المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دروس من (صحيح الإمام البخاري) (1): صفة الوحي



شاهد عيان
12-07-2005, 08:42 PM
أكثر الناس لا يعلمون عن (صحيح البخاري) سوى اسمه وفقط.. وبعضهم لا يكاد ينتفع به رغم وجوده في مكتبته.
ومن هنا رأيت أن أضع سلسلة دروس من (صحيح الإمام البخاري رحمه الله) لنستفيد من هذا الكتاب العظيم والكنز المبارك.
وأرجو من مشايخنا وأساتذتنا وإخوتنا الفضلاء مشاركتي هذه السلسلة ، على أن يلتزم كل من يضع درسًا من هذا الكتاب بمنهج السلسلة ورقم الدروس.

ومنهج السلسلة يقوم على سرد بعض أحاديث الكتاب المبارك والإشارة إلى بعض الدروس المستفادة منه بطريقة سهلة وميسرة لنستفيد منها جميعًا ويعم بها الخير إن شاء الله عز وجل.

ومع الدرس الأول حول (صفة الوحي)

وأنقل فيه الحديث الثاني من (صحيح البخاري رحمه الله) (2): عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا)).

وهذا حديثٌ عظيمٌ جدًا يتكلم عن أكثر من قضية ، ونبدأ أولا ببيان معانيه من خلال شرح صحيح البخاري للإمام ابن حجر العسقلاني صاحب كتاب (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) حيث يقول في أثناء شرحه لهذا الحديث: ((قِيلَ : وَالصَّلْصَلَة الْمَذْكُورَة صَوْت الْمَلَك بِالْوَحْيِ , قَالَ الْخَطَّابِيُّ : يُرِيد أَنَّهُ صَوْت مُتَدَارَك يَسْمَعهُ وَلَا يَتَبَيَّنهُ أَوَّل مَا يَسْمَعهُ حَتَّى يَفْهَمهُ بَعْد , وَقِيلَ : بَلْ هُوَ صَوْت حَفِيف أَجْنِحَة الْمَلَك 0 وَالْحِكْمَة فِي تَقَدُّمه أَنْ يَقْرَع سَمْعه الْوَحْي فَلَا يَبْقَى فِيهِ مَكَان لِغَيْرِهِ , وَلَمَّا كَانَ الْجَرَس لَا تَحْصُل صَلْصَلَته إِلَّا مُتَدَارِكَة وَقَعَ التَّشْبِيه بِهِ دُون غَيْره مِنْ الْآلَات.... قَوْله : ( وَهُوَ أَشَدّه عَلَيَّ ) يُفْهَم مِنْهُ أَنَّ الْوَحْي كُلّه شَدِيد , وَلَكِنَّ هَذِهِ الصِّفَة أَشَدّهَا , وَهُوَ وَاضِح ....... كَمَا سَيَأْتِي فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس " كَانَ يُعَالِج مِنْ التَّنْزِيل شِدَّة " قَالَ وَقَالَ بَعْضهمْ : وَإِنَّمَا كَانَ شَدِيدًا عَلَيْهِ لِيَسْتَجْمِع قَلْبه فَيَكُون أَوْعَى لِمَا سَمِعَ اهـ........ قَوْله : ( فَيَفْصِم ) فَتْح أَوَّله وَسُكُون الْفَاء وَكَسْر الْمُهْمَلَة أَيْ : يُقْلِع وَيَتَجَلَّى مَا يَغْشَانِي , وَيُرْوَى بِضَمِّ أَوَّله مِنْ الرُّبَاعِيّ , وَفِي رِوَايَة لِأَبِي ذَرّ بِضَمِّ أَوَّله وَفَتْح الصَّاد عَلَى الْبِنَاء لِلْمَجْهُولِ , وَأَصْل الْفَصْم الْقَطْع , وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى ( لَا اِنْفِصَام لَهَا ) , وَقِيلَ الْفَصْم بِالْفَاءِ الْقَطْع بِلَا إِبَانَة وَبِالْقَافِ الْقَطْع بِإِبَانَةٍ , فَذَكَرَ بِالْفَصْمِ إِشَارَة إِلَى أَنَّ الْمَلَك فَارَقَهُ لِيَعُودَ , وَالْجَامِع بَيْنهمَا بَقَاء الْعُلْقَة . قَوْله : ( وَقَدْ وَعَيْت عَنْهُ مَا قَالَ ) أَيْ : الْقَوْل الَّذِي جَاءَ بِهِ ........ قَوْله : ( يَتَمَثَّل لِيَ الْمَلَك رَجُلًا ) التَّمَثُّل مُشْتَقّ مِنْ الْمِثْل , أَيْ : يَتَصَوَّر . وَاللَّام فِي الْمَلَك لِلْعَهْدِ وَهُوَ جِبْرِيل , وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيح بِهِ فِي رِوَايَة اِبْن سَعْد الْمُقَدَّم ذِكْرهَا . وَفِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَلَك يَتَشَكَّل بِشَكْلِ الْبَشَر . قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ : الْمَلَائِكَة أَجْسَام عُلْوِيَّة لَطِيفَة تَتَشَكَّل أَيّ شَكْل أَرَادُوا ........ قَوْله : ( لَيَتَفَصَّد ) بِالْفَاءِ وَتَشْدِيد الْمُهْمَلَة , مَأْخُوذ مِنْ الْفَصْد وَهُوَ قَطْع الْعِرْق لِإِسَالَةِ الدَّم , شُبِّهَ جَبِينه بِالْعِرْقِ الْمَفْصُود مُبَالَغَة فِي كَثْرَة الْعَرَق . وَفِي قَوْلهَا " فِي الْيَوْم الشَّدِيد الْبَرْد " دِلَالَة عَلَى كَثْرَة مُعَانَاة التَّعَب وَالْكَرْب عِنْد نُزُول الْوَحْي , لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَة الْعَادَة , وَهُوَ كَثْرَة الْعَرَق فِي شِدَّة الْبَرْد , فَإِنَّهُ يُشْعِر بِوُجُودِ أَمْر طَارِئ زَائِد عَلَى الطِّبَاع الْبَشَرِيَّة . وَقَوْله " عَرَقًا " بِالنَّصْبِ عَلَى التَّمْيِيز , زَادَ اِبْن أَبِي الزِّنَاد عَنْ هِشَام بِهَذَا الْإِسْنَاد عِنْد الْبَيْهَقِيّ فِي الدَّلَائِل " وَإِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَيْهِ وَهُوَ عَلَى نَاقَته فَيَضْرِب حِزَامهَا مِنْ ثِقَل مَا يُوحَى إِلَيْهِ"))أهـ

وبعد نقل معاني الكلمات التي ذكرها ابن حجر العسقلاني في شرح الحديث من كتابه (فتح الباري بشرح صحيح البخاري) نرجع إلى الحديث لنستخرج منه الفوائد الآتية:

1- إثبات وجود الملائكة ، وهم جزءٌ من الغيب ، ولابد من إثباتهم؛ لأنه في هذا الحديث وفي غيره من الأحاديث التي ستأتي في دروس لاحقة إن شاء الله عز وجل سنرى أن الملائكة على أنواع ، منها الموكل بالوحي كجبريل عليه السلام ، ومنها الموكل بأعمال أخرى كغيره من الملائكة.
إثبات الملائكة ضرورة شرعية إسلامية لعدة جهات:
الأولى: أن الإيمان بالملائكة ركن أصيل من أركان الإيمان لدى المسلمين ، وهو الإيمان بالله وكتبه ورسله وملائكته ، إلخ.
فالإيمان يستلزم الإيمان بالملائكة حتمًا.
الثانية: أن الوحي إنما أنزله الله عز وجل على نبيه بواسطة الملائكة ، فكان سبحانه وتعالى يرسل جبريل بما يشاء من الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فإنكار الملائكة يعني إنكار الوحي ، وإنكار الوحي الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم يعني إنكار الإسلام كله ، لأن الوحي أصل الإسلام ، وإنكار الإسلام لا يقول به إلا سفيه أو مجنون ، فقد أجمعت الدنيا على وجود الإسلام على مدار أربعة عشر قرنًا ، فهو من معلومات الدنيا ، ومُسَلَّمَاتِها ، فمن أنكره فقد جُنَّ!!

2- وفي الحديث السابق أيضًا أن الوحي كان يأتي للنبي صلى الله عليه وسلم على أنواع ، ذكر بعضها في هذا الحديث ، وسيأتي إن شاء الله بعضها الآخر أثناء هذه الدروس.
ومن هذه الصفات أن الوحي كان يتمثل في صورة للنبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجلٍ ، وقد أتاه مرة في صورة الصحابي الجليل دِحْيَة الكلبي رضي الله عنه ، كما هو مشهور معلوم.

وفي هذا دليل على خطإ ما ذهب إليه المستشرقون ومن تابعهم في قولهم أن الوحي عبارة عن نوبات صرع ، كانت تحدث للنبي صلى الله عليه وسلم ، فالحديث الذي هنا يكذِّبهم ويفضحهم في قولهم هذا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأتيه الوحي على صفةٍ واحدةٍ ، وإنما كان يأتيه الوحي على عدةِ صفاتٍ ، وكان يقظًا واعيًا لا يغيب عنه وعيه في كل هذه الحالات.
فمرة يأتيه في صورة رجل فيكلمه كلام الرجل للرجل ، في منتهى اليقظة والتنبُّه كما نرى.
ومرةً أخرى يأتيه الوحي صلى الله عليه وسلم كطنين أو كصوت السلسلة على الصخر أو كدَوِيِّ النَّحل لكنه لا يغيب عن وعيه أبدًا.
وقد وردَ هذا صريحًا في حديثٍ صحيحٍ رواه الإمامان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما.
وهو في (صحيح البخاري) (4795) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ بَعْدَمَا ضُرِبَ الْحِجَابُ لِحَاجَتِهَا وَكَانَتْ امْرَأَةً جَسِيمَةً لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُهَا فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ أَمَا وَاللَّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ ، قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي وَإِنَّهُ لَيَتَعَشَّى وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي خَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي فَقَالَ لِي عُمَرُ كَذَا وَكَذَا قَالَتْ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ ، ثُمَّ رُفِعَ عَنْهُ ، وَإِنَّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ ، فَقَالَ: ((إِنَّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنَّ)).

فنرى في هذا الحديث الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قد أُوحِيَ إليه وهو يتعشَّى وفي يده عَرْق يأكله ، والعَرْق عظمٌ عليه بقية من لَحْمٍ كما ذكر النووي رحمه الله في ((شرح صحيح مسلمٍ)).
فجاء الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحالة ، والعَرْق في يده ، ثم ذهب عنه الوحي صلى الله عليه وسلم ، والعَرْق في يده لم يسقط منه.

والمصروع لا يثبت على حالٍ ، ولا يتنبه لما في يده!
ولذا قال أئمتنا الكرام رحمة الله عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يغيب عن وعيه أبدًا ساعة يُوحَى له صلى الله عليه وسلم.

3- هؤلاء الذين سمَّوا أنفسهم بـ (القرآنيين) ثم أنكروا السُّنَّة أو عطَّلوا العمل بها ، لابد لهم من الاعتراف بقيمتها بعد هذا العرض ، لأنه لو لم تكن السنة والحديث لما قدرنا على ردِّ شبهة المستشرقين حول النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السهولة واليُسْر.
أضف إلى ذلك أننا عرفنا صفات الوحي ، وكيف نزل ، وغير ذلك عن طريق السُّنَّةِ والحديثِ.
وسيأتي مزيد بيان خلال هذه الدروس إن شاء الله عز وجل.