المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : من ذاكرة التاريخ



د. هشام عزمي
02-23-2012, 05:04 PM
من ذاكرة التاريخ
بقلم الأخ مهاجر

يقول سير توماس أرنولد المستشرق البريطاني الشهير : "في سنة 1244م عندما وقع بيت المقدس نهائيا في أيدي المسلمين ، رحب المسيحيون من أهل فلسطين بالسادة الجدد ، واطمأنوا إليهم ورضوا بحكمهم" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، للدكتور راغب السرجاني ، حفظه الله وسدده ، ص59 .

وذلك ما كان عقيب استرداد بيت المقدس زمن الناصر صلاح الدين ، رحمه الله ، وربما أراد سير توماس رجوعه سنة 642 هــ ، بعد تناوب الأيوبيين والصليبين على ملكه على وجه أبان عن ضعف البيت الأيوبي عقيب رحيل صلاح الدين ، رحمه الله ، فكان ذلك أول الوهن ، ثم تزايد الضعف السياسي فانحلت أركان الملك الأيوبي إلى دويلات أشبه ما تكون بالقبائل ، فتلك سنة الرب ، جل وعلا ، في تناقص الملك بعد اكتماله ، فأصحابه يركنون إلى الدعة والكسل عقيب القوة والفتوة التي يتسم الملك بها في مبدئه ، فأهله في مبدأ أمرهم : أهل شدة لا ينغمسون في الترف ، فيجالدون الخصوم ويمارسون الخطوب ، ثم لا يلبثون أن يقعدوا عن أسباب السياسة والحرب فيشتغلون بالملذات ، ويكلون تدبير الملك إلى نوابهم ، ويكلون أمر الحرب إلى قوادهم ، ويستكثرون من الجند المرتزقة ، فتضعف عصبة الدولة ، فالمرتزقة لا ولاء لهم إلا للرواتب والجرايات ، والجند المغلوب يروم الانحلال من ربقة الظلم والاستبداد ، فلا يمنعه إلا الخوف ، ولا يحجزه إلا القيد ، فقد قيد الأكاسرة والقياصرة جندهم المغلوب في القادسية واليرموك ، وتلك حال يغلب على صاحبها الغدر والخيانة ، فلا دين يعصم ولا ولاء يمنع ، وتلك سنة جرت على جميع الأمم ، ففي الأندلس أرهق القوطُ الجندَ من أهل البلاد ، فقعدوا عن رسم القتال وجندوا الأجناد من الفلاحين واليهود قهرا ، فانحلت عرى الولاء في الجيش فكان ذلك مما مهد للمسلمين الفتح .

وقل مثل ذلك في ملك بني العباس فكان أول أمرهم جدا ، فشيد أركانَ ملكهم : أبو جعفر المنصور ، داهية القوم ومقدم دولتهم الهمام الذي كابد المشاق وخاض الصعاب على غدر فيه ونقض للعهود ، وزاد في بنيانه وعلا حفيده الرشيد ثم دب فيه الوهن فركن الخلفاء إلى الدعة ، واتخذوا الجند من الترك فانحلت عصبة الدولة وتلاعب الجند بالخلفاء .

وقل مثله في ملك بني أمية فبعد توطيد أركان الملك إبان خلافة معاوية ، رضي الله عنه ، وبعد استرداد الأمر بعد أن ذهب أو كاد زمن عبد الملك بن مروان ، وبعد قيام دولة العدل زمن الخليفة الخامس عمر الزاهد ، رحمه الله ، انحلت عرى الملك بتنازع أبناء البيت الأموي فوثب يزيد بن الوليد على الوليد بن يزيد ، ووثب مروان بن محمد على إبراهيم بن الوليد ، ثم كان زوال رسم الخلافة من المشرق بزوال ملك مروان بن محمد بعد انكساره أمام جيوش العباسيين بإمرة الداهية : عبد الله بن علي في موقعة الزاب سنة 132 هــ .

وقل مثله في ملك بني تاشفين المرابطين في المغرب ، فكان مقدم دولتهم يوسف بن تاشفين ، رحمه الله ، رجلا لا تلين له قناة ، فقد عركته الخطوب ، فهو السياسي البارع والمجاهد الباسل فعبر إلى الجزيرة الأيبيرية في الثمانين أو دونها ، وكسر شوكة النصارى في الزلاقة ، فدانت له الجزيرة والمغرب فهو الملك المتوج ، والزاهد في رسوم الخلافة فاتخذ لقب الأمير فهو يحمل اللبن في مراكش لتشييد مسجدها الجامع ، ثم انحلت عرى الملك بورود الترف على من جاء بعده فكان علي ابنه صالحا في نفسه ولكنه لم يكن كأبيه في الشدة والحزم ، فتفلت منه الأمر ، ونازعه الموحدون ملكه ، ثم جاء بعده تاشفين فابنه إبراهيم فكانت نهاية الدولة في عهده فلم يكن له من أمر الرياسة شيء فهو شاب حدث لا دراية له بأمور السياسة والحرب فأين هذا من يوسف الذي حمل لواء الملك ، فرد النصارى ووحد الجزيرة والمغرب ، ولكل مقام مقال ، ولكل رجل ما يليق به من العزم والحسم ، والشدة والبأس ، فأحق الناس بالملك من هانت عليه الشدائد ، فيضرب في الحرب ويعدل في السلم فبسيف الشريعة يستأصل أعداءها ، وبسيف الشريعة يقضي بأحكامها ، والرجال على ضروب فمنهم المقاتل ، ومنهم المهادن ، ومنهم الذكي البارع ، ومنهم الغر الساذج .

وقل مثله في ملك عبد المؤمن الداهية مقدم دولة الموحدين ، العالم الذكي ، والسفاك القوي ، فزهد وديانة ، وجرأة قلب وإسراف في القتل ، فجمع النقائض على وجه يحير الناظر ، فصائم قارئ ، ومجاهد زاهد ، وهو مع ذلك سفاح قاتل ! ، وعلى يديه قدر الرب ، جل وعلا ، حفظ دعوة ابن تومرت من الدروس بعد وقعة البحيرة ، ففيها أبيدت زهرة الدعوة الموحدية وقتل رءوسها كالبشير الونشريسي ، فأصاب ابن تومرت الهم والحزن ومات بعدها بأيام ومع ذلك طمأن رجاله فهم في سلامة وعافية ما بقي عبد المؤمن فهو المقدم الداهية الذي أزال آثار الهزيمة ، فأعاد تنظيم الجيش وخاض صراعا مريرا مع دولة المرابطين حتى حانت لحظة الحسم فزحف على مراكش ، وقتل آخر أمراء المرابطين واصطفى ملك المغرب لنفسه مؤيدا بعصبته من كومية ، فكان الجلد الخشن ، وبعده ورث الأمر ابنه يوسف فابنه المنصور يعقوب بطل الأرك الخالدة في 595 هـــ ، فملكهما واسطة العقد ثم دب الترف كالعادة ! ، فانهارت الدولة شيئا فشيئا ، فكانت هزيمة العقاب الساحقة في 609 هـــ ، ثم حروب بني مرين حتى سقطت الدولة زمن أبي دبوس آخر ملوك الدولة الموحدية .

وقل مثله في سائر الأمم فتلك سنة كونية عامة ، فقد ضعف ملك القوط بعد أن نزلوا الأندلس فكانوا أهل بداوة وقتال ، كما ينوه بذلك بعض المحققين من أهل التاريخ ، فلما نزلوا المدن والكور فهي محال الزرع فقد رضوا به ، ومحال البقر فقد تبعوا أذنابه ، فترت العزائم وتفسخت الهمم ، فضعف الملك فسهل على المسلمين غزوهم ، وفتح بلادهم ، فورثوا ضياعهم وديارهم ، وكان الجيش الفاتح في معظمه من البربر أصحاب الخشونة والنجدة ، فلما نزلوا بضياع الأندلس ووديانها أصابهم ما أصاب القوط قبلهم ، ولم يزل الأمر في انحسار ، فعملت السنة الربانية في الأمة الأندلسية ثمانية قرون أو يزيد حتى زال رسم الملة الإسلامية من الجزيرة الأيبيرية بزوال ملك بني الأحمر ملوك غرناطة في 897 هــ .

وذلك الضعف الطارئ على الملك والرياسة سببه الرئيس : ضعف عقد الديانة ، فتلك سنة الرب ، جل وعلا ، في أتباع الديانة الخاتمة ، فهي مأرز عزهم ومعقد ذكرهم ، فــ : (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) ، فأنزل الكتاب وفيه الذكر ، ففي تصديق خبره وامتثال حكمه رفعة الشأن ووفور الهيبة ، وتنكير الكتاب مئنة من التعظيم ، ففيه أصدق خبر وأعدل حكم ، ففيه وحده دون غيره فقدم ما حقه التأخير : فيه وحده ذكر من آمن به علما وعملا ، فصدق أخباره وتأول أحكامه ، فعجبا لمن علم ذلك فأعرض عنه بل وصد عنه فسخر من خبره ونقض حكمه بقياس عقله ، فصح توجه الإنكار إليه على جهة التوبيخ ، على تقدير محذوف يزيد المعنى تقريرا من قبيل : أذهبت عقولكم وضلت فهومكم فلا تعقلون ما في التنزيل من معادن العزة ، ففيه الصدق والعدل ، ولا صلاح في الدنيا إلا بهما ولا نجاة في الآخرة إلا بهما .

فيشفع ضعف العقائد بضعف الممالك ، وذلك أمر استقرأه ابن تيمية ، رحمه الله ، في معرض سرده لتاريخ المقالات الإسلامية ، فأهل الباطل من أصحاب المقالات الباطنية يرومون ظهور المشركين على المؤمنين كما رام ابن العلقمي والنصير الطوسي فأغروا خاقان التتر بغزو دار الخلافة وقتل الخليفة ، ومثلهم فلاسفة الاتحادية فقد نقضوا بمقالهم ناموس الشرعة السماوية ، فسووا بين الأعيان فكلها طاهر مباح ! ، وسووا بين الأديان فكلها حق وعدل ! ، فــ : "هَكَذَا هَؤُلَاءِ الِاتِّحَادِيَّةُ: فَرُءُوسُهُمْ هُمْ أَئِمَّةُ كُفْرٍ يَجِبُ قَتْلُهُمْ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْهُمْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهُ مِنْ أَعْظَمِ الزَّنَادِقَةِ الَّذِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ وَيُبْطِنُونَ أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَهُمْ الَّذِينَ يَفْهَمُونَ قَوْلَهُمْ وَمُخَالَفَتَهُمْ لِدِينِ الْمُسْلِمِينَ وَيَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ أَوْ ذَبَّ عَنْهُمْ أَوْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ أَوْ عَظَّمَ كُتُبَهُمْ أَوْ عُرِفَ بِمُسَاعَدَتِهِمْ وَمُعَاوَنَتِهِمْ أَوْ كَرِهَ الْكَلَامَ فِيهِمْ أَوْ أَخَذَ يَعْتَذِرُ لَهُمْ بِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ لَا يَدْرِي مَا هُوَ أَوْ مَنْ قَالَ إنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ وَأَمْثَالَ هَذِهِ الْمَعَاذِيرِ الَّتِي لَا يَقُولُهَا إلَّا جَاهِلٌ أَوْ مُنَافِقٌ؛ بَلْ تَجِبُ عُقُوبَةُ كُلِّ مَنْ عَرَفَ حَالَهُمْ وَلَمْ يُعَاوِنْ عَلَى الْقِيَامِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ الْقِيَامَ عَلَى هَؤُلَاءِ مِنْ أَعْظَمِ الْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّهُمْ أَفْسَدُوا الْعُقُولَ وَالْأَدْيَانَ عَلَى خَلْقٍ مِنْ الْمَشَايِخِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَهُمْ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. فَضَرَرُهُمْ فِي الدِّينِ: أَعْظَمُ مِنْ ضَرَرِ مَنْ يُفْسِدُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَيَتْرُكُ دِينَهُمْ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَكَالتَّتَارِ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ مِنْهُمْ الْأَمْوَالَ وَيُبْقُونَ لَهُمْ دِينَهُمْ وَلَا يَسْتَهِينُ بِهِمْ مَنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ فَضَلَالُهُمْ وَإِضْلَالُهُمْ: أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُوصَفَ وَهُمْ أَشْبَهُ النَّاسِ بِالْقَرَامِطَةِ الْبَاطِنِيَّةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/131 ، 132) .

وذلك عند التدبر والنظر : رسم الليبرالية الدينية في صورتها القياسية فهي ترضى بالباطل ، فلا تنكره ، فصاحبها يروم لذته فلا تنكر شريعة أو قانون عليه ، فذلك انتقاص لحريته الشخصية في اختيار ما يلائمه من الأديان والأخلاق ، ولو نقض ناموس الوحي وقانون العرف ! ، فلا يقيم صاحبها للأديان أو الأخلاق وزنا ! .

فكل تلك المقالات _ التي أضعفت بنيان العقائد في النفوس فتبعها ضعف أركان الملك المحسوس _ لم تظهر إلا بظهور ممالك الجور ، وإن شئت فقل لم تظهر ممالك الجور إلا بذيوعها فقد أسهمت في نشوئها وازدهارها ، فهل عرفت الديمقراطية إلا في الممالك الديكتاتورية الاستبدادية فانتقل أصحابها من ديكتاتورية الفرد إلى ديكتاتورية الجماعة ! ، وهل راج الطرح العلماني إلا دفعا للطغيان الديني الكهنوتي ، والطغيان السياسي المَلَكِي ، فكلها ردود أفعال غالية لأحوال باطلة .

وتلك سنة مطردة في الماضي والحاضر ، فلا تستولي ممالك الجور على البلاد إلا على حين غفلة من العباد ، فالعقد الإيماني قد ضعف ، والعقد الشرعي قد بطل ، ففي الماضي قال : "قَاضِي الْقُضَاةِ تَقِيُّ الدِّينِ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: إنَّمَا اسْتَوْلَتْ التَّتَارُ عَلَى بِلَادِ الْمَشْرِقِ؛ لِظُهُورِ الْفَلْسَفَةِ فِيهِمْ؛ وَضَعْفِ الشَّرِيعَةِ" . اهــ
"مجموع الفتاوى" ، (2/245) .

والشاهد أن التسامح لم يزل طريقة الإسلام المثلى ، وطريقة المسلمين العظمى فغالب أمرهم السير على منهاج ربهم ، جل وعلا ، فإن كان ثم تجاوز فهو شر لا تسلم منه أمة ، وهو في غير أمة الإسلام أعظم ، كما أن العدل والرحمة في أمة الإسلام أعظم ، وذلك أمر يشهد به تاريخ الأمم والملوك ، فقد تسامح ، بل وربما لان صلاح الدين ، رحمه الله ، لريتشارد ملك إنجلترا ، كما يحكي صاحب "الروضتين" ، فـ : "تكررت الرّسائل من الفرنج إلى السلطان شغلاً للوقت بما لا طائل تحته ، منها أن ملك الانجليز طلب الاجتماع به ، ثم فَتَر بعد أياماً ، ثم جاء رسوله يطلب الاستئذان في إهداء جوارح جاءت من البحر ويذكر أنها قد ضَعُفَت وتغيَّرت وطلب أن يحمل لها دجاج وطير تأكله لتقوى، ثم تُهدى ففهم أنه محتاج إلى ذلك لنفسه، لأنه حديث عهد بمرض ثمّ نفَّذ أسير مغربياً عنده، فأطلقه السلطان صلاح الدين، ثم أرسل في طلب فاكهة وثلج، فأرسل إليه ذلك" . اهــ
"صلاح الدين وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس" ، للدكتور علي الصلابي حفظه الله وسدده ، ص561 .

وتسامح مع نصارى بيت المقدس ، فــ : "وفى صلاح الدين بوعده فسمح لمن دفع القطيعة بالخروج وكان قد رتب على كل باب أميراً مقدماً كبيراً يحصر الخارجين ، فمن دفع الفدية فقد خرج . وبالرغم من تلك القطيعة الزهيدة التي فرضها صلاح الدين مقابل خروجهم من بيت المقدس، وتأمين وصولهم إلى مأمنهم ، فإن كثرة كثيرة منهم ، لم يستطع دفعها فداء لنفسه ، وأصبح بعد مضي أربعين يوماً أسيراً في أيدي المسلمين ولم يسهم أحد من أغنياء الصليبيين من فداء فقرائهم، فقد خرج البطريرك هرقل من بيت المقدس بخزائنه الضخمة دون النظر إلى غيره ، ويبدو أن ذلك كان سبب انعدام الروابط الأسرية وغيرها بين الصليبيين في ذلك الوقت، فالأسرى كانوا خليطاً من أجناس وشعوب أوروبية متباينة، وأجناد الغرباء المأجورين الذين رغبوا في السفر إلى الشرق تخلصاً من رق الأرض السائد وقتذاك في المجتمع الأوروبي . والخلاصة أن ذلك الموقف المخزي من كبار الصليبيين، وتلك الشهامة وذلك التسامح من صلاح الدين قد أجبر الكاتب الإنجليزي لين بول على إبداء إعجابه بصلاح الدين حيث قال بعد أن تهجم على البطريرك : "إنها كانت فرصة للملك المسلم أن يعلم المسيحيين معنى التسامح" ، وقد برهن صلاح الدين وغيره من أمراء المسلمين على تلك الشهامة والتسامح عندما أصبح الآف المدنيين الصليبيين الذين عجزوا عن دفع الفدية المقررة أسرى في يد صلاح الدين، فطلب الملك العادل إلى أخيه السلطان صلاح الدين يطلب منه أن يهب له ألفاً من أولئك الصليبيين الفقراء ليطلق سراحهم لوجه الله، وأجابه صلاح الدين إلى ذلك وحرك ذلك العمل الإنساني الذي قام به الملك العادل مشاعر البطريرك وباليان فتقدما إلى صلاح الدين وطلبا منه مثل ذلك، فأعطاهما صلاح الدين ما طلباه وأطلق سراحهم ثم تقدم صلاح الدين وأمر حراسه بالمناداة في شوارع بيت المقدس، بأنه سوف يطلق سراح من لم يستطع دفع الفدية من الصليبيين لكبر سنه وأن على هذه الطائفة أن تتقدم من الباب الخلفي للمدينة ويسمح لها بالخروج من طلوع الشمس إلى الليل. وما أن صدر ذلك الإعلان حتى توافد الصليبيون على ذلك الباب بأعداد لا تحصى ، وطلب أمير البيرة إطلاق سراح زهاء خمسمائة أرمني، ذكر لصلاح الدين إنهم من بلده، وإن قدومهم إلى بيت المقدس كان من أجل العبادة هناك، كما طلب أيضاً الأمير مظفر الدين علي كوجك إطلاق سراح زهاء ألف أرمني ادعى أنهم من الرها، فأجابهم صلاح الدين إلى ذلك وأطلق سراحهم ولم يقتصر ذلك التسامح من المسلمين على ما قام به صلاح الدين وأخوه الملك العادل وكبار الأمراء المسلمين، بل تعدى ذلك إلى عامة المسلمين، والواقع أن صلاح الدين قد أبدى من التسامح وكرم الأخلاق تجاه أسرى الصليبيين في بيت المقدس الشيء الكثير . وبلغ من كرم وشهامة صلاح الدين ما قام به تجاه زوجات وبنات الفرسان الصليبيين، الذين قتلوا وأسروا أثناء معاركهم مع صلاح الدين، فقد تجمعن أمام صلاح الدين يبكين، فسأل عن حالهن وما يطلبن، فقيل له إنهن يطلبن الرحمة، فعطف عليهن صلاح الدين وسمح لمن كان زوجها على قيد الحياة بأن تتعرف عليه وأطلق سراحه وسمح لهم بالذهاب حيث يريدون، أما النساء والبنات اللاتي مات أزواجهن وآبائهن فقد أمر صلاح الدين بأن يصرف لهن من خزانته الخاصة ما يناسب عيشتهن ومركزهن وأعطاهن حتى ابتهلت ألسنتهن بالدعاء له" . اهــ
بتصرف يسير من : "صلاح الدين وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس" ، ص493 ، 494 .

فـ : "يظهر أن أخلاق صلاح الدين الأيوبي وحياته التي انطوت على البطولة قد أحدثت في أذهان المسيحيين في عصره تأثيرا خاصا ، حتى إن نفرا من الفرسان المسيحيين قد بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية ، وهجروا قومهم وانضموا إلى المسلمين" . اهــ من كلام سير توماس أرنولد نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص73 .

وقبل ذلك كان الفتح العمري برسم التأمين وكان الفتح العَمري لمصر برسم الإنقاذ من جور الكاثوليك ، مع أن الأرثوذكس لم يكونوا إلا طائفة من الطوائف ، ولكن المسلمين اختصوهم بمزيد عناية في مقابل ما اختصهم به الكاثوليك من مزيد نكاية ، والتاريخ ، كما تقدم مرارا ، على ذلك خير شاهد ، ودخل الإسلام قلاع الأرثوذكسية في آسيا الصغرى ، فـــ :
"طالما دعا الأهلون الأتراكَ في عهد ميخائيل الثامن إلى الاستيلاء على مدنهم الصغيرة في داخل آسيا الصغرى : تخلصا من استبداد الدولة ، وكثيرا ما هاجر الأغنياء منهم والفقراء إلى الولايات التركية" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص67 .

بل وكان أهل الكاثوليكية في إيطاليا إليه في شوق ! ، فــ :
"حتى إيطاليا كان فيها قوم يتطلعون بشوق عظيم إلى الترك لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبل بالحرية والتسامح اللذين يئسوا من التمتع بهما في ظل أية حكومة مسيحية ، وهنا قد يلوح أن الإسلام لم ينتشر بالقوة في أملاك سلطان تركيا" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص68 .

وفي البلقان ، ولم يزل أكثر أهلها على دينهم ، فردوا الجميل على أحسن ما يكون لما تمكنوا من المسلمين في حرب البلقان الأخيرة ، ودخل الإسلام قلعة أخرى من قلاع الأرثوذكسية في الحبشة فلم يستأصل شأفتها في مقابل ما صنع وما يصنع النصارى الآن بالمسلمين في أوجادين وما كان منهم من حرب ظالمة في عام 2006 بإيعاز وتمويل من الصليبي الغابر جورج بوش الابن الفاسد .

ويشير سير توماس إلى حال النصرانية قبيل ظهور الإسلام ، فــ : "أما تايلور فيذكر أن السبب في انتشار الإسلام بسهولة ويسر في قارتي إفريقيا وآسيا هو فساد المجتمع المسيحي فيقول : (إنه من اليسير أن ندرك لماذا انتشر هذا الدين الجديد بهذه السرعة في إفريقيا وآسيا ........ وكان الناس في الواقع مشركين يعبدون زمرة من الشهداء والقديسين والملائكة ، كما كانت الطبقات العليا مخنثة يشيع فيها الفساد ، والطبقات الوسطى مرهقة بالضرائب ، ولم يكن للعبيد أمل في حاضرهم ولا مستقبلهم ، فأزال الإسلام ، بعون من الله ، هذه المجموعة من الفساد والخرافات ، لقد كان ثورة على المجادلة الجوفاء في العقيدة ، وحجة قوية ضد تمجيد الرهبانية باعتبارها دين التقوى)" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص61 ، 62 .

فشرك في المعتقد وذلك أحد وجوه الفساد الديني فقد شفع الغلو في الأنبياء والملائكة والقديسين ...... إلخ شفع بالغلو في الباباوات والقسس والرهبان فصار لهم من الطغيان الديني ما أضجر النفوس فقد صودرت العقول واسترقت النفوس برسم الديانة فالعقل أسير في أوهام الكهنوت والجسد أسير مسخر بالمجان ! في إقطاعيات الكنيسة فذلك رسم دخول الملكوت فلا يدخله إلا من أدى الخدمة الإلزامية في ضياع رجال الكهنوت ومزارعهم ! ، وفساد في الطبقات المرفهة كشأن أي مجتمع رأسمالي تتركز معادن الثروة فيه في يد طبقة رقيقة من المجتمع في مقابل فقر مدقع يكون ، أيضا ، مظنة رقة الديانة بذيوع اليأس والإحباط في عصور الاستبداد فهو ذريعة إلى الولوغ في الشهوات إرادة التسلية فليس ثم وارد حق تنهض به النفس إلى إنكار المنكر ، وتتسلى به في المقابل عما يصيبها من ظلم وجور في سبيل انتهاج الحق ونصرته فلا ينفك صاحبه عن أذى وفتنة : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) .

وفي عصور الاستبداد تجبن النفوس وتخس ، وتقطع الأواصر وتُحَلُّ ، فكلٌ يروم نجاة نفسه من بطش الظالم الجائر ولو قدم أخاه أو جاره قربانا ! .

فكل أولئك مما مهد الطريق لمقال الحق ليباشر معادن الفطرة في النفوس بما بشر به من توحيد في العقد أبطل به الشرك ، وما بشر به من عدل في الحكم أبطل به الظلم ، فالوحي مادة صلاح للأديان بوارد التوحيد ، ومادة صلاح للأبدان بوارد التشريع .

وثم فساد في الإرادة بسلوك مسالك الرهبان في الزهد في رواقية غالية في مقابل أبيقورية فاجرة ، فمن غلو في تناول الشهوات إلى غلو في هجرها ، فثم فساد في العقد بالغلو في المسيح عليه السلام ، وثم فساد في الإرادة بالغلو في رسوم الزهد والرهبنة ، وهما ، كما تقدم مرارا ، يتلازمان ، فالصلة بينهما وثيقة ، فلا ينفك فساد العلم في الباطن عن فساد في العمل فهو لازمه في الخارج .

وقد غزا الإسلام حصون النصرانية الحصينة فلم ينتشر في عموم النصارى ، بل قد فشا في خواصهم ، وهو أمر ظاهر في زماننا ، وإن استتر من أسلم من عامة النصارى ، ومن رجالات الكنيسة ، فالتنكيل بمن أسلم منهم أعظم ، فليست ردة العامي كردة العالم المحقق ! ، فـ : "إن علماء اللاهوت المسيحي حين أدى اختلاطهم بالمسلمين اختلاطا شخصيا إلى تكوين رأي أكثر إنصافا عن ديانة المسلمين ، وزعزع الارتباط بأساليب التفكير الحديثة أفكار الناس وآثار ألوان الزندقة لم يكن بالغريب أن ينجذب كثيرون إلى حظيرة الإسلام" . اهــ
نقلا عن : "وشهد شاهد من أهلها" ، ص72 .

و : "قال توماس آرنولد عن كثرة اعتناق القبط للدين الإسلامي : ولكثرة عدد القبط الذين كانوا يعتنقون الإسلام من حين إلى حين أخذ أتباع النبيّ يعتبرونهم أشد ميلاً لقبول الدين الإسلامي من أية طائفة أخرى ، وبين أنه حتى القرن التاسع عشر الميلادي لم تخل سنة من السنوات لم يتحول فيها القبط إلى الإسلام أما إسلام العامة من النصارى الصليبيين فكان كثيرا جداً في هذه الفترة ، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره توماس آرنولد نقلاً عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الأولى انفصلت جماعة كبيرة من الألمان وغيرهم من الطائفة الرئيسية لتنضم إلى الجيش السلجوقي المسلم معتنقة الإسلام ، وفي الحملة الصليبية الثانية انضمت فرقة كبيرة من الجيش الصليبي قوامها أربعة آلاف مقاتل تقريباً إلى جيش المسلمين وذلك بعد فشل هذه الحملة، ولحسن المعاملة التي قوبلت بها هذه الفرقة اعتنق عدد كبير من أفرادها الإسلام بمحض إرادتهم وذلك سنة 542ﻫ - 1148م وكذلك كانت أخلاق صلاح الدين – رحمه الله تعالى – وحسن معاملته للنصارى الصليبيين دافعاً لأعداد كبيرة منهم إلى اعتناق الإسلام كما حدث بعد معركة حطين ، بشكل خاص وقد قال أحد الكتاب الغربيين عن ذلك : .. حتى أن نفراً من الفرسان المسيحيين بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية ونقل توماس آرنولد عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الثالثة انضمت أعداد كبيرة من الجيش الصليبي إلى المسلمين حيث اعتنق البعض منهم الإسلام، وقد ساق توماس شهادة مؤرخ غربي على ذلك رافق هذه الحملة، حيث قال هذا المؤرخ: . وفريق من رجالنا .. تراهم يهجرون بني جلدتهم ويفرون إلى الأتراك فلم يترددوا أن يصبحوا في زمرة المرتدين، ولكي يطيلوا أعمارهم الموقوته زمناً قصيراً اشتروا موتاً أبدياً بهذا الكفر المفزع .

وقد أشار توماس نفسه إلى كثرة تحول الصليبيين إلى الإسلام في فترة الحروب الصليبية حيث قال: ولكن بانتهاء القرن الحادي عشر الميلادي انضم إلى أهالي الشام وفلسطين من المسيحيين عنصر جديد يتألف من هذه الجموع الهائلة من الصليبيين الذين كانوا يدينون بشعائر الأمم اللاتينية .. وظلت تعيش مهددة قرابة قرنين من الزمن، وفي غضون هذه الفترة كانت تحدث من حين لآخر تحولات إلى الإسلام من بين هؤلاء المهاجرين الغرباء وقال أيضاً : ... وكان عدد المرتدين عن المسيحية في القرن الثالث عشر الميلادي كثيراً كثرة نلاحظها في سجلات الصليبيين القانونية التي يطلق عليها مجالس قضاء بيت المقدس ، ومما يدل على كثرة اعتناق النصارى من الصليبيين الإسلام في هذه الفترة فزع أحد قساوستهم في الشام من ذلك وإرساله رسائل إلى البابا ورجال الدين في أوروبا يطلب فيها ألا يرسلوا الضعفاء والفقراء لأنهم أكثر عرضة لأن يفتنهم المسلمون فيعتنقوا الإسلام" . اهــ
نقلا عن : "الأيوبيون بعد صلاح الدين" ، ص509 ، 510 .

والأمر لا يحتاج إلا إلى دعاء بالتوفيق ، وإنصاف بالتجريد ، فيجرد الناظر نيته فهو يروم نيل الحق أيا كان مورده ، فــ : "إِنَّ لِلْحَقِّ نُورًا يُعْرَفُ بِهِ" ، فيقبل الحق ممن يكره ، فقد غلب مراد ربه ، جل وعلا ، مراده ، فلم يقو حظ نفسه في معظَّمه الذي اعتاد قبول قوله ، ولو تقليدا محضا ، فقد أحله دون أن يشعر ، محل الشارع ، فأهمل الاستدلال لقوله ، وكل يستدل لقوله فليس قوله في نفسه حجة ، إلا قول صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمكان العصمة ، فلم يقو حظ نفسه في محبة معظَّمه على مناجزة مراد الشارع ، جل وعلا ، فحكم على هواه بالشرع ، فغلب النقل على العقل ، وانتصر للوحي من الهوى والذوق ، ولم يتعد مع ذلك على خصمه بقول أو فعل ، فله من صدق النية وعفة اللسان وسلامة الجارحة من إثم العدوان ما يحول بينه وبين الظلم لخصمه ، ولو بغى خصمه عليه ، فخصمه معه في أمان فلا يخشى جوره ، وهو مع خصمه في محنة فيخشى بل ويكابد تعديه بالقول والفعل ، وذلك مقام شريف يسهل قوله باللسان ويصعب تأويله بالفعل .

والله أعلى وأعلم .