ الْقَوْلِيَّةِ وَالْمَسَائِلِ الْعَمَلِيَّةِ. وَمَا زَالَ السَّلَفُ يَتَنَازَعُونَ فِي كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ وَلَمْ يَشْهَدْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدٍ لَا بِكُفْرِ وَلَا بِفِسْقِ وَلَا مَعْصِيَةٍ كَمَا أَنْكَرَ شريح قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} وَقَالَ: إنَّ اللَّهَ لَا يَعْجَبُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِي فَقَالَ إنَّمَا شريح شَاعِرٌ يُعْجِبُهُ عِلْمُهُ. كَانَ عَبْدُ اللَّهِ أَعْلَمَ مِنْهُ وَكَانَ يَقْرَأُ {بَلْ عَجِبْتَ} . وَكَمَا نَازَعَتْ عَائِشَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الصَّحَابَةِ فِي رُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ رَبَّهُ وَقَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ وَمَعَ هَذَا لَا نَقُولُ لِابْنِ عَبَّاسٍ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمُنَازِعِينَ لَهَا: إنَّهُ مُفْتَرٍ عَلَى اللَّهِ. وَكَمَا نَازَعَتْ فِي سَمَاعِ الْمَيِّتِ كَلَامَ الْحَيِّ وَفِي تَعْذِيبِ الْمَيِّتِ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَقَدْ آلَ الشَّرُّ بَيْنَ السَّلَفِ إلَى الِاقْتِتَالِ. مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّة عَلَى أَنَّ الطَّائِفَتَيْنِ جَمِيعًا مُؤْمِنَتَانِ، وَأَنَّ الِاقْتِتَالَ لَا يَمْنَعُ الْعَدَالَةَ الثَّابِتَةَ لَهُمْ، لِأَنَّ الْمُقَاتِلَ وَإِنْ كَانَ بَاغِيًا فَهُوَ مُتَأَوِّلٌ وَالتَّأْوِيلُ يَمْنَعُ الْفُسُوقَ ...... فما : نُقِلَ لَهُمْ عَنْ السَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ إطْلَاقِ الْقَوْلِ بِتَكْفِيرِ مَنْ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ أَيْضًا حَقٌّ، لَكِنْ يَجِبُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْإِطْلَاقِ وَالتَّعْيِينِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (3/229 ، 230) .

وقد يلتحق بأولئك ، ولو من وجه ، وإن كان العذر في حقهم أضعف ، وإن عذروا في الجملة لا سيما من لم يلتزم لازم القول ، فهو نقض صريح لأصل الشرع الحنيف ، قد يلتحق بهم أصحاب الطرح العلماني وما تفرع عليه من الطرح الليبرالي ، على تفاوت في ذلك ، فليسوا سواء ، فإن منهم أراذل قد جهروا بلازم المذهب فكفوا الناظر المؤنة ! ، ومنهم في المقابل : أفاضل قد التبس عليهم القول فاغتروا بزخرف قوله وغفلوا عن لازمه ، وغاية أمرهم في أغلب أحوالهم أن يلتزموا آليات القول دون أصله ، بل لو أوقفوا على لازمه من نقض أصل الدين لأنكروه واستقبحوه فلا يستوي أولئك ومن أوقف على اللازم فالتزمه فجهر صراحة بالمروق من الديانة ، فليسوا سواء ، فالعدل يقضي بالتفريق بينهما في الحكم إذ الحال قد تباينت ، ولكل حال حكم يلائمها ، فليست الأعيان سواء ، وليست الأفهام سواء ، وليست الأحوال سواء ، وليست الدور سواء ، فعارض الجهل يعم أصول الدين وفروعه ، على تفصيل في ذلك ، فلا إفراط بعذر من جهر بالكفر أو التزم لازمه بلا شبهة دليل ، ولو ضعيفا ، ولا تفريط بعدم العذر وقد قامت أسبابه لا سيما في الدور التي خفيت فيها آثار النبوة أو درست .

وتأويل لا يسلم صاحبه ابتداء لا من الحكم ولا من الإثم ، من باب أولى ، فهو كافر عينا ونوعا ، من باب أولى ، كما هي حال الفلاسفة وسائر الباطنية كالإسماعيلية والنصيرية ، فحاصل أمرهم ، كما تقدم ، إبطال الدين برمته : عقدا فقد تسلطوا على الأخبار الإلهية بالتأويل ، وشرعا فلم تسلم الأحكام الشرعية من تأويلاتهم الباطنية ، فـــ : "أهل التخييل : هم المتفلسفة ومن سلك سبيلهم من متكلم ومتصوف .
فإنهم يقولون : إن ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر إنما هو تخييل للحقائق لينتفع به الجمهور، لا أنه بَيَّنَ به الحق ، ولا هدى به الخلق ، ولا أوضح الحقائق .
ثم هم على قسمين :
منهم من يقول : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعلم الحقائق على ما هي عليه .
ويقولون : إن من الفلاسفة الإلهية من علمها ، وكذلك من الأشخاص الذين يسمونهم أولياء من علمها، ويزعمون أن من الفلاسفة أو الأولياء من هو أعلم بالله واليوم الآخر من المرسلين، وهذه مقالة غلاة الملحدين من الفلاسفة والباطنية : باطنية الشيعة ، وباطنية الصوفية .
ومن منهم من يقول : بل الرسول عَلِمَها لكن لم يُبيِّنها، وإنما تكلم بما يناقضها، وأراد من الخلق فَهْمَ ما يناقضها، لأن مصلحة الخلق في هذه الاعتقادات التي لا تطابق الحق .
ويقول هؤلاء : يجب على الرسول أن يدعو الناس إلى اعتقاد التجسيم مع أنه باطل، وإلى اعتقاد معاد الأبدان مع أنه باطل، ويخبرهم بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، مع أن ذلك باطل؛ لأنه لا يمكن دعوة الخلق إلا بهذه الطريق التي تتضمن الكذب لمصلحة العباد. فهذا قول هؤلاء في نصوص الإيمان بالله واليوم الآخر .
وأما الأعمال : فمنهم من يقرها ، ومنهم من يجريها هذا المجرى ، ويقول: إنما يؤمر بها بعض الناس دون بعض، ويؤمر بها العامة دون الخاصة، وهذه طريقة الباطنية الملاحدة والإسماعيلية ونحوهم" . اهــ من : "الفتوى الحموية" .

وفي كل ذلك من هتك أستار النبوات ما لا يخفى ، وفيه من الإزراء ببيان الرسالات ما لا يحكى ، فــ : "إِنَّ الْمُتَفَلْسِفَةَ تَقُولُ: إنَّ الرُّسُلَ لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ بَيَانِ الْحَقَائِقِ لِأَنَّ إظْهَارَهَا يُفْسِدُ النَّاسَ وَلَا تَحْتَمِلُ عُقُولُهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ قَدْ يَقُولُونَ: إنَّهُمْ عَرَفُوهَا. وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: لَمْ يَعْرِفُوهَا. أَوْ أَنَا أَعْرَفُ بِهَا مِنْهُمْ ثُمَّ يُبَيِّنُونَهَا هُمْ بِالطُّرُقِ الْقِيَاسِيَّةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَهُمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/90) .
فــ : "هَذَا الْقَدْرُ بِعَيْنِهِ هُوَ عَيْنُ الطَّعْنِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ يُقِرُّ بِتَعْظِيمِهِمْ وَكَمَالِهِمْ: إقْرَارَ مَنْ لَا يَتَلَقَّى مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمًا فَيَكُونُ الرَّسُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ خَلِيفَةٍ: يُعْطِي السِّكَّةَ وَالْخُطْبَةَ رَسْمًا وَلَفْظًا كِتَابَةً وَقَوْلًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَمْرٌ أَوْ نَهْيٌ مُطَاعٌ. فَلَهُ صُورَةُ الْإِمَامَةِ بِمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ السِّكَّةِ وَالْخُطْبَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَقِيقَتُهَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/89) .
فصيروا النبوة اسما بلا مسمى ، ورياسة بلا سياسة ! ، فهي للتبرك المحض بنصوص معطلة ! . وذلك ، أيضا ، مما يروموه فلاسفة زماننا من منظري ومعتنقي المذاهب الأرضية المعاصرة فالنبوة عندهم محض أخبار وقصص ! ، لا أحكام وشرائع ملزمة .

فــ : "تَلْخِيصُ النُّكْتَةِ: أَنَّ الرُّسُلَ إمَّا أَنَّهُمْ عَلِمُوا الْحَقَائِقَ الْخَبَرِيَّةَ وَالطَّلَبِيَّةَ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِذَا عَلِمُوهَا: فَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ يُمْكِنُهُمْ بَيَانُهَا بِالْكَلَامِ وَالْكِتَابِ أَوْ لَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ وَإِذَا أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ الْبَيَانُ: فَإِمَّا أَنْ يُمْكِنَ لِلْعَامَّةِ وَلِلْخَاصَّةِ أَوْ لِلْخَاصَّةِ فَقَطْ. فَإِنْ قَالَ: إنَّهُمْ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَإِنَّ الْفَلَاسِفَةَ وَالْمُتَكَلِّمِين أَعْلَمُ بِهَا مِنْهُمْ وَأَحْسَنُ بَيَانًا لَهَا مِنْهُمْ؛ فَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا قَوْلُ الزَّنَادِقَةِ الْمُنَافِقِينَ ............. وَإِنْ قَالَ: إنَّ الرُّسُلَ مَقْصِدُهُمْ صَلَاحُ عُمُومِ الْخَلْقِ وَعُمُومُ الْخَلْقِ لَا يُمْكِنُهُمْ فَهْمُ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْبَاطِنَةِ فَخَاطَبُوهُمْ بِضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِيَنْتَفِعُوا بِذَلِكَ وَأَظْهَرُوا الْحَقَائِقَ الْعَقْلِيَّةَ فِي الْقَوَالِبِ الْحِسِّيَّةِ؛ فَتَضَمَّنَ خِطَابُهُمْ عَنْ اللَّهِ وَعَنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ: مِنْ التَّخْيِيلِ وَالتَّمْثِيلِ لِلْمَعْقُولِ بِصُورَةِ الْمَحْسُوسِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فِي أَمْرِ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَبِالْمَعَادِ. وَذَلِكَ يُقَرِّرُ فِي النُّفُوسِ مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ وَعَظَمَةِ الْيَوْمِ الْآخِرِ مَا يَحُضُّ النُّفُوسَ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَعَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ فَيَنْتَفِعُونَ بِذَلِكَ وَيَنَالُونَ السَّعَادَةَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِمْ وَاسْتِعْدَادِهِمْ؛ إذْ هَذَا الَّذِي فَعَلَتْهُ الرُّسُلُ هُوَ غَايَةُ الْإِمْكَانِ فِي كَشْفِ الْحَقَائِقِ لِعُمُومِ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَمَقْصُودُ الرُّسُلِ: حِفْظُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَإِقَامَةُ مَصْلَحَةِ مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ ، (فصيروا النبوة كأي شريعة محدثة وضعت لحفظ الحقوق وسياسة البشر ، فليس ثم قدر زائد من وحي نازل ، وذلك جار على أصلهم في جعل النبوة صناعة تكتسب ، فليست هبة من الرب ، جل وعلا ، لمن اصطفى من عباده ، والصحيح أن النبوة : وحي وسياسة فالدين قد أنزل ليحفظ وتحكم الدنيا به فتتأول أحكامه وشرائعه فلأجل لذلك شرعت الإمامة نيابة عن صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم في تنفيذ أحكامها وحفظ حدودها)" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/98 ، 99) .

فإما أنهم جهلوا ، وتلك مقالة أهل التجهيل ، فقد زعموا بأن الأنبياء عليهم السلام لم يعلموا الحق ، وإن نقلوا اللفظ ، فلم يفقهوا المعنى ! ، ويلتحق بأولئك أهل التفويض في الإلهيات فيفوضون الحقيقة والمعنى ، والصحيح تفويض الحقيقة في الخارج فلا يعلمها إلا الرب ، جل وعلا ، وأما المعنى فهو مما يدركه العقل ، وبه يكون التكليف في العلميات ، فلا يرد الوحي بمحال تأباه العقول الصريحات وإنما يرد بمحارات يجوزها العقل فيتصورها الذهن ، وإن لم يدرك حقيقتها في الخارج فيكون الابتلاء بالإيمان بالمعاني الجائزة وإن لم يدرك العقل الحقائق في الخارج ، فذلك حد الإيمان بالغيب في الوحي فليس إيمانا بمعدوم أو محال ترده العقول فيحصل الابتلاء للعقول بنقض قياسها الصريح كما يزعم أصحاب المقالات المحالة كالتثليث ونحوه ، فكمال التسليم والانقياد لا يكون بتعطيل العقل الصريح ، وإنما يكون بموافقة قياسه للنقل الصحيح ، فالتعارض بينهما محال ، فمرد الأمر إلى إثبات صحة الخبر نقلا ، ودرك معناه عقلا ، فيدرأ الناظر ما قد يتوهم ابتداء من تعارض العقل والنقل ، فذلك أمر لا يتصور ، فإن وقع فإما أنه وهم ، وإما أن النقل باطل ، أو العقل فاسد ، ومتى صح النقل وجب اتهام العقل ، فإن النقل ، كما تقدم ، يأتي بالمحار لا المحال ، والنقل إذا صح فهو ثابت لا يتطرق إليه الخطأ ، والعقل في المقابل متغير يتطرق إليه عارض النقص من الخطأ والجهل والنسيان والمرض ......... إلخ ، فقياس العقل الصريح قاض برد متشابه العقول إلى محكم النصوص .

فإما أنهم جهلوا وإما أنهم علموا وكتموا ! ، أو علموا وصوروا الأمر في أمثال محسوسة ، وتلك مقالة أهل التخييل كالفارابي وهو من غلاة المتفلسفة الذين فضلوا الفيلسوف على النبي ، فيقول : "إنَّ خَاصَّةَ النُّبُوَّةِ جَوْدَةُ تَخْيِيلِ الْأُمُورِ الْمَعْقُولَةِ فِي الصُّوَرِ الْمَحْسُوسَةِ ، أَوْ نَحْوُ هَذِهِ الْعِبَارَةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .
وابن سينا ، وإن كان أعقل منه في الجملة ، فلم يفضل الفيلسوف على النبي ، فــ : "كل كُلُّ عُقَلَاءِ الْفَلَاسِفَةِ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ ، (أي : النبي) ، أَكْمَلُ وَأَفْضَلُ النَّوْعِ الْبَشَرِيِّ وَأَنَّ جِنْسَ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ جِنْسِ الْفَلَاسِفَةِ الْمَشَاهِيرِ ثُمَّ قَدْ يَزْعُمُونَ أَنَّ الرُّسُلَ وَالْأَنْبِيَاءَ حُكَمَاءُ كِبَارُ وَأَنَّ الْفَلَاسِفَةَ الْحُكَمَاءَ أَنْبِيَاءُ صِغَارٌ وَقَدْ يَجْعَلُونَهُمْ صِنْفَيْنِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

فمع تفضيله النبي على الفيلسوف إلا أنه : "يَذْكُرُ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ وَيَقُولُ : مَا كَانَ يُمْكِنُ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ مَعَ أُولَئِكَ الْعِبْرَانِيِّينَ وَلَا يُمْكِنُ مُحَمَّدًا مَعَ أُولَئِكَ الْعَرَبِ الْجُفَاةِ أَنْ يُبَيِّنَا لَهُمْ الْحَقَائِقَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَعْجِزُونَ عَنْ فَهْمِ ذَلِكَ وَإِنْ فَهِمُوهُ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ انْحَلَّتْ عزماتهم عَنْ اتِّبَاعِهِ لِأَنَّهُمْ لَا يَرَوْنَ فِيهِ مِنْ الْعِلْمِ مَا يَقْتَضِي الْعَمَلَ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .
فلم يكن خطاب الكليم عليه السلام بأخبار التوراة وأحكامها ، وخطاب الأمين صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأخبار التنزيل وأحكامه إلا خدعة ! .

ولذلك تجد متفلسفة زماننا يعظمون هذا الطرح الشائه فهو ذريعتهم إلى إبطال الشرائع ، فثم فلاسفة عظام في دين الإسلام نقضوا أصوله وأحكامه ! ، فالتأويل بحر لا ساحل له ، فلم يسلم منه خبر أو حكم ، فكل النصوص تخضع لأهواء العقول وأذواق النفوس ، ولها في ذلك مذاهب تتعدد بتعدد الأهواء والأذواق فلأيها يرد الأمر إذا وقع النزاع ؟! .

وقد وقع ذلك في كلام بعض الأفاضل ممن غلوا في تقرير الدلالة العقلية القياسية ، كالرازي رحمه الله ، أو الذوقية الوجدانية ، كالغزالي رحمه الله ، فــ : "هَذَا الْمَعْنَى يُوجَدُ فِي كَلَامِ أَبِي حَامِدٍ الْغَزَالِيِّ وَأَمْثَالِهِ وَمَنْ بَعْدَهُ: طَائِفَةٌ مِنْهُ فِي الْإِحْيَاءِ وَغَيْرِ الْإِحْيَاءِ وَكَذَلِكَ فِي كَلَامِ الرَّازِي" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99) .

ووقع في كلام الأراذل من الاتحادية ومن وافقهم من المتكلمين ، وإن كانوا أحسن منهم حالا ومآلا فهم مؤمنون في الجملة وإن تعدوا في الإلهيات بتأويل محكم أخبار الصفات ، فــ : "أَمَّا الِاتِّحَادِيَّةُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ: فَعَلَيْهِ مَدَارُهُمْ وَمَبْنَى كَلَامِ الْبَاطِنِيَّةِ وَالْقَرَامِطَةِ عَلَيْهِ لَكِنَّ هَؤُلَاءِ يُنْكِرُونَ ظَوَاهِرَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ جَمِيعًا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/99 ، 100) .

وذلك نوع سفسطة في التصور فلا ينفع مع صاحبها مناظرة أو محاجة ، فــ : "الْمُنَاظَرَةُ وَالْمُحَاجَّةُ لَا تَنْفَعُ إلَّا مَعَ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ وَإِلَّا فَالظَّالِمُ يَجْحَدُ الْحَقَّ الَّذِي يَعْلَمُهُ: وَهُوَ الْمُسَفْسِطُ وَالْمُقَرْمِطُ أَوْ يَمْتَنِعُ عَنْ الِاسْتِمَاعِ وَالنَّظَرِ فِي طَرِيقِ الْعِلْمِ: وَهُوَ الْمُعْرِضُ عَنْ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ. فَكَمَا أَنَّ الْإِحْسَاسَ الظَّاهِرَ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ وَلَا يَقُومُ لِلْجَاحِدِ فَكَذَلِكَ الشُّهُودُ الْبَاطِنُ لَا يَحْصُلُ لِلْمُعْرِضِ عَنْ النَّظَرِ وَالْبَحْثِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/109) .

فالظالم قد نقض أصول الاستدلال ، فأنكر العلوم الضرورية التي أجمع عليها العقلاء ، وذلك أمر ظاهر ، قديما وحديثا ، في الطرائق الفوضوية ، فأصحابها ، كما تقدم ، يرومون الانخلاع من كل دين وتكليف ، فمن قيد التكليف الذي يرتفع بصاحبه إلى درجات العبودية الرفيعة إلى فضاء الفوضى التي تنحط بصاحبها إلى دركات الحيوانية الوضيعة ، بل قد ينزل صاحبها إلى دركة أسفل ، فلا منتهى لغواية بني آدم إذا ضلوا عن منهاج الوحي فهو العاصم للعقل من الشطط ، وهو العاصم للنفس من الخطأ ، فإذا ضل الإنسان عن الذكر ، أو تركه فلم يحفل به ، فأعرض ونأى بجانبه عنه ، فهو في ضلال علمي مبين وغي عملي عظيم ، فتفسد قوته العلمية فقد تصور اللذة فيما يفسد النفس ، بل وينقض بدائه الحس فيأتي من الأقوال ما ينقض العقل ، ويأتي من الأفعال ما ينقض الفطرة ، وقد رأينا في زماننا في بلاد الشرق المسلم ، وهي مهبط الوحي ومجمع النبوة فإليها تأرز العقائد الصادقة والشرائع العادلة التي تغتذي بها النفوس تصورا وحكما فتغتذي بخبرها الصادق فذلك مدد الجنان وتغتذي بحكمها العادل فذلك مدد الأركان فليس ثم حاجة إلى مدد آخر من مقالات علمية باطلة أو طرائق عملية فاسدة تكاد تصل إلى حد الجنون فصاحبها قد زال عقله التوفيقي فضل في القول والعمل وإن لم يزل عقله التكليفي فهو مخاطب بالعقد والشرع ، رأينا في زماننا في بلاد الشرق : أقوالا عجيبة وأحوالا غريبة ، بلغت حد التحلل من كل قيمة ، ولو أخلاقية بدهية أو عرفية اجتماعية فضلا عن أن تكون شرعية ! ، وهي تندرج في حد الفوضوية تارة ، وتأرز من وجه آخر إلى الطرح الليبرالي ، فلازمه الفوضى الدينية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية ....... إلخ ، فتلك الفوضى الخلاقة التي بشر بها ساسة الغرب ، فأصغى لها بعض الشبيبة في الشرق المسلم فظهرت ديانات جديدة ! ، طقوسها إمعان في نقض الفطر وإبطال الشرائع ، وظهرت أخلاق جديدة تلتذ بنقض الناموس الشرعي ، وهو أعدل ناموس بإقرار أعظم مخالفيه من الفلاسفة الذين أبطلوا رسمه العملي لمن بلغ رتبة الكمال العلمي ، فقد : "اتَّفَقَ فَلَاسِفَةُ الْعَالَمِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْرَعْ الْعَالَمَ نَامُوسٌ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا النَّامُوسِ الْمُحَمَّدِيِّ" . اهــ من كلام ابن سينا نقلا عن : "مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

فإذا كانت تلك شهادة من أبطل الناموس ! ، فهو شاهد بعدله وفضله ، فقد جاء بأصدق تكليفي خبري وأعدل تكليف حكمي ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا ، فكيف صح في الأذهان أن يرضى عاقل بنقض الشرائع ؟! ، فيتحلل من عقدها العلمي أو حكمها العملي ، وغالبا ما يقترنان ، فليس في دين الإسلام ذلك الفصام النكد بين العلم والعمل ، فكلاهما يشهد للآخر ، فالعلم سبب في وجود العمل ، فــ : (اعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، فذلك العلم ، و : (اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فذلك العمل ، والعمل من وجه آخر سبب في رسوخ العلم ، فالباطن ينتج الظاهر ، صح أو فسد ، والظاهر يشهد للباطن صدَّق أو كذَّب ، فــ : (لَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى) ، فاقترن فساد الباطن بالتكذيب لخبر الشارع ، جل وعلا ، بفساد الظاهر فصاحبه قد هجر حكم التكليف الآمر ، فــ : (كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ، فكذب فهو لازم عدم التصديق ، وتولى فهو لازم نقض التشريع ، ففسد العلم الباطن والعمل الظاهر ، على ما تقرر مرارا ، من التلازم الوثيق بينهما ، فذلك أصل المسألة ، فإن أولئك قد فسد تصورهم لمعنى اللذة ، فصارت عندهم ذريعة إلى الفوضى ، فيرمون تحصيل أي لذة ولو أعقبها من الألم ما ينسي حلاوتها ، فلما فسد التصور إذ لم يغتذ صاحبه بالخبر الصادق الذي أبان عن حقيقة اللذة في دار الابتلاء ، فهي عارضة فلا تدوم ، فــ : "أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ" ، وأشرف أجناسها فهو الباقي : ذكر الرب الهادي ، تبارك وتعالى ، فليس ثم طمأنينة للقلب إلا به ، فــ : (مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) ، واسأل من خاض في بحور الشبهات فتنقل بين المقالات أوجد ضالته إلا في التوحيد ؟! ، فلسان مقال الجويني ، رحمه الله ، حال الاحتضار : "لَقَدْ خُضْت الْبَحْرَ الْخِضَمَّ وَخَلَّيْت أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَعُلُومَهُمْ وَدَخَلْت فِيمَا نَهَوْنِي عَنْهُ. وَالْآنَ: إنْ لَمْ يَتَدَارَكْنِي رَبِّي بِرَحْمَتِهِ فَالْوَيْلُ لِابْنِ الجُوَيْنِي وَهَا أنذا أَمُوتُ عَلَى عَقِيدَةِ أُمِّي - أَوْ قَالَ -: عَقِيدَةِ عَجَائِزِ نَيْسَابُورَ" . اهــ
نقلا عن : "مجموع الفتاوى" ، (4/73) .

واسأل من خاض في بحور الشهوات أوجد لذته إلا في الطاعة ؟! ، وذلك أمر أقر به من هدي إلى الحق ، فعجبا لمن ورث الحق فلم يقدره حق قدره إذ لم يجهد في تحصيله ولم يبذل لنيله ، فجاءه بلا كلفة ، فزهد فيه بل وبذله ثمنا للضلالة والغواية ، ففسدت حاله علما وعملا ، وأتى بما يزري بالعقلاء ، فضلا عن المؤمنين الشرفاء ، و : (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، فــ :
"سُبْحَانَ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ نَوْعِ الْإِنْسَانِ؛ فَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ أَفْضَلَ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ مِنْهُ مَنْ هُوَ شَرٌّ مِنْ الشَّيَاطِينِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/357) .

والشاهد أن كل من ضل في هذا الباب إنما أُتِي من قبل عقله أو ذوقه ، فرضي بالباطل والتذ بالفاسد ، فظن السعادة مما يدرك بإجابة داعي الهوى والشهوة ، ففساد في العقل باتباع الأهواء ، فذلك سبب الضلال : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) ، وفساد في النفس باتباع الشهوات وهجر الطاعات فهما متلازمان ، فــ : (خَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) ، فأضاعوا الصلاة فضلوا عن الحق ، واتبعوا الباطل ، لزوما لا انفكاك عنه في العقل والطبع ، فاتبعوا الشهوات ، فحالهم في الدنيا ضنك إذ قد أعرضوا عن الذكر ، ومآلهم في الآخرة أنهم : (سَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، وبعض آخر ظن السعادة واللذة إنما تنال بالعلم المجرد دون العمل المصدِّق ، فــ : "لَا يُنْكِرُونَ الْعَمَلِيَّاتِ الظَّاهِرَةَ الْمُتَوَاتِرَةَ لَكِنْ قَدْ يَجْعَلُونَهَا لِعُمُومِ النَّاسِ لَا لِخُصُوصِهِمْ كَمَا يَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْخَبَرِيَّةِ. وَمَدَارُ كَلَامِهِمْ: عَلَى أَنَّ الرِّسَالَةَ مُتَضَمِّنَةٌ لِمَصْلَحَةِ الْعُمُومِ عِلْمًا وَعَمَلًا. وَأَمَّا الْخَاصَّةُ فَلَا. وَعَلَى هَذَا يَدُورُ كَلَامُ أَصْحَابِ " رَسَائِلِ إخْوَانِ الصَّفَا " وَسَائِرِ فُضَلَاءِ الْمُتَفَلْسِفَةِ. ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يُوجِبُ اتِّبَاعَ الْأُمُورِ الْعَمَلِيَّةِ مِنْ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَهَؤُلَاءِ كَثِيرُونَ فِي مُتَفَقِّهَتِهِمْ ومتصوفتهم وَعُقَلَاءِ فَلَاسِفَتِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/100) .

ففي قياسهم غنية عن بيان الوحي ! ، فيقدم الظني من قياس العقول في الأخبار فالقياس فيها ممتنع ومآله التمثيل والتعطيل معا فيقيس الخالق ، جل وعلا ، على المخلوق فذلك من قياس التمثيل المحظور في الإلهيات وهو من قياس الغائب على الشاهد ففيه قدر فارق يبطل القياس فإذا أنتج حكما فاسدا بتشبيه الخالق ، جل وعلا ، بالخلق فذلك تعطيل له عن كماله من وجه وهو ذريعة إلى نفي تلك الصورة الشائهة من وجه آخر وغالبا ما يتعدى النافي في نفيه فينفي الباطل وينفي الحق معه فيقع في النفي للحق فرعا على الإثبات للباطل ابتداء ، فمن قال بأن إثبات الوصف للخالق ، جل وعلا ، معنى مطلقا في الذهن يستلزم تشبيهه بالخلق فالتشبيه إنما يكون في الحقائق في الخارج لا في المعاني في الذهن ، أو الأحكام فيعتبر العقل بهواه : مصلحة لم يعتبرها الشارع ، جل وعلا ، بل قد ألغاها ، فنص على خلافها فلم يتركها مرسلة لتتفاوت فيها الأنظار فيسوغ فيها الخلاف قبولا أو ردا ، فيقدم الظني منهما على القطعي من نص الوحي فقد أبان عن معاني الأخبار الإلهية وحدود الأحكام الشرعية ، فمنها التعبدي المحض فلا يقاس عليه كالأخبار فمناطه غير معلوم وإن كان غير معدوم ، ومنها ما يعلم مناطه من الأحكام العملية فيقاس عليه من الفروع الحادثة ما تحقق فيه المناط فيلحق بالأصل في الحكم فرعا على التحاقه به في العلة .

فالمتفلسف قديما وحديثا يقدم قياسه أو ذوقه على خبر الوحي أو حكمه ، فالأمر يعم سائر العلميات الخبرية والعمليات الشرعية ، فحال أولئك المتفلسفة : فسادٌ في الرواية أو الدراية فــ : "الْأَمْرُ رَاجِعٌ إلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا رَيْبٌ فِي الْإِسْنَادِ أَوْ فِي الْمَتْنِ: إمَّا لِأَنَّهُمْ يُضِيفُونَ إلَى الرَّسُولِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَالَهُ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَيَجْعَلُونَ مُقْتَضَاهَا الْعِلْمَ وَإِمَّا لِأَنَّهُمْ يَجْعَلُونَ مَا فَهِمُوهُ مِنْ اللَّفْظِ مَعْلُومًا وَلَيْسَ هُوَ بِمَعْلُومِ لِمَا فِي الْأَدِلَّةِ اللَّفْظِيَّةِ مِنْ الِاحْتِمَالِ. وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا عُمْدَةُ كُلِّ زِنْدِيقٍ وَمُنَافِقٍ يَبْطُلُ الْعِلْمُ بِمَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ. تَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ وَتَارَةً يَقُولُ: لَا نَعْلَمُ مَا أَرَادُوا بِهَذَا الْقَوْلِ. وَمَتَى انْتَفَى الْعِلْمُ بِقَوْلِهِمْ أَوْ بِمَعْنَاهُ: لَمْ يُسْتَفَدْ مِنْ جِهَتِهِمْ عِلْمٌ فَيَتَمَكَّنُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ مَا يَقُولُ مِنْ الْمَقَالَاتِ وَقَدْ أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُعَارَضَ بِآثَارِ الْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ ثَغْرَهَا بِذَيْنِك الدامحين الدَّافِعَيْنِ لِجُنُودِ الرَّسُولِ عَنْهُ الطَّاعِنَيْنِ لِمَنْ احْتَجَّ بِهَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (3/89) .
فحالهم دائرة بين القدح في نقل الوحي روايةً ، وفهم الرسالة درايةً ، فــ : "الزَّنَادِقَةُ مِنْ الْفَلَاسِفَةِ وَالْنُصَيْرِيَّة وَغَيْرِهِمْ: يَقْدَحُونَ تَارَةً فِي النَّقْلِ: وَهُوَ قَوْلُ جُهَّالِهِمْ. وَتَارَةً يَقْدَحُونَ فِي فَهْمِ الرِّسَالَةِ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَّاقِهِمْ كَمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ أَكَابِرُ الْفَلَاسِفَةِ والاتحادية وَنَحْوِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/102 ، 103) .

وتلك ، أيضا ، حال أصحاب المذاهب المعاصرة ممن راموا نقض الشريعة بالهوى والذوق فلن يتوصلوا إلى ذلك إلا بالطعن في النقل فهو باطل ، فيوصدون الباب ابتداء ! ، ومن اضطر منهم إلى دخوله فإنه يطعن في الفهم فهو فاسد ، كما يقع الآن من أصحاب فكر الحداثة ، فلبعضهم عناية بالتراث ! ، فليس وحيا وإنما هو إرث فكري يخضع لمعايير النقد العقلي والذوقي ، فما استحسن منه قبل ، وما استقبح منه رد ، فصار العقل هو الحكم ، وصار الوحي ، كأي نص ، محكوما يخضع لمعايير متغيرة ، فلكل عقل وذوق في النقد ، فكيف يرد الأمر إلى معيار متغير مضطرب ، وإنما تكون السلامة برد الأمر إلى المعيار الثابت المطرد ، فــ : (مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ، والمعيار الذي أجمع عليه العقلاء من أصول الرواية والدراية قد شهد ، بإقرار المخالف فضلا عن الموافق ، بأن هذا الناموس ، كما تقدم ، هو أصح النواميس نقلا وأعدلها حكما ، فــ : (تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، فصدقا في الأخبار وعدلا في الأحكام كما أثر عن بعض أهل العلم .

ولازم الطعن في النقل أو الفهم : الطعن في الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، فإن فحوى الرسالة : أخبار وأحكام بفهم خير الأنام بعد الرسل الكرام ، عليهم السلام ، فــ : "الصَّحَابَةُ كَانُوا يَعْلَمُونَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ. وَفِيمَا جَاءَ بِهِ بَيَانُ الْحُجَّةِ عَلَى بُطْلَانِ كُفْرِ كُلِّ كَافِرٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ بِقِيَاسِ صَحِيحٍ أَحَقُّ وَأَحْسَنُ بَيَانًا مِنْ مَقَايِيسِ أُولَئِكَ الْكُفَّارِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا} أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَأْتُونَهُ بِقِيَاسِ عَقْلِيٍّ لِبَاطِلِهِمْ إلَّا جَاءَهُ اللَّهُ بِالْحَقِّ وَجَاءَهُ مِنْ الْبَيَانِ وَالدَّلِيلِ وَضَرْبِ الْمَثَلِ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ تَفْسِيرًا وَكَشْفًا وَإِيضَاحًا لِلْحَقِّ مِنْ قِيَاسِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/106) .

فلن يُسَلِّمَ متفلسف قديم أو حديث ، بل وأي طاعن في الدين ، بعدالة الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، وإن عدلهم رب العالمين ، جل وعلا ، في محكم تنزيله ، وعدلهم رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في محكم مقاله ، فــ : "كَذَلِكَ ابْنُ سِينَا وَغَيْرُهُ: يَذْكُرُ مِنْ التَّنَقُّصِ بِالصَّحَابَةِ مَا وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ وَشِيعَتِهِ الْقَرَامِطَةِ؛ حَتَّى تَجِدَهُمْ إذَا ذَكَرُوا فِي آخِرِ الْفَلْسَفَةِ حَاجَةَ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى الْإِمَامَةِ عَرَّضُوا بِقَوْلِ الرَّافِضَةِ الضُّلَّالِ لَكِنَّ أُولَئِكَ يُصَرِّحُونَ مِنْ السَّبِّ بِأَكْثَرِ مِمَّا يُصَرِّحُ بِهِ هَؤُلَاءِ .
وَلِهَذَا تَجِدُ بَيْنَ " الرَّافِضَةِ " " وَالْقَرَامِطَةِ " " والاتحادية " اقْتِرَانًا وَاشْتِبَاهًا. يَجْمَعُهُمْ أُمُورٌ. مِنْهَا: الطَّعْنُ فِي خِيَارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَفِيمَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَفِيمَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِ الْمِلَّةِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَيَدَعُونَ بَاطِنًا امْتَازُوا بِهِ وَاخْتَصُّوا بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُمْ ثُمَّ هُمْ مَعَ ذَلِكَ مُتَلَاعِنُونَ مُتَبَاغِضُونَ مُخْتَلِفُونَ كَمَا رَأَيْت وَسَمِعْت مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يُحْصَى كَمَا قَالَ اللَّهُ عَنْ النَّصَارَى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وَقَالَ عَنْ الْيَهُودِ: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/103 ، 104) .

فتعديلهم يستلزم جرحه وإبطال مقاله ، فإنه ما أقام بنيانه إلا على أنقاضهم ، فنقض قولهم ابتداء ثم أسس بنيانه على شفا جرف هار من قياس فاسد أو ذوق باطل يستحسن ما لم يستحسنه الشرع ويستقبح ما لم يستقبحه ، فانهار به في دركات الشبهات العلمية والشهوات الإرادية ، ففسدت حاله ابتداء فقد أسس بنيانه : (عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ) ، وفسد مآله انتهاء فقد : (انْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .

فلسان حالهم وربما مقال الغلاة منهم أنهم قد بلغوا ما لم يبلغه الصدر الأول ، رضي الله عنهم ، من أسباب العلم والعمل ، فــ : "هَذِهِ الْمَقَالَاتُ لَا تَجِدُهَا إلَّا عِنْدَ أَجْهَلِ الْمُتَكَلِّمِينَ فِي الْعِلْمِ وَأَظْلَمِهِمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَكَلِّمَةِ والمتفلسفة وَالْمُتَشَيِّعَةِ والاتحادية فِي " الصَّحَابَةِ " مِثْلُ قَوْلِ كَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَالْمُتَأَمِّرَةِ: أَنَا أَشْجَعُ مِنْهُمْ وَإِنَّهُمْ لَمْ يُقَاتِلُوا مِثْلَ الْعَدُوِّ الَّذِي قَاتَلْنَاهُ وَلَا بَاشَرُوا الْحُرُوبَ مُبَاشَرَتَنَا وَلَا سَاسُوا سِيَاسَتَنَا وَهَذَا لَا تَجِدُهُ إلَّا فِي أَجْهَلِ الْمُلُوكِ وَأَظْلَمِهِمْ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (4/105) .

والله أعلى وأعلم .