د. محمود عبد الرازق الرضواني
12-05-2005, 03:07 PM
الحمد لله الكبير المتعال ، ذي القدرة والجلال ، والكمال والجمال ، والنعم والأفضال ، سبحانه هو العلي الكبير ، هو العليم القدير ، هو اللطيف الخبير ، تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير ، أحمده حمد المعترف بالعجز والتقصير ، وأشكره على ما أولانا من نعم وفضل كبير ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة من يؤمن بأنه لا معين له ولا ظهير ، ولا وزير له ولا مشير ، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا محمدا عبده ورسوله ، البشير النذير ، والسراج المنير ، المبعوث إلى كافة الخلق من غني وفقير ، ومأمور وأمير ، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين ، وسائر أصحابه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين : ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ) (الأحزاب:70) ، ( يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون ) (آل عمران:102) أما بعد ..
فحديثنا عن عقيدة السلف بعد موت أبى الحسن الأشعري صاحب المنهج السلفي ، فقد ظل أمر العقيدة بعد موت أبى الحسن الأشعري ، وعلماء الخلف من الأشعرية كالقاضي أبى بكر الباقلاني : (402هـ) ، وكأبى إسحاق الإسفراييني : ( ت418هـ) وكأبي إسحاق الشيرازي : (476هـ ) ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجو يني : (478هـ ) وفخر الدين الرازي ( 606هـ) وكأبي حامد الغزالي الصوفي : (505هـ) ، والآمدي والإيجي وابن فورك والجو يني والشهرستانى وغيرهم من علماء الخلف الأشعرية ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض والتفويض هو القول بأن معنى النص غير معروف عند السلف وأنهم لا يعلمون معناه وأنهم فوضوا العلم به إلى الله أو ردوا العلم بالمعنى إلى الله لعدم علمهم به كالأعجمي حين ينظر إلى القرآن ، والأمر ليس كذلك كما سنرى فالسلف فوضوا العلم بالكيفية إلى الله أو ردوا العلم بكيفية الصفات إلى الله أما المعنى فهو معلوم واضح ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض في المعنى وأن المذهب المنسوب إلى أبى الحسن الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة مذهب الخلف الذين يقولون بالتأويل وأن النصوص القرآنية والنبوية في الغيبيات والأسماء والصفات ، موهمة للتشبيه ومتشابهات ، وبقى الحال على ذلك عند أغلب الناس حتى الآن ، فأغلب الناس الآن على عقيدة التفويض بظنهم الخاطيء في عقيدة السلف .
وقد اشتبه على كثير من إخواننا الذين نحسبهم على خير في كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم اشتبه عليهم مذهب السلف في قضية التفويض ، حيث ظنوا أن مذهب السلف في نصوص الصفات أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه هو تفويض معاني النصوص والكف عن طلب العلم بها ، ويجعلون دليلهم في ذلك ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أن رجلا جاءه وقال له : يا أبا عبد الله ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) كيف استوى ؟! ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج .
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر في قول مالك رحمه الله علمنا أنه فرق في جوابه بين أمرين أساسيين هما أصل الفهم الذي امتاز به السلف الصالح في باب الصفات :الأمر الأول : معنى الاستواء على العرش أو معنى الصفات بوجه عام ، والأمر الثاني : كيفية الاستواء على العرش أو كيفية الصفات بوجه عام .
فالمعنى الوارد في نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال الألفاظ العربية التي نزل بها الوحي ، أما الكيفية فهي المدلول الحقيقي الذي ينطبق عليه اللفظ ، فلفظ الاستواء في الآية لفظ ينطبق على صفة لله لها كيفية تليق بجلاله ، ونحن ما رأيناها لقوله : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) مسلم ، وما رأينا لها مثيلا نصفها من خلاله لقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) فاللفظ دل على إثبات مدلول حقيقي وهو وصف الله الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بوجوده ، ولما غضب الإمام مالك على السائل غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التي تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية ، ولا يمكن للإمام مالك أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التي عليها استواء الله على العرش لعلمه أن ذلك قول على الله بلا علم ، وهو محرم بل جرم كبير لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ، وقال أيضا : ( قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .
فالإنسان محاسب مسئول على قول الباطل وشهادة الزور لاسيما إذا كان القول على الله بلا علم ، أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء في لغة العرب التي خاطبنا الله بها أو سأله عن الآية : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ما الذي تضيفه للمسلم في موضوع الإيمان بالله ؟ لما غضب عليه مالك ، إذ أن حق السائل على أهل العلم أن يفهم معاني آيات القرآن ونصوص السنة ، وقد أمره الله بذلك فقال : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) والجواب عند ذلك بيِّن واضح مفهوم ، ولن يعجز الإمام مالك عن جوابه إذ أن استواء الله على عرشه له وجود حقيقي ويعنى في اللغة العلو والارتفاع ، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمي عن ترجمة هذه الآية ، فإن المترجم لن يترجم له وصف كيفية الاستواء ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال ، لأنه كما سبق لم يره ولم ير له مثيلا ، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش وأن الله ليس كمثله شيء في استوائه ، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود الاستواء وأن له كيفية معينة تليق بجلال الله يعلمها الله ولا نعلمها نحن .
فالآية أوجبت الإيمان بوجود استواء حقيقي لا نعلم كيفيته ويجب أن نسلم لله به ، وعلى ذلك فإن معتقد الإمام مالك الذي يمثل مذهب السلف الصالح هو تفويض العلم بالكيفية فقط إلى الله ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد من مفهوم الآية ، وهذا واضح بيِّن في كلامه حيث قال : الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه ، ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية فإن هذا يماثل قول القائل : إن كلام الله بلا معنى ، وهذا اللازم لم يتنبه له من زعم أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص لجهلهم بحقيقة المذهب السلفي فلا نظن أن أحدهم يعتقد ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقبا على قول مالك في الاستواء : ( وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول فليس في أهل السنة من ينكره وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم وإنما قال الكيف مجهول )
والأشعرية لما ظنوا أن نصوص الصفات الإلهية ، موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير مفهوم المحكم والمتشابه في أذهانهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن ، آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله وليس كمثله شيء فيها ، وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا ظاهرها باطل محال يدل على التشبيه والتجسيم ، ويجب صرفها عن ظواهرها وحقائقها ، التي صوروا فيها ربهم للناس بأقبح الصورة المنفرة ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر أو العلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التمسك بمذهب السلف قالوا هذا هو مذهب السلف ، والسلف برئ منهم ومن قولهم .
فكان فهم الأشعرية للعقيدة السلفية وادعائهم أن مذهب السلف هو التفويض مرتبطا بفهمهم للمحكم والمتشابه في القرآن ، فما هي حقيقة مذهب السلف والخلف الأشعرية في فهم المحكم والمتشابه ؟ ، المحكم لغة من الحكم وهو العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم يحكم ، والمحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، والمتشابه لغة : أشبه الشيء الشيء ماثله ، وشابهه أشبه ، تشابه الشيئان أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ، والمتشابه يراد به عدة أشياء عند العلماء :
أحدها : وقوع النظم الواحد على صور شتى ، تتشابه في أمور وتختلف في أخرى ، ومن ثم يطلقون عليه متشابه النظم أو متشابه اللفظ ، ويذكر الزركشى في البرهان أن ذلك يكثر في إيراد القصص والأنباء ، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب مختلفة ، ليعلمهم عجزهم عن إنشاء مثله ابتدأ وتكررا ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:48) ، مع قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:123) .
المعنى الثاني للمتشابه : أن يطلق المتشابه صفة مدح لجميع القرآن ، متشابه في الحسن والبيان والجمال ، والقوة والإعجاز والكمال ولفظ المتشابه بهذا المعنى هو الوارد في قوله تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) .
فالقرآن الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ، ومنفعته للخلق ، وتناسب ألفاظه وتناسقهما ، وبناء تراكيبه ونظمها ، وتأليف مبانيه وإعجازها ، والتشابه بهذا المعنى الذي يعم جميع القرآن ، ولا يتنافى بحال مع وصف الإحكام المذكور في قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، والذي يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره ، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا في كتاب الله عز وجل دون أن يأتي كلام الحق في ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه .
وأما الإحكام فمعناه أن أي القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية ، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل ، أو جعلت حكمة ، فنقول : حُكِم إذا صار محكما ، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية ، وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم في تشابهه ، متشابه في إحكامه .
المعنى الثالث للمتشابه : أن يرد لفظ المتشابه في القرآن ويقصد به بعض آيات القرآن ، في مقابل وصف البعض الآخر بالمحكم ، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان في نص واحد ، وذلك هو ما جاء في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) ، وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق ، والعلماء بعد الأشعري مختلفون اختلافا عظيما في تبيان المحكم والمتشابه على هذا المعنى ، مع أن ذلك لم يكن موجودا عند السلف كما سنرى ، لبساطة فهمهم وسلامة عقيدتهم ونقاء فطرتهم ، وهذا ما يهمنا في الموضوع .
ويذكر الشيخ أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) .
فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَاب ) فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا .
ويمكن بالتتبع والاستقراء حصر الأراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في النقاط الآتية : المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجوها فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ، المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه والمتشابه منسوخة وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به ، المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل ، المحكم ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره ، هذه آراء العلماء في المحكم والمتشابه .
وجميع الآراء في معنى المحكم والمتشابه تدور حول قضية أساسية توضح بساطة العقيدة السلفية في الصفات الإلهية ، فجميع الآراء تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كالصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها وضبط ملامحها والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحدا يصبح معلوما مميزا ، وقد سميت آيات الأحكام بما تحويه من أحكام أحكاما لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
كما أن المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : ( كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (البقرة:118) ، أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعتو والعناد ، وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقوله تعالى عن بنى إسرائيل : ( إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) (البقرة:70) وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه سوف ننظر إلى تفسير الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل كلامنا ، وهى قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلبَابِ ) (آل عمران:7) .
فحديثنا عن عقيدة السلف بعد موت أبى الحسن الأشعري صاحب المنهج السلفي ، فقد ظل أمر العقيدة بعد موت أبى الحسن الأشعري ، وعلماء الخلف من الأشعرية كالقاضي أبى بكر الباقلاني : (402هـ) ، وكأبى إسحاق الإسفراييني : ( ت418هـ) وكأبي إسحاق الشيرازي : (476هـ ) ، وإمام الحرمين أبو المعالي الجو يني : (478هـ ) وفخر الدين الرازي ( 606هـ) وكأبي حامد الغزالي الصوفي : (505هـ) ، والآمدي والإيجي وابن فورك والجو يني والشهرستانى وغيرهم من علماء الخلف الأشعرية ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض والتفويض هو القول بأن معنى النص غير معروف عند السلف وأنهم لا يعلمون معناه وأنهم فوضوا العلم به إلى الله أو ردوا العلم بالمعنى إلى الله لعدم علمهم به كالأعجمي حين ينظر إلى القرآن ، والأمر ليس كذلك كما سنرى فالسلف فوضوا العلم بالكيفية إلى الله أو ردوا العلم بكيفية الصفات إلى الله أما المعنى فهو معلوم واضح ، هؤلاء يعتقدون أن مذهب السلف هو التفويض في المعنى وأن المذهب المنسوب إلى أبى الحسن الأشعري هو مذهب أهل السنة والجماعة مذهب الخلف الذين يقولون بالتأويل وأن النصوص القرآنية والنبوية في الغيبيات والأسماء والصفات ، موهمة للتشبيه ومتشابهات ، وبقى الحال على ذلك عند أغلب الناس حتى الآن ، فأغلب الناس الآن على عقيدة التفويض بظنهم الخاطيء في عقيدة السلف .
وقد اشتبه على كثير من إخواننا الذين نحسبهم على خير في كل ما يبذلونه لخدمة دينهم ورفعة إسلامهم اشتبه عليهم مذهب السلف في قضية التفويض ، حيث ظنوا أن مذهب السلف في نصوص الصفات أو ما يطلقون عليه الصفات الخبرية أو النصوص الموهمة للتشبيه هو تفويض معاني النصوص والكف عن طلب العلم بها ، ويجعلون دليلهم في ذلك ما ثبت عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أن رجلا جاءه وقال له : يا أبا عبد الله ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) (طه:5) كيف استوى ؟! ، فقال : الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة فإني أخاف أن تكون ضالا وأمر به فأخرج .
والحقيقة أننا إذا دققنا النظر في قول مالك رحمه الله علمنا أنه فرق في جوابه بين أمرين أساسيين هما أصل الفهم الذي امتاز به السلف الصالح في باب الصفات :الأمر الأول : معنى الاستواء على العرش أو معنى الصفات بوجه عام ، والأمر الثاني : كيفية الاستواء على العرش أو كيفية الصفات بوجه عام .
فالمعنى الوارد في نصوص الكتاب والسنة يستوعبه الذهن من خلال الألفاظ العربية التي نزل بها الوحي ، أما الكيفية فهي المدلول الحقيقي الذي ينطبق عليه اللفظ ، فلفظ الاستواء في الآية لفظ ينطبق على صفة لله لها كيفية تليق بجلاله ، ونحن ما رأيناها لقوله : ( تَعَلمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رَبَّهُ عَزَّ وَجَل حَتَّى يَمُوتَ ) مسلم ، وما رأينا لها مثيلا نصفها من خلاله لقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء ) فاللفظ دل على إثبات مدلول حقيقي وهو وصف الله الذي أمرنا بالإيمان به والتصديق بوجوده ، ولما غضب الإمام مالك على السائل غضب لأنه جاء يسأل عن كيفية الاستواء الغيبية التي تخرج عن إدراك أجهزة الحواس البشرية ، ولا يمكن للإمام مالك أن يخترع له جوابا يصف فيه الكيفية التي عليها استواء الله على العرش لعلمه أن ذلك قول على الله بلا علم ، وهو محرم بل جرم كبير لقوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالبَصَرَ وَالفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا ) ، وقال أيضا : ( قُل إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّل بِهِ سُلطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ) .
فالإنسان محاسب مسئول على قول الباطل وشهادة الزور لاسيما إذا كان القول على الله بلا علم ، أما لو جاء السائل مالكا يسأله عن معنى الاستواء في لغة العرب التي خاطبنا الله بها أو سأله عن الآية : ( الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى ) ما الذي تضيفه للمسلم في موضوع الإيمان بالله ؟ لما غضب عليه مالك ، إذ أن حق السائل على أهل العلم أن يفهم معاني آيات القرآن ونصوص السنة ، وقد أمره الله بذلك فقال : ( فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ) والجواب عند ذلك بيِّن واضح مفهوم ، ولن يعجز الإمام مالك عن جوابه إذ أن استواء الله على عرشه له وجود حقيقي ويعنى في اللغة العلو والارتفاع ، تماما مثلما يسأل صاحب اللسان الأعجمي عن ترجمة هذه الآية ، فإن المترجم لن يترجم له وصف كيفية الاستواء ولا يمكنه ذلك بحال من الأحوال ، لأنه كما سبق لم يره ولم ير له مثيلا ، وإنما سيشرح له بلغته معنى العلو والارتفاع على العرش وأن الله ليس كمثله شيء في استوائه ، ويبين له ضرورة الإيمان بوجود الاستواء وأن له كيفية معينة تليق بجلال الله يعلمها الله ولا نعلمها نحن .
فالآية أوجبت الإيمان بوجود استواء حقيقي لا نعلم كيفيته ويجب أن نسلم لله به ، وعلى ذلك فإن معتقد الإمام مالك الذي يمثل مذهب السلف الصالح هو تفويض العلم بالكيفية فقط إلى الله ، أما المعنى فهو معلوم ظاهر من لغة العرب ومراد من مفهوم الآية ، وهذا واضح بيِّن في كلامه حيث قال : الاستواء غير مجهول أي معلوم المعنى ، والكيف غير معقول أي مجهول للعقل البشرى بسبب عجزه عن إدراكه ، ومن ثم لو قلنا كما قال الخلف من الأشعرية بأن مالكا فوض العلم بالمعنى لا الكيفية فإن هذا يماثل قول القائل : إن كلام الله بلا معنى ، وهذا اللازم لم يتنبه له من زعم أن مذهب السلف هو تفويض معاني النصوص لجهلهم بحقيقة المذهب السلفي فلا نظن أن أحدهم يعتقد ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله معقبا على قول مالك في الاستواء : ( وقد تلقى الناس هذا الكلام بالقبول فليس في أهل السنة من ينكره وقد بين أن الاستواء معلوم كما أن سائر ما أخبر به معلوم ولكن الكيفية لا تعلم ولا يجوز السؤال عنها ، لا يقال : كيف استوى ؟ ولم يقل مالك رحمه الله الكيف معدوم وإنما قال الكيف مجهول )
والأشعرية لما ظنوا أن نصوص الصفات الإلهية ، موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير مفهوم المحكم والمتشابه في أذهانهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن ، آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله وليس كمثله شيء فيها ، وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا ظاهرها باطل محال يدل على التشبيه والتجسيم ، ويجب صرفها عن ظواهرها وحقائقها ، التي صوروا فيها ربهم للناس بأقبح الصورة المنفرة ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر أو العلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التمسك بمذهب السلف قالوا هذا هو مذهب السلف ، والسلف برئ منهم ومن قولهم .
فكان فهم الأشعرية للعقيدة السلفية وادعائهم أن مذهب السلف هو التفويض مرتبطا بفهمهم للمحكم والمتشابه في القرآن ، فما هي حقيقة مذهب السلف والخلف الأشعرية في فهم المحكم والمتشابه ؟ ، المحكم لغة من الحكم وهو العلم والفقه والقضاء بالعدل وهو مصدر حكم يحكم ، والمحكم الذي لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، والمتشابه لغة : أشبه الشيء الشيء ماثله ، وشابهه أشبه ، تشابه الشيئان أشبه كل منهما الآخر حتى التبسا ، والمتشابه يراد به عدة أشياء عند العلماء :
أحدها : وقوع النظم الواحد على صور شتى ، تتشابه في أمور وتختلف في أخرى ، ومن ثم يطلقون عليه متشابه النظم أو متشابه اللفظ ، ويذكر الزركشى في البرهان أن ذلك يكثر في إيراد القصص والأنباء ، وحكمته التصرف في الكلام وإتيانه على ضروب مختلفة ، ليعلمهم عجزهم عن إنشاء مثله ابتدأ وتكررا ، ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ، وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ، وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:48) ، مع قوله : ( وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ) (البقرة:123) .
المعنى الثاني للمتشابه : أن يطلق المتشابه صفة مدح لجميع القرآن ، متشابه في الحسن والبيان والجمال ، والقوة والإعجاز والكمال ولفظ المتشابه بهذا المعنى هو الوارد في قوله تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) .
فالقرآن الكريم ذو أجزاء كلها يشبه بعضها بعضا من حيث الصحة والإحكام ، والبناء على الحق والصدق ، ومنفعته للخلق ، وتناسب ألفاظه وتناسقهما ، وبناء تراكيبه ونظمها ، وتأليف مبانيه وإعجازها ، والتشابه بهذا المعنى الذي يعم جميع القرآن ، ولا يتنافى بحال مع وصف الإحكام المذكور في قوله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، والذي يعم هو الآخر القرآن الكريم بأسره ، بل يجب الأخد بكلا الوصفين جميعا في كتاب الله عز وجل دون أن يأتي كلام الحق في ذلك باطل من بين يديه أو من خلفه .
وأما الإحكام فمعناه أن أي القرآن كلها قد نظمت نظما محكما لا يعتريه إخلال من جهة اللفظ ولا من جهة المعنى ولا من جهة الهدف والغاية ، أو أنها أحكمت بالحجج والدلائل ، أو جعلت حكمة ، فنقول : حُكِم إذا صار محكما ، لأنها مشتملة على أمهات الحكم النظرية والعملية ، وإذن فالقرآن بهذا المعنى محكم في تشابهه ، متشابه في إحكامه .
المعنى الثالث للمتشابه : أن يرد لفظ المتشابه في القرآن ويقصد به بعض آيات القرآن ، في مقابل وصف البعض الآخر بالمحكم ، وبحيث لا يجتمع هذان الوصفان المتقابلان في نص واحد ، وذلك هو ما جاء في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) ، وهذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ المتشابه عند الإطلاق ، والعلماء بعد الأشعري مختلفون اختلافا عظيما في تبيان المحكم والمتشابه على هذا المعنى ، مع أن ذلك لم يكن موجودا عند السلف كما سنرى ، لبساطة فهمهم وسلامة عقيدتهم ونقاء فطرتهم ، وهذا ما يهمنا في الموضوع .
ويذكر الشيخ أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض قال الله تعالى : ( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ) (هود:1) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : ( اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله ) (الزمر:23) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ) (آل عمران:7) .
فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَاب ) فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا .
ويمكن بالتتبع والاستقراء حصر الأراء التي فسرت معنى المحكم والمتشابه في القرآن الكريم في النقاط الآتية : المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل ، المحكم ما لا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابه ما يحتمل وجوها فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكما ، المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما نؤمن به ونعمل عليه والمتشابه منسوخة وأمثاله وأقسامه وما نؤمن به ولا نعمل به ، المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل ، المحكم ما كان قائما بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره ، هذه آراء العلماء في المحكم والمتشابه .
وجميع الآراء في معنى المحكم والمتشابه تدور حول قضية أساسية توضح بساطة العقيدة السلفية في الصفات الإلهية ، فجميع الآراء تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كالصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها وضبط ملامحها والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحدا يصبح معلوما مميزا ، وقد سميت آيات الأحكام بما تحويه من أحكام أحكاما لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
كما أن المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : ( كَذَلِكَ قَالَ الذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ) (البقرة:118) ، أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعتو والعناد ، وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقوله تعالى عن بنى إسرائيل : ( إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ) (البقرة:70) وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه سوف ننظر إلى تفسير الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل كلامنا ، وهى قوله تعالى : ( هُوَ الذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلبَابِ ) (آل عمران:7) .