horisonsen
04-14-2012, 09:56 PM
الإمام سفيان الثوري[1]
اسمه ونسبه:
هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثَّوري، وهذه النسبة إلى أحد أجداده، وهو: ثور بن عبد مناة بن أدِّ بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدِّ بن عدنان. يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في "إلياس بن مضر". وكنيته "أبو عبد الله".
مولده ونشأته:
ولد في الكوفة سنة 97 هـ، ونشأ فيها، في وسط علمي، إذ كانت الكوفة في ذلك العصر مركزاً من مراكز العلم والسنة، وربما يكون كثير من مثقفَّينا لم يرسخ في ذهنه إلا صورة سيئة عنها، لما عُرفت به من الفتن والحركات المنحرفة، فليس هذا على إطلاقه، بل كانت تزخر في القرون الأولى بعشرات الأعلام من المحدثين والفقهاء والقضاة واللغويين وغيرهم، فكان ذلك سبباً عاماً لتوجه الإمام الثوري رحمه الله العلمي، وتوفر له سببان آخران:
الأول: عناية والدَيْه به، أما والده: سعيد بن مسروق، فقد كام من محدثي الكوفة وثقاتهم، وعداد في صغار التابعين، روى له أصحاب الصحيحين والسنن والمسانيد، مات سنة (126 هـ). وأما والدته: فقد كانت سيدة فاضلة، كانت تقول لولدها: "يا بنيَّ اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي". وكانت رحمها الله تتابعه على هذا السبيل، وتنصحه، قال وكيع: قالت أمُّ سفيان الثوري لسفيان: يا بنيَّ إذا كتبتَ عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى نفسك زيادةً في خشيتك، وحِلْمك، ووقارك، فإن لم ترَ ذلك، فاعلم: أنها تضرك ولا تنفعك.
الثاني: ما خصَّه الله تعالى به من الذكاء والحفظ، فكان ينوّه بذكره من صغره من أجل ذلك، وانتشر خبره وهو شاب، حدَّث أبو المثنى، قال: سمعتهم بمرو، يقولون: قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه [2]. وقال عبد الرحمن بن مهدي، رأى أبو إسحاق السَّبيعيُّ سفيان الثوريَّ مقبلاً، فقال: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وقد أخبر سفيان رحمه الله عن توقّد حافظته بقوله: إني لأمرُّ بالحائك، فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول. ولهذا كان يقول: ما استودعتُ قلبي شيئاً فخانني. وقد شهد له غير واحدٍ من الأئمة بذلك ـ كما سيأتي ـ.
مشائخه وتلاميذه:
لقي سفيان جماعة كبيرة من التابعين، وروى عنهم، وقد ذكروا في ترجمته ـ منهم وممن بعدهم من تابعيهم ـ نحو ثلاث مئة شيخ، من كبارهم: حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وزياد بن علاقة، وعمرو بن مرة، ومحمد بن المنكدر، وبابتهم، قال الذهبي: ويقال إن عدد شيوخه ستَُ مئة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم ـ وقرأ الختمة عَرْضَاً [3] على حمزة الزَّيَّات، أربع مرَّات.
وحمل العلم عنه خلق كبير، وفيهم من القدماء مَنْ مات قبله، كالأعمش وأبو حنيفة والأوزاعي ومسعر وشعبة، وغيرهم. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن الرواة عنه: أكثر من عشرين ألفاً. لكن ردّ الذهبي هذا، فقال: وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجَهْد [4]، وما علمتُ أحداً من الحفَّاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك، وبلغوا بالمجاهيل والكذابين ألفاً وأربع مئة!.
منزلته العلمية:
قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، ويحيي بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
وقال عبد الله بن المبارك: كتبتُ عن ألف ومئة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان.
وقال أبو أيوب السختياني ـ وهو من شيوخه -: ما لقيتُ كوفياً أُفضِّله على سفيان.
وقال يونس بن عبيد: ما رأيتُ أفضل من سفيان. فقيل له: فقد رأيتَ سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهد، وتقول هذا؟! قال: هو ما أقول: ما رأيتُ أفضل من سفيان.
وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ مني. وقال عبد العزيز بن أبي رزمة قال رجل لشعبة: خالفكَ سفيان. فقال: دمغتني!!.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان وهَيْب: يُقدِّمُ سفيان في الحفظ على مالك.
وقال يحيى بن سعيد القطان: سفيان أشد من شعبة وأعلم بالرجال.
ومن هنا فإن ما رواه: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عقبة عن عبد الله بن مسعود، فهو من أصح الأسانيد عنه رضي الله عنه [5]. بل قال الذهبيُّ: أجلُّ إسنادٍ للعراقيين.
هذه منزلته في الحديث، ولما كان العالم كلما كان أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ حفظاً وعنايةً ودرايةً ـ كان أعظم فقهاً في دين الله تعالى، لهذا كان سفيان ـ كما يقول الفُضيل بن عياض رحمه الله ـ "أعلم من أبي حنيفة" رحمه الله. ويقول ابن عيينة: ما رأيتُ رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان. بل هذا عبد الرحمن بن مهدي يذكر سفيان، وشعبة، ومالكاً، وابن المبارك. ثم يقول: أعلمهم بالعلم سفيان.
وقال عباس الُّدوري: رأيتُ يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد، وكلِّ شئٍ.
بماذا ساد النَّاس:
لقد بلغ سفيان منزلةً عظيمةً في زمانه، أهَّلته لأن يُفضَّل على معاصريه من الأئمة الكبار تفضيلاً عاماً، كما رأيت في النصوص المتقدمة، وهناك نصوص أخرى، منها قول الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي". والإمام أحمد في هذا على رأي شيخه سفيان بن عيينة رحمه الله، فقد حدّث عنه أنه قال له: "لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت". ويقول بشر الحافي كان الثوري عندنا إمام الناس. ويقول: سفيان في زمانه كأبي بكرٍ وعمرَ في زمانهما.
فبماذا نال الإمام الثوري رحمه الله هذه المرتبة الشريفة؟
يجيبنا شعبة بن الحجاج رحمه الله، فيقول: "ساد سفيانُ الناسَ بالورع، والعلم".
وهذا قريب من تلك الكلمة التي اشتهرتْ عن الإمام ابن القيم رحمه الله، وهي قوله: "بالصبر واليقين، تنالُ الإمامةُ في الدِّين". فإن حقيقة الورع هو: الصبرُ عن كل ما تخافُ ضرره عليكَ في دينك وآخرتك. واليقينُ هو ثمرة العلم، فلا يقينَ بغير علمٍ، بل لا يقين إلا بالعلم الأثريِّ الصحيح، ولهذا كان أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام [6]، لأنهم محجوبون عن العلم السَّلفي النافع الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
فإذا جُمع للعالم هذان الأصلان، ترقى في مدارج السالكين، وبلغ منزلة الإمامة في الدين، فيكون حجةً من الله تعالى على عباده، بعلمه ودعوته، وخُلقه وسيرته، وهكذا كان سفيان، قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يُجاء غداً بسفيان حجةً من الله على خلقه. يقول لهم: لم تدركوا نبيكم فقد رأيتم سفيان!
مذهبه في الزهد:
كان سفيان رحمه الله إماماً في الزهد والتألُّه والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشُّف الشَّديد وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، خاصةً: وقد فسد الزمان، واشتد الأمر، فكان يقول: كان المالُ فيما مضى يُكره، أما اليومَ فهو ترس المؤمن.
ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبدالله! تمسك هذه الدنانير. قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك!
وقال حذيفة المرعشي: قال سفيان: لأن أخلِّف عشرة الآف درهم، يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليّ من أن أحتاج إلى الناس. وكان رحمه الله يأكل الجيّد من الطعام، يتقوى به على طاعة الله، قال عبد الرزاق الصنعانيُّ: لما قدم سفيان علينا، طبخت له قدر سِكْباج ـ لحمٌ يُطبخ بخلٍّ ـ فأكلَ، ثم أتيته بزبيبِ الطائف فأكلَ، ثم قال: يا عبد الرزاق! اعْلِف الحمارَ وكدَّه. ثم قام يصلي حتى الصباح.
وقال مؤمل: دخلت على سفيان وهو يأكل طباهج ـ وهو اللحم المشرّحُ ـ ببيضٍ، فكلّمته في ذلك، فقال: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً. اكتسبوا طيباً، وكلوا.
ويبيُّن مذهبه في الزهد في كلمةٍ جامعةٍ، فيقول رحمه الله: ليس الزُّهد بأكلِ الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.
ويقول رحمه الله: الزُّهد زهدان، زهدُ فريضةٍ، وزهدُ نافلةٍ، فالفريضة: أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرِّياء والسُّمعة، والتزيُّن للنَّاس. وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاكَ اللهُ من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضةً عليكَ ألا تتركه إلا لله.
مذهبه في العزلة:
كنتُ ذكرت في ترجمة الأوزاعي رحمه الله، قول أبي إسحاق الفزاري عن الثوري: "كان رجل خاصّة نفسه"، فناسب هنا أن أذكر بعض أقواله في اختيار العزلة والزهد في الناس.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله، قال لي سفيان: إياك والشهرة، فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة.
وقال رحمه الله: ما رأيتُ للإنسان خيراً من أن يدخل جُحْراًً.
وقال رحمه الله: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
وقال رحمه الله: أقِلَّ من معرفة الناس، تقلّ غيبتك.
وقال: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأولَ ذلك زهدك في نفسك.
وقال: السلامة في أن لا تحبَّ أن تُعرف.
وقال: وجدتُ قلبي يصلح بين مكة والمدينة، مع قوم غرباء، أصحاب صوفٍ وعباءٍ.
وربما يكون هذا لما في الخلطة من التعرّض لتفاصيل حياة الناس التي لا تخلو من المنكرات، وقد يكون لا يستطيع إنكارها في بعض الأحايين، فيضيق صدره، كما قال سفيان: إنى لأرى المنكر، فلا أتكلم، فأبول أكدمَ دماً. ولكن إذا كانت الخِلْطة لابد منها، فلابد إذن من القيام بالممكن من الأمر والنهي، قال شجاع بن الوليد: كنت أحجُّ مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً.
اسمه ونسبه:
هو: سفيان بن سعيد بن مسروق الثَّوري، وهذه النسبة إلى أحد أجداده، وهو: ثور بن عبد مناة بن أدِّ بن طانجة بن إلياس بن مضر بن نزار بن مَعَدِّ بن عدنان. يجتمع نسبه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في "إلياس بن مضر". وكنيته "أبو عبد الله".
مولده ونشأته:
ولد في الكوفة سنة 97 هـ، ونشأ فيها، في وسط علمي، إذ كانت الكوفة في ذلك العصر مركزاً من مراكز العلم والسنة، وربما يكون كثير من مثقفَّينا لم يرسخ في ذهنه إلا صورة سيئة عنها، لما عُرفت به من الفتن والحركات المنحرفة، فليس هذا على إطلاقه، بل كانت تزخر في القرون الأولى بعشرات الأعلام من المحدثين والفقهاء والقضاة واللغويين وغيرهم، فكان ذلك سبباً عاماً لتوجه الإمام الثوري رحمه الله العلمي، وتوفر له سببان آخران:
الأول: عناية والدَيْه به، أما والده: سعيد بن مسروق، فقد كام من محدثي الكوفة وثقاتهم، وعداد في صغار التابعين، روى له أصحاب الصحيحين والسنن والمسانيد، مات سنة (126 هـ). وأما والدته: فقد كانت سيدة فاضلة، كانت تقول لولدها: "يا بنيَّ اطلب العلم، وأنا أكفيك بمغزلي". وكانت رحمها الله تتابعه على هذا السبيل، وتنصحه، قال وكيع: قالت أمُّ سفيان الثوري لسفيان: يا بنيَّ إذا كتبتَ عشرة أحرفٍ فانظر هل ترى نفسك زيادةً في خشيتك، وحِلْمك، ووقارك، فإن لم ترَ ذلك، فاعلم: أنها تضرك ولا تنفعك.
الثاني: ما خصَّه الله تعالى به من الذكاء والحفظ، فكان ينوّه بذكره من صغره من أجل ذلك، وانتشر خبره وهو شاب، حدَّث أبو المثنى، قال: سمعتهم بمرو، يقولون: قد جاء الثوري. فخرجت أنظر إليه، فإذا هو غلام قد بقل وجهه [2]. وقال عبد الرحمن بن مهدي، رأى أبو إسحاق السَّبيعيُّ سفيان الثوريَّ مقبلاً، فقال: {وَآَتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]. وقد أخبر سفيان رحمه الله عن توقّد حافظته بقوله: إني لأمرُّ بالحائك، فأسدُّ أذني مخافة أن أحفظ ما يقول. ولهذا كان يقول: ما استودعتُ قلبي شيئاً فخانني. وقد شهد له غير واحدٍ من الأئمة بذلك ـ كما سيأتي ـ.
مشائخه وتلاميذه:
لقي سفيان جماعة كبيرة من التابعين، وروى عنهم، وقد ذكروا في ترجمته ـ منهم وممن بعدهم من تابعيهم ـ نحو ثلاث مئة شيخ، من كبارهم: حبيب بن أبي ثابت، وسلمة بن كهيل، وزياد بن علاقة، وعمرو بن مرة، ومحمد بن المنكدر، وبابتهم، قال الذهبي: ويقال إن عدد شيوخه ستَُ مئة شيخ، وكبارهم الذين حدثوه عن أبي هريرة، وجرير بن عبد الله، وابن عباس، وأمثالهم ـ وقرأ الختمة عَرْضَاً [3] على حمزة الزَّيَّات، أربع مرَّات.
وحمل العلم عنه خلق كبير، وفيهم من القدماء مَنْ مات قبله، كالأعمش وأبو حنيفة والأوزاعي ومسعر وشعبة، وغيرهم. وقد ذكر أبو الفرج ابن الجوزي أن الرواة عنه: أكثر من عشرين ألفاً. لكن ردّ الذهبي هذا، فقال: وهذا مدفوع ممنوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجَهْد [4]، وما علمتُ أحداً من الحفَّاظ روى عنه عددٌ أكثر من مالك، وبلغوا بالمجاهيل والكذابين ألفاً وأربع مئة!.
منزلته العلمية:
قال شعبة، وابن عيينة، وأبو عاصم، ويحيي بن معين، وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
وقال عبد الله بن المبارك: كتبتُ عن ألف ومئة شيخ، ما كتبتُ عن أفضل من سفيان.
وقال أبو أيوب السختياني ـ وهو من شيوخه -: ما لقيتُ كوفياً أُفضِّله على سفيان.
وقال يونس بن عبيد: ما رأيتُ أفضل من سفيان. فقيل له: فقد رأيتَ سعيد بن جبير، وإبراهيم، وعطاء، ومجاهد، وتقول هذا؟! قال: هو ما أقول: ما رأيتُ أفضل من سفيان.
وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ مني. وقال عبد العزيز بن أبي رزمة قال رجل لشعبة: خالفكَ سفيان. فقال: دمغتني!!.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان وهَيْب: يُقدِّمُ سفيان في الحفظ على مالك.
وقال يحيى بن سعيد القطان: سفيان أشد من شعبة وأعلم بالرجال.
ومن هنا فإن ما رواه: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن عقبة عن عبد الله بن مسعود، فهو من أصح الأسانيد عنه رضي الله عنه [5]. بل قال الذهبيُّ: أجلُّ إسنادٍ للعراقيين.
هذه منزلته في الحديث، ولما كان العالم كلما كان أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم ـ حفظاً وعنايةً ودرايةً ـ كان أعظم فقهاً في دين الله تعالى، لهذا كان سفيان ـ كما يقول الفُضيل بن عياض رحمه الله ـ "أعلم من أبي حنيفة" رحمه الله. ويقول ابن عيينة: ما رأيتُ رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان. بل هذا عبد الرحمن بن مهدي يذكر سفيان، وشعبة، ومالكاً، وابن المبارك. ثم يقول: أعلمهم بالعلم سفيان.
وقال عباس الُّدوري: رأيتُ يحيى بن معين لا يقدِّم على سفيان أحداً في زمانه، في الفقه والحديث والزهد، وكلِّ شئٍ.
بماذا ساد النَّاس:
لقد بلغ سفيان منزلةً عظيمةً في زمانه، أهَّلته لأن يُفضَّل على معاصريه من الأئمة الكبار تفضيلاً عاماً، كما رأيت في النصوص المتقدمة، وهناك نصوص أخرى، منها قول الإمام أحمد رحمه الله: "أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي". والإمام أحمد في هذا على رأي شيخه سفيان بن عيينة رحمه الله، فقد حدّث عنه أنه قال له: "لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت". ويقول بشر الحافي كان الثوري عندنا إمام الناس. ويقول: سفيان في زمانه كأبي بكرٍ وعمرَ في زمانهما.
فبماذا نال الإمام الثوري رحمه الله هذه المرتبة الشريفة؟
يجيبنا شعبة بن الحجاج رحمه الله، فيقول: "ساد سفيانُ الناسَ بالورع، والعلم".
وهذا قريب من تلك الكلمة التي اشتهرتْ عن الإمام ابن القيم رحمه الله، وهي قوله: "بالصبر واليقين، تنالُ الإمامةُ في الدِّين". فإن حقيقة الورع هو: الصبرُ عن كل ما تخافُ ضرره عليكَ في دينك وآخرتك. واليقينُ هو ثمرة العلم، فلا يقينَ بغير علمٍ، بل لا يقين إلا بالعلم الأثريِّ الصحيح، ولهذا كان أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام [6]، لأنهم محجوبون عن العلم السَّلفي النافع الموروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصحابته الكرام.
فإذا جُمع للعالم هذان الأصلان، ترقى في مدارج السالكين، وبلغ منزلة الإمامة في الدين، فيكون حجةً من الله تعالى على عباده، بعلمه ودعوته، وخُلقه وسيرته، وهكذا كان سفيان، قال شعيب بن حرب: إني لأحسب أنه يُجاء غداً بسفيان حجةً من الله على خلقه. يقول لهم: لم تدركوا نبيكم فقد رأيتم سفيان!
مذهبه في الزهد:
كان سفيان رحمه الله إماماً في الزهد والتألُّه والخوف، غير أن له مذهباً متميزاً في ذلك، فقد كان كثير من أهل الزهد انتهوا في زهدهم إلى الجوع والتقشُّف الشَّديد وترك التكسب، فأورث بعضهم أمراضاً وأوجاعاً، وحاجة إلى الناس، أما سفيان فقد كان متيقظاً لعاقبة ذلك، خاصةً: وقد فسد الزمان، واشتد الأمر، فكان يقول: كان المالُ فيما مضى يُكره، أما اليومَ فهو ترس المؤمن.
ونظر إليه رجل وفي يده دنانير، فقال: يا أبا عبدالله! تمسك هذه الدنانير. قال: اسكت: فلولاها لتمندل بنا الملوك!
وقال حذيفة المرعشي: قال سفيان: لأن أخلِّف عشرة الآف درهم، يحاسبني الله عليها، أحبُّ إليّ من أن أحتاج إلى الناس. وكان رحمه الله يأكل الجيّد من الطعام، يتقوى به على طاعة الله، قال عبد الرزاق الصنعانيُّ: لما قدم سفيان علينا، طبخت له قدر سِكْباج ـ لحمٌ يُطبخ بخلٍّ ـ فأكلَ، ثم أتيته بزبيبِ الطائف فأكلَ، ثم قال: يا عبد الرزاق! اعْلِف الحمارَ وكدَّه. ثم قام يصلي حتى الصباح.
وقال مؤمل: دخلت على سفيان وهو يأكل طباهج ـ وهو اللحم المشرّحُ ـ ببيضٍ، فكلّمته في ذلك، فقال: لم آمركم أن لا تأكلوا طيباً. اكتسبوا طيباً، وكلوا.
ويبيُّن مذهبه في الزهد في كلمةٍ جامعةٍ، فيقول رحمه الله: ليس الزُّهد بأكلِ الغليظ، ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت.
ويقول رحمه الله: الزُّهد زهدان، زهدُ فريضةٍ، وزهدُ نافلةٍ، فالفريضة: أن تدع الفخر والكبر والعلو، والرِّياء والسُّمعة، والتزيُّن للنَّاس. وأما زهد النافلة: فأن تدع ما أعطاكَ اللهُ من الحلال، فإذا تركت شيئاً من ذلك، صار فريضةً عليكَ ألا تتركه إلا لله.
مذهبه في العزلة:
كنتُ ذكرت في ترجمة الأوزاعي رحمه الله، قول أبي إسحاق الفزاري عن الثوري: "كان رجل خاصّة نفسه"، فناسب هنا أن أذكر بعض أقواله في اختيار العزلة والزهد في الناس.
قال عبد الله بن المبارك رحمه الله، قال لي سفيان: إياك والشهرة، فما أتيتُ أحداً إلا وقد نهى عن الشهرة.
وقال رحمه الله: ما رأيتُ للإنسان خيراً من أن يدخل جُحْراًً.
وقال رحمه الله: كثرة الإخوان من سخافة الدين.
وقال رحمه الله: أقِلَّ من معرفة الناس، تقلّ غيبتك.
وقال: الزهد في الدنيا هو الزهد في الناس، وأولَ ذلك زهدك في نفسك.
وقال: السلامة في أن لا تحبَّ أن تُعرف.
وقال: وجدتُ قلبي يصلح بين مكة والمدينة، مع قوم غرباء، أصحاب صوفٍ وعباءٍ.
وربما يكون هذا لما في الخلطة من التعرّض لتفاصيل حياة الناس التي لا تخلو من المنكرات، وقد يكون لا يستطيع إنكارها في بعض الأحايين، فيضيق صدره، كما قال سفيان: إنى لأرى المنكر، فلا أتكلم، فأبول أكدمَ دماً. ولكن إذا كانت الخِلْطة لابد منها، فلابد إذن من القيام بالممكن من الأمر والنهي، قال شجاع بن الوليد: كنت أحجُّ مع سفيان، فما يكاد لسانه يفتر من الأمرِ بالمعروف، والنهي عن المنكر، ذاهباً وراجعاً.