المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : هل عند أمتنا رسالة حضارية للبشرية؟ د.يوسف القرضاوي



الفرصة الأخيرة
12-04-2005, 12:31 PM
اقرأ أولاً
هل حققت الحضارة الغربية السعادة... يوسف القرضاوي
http://70.84.212.52/vb/showthread.php?t=3599

عجز الفلسفة أن تسعد البشرية... د.يوسف القرضاوي
http://70.84.212.52/vb/showthread.php?p=28178#post28178

لا إنقاذ للبشرية بغير الدين... د.يوسف القرضاوي
http://70.84.212.52/vb/showthread.php?p=28179#post28179

لم يبق غير الإسلام منقذًا... د.يوسف القرضاوي
http://70.84.212.52/vb/showthread.php?p=28181#post28181

ثم تابع:



هل عند أمتنا رسالة حضارية للبشرية؟




إذا عجزت المسيحية، وعجزت اليهودية، وبعبارة أخرى: عجز المسيحيون، وعجز اليهود أن يقدموا للبشرية قارورة الدواء، أو مضخة الإطفاء لحريق المادية، وسعار الإباحية، وصراع النفعية - وهو ما تفرزه الحضارة الغربية للناس - فهل يستطيع الإسلام أو يستطيع المسلمون أن يقوموا بدور المنقذ للبشرية التي تكاد تشرف على الغرق ? وبعبارة أخرى: هل عند أمتنا مشروع حضاري تقدمه للبشرية في دورتها المقبلة أو في قرنها الجديد؟ سواء سميناه قرن صراع الحضارات كما يسميه الكاتب الأمريكي صمويل هانتنجتون، أم قرن حوار الحضارات على حد تعبير المفكر الفرنسي المسلم جارودي؟

والجواب: نعم عند أمتنا مشروعها الحضاري المتميز، وهو المشروع الحضاري الإسلامي الذي يتبناه اتجاه الوسطية الإسلامية الذي تحدثنا عنه.

وإن كنت أوثر ألا أستخدم عبارة (المشروع) هذه - التي جرت على الألسنة والأقلام في السنوات الأخيرة - إلا من باب ما يسميه علماء البلاغة العربية (المشاكلة) كقوله تعالى: "ويمكرون ويمكر الله" (الأنفال: 30)، وكذلك قوله تعالى: "يخادعون الله وهو خادعهم" (النساء:142).

وعلى هذا الأساس أجزنا استعمال كلمة المشروع الإسلامي في مقابلة المشروع الماركسي والمشروع الليبرالي والمشروع العلماني بصفة عامة. والعبارة التي أوثرها هنا حقًا هي الرسالة فبدل أن نقول: مشروعنا الحضاري، نقول: رسالتنا الحضارية.

نعم لدى أمتنا رسالة حضارية

ومما لا ريب فيه أننا أمة ذات رسالة، وهي رسالة حضارية متميزة، إنها رسالة جامعة، تبدأ بتزكية الفرد، مرورًا بإسعاد الأسرة، وإصلاح المجتمع، وبناء الأمة، وإقامة الدولة، وانتهاءً بسلام العالم وخيره، حتى يتحقق قول الله تعالى لرسوله محمد : "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" (الأنبياء: 107)، وقوله عن نفسه: "إنما أنا رحمة مهداة" ().

وأذكر أن حوارًا دار بين مفكرين إسلاميين كبيرين، هما: مالك بن نبي من الجزائر، وسيد قطب من مصر، حول نسبة الحضارة إلى الإسلام، وإلى مجتمعه. فقد كان سيد قطب أعـلن عن كتاب كبير يعده، سماه في أول الأمر (نحو مجتمع إسلامي متحضر)، ثم عاد فحذف من العنوان كلمة (متحضر)، واكتفى بتسميته (نحو مجتمع إسلامي)، معللاً ذلك بأن نسبة المجتمع إلى الإسلام ووصفه به، يغني عن وصفه بالتحضر، على أساس أن الإسلام هو الحضارة الحقيقية، وما عداه من الحضارات التي تبهر الناس وهمٌ وزيف، وكتب في ذلك فصلاً من فصول كتابه الشهير (معالم في الطريق) جعل عنوانه (الإسلام هو الحضارة).

وأنا مع الشهيد قطب في أن الإسلام هو الحضارة المثلى، الذي تقاس إليه الحضارات المختلفة، ليعرف صوابها من خطئها، وأصيلها من زائفها.

ولكن هذا لا يمنع من استخدام وصف (المتحضر) - كما قال ابن نبي - للمجتمع الإسلامي، باعتبارها صفة كاشفة، لا صفة منشئة، كما يقول اللغويون، كما في قوله تعالى: "ولا طائر يطير بجناحيه" (الأنعام: 38)، فليس هناك طائر يطير بجناحيه، وآخر لا يطير بهما. ووصف المجتمع الإسلامي بهذه الصفة (التحضر) ليبين من أول الأمر أن الإسلام دين حضارة وعلم وثقافة، وليس كما يتصور بعض النـاس أو يصـورون أنه ديـن بـداوة، لأنه نشـأ في بيـــئة لم يكن لها فلــسفة اليـونـان، ولا قانون الرومان، ولا مدنية الفرس، ولا حكمة الهند، ولا صنعة الصين.

ولهذا أقول بكل ثقة واطمئنان: إن لدى أمتنا رسالة حضارية متميزة تستطيع أن تقدمها للعالم الذي تدل كل الدلائل أنه في أشد الحاجة إليها، لو وجدت من يحسن تقديمها إليه، ولا سيما العالم الغربي الذي حقق الثورات العلمية الهائلة في دنيا الذرة، ودنيا الفضاء، ودنيا الإلكترونيات، ودنيا الهندسة الوراثية، ودنيا الاتصالات والمعلومات. هذه الرسالة تستطيع أن تقدم للغرب الإيمان ولا تســلبه العلم، وتعطيه الدين ولا تحرم عليه الدنيا، وتصله بالسماء ولا تمنعه من عمارة الأرض، وتمنحه نور الوحي ولا تحرمه نور العقل، وتقوي صلته بالخالق ولا تقطعه عن الخلق.

مقومات هذه الرسالة العشرون

ولهذه الرسالة الحضارية (مقومات) - ذكرتها في محاضرة لي منذ نحو ثلاث سنوات في مؤتمر إسلامي في مدينة ديترويت بالولايات المتحدة - تصل إلى عشرين عدًّا، نذكرها سردًا مجردًا فيما يلي، فهي:

رسالة العقيدة الموافقة للفطرة. رسالة العبادة الدافعة للعمارة. رسالة العقل المهتدي بالوحي. رسالة العلم المرتبط بالإيمان. رسالة الإيمان المقترن بالعمل. رسالة العمل الملتزم بالدعوة. رسالة الدنيا المعدة للآخرة. رسالة الجسم الممدود بالروح. رسالة القوة المدافعة عن الحق. رسالة المال المكتسب من حل، المنفق في حق. رسالة الحقوق المتوازنة مع الواجبات. رسالة الحرية الخادمة للفضيلة. رسالة الأخلاق المرتقيـة بالإنسـان. رسـالة الفـرد المنـتـظم في أســرة ومجتــمع. رسـالة المجتــمع الذي لا يطغى على الأفراد. رسالة الأمـة المنفـتحة على العـالم. رسالة الدولة المقيمة للدين. رسالة التشريع المحقق للمصالح. رسالة العدل المؤيد بالإحسان. رسالة الفن الملتزم بالقيم.

هذه مفردات مقومات هذه الرسالة الحضارية، وشرح كل منها يطول، فحسبنا هنا سردها. وعسى الله أن يهيئ لنا شرحها وإلقاء الضوء عليها، في مناسبة أخرى.

خصائص رسالتنا الحضارية

وإذا كان لرسالتنا الحضارية مقومات تشخصها، فلا ريب أن لها خصائص تميزها. وقد ألفنا كتابًا من زمن طويل بعنوان (الخصائص العامة للإسلام) يمكن الرجوع إليه لاستبانة هذه الخصائص من: الربانية والإنسانية والشمولية والوسطية والواقعية والوضوح، والجمع بين الثبات والمرونة.

وأكتفي هنا بالإشارة إلى خصيصة (الوسطية) ويمكن التعبير عنها بـ (التوازن)، وأضيف إليها خصيصة (التكامل)، وأتحدث عنهما بإيجاز.

رسالة التوازن والوسطية

فهذه الرسالة هي الرسالة الوحيدة التي تُقدِّم للبشرية منهجًا يتميز بالتوازن والتكامل، ونعني بالتوازن: التوسط بين طرفي الغلو والتفريط، اللذين لم يسلم منهما منهج بشري صرف، أو منهج ديني دخله تحريف البشر، وهو ما يُعبِّر عنه القرآن باسم (الصراط المستقيم) وهو المذكور في فاتحة الكتاب، الذي يسـأل المسلم ربه كل يوم أن يهديه إليه ما لا يقل عن سبع عشـرة مــرة في صـلواته: "اهدنا الصراط المستقيم" (الفاتحة: 6)، فهو منهج متميز عن طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين.

وقد يُعبِّر عنه بـ (الميزان) الذي يجب إلا يشوبه طغيان ولا إخسار كما قال تعالى: "والسماء رفعها ووضع الميزان، ألا تطغوا في الميزان، وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان" (الرحمن: 7 - 9).

فالطغيان هو الميل إلى جانب الغلو والإفراط، والإخسار: هو الميل إلى جانب التقصير والتفريط، وكلاهما ذميم.

في هذا المنهج تلتقي المتقابلات التي يحسب كثير من الناس التقاءها ضربًا من المحال، لأنها في نظرهم متضادة، والضدان لا يجتمعان، ولكنها في الإسلام تلتقي في صورة من الاتساق المبدع، بحيث يأخذ كل منها المساحة المناسبة له، دون أن يطغى على مقابله: لا طغيان ولا إخسار.

فهو يضع الموازين القسط

بين الربانية والإنسانية. بين الوحي والعقل. بين الروحية والمادية. بين الأخروية والدنيوية. بين المثالية والواقعية. بين الماضوية والمستقبلية. بين المسؤولية والحرية. بين الاتباع والابتداع. بين الواجبات والحقوق. بين الثبات والتغير.

وبهذا التوازن تتميز الأمة المسلمة عن غيرها من الأمم، ويضعها في مرتبة الأُستاذية، وهو ما خاطبها الله سبحانه وتعالى به بقوله: "وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس" (البقرة: 143).

وقد ظهرت هذه الوسطية في حياة الفرد المسلم، والأسرة المسلمة، وحياة المجتمع المسلم، والأمة المسلمة، وتجلت آثارها بوضوح في توجه الحضارة الإسلامية وتوازنها.

رسالة التكامل

وأما التكـامل فلا نعني به التوسط أو التعادل بين طرفين متقابلين، كالذي ذكرناه في التوازن. إنما نعني به اجتماع معان وأُمور يكمل بعضها بعضًا، ولا يستغنى بأحدها عن الآخر، لكي يؤدي الإنسان رسالته كاملة في عمارة الأرض، وخلافة الله وعبادته، كما أمر الله تعالى، وتؤدي الأمة رسالتها في هداية الناس، وتكون كما أراد الله لها: "كنتم خير أمة أُخرجت للناس" (آل عمران: 110).

مثال ذلك: العلم والإيمان. الحق والقوة. العقيدة والعمل. الدعوة والدولة. التربية والتشريع. وازع الإيمان ووازع السلطان. الإبداع المادي والسمو الخُـلُقي. القوة العسكرية والروح المعنوية.

فليس العلم مقابلاً أو مضادًا للإيمان، في نظر الإسلام، ولا في واقع الأمر. وليس الحق مقابلاً للقوة، وليست العقيدة مقابلة للعمل، ولا التربية مقابلة للتشريع. وهكذا، إنما هي معان يكمل بعضها بعضًا، ولا بد منها جميعًا.

فإن الحياة التي ينشدها الإسلام لا تستقيم ولا تتكامل إلا بهذه الأمور كلها.

وعيب المناهج والأنظمة البشرية أنها تهتم ببعض الجوانب دون بعض، وتركز على بعض القيم دون بعض، فنراها تعنى - مثلاً - بالاقتصاد والإنتاج، أعني بإشباع البطون، ولكن لا تعنى كثيرًا بإشباع العقول، وقد تعنى بإشباع العقول بالعلم المادي، ولكنها لا تعنى بإشباع القلوب والأرواح برحيق الإيمان. وقد تهتم بتيسير المواصلات بين البلدان، على حين تغفل الاهتمام بالصلات الاجتماعية والنفسية بين الناس. وأعظم من ذلك الصلة بين الإنسان وربه.

ولكن الإسلام - منهج الله - يعنى بإشباع حاجات الإنسان كله: جسمه وعقله وروحه، ويهتم بالإنسان في كل أحواله، فردًا، وعضوًا في أسرة، وعضوًا في مجتمع، ومواطنًا في دولة، ويوجه عنايته التوجيهية والتشريعية إلى الإنسان في كل مراحله وأوضاعه، الإنســان طفـــلاً، والإنسان شابًا، والإنسان شيخًا. الإنسان رجلاً، والإنسان امرأة. الإنسان حاكمًا، والإنسان محكومًا، الإنسان من حيث هو إنسان: أبيض أو أسود، شرقي أو غربي، غني أو فقير، يعيش في ناطحات السحاب أو في الغابات والأدغال.

كما يوجه الإسلام عنايته إلى إنشاء المجتمع الفاضل، والأمة الواحدة، التي أخرجها الله للناس، لخير الناس، وهداية الناس، والدولة الصالحة، التي تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.

تكامل العلم والإيمان في الإسلام

ومن أظهر ما يتجلى فيه التكامل الإسلامي، هو: تكامل العلم والإيمان.

فمن مظاهر التكامل في رسالة الإسلام: أن التقى فيها العلم والإيمان جنباً إلى جنب، ولم يقم في مجتمعه ما قام في المجتمعات الأخرى من نزاع بين العلم والدين، راح ضحيته الألوف من أهل العلم والفكر، ومن رأى رأيهم أو سار على دربهم. وتاريخ أوروبا في العصور الوسطى حافل بالمجازر البشرية الرهيبة التي سيق إليها العلماء والدارسون في ظل محاكم التفتيش وغيرها. وقد حكى الشيخ محمد عبده في كتابه: (الإسلام والنصرانية، مع العلم والمدنية) جملاً من هذه الوقائع تقشعر لمجرد ذكرها الجلود، وتستنكرها في عصرنا أدنى العقول.

ومن حسن حظنا نحن المسلمين أن ديننا لا يضيق بالدعوة إلى العلم والتقدم، كما قد يتوهم الذين لا يعرفون الإسلام، ويريدون أن يُجروا عليه ما جرى على الأديان الأخرى. نحن نعتبر التقدم العلمي وما يُثمره في الحياة من استخدامات تكنولوجية نافعة - تيسر على الإنسان حياته، وتوفر عليه جهده البدني والعقلي - عبادة بالنسبة للفرد المسلم، يتقرَّب بمعرفتها وإتقانها إلى ربه، كما يتقرَّب بالصلاة والصيام. وهي - بالنسبة للمجتمع - فريضة كفائية، يأثم المجتمع كله إذا لم يقم من أبنائه عدد كاف يسد كل الثغرات، ويلبي كل الحاجات، التي يتطلبها المجتمع في كل مجالاته المدنية والعسكرية. إن مما تميز به الإسلام عن غيره من الأديان الأخرى، هو احترامه للعقل، ودعوته إلى النظر والتفكير، وحثه على العلم والتعلم، وإشادته بالعلماء وأصحاب العقول، وحملته على الجمود والجهل، وتمجيده للقراءة والكتابة والقلم، من أول آيات أنزلت من القرآن.

ولكن العلم في الإسلام إنما يقوم في رحاب الإيمان وضوئه، كما قال تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" (العلق: 1)، والقراءة هي مفتاح العلم، ولكنها قراءة مؤمنة، قـراءة باسـم الله، الـرب الذي خـلق. وبهـذا يكــون العــلم خــيرًا وبـركـة على النـاس، لا مصدر غرور وتسلط على الخلق، ومن هنا رأينا سليمان حينما جيء له بعرش بلقيس من سبأ إلى الشام بوساطة العلم، لم يركبه الغرور، بل قال في أدب وتواضع: "هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر، ومن شكر فإنما يشكر لنفسه،ومن كفر فإن ربي غني كريم" (النمل: 40)، ورأينـا ذا القرنين الذي آتاه الله من كل شيء سببًا، وهيأ له من الفتوح في الشرق والغرب ما لم يتهيأ لأحد قبله، حين بنى سدّه العظيم يقول في خشوع المؤمنين: "هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقًا" (الكهف: 98).

حضارتنا: حضارة العلم والإيمان

وفي ضوء هذه القيم والمفاهيم تأسست النهضة العلمية الكبرى في رحاب الحضارة الإسلامية المتكاملة. ترجم المسلمون كتب (الأوائل) كما كانوا يسمونهم في المشرق والمغرب، وخصوصًا اليونان، الذين كان لهم باع طويل في الفلسفة، التي كانت تشمل شُعَبها: الجوانب العلمية والرياضية والطبيعية، (بجوار الجانب الميتافيزيقي)، فاستفاد المسلمون منها، وهذَّبوها، وشرحوها، وأضافوا إليها إضافات هامة، بل ابتكروا علومًا جديدة مثل علم (الجبر)، واكتشفوا المنهج الاستقرائي والتجريبي، الذي طبَّقوه عمليًا في مختلف جوانب الحياة، والذي اقتبسه الغربيون منهم، وقامت على أساسه النهضة الغربية الحديثة، فهي حسنة من حسنات الحضارة الإسلامية، كما شهد بذلك المنصفون من الغربيين أنفسهم.

لقد كانت الحضارة الإسلامية هي الحضارة الأولى - وربما الحضارة الفذَّة - في العالم لعدة قرون، يوم كانت أوروبا غارقة في بحار الجهالة و الظلمات، ولا ترى الضوء إلا من جهة الشرق المسلم.

وكانت جامعات المسلمين هي جامعات العلم الكبرى في العالَم، في بغداد أو في القاهرة، أو في دمشق، أو في قرطبة، والأندلس، أو في غيرها من مواطن العلم في عالم الإسلام، وكان الطُلاب من أنحاء العالم يفدون إلى هذه الجامعات ليتعلموا ويتقدموا.

وكانت المراجــع العلمـية في العالَم هي المراجـع الإسلامية. وكانت أسماء علماء المسلمين هي ألمع الأسماء العلمية في تلك العصور، بل هي الأسماء الوحيدة المعـروفــة في تخصصاتها المتنوعة، مثل الخوارزمي والبيروني وابن الهيثم وابن النفيس وابن البيطار. وغيرهم وغيرهم. إلى جوار علماء الفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية مثل الكندي والفارابي والغزالي وابن باجة وابن طفيل وابن مسكويه وابن عربي وابن تيمية وابن خلدون. وغيرهم. وكان كثير من هؤلاء علماء مبرزين في علوم الدين والشريعة، ومبرزين كذلك في العلوم الطبيعية والرياضية، مثل ابن رشد والفخر الرازي وابن النفيس وغيرهم.

وكانت اللغة العربية هي لغة العلم الأولى في العالم، فقد وسعت كل العلوم المترجمة والمبتكرة، وكتبت بها في سلاسة ووضوح، ولم يشك عالم يومًا ما أن اللُّغة ضاق صدرها بعلم من العلوم، أو عجزت عن التعبير عنه.

وكانت مدن المسلمين في عالَم الإسلام هي التي احتضنت هذه النهضة الشامخة، وتجلَّت فيها آثارها المادية: في مساجدها، وفي مدارسها، وفي قصورها، وفي قلاعها، وفي مستشفياتها، وفي شتى جوانب حياتها.

كما تجلت آثارها المعنوية في سلوك المسلمين، حتى قـال (غوستاف لوبون): "ما عرف التاريخ فاتحًا أعدل ولا أرحم من العرب". يعني: من المسلمين.

كانت حضارتهم حضارة ربانية، كل شيء فيها موصول بذكر الله، وكل أمر ذي بال فيها لا يبدأ باسم الله فهو أبتر.

وكانت حضارة إنسانية، تعمل لخير الإنسان، وسعادة الإنسان، والسمو بالإنسان، كما تهتم بكرامة الإنسان، وفطرة الإنسان، وحرية الإنسان.

وكانت حضارة أخلاقية، لا ينفصل فيها العلم عن الأخلاق، ولا الاقتصاد عن الأخلاق، ولا السياسة عن الأخلاق، ولا الحرب عن الأخلاق.

وأعتقد أن الأمة التي صنعت تلك الحضارة القديمة، قادرة على أن تصنع حضارة جديدة، تأخذ من حضارة الغرب خير ما فيها، من وثبات العلم والتكنولوجيا، وحسن الإدارة والتنظيم، ولكنها تضيف إليها قيم الإيمان والأخلاق الربانية والإنسانية، وتضبط مسيرتها بالتشريعات الإلهية، التي وضعت (النصوص الربانية) أسسها وأصولها، وتركت للعقل المسلم حق الاجتهاد في فروعها وتفصيلاتها، مراعيًا الجمع بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية، ومعتبرًا لتغير الزمان والمكان والإنسان.

وبهذا تكمل حضارتنا نقص الحضارة المعاصرة، وتملأ فراغها، حين تمزج الروح بالمادة، وتصل الدنيا بالآخرة، وتربط بين التنمية والأخلاق، وتجمع بين العلم والإيمان، فليس بالعلم وحده يحيا الإنسان.

إن الإيمان - كما جاءت به الرسالة الخاتمة - هو الذي يُفسر قضايا الوجود الكبرى، ويصل الإنسان بالوجود الكبير، وبالأزل والأبد، ويجعل لحياته طعمًا وهدفًا ورسالة، وهو الذي يمنحه السكينة الروحية، والطمأنينة القلبية، فلا يستبد به القلق والخوف، ولا يسيطر عليه الاكتئاب واليأس: "هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم" (الفتح: 4)، "الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب" (الرعد: 28).

الإيمــان قوة هــادية، تنير لصاحبها الطريق، وهو قــوة حــافزة، تدفعه إلى الخير، وهو قوة ضابطة، تصده عن الشر، وقوة جامعة، تربط أهل الإيمان برباط لا ينفصم: "ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم" (آل عمران: 101).

كلمة أخيرة

هذه رسالة الإسلام الحضارية، تقدمها أمته إلى العالم الحائر الذي شقى بالحضارة المادية الاستهلاكية التي تسوده اليوم.

على الأمة أن تجتهد وتستفرغ وسعها في تبليغ هذه الرسالة إلى البشرية التائهة: بالأسوة الحسنة والنموذج العملي أولا، ثم بالكلمة المقروءة، وبالكلمة المسموعة، وبالكلمة المشاهدة، وباللغات المختلفة، حتى تقوم على الناس الحجة، وتبرأ الذمة.

ولدينا من الإذاعات الموجــهة، ومن القنــوات الفضائية، ومن شبكة (الإنترنت)، ما يمكننا أن نوصل كلمتنا إلى أنحاء الأرض، ونحقق عالمية الإسلام بالفعل.

ولكننا - لكي نحقق هذا الهدف - نفتقر إلى قوى بشرية مدربة هائلة، لتستطيع أن تخاطب كل قوم بلسانهم، ولتبين لهم. وإلى قدرات مالية كبيرة، لتمويل ما تحتاجه هذه الآليات الخطيرة من أجهزة وأدوات، ومن تفريغ للقوى البشرية القادرة على العطاء المتميز.

وقد سميت الدعوة إلى الإسلام عن طريق (الإنترنت) جهاد العصر، فهو يغنينا عن تجييش الجيوش، لإيصال دعوة الإسلام إلى البلدان والشعوب البعيدة.

وبهذا نستطيع برسالتنا الحضارية - إذا أحسنا عرضها بلغة عصرنا - أن نفتح لها آفاقــًا وأقطــارًا، فتحًا سلميًا، لا تراق فيه قطرة دم، فلا نشهر سيفًا، ولا نطلق مدفعًا، ولا نعلن حربًا.

إنه (الفتح السلمي) الذي أصّله الإسلام، في (صلح الحديبية) المعروف، والذي عقد بين الرسول وبين مشركي قريش، لإقامة هدنة بين الطرفين، يكف كل منهما يده عن الآخر، فسمّى القرآن ذلك (فتحًا مبينًا) ونزلت في شأنه (سورة الفتح). وسأل بعض الصحابة الرسول الكريم: أوفتح هو يا رسول الله؟ قال: (إي والذي نفسِ محمد بيده، إنه لفتح). وانتشر الإسلام في هذه الفترة، كما لم ينتشر في أي فترة مضت.

وعلى ضوء هذا، أفسر ما بشر به الحديث النبوي الشريف من فتح رومية بعد فتح القسطنطينية أنه فتح الدعوة والفكر، لا فتح السيف والمدفع. وفتح رومية يعني عودة الإسلام إلى أوربا، بعد أن أخرج منها مرتين، وهذا هو فتح القرن القادم إن شاء الله، القرن الحادي والعشرين، فتح العقول بالمعرفة، والقلوب بالإيمان، والحياة كلها بتعاليم الإسلام. "ويومئذ يفرح المؤمنون، بنصر الله" (الروم: 4 - 5). ويتحقق وعده تعالى: "سنريهم آياتنا فالآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت: 53).