عبدالله الشهري
05-16-2012, 01:25 PM
كل مهتم بالدراسات الاجتماعية على علم بالنظرية الشهيرة – وإلى وقتنا الحاضر – التي تربط بين ارتفاع معدلات الإجرام و الطبقات الدنيا للمجتمع - وهو صحيح في الظاهر للملاحِظ، ووفق النموذج المستعمل حينها - ثم ما لبث أن تحرّك العلماء لتبرير هذه العلاقة بناء على مجموعة عوامل من أشهرها: الفقر – البطالة – التخلف المعرفي (الجهل) – قلة الذوق والتربية- الخ. وبعد أن هيمنت ه...ذه النظرية واعتبرت العلاقة بين الإجرام والطبقة الدنيا من المجتمع علاقة لازمة لا تتخلف، جاء عالم الاجتماع Edwin H. Sutherland ليحدث صدمة أعادت ترتيب هرم المناهج البحثية من أولها إلى آخرها. قام هذا العالم بشيء بسيط جداً ولكنه في غاية الأهمية. قام بإعادة تعريف كلمة "إجرام". فما معنى أن تكون مجرماً أو criminal ؟ المهم في هذا السياق هو أن التنبه لإعادة النظر في تعريف الإجرام لم يكن تصرفاً أملاه العلم الطبيعي عبر قانون رياضي أو مادي، وإنما هو تصرف اجتهادي ثقافي ذاتي، الأمر الذي يعني أن جميع الأرقام والإحصاءات والنماذج paradigms التي كان يُنظر إليها على أنها ممارسات ومخرجات علمية في هذه المسألة كانت معتمدة أولاً وأخيراً على تعريفنا لكلمة "إجرام" ، ومن المعلوم أن مشكلة "صناعة الحدود" و "ووضع التعريفات" من أعقد وأعظم المشكلات في مسعى العلوم، وهي من المعضلات التي لم يحسمها أحد ابتداء من فلاسفة اليونان إلى علماء ومفكري القرن الحادي والعشرين، والسبب الرئيس في كون هذه المعضلة تتمتع بحساسية عالية هو أن التعريف يُمهد للتصور والتصورات بدورها تُمهد للأحكام. فقط أحدث تعديلاً بسيطاً على التعريف يتغير ما وراءه مباشرة. وكان من نتائج التعديل الذي اقترحه Sutherland على تعريف الإجرام أن اتسع نطاقها الدلالي حتى طال جميع طبقات المجتمع، وعندها فطن الجميع أن الإجرام ليس حكراً على أفراد الطبقة الدنيا وإنما هو موزع بنسب متقاربة بين كل فئات المجتمع، فكل طبقة تُجرم بطريقتها الخاصة، ومن هنا استحدث Sutherland ما أسماه بـجرائم أصحاب الياقات البيضاء white-collar crime أي تلك الجرائم التي يقترفها أفراد الطبقة المتوسطة والغنية بشكل ناعم وغير مباشر من خلال مناصبهم ومواقع تأثيرهم: الاختلاس، الرشوة، والمحاباة، الاستثمارات المشبوهة، استغلال السلطة، الابتزاز، الخ. وهكذا فجعت الأوساط العلمية بالوقوف على هشاشة نموذج علمي كامل استغرق العمل فيه عشرات السنين، وتلقاه المختصون بالقبول، وكان التصرف الفارق في كل هذا مجرّد "إعادة تعريف كلمة"، قبل أن أختم، هنا طلب: من يستطيع أن يضع حدّاً لاختلاف علماء التطور في تعريف كلمة نوع species ، هذا المفهوم الشائك الذي أقلق مضجع كل من Ernst Mayr و Martin Rees ؟ ثم ننظر بعد ذلك في تبعات النتيجة على كيان نظرية التطور برمته.