د. هشام عزمي
02-22-2012, 08:23 PM
عن المحبة واللذة
بقلم الأخ مهاجر
المريض الذي فسد تصوره للغاية وهي المراد ، فأراد نيل لذته العاجلة من مطعوم أو مشروب وإن كان فيها هلاكه ، قد جمع بين فساد التصور وضعف الإرادة فلم يصبر على شهوة ساعة أورثته ألما قد يطول بل قد يكون فيه هلاكه ، فالعلم علم تصور للموجود ، فهو العلم الذي يسبق العمل ، فيتصور الواقع الموجود ، فذلك العلم الانفعالي الذي يؤثر في النفس حركة وإرادة ، فتتحرك طلبا للواجب المقصود ، فعلمها به :
علم الفعل فهو مؤثر في إيقاع المفعول على ما قد قدر الرب المعبود ، جل وعلا ، فــ : "الكلام هنا في فصلين : الواقع الموجود ، والواجب المقصود .
أما الأول : فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا ، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام" ، فالحارث : الكاسب العامل ، والهمام : صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد ...... فــ : طلبُ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره ، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه ، لا يكون مطلوبَ نفسه ........ فــ : المخلوق كما لا يكون فاعلاً ، لا يكون مطلوبًا ، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله ، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ ، وحظ ونصيب ، لا يمكن غير ذلك ، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين" . اهــ
بتصرف من : "جامع المسائل" ، (6/8) .
فلا يتصور عاقل أن يتحرك حي حساس مريد فضلا عن أن يكون عاقلا مكلفا ، لا يتصور أن يتحرك بلا هدف ! ، ولا يتصور أن يتحرك ذو عقل إلا لما يظن فيه لذته فيتحرك إليه تحرك المحب طلبا لمحبوبه ، وإن لم يكن كذلك بالفعل فقد يتحرك إلى ما فيه عين هلاكه فالبغض به أليق ولكنه لفساد تصوره قد ظن فيه صلاحه فأحبه جهلا بعاقبته الآجلة واغترار بلذته العاجلة كطالب شهوة محرمة من مطعوم أو منكوح ...... إلخ ! .
فموارد الحق كما تقدم : "الواقع الموجود ، والواجب المقصود" ، وذلك مراد الشارع ، جل وعلا ، فالعلم بالواقع على ما هو عليه : تصور صحيح ، وذلك مئنة من كمال القوة العلمية ولا ينال ذلك إلا بتلقي الخبر الديني من مشكاة النبوة ، وتلقي الخبر الطبيعي من موارد البحث التجريبي الذي كان لأهل الإسلام فيه ريادة ، فقد جمع الإسلام في إهابه : موارد العلم الإلهي ، والعلم الطبيعي فلم يجر عليه ما جرى على بقية المقالات دينية كانت أو علمانية ، فكلها قد وقع فيه من الفصام النكد بين موارد الدين وموارد الدنيا ما وقع ، فوقع التعارض في الطرح الكنسي : بين العلم الإلهي فهو مبدل ، والعلم الدنيوي في بواكير عصر النهضة ، فهذا طرح غلَّب جانب الدين فقهر العقل على قبول المحال وتكذيب العيان من نتائج البحث التجريبي في الطبيعيات لأن صاحبه قد خرج عن أمر الكنيسة فعارض علومها ولو كانت محض فروض لا أساس لها من الصحة فهي محض تخرض وظن لا يستند إلى دليل من وحي شرعي صحيح أو حس تجريبي سليم ، ومال إلى طرح الإسلاميين الذين نفذ شعاع حضارتهم الساطع لينير سماء القارة العجوز فكانت الجزيرة الأندلسية الحبيبة همزة وصل بين الشرق المنير ففي سمائه قد سطعت شمس النبوات فحظي بخاتم الرسالات ، والغرب المظلم الذي استفاد نوع تنوير من حضارة دين التوحيد فحمل العلم التجريبي الأدنى وأبى في تعصب وتحكم عجيب أن يحمل العلم الشرعي الأعلى فهو ، لو تدبروا ، معدن ما حملوه من خلاق الدنيا ، فتمسكوا بأهداب الفروع من علوم تأتي نافلة بعد فريضة العلم الديني الصحيح فالمنة به أعظم فهو الذي يصحح التصور والحكم ، فصاحبه أفطن الناس لموارد الحق في الإلهيات والطبيعيات معا ، فكان رد الفعل غلوا في الطرف الآخر بنبذ مقال الدين صح أو فسد ، وتعظيم مقال العلم التجريبي دون ضابط شرعي ، فلا ينتفع به إن ضل صاحبه عن موارد الوحي الصحيح كما وقع في الطرح العلماني المعاصر ، فقد غلب جانب العقل في مقابل تغليب الكنيسة جانب النقل ، فلم يحسم النزاع بين الموردين إلا الدين الخاتم بوحيه الصحيح المحفوظ فنقله صحيح سالم من المعارضة ، فلا يعارض ، بداهة ، موارد العقل الصريح ، فــ : "مَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ رَسُولٌ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا تُخْبِرُ بِمَا لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَالرُّسُلُ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/184) .
و : "الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لَا بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .
فلا بد أن يعتاض الزاهد في الشريعة بطريقة تعارضها من هوى أو ذوق لا مستند لها فهي محض تخرص وظن يعارض به قطعي الوحي الصحيح الصريح السالم من المعارضة فأي نقض لقياس العقل الذي يقضي بتقديم القطعي على الظني ، فكيف بالوهمي ؟! ، أي نقض لقياس العقل أعظم من ذك ؟! .
فالنقل : أصل خالص ، والعقل : تابع ناصح يؤيد متبوعه بقياس صريح يشهد لنقل الوحي الصحيح فلا تعارض بينهما كما تقدم .
فهذا العلم الصحيح الذي يؤدي إلى تحصيل : الواجب المقصود ، فتكتمل موارد الحق ، علما وعملا ، فمورد العلم قد وافق الخبر ، ومورد العمل قد وافق الشرع ، فاكتملت قوى التكليف : تصورا وحكما ، بوارد الوحي : خبرا وشرعا ، فهو الحق الخالص بقسميه : الواقع العلمي الصادق والمقصود العملي النافع ، ونظيره من الباطل المنفي : المعدوم فيقابل الواقع الموجود ، وما لا ينفع من فاسد الإرادات والأحوال وما يلزم منها في الخارج من فاسد الأقوال والأعمال ، فالقسمة ثنائية تستغرق موارد التكليف : علما وعملا ، فــ : حق وباطل ، وكلاهما ينقسم في الخارج إلى : علم وعمل ، فــ :
"الْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمَوُجُودُ الثَّابِتُ .
وَالثَّانِي : الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : {الْوِتْرُ حَقٌّ} .
وَالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا :
أَحَدُهُمَا : الْمَعْدُومُ . وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ .
الثَّانِي : مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ : {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ : إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ : فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ" . اهــ
بتصرف يسير من : "مجموع الفتاوى" ، (2/415 ، 416) .
فلا يخلو حي من إرادة صحت أو فسدت ، فــ : "الْإِنْسَانُ لَا يحب الشَّيْء ويريده حَتَّى يكون لَهُ بِهِ شُعُور أَو إحساس أَو معرفَة وَنَحْو ذَلِك وَيكون مَعَ ذَلِك بِنَفسِهِ إِلَيْهِ ميل وفيهَا لَهُ حب وكل وَاحِد من هَاتين الْفرْقَتَيْنِ فِي فطرته وجبلته الْمعرفَة والمحبة وَلِهَذَا كَانَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فطْرَة الْإِسْلَام وَهِي عبَادَة الله وَحده وأصل ذَلِك مَعْرفَته ومحبته" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/398) .
فالشعور العلمي الذي يحدثه الوارد الخبري يولد في النفس ضرورة : حركة محبة تقضي بلازمها ضرورة من البغض ، فإن الإنسان لا ينفك عن محبة ما ينفعه ، وبغض ما يضره ، فهما متلازمان شرعا وعقلا ، فمحبة الشيء تقضي لزوما ببغض ضده ، فمن أحب الحق كره الباطل ، ومن آمن بالرحمن ، جل وعلا ، كفر بالشيطان ، ومن عظم الوحي حقر ما يعارضه من معقول باطل أو موجود فاسد ، فلا يعارض خبر ربه ، جل وعلا ، وحكمه ، بقياس عقله أو ذوق نفسه ، فذلك تأويل النهي الجازم في قول الرب الشارع جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فلا بد أن يولد الشعور العلمي في القلب : ميلا إلى الشيء فيحب ، وميلا عن ضده فيبغض ، فيتحرك القلب بما فيه حياته من حركات المحبة والبغض ، فتلك رسوم الحياة الباطنة فيتحرك القلب بأجناس المشاعر والإرادات فتلك علامة حياة الباطن ، كما يتحرك الظاهر بأجناس الأقوال والأفعال الاختيارية فتلك علامة حياة الظاهر ، فمن سوى بين الأشياء فأحب كل شيء ، كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد فقد أتى بما ينكره العقل بل والحس ضرورة فصاحبه مسفسط ينكر البدهيات ، فكيف يحب جميع الأشياء وفيها ما يضره بمقتضى العقل والفطرة فضلا عن الشرع ، فذلك معنى أجمع عليه العقلاء ، ولو قبل ورود الشرائع ، فالعقول تدرك ضرورة أن من الأشياء ما ينفعها كالمطعوم والمشروب فتحبه وتحكم بحسنه وإن لم تستقل ببيان حكمه ، وتدرك في المقابل أن من الأشياء ما يضرها كالسم والتردي من شاهق ...... إلخ ، فتبغضه وتحكم بقبحه وإن لم تستقل ، أيضا ، ببيان حكمه ، فلا حياة للإنسان إلا بمحبوب يباشره ، ومكروه يجانبه ، ولا ينكر ذلك عاقل فهو من ضرورات القياس وبداهات الإحساس ، فمن سوى بين الموردين فجعل الجميع مرادا محبوبا سواء ضر أو نفع فقد ناقض ناموس الشرع الصحيح الذي يأمر وينهى فإذا كان الجميع محبوبا فعلام الأمر والنهي والجميع مراد الرب ، جل وعلا ، ما حسن وما قبح ، وذلك ما يفتح باب زندقة وانحلال واسع ولج منه من سوى بين المتباينات الحكمية فصير جميع الأفعال مشروعة وتعدى بعد ذلك فولج باب الاتحاد فصير جميع الأعيان طاهرة محبوبة بل وجعلها واحدا في الشخص هو ذات الرب ، جل وعلا ، فاتحد بذات الإله كما يقول أصحاب الضلال من أرباب الملل الباطلة لا سيما التي تعنى برسوم الرياضة والرهبنة من بوذية وديانات هندية وثنية وما يتفرع عليها الآن من مقالات حادثة تقوم على التأمل العميق إرادة التأثير في الكون ! ، فضلا عن المقالات الأرضية كمقالة الرومانسية التي تعنى بالطرح الصوفي الذي يفنى في حب الطبيعة فهي الإله المعبود كما نوه بذلك بعض الفضلاء في معرض تناول الطرح الأوروبي الذي يتسم بقدر كبير من التناقض والتعارض بل والتضاد في ردود الأفعال فلم تعرف أوروبا اتزانا فكريا وإنما تأرجحت بين الأضداد على نحو يشي بفساد الأقوال والأحوال فمن أبيقورية شهوانية تغرق في الماديات إلى رواقية زهدية هي على الضد تزدري المحسوس وتغلو في تأمل المعقول على وزان الديانات الوضعية ذات الصبغة الفلسفية كالبوذية ، ومن كلاسيكية معاصرة إلى رومانسية تحلق في سماء المثالية الجوفاء حتى صار لقب "الرومانسي" مما يطلق في معرض التندر بحال الشخص الحالم الذي يفنى في محبوبه فتصدر منه أقوال وأفعال تثير التعجب وربما السخرية ! ، ومن ثم ارتد العقل الحالم إلى أرض الواقع فانتهج رسم الواقعية التي عنيت برصد حقائق الحياة على نحو فج تقصد أصحابه مضادة الأديان والأعراف فذلك من آثار المعركة الفكرية التي دارت بين الكنيسة والعقل في بواكير عصر النهضة فلا تعدو تلك الواقعية التي انحطت بصاحبها إلى دركات الإسفاف كما هي الحال الآن في الطرح الإعلامي المعاصر الذي يتذرع بالواقعية ليعرض سواءات المجتمعات على نحو فج فلا يروم الإصلاح وإنما يروم استباحة الفواحش والتهوين من شأن ذلك لتشيع الفاحشة في المجتمعات الإسلامية المحافظة فصاحبه من أهل الوعيد في قول الرب الجليل تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ، فمن ولج باب الاتحاد فإنه يسوي بين الأعيان فكلها من عين واحدة قد صدرت ، لا على جهة الخلق ، فذلك معنى يصح من وجه فالمخلوقات كلها قد صدرت من الخالق ، جل وعلا ، صدور المخلوق من خالقه ، فكونها بكلماته التكوينية النافذة ، فلم يرد الاتحادي ذلك ، وإنما أراد صدور المخلوق من الخالق على جهة الحقيقة : فحقيقة المخلوق جزء من حقيقة الخالق ! ، وهو مع ذلك يصير جميع الأديان صحيحة فيسوي بين التوحيد والتثليث وسائر رسوم الكفر والتشريك فالجميع من عين واحدة قد صدر ! ، فوحدة في الأعيان وأخرى في الأديان يحتفي بها الغرب الآن فهي لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ، والطرح الليبرالي المعاصر يسير على نفس المنهاج وإن لم يقل بمقال الاتحاد ، من كل وجه ، فيطلق الحريات برسم الإقرار لكل دين ومسلك ، وذلك مذهب يفسد الدين والدنيا معا ، فأوله إبطال للتكليف الشرعي بالتذرع بالجبر ، فلا اختيار للمكلف في فعله حسن أو قبح فعلام اللوم وهو مجبر لا إرادة له في إيقاع ما يقول ويفعل ؟! ، وذلك مذهب يكفي تصوره أو فرضه في الذهن ، يكفي مجرد ذلك لإبطاله فهو ينقض القياس والحس فضلا عن مناقضته لموارد الوحي الذي أثبت للمكلف اختيارا صحيحا فهو مورد التكليف الذي يثاب المكلف عليه ويعاقب ، فــ : (مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فأثبت المشيئتين ، فلا يقع الفعل إلا بمشيئة الرب ، جل وعلا ، قدرا كونيا ، ومشيئة العبد سببا من جملة الأسباب المؤثرة في إيقاع الفعل في الخارج فلا يقع إلا بجملة أسباب تثبت وجملة موانع في المقابل تنتفي ، فيفسد هذا المذهب أمر الدين بل وأمر الدنيا فهو حجة لكل من ظلم وتعدى فله أن يحتج بالجبر وبأن الجميع مراد الرب ، جل وعلا ، فهو مما يحب ويرضى ، ولو ظلما وفحشا ، فيسوي صاحبه بين المراد الكوني والمراد الشرعي ، ثم يلج بعد ذلك إلى مقالة الاتحاد الأفحش في قياس العقل الصريح الذي يقضي ، كما تقدم ، بالتسوية بين المتماثلات في الأحكام ، فللمؤمن حكم المؤمن في الأديان ، وللطاهر حكم الطاهر في الأعيان ، وإن تباينا في الخارج بداهة فعين زيد تباين عين عمرو ، فلكلٍ وجود وحكم في الخارج وإن اشتركا في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، ولله المثل الأعلى فبينونة ذاته القدسية من سائر الذوات الأرضية تثبت من باب أولى ، وإن وقع الاشتراك في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، كما تقدم ، فشتان وجود واجب الوجود الأول فليس قبله شيء ، الآخر ، فليس بعده شيء ، تبارك وتعالى ، ووجود المخلوق الحادث فهو بالعدم مسبوق وبالفناء ملحوق فضلا عما يعتريه من أعراض النقص فسنة ونوم ولغوب ومرض وهرم وموت وجوع وعطش ...... إلخ وكل أولئك مما تنزه عنه الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فهو السلام القدوس فتنزه عن كل نقص وسلم من كل عيب وقدح ، وهذا قدر فارق رئيس بين مقالة التوحيد : مقالة النبوة الجامعة التي نزهت الرب ، جل وعلا ، عن كل عيب ونقص ، وسائر المقالات سواء أكانت سماوية مبدلة أم أرضية محدثة فلا تنفك عن شوب قدح في ذات ووصف الرب ، جل وعلا ، والشاهد أن هذا مقال يعارض ناموس الدين بل وقانون الكون ، فأصحابه :
"أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ جَمِيعِ رُسُلِهِ بَلْ أَعْدَاءُ جَمِيعِ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَعْدَاءُ أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطْرُدَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ إذْ لَازَمَهُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ ظُلْمَ ظَالِمٍ وَلَا يُعَاقِبُ مُعْتَدٍّ وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيءٍ لَا بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَاءِ أَنْفُسِهِمْ لِرَفْعِ الْمَلَامِ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ لَهُمْ هَذَا مَعَ أَحَدٍ قَابَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ظَلَمَةٌ جُهَّالٌ مِثْلُ السَّبُعِ الْعَادِي يَفْعَلُونَ بِحُكْمِ الْأَهْوَاءِ الْمَحْضَةِ وَيَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْمَلَامَ وَالْعَذَلَ أَوْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ وَبِمُلَاحَظَةِ الْقَدْرِ النَّافِذِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَآذَاهُمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِهِمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ: فَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/410 ، 411) .
فلا تنفك النفس عن هذه الحركة القلبية التي تولد في النفس إرادة ، فترغب في المحبوب وترغب في المقابل عن المكروه ، وذلك تسلسل صحيح في الشرع والعقل فــ : علم يولد في القلب محبة تولد في النفس إرادة تولد في الخارج قولا وفعلا ، فتكتمل أجزاء الصورة التصورية الإرادية الباطنة ، القولية الفعلية الظاهرة ، فهي تأويل ما ركز الرب ، جل وعلا ، في النفس من قوى العلم النظري والعمل الإرادي ، ولذلك كان الإيمان المرضي مستغرقا لتلك الأجزاء فعقد باطن يستمد من الوحي ، يولد في القلب محبة للحق فيحب العبد الرب ، جل وعلا ، فتلك دعوى ، تصدقها الإرادة فتتولد في نفسه إرادة الطاعة ، فيقع لزوما : القول والفعل فهما شاهدا الصدق في الخارج ، فإذا لم يكن ثم مانع شرعي أو كوني ، وقع القول والفعل ضرورة فذلك تأويل الاستطاعة الكونية التي تقع بها الأفعال ففيها قدر زائد على الاستطاعة الشرعية : متعلق التكليف ، فتزيد عليها : إذن الرب القادر ، جل وعلا ، وتيسير الأسباب وانتفاء الموانع فتتولد في القلب الإرادة التي تتأولها الجوارح بما ركز فيها من قوى الفعل فيخلق الرب ، جل وعلا ، بها فعل الفاعل ، فهو خالق السبب من إرادة قلب وقوة جارحة فخلق في اليد قوة البطش وخلق في القدم قوة السير وخلق في اللسان قوة الكلام ...... إلخ ، وهو خالق المسبَّب من قول وفعل في الخارج .
فــ : "الْمُؤْمِنُ الَّذِي آمَنَ بِاَللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إيمَانُهُ يَجْمَعُ بَيْنَ عِلْمِ قَلْبِهِ وَحَالِ قَلْبِهِ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَيَجْمَعُ قَوْلَ لِسَانِهِ وَعَمَلَ جَوَارِحِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَالْإِسْلَامُ لَهُ هَذَا قَوْلُ قَلْبِهِ وَهَذَا عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ. وَالْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِدْرَاكُ قَبْلَ الْحَرَكَةِ وَالتَّصْدِيقُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمَعْرِفَةُ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانَا يَتَلَازَمَانِ؛ لَكِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ مُوجِبٌ لِعَمَلِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ وَعَمَلُهُ يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَهُ إذْ لَا تَكُونُ حَرَكَةً إرَادِيَّةً وَلَا مَحَبَّةً إلَّا عَنْ شُعُورٍ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِيهَا فَسَادٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الشُّعُورُ وَالْإِدْرَاكُ صَحِيحًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ " فَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ: فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ عِلْمٍ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَنْتَظِمُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا: عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُودَ الْفُرُوعِ الصَّحِيحَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْأُصُولِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/382) .
فالحاصل أن الإرادة من : الكليات المطلقة في الذهن ، فتقبل الانقسام في الخارج فمنها الكوني القدري ، ولا يلزم من وقوع متعلقها وقوع متعلق المحبة فهي لا تقبل الانقسام فموردها شرعي فقط ، فلا يعم ما شاء الرب ، جل وعلا ، وقوعه من الكفر والفجور ، فشاء الكفر بقدره الكوني ، ولم يأمر به بقدره الديني التكليفي ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ومن الإرادة : الإرادة الدينية الشرعية فمتعلقها هو متعلق المحبة من مراضي الرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وإن لم يشأ وقوعه بقدره الكوني ، فمتعلق الأولى : كلماته الكونيات ، ومتعلق الثانية : كلماته الشرعيات ، فـــ :
"قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ بَيْنَ مَنْ قَامَ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ وَبَيْنَ مَنْ اتَّبَعَ كَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّاتِ وَذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَإِذْنِهِ وَبَعْثِهِ وَإِرْسَالِهِ؛ فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكُوفِيِّ الْقَدَرِيِّ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .
وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .
وَبِهَذَا الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/411 ، 412) .
فليس كل ما يحبه يشاؤه ، وليس كل ما يشاؤه يحبه ، فثم قدر فارق بين خلق الحركة والإدراك بقدر التكوين فهذا رسم عام لجميع الأعيان والأحوال الباطنة إرادة والظاهرة قولا وفعلا ، فهذا رسم عام يكافئ هداية البيان والإرشاد ، فثم قدر فارق بينها وبين جريانها من وجه آخر على مقتضى التشريع فهذا رسم خاص يكافئ هداية التوفيق والإلهام ، فــ : "إِنَّ الْعَبْدَ بِحَسَبِ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ يَكُونُ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ بِالْحَقِّ؛ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيمَنْ يُحِبُّهُ وَفِيمَنْ لَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا لِلْمَحْبُوبِ الْحَقُّ مِنْ الْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْإِعَانَةِ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/391) .
والولي حقا من يتتبع موارد الإرادة الدينية الشرعية فيتأول لازمها من مراضي الرب ، جل وعلا ، فلا يحب إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، ولا يبغض إلا ما يبغض ، عز وجل ، فلا يحب كل شيء فذلك مما ينقض أصل الشرع والعقل ، كما تقدم ، فمن الأشياء ما يبغضها الرب ، جل وعلا ، وإن شاء وقوعها ، فكيف يحب العبد ما يبغض الرب ، جل وعلا ، وهو يزعم محبته ، فمن أحب أحدا : أحب ما أحب وأبغض ما أبغض ، فــ : "إِنَّهُ من لزم مَا يرضى الله من امْتِثَال أوامره وَاجْتنَاب نواهيه لَا سِيمَا إذ قَامَ بواجبها ومستحبها يرضى الله عَنهُ كَمَا أنه من لزم محبوبات الله أحبه الله كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب إلي عَبدِي بِمثل أداء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إلي بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته الحَدِيث" . اهــ من : "الاستقامة" .
و : "من كَانَ حبه لله وبغضه لله لَا يحب إلا لله وَلَا يبغض إلا لله ولا يعطي إلا لله وَلَا يمْنَع إلا لله فَهَذِهِ حَال السَّابِقين من أَوْلِيَاء الله .......... فــ : هَؤُلَاءِ الَّذين أَحبُّوا الله محبَّة كَامِلَة فتقربُوا بِمَا يُحِبهُ من النَّوَافِل بعد تقربهم بِمَا يُحِبهُ من الْفَرَائِض أحبهم الله محبَّة كَامِلَة حَتَّى بلغُوا مَا بلغوه وَصَارَ أحدهم يدْرك بِاللَّه ويتحرك بِاللَّه بِحَيْثُ أَن الله يجيب مَسْأَلته ويعيذه مِمَّا استعاذ مِنْهُ" . اهــ بتصرف من : "الزهد والورع والعبادة" .
فذلك قياس العقل الصريح طردا وعكسا في المحبة والبغض ، فــ : "إِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ يَبْقَى إدْرَاكُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ؛ فَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ؛ وَيَبْقَى فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مِنْ النُّورِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ {اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا} . فَوَلِيُّ اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ: مَا يَتَّحِدُ بِهِ الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَحْبُوبُ الْحَقِّ مَحْبُوبَهُ وَمَكْرُوهُ الْحَقِّ مَكْرُوهَهُ وَمَأْمُورُ الْحَقِّ مَأْمُورَهُ وَوَلِيُّ الْحَقِّ وَلَيَّهُ وَعَدُوُّ الْحَقِّ عَدُوَّهُ؛ بَلْ الْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ الْمَخْلُوقَ مَحَبَّةً تَامَّةً حَصَلَ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا حَتَّى قَدْ يَتَأَلَّمُ أَحَدُهُمَا بِتَأَلُّمِ الْآخَرِ وَيَلْتَذُّ بِلَذَّتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/373) .
فعنده من الفرقان الشرعي بين الحق والباطل ما يحصل به التصور الصريح وما يتأول به المكلف الحكم الشرعي المرضي فهو مراد الرب العلي ، تبارك وتعالى ، كما تقدم .
و : "إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا ، لقوله تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} .
وفي صحيح البخاري : الحديث المشهور ....... : يقول الله تبارك وتعالى فيه : «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلي بالفرائض ، فيكون من الأبرار أهل اليمين ، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل ، حتى يكون من السابقين المقربين ، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله ، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل : أنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم ، فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين ، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات ، لم يكن من أولياء الله" . اهــ من : "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" .
فتتفاوت رتب العباد بتفاوت أحوالهم قربا أو بعدا ، فمن قرب فله من الولاية بقدر قربه ، فالقرب في نفسه يتفاوت فذلك تفاوت ثان ، فــ : "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا أَنَابَ إلَى رَبِّهِ وَعَبَدَهُ وَوَافَقَهُ حَتَّى صَارَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ رَبُّهُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ رَبُّهُ وَيَرْضَى بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ رَبُّهُ وَيُعْطِي مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ وَيَمْنَعُ مَنْ مَنَعَ رَبُّهُ فَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَصَارَ هَذَا الْعَبْدُ دِينُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَتَى بِمَا خَلَقَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ. فَقَدْ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهُ وَأَسْبَابُهَا بِأَحْكَامِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْبَابِهَا. وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ؛ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَالْمُرْسَلُونَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأُولُو الْعَزْمِ أَعْظَمُ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْوَسِيلَةُ الْعُظْمَى فِي كُلِّ مَقَامٍ. فَهَذِهِ الْمُوَافَقَةُ هِيَ الِاتِّحَادُ السَّائِغُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/389) .
فالاتحاد معنى مجمل تتعدد موارده في الخارج ، فمنه الاتحاد المذموم ، وهو ما وقع فيه ولا يزال أرباب التصوف الغالي على اختلاف مللهم ونحلهم فبوذية تجعل الإنسان جزءا من الإله فتختل حاله إذا انفصل عنه ! ، فيمارس الإنسان ضروبا من الرياضات الشاقة ليحصل له التأمل المفضي إلى بلوغ الغاية العلمية والحقيقة الإلهية ، فقد اتحدت ذاته بالإله وانحلت روحه من عقال البدن فجالت في الملكوت ودخلت على الرب المعبود ، جل وعلا ! ولا يخفى ما بين هذا المقال الوثني والمقال الصوفي الاتحادي من تشابه وربما تماثل فهو يشي بأصول التصوف الغالي فمن مستمداته : الديانات الوثنية القديمة ، ونصرانية جعلت الاتحاد الخاص : قانون الملة ، وصوفية اتحادية جعلت الاتحاد في الأعيان فكلها إلهية ، والأديان ، فكلها مرضية ! ، جعلته غاية التحقيق ! .
ومنه في المقابل : الاتحاد المحمود بأن يتحد مراد العبد بمراد الرب ، جل وعلا ، الديني الشرعي لا الكوني القدري ، فمنه ما لا يرضي الرب العلي ، تبارك وتعالى ، وإن شاء حصوله لحكمة تزيد على مفسدة وقوعه ، فذلك أثر قدرته النافذة في خلق الأضداد ، وحكمته البالغة في تدافع الأسباب ، فالاتحاد المحمود يكون بموافقة مراد الرب الشرعي لازم محبته ، لا مراده القدري لازم مشيئته ، فمقام الجمع يقتضي إثبات إرادة التكوين ، فجميع الخلق تحت المشيئة النافذة في الدنيا والآخرة ، ومقام الفرق يقتضي امتثال إرادة التشريع فبها يفرق العبد بين مراضي الرب ، جل وعلا ، ليمتثلها ومساخطه ليجتنبها ، فيحصل له بذلك : الجمع فذلك إيمانه بالقدر ، والفرق فذلك امتثاله للشرع ، فيفنى عن عبادة السوى بالفرق بين الأمر والنهي فيمتثل مراضيه فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وينتهي عن مساخطه ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ويفنى عن شهود السوى بالجمع فــ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .
فيشهد العبد بقلبه مقام الربوبية فهو مقام الجمع فكل الكائنات الحادثة من الرب ، جل وعلا ، فابتداء غايتها منه ، ولكنها ليست جزءا منه كما ذهب إلى ذلك من ذهب من المشركين ، فــ : (جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ، فهي منه خلقا ، فابتداء غاية خلقها منه ، جل وعلا ، فبها تظهر آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى ، فذلك معنى صحيح لظهور الرب ، جل وعلا ، في خلقه ، فهو ظهور آثار صفاته العلية لا ظهور ذاته القدسية كما زعم أهل الحلول والاتحاد ، فقد اشتبه ذلك على من غلا في شهود مقام الربوبية ، فوقع في فناء الشهود فلم يشهد إلا فعل الرب المعبود ، جل وعلا ، في الكون ، فذلك مما وقع لبعض العارفين وليس من دين رب العالمين ، جل وعلا ، فتلك حال ناقصة يعتذر عن صاحبها إن كان من الأفاضل فما أراد إلا تعظيم الرب الخالق ، جل وعلا ، فغلا في تقرير مقام الجمع ربوبية ففني بالمسبِّب جل وعلا عن الأسباب في الخارج فلا يرى فيها إلا مجريها ، فتشتبه الحال الكاملة بظهور ألوهية الله ، جل وعلا ، في عبده ، بامتثاله لأمره ونهيه ، تشتبه بحال أخرى وهي : "مَا يُظْهِرُهُ الرَّبُّ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْضَ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مِمَّنْ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ كَفِرْعَوْنَ وجنكسخان وَنَحْوَهُمَا وَمَا يَهَبُهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَمَا يُقَسِّمُهُ مِنْ الْجَمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا يَهَبُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوْ يَهَبُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ أَوْ يُعْطِيهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا مِثْلَ الْأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَنَحْوَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَقُومُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَحْكَامِ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَمَا يَقُومُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ آثَارِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقِسْمَانِ فِي عَبْدٍ كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ: مِثْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/407 ، 408) .
فاجتمع في الأنبياء عليهم السلام بما هم عليه من حال شرعية كاملة وحال كونية خارقة : اجتمع فيهم تأويل إرادة التكوين تأييدا بالآيات المعجزة ، وتأويل إرادة التشريع فهم أطوع الخلق للخالق ، جل وعلا ، ففيهم ظهرت آثار الألوهية امتثالا وآثار الربوبية إعجازا .
والشاهد أن آثار وصف الرب ، جل وعلا ، تظهر في الكائنات خلقا ، فــ : "جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ: آيَاتٌ لَهُ شَاهِدَةٌ دَالَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى؛ وَعَنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ خَلَقَ الْكَائِنَاتِ. فَإِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ خَلَقَ الرَّحِمَ وَشَقَّ لَهَا مِنْ اسْمِهِ؛ وَهُوَ الرَّازِقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُوَ الْهَادِي النَّصِيرُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا هُوَ. فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْعَالَمُونَ مُمْتَلِئُونَ بِمَا فِيهِمْ مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمَنْ خَرَقَ اللَّهُ سَمْعَهُ سَمِعَ تَأْوِيبَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَعَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ. فَإِذَا فُسِّرَ ظُهُورُهُ وَتَجَلِّيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى: فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَفْظُ الظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي فِيهِ إجْمَالٌ ...... ، (فقد يريد به تجلي وصف الربوبية خلقا وتدبيرا فهذا معنى صحيح وقد يريد به ما أراده الاتحادية من تجلي الذات الإلهية القدسية في الذات الأرضية فذلك معنى باطل لما يلزم منه من حلول الكامل في الناقص فيلحقه وصف النقص لزوما وهذا مما تنزه عنه الرب جل وعلا بداهة) ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَالرَّبُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ آيَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَشَاهِدُهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ فِيهِ بِمَعْنَى ظُهُورِ آثَارِ الصَّانِعِ فِي صَنْعَتِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. بَلْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبَيِّنُ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/400 ، 401) .
فالكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا تظهر فيه آثار قدرته النافذة وحكمته البالغة ، فــ :
"فَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عُمُومُ خَلْقِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعُمُومُ إحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ : أَصْلَانِ عَظِيمَانِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/400) .
فجميع الكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا ، لا جزءا أو وصفا كما زعمت الغالية من المثلثة الذين جعلوا الأقانيم الحادثة من الرب ، جل وعلا ، وصفا في تحكم عجيب ينقض قياس العقل الصريح ، فالوصف لا يباين الموصوف فلا يستقل بذاته وإنما يقوم بموصوفه ، والوصف لا يتجسد في الخارج ، ولو سلم بذلك ، فرضا ، فتجسده في ناسوت أو أقنوم حادث يجوز بل ويوجب طروء النقص عليه بما يعتري الناسوت أو الأقنوم من أعراض النقص والفناء التي لا ينفك عنها كائن حادث ، وذلك معنى منتف بداهة في حق الرب السلام السبوح القدوس تبارك وتعالى .
والشاهد أن مقام الربوبية الجامعة ، مما يشهده القلب ، فذلك قدر علمي صحيح ، فهو أول درجات التكليف ، ولكنه لا يكفي حتى يشفع بلازمه من شهود مقام الألوهية فهو مقام الفرق بين المأمور والمحظور ، فــ :
"إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ إذَا أَقْبَلُوا عَلَى ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ: شَهِدُوا بِقُلُوبِهِمْ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الْجَامِعَةَ وَهَذِهِ الْإِحَاطَةَ الْعَامَّةَ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. هَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : "لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى .
فَقَدْ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ فِيهَا الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لَهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمُطَابَقَتِهِ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ صُنْعُهُ وَخَلْقُهُ ثُمَّ قَدْ يَرْتَقِي إلَى حِجَابٍ مِنْ حُجُبِهِ النُّورِيَّةِ أَوْ النَّارِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ ثُمَّ يَرْتَقِي إلَى نُورِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ صِفَاتِهِ؛ فَقَدْ يَقَعُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي نَحْوٍ مَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنْ تَدَارَكَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا هُدَى اللَّهِ: عَلِمُوا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ وَرُبَّمَا قَدْ يَقَعُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْفَنَاءِ أَوْ السُّكْرِ فَيَكُونُ مُخْطِئًا غالطا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَغْفُورًا لَهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ فِي الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ . (كما يقع لأهل فناء الشهود ممن لم يصلوا إلى فناء الوجود الذي يلزم منه الاتحاد الباطل بين الرب الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث) .
وَهُوَ كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَالَمَ الْمُحِيطَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ: فَكَذَلِكَ يَشْهَدُ إلَهِيَّتَهُ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} - الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَقْفِ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَفِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ الْمَعْنَى هُوَ فِي السَّمَوَاتِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْ هُوَ اللَّهُ غَيْرُهُ ........... فـ : بِذَلِكَ تَظْهَرُ أُلُوهِيَّةُ اللَّهِ فِي عَبْدِهِ وَتَظْهَرُ إنَابَةُ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَمُوَافَقَتُهُ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/402_404 ، 407) .
فالغلو في الأول قد يوقع صاحبه في الإفراط في المحبة فيحب كل شيء فهو من الرب ، جل وعلا ، وذلك صحيح بقيد التكوين الذي لا يستلزم المحبة ، فكل الكائنات منه خلقا ، كما تقدم ، ولكن مقام الألوهية الفارق قد باين بينها فمنها ما يحب الرب ، جل وعلا ، ومنها ما يبغض ، فمن لم يشفع المقام الأول بالثاني وقع في هذا الغلو فأحب كل شيء ، وإن لم يحبه الرب ، جل وعلا ، فإفراطه في محبة الكائنات يقطع قلبه عن حب خالقها ، جل وعلا ، فقد فني بها عنه ، فاشتغل قلبه بحب الصور الحادثة وظن ذلك مراد الرب ، جل وعلا ، فما خلق إلا ما يحب من الأعيان والأحوال ، فيسوي بينها جميعا فتستوي عنده الصورة المباحة والصورة المحرمة ، فلا عجب أن يقع من يقع في براثن العشق المحرم ، فالناظر في حاله قد يعجب ابتداء بل ويسخر من تعلقه بصورة أرضية حادثة قد شغلته بل وعبدته لها ، كما يقع في قصص العشاق سواء أكان عشقهم مباحا في أصله ثم زاد عليه صاحبه فأفرط في تعاطي المباح كعشق الزوجات أم كان محرما كعشق الأجنبيات بل والصبية والمردان فمنشأ الداء واحد وهو التعلق بصورة جميلة ، تعلقا يفسد إدراك صاحبه فيظن فيها كمالا من كل وجه فيفسد حكمه تبعا لفساد إدراكه فيفرط في حبها حتى يصير مضرب المثل في العشق والهيام وربما الجنون في دور تال كما هي حال كثير ممن ابتلي بالعشق سلمنا الرب جل وعلا من شره .
والنظر إلى صاحبه بعين القدر حتم لازم فهو مبتلى ، وإن لم يعذر بعين الشرع ، فلا يسخر منه عاقل خشية أن يبتلى بما هو فيه ، فلا يعرف ما به من ألم إلا من ابتلي ابتلاءه فــ :
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ******* وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا
لَا تَعْذِلِ الْمُشْتَاقَ فِي أَشْوَاقِهِ ******* حَتَّى تَكُونَ حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ
والمعشوق في الغالب ظلوم غشوم يروم تعبيد العاشق له فيستأثر بمداركه ، ولا يأبه في الغالب بعبرات العاشق :
أتراها لكثرة العشاقِ ******* تحسب الدمع خلقةً في المآقي
فلا حظ له منها عبرة شوق :
كيف ترثي التي ترى كل جفن ******* راءها غير جفنها غير راقي
فقد فتن بنفسه ، وتلك حال لا يبكي صاحبها في الغالب فقد عوفي من أسباب الشوق ! :
أنت منا فتنت نفسك لكنك ******* عوفيت من ضني واشتياق .
بل وقد يفسد الإدراك في دور تال ، وهو ما يقع لأهل الحلول والاتحاد فيظن أن هذه الصورة الحادثة هي الله ، تبارك وتعالى عن هذا الإفك العلمي والفساد الحكمي ، فهي مثال قد تجسد فيه ، تبارك وتعالى ، بوصف جلاله كصورة فرعون ، أو بوصف جماله كصورة امرأة أو أمرد حسن الصورة ! ، فيلتذ بالنظر فيها وهي صورة محرمة فالمحبة فاسدة واللذة طارئة يعقبها ألم الحرمان فتفسد مدارك المكلف بوقوعه ، كما تقدم ، في ضروب من العشق الذي يفسد العقل والحس معا كما هي حال مجانين العشاق ! ، والصحيح أن ذلك ، كما تقدم ، ظهور لأثر وصفه في خلقه ، فخلق الجميع بكلماته فأبان عن كمال وصفه الأعلى بخلق الأضداد : إيمانا وكفرا ، عدلا وظلما ، حسنا وقبحا ، وعلق بكلٍ أحكاما شرعية تكليفية من فاتته بذريعة الاشتغال عنها بمطالعة أحكام الربوبية فسدت حاله في الأولى وفسد مآله في الآخرة ، فيسوغ لنفسه النظر في الصور المحرمة تأملا في بديع صنع الإله ! كما يقول من يقول من الفساق أو من بعض من خلط في باب الإرادات فسوى بين المراد الكوني فهو متعلق الربوبية وما يلزم منه ضرورة من الحكم الشرعي ، فلكل حدث كوني : حكم شرعي تكليفي ، ولو بالإباحة ، فلا بد أن يقترن الشرع بالكون وإلا وقع الفساد العريض في التصور والحكم .
فليس الرب ، جل وعلا ، بحال أو متحد بصورة أرضية ، فذلك معنى باطل بداهة ، وإن حل في قلب عبده المؤمن : مثالا علميا لا وجودا عينيا ، فذلك معنى صحيح ، فالحلول يجري ، أيضا ، مجرى الكليات المطلقة في الذهن فيقبل الانقسام في الخارج فمنه الصحيح ومنه الباطل ، فــ
"يُطْلَقُ لَفْظُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ بَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِيمَا يُحِبَّانِ وَيُبْغِضَانِ، وَيُوَالِيَانِ وَيُعَادِيَانِ، فَلَمَّا اتَّحَدَ مُرَادُهُمَا وَمَقْصُودُهُمَا صَارَ يُقَالُ هُمَا مُتَّحِدَانِ، وَبَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، وَلَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَ هَذَا اتَّحَدَتْ بِذَاتِ الْآخَرِ، كَاتِّحَادِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ، وَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ، أَوِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحُلُولِ، وَالسُّكْنَى، وَالتَّخَلُّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .......... وَقَدْ يُقَالُ : فُلَانٌ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، يُرَادُ بِذَلِكَ: إِلَّا ذِكْرُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مَا فِي قَلْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، بَلْ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا عِنْدَهُ إِلَّا فُلَانٌ، إِذَا كَانَ يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ أَنَّ ذَاتَ فُلَانٍ لَمْ تَحُلَّ فِي هَذَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَّحِدَ بِهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ عَنِ الْمِرْآةِ إِذَا لَمْ تُقَابِلْ إِلَّا الشَّمْسَ: مَا فِيهَا إِلَّا الشَّمْسُ، أَيْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا غَيْرُ الشَّمْسِ.
وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُلُولِ يُرَادُ بِهِ حُلُولُ ذَاتِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَحُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمِثَالِهِ الْعِلْمِيِّ تَارَةً ...... وَعِنْدَهُمْ ، (أي : النصارى) ، فِي النُّبُوَّاتِ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ حَلَّتْ فِيهِ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ سَاكِنٌ فِي قَلْبِي وَحَالٌّ فِي قَلْبِي وَهُوَ فِي سِرِّي، وَسُوَيْدَاءِ قَلْبِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَلَّ فِيهِ مِثَالُهُ الْعِلْمِيُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَكَانَ إِذَا خَلَا مِمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَا حَلَّتْ فِيهِ عِبَادَتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، فَإِذَا صَارَ فِي الْمَكَانِ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ وَيَذْكُرُهُ ظَهَرَ فِيهِ ذِكْرُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَذِكْرُهُ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌّ فِيهِ.
كَمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَحَالٌّ فِيهِم، وَالْمُرَادُ بِهِ حُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ....... فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ نُورُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ حَالٌّ فِيهِمْ وَهُمْ حَالُّونَ فِي الْمَسْجِدِ - قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَالٌّ فِيهِ، بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، مَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (2/204_206) .
فله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فيحل بمثاله العلمي في قلب عبده : رجاء وخشية ، رغبة ورهبة ، محبة وعبادة ، فكل أولئك مثل علمية يصح حلولها في القلب خلافا لما زعمه أهل الحلول والاتحاد من حلول ذات الرب ، جل وعلا ، في القلب تمسكا بمتشابه من قول بعض العارفين ، فــ :
"هَذَا الْمَذْهَبُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَقُولُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنُورِهِ وَهُدَاهُ وَالرُّوحِ مِنْهُ، وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ ذَاتُ الرَّبِّ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِالِاسْمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ، أَوْ نَفْسَ الْخَطِّ هُوَ نَفْسُ اللَّفْظِ، وَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَاتَ الْمَحْبُوبِ حَلَّت فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، أَوْ نَفْسَ الْمَعْرُوفِ الْمَعْلُومِ حَلَّ فِي ذَاتِ الْعَالِمِ الْعَارِفِ بِهِ وَاتَّحَدَ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ أَنَّ نَفْسَ الْمَحْبُوبِ الْمَعْلُومِ بَايِنٌ عَنْ ذَاتِ الْمُحِبِّ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ، لَمْ يَحُلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] .
فَالْمُؤْمِنُونَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُحِبُّونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُقَالُ هُوَ فِي قُلُوبِهِم، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَعِبَادَتُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْعِلْمِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ ذَاتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي، وَمَا زِلْتَ فِي قَلْبِي وَبَيْنَ عَيْنَيَّ، وَيُقَالُ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ :
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ ******* غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَمِنْ عَجَبِي أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ ******* وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا ******* وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
وَقَالَ:
مِثَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي ******** وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَالْمَسَاجِدُ: هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] .
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] .
ثُمَّ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نُورَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِ، كَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/220 ، 221) .
وإلى هذا المعنى أشار من قال : "(مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ) . وَهُوَ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الصِّدِّيقُ {أَيُّهَا النَّاسُ: سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَلَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَه وَقَالَ رَقَبَةُ بْنُ مِصْقَلَةٍ لِلشَّعْبِيِّ: "رَزَقَك اللَّهُ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَيْهِ". وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ سيار، وحدثنا جعفر، عن عمران القصير قَالَ : {قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك؟ قَالَ: يَا مُوسَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ} . وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يُقَالَ: مَا فِي قَلْبِي إلَّا اللَّهُ مَا عِنْدِي إلَّا اللَّهُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} ، وَيُقَالُ :
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ:
مِثَالُك فِي عَيْنِي وذكراك فِي فَمِي ******* وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَهَذَا الْقَدْرُ يَقْوَى قُوَّةً عَظِيمَةً حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ بِالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَيَحْصُلُ مَعَهُ الْقُرْبُ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/385 ، 386) .
والعبد المؤمن قد اتحد مراده بمراد الشرع ، فلا يريد إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، فـــ : "هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ثَابِتَانِ بَلْ هُمَا حَقِيقَةُ الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ -: فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَدَّى وَاجِبَهُ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ وَإِنْ تَرَكَهُ كُلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُسْخِطُهُ - فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ - الَّتِي يُحِبُّهَا وَلَمْ يَفْرِضْهَا - بَعْدَ الْفَرَائِضِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَفْرِضُهَا وَيُعَذِّبُ تَارِكَهَا. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْمَالِ: أَحَبَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَعَلُوا مَحْبُوبَهُ فَأَحَبَّهُمْ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ مُنَاسِبٌ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِعَيْنِ كُلِّ حَرَكَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ وَالْبَاطِنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ" وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} {وَقَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَقَالَ: {فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} فِي حَدِيثِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا عَمِلَ} فَإِنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَعْذُورَ الْجِسْمِ اسْتَوَيَا فِي الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/394 ، 395) .
فإرادة المريض لما يشتهيه وإن كان فيه هلاكه : داخلة في حد الإرادة الاختيارية ، ولكنها إرادة فاسدة ، وذلك أمر يعم المحسوسات والمعقولات ، فــ : "الْمَرِيض الَّذِي يَشْتَهِي مَا يضرّهُ لَيْسَ دواؤه إعطاءه المشتهي الضار بل دواؤه الحمية وَإِن آلمته وإعطاؤه مَا يَنْفَعهُ وتعويضه عَن ذَلِك الضار بِمَا أَمر مِمَّا لَا يضر
فَهَكَذَا أهل الشَّهَوَات الْفَاسِدَة وَإِن أضرمت قُلُوبهم نَار الشَّهْوَة لَيْسَ رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذَلِك أَو ترك عَذَابهمْ فَإِن ذَلِك يزِيد بلاءهم وعذابهم والحرارة الَّتِي فِي قُلُوبهم مثل حرارة المحموم متى مكن المحموم مِمَّا يضرّهُ ازْدَادَ مَرضه أَو انْتقل إِلَى مرض شَرّ مِنْهُ . (فلا تزيده مباشرة الشهوة المحرمة إلا ألما على ألمه ولو تصور في ذلك نفعا بلذة سرعان ما تتلاشى مع ديمومة الانكباب على الشهوة ، كما نوه بذلك بعض المحققين ، فتصير عادة تأسره فليس إلا مدمن لذة طارئة سرعان ما تنقضي ، كما تقدم ، لتعقبها آلام مبرحة) .
فَهَذِهِ حَال أهل الشَّهَوَات بل تدفع تِلْكَ الشَّهْوَة الحلوة بضدها وَالْمَنْع من موجباتها ومقابلتها بالضد من الْعَذَاب المؤلم وَنَحْوه الَّذِي يخرج الْمحبَّة من الْقلب كَمَا قيل
فَإِنِّي رَأَيْت الْحبّ فِي الْقلب والأذى ******* إِذا اجْتمعَا لم يلبث الْحبّ يذهب" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/392 ، 393) .
والله أعلى وأعلم .
بقلم الأخ مهاجر
المريض الذي فسد تصوره للغاية وهي المراد ، فأراد نيل لذته العاجلة من مطعوم أو مشروب وإن كان فيها هلاكه ، قد جمع بين فساد التصور وضعف الإرادة فلم يصبر على شهوة ساعة أورثته ألما قد يطول بل قد يكون فيه هلاكه ، فالعلم علم تصور للموجود ، فهو العلم الذي يسبق العمل ، فيتصور الواقع الموجود ، فذلك العلم الانفعالي الذي يؤثر في النفس حركة وإرادة ، فتتحرك طلبا للواجب المقصود ، فعلمها به :
علم الفعل فهو مؤثر في إيقاع المفعول على ما قد قدر الرب المعبود ، جل وعلا ، فــ : "الكلام هنا في فصلين : الواقع الموجود ، والواجب المقصود .
أما الأول : فكلُّ حيٍّ يتحرك بإرادته واختياره فلا بد أن يكون له في ذلك العمل مطلوب مَّا ، ولهذا قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إنّ أصدقَ الأسماء الحارثُ وهمَّام" ، فالحارث : الكاسب العامل ، والهمام : صاحب الهمّ الذي يكون له إرادة وقصد ...... فــ : طلبُ المخلوقِ لا بدَّ أن يتعلق بغيره ، فكما أنه لا يكون فاعلَ نفسه ، لا يكون مطلوبَ نفسه ........ فــ : المخلوق كما لا يكون فاعلاً ، لا يكون مطلوبًا ، فليس المطلوب الحقيقي إلا الله ، ولو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
والغرض هنا أن المخلوق لا بدَّ له في كل عمل من مطلوب ومرادٍ ، وحظ ونصيب ، لا يمكن غير ذلك ، فاعتقاد وجود اختياري بلا مراد محالٌ ، سواءً كاًن من الملائكة أو النبيين أو الصدِّيقين أو الشهداء أو الصالحين أو الجن أو الشياطين أو الكفار والمنافقين" . اهــ
بتصرف من : "جامع المسائل" ، (6/8) .
فلا يتصور عاقل أن يتحرك حي حساس مريد فضلا عن أن يكون عاقلا مكلفا ، لا يتصور أن يتحرك بلا هدف ! ، ولا يتصور أن يتحرك ذو عقل إلا لما يظن فيه لذته فيتحرك إليه تحرك المحب طلبا لمحبوبه ، وإن لم يكن كذلك بالفعل فقد يتحرك إلى ما فيه عين هلاكه فالبغض به أليق ولكنه لفساد تصوره قد ظن فيه صلاحه فأحبه جهلا بعاقبته الآجلة واغترار بلذته العاجلة كطالب شهوة محرمة من مطعوم أو منكوح ...... إلخ ! .
فموارد الحق كما تقدم : "الواقع الموجود ، والواجب المقصود" ، وذلك مراد الشارع ، جل وعلا ، فالعلم بالواقع على ما هو عليه : تصور صحيح ، وذلك مئنة من كمال القوة العلمية ولا ينال ذلك إلا بتلقي الخبر الديني من مشكاة النبوة ، وتلقي الخبر الطبيعي من موارد البحث التجريبي الذي كان لأهل الإسلام فيه ريادة ، فقد جمع الإسلام في إهابه : موارد العلم الإلهي ، والعلم الطبيعي فلم يجر عليه ما جرى على بقية المقالات دينية كانت أو علمانية ، فكلها قد وقع فيه من الفصام النكد بين موارد الدين وموارد الدنيا ما وقع ، فوقع التعارض في الطرح الكنسي : بين العلم الإلهي فهو مبدل ، والعلم الدنيوي في بواكير عصر النهضة ، فهذا طرح غلَّب جانب الدين فقهر العقل على قبول المحال وتكذيب العيان من نتائج البحث التجريبي في الطبيعيات لأن صاحبه قد خرج عن أمر الكنيسة فعارض علومها ولو كانت محض فروض لا أساس لها من الصحة فهي محض تخرض وظن لا يستند إلى دليل من وحي شرعي صحيح أو حس تجريبي سليم ، ومال إلى طرح الإسلاميين الذين نفذ شعاع حضارتهم الساطع لينير سماء القارة العجوز فكانت الجزيرة الأندلسية الحبيبة همزة وصل بين الشرق المنير ففي سمائه قد سطعت شمس النبوات فحظي بخاتم الرسالات ، والغرب المظلم الذي استفاد نوع تنوير من حضارة دين التوحيد فحمل العلم التجريبي الأدنى وأبى في تعصب وتحكم عجيب أن يحمل العلم الشرعي الأعلى فهو ، لو تدبروا ، معدن ما حملوه من خلاق الدنيا ، فتمسكوا بأهداب الفروع من علوم تأتي نافلة بعد فريضة العلم الديني الصحيح فالمنة به أعظم فهو الذي يصحح التصور والحكم ، فصاحبه أفطن الناس لموارد الحق في الإلهيات والطبيعيات معا ، فكان رد الفعل غلوا في الطرف الآخر بنبذ مقال الدين صح أو فسد ، وتعظيم مقال العلم التجريبي دون ضابط شرعي ، فلا ينتفع به إن ضل صاحبه عن موارد الوحي الصحيح كما وقع في الطرح العلماني المعاصر ، فقد غلب جانب العقل في مقابل تغليب الكنيسة جانب النقل ، فلم يحسم النزاع بين الموردين إلا الدين الخاتم بوحيه الصحيح المحفوظ فنقله صحيح سالم من المعارضة ، فلا يعارض ، بداهة ، موارد العقل الصريح ، فــ : "مَا عُلِمَ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فِي صَرِيحِ الْعَقْلِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ رَسُولٌ، فَإِنَّ الرُّسُلَ إِنَّمَا تُخْبِرُ بِمَا لَا يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَأَمَّا مَا يُعْلَمُ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ، فَالرُّسُلُ مُنَزَّهُونَ عَنِ الْإِخْبَارِ عَنْهُ" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/184) .
و : "الْأَنْبِيَاءُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ يُخْبِرُونَ بِمَا تَعْجِزُ عُقُولُ النَّاسِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ؛ لَا بِمَا يَعْرِفُ النَّاسُ بِعُقُولِهِمْ أَنَّهُ مُمْتَنِعٌ فَيُخْبِرُونَ بِمَحَارَاتِ الْعُقُولِ لَا بِمُحَالَاتِ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ فِي إخْبَارِ الرَّسُولِ مَا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الْعُقُولِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَارَضَ دَلِيلَانِ قَطْعِيَّانِ: سَوَاءٌ كَانَا عَقْلِيَّيْنِ أَوْ سَمْعِيَّيْنِ أَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا عَقْلِيًّا وَالْآخَرُ سَمْعِيًّا فَكَيْفَ بِمَنْ ادَّعَى كَشْفًا يُنَاقِضُ صَرِيحَ الشَّرْعِ وَالْعَقْلِ؟" . اهــ من : "مجموع الفتاوى" .
فلا بد أن يعتاض الزاهد في الشريعة بطريقة تعارضها من هوى أو ذوق لا مستند لها فهي محض تخرص وظن يعارض به قطعي الوحي الصحيح الصريح السالم من المعارضة فأي نقض لقياس العقل الذي يقضي بتقديم القطعي على الظني ، فكيف بالوهمي ؟! ، أي نقض لقياس العقل أعظم من ذك ؟! .
فالنقل : أصل خالص ، والعقل : تابع ناصح يؤيد متبوعه بقياس صريح يشهد لنقل الوحي الصحيح فلا تعارض بينهما كما تقدم .
فهذا العلم الصحيح الذي يؤدي إلى تحصيل : الواجب المقصود ، فتكتمل موارد الحق ، علما وعملا ، فمورد العلم قد وافق الخبر ، ومورد العمل قد وافق الشرع ، فاكتملت قوى التكليف : تصورا وحكما ، بوارد الوحي : خبرا وشرعا ، فهو الحق الخالص بقسميه : الواقع العلمي الصادق والمقصود العملي النافع ، ونظيره من الباطل المنفي : المعدوم فيقابل الواقع الموجود ، وما لا ينفع من فاسد الإرادات والأحوال وما يلزم منها في الخارج من فاسد الأقوال والأعمال ، فالقسمة ثنائية تستغرق موارد التكليف : علما وعملا ، فــ : حق وباطل ، وكلاهما ينقسم في الخارج إلى : علم وعمل ، فــ :
"الْحَقُّ لَهُ مَعْنَيَانِ :
أَحَدُهُمَا : الْمَوُجُودُ الثَّابِتُ .
وَالثَّانِي : الْمَقْصُودُ النَّافِعُ كَقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم : {الْوِتْرُ حَقٌّ} .
وَالْبَاطِلُ نَوْعَانِ أَيْضًا :
أَحَدُهُمَا : الْمَعْدُومُ . وَإِذَا كَانَ مَعْدُومًا كَانَ اعْتِقَادُ وُجُودَهُ وَالْخَبَرُ عَنْ وُجُودِهِ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ وَالْخَبَرَ تَابِعٌ لِلْمُعْتَقَدِ الْمُخْبَرِ عَنْهُ يَصِحُّ بِصِحَّتِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ ؛ فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَقَدُ الْمُخْبَرُ عَنْهُ بَاطِلًا كَانَ الِاعْتِقَادُ وَالْخَبَرُ كَذَلِكَ ؛ وَهُوَ الْكَذِبُ .
الثَّانِي : مَا لَيْسَ بِنَافِعِ وَلَا مُفِيدٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} وَكَقَوْلِ النَّبِيِّ : {كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الرَّجُلُ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا رَمْيَهُ بِقَوْسِهِ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتَهُ امْرَأَتَهُ فَإِنَّهُنَّ مِنْ الْحَقِّ} {وَقَوْلِهِ عَنْ عُمَرَ : إنَّ هَذَا رَجُلٌ لَا يُحِبُّ الْبَاطِلَ} وَمَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ : فَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ وَقَصْدُهُ وَعَمَلُهُ بَاطِلٌ ؛ إذْ الْعَمَلُ بِهِ وَالْقَصْدُ إلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِهِ بَاطِلٌ" . اهــ
بتصرف يسير من : "مجموع الفتاوى" ، (2/415 ، 416) .
فلا يخلو حي من إرادة صحت أو فسدت ، فــ : "الْإِنْسَانُ لَا يحب الشَّيْء ويريده حَتَّى يكون لَهُ بِهِ شُعُور أَو إحساس أَو معرفَة وَنَحْو ذَلِك وَيكون مَعَ ذَلِك بِنَفسِهِ إِلَيْهِ ميل وفيهَا لَهُ حب وكل وَاحِد من هَاتين الْفرْقَتَيْنِ فِي فطرته وجبلته الْمعرفَة والمحبة وَلِهَذَا كَانَ كل مَوْلُود يُولد على الْفطْرَة فطْرَة الْإِسْلَام وَهِي عبَادَة الله وَحده وأصل ذَلِك مَعْرفَته ومحبته" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/398) .
فالشعور العلمي الذي يحدثه الوارد الخبري يولد في النفس ضرورة : حركة محبة تقضي بلازمها ضرورة من البغض ، فإن الإنسان لا ينفك عن محبة ما ينفعه ، وبغض ما يضره ، فهما متلازمان شرعا وعقلا ، فمحبة الشيء تقضي لزوما ببغض ضده ، فمن أحب الحق كره الباطل ، ومن آمن بالرحمن ، جل وعلا ، كفر بالشيطان ، ومن عظم الوحي حقر ما يعارضه من معقول باطل أو موجود فاسد ، فلا يعارض خبر ربه ، جل وعلا ، وحكمه ، بقياس عقله أو ذوق نفسه ، فذلك تأويل النهي الجازم في قول الرب الشارع جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فلا بد أن يولد الشعور العلمي في القلب : ميلا إلى الشيء فيحب ، وميلا عن ضده فيبغض ، فيتحرك القلب بما فيه حياته من حركات المحبة والبغض ، فتلك رسوم الحياة الباطنة فيتحرك القلب بأجناس المشاعر والإرادات فتلك علامة حياة الباطن ، كما يتحرك الظاهر بأجناس الأقوال والأفعال الاختيارية فتلك علامة حياة الظاهر ، فمن سوى بين الأشياء فأحب كل شيء ، كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد فقد أتى بما ينكره العقل بل والحس ضرورة فصاحبه مسفسط ينكر البدهيات ، فكيف يحب جميع الأشياء وفيها ما يضره بمقتضى العقل والفطرة فضلا عن الشرع ، فذلك معنى أجمع عليه العقلاء ، ولو قبل ورود الشرائع ، فالعقول تدرك ضرورة أن من الأشياء ما ينفعها كالمطعوم والمشروب فتحبه وتحكم بحسنه وإن لم تستقل ببيان حكمه ، وتدرك في المقابل أن من الأشياء ما يضرها كالسم والتردي من شاهق ...... إلخ ، فتبغضه وتحكم بقبحه وإن لم تستقل ، أيضا ، ببيان حكمه ، فلا حياة للإنسان إلا بمحبوب يباشره ، ومكروه يجانبه ، ولا ينكر ذلك عاقل فهو من ضرورات القياس وبداهات الإحساس ، فمن سوى بين الموردين فجعل الجميع مرادا محبوبا سواء ضر أو نفع فقد ناقض ناموس الشرع الصحيح الذي يأمر وينهى فإذا كان الجميع محبوبا فعلام الأمر والنهي والجميع مراد الرب ، جل وعلا ، ما حسن وما قبح ، وذلك ما يفتح باب زندقة وانحلال واسع ولج منه من سوى بين المتباينات الحكمية فصير جميع الأفعال مشروعة وتعدى بعد ذلك فولج باب الاتحاد فصير جميع الأعيان طاهرة محبوبة بل وجعلها واحدا في الشخص هو ذات الرب ، جل وعلا ، فاتحد بذات الإله كما يقول أصحاب الضلال من أرباب الملل الباطلة لا سيما التي تعنى برسوم الرياضة والرهبنة من بوذية وديانات هندية وثنية وما يتفرع عليها الآن من مقالات حادثة تقوم على التأمل العميق إرادة التأثير في الكون ! ، فضلا عن المقالات الأرضية كمقالة الرومانسية التي تعنى بالطرح الصوفي الذي يفنى في حب الطبيعة فهي الإله المعبود كما نوه بذلك بعض الفضلاء في معرض تناول الطرح الأوروبي الذي يتسم بقدر كبير من التناقض والتعارض بل والتضاد في ردود الأفعال فلم تعرف أوروبا اتزانا فكريا وإنما تأرجحت بين الأضداد على نحو يشي بفساد الأقوال والأحوال فمن أبيقورية شهوانية تغرق في الماديات إلى رواقية زهدية هي على الضد تزدري المحسوس وتغلو في تأمل المعقول على وزان الديانات الوضعية ذات الصبغة الفلسفية كالبوذية ، ومن كلاسيكية معاصرة إلى رومانسية تحلق في سماء المثالية الجوفاء حتى صار لقب "الرومانسي" مما يطلق في معرض التندر بحال الشخص الحالم الذي يفنى في محبوبه فتصدر منه أقوال وأفعال تثير التعجب وربما السخرية ! ، ومن ثم ارتد العقل الحالم إلى أرض الواقع فانتهج رسم الواقعية التي عنيت برصد حقائق الحياة على نحو فج تقصد أصحابه مضادة الأديان والأعراف فذلك من آثار المعركة الفكرية التي دارت بين الكنيسة والعقل في بواكير عصر النهضة فلا تعدو تلك الواقعية التي انحطت بصاحبها إلى دركات الإسفاف كما هي الحال الآن في الطرح الإعلامي المعاصر الذي يتذرع بالواقعية ليعرض سواءات المجتمعات على نحو فج فلا يروم الإصلاح وإنما يروم استباحة الفواحش والتهوين من شأن ذلك لتشيع الفاحشة في المجتمعات الإسلامية المحافظة فصاحبه من أهل الوعيد في قول الرب الجليل تبارك وتعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) ، فمن ولج باب الاتحاد فإنه يسوي بين الأعيان فكلها من عين واحدة قد صدرت ، لا على جهة الخلق ، فذلك معنى يصح من وجه فالمخلوقات كلها قد صدرت من الخالق ، جل وعلا ، صدور المخلوق من خالقه ، فكونها بكلماته التكوينية النافذة ، فلم يرد الاتحادي ذلك ، وإنما أراد صدور المخلوق من الخالق على جهة الحقيقة : فحقيقة المخلوق جزء من حقيقة الخالق ! ، وهو مع ذلك يصير جميع الأديان صحيحة فيسوي بين التوحيد والتثليث وسائر رسوم الكفر والتشريك فالجميع من عين واحدة قد صدر ! ، فوحدة في الأعيان وأخرى في الأديان يحتفي بها الغرب الآن فهي لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا ، والطرح الليبرالي المعاصر يسير على نفس المنهاج وإن لم يقل بمقال الاتحاد ، من كل وجه ، فيطلق الحريات برسم الإقرار لكل دين ومسلك ، وذلك مذهب يفسد الدين والدنيا معا ، فأوله إبطال للتكليف الشرعي بالتذرع بالجبر ، فلا اختيار للمكلف في فعله حسن أو قبح فعلام اللوم وهو مجبر لا إرادة له في إيقاع ما يقول ويفعل ؟! ، وذلك مذهب يكفي تصوره أو فرضه في الذهن ، يكفي مجرد ذلك لإبطاله فهو ينقض القياس والحس فضلا عن مناقضته لموارد الوحي الذي أثبت للمكلف اختيارا صحيحا فهو مورد التكليف الذي يثاب المكلف عليه ويعاقب ، فــ : (مَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، فأثبت المشيئتين ، فلا يقع الفعل إلا بمشيئة الرب ، جل وعلا ، قدرا كونيا ، ومشيئة العبد سببا من جملة الأسباب المؤثرة في إيقاع الفعل في الخارج فلا يقع إلا بجملة أسباب تثبت وجملة موانع في المقابل تنتفي ، فيفسد هذا المذهب أمر الدين بل وأمر الدنيا فهو حجة لكل من ظلم وتعدى فله أن يحتج بالجبر وبأن الجميع مراد الرب ، جل وعلا ، فهو مما يحب ويرضى ، ولو ظلما وفحشا ، فيسوي صاحبه بين المراد الكوني والمراد الشرعي ، ثم يلج بعد ذلك إلى مقالة الاتحاد الأفحش في قياس العقل الصريح الذي يقضي ، كما تقدم ، بالتسوية بين المتماثلات في الأحكام ، فللمؤمن حكم المؤمن في الأديان ، وللطاهر حكم الطاهر في الأعيان ، وإن تباينا في الخارج بداهة فعين زيد تباين عين عمرو ، فلكلٍ وجود وحكم في الخارج وإن اشتركا في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، ولله المثل الأعلى فبينونة ذاته القدسية من سائر الذوات الأرضية تثبت من باب أولى ، وإن وقع الاشتراك في معنى الوجود الكلي المطلق في الذهن ، كما تقدم ، فشتان وجود واجب الوجود الأول فليس قبله شيء ، الآخر ، فليس بعده شيء ، تبارك وتعالى ، ووجود المخلوق الحادث فهو بالعدم مسبوق وبالفناء ملحوق فضلا عما يعتريه من أعراض النقص فسنة ونوم ولغوب ومرض وهرم وموت وجوع وعطش ...... إلخ وكل أولئك مما تنزه عنه الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فهو السلام القدوس فتنزه عن كل نقص وسلم من كل عيب وقدح ، وهذا قدر فارق رئيس بين مقالة التوحيد : مقالة النبوة الجامعة التي نزهت الرب ، جل وعلا ، عن كل عيب ونقص ، وسائر المقالات سواء أكانت سماوية مبدلة أم أرضية محدثة فلا تنفك عن شوب قدح في ذات ووصف الرب ، جل وعلا ، والشاهد أن هذا مقال يعارض ناموس الدين بل وقانون الكون ، فأصحابه :
"أَعْدَاءُ اللَّهِ وَأَعْدَاءُ جَمِيعِ رُسُلِهِ بَلْ أَعْدَاءُ جَمِيعِ عُقَلَاءِ بَنِي آدَمَ بَلْ أَعْدَاءُ أَنْفُسِهِمْ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَوْلَ لَا يُمَكِّنُ أَحَدًا أَنْ يَطْرُدَهُ وَلَا يَعْمَلَ بِهِ سَاعَةً مِنْ زَمَانٍ إذْ لَازَمَهُ: أَنْ لَا يَدْفَعَ ظُلْمَ ظَالِمٍ وَلَا يُعَاقِبُ مُعْتَدٍّ وَلَا يُعَاقِبُ مُسِيءٍ لَا بِمِثْلِ إسَاءَتِهِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهَا. وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ إنَّمَا يُشِيرُونَ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَهْوَاءِ أَنْفُسِهِمْ لِرَفْعِ الْمَلَامِ عَنْهُمْ وَإِلَّا فَإِذَا كَانَ لَهُمْ هَذَا مَعَ أَحَدٍ قَابَلُوهُ وَقَاتَلُوهُ وَاعْتَدَوْا عَلَيْهِ أَيْضًا وَلَا يَقِفُونَ عِنْدَ حَدٍّ وَلَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً بَلْ هُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ظَلَمَةٌ جُهَّالٌ مِثْلُ السَّبُعِ الْعَادِي يَفْعَلُونَ بِحُكْمِ الْأَهْوَاءِ الْمَحْضَةِ وَيَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ الْمَلَامَ وَالْعَذَلَ أَوْ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِالْجَبْرِ الْبَاطِلِ وَبِمُلَاحَظَةِ الْقَدْرِ النَّافِذِ مُعْرِضِينَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَلَا يَفْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ بِمَنْ اعْتَدَى عَلَيْهِمْ وَظَلَمَهُمْ وَآذَاهُمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ قَصَّرَ فِي حُقُوقِهِمْ بَلْ وَلَا بِمَنْ أَطَاعَ اللَّهَ: فَأَمَرَ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَنَهَى عَمَّا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/410 ، 411) .
فلا تنفك النفس عن هذه الحركة القلبية التي تولد في النفس إرادة ، فترغب في المحبوب وترغب في المقابل عن المكروه ، وذلك تسلسل صحيح في الشرع والعقل فــ : علم يولد في القلب محبة تولد في النفس إرادة تولد في الخارج قولا وفعلا ، فتكتمل أجزاء الصورة التصورية الإرادية الباطنة ، القولية الفعلية الظاهرة ، فهي تأويل ما ركز الرب ، جل وعلا ، في النفس من قوى العلم النظري والعمل الإرادي ، ولذلك كان الإيمان المرضي مستغرقا لتلك الأجزاء فعقد باطن يستمد من الوحي ، يولد في القلب محبة للحق فيحب العبد الرب ، جل وعلا ، فتلك دعوى ، تصدقها الإرادة فتتولد في نفسه إرادة الطاعة ، فيقع لزوما : القول والفعل فهما شاهدا الصدق في الخارج ، فإذا لم يكن ثم مانع شرعي أو كوني ، وقع القول والفعل ضرورة فذلك تأويل الاستطاعة الكونية التي تقع بها الأفعال ففيها قدر زائد على الاستطاعة الشرعية : متعلق التكليف ، فتزيد عليها : إذن الرب القادر ، جل وعلا ، وتيسير الأسباب وانتفاء الموانع فتتولد في القلب الإرادة التي تتأولها الجوارح بما ركز فيها من قوى الفعل فيخلق الرب ، جل وعلا ، بها فعل الفاعل ، فهو خالق السبب من إرادة قلب وقوة جارحة فخلق في اليد قوة البطش وخلق في القدم قوة السير وخلق في اللسان قوة الكلام ...... إلخ ، وهو خالق المسبَّب من قول وفعل في الخارج .
فــ : "الْمُؤْمِنُ الَّذِي آمَنَ بِاَللَّهِ بِقَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ إيمَانُهُ يَجْمَعُ بَيْنَ عِلْمِ قَلْبِهِ وَحَالِ قَلْبِهِ: تَصْدِيقُ الْقَلْبِ وَخُضُوعُ الْقَلْبِ وَيَجْمَعُ قَوْلَ لِسَانِهِ وَعَمَلَ جَوَارِحِهِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِيمَانِ هُوَ مَا فِي الْقَلْبِ أَوْ مَا فِي الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ؛ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فِي قَلْبِهِ التَّصْدِيقُ بِاَللَّهِ وَالْإِسْلَامُ لَهُ هَذَا قَوْلُ قَلْبِهِ وَهَذَا عَمَلُ قَلْبِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ بِاَللَّهِ. وَالْعِلْمُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَالْإِدْرَاكُ قَبْلَ الْحَرَكَةِ وَالتَّصْدِيقُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَالْمَعْرِفَةُ قَبْلَ الْمَحَبَّةِ وَإِنْ كَانَا يَتَلَازَمَانِ؛ لَكِنَّ عِلْمَ الْقَلْبِ مُوجِبٌ لِعَمَلِهِ مَا لَمْ يُوجَدْ مُعَارِضٌ رَاجِحٌ وَعَمَلُهُ يَسْتَلْزِمُ تَصْدِيقَهُ إذْ لَا تَكُونُ حَرَكَةً إرَادِيَّةً وَلَا مَحَبَّةً إلَّا عَنْ شُعُورٍ لَكِنْ قَدْ تَكُونُ الْحَرَكَةُ وَالْمَحَبَّةُ فِيهَا فَسَادٌ إذَا لَمْ يَكُنْ الشُّعُورُ وَالْإِدْرَاكُ صَحِيحًا. قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: " مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كَانَ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ " فَأَمَّا الْعَمَلُ الصَّالِحُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ: فَلَا يَكُونُ إلَّا عَنْ عِلْمٍ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ تَنْتَظِمُ الْعِلْمَ وَالْعَمَلَ جَمِيعًا: عِلْمَ الْقَلْبِ وَحَالَهُ وَإِنْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ قَوْلُ اللِّسَانِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ أَيْضًا فَإِنَّ وُجُودَ الْفُرُوعِ الصَّحِيحَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِوُجُودِ الْأُصُولِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/382) .
فالحاصل أن الإرادة من : الكليات المطلقة في الذهن ، فتقبل الانقسام في الخارج فمنها الكوني القدري ، ولا يلزم من وقوع متعلقها وقوع متعلق المحبة فهي لا تقبل الانقسام فموردها شرعي فقط ، فلا يعم ما شاء الرب ، جل وعلا ، وقوعه من الكفر والفجور ، فشاء الكفر بقدره الكوني ، ولم يأمر به بقدره الديني التكليفي ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ومن الإرادة : الإرادة الدينية الشرعية فمتعلقها هو متعلق المحبة من مراضي الرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وإن لم يشأ وقوعه بقدره الكوني ، فمتعلق الأولى : كلماته الكونيات ، ومتعلق الثانية : كلماته الشرعيات ، فـــ :
"قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ بَيْنَ مَنْ قَامَ بِكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّاتِ وَبَيْنَ مَنْ اتَّبَعَ كَلِمَاتِهِ الدِّينِيَّاتِ وَذَلِكَ فِي أَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ وَحُكْمِهِ وَإِذْنِهِ وَبَعْثِهِ وَإِرْسَالِهِ؛ فَقَالَ فِي الْأَمْرِ الدِّينِيِّ الشَّرْعِيِّ: {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} . وَقَالَ فِي الْأَمْرِ الْكُوفِيِّ الْقَدَرِيِّ: {إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ. وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} .
{يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} .
وَقَالَ فِي الْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا} {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} .
وَبِهَذَا الْجَمْعِ وَالتَّفْرِيقِ تَزُولُ الشُّبْهَةُ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْرِ الشَّرْعِيِّ: هَلْ هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ؛ وَإِنْ كَانَ مُسْتَلْزِمًا لِلْإِرَادَةِ الدِّينِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/411 ، 412) .
فليس كل ما يحبه يشاؤه ، وليس كل ما يشاؤه يحبه ، فثم قدر فارق بين خلق الحركة والإدراك بقدر التكوين فهذا رسم عام لجميع الأعيان والأحوال الباطنة إرادة والظاهرة قولا وفعلا ، فهذا رسم عام يكافئ هداية البيان والإرشاد ، فثم قدر فارق بينها وبين جريانها من وجه آخر على مقتضى التشريع فهذا رسم خاص يكافئ هداية التوفيق والإلهام ، فــ : "إِنَّ الْعَبْدَ بِحَسَبِ أَعْضَائِهِ وَقُوَاهُ يَكُونُ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ؛ فَإِذَا كَانَ إدْرَاكُهُ وَحَرَكَتُهُ بِالْحَقِّ؛ لَيْسَ بِمَعْنَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ وَالْحَرَكَةِ فَإِنَّ هَذَا قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ فِيمَنْ يُحِبُّهُ وَفِيمَنْ لَا يُحِبُّهُ وَإِنَّمَا لِلْمَحْبُوبِ الْحَقُّ مِنْ الْحَقِّ مِنْ هَذِهِ الْإِعَانَةِ بِقَدْرِ مَا لَهُ مِنْ الْمَعِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/391) .
والولي حقا من يتتبع موارد الإرادة الدينية الشرعية فيتأول لازمها من مراضي الرب ، جل وعلا ، فلا يحب إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، ولا يبغض إلا ما يبغض ، عز وجل ، فلا يحب كل شيء فذلك مما ينقض أصل الشرع والعقل ، كما تقدم ، فمن الأشياء ما يبغضها الرب ، جل وعلا ، وإن شاء وقوعها ، فكيف يحب العبد ما يبغض الرب ، جل وعلا ، وهو يزعم محبته ، فمن أحب أحدا : أحب ما أحب وأبغض ما أبغض ، فــ : "إِنَّهُ من لزم مَا يرضى الله من امْتِثَال أوامره وَاجْتنَاب نواهيه لَا سِيمَا إذ قَامَ بواجبها ومستحبها يرضى الله عَنهُ كَمَا أنه من لزم محبوبات الله أحبه الله كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب إلي عَبدِي بِمثل أداء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب إلي بالنوافل حَتَّى أحبه فَإِذا أحببته الحَدِيث" . اهــ من : "الاستقامة" .
و : "من كَانَ حبه لله وبغضه لله لَا يحب إلا لله وَلَا يبغض إلا لله ولا يعطي إلا لله وَلَا يمْنَع إلا لله فَهَذِهِ حَال السَّابِقين من أَوْلِيَاء الله .......... فــ : هَؤُلَاءِ الَّذين أَحبُّوا الله محبَّة كَامِلَة فتقربُوا بِمَا يُحِبهُ من النَّوَافِل بعد تقربهم بِمَا يُحِبهُ من الْفَرَائِض أحبهم الله محبَّة كَامِلَة حَتَّى بلغُوا مَا بلغوه وَصَارَ أحدهم يدْرك بِاللَّه ويتحرك بِاللَّه بِحَيْثُ أَن الله يجيب مَسْأَلته ويعيذه مِمَّا استعاذ مِنْهُ" . اهــ بتصرف من : "الزهد والورع والعبادة" .
فذلك قياس العقل الصريح طردا وعكسا في المحبة والبغض ، فــ : "إِنَّ وَلِيَّ اللَّهُ لِكَمَالِ مَحَبَّتِهِ لِلَّهِ وَطَاعَتِهِ لِلَّهِ يَبْقَى إدْرَاكُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ وَعَمَلُهُ لِلَّهِ وَبِاَللَّهِ؛ فَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَسْمَعُهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُحِبُّهُ الْحَقُّ أَحَبَّهُ وَمَا يَرَاهُ مِمَّا يُبْغِضُهُ الْحَقُّ أَبْغَضَهُ؛ وَيَبْقَى فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ مِنْ النُّورِ مَا يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ؛ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ {اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا وَفِي سَمْعِي نُورًا وَعَنْ يَمِينِي نُورًا وَعَنْ يَسَارِي نُورًا وَفَوْقِي نُورًا وَتَحْتِي نُورًا وَأَمَامِي نُورًا وَخَلْفِي نُورًا وَاجْعَلْ لِي نُورًا} . فَوَلِيُّ اللَّهِ فِيهِ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ: مَا يَتَّحِدُ بِهِ الْمَحْبُوبُ وَالْمَكْرُوهُ وَالْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ وَنَحْوُ ذَلِكَ فَيَبْقَى مَحْبُوبُ الْحَقِّ مَحْبُوبَهُ وَمَكْرُوهُ الْحَقِّ مَكْرُوهَهُ وَمَأْمُورُ الْحَقِّ مَأْمُورَهُ وَوَلِيُّ الْحَقِّ وَلَيَّهُ وَعَدُوُّ الْحَقِّ عَدُوَّهُ؛ بَلْ الْمَخْلُوقُ إذَا أَحَبَّ الْمَخْلُوقَ مَحَبَّةً تَامَّةً حَصَلَ بَيْنَهُمَا نَحْوٌ مِنْ هَذَا حَتَّى قَدْ يَتَأَلَّمُ أَحَدُهُمَا بِتَأَلُّمِ الْآخَرِ وَيَلْتَذُّ بِلَذَّتِهِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/373) .
فعنده من الفرقان الشرعي بين الحق والباطل ما يحصل به التصور الصريح وما يتأول به المكلف الحكم الشرعي المرضي فهو مراد الرب العلي ، تبارك وتعالى ، كما تقدم .
و : "إذا كان العبد لا يكون وليا لله إلا إذا كان مؤمنا تقيا ، لقوله تعالى : {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون} .
وفي صحيح البخاري : الحديث المشهور ....... : يقول الله تبارك وتعالى فيه : «ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه» ولا يكون مؤمنا تقيا حتى يتقرب إلي بالفرائض ، فيكون من الأبرار أهل اليمين ، ثم بعد ذلك لا يزال يتقرب بالنوافل ، حتى يكون من السابقين المقربين ، فمعلوم أن أحدا من الكفار والمنافقين لا يكون وليا لله ، وكذلك من لا يصح إيمانه وعباداته وإن قدر أنه لا إثم عليه مثل أطفال الكفار ، ومن لم تبلغه الدعوة ، وإن قيل : أنهم لا يعذبون حتى يرسل إليهم ، فلا يكونون من أولياء الله ، إلا إذا كانوا من المؤمنين المتقين ، فمن لم يتقرب إلى الله لا بفعل الحسنات ولا بترك السيئات ، لم يكن من أولياء الله" . اهــ من : "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان" .
فتتفاوت رتب العباد بتفاوت أحوالهم قربا أو بعدا ، فمن قرب فله من الولاية بقدر قربه ، فالقرب في نفسه يتفاوت فذلك تفاوت ثان ، فــ : "الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ إذَا أَنَابَ إلَى رَبِّهِ وَعَبَدَهُ وَوَافَقَهُ حَتَّى صَارَ يُحِبُّ مَا يُحِبُّ رَبُّهُ وَيَكْرَهُ مَا يَكْرَهُ رَبُّهُ وَيَأْمُرُ بِمَا يَأْمُرُ بِهِ رَبُّهُ وَيَنْهَى عَمَّا يَنْهَى عَنْهُ رَبُّهُ وَيَرْضَى بِمَا يُرْضِي رَبَّهُ وَيَغْضَبُ لِمَا يَغْضَبُ لَهُ رَبُّهُ وَيُعْطِي مَنْ أَعْطَاهُ رَبُّهُ وَيَمْنَعُ مَنْ مَنَعَ رَبُّهُ فَهُوَ الْعَبْدُ الَّذِي قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أمامة: {مَنْ أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ وَأَعْطَى لِلَّهِ وَمَنَعَ لِلَّهِ فَقَدْ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ} وَصَارَ هَذَا الْعَبْدُ دِينُهُ كُلُّهُ لِلَّهِ وَأَتَى بِمَا خَلَقَ لَهُ مِنْ الْعِبَادَةِ. فَقَدْ اتَّحَدَتْ أَحْكَامُ هَذِهِ الصِّفَاتِ الَّتِي لَهُ وَأَسْبَابُهَا بِأَحْكَامِ صِفَاتِ الرَّبِّ وَأَسْبَابِهَا. وَهُمْ فِي ذَلِكَ عَلَى دَرَجَاتٍ؛ فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَانَ لَهُ مِنْ الْمُوَافَقَةِ لِلَّهِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ وَالْمُرْسَلُونَ فَوْقَ ذَلِكَ وَأُولُو الْعَزْمِ أَعْظَمُ وَنَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ الْوَسِيلَةُ الْعُظْمَى فِي كُلِّ مَقَامٍ. فَهَذِهِ الْمُوَافَقَةُ هِيَ الِاتِّحَادُ السَّائِغُ سَوَاءٌ كَانَ وَاجِبًا أَوْ مُسْتَحَبًّا وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَتْ نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وَقَالَ: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَقَالَ تَعَالَى: {أَحَبَّ إلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/389) .
فالاتحاد معنى مجمل تتعدد موارده في الخارج ، فمنه الاتحاد المذموم ، وهو ما وقع فيه ولا يزال أرباب التصوف الغالي على اختلاف مللهم ونحلهم فبوذية تجعل الإنسان جزءا من الإله فتختل حاله إذا انفصل عنه ! ، فيمارس الإنسان ضروبا من الرياضات الشاقة ليحصل له التأمل المفضي إلى بلوغ الغاية العلمية والحقيقة الإلهية ، فقد اتحدت ذاته بالإله وانحلت روحه من عقال البدن فجالت في الملكوت ودخلت على الرب المعبود ، جل وعلا ! ولا يخفى ما بين هذا المقال الوثني والمقال الصوفي الاتحادي من تشابه وربما تماثل فهو يشي بأصول التصوف الغالي فمن مستمداته : الديانات الوثنية القديمة ، ونصرانية جعلت الاتحاد الخاص : قانون الملة ، وصوفية اتحادية جعلت الاتحاد في الأعيان فكلها إلهية ، والأديان ، فكلها مرضية ! ، جعلته غاية التحقيق ! .
ومنه في المقابل : الاتحاد المحمود بأن يتحد مراد العبد بمراد الرب ، جل وعلا ، الديني الشرعي لا الكوني القدري ، فمنه ما لا يرضي الرب العلي ، تبارك وتعالى ، وإن شاء حصوله لحكمة تزيد على مفسدة وقوعه ، فذلك أثر قدرته النافذة في خلق الأضداد ، وحكمته البالغة في تدافع الأسباب ، فالاتحاد المحمود يكون بموافقة مراد الرب الشرعي لازم محبته ، لا مراده القدري لازم مشيئته ، فمقام الجمع يقتضي إثبات إرادة التكوين ، فجميع الخلق تحت المشيئة النافذة في الدنيا والآخرة ، ومقام الفرق يقتضي امتثال إرادة التشريع فبها يفرق العبد بين مراضي الرب ، جل وعلا ، ليمتثلها ومساخطه ليجتنبها ، فيحصل له بذلك : الجمع فذلك إيمانه بالقدر ، والفرق فذلك امتثاله للشرع ، فيفنى عن عبادة السوى بالفرق بين الأمر والنهي فيمتثل مراضيه فــ : (إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) ، وينتهي عن مساخطه ، فــ : (لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) ، ويفنى عن شهود السوى بالجمع فــ : (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) .
فيشهد العبد بقلبه مقام الربوبية فهو مقام الجمع فكل الكائنات الحادثة من الرب ، جل وعلا ، فابتداء غايتها منه ، ولكنها ليست جزءا منه كما ذهب إلى ذلك من ذهب من المشركين ، فــ : (جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ، فهي منه خلقا ، فابتداء غاية خلقها منه ، جل وعلا ، فبها تظهر آثار أسمائه الحسنى وصفاته العلى ، فذلك معنى صحيح لظهور الرب ، جل وعلا ، في خلقه ، فهو ظهور آثار صفاته العلية لا ظهور ذاته القدسية كما زعم أهل الحلول والاتحاد ، فقد اشتبه ذلك على من غلا في شهود مقام الربوبية ، فوقع في فناء الشهود فلم يشهد إلا فعل الرب المعبود ، جل وعلا ، في الكون ، فذلك مما وقع لبعض العارفين وليس من دين رب العالمين ، جل وعلا ، فتلك حال ناقصة يعتذر عن صاحبها إن كان من الأفاضل فما أراد إلا تعظيم الرب الخالق ، جل وعلا ، فغلا في تقرير مقام الجمع ربوبية ففني بالمسبِّب جل وعلا عن الأسباب في الخارج فلا يرى فيها إلا مجريها ، فتشتبه الحال الكاملة بظهور ألوهية الله ، جل وعلا ، في عبده ، بامتثاله لأمره ونهيه ، تشتبه بحال أخرى وهي : "مَا يُظْهِرُهُ الرَّبُّ مِنْ آثَارِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي بَعْضِ عِبَادِهِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ وَلَا هُوَ عِبَادَةٌ لَهُ مِثْلَ مَا يُعْطِيهِ مِنْ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ بَعْضَ الْمُلُوكِ الْمُسَلَّطِينَ مِمَّنْ قَدْ يَكُونُ مُسْلِمًا وَقَدْ لَا يَكُونُ كَفِرْعَوْنَ وجنكسخان وَنَحْوَهُمَا وَمَا يَهَبُهُ مِنْ الرِّزْقِ وَالْمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ وَمَا يُقَسِّمُهُ مِنْ الْجَمَالِ لِبَعْضِ عِبَادِهِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَكَذَلِكَ مَا يَهَبُهُ مِنْ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ أَوْ يَهَبُهُ مِنْ الْأَحْوَالِ أَوْ يُعْطِيهِ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُكَاشَفَاتِ وَالتَّأْثِيرَاتِ سَوَاءٌ كَانَ هَؤُلَاءِ مُؤْمِنِينَ أَوْ كُفَّارًا مِثْلَ الْأَعْوَرِ الدَّجَّالِ وَنَحْوَهُ. فَإِنَّهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ يَقُومُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مِنْ آثَارِ الرُّبُوبِيَّةِ وَأَحْكَامِ الْقُدْرَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَمَا يَقُومُ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ آثَارِ الْأُلُوهِيَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرْعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقُومُ بِغَيْرِهِ؛ وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْقِسْمَانِ فِي عَبْدٍ كَمَا يَجْتَمِعُ فِي الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ: مِثْلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَسِيحِ ابْنِ مَرْيَمَ وَغَيْرِهِمَا" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/407 ، 408) .
فاجتمع في الأنبياء عليهم السلام بما هم عليه من حال شرعية كاملة وحال كونية خارقة : اجتمع فيهم تأويل إرادة التكوين تأييدا بالآيات المعجزة ، وتأويل إرادة التشريع فهم أطوع الخلق للخالق ، جل وعلا ، ففيهم ظهرت آثار الألوهية امتثالا وآثار الربوبية إعجازا .
والشاهد أن آثار وصف الرب ، جل وعلا ، تظهر في الكائنات خلقا ، فــ : "جَمِيعُ الْكَائِنَاتِ: آيَاتٌ لَهُ شَاهِدَةٌ دَالَّةٌ مُظْهِرَةٌ لِمَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى؛ وَعَنْ مُقْتَضَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ خَلَقَ الْكَائِنَاتِ. فَإِنَّ الرَّحِمَ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحْمَنِ خَلَقَ الرَّحِمَ وَشَقَّ لَهَا مِنْ اسْمِهِ؛ وَهُوَ الرَّازِقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُوَ الْهَادِي النَّصِيرُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيَنْصُرُ رُسُلَهُ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ. وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَا لَا يُحْصِيهِ إلَّا هُوَ. فَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَالْعَالَمُونَ مُمْتَلِئُونَ بِمَا فِيهِمْ مِنْ آثَارِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ مِنْ النَّاسِ مَنْ يُدْرِكُ مَا فِيهَا مِنْ الدَّلَالَةِ وَالشَّهَادَةِ بِالْعِلْمِ وَالْمَعْرِفَةِ. وَمَنْ خَرَقَ اللَّهُ سَمْعَهُ سَمِعَ تَأْوِيبَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ وَعَلِمَ مَنْطِقَ الطَّيْرِ. فَإِذَا فُسِّرَ ظُهُورُهُ وَتَجَلِّيهِ بِهَذَا الْمَعْنَى: فَهَذَا صَحِيحٌ وَلَكِنْ لَفْظُ الظُّهُورِ وَالتَّجَلِّي فِيهِ إجْمَالٌ ...... ، (فقد يريد به تجلي وصف الربوبية خلقا وتدبيرا فهذا معنى صحيح وقد يريد به ما أراده الاتحادية من تجلي الذات الإلهية القدسية في الذات الأرضية فذلك معنى باطل لما يلزم منه من حلول الكامل في الناقص فيلحقه وصف النقص لزوما وهذا مما تنزه عنه الرب جل وعلا بداهة) ، وَإِذَا قَالَ الْقَائِلُ: مَا رَأَيْت شَيْئًا إلَّا وَرَأَيْت اللَّهَ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ رَبُّهُ وَالرَّبُّ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْعَبْدِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ آيَتُهُ وَدَلِيلُهُ وَشَاهِدُهُ؛ وَالْعِلْمُ بِالْمَدْلُولِ بَعْدَ الدَّلِيلِ أَوْ رَأَيْت اللَّهَ فِيهِ بِمَعْنَى ظُهُورِ آثَارِ الصَّانِعِ فِي صَنْعَتِهِ فَهَذَا صَحِيحٌ. بَلْ الْقُرْآنُ كُلُّهُ يُبَيِّنُ هَذَا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينُ الْمُرْسَلِينَ وَسَبِيلُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَهُوَ اعْتِقَادُ الْمُسْلِمِينَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ وَمَنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ ذَوِي الْمَعْرِفَةِ وَالْيَقِينِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الْمُتَّقِينَ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/400 ، 401) .
فالكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا تظهر فيه آثار قدرته النافذة وحكمته البالغة ، فــ :
"فَهَذَانِ الْأَصْلَانِ عُمُومُ خَلْقِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَعُمُومُ إحْسَانِهِ وَحِكْمَتِهِ : أَصْلَانِ عَظِيمَانِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/400) .
فجميع الكائنات منه ، جل وعلا ، خلقا ، لا جزءا أو وصفا كما زعمت الغالية من المثلثة الذين جعلوا الأقانيم الحادثة من الرب ، جل وعلا ، وصفا في تحكم عجيب ينقض قياس العقل الصريح ، فالوصف لا يباين الموصوف فلا يستقل بذاته وإنما يقوم بموصوفه ، والوصف لا يتجسد في الخارج ، ولو سلم بذلك ، فرضا ، فتجسده في ناسوت أو أقنوم حادث يجوز بل ويوجب طروء النقص عليه بما يعتري الناسوت أو الأقنوم من أعراض النقص والفناء التي لا ينفك عنها كائن حادث ، وذلك معنى منتف بداهة في حق الرب السلام السبوح القدوس تبارك وتعالى .
والشاهد أن مقام الربوبية الجامعة ، مما يشهده القلب ، فذلك قدر علمي صحيح ، فهو أول درجات التكليف ، ولكنه لا يكفي حتى يشفع بلازمه من شهود مقام الألوهية فهو مقام الفرق بين المأمور والمحظور ، فــ :
"إنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ التَّوَجُّهِ إلَى اللَّهِ إذَا أَقْبَلُوا عَلَى ذِكْرِهِ وَعِبَادَتِهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ: شَهِدُوا بِقُلُوبِهِمْ هَذِهِ الرُّبُوبِيَّةَ الْجَامِعَةَ وَهَذِهِ الْإِحَاطَةَ الْعَامَّةَ فَإِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْحَقُّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ مَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحَقِّ وَهُوَ سُبْحَانَهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ : {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} الْآيَةَ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ عِنْدَهُ لَيْلٌ وَلَا نَهَارٌ. نُورُ السَّمَوَاتِ مِنْ نُورِ وَجْهِهِ. هَكَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : "لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ يُرْفَعُ إلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجَابُهُ النُّورُ أَوْ النَّارُ لَوْ كَشَفَهَا لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ" هَكَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنْ أَبِي مُوسَى .
فَقَدْ يَشْهَدُ الْعَبْدُ الْقَدْرَ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَ الْمَصْنُوعَاتِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَوْجُودُ فِيهَا الَّذِي هُوَ شَامِلٌ لَهَا فَيَظُنُّ أَنَّهُ الْخَالِقُ لِمُطَابَقَتِهِ لَهُ فِي نَوْعٍ مِنْ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا هُوَ صُنْعُهُ وَخَلْقُهُ ثُمَّ قَدْ يَرْتَقِي إلَى حِجَابٍ مِنْ حُجُبِهِ النُّورِيَّةِ أَوْ النَّارِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ هُوَ ثُمَّ يَرْتَقِي إلَى نُورِهِ وَمَا يَظْهَرُ مِنْ أَثَرِ صِفَاتِهِ؛ فَقَدْ يَقَعُ بَعْضُ هَؤُلَاءِ فِي نَحْوٍ مَنْ مَذْهَبِ أَهْلِ الِاتِّحَادِ الْمُطْلَقِ الْعَامِّ؛ فَإِنْ تَدَارَكَهُمْ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ وَاتَّبَعُوا هُدَى اللَّهِ: عَلِمُوا أَنَّ هَذَا كُلَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ وَأَنَّ الْخَالِقَ لَيْسَ هُوَ الْمَخْلُوقَ وَأَنَّ جَمِيعَهُمْ عِبَادٌ لِلَّهِ وَرُبَّمَا قَدْ يَقَعُ هَذَا فِي نَوْعٍ مِنْ الْفَنَاءِ أَوْ السُّكْرِ فَيَكُونُ مُخْطِئًا غالطا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَغْفُورًا لَهُ إذَا كَانَ بِسَبَبِ غَيْرِ مَحْظُورٍ كَمَا ذَكَرْنَا نَظِيرَهُ فِي الِاتِّحَادِ الْمُعَيَّنِ . (كما يقع لأهل فناء الشهود ممن لم يصلوا إلى فناء الوجود الذي يلزم منه الاتحاد الباطل بين الرب الخالق ، جل وعلا ، والمخلوق الحادث) .
وَهُوَ كَمَا يَشْهَدُ رُبُوبِيَّتَهُ وَتَدْبِيرَهُ الْعَالَمَ الْمُحِيطَ وَحِكْمَتَهُ وَرَحْمَتَهُ: فَكَذَلِكَ يَشْهَدُ إلَهِيَّتَهُ الْعَامَّةَ؛ فَإِنَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إلَهٌ إلَهٌ فِي السَّمَاءِ وَإِلَهٌ فِي الْأَرْضِ {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} - الْآيَةَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ عَلَى وَقْفِ مَنْ يَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَفِي الْأَرْضِ} فَإِنَّ الْمَعْنَى هُوَ فِي السَّمَوَاتِ اللَّهُ وَفِي الْأَرْضِ اللَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا مَنْ هُوَ اللَّهُ غَيْرُهُ ........... فـ : بِذَلِكَ تَظْهَرُ أُلُوهِيَّةُ اللَّهِ فِي عَبْدِهِ وَتَظْهَرُ إنَابَةُ الْعَبْدِ إلَى رَبِّهِ وَمُوَافَقَتُهُ لَهُ فِي مَحَبَّتِهِ وَرِضَاهُ وَأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ" . اهــ
بتصرف من : "مجموع الفتاوى" ، (2/402_404 ، 407) .
فالغلو في الأول قد يوقع صاحبه في الإفراط في المحبة فيحب كل شيء فهو من الرب ، جل وعلا ، وذلك صحيح بقيد التكوين الذي لا يستلزم المحبة ، فكل الكائنات منه خلقا ، كما تقدم ، ولكن مقام الألوهية الفارق قد باين بينها فمنها ما يحب الرب ، جل وعلا ، ومنها ما يبغض ، فمن لم يشفع المقام الأول بالثاني وقع في هذا الغلو فأحب كل شيء ، وإن لم يحبه الرب ، جل وعلا ، فإفراطه في محبة الكائنات يقطع قلبه عن حب خالقها ، جل وعلا ، فقد فني بها عنه ، فاشتغل قلبه بحب الصور الحادثة وظن ذلك مراد الرب ، جل وعلا ، فما خلق إلا ما يحب من الأعيان والأحوال ، فيسوي بينها جميعا فتستوي عنده الصورة المباحة والصورة المحرمة ، فلا عجب أن يقع من يقع في براثن العشق المحرم ، فالناظر في حاله قد يعجب ابتداء بل ويسخر من تعلقه بصورة أرضية حادثة قد شغلته بل وعبدته لها ، كما يقع في قصص العشاق سواء أكان عشقهم مباحا في أصله ثم زاد عليه صاحبه فأفرط في تعاطي المباح كعشق الزوجات أم كان محرما كعشق الأجنبيات بل والصبية والمردان فمنشأ الداء واحد وهو التعلق بصورة جميلة ، تعلقا يفسد إدراك صاحبه فيظن فيها كمالا من كل وجه فيفسد حكمه تبعا لفساد إدراكه فيفرط في حبها حتى يصير مضرب المثل في العشق والهيام وربما الجنون في دور تال كما هي حال كثير ممن ابتلي بالعشق سلمنا الرب جل وعلا من شره .
والنظر إلى صاحبه بعين القدر حتم لازم فهو مبتلى ، وإن لم يعذر بعين الشرع ، فلا يسخر منه عاقل خشية أن يبتلى بما هو فيه ، فلا يعرف ما به من ألم إلا من ابتلي ابتلاءه فــ :
لَا يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلَّا مَنْ يُكَابِدُهُ ******* وَلَا الصَّبَابَةَ إِلَّا مَنْ يُعَانِيهَا
لَا تَعْذِلِ الْمُشْتَاقَ فِي أَشْوَاقِهِ ******* حَتَّى تَكُونَ حَشَاكَ فِي أَحْشَائِهِ
والمعشوق في الغالب ظلوم غشوم يروم تعبيد العاشق له فيستأثر بمداركه ، ولا يأبه في الغالب بعبرات العاشق :
أتراها لكثرة العشاقِ ******* تحسب الدمع خلقةً في المآقي
فلا حظ له منها عبرة شوق :
كيف ترثي التي ترى كل جفن ******* راءها غير جفنها غير راقي
فقد فتن بنفسه ، وتلك حال لا يبكي صاحبها في الغالب فقد عوفي من أسباب الشوق ! :
أنت منا فتنت نفسك لكنك ******* عوفيت من ضني واشتياق .
بل وقد يفسد الإدراك في دور تال ، وهو ما يقع لأهل الحلول والاتحاد فيظن أن هذه الصورة الحادثة هي الله ، تبارك وتعالى عن هذا الإفك العلمي والفساد الحكمي ، فهي مثال قد تجسد فيه ، تبارك وتعالى ، بوصف جلاله كصورة فرعون ، أو بوصف جماله كصورة امرأة أو أمرد حسن الصورة ! ، فيلتذ بالنظر فيها وهي صورة محرمة فالمحبة فاسدة واللذة طارئة يعقبها ألم الحرمان فتفسد مدارك المكلف بوقوعه ، كما تقدم ، في ضروب من العشق الذي يفسد العقل والحس معا كما هي حال مجانين العشاق ! ، والصحيح أن ذلك ، كما تقدم ، ظهور لأثر وصفه في خلقه ، فخلق الجميع بكلماته فأبان عن كمال وصفه الأعلى بخلق الأضداد : إيمانا وكفرا ، عدلا وظلما ، حسنا وقبحا ، وعلق بكلٍ أحكاما شرعية تكليفية من فاتته بذريعة الاشتغال عنها بمطالعة أحكام الربوبية فسدت حاله في الأولى وفسد مآله في الآخرة ، فيسوغ لنفسه النظر في الصور المحرمة تأملا في بديع صنع الإله ! كما يقول من يقول من الفساق أو من بعض من خلط في باب الإرادات فسوى بين المراد الكوني فهو متعلق الربوبية وما يلزم منه ضرورة من الحكم الشرعي ، فلكل حدث كوني : حكم شرعي تكليفي ، ولو بالإباحة ، فلا بد أن يقترن الشرع بالكون وإلا وقع الفساد العريض في التصور والحكم .
فليس الرب ، جل وعلا ، بحال أو متحد بصورة أرضية ، فذلك معنى باطل بداهة ، وإن حل في قلب عبده المؤمن : مثالا علميا لا وجودا عينيا ، فذلك معنى صحيح ، فالحلول يجري ، أيضا ، مجرى الكليات المطلقة في الذهن فيقبل الانقسام في الخارج فمنه الصحيح ومنه الباطل ، فــ
"يُطْلَقُ لَفْظُ الْحُلُولِ وَالِاتِّحَادِ، وَيُرَادُ بِهِ مَعْنًى صَحِيحٌ، كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ بَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، إِذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِيمَا يُحِبَّانِ وَيُبْغِضَانِ، وَيُوَالِيَانِ وَيُعَادِيَانِ، فَلَمَّا اتَّحَدَ مُرَادُهُمَا وَمَقْصُودُهُمَا صَارَ يُقَالُ هُمَا مُتَّحِدَانِ، وَبَيْنَهُمَا اتِّحَادٌ، وَلَا يَعْنِي بِذَلِكَ أَنَّ ذَاتَ هَذَا اتَّحَدَتْ بِذَاتِ الْآخَرِ، كَاتِّحَادِ النَّارِ وَالْحَدِيدِ، وَالْمَاءِ وَاللَّبَنِ، أَوِ النَّفْسِ وَالْبَدَنِ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الْحُلُولِ، وَالسُّكْنَى، وَالتَّخَلُّلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .......... وَقَدْ يُقَالُ : فُلَانٌ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ، وَمَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، يُرَادُ بِذَلِكَ: إِلَّا ذِكْرُهُ وَمَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَخَشْيَتُهُ وَطَاعَتُهُ، وَمَا يُشْبِهُ ذَلِكَ، أَيْ لَيْسَ فِي قَلْبِهِ مَا فِي قَلْبِ غَيْرِهِ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، بَلْ مَا فِي قَلْبِهِ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ مَا عِنْدَهُ إِلَّا فُلَانٌ، إِذَا كَانَ يَلْهَجُ بِذِكْرِهِ، وَيُفَضِّلُهُ عَلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا بَابٌ وَاسِعٌ، مَعَ عِلْمِ الْمُتَكَلِّمِ وَالْمُسْتَمِعِ أَنَّ ذَاتَ فُلَانٍ لَمْ تَحُلَّ فِي هَذَا، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَتَّحِدَ بِهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ عَنِ الْمِرْآةِ إِذَا لَمْ تُقَابِلْ إِلَّا الشَّمْسَ: مَا فِيهَا إِلَّا الشَّمْسُ، أَيْ لَمْ يَظْهَرْ فِيهَا غَيْرُ الشَّمْسِ.
وَأَيْضًا فَلَفْظُ الْحُلُولِ يُرَادُ بِهِ حُلُولُ ذَاتِ الشَّيْءِ تَارَةً، وَحُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَمِثَالِهِ الْعِلْمِيِّ تَارَةً ...... وَعِنْدَهُمْ ، (أي : النصارى) ، فِي النُّبُوَّاتِ أَنَّ اللَّهَ حَلَّ فِي غَيْرِ الْمَسِيحِ مِنَ الصَّالِحِينَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ ذَاتَ الرَّبِّ حَلَّتْ فِيهِ، بَلْ يُقَالُ فُلَانٌ سَاكِنٌ فِي قَلْبِي وَحَالٌّ فِي قَلْبِي وَهُوَ فِي سِرِّي، وَسُوَيْدَاءِ قَلْبِي، وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا حَلَّ فِيهِ مِثَالُهُ الْعِلْمِيُّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَكَانَ إِذَا خَلَا مِمَّنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ وَلَا حَلَّتْ فِيهِ عِبَادَتُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، فَإِذَا صَارَ فِي الْمَكَانِ مَنْ يَعْرِفُ اللَّهَ وَيَعْبُدُهُ وَيَذْكُرُهُ ظَهَرَ فِيهِ ذِكْرُهُ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَحَلَّ فِيهِ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَعِبَادَتُهُ وَذِكْرُهُ، وَهُوَ بَيْتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِيهِ، وَهُوَ حَالٌّ فِيهِ.
كَمَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ، وَحَالٌّ فِيهِم، وَالْمُرَادُ بِهِ حُلُولُ مَعْرِفَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ ....... فَإِذَا كَانَ الرَّبُّ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، أَيْ نُورُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، وَعُبِّرَ عَنْ هَذَا بِأَنَّهُ حَالٌّ فِيهِمْ وَهُمْ حَالُّونَ فِي الْمَسْجِدِ - قِيلَ: إِنَّ اللَّهَ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَالٌّ فِيهِ، بِهَذَا الْمَعْنَى، كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ فِي قَلْبِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ، مَا عِنْدَهُ إِلَّا اللَّهُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ»" . اهــ
بتصرف من : "الجواب الصحيح" ، (2/204_206) .
فله ، جل وعلا ، المثل الأعلى ، فيحل بمثاله العلمي في قلب عبده : رجاء وخشية ، رغبة ورهبة ، محبة وعبادة ، فكل أولئك مثل علمية يصح حلولها في القلب خلافا لما زعمه أهل الحلول والاتحاد من حلول ذات الرب ، جل وعلا ، في القلب تمسكا بمتشابه من قول بعض العارفين ، فــ :
"هَذَا الْمَذْهَبُ بَاطِلٌ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَهُوَ بَاطِلٌ فِي نَفْسِهِ عَقْلًا وَنَقْلًا، وَإِنْ كَانَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْإِلْحَادِ وَالْبِدَعِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى تَقُولُ بِهِ، فَهَؤُلَاءِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِمْ مَا يَحُلُّ فِي قُلُوبِ الْعَارِفِينَ بِهِ، مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِ وَنُورِهِ وَهُدَاهُ وَالرُّوحِ مِنْهُ، وَمَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَثَلِ الْأَعْلَى، وَالْمِثَالِ الْعِلْمِيِّ ، وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ ذَاتُ الرَّبِّ، كَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ نَفْسَ اللَّفْظِ بِالِاسْمِ هُوَ الْمَعْنَى الَّذِي فِي الْقَلْبِ، أَوْ نَفْسَ الْخَطِّ هُوَ نَفْسُ اللَّفْظِ، وَمَنْ يَظُنُّ أَنَّ ذَاتَ الْمَحْبُوبِ حَلَّت فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ وَاتَّحَدَتْ بِهِ، أَوْ نَفْسَ الْمَعْرُوفِ الْمَعْلُومِ حَلَّ فِي ذَاتِ الْعَالِمِ الْعَارِفِ بِهِ وَاتَّحَدَ بِهِ، مَعَ الْعِلْمِ الْيَقِينِيِّ أَنَّ نَفْسَ الْمَحْبُوبِ الْمَعْلُومِ بَايِنٌ عَنْ ذَاتِ الْمُحِبِّ رُوحِهِ وَبَدَنِهِ، لَمْ يَحُلَّ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي ذَاتِ الْمُحِبِّ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الروم: 27] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] .
وَقَالَ تَعَالَى:
{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ} [الأنعام: 3] .
فَالْمُؤْمِنُونَ يَعْرِفُونَ اللَّهَ وَيُحِبُّونَهُ وَيَعْبُدُونَهُ وَيَذْكُرُونَهُ وَيُقَالُ هُوَ فِي قُلُوبِهِم، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَتُهُ وَمَحَبَّتُهُ وَعِبَادَتُهُ، وَهُوَ الْمَثَلُ الْعِلْمِيُّ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْسَ ذَاتِهِ، كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ لِغَيْرِهِ: أَنْتَ فِي قَلْبِي، وَمَا زِلْتَ فِي قَلْبِي وَبَيْنَ عَيْنَيَّ، وَيُقَالُ:
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ :
إِنَّ بَيْتًا أَنْتَ سَاكِنُهُ ******* غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى السُّرُجِ
وَمِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ:
وَمِنْ عَجَبِي أَنِّي أَحِنُّ إِلَيْهِمُ ******* وَأَسْأَلُ عَنْهُمْ مَنْ لَقِيتُ وَهُمْ مَعِي
وَتَطْلُبُهُمْ عَيْنِي وَهُمْ فِي سَوَادِهَا ******* وَيَشْتَاقُهُمْ قَلْبِي وَهُمْ بَيْنَ أَضْلُعِي
وَقَالَ:
مِثَالُكَ فِي عَيْنِي وَذِكْرُكَ فِي فَمِي ******** وَمَثْوَاكَ فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَالْمَسَاجِدُ: هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ} [النور: 35] .
قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مَثَلُ نُورِهِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثُمَّ قَالَ: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور: 35] .
ثُمَّ قَالَ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] .
فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ نُورَهُ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بُيُوتِهِ، كَذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكُتُبِ الْأُولَى" . اهــ
"الجواب الصحيح" ، (2/220 ، 221) .
وإلى هذا المعنى أشار من قال : "(مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِفَضْلِ صَلَاةٍ وَلَا صِيَامٍ وَلَكِنْ بِشَيْءِ وَقَرَ فِي قَلْبِهِ) . وَهُوَ الْيَقِينُ وَالْإِيمَانُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وُزِنْت بِالْأُمَّةِ فَرَجَحْت ثُمَّ وُزِنَ أَبُو بَكْرٍ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ وُزِنَ عُمَرُ بِالْأُمَّةِ فَرَجَحَ ثُمَّ رُفِعَ الْمِيزَانُ} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ عَنْهُ الصِّدِّيقُ {أَيُّهَا النَّاسُ: سَلُوا اللَّهَ الْيَقِينَ وَالْعَافِيَةَ فَلَمْ يُعْطَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خَيْرًا مِنْ الْعَافِيَةِ} رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِي فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ وَابْنُ مَاجَه وَقَالَ رَقَبَةُ بْنُ مِصْقَلَةٍ لِلشَّعْبِيِّ: "رَزَقَك اللَّهُ الْيَقِينَ الَّذِي لَا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلَّا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَمَدُ فِي الدِّينِ إلَّا عَلَيْهِ". وَفِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِلْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ سيار، وحدثنا جعفر، عن عمران القصير قَالَ : {قَالَ مُوسَى : يَا رَبِّ أَيْنَ أَجِدُك؟ قَالَ: يَا مُوسَى عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ أَجْلِي أَقْتَرِبُ إلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ شِبْرًا؛ وَلَوْلَا ذَلِكَ لَاحْتَرَقَتْ قُلُوبُهُمْ} . وَقَدْ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِبَارَةِ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى يُقَالَ: مَا فِي قَلْبِي إلَّا اللَّهُ مَا عِنْدِي إلَّا اللَّهُ كَمَا {قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: أَمَا عَلِمْت أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْته لَوَجَدْتنِي عِنْدَهُ} ، وَيُقَالُ :
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ******* لَسْت أَنْسَاهُ فَأَذْكُرُهُ
وَيُقَالُ:
مِثَالُك فِي عَيْنِي وذكراك فِي فَمِي ******* وَمَثْوَاك فِي قَلْبِي فَأَيْنَ تَغِيبُ؟
وَهَذَا الْقَدْرُ يَقْوَى قُوَّةً عَظِيمَةً حَتَّى يُعَبِّرَ عَنْهُ بِالتَّجَلِّي وَالْكَشْفِ وَنَحْوِ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُقَلَاءِ وَيَحْصُلُ مَعَهُ الْقُرْبُ مِنْهُ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ {مَنْ تَقَرَّبَ إلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْت إلَيْهِ ذِرَاعًا}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/385 ، 386) .
والعبد المؤمن قد اتحد مراده بمراد الشرع ، فلا يريد إلا ما يحب الرب ، جل وعلا ، فـــ : "هَذَانِ الْمَعْنَيَانِ صَحِيحَانِ ثَابِتَانِ بَلْ هُمَا حَقِيقَةُ الدِّينِ وَالْيَقِينِ وَالْإِيمَانِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ - وَهُوَ كَوْنُ اللَّهِ فِي قَلْبِهِ بِالْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ -: فَهَذَا فَرْضٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْهُ؛ فَإِنْ أَدَّى وَاجِبَهُ فَهُوَ مُقْتَصِدٌ وَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ وَاجِبِهِ فَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ وَإِنْ تَرَكَهُ كُلَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ بِرَبِّهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي - وَهُوَ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ فِيمَا يُحِبُّهُ وَيَكْرَهُهُ وَيَرْضَاهُ وَيُسْخِطُهُ - فَهَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ إنَّمَا هُوَ لِلسَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: الَّذِينَ تَقَرَّبُوا إلَى اللَّهِ بِالنَّوَافِلِ - الَّتِي يُحِبُّهَا وَلَمْ يَفْرِضْهَا - بَعْدَ الْفَرَائِضِ الَّتِي يُحِبُّهَا وَيَفْرِضُهَا وَيُعَذِّبُ تَارِكَهَا. وَلِهَذَا كَانَ هَؤُلَاءِ لَمَّا أَتَوْا بِمَحْبُوبِ الْحَقِّ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ الْمُنْتَظِمَةِ لِلْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَحْمَالِ: أَحَبَّهُمْ اللَّهُ تَعَالَى. فَقَالَ: {وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ} فَعَلُوا مَحْبُوبَهُ فَأَحَبَّهُمْ فَإِنَّ الْجَزَاءَ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ مُنَاسِبٌ لَهُ مُنَاسَبَةَ الْمَعْلُولِ لِعِلَّتِهِ. وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ بِعَيْنِ كُلِّ حَرَكَةٍ يُحِبُّهَا اللَّهُ؛ فَإِنَّ هَذَا مُمْتَنِعٌ. وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ؛ وَالْبَاطِنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا يَأْتِي بِهِ مِنْ الظَّاهِرَةِ كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "قُوَّةُ الْمُؤْمِنِ فِي قَلْبِهِ وَضَعْفُهُ فِي جِسْمِهِ وَقُوَّةُ الْمُنَافِقِ فِي جِسْمِهِ وَضَعْفُهُ فِي قَلْبِهِ" وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ} {وَقَالَ: إنَّ بِالْمَدِينَةِ لَرِجَالًا مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إلَّا كَانُوا مَعَكُمْ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ} وَقَالَ: {فَهُمَا فِي الْأَجْرِ سَوَاءٌ} فِي حَدِيثِ الْقَادِرِ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالْعَاجِزِ عَنْهُ الَّذِي قَالَ: {لَوْ أَنَّ لِي مِثْلَ مَا لِفُلَانِ لَعَمِلْت فِيهِ مِثْلَ مَا عَمِلَ} فَإِنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي عَمَلِ الْقَلْبِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا مَعْذُورَ الْجِسْمِ اسْتَوَيَا فِي الْجَزَاءِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ مَا كَانَ يَعْمَلُ وَهُوَ صَحِيحٌ مُقِيمٌ}" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/394 ، 395) .
فإرادة المريض لما يشتهيه وإن كان فيه هلاكه : داخلة في حد الإرادة الاختيارية ، ولكنها إرادة فاسدة ، وذلك أمر يعم المحسوسات والمعقولات ، فــ : "الْمَرِيض الَّذِي يَشْتَهِي مَا يضرّهُ لَيْسَ دواؤه إعطاءه المشتهي الضار بل دواؤه الحمية وَإِن آلمته وإعطاؤه مَا يَنْفَعهُ وتعويضه عَن ذَلِك الضار بِمَا أَمر مِمَّا لَا يضر
فَهَكَذَا أهل الشَّهَوَات الْفَاسِدَة وَإِن أضرمت قُلُوبهم نَار الشَّهْوَة لَيْسَ رحمتهم والرأفة بهم تمكينهم من ذَلِك أَو ترك عَذَابهمْ فَإِن ذَلِك يزِيد بلاءهم وعذابهم والحرارة الَّتِي فِي قُلُوبهم مثل حرارة المحموم متى مكن المحموم مِمَّا يضرّهُ ازْدَادَ مَرضه أَو انْتقل إِلَى مرض شَرّ مِنْهُ . (فلا تزيده مباشرة الشهوة المحرمة إلا ألما على ألمه ولو تصور في ذلك نفعا بلذة سرعان ما تتلاشى مع ديمومة الانكباب على الشهوة ، كما نوه بذلك بعض المحققين ، فتصير عادة تأسره فليس إلا مدمن لذة طارئة سرعان ما تنقضي ، كما تقدم ، لتعقبها آلام مبرحة) .
فَهَذِهِ حَال أهل الشَّهَوَات بل تدفع تِلْكَ الشَّهْوَة الحلوة بضدها وَالْمَنْع من موجباتها ومقابلتها بالضد من الْعَذَاب المؤلم وَنَحْوه الَّذِي يخرج الْمحبَّة من الْقلب كَمَا قيل
فَإِنِّي رَأَيْت الْحبّ فِي الْقلب والأذى ******* إِذا اجْتمعَا لم يلبث الْحبّ يذهب" . اهــ
"جامع الرسائل" ، (2/392 ، 393) .
والله أعلى وأعلم .