عائشة
11-27-2004, 12:26 AM
نقلا من موقع الازهر /
حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين
132- أن النساء ناقصات عقل ودين
الردعلى الشبهة:
المصدر الحقيقى لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة ، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية.. وهى عادات وتقاليد جاهلية ، حرر الإسلام المرأة منها.. لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية ، فى عصور التراجع الحضارى مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذى كانت عليه مجتمعات غير إسلامية ، دخلت فى إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية ، دون أن تتخلص تماماً من هذه المواريث.. فسرعة الفتوحات الإسلامية التى اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام قوى الفرس والروم وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية ، قد أدخلت فى الحياة الإسلامية شعوباً وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تتخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد ، والتى تكون عادة أشد رسوخاً وحاكمية من القيم الجديدة.. حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة ، محاولة التغلب عليها !.
ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد ، فى ظل عسكرة الدولة الإسلامية فى العهدين المملوكى والعثمانى أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة " غطاء شرعيًّا " فى التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها ، وتجريدها من ملابسات ورودها ، وفصلها عن المنطق الإسلامى منطق تحرير المرأة كجزء من تحريره للإنسان ، ذكراً كان أو أنثى هذا الإنسان فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم ، وليحيى ملكات وطاقات الإنسان مطلق جنس ونوع الإنسان وليشرك الإناث والذكور جميعاً فى حمل الأمانة التى حملها الإنسان ، وليكون بعضهم أولياء بعض فى النهوض بالفرائض الاجتماعية ، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعى والعام..
لكن العادات والتقاليد الجاهلية فى احتقار المرأة ، والانتقاص من أهليتها ، وعزلها عن العمل العام ، وتعطيل ملكاتها وطاقاتها الفطرية قد دخلت فى حرب ضروس ضد القيم الإسلامية لتحرير المرأة.. وسعت إلى التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث النبوية والمأثورات الإسلامية كى تكون " غطاءً شرعياً " لهذه العادات والتقاليد..
فبعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه:
* طليعة الإيمان بالإسلام.. والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله صلى الله عليه وسلم كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد [ 68 3ق هجرية / 556 620م ] رضى الله عنها.. حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام..
* وطليعة شهداء الإسلام.. كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط [ 7ق هجرية 615م] ، أم عمار بن ياسر [ 57 ق هجرية 37 هجرية /567 657م]..
* وطليعة المشاركة فى العمل العام السياسى منه ، والشورى ، والفقهى ، والدعوى ، والأدبى ، والاجتماعى. بل والقتالى - كما تجسدت فى كوكبة النخبة والصفوة النسائية التى تربت فى مدرسة النبوة..
بعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة هذه الآفاق.. أعادت العادات والتقاليد المرأة أو حاولت إعادتها إلى أسر وأغلال منظومة من القيم الغربية عن الروح الإسلامية.. حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى:
* أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: أولاهما: إلى مخدع الزوجية.. وثانيتهما: إلى القبر الذى تُدفن فيه !..
* فهى عورة ، لا يسترها إلا " القبر " !.
ولم أر نعمة شملت كريماً *** كنعمة عورة سُترت بقبر !
وإذا كان الإسلام قد حفظ حياتها من الوأد المادى القتل فإن المجد والمكرمات فى تلك العادات هى فى موتها !
ومن غاية المجد والمكرمات *** بقاء البنين وموت البنات !
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا *** والموت أكرم نزّال على الحرم !
* وشوراها شؤم يجب اجتنابها.. وإذا حدثت فلمخالفتها ، وللحذر من الأخذ بها !.
والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد ، التى سادت أوساطا ملحوظة ومؤثرة فى حياتنا الاجتماعية ، إبان مرحلة التراجع الحضارى ، هى التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعى لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة فى ذلك التاريخ.. لقد كان الحظ الأوفر فى هذا المقام للتفسير الخاطىء الذى ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم عن نقص النساء فى العقل والدين.. وهو حديث رواه الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فقال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أضحى أو فِطْر إلى المصلى فمرّ على النساء ، فقال:
- " يا معشر النساء ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
- قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟.
- قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل " ؟.
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم ؟ ".
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان دينها ".
ذلكم هو الحديث الذى اتّخذَ تفسيره الملغوط ولا يزال " غطاء شرعيًّا " للعادات والتقاليد التى تنتقص من أهلية المرأة.. والذى ينطلق منه نفر من غلاة الإسلاميين فى " جهادهم " ضد إنصاف المرأة وتحريرها من أغلال التقاليد الراكدة.. وينطلق منه المتغربون وغلاة العلمانيين فى دعوتهم إلى إسقاط الإسلام من حسابات تحرير المرأة ، وطلب هذا التحرير فى النماذج الغربية الوافدة..
الأمر الذى يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث.. بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات !..
وذلك من خلال نظرات فى " متن " الحديث و " مضمونه " نكثفها فى عدد من النقاط:
أولاها: أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام.. ففى رواية الحديث شك من الرواى حول مناسبة قوله.. هل كان ذلك فى عيد الأضحى ؟ أم فى عيد الفطر؟.. وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.
وثانيتها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء ، ولا يشرّع شريعة دائمة ولا عامة فى مطلق النساء.. فهو يتحدث عن "واقع " والحديث عن " الواقع " القابل للتغير والتطور شىء ، والتشريع " للثوابت " عبادات وقيمًا ومعاملات شىء آخر..
فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنا أمة أُمية ، لا نكتب ولا نحسب ". رواه البخارى ومسلم والنسائى وأبو داود والإمام أحمد فهو يصف " واقعاً " ، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب ، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة " القراءة " لكتاب الكون ولكتابات الأقلام (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) (1) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى وصف " واقع " الأمية الكتابية والحسابية ، وهو الذى غير هذا الواقع ، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء ، وذلك امتثالاً لأمر ربه ، فى القرآن الكريم ، الذى علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نوراًوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) (2). فوصف " الواقع " – كما نقول الآن مثلاً: " نحن مجتمعات متخلفة " لا يعنى شرعنة هذا " الواقع " ولا تأييده ، فضلاً عن تأبيده ، بأى حال من الأحوال.
وثالثتها: أن فى بعض روايات هذا الحديث وخاصة رواية ابن عباس رضى الله عنهما ما يقطع بأن المقصود به إنما هى حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة ، هى التى جعلت منهن أكثر أهل النار ، لا لأنهن نساء ، وإنما لأنهن كما تنص وتعلل هذه الرواية " يكفرن العشير " ، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منه هِنَةً أو شيئاً لا يعجبها ، كفرت كفر نعمة بكل النعم التى أنعم عليها بها ، وقالت بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التى تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان: " ما رأيت منك خيراً قط " ! رواه البخارى ومسلم والنسائى ومالك فى الموطأ..
فهذا الحديث إذن وصف لحالة بعينها ، وخاص بهذه الحالة.. وليس تشريعاً عامًّا ودائماً لجنس النساء..
ورابعتها: أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خُلق من صنعه الله على عينه ، حتى جعله صاحب الخُلق العظيم(وإنك لعلى خلق عظيم) (3)..
والذين يعرفون كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من " العيد " الذى قال فيه هذا الحديث " فرحة " أشرك فى الاستمتاع بها مع الرجال كل النساء ، حتى الصغيرات ، بل وحتى الحُيَّض والنفساء !.. الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم ، ويعرفون رفقه بالقوارير ، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا.. لا يمكن أن يتصوروه صلى الله عليه وسلم ذلك الذى يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية ، لنقصانهن فى العقل والدين !..
وإذا كانت المناسبة يوم العيد والزينة والفرحة لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح ، الذى يستخدم وصف " الواقع " الذى تشترك فى التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء..
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة ، وهى عاطفة ورقة صارت " سلاحاً " تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً.. وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة ، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين ، تمثلها المرأة.. فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية ، وذلك على عكس الرجل ، الذى تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفى هذا التمايز فقرة إلهية ، وحكمة بالغة ، ليكون عطاء المرأة فى ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.. وليكون عطاء الرجل فى مجالات العقلانية المجردة والجامدة مكملاً لما نقص عند " الشق اللطيف والرقيق ! "..
فنقص العقل الذى أشارت إليه كلمات الحديث النبوى الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به ، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك ، كانت " مداعبة " صاحب الخُلق العظيم الذى آتاه ربه جوامع الكلم للنساء ، فى يوم الفرحة والزينة ، عندما قال: لهن: " إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال ، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون !:
- " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن "
فهو مدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذى فطر الله النساء على تقلده والتزين به فى هذه الحياة ! بل وأيضاً يا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا فى هذه الحياة من الهزيمة أمام هذا السلاح.. سلاح العاطفة والاستضعاف !..
وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة وأيضاً المحبب لكل النساء والرجال معاً الذى قصدت إليه ألفاظ " نقص العقل " فى الحديث النبوى الشريف.. فإن المراد " بنقص الدين " هو الآخر وصف الواقع غير المذموم ، بل إنه الواقع المحمود والممدوح !..
فعندما سألت النسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقصود من نقصهن فى الدين ، تحدث عن اختصاصهن " برخص " فى العبادات تزيد على " الرخص " التى يشاركن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال فى كل " الرخص " التى رخّص فيها الشارع 00 من إفطار الصائم فى المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها فى السفر.. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات.. إلخ.. إلخ 00ثم يزدن عن الرجال فى " رخص" خاصة بالإناث ، من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيَّض والنفساء.. وإفطار المرضع ، عند الحاجة ، فى شهر رمضان.. إلخ.. إلخ..
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تُؤتَى رخصه كما يحب أن تُؤتَى عزائمه ، فإن التزام النساء بهذه " الرخص " الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود ، وفيه لهن الأجر والثواب.. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم.. ووصف واقعه فى هذا الحديث النبوى مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة ، عند النساء ، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًّا للنساء ، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال ، بأى حال من الأحوال.
إن العقل ملكة من الملكات التى أنعم الله بها على الإنسان ، وليس هناك إنسان رجلاً كان أو امرأة يتساوى مع الآخر مساواة كلية ودقيقة فى ملكة العقل ونعمته.. ففى ذلك يتفاوت الناس ويختلفون.. بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه ذكراً كان أو أنثى يتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن ، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات.. وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء فى هذا الموضوع..
وإذا كان العقل فى الإسلام هو مناط التكليف ، فإن المساواة بين النساء والرجال فى التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوى الشريف ، هى تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام فى المساواة بين النساء والرجال فى التكليف.. ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال ، ولكانت تكاليفهن فى الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال !.
ولكنها " الرخصة "، التى يُؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات ، كما يُؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف.. إن النقص المذموم فى أى أمر من الأمور هو الذى يمكن إزالته وجبره وتغييره ، وإذا تغير وانجبر كان محموداً.. ولو كانت " الرخص " التى شرعت للنساء بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً نقصًا مذمومًا ، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حُيّض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا.. لكن الحال ليس كذلك ، بل إنه على العكس من ذلك.
وأخيرًا ، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز فى أى منطق ، أن يعهد الإسلام ، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان ، ورعاية الأسرة ، وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين ، بهذا المعنى السلبى ، الذى ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام ، ورسوله الكريم ، الذى حرر المرأة تحريره للرجل ، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (4) فوضع بهذا الإحياء ، عن الناس كل الناس ما كانوا قد حُمِّلوا من الآصار والأغلال (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم..) (5).
إنها تفسيرات مغلوطة ، وساقطة ، حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التى لا علاقة لها بالإسلام.. والتى يبرأ منها هذا الحديث النبوى الشريف..
وإذا كان لنا فى ختام إزالة هذه الشبهة أن نزكى المنطق الإسلامى الذى صوبنا به معنى الحديث النبوى الشريف ، وخاصة بالنسبة للذين لا يطمئنون إلى المنطق إلا إذا دعمته وزكته " النصوص " ، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم ، التى تقول: " إن المرأة العدل كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة " (6).
وبكلمات الإمام محمد عبده ، التى تقول:
" إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة ، وإنهما أكفاء.. وهما متماثلان فى الحقوق والأعمال ، كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل ، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويُسَرُّ به ، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه..(7) ".
وبكلمات الشيخ محمود شلتوت ، التى تقول:
" لقد قرر الإسلام الفطرة التى خلقت عليها المرأة.. فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم.. فهى ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل ، مسئولة عن نفسها ، وعن عبادتها ، وعن بيتها ، وعن جماعتها.. وهى لا تقل فى مطلق المسئولية عن مسئولية أخيها الرجل ، وإن منزلتها فى المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة ، وطاعة الرجل لا تنفعها وهى طالحة منحرفة ، ومعصيته لا تضرها ، وهى صالحة مستقيمة(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا) (8) (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (9).
وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهى " بعضكم من بعض " ، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضاً من الرجل ، وكيف حدَّ من طغيان الرجل فجعله بعضاً من المرأة. وليس فى الإمكان ما يُؤدَّى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التى تفيض بهاطبيعة الرجل والمرأة ، والتى تتجلى فى حياتهما المشتركة ، دون تفاضل وسلطان (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) (10).
وإذا كانت المرأة مسئولة مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها ، فهى فى نظر الإسلام أيضاً مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل ، والتحذير من الرذائل. وقد صرح القرآن بمسئوليتها فى ذلك الجانب ، وقرن بينها وبين أخيها الرجل فى تلك المسئولية ، كما قرن بينها وبينه فى مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (11) (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) (12).
فليس من الإسلام أن تلقى المرأة حظها من تلك المسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى أكبر مسئولية فى نظر الإسلام على الرجل وحده ، بحجة أنه أقدر منها عليها ، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب ، فللرجل دائرته ، وللمرأة دائرتها ، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما ، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم..
والإسلام فوق ذلك لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع أخيها الرجل فى المسئوليات جميعها خاصها وعامها بل رفع من شأنها ، وكرر تلقاء تحملها هذه المسئوليات احترام رأيها فيما تبدو وجاهته ، شأنه فى رأى الرجل تماماً سواءً بسواء. وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال ، فقد جاء أيضاً باختيار رأى بعض النساء.
وفى سورة المجادلة احترم الإسلام رأى المرأة ، وجعلها مجادلة ومحاورة للرسول ، وجمعها وإياه فى خطاب واحد(والله يسمع تحاوركما) (13) وقرر رأيها ، وجعله تشريعاً عامًّا خالداً.. فكانت سورة المجادلة أثراً من آثار الفكر النسائى ، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على مر الدهور صورة احترام الإسلام لرأى المرأة ، فالإسلام لا يرى المرأة مجرد زهرة ، ينعم الرجل بشم رائحتها ، وإنما هى مخلوق عاقل مفكر ، له رأى ، وللرأى قيمته ووزنه.
وليس هناك فارق دينى بين المرأة والرجل فى التكليف والأهلية ، سوى أن التكليف يلحقها قبل أن يلحق الرجل ، وذلك لوصولها - بطبيعتها - إلى مناط التكليف ، وهو البلوغ ، قبل أن يصل إليه الرجل (14).
هكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامى على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة ، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين..
وهكذا وضحت المعانى والمقاصد الحقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذى اتخذت منه التفسيرات المغلوطة " غطاءً شرعيًّا " للعادات والتقاليد الراكدة ، تلك التى حملها البعض من غلاة الإسلاميين على الإسلام ، زوراً وبهتانًا.. والتى حسبها غلاة العلمانيين ديناً إلهيًّا ، فدعوا - لذلك - إلى تحرير المرأة من هذا الإسلام !.
لقد صدق الله العظيم إذ يقول:(سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ) (15).
إننا نلح منذ سنوات طوال وقبلنا ومعنا الكثيرون من علماء الإسلام ومفكريه على أن هذا الدين الحنيف إنما يمثل ثورة كبرى لتحرير المرأة ، لكن الخلاف بيننا وبين الغرب والمتغربين هو حول " نموذج "هذا التحرير.. فهم يريدون المرأة ندًّا مساوياً للرجل.. ونحن مع الإسلام نريد لها " مساواة الشقين المتكاملين ، لا الندين المتماثلين ".. وذلك ، لتتحرر المرأة ، مع بقائها أنثى ، ومع بقاء الرجل رجلاً ، كى يثمر هذا التمايز الفطرى بقاء ، ويجدد القبول والرغبة والجاذبية والسعادة بينهما سعادة النوع الإنسانى.
حقائق الإسلام فى مواجهة شبهات المشككين
132- أن النساء ناقصات عقل ودين
الردعلى الشبهة:
المصدر الحقيقى لهذه الشبهة هو العادات والتقاليد الموروثة ، والتى تنظر إلى المرأة نظرة دونية.. وهى عادات وتقاليد جاهلية ، حرر الإسلام المرأة منها.. لكنها عادت إلى الحياة الاجتماعية ، فى عصور التراجع الحضارى مستندة كذلك إلى رصيد التمييز ضد المرأة الذى كانت عليه مجتمعات غير إسلامية ، دخلت فى إطار الأمة الإسلامية والدولة الإسلامية ، دون أن تتخلص تماماً من هذه المواريث.. فسرعة الفتوحات الإسلامية التى اقتضتها معالجة القوى العظمى المناوئة للإسلام قوى الفرس والروم وما تبعها من سرعة امتداد الدولة الإسلامية ، قد أدخلت فى الحياة الإسلامية شعوباً وعادات وتقاليد لم تتح هذه السرعة للتربية الإسلامية وقيمها أن تتخلص تلك الشعوب من تلك العادات والتقاليد ، والتى تكون عادة أشد رسوخاً وحاكمية من القيم الجديدة.. حتى لتغالب فيه هذه العادات الموروثة العقائد والأنساق الفكرية والمثل السامية للأديان والدعوات الجديدة والوليدة ، محاولة التغلب عليها !.
ولقد حاولت هذه العادات والتقاليد بعد أن ترسخت وطال عليها الأمد ، فى ظل عسكرة الدولة الإسلامية فى العهدين المملوكى والعثمانى أن تجد لنظرتها الدونية للمرأة " غطاء شرعيًّا " فى التفسيرات المغلوطة لبعض الأحاديث النبوية وذلك بعد عزل هذه الأحاديث عن سياقها ، وتجريدها من ملابسات ورودها ، وفصلها عن المنطق الإسلامى منطق تحرير المرأة كجزء من تحريره للإنسان ، ذكراً كان أو أنثى هذا الإنسان فلقد جاء الإسلام ليضع عن الناس إصرهم والأغلال التى كانت عليهم ، وليحيى ملكات وطاقات الإنسان مطلق جنس ونوع الإنسان وليشرك الإناث والذكور جميعاً فى حمل الأمانة التى حملها الإنسان ، وليكون بعضهم أولياء بعض فى النهوض بالفرائض الاجتماعية ، الشاملة لكل ألوان العمل الاجتماعى والعام..
لكن العادات والتقاليد الجاهلية فى احتقار المرأة ، والانتقاص من أهليتها ، وعزلها عن العمل العام ، وتعطيل ملكاتها وطاقاتها الفطرية قد دخلت فى حرب ضروس ضد القيم الإسلامية لتحرير المرأة.. وسعت إلى التفسيرات الشاذة والمغلوطة لبعض الأحاديث النبوية والمأثورات الإسلامية كى تكون " غطاءً شرعياً " لهذه العادات والتقاليد..
فبعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة إلى حيث أصبحت به وفيه:
* طليعة الإيمان بالإسلام.. والطاقة الخلاقة الداعمة للدين ورسوله صلى الله عليه وسلم كما كان حال أم المؤمنين خديجة بنت خويلد [ 68 3ق هجرية / 556 620م ] رضى الله عنها.. حتى لقد كان عام وفاتها عام حزن المسلمين ورسول الإسلام ودعوة الإسلام..
* وطليعة شهداء الإسلام.. كما جسدتها شهادة سمية بنت خياط [ 7ق هجرية 615م] ، أم عمار بن ياسر [ 57 ق هجرية 37 هجرية /567 657م]..
* وطليعة المشاركة فى العمل العام السياسى منه ، والشورى ، والفقهى ، والدعوى ، والأدبى ، والاجتماعى. بل والقتالى - كما تجسدت فى كوكبة النخبة والصفوة النسائية التى تربت فى مدرسة النبوة..
بعد أن بلغ التحرير الإسلامى للمرأة هذه الآفاق.. أعادت العادات والتقاليد المرأة أو حاولت إعادتها إلى أسر وأغلال منظومة من القيم الغربية عن الروح الإسلامية.. حتى أصبحت المفاخرة والمباهاة بأعراف ترى:
* أن المرأة الكريمة لا يليق بها أن تخرج من مخدعها إلا مرتان: أولاهما: إلى مخدع الزوجية.. وثانيتهما: إلى القبر الذى تُدفن فيه !..
* فهى عورة ، لا يسترها إلا " القبر " !.
ولم أر نعمة شملت كريماً *** كنعمة عورة سُترت بقبر !
وإذا كان الإسلام قد حفظ حياتها من الوأد المادى القتل فإن المجد والمكرمات فى تلك العادات هى فى موتها !
ومن غاية المجد والمكرمات *** بقاء البنين وموت البنات !
تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا *** والموت أكرم نزّال على الحرم !
* وشوراها شؤم يجب اجتنابها.. وإذا حدثت فلمخالفتها ، وللحذر من الأخذ بها !.
والأكثر خطورة من هذه الأعراف والعادات والتقاليد ، التى سادت أوساطا ملحوظة ومؤثرة فى حياتنا الاجتماعية ، إبان مرحلة التراجع الحضارى ، هى التفسيرات المغلوطة لبعض المرويات الإسلامية بحثاً عن مرجعية إسلامية وغطاء شرعى لقيم التخلف والانحطاط التى سادت عالم المرأة فى ذلك التاريخ.. لقد كان الحظ الأوفر فى هذا المقام للتفسير الخاطىء الذى ساد وانتشر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى ومسلم عن نقص النساء فى العقل والدين.. وهو حديث رواه الصحابى الجليل أبو سعيد الخدرى رضى الله عنه فقال: " خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فى أضحى أو فِطْر إلى المصلى فمرّ على النساء ، فقال:
- " يا معشر النساء ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن ".
- قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله ؟.
- قال: " أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل " ؟.
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصلّ ولم تصم ؟ ".
- قلن: بلى.
- قال: " فذلك من نقصان دينها ".
ذلكم هو الحديث الذى اتّخذَ تفسيره الملغوط ولا يزال " غطاء شرعيًّا " للعادات والتقاليد التى تنتقص من أهلية المرأة.. والذى ينطلق منه نفر من غلاة الإسلاميين فى " جهادهم " ضد إنصاف المرأة وتحريرها من أغلال التقاليد الراكدة.. وينطلق منه المتغربون وغلاة العلمانيين فى دعوتهم إلى إسقاط الإسلام من حسابات تحرير المرأة ، وطلب هذا التحرير فى النماذج الغربية الوافدة..
الأمر الذى يستوجب إنقاذ المرأة من هذه التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث.. بل إنقاذ هذا الحديث الشريف من هذه التفسيرات !..
وذلك من خلال نظرات فى " متن " الحديث و " مضمونه " نكثفها فى عدد من النقاط:
أولاها: أن الذاكرة الضابطة لنص هذا الحديث قد أصابها ما يطرح بعض علامات الاستفهام.. ففى رواية الحديث شك من الرواى حول مناسبة قوله.. هل كان ذلك فى عيد الأضحى ؟ أم فى عيد الفطر؟.. وهو شك لا يمكن إغفاله عند وزن المرويات والمأثورات.
وثانيتها: أن الحديث يخاطب حالة خاصة من النساء ، ولا يشرّع شريعة دائمة ولا عامة فى مطلق النساء.. فهو يتحدث عن "واقع " والحديث عن " الواقع " القابل للتغير والتطور شىء ، والتشريع " للثوابت " عبادات وقيمًا ومعاملات شىء آخر..
فعندما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنا أمة أُمية ، لا نكتب ولا نحسب ". رواه البخارى ومسلم والنسائى وأبو داود والإمام أحمد فهو يصف " واقعاً " ، ولا يشرع لتأييد الجهل بالكتابة والحساب ، لأن القرآن الكريم قد بدأ بفريضة " القراءة " لكتاب الكون ولكتابات الأقلام (اقرأ باسم ربك الذى خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذى علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) (1) ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم الذى وصف " واقع " الأمية الكتابية والحسابية ، وهو الذى غير هذا الواقع ، بتحويل البدو الجهلاء الأميين إلى قراء وعلماء وفقهاء ، وذلك امتثالاً لأمر ربه ، فى القرآن الكريم ، الذى علمنا أن من وظائف جعل الله سبحانه وتعالى القمر منازل أن نتعلم عدد السنين والحساب (هو الذى جعل الشمس ضياء والقمر نوراًوقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون ) (2). فوصف " الواقع " – كما نقول الآن مثلاً: " نحن مجتمعات متخلفة " لا يعنى شرعنة هذا " الواقع " ولا تأييده ، فضلاً عن تأبيده ، بأى حال من الأحوال.
وثالثتها: أن فى بعض روايات هذا الحديث وخاصة رواية ابن عباس رضى الله عنهما ما يقطع بأن المقصود به إنما هى حالات خاصة لنساء لهن صفات خاصة ، هى التى جعلت منهن أكثر أهل النار ، لا لأنهن نساء ، وإنما لأنهن كما تنص وتعلل هذه الرواية " يكفرن العشير " ، ولو أحسن هذا العشير إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منه هِنَةً أو شيئاً لا يعجبها ، كفرت كفر نعمة بكل النعم التى أنعم عليها بها ، وقالت بسبب النزق أو الحمق أو غلبة العاطفة التى تنسيها ما قدمه لها هذا العشير من إحسان: " ما رأيت منك خيراً قط " ! رواه البخارى ومسلم والنسائى ومالك فى الموطأ..
فهذا الحديث إذن وصف لحالة بعينها ، وخاص بهذه الحالة.. وليس تشريعاً عامًّا ودائماً لجنس النساء..
ورابعتها: أن مناسبة الحديث ترشح ألفاظه وأوصافه لأن يكون المقصود من ورائها المدح وليس الذم.. فالذين يعرفون خُلق من صنعه الله على عينه ، حتى جعله صاحب الخُلق العظيم(وإنك لعلى خلق عظيم) (3)..
والذين يعرفون كيف جعل الرسول صلى الله عليه وسلم من " العيد " الذى قال فيه هذا الحديث " فرحة " أشرك فى الاستمتاع بها مع الرجال كل النساء ، حتى الصغيرات ، بل وحتى الحُيَّض والنفساء !.. الذين يعرفون صاحب هذا الخلق العظيم ، ويعرفون رفقه بالقوارير ، ووصاياه بهن حتى وهو على فراش المرض يودع هذه الدنيا.. لا يمكن أن يتصوروه صلى الله عليه وسلم ذلك الذى يختار يوم الزينة والفرحة ليجابه كل النساء ومطلق جنس النساء بالذم والتقريع والحكم المؤبد عليهن بنقصان الأهلية ، لنقصانهن فى العقل والدين !..
وإذا كانت المناسبة يوم العيد والزينة والفرحة لا ترشح أن يكون الذم والغم والحزن والتبكيت هو المقصود.. فإن ألفاظ الحديث تشهد على أن المقصود إنما كان المديح ، الذى يستخدم وصف " الواقع " الذى تشترك فى التحلى بصفاته غالبية النساء.. إن لم يكن كل النساء..
فالحديث يشير إلى غلبة العاطفة والرقة على المرأة ، وهى عاطفة ورقة صارت " سلاحاً " تغلب به هذه المرأة أشد الرجال حزماً وشدة وعقلاً.. وإذا كانت غلبة العاطفة إنما تعنى تفوقها على الحسابات العقلية المجردة والجامدة ، فإننا نكون أمام عملة ذات وجهين ، تمثلها المرأة.. فعند المرأة تغلب العاطفة على العقلانية ، وذلك على عكس الرجل ، الذى تغلب عقلانيته وحساباته العقلانية عواطفه.. وفى هذا التمايز فقرة إلهية ، وحكمة بالغة ، ليكون عطاء المرأة فى ميادين العاطفة بلا حدود وبلا حسابات.. وليكون عطاء الرجل فى مجالات العقلانية المجردة والجامدة مكملاً لما نقص عند " الشق اللطيف والرقيق ! "..
فنقص العقل الذى أشارت إليه كلمات الحديث النبوى الشريف هو وصف لواقع تتزين به المرأة السوية وتفخر به ، لأنه يعنى غلبة عاطفتها على عقلانيتها المجردة.. ولذلك ، كانت " مداعبة " صاحب الخُلق العظيم الذى آتاه ربه جوامع الكلم للنساء ، فى يوم الفرحة والزينة ، عندما قال: لهن: " إنهن يغلبن بسلاح العاطفة وسلطان الاستضعاف أهل الحزم والألباب من عقلاء الرجال ، ويخترقن بالعواطف الرقيقة أمنع الحصون !:
- " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن "
فهو مدح للعاطفة الرقيقة التى تذهب بحزم ذوى العقول والألباب.. ويا بؤس وشقاء المرأة التى حرمت من شرف امتلاك هذا السلاح الذى فطر الله النساء على تقلده والتزين به فى هذه الحياة ! بل وأيضاً يا بؤس أهل الحزم والعقلانية من الرجال الذين حرموا فى هذه الحياة من الهزيمة أمام هذا السلاح.. سلاح العاطفة والاستضعاف !..
وإذا كان هذا هو المعنى المناسب واللائق بالقائل وبالمخاطب وبالمناسبة وأيضاً المحبب لكل النساء والرجال معاً الذى قصدت إليه ألفاظ " نقص العقل " فى الحديث النبوى الشريف.. فإن المراد " بنقص الدين " هو الآخر وصف الواقع غير المذموم ، بل إنه الواقع المحمود والممدوح !..
فعندما سألت النسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المقصود من نقصهن فى الدين ، تحدث عن اختصاصهن " برخص " فى العبادات تزيد على " الرخص " التى يشاركن فيها الرجال.. فالنساء يشاركن الرجال فى كل " الرخص " التى رخّص فيها الشارع 00 من إفطار الصائم فى المرض والسفر.. إلى قصر الصلاة وجمعها فى السفر.. إلى إباحة المحرمات عند الضرورات.. إلخ.. إلخ 00ثم يزدن عن الرجال فى " رخص" خاصة بالإناث ، من مثل سقوط فرائض الصلاة والصيام عن الحيَّض والنفساء.. وإفطار المرضع ، عند الحاجة ، فى شهر رمضان.. إلخ.. إلخ..
وإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب أن تُؤتَى رخصه كما يحب أن تُؤتَى عزائمه ، فإن التزام النساء بهذه " الرخص " الشرعية هو الواجب المطلوب والمحمود ، وفيه لهن الأجر والثواب.. ولا يمكن أن يكون بالأمر المرذول والمذموم.. ووصف واقعه فى هذا الحديث النبوى مثله كمثل وصف الحديث لغلبة العاطفة الرقيقة الفياضة على العقلانية الجامدة ، عند النساء ، هو وصف لواقع محمود.. ولا يمكن أن يكون ذمًّا للنساء ، ينتقص من أهلية المرأة ومساواتها للرجال ، بأى حال من الأحوال.
إن العقل ملكة من الملكات التى أنعم الله بها على الإنسان ، وليس هناك إنسان رجلاً كان أو امرأة يتساوى مع الآخر مساواة كلية ودقيقة فى ملكة العقل ونعمته.. ففى ذلك يتفاوت الناس ويختلفون.. بل إن عقل الإنسان الواحد وضبطه ذكراً كان أو أنثى يتفاوت زيادة ونقصاً بمرور الزمن ، وبما يكتسب من المعارف والعلوم والخبرات.. وليست هناك جبلة ولا طبيعة تفرق بين الرجال والنساء فى هذا الموضوع..
وإذا كان العقل فى الإسلام هو مناط التكليف ، فإن المساواة بين النساء والرجال فى التكليف والحساب والجزاء شاهدة على أن التفسيرات المغلوطة لهذا الحديث النبوى الشريف ، هى تفسيرات ناقصة لمنطق الإسلام فى المساواة بين النساء والرجال فى التكليف.. ولو كان لهذه التفسيرات المغلوطة نصيب من الصحة لنقصت تكاليف الإسلام للنساء عن تكليفاته للرجال ، ولكانت تكاليفهن فى الصلاة والصيام والحج والعمرة والزكاة وغيرها على النصف من تكاليف الرجال !.
ولكنها " الرخصة "، التى يُؤجر عليها الملتزمون بها والملتزمات ، كما يُؤجرون جميعاً عندما ينهضون بعزائم التكاليف.. إن النقص المذموم فى أى أمر من الأمور هو الذى يمكن إزالته وجبره وتغييره ، وإذا تغير وانجبر كان محموداً.. ولو كانت " الرخص " التى شرعت للنساء بسقوط الصلاة والصيام للحائض والنفساء مثلاً نقصًا مذمومًا ، لكان صيامهن وصلاتهن وهن حُيّض ونفساء أمرًا مقبولاً ومحمودًا ومأجورًا.. لكن الحال ليس كذلك ، بل إنه على العكس من ذلك.
وأخيرًا ، فهل يعقل عاقل.. وهل يجوز فى أى منطق ، أن يعهد الإسلام ، وتعهد الفطرة الإلهية بأهم الصناعات الإنسانية والاجتماعية صناعة الإنسان ، ورعاية الأسرة ، وصياغة مستقبل الأمة إلى ناقصات العقل والدين ، بهذا المعنى السلبى ، الذى ظلم به غلاة الإسلاميين وغلاة العلمانيين الإسلام ، ورسوله الكريم ، الذى حرر المرأة تحريره للرجل ، عندما بعثه الله بالحياة والإحياء لمطلق الإنسان (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (4) فوضع بهذا الإحياء ، عن الناس كل الناس ما كانوا قد حُمِّلوا من الآصار والأغلال (الذين يتبعون الرسول النبى الأمى الذى يجدونه مكتوباً عندهم فى التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التى كانت عليهم..) (5).
إنها تفسيرات مغلوطة ، وساقطة ، حاول بها أسرى العادات والتقاليد إضفاء الشرعية الدينية على هذه العادات والتقاليد التى لا علاقة لها بالإسلام.. والتى يبرأ منها هذا الحديث النبوى الشريف..
وإذا كان لنا فى ختام إزالة هذه الشبهة أن نزكى المنطق الإسلامى الذى صوبنا به معنى الحديث النبوى الشريف ، وخاصة بالنسبة للذين لا يطمئنون إلى المنطق إلا إذا دعمته وزكته " النصوص " ، فإننا نذكر بكلمات إمام السلفية ابن القيم ، التى تقول: " إن المرأة العدل كالرجل فى الصدق والأمانة والديانة " (6).
وبكلمات الإمام محمد عبده ، التى تقول:
" إن حقوق الرجل والمرأة متبادلة ، وإنهما أكفاء.. وهما متماثلان فى الحقوق والأعمال ، كما أنهما متماثلان فى الذات والإحساس والشعور والعقل ، أى أن كلا منهما بشر تام له عقل يتفكر فى مصالحه ، وقلب يحب ما يلائمه ويُسَرُّ به ، ويكره ما لا يلائمه وينفر منه..(7) ".
وبكلمات الشيخ محمود شلتوت ، التى تقول:
" لقد قرر الإسلام الفطرة التى خلقت عليها المرأة.. فطرة الإنسانية ذات العقل والإدراك والفهم.. فهى ذات مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل ، مسئولة عن نفسها ، وعن عبادتها ، وعن بيتها ، وعن جماعتها.. وهى لا تقل فى مطلق المسئولية عن مسئولية أخيها الرجل ، وإن منزلتها فى المثوبة والعقوبة عند الله معقودة بما يكون منها من طاعة أو مخالفة ، وطاعة الرجل لا تنفعها وهى طالحة منحرفة ، ومعصيته لا تضرها ، وهى صالحة مستقيمة(ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرا) (8) (فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض) (9).
وليقف المتأمل عند هذا التعبير الإلهى " بعضكم من بعض " ، ليعرف كيف سما القرآن بالمرأة حتى جعلها بعضاً من الرجل ، وكيف حدَّ من طغيان الرجل فجعله بعضاً من المرأة. وليس فى الإمكان ما يُؤدَّى به معنى المساواة أوضح ولا أسهل من هذه الكلمة التى تفيض بهاطبيعة الرجل والمرأة ، والتى تتجلى فى حياتهما المشتركة ، دون تفاضل وسلطان (للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن) (10).
وإذا كانت المرأة مسئولة مسئولية خاصة فيما يختص بعبادتها ونفسها ، فهى فى نظر الإسلام أيضاً مسئولة مسئولية عامة فيما يختص بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والإرشاد إلى الفضائل ، والتحذير من الرذائل. وقد صرح القرآن بمسئوليتها فى ذلك الجانب ، وقرن بينها وبين أخيها الرجل فى تلك المسئولية ، كما قرن بينها وبينه فى مسئولية الانحراف عن واجب الإيمان والإخلاص لله وللمسلمين (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) (11) (المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون * وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها هى حسبهم ولعنهم الله ولهم عذاب مقيم) (12).
فليس من الإسلام أن تلقى المرأة حظها من تلك المسئولية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وهى أكبر مسئولية فى نظر الإسلام على الرجل وحده ، بحجة أنه أقدر منها عليها ، أو أنها ذات طابع لا يسمح لها أن تقوم بهذا الواجب ، فللرجل دائرته ، وللمرأة دائرتها ، والحياة لا تستقيم إلا بتكاتف النوعين فيما ينهض بأمتهما ، فإن تخاذلا أو تخاذل أحدهما انحرفت الحياة الجادة عن سبيلها المستقيم..
والإسلام فوق ذلك لم يقف بالمرأة عند حد اشتراكها مع أخيها الرجل فى المسئوليات جميعها خاصها وعامها بل رفع من شأنها ، وكرر تلقاء تحملها هذه المسئوليات احترام رأيها فيما تبدو وجاهته ، شأنه فى رأى الرجل تماماً سواءً بسواء. وإذا كان الإسلام جاء باختيار آراء بعض الرجال ، فقد جاء أيضاً باختيار رأى بعض النساء.
وفى سورة المجادلة احترم الإسلام رأى المرأة ، وجعلها مجادلة ومحاورة للرسول ، وجمعها وإياه فى خطاب واحد(والله يسمع تحاوركما) (13) وقرر رأيها ، وجعله تشريعاً عامًّا خالداً.. فكانت سورة المجادلة أثراً من آثار الفكر النسائى ، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على مر الدهور صورة احترام الإسلام لرأى المرأة ، فالإسلام لا يرى المرأة مجرد زهرة ، ينعم الرجل بشم رائحتها ، وإنما هى مخلوق عاقل مفكر ، له رأى ، وللرأى قيمته ووزنه.
وليس هناك فارق دينى بين المرأة والرجل فى التكليف والأهلية ، سوى أن التكليف يلحقها قبل أن يلحق الرجل ، وذلك لوصولها - بطبيعتها - إلى مناط التكليف ، وهو البلوغ ، قبل أن يصل إليه الرجل (14).
هكذا تضافرت الحجج المنطقية مع نصوص الاجتهاد الإسلامى على إزالة شبهة الانتقاص من أهلية المرأة ، بدعوى أن النساء ناقصات عقل ودين..
وهكذا وضحت المعانى والمقاصد الحقة لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الذى اتخذت منه التفسيرات المغلوطة " غطاءً شرعيًّا " للعادات والتقاليد الراكدة ، تلك التى حملها البعض من غلاة الإسلاميين على الإسلام ، زوراً وبهتانًا.. والتى حسبها غلاة العلمانيين ديناً إلهيًّا ، فدعوا - لذلك - إلى تحرير المرأة من هذا الإسلام !.
لقد صدق الله العظيم إذ يقول:(سنريهم آياتنا فى الآفاق وفى أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد ) (15).
إننا نلح منذ سنوات طوال وقبلنا ومعنا الكثيرون من علماء الإسلام ومفكريه على أن هذا الدين الحنيف إنما يمثل ثورة كبرى لتحرير المرأة ، لكن الخلاف بيننا وبين الغرب والمتغربين هو حول " نموذج "هذا التحرير.. فهم يريدون المرأة ندًّا مساوياً للرجل.. ونحن مع الإسلام نريد لها " مساواة الشقين المتكاملين ، لا الندين المتماثلين ".. وذلك ، لتتحرر المرأة ، مع بقائها أنثى ، ومع بقاء الرجل رجلاً ، كى يثمر هذا التمايز الفطرى بقاء ، ويجدد القبول والرغبة والجاذبية والسعادة بينهما سعادة النوع الإنسانى.